وإن السحر الذي يعد كفراً، قد يقع قولاً باللسان، أو اعتقاداً بالقلب، أو عملاً بالجوارح، ونورد أمثلة على ذلك:
فمنه السحر الذي لا يتأتى إلا عن طريق الشياطين، كأن يستغيث بهم، ويدعوهم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، وينطق بكلمة الكفر من أجل رضاهم والاستماع بهم، أو يعتقد نفعهم وضرهم بغير إذن الله تعالى، أو يذبح لتلك الشياطين ونحوهم ويتقرب إليهم، أو يهين ما أوجب الله تعظيمه من الكتاب العزيز وغيره، أو يدعي لنفسه أو لشياطينه علم الغيب ومشاركة الله في ذلك.
4 - وأما وجه كون هذا السحر كفراً فذلك لعدة اعتبارات منها:-
(أ) قوله تعالى: - {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [البقرة، آية 102، 103].
فيستدل بهذه الآيات على كفر الساحر من وجوه:-
1 - قوله تعالى: - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}(212/285)
فظاهر هذا أنهم إنما كفروا بتعليمهم السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بعليته، فصرحت الآية بكفر الشياطين منوطاً بتعليم السحر للناس.(1)
2 - قوله تعالى: - {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق} يعني من حظ ولا نصيب.
يقول الشيخ حافظ الحكمي (2) " – في ذلك –: " وهذا الوعيد لم يطلق إلا فيما هو كفر لا بقاء للإيمان معه، فإنه ما من مؤمن إلا ويدخل الجنة، وكفى بدخول الجنة خلاقاً، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.(3) "
3 - قوله تعالى: - {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا..}
يقول الجصاص – عن هذه الآية -: " فجعل ضد هذا الإيمان فعل السحر؛ لأنه جعل الإيمان في مقابلة فعل السحر، وهذا يدل على أن الساحر كافر، فإذا ثبت كفره، فإن كان مسلماً قبل ذلك، فقد كفر بفعل السحر، فاستحق القتل.(4) "
يقول ابن كثير: - " وقد استدل بقوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا..} من ذهب إلى تكفير الساحر (5)
__________
(1) انظر : تفسير القرطبي 2/43 ، فتح الباري 10/225 ، الزواجر لابن حجر الهيتمي ص 104 ، ومعارج القبول للحكمي 1/514 – 516 ، وكتاب السحر للحمد ص 158 .
(2) حافظ بن أحمد الحكمي ، من علماء الجزيرة العربية في هذا العصر ، نِشأ في منطقة جيزان واشتغل بالعلم بتوجيه من الشيخ عبد الله القرعاوي ، وألف حافظ مؤلفات جمه، ومارس التدريس ، توفي بمكة سنة 1377 هـ .
انظر : ترجمته في مقدمة كتابه معارج القبول ، الأعلام 2/159 .
(3) معارج القبول 1/517 ، وانظر أضواء البيان للشنقيطي 4/442 .
(4) أحكام القرآن 1/53 .
(5) تفسير ابن كثير 1/137 .(212/286)
ويقول الحكمي – عن هذا الدليل -: " وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر، ونفي الإيمان عنه بالكلية، فإنه لا يقال للمؤمن المتقي: ولو أنه آمن واتقى، وإنما قال تعالى ذلك لمن كفر، وفجر، وعمل بالسحر، واتبعه، وخاصم به رسوله، ونبذ الكتاب وراء ظهره.(1) "
(ب) قوله تعالى: - {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه، آية 69]
ومما قاله الشنقيطي – رحمه الله – في هذه الآية:-
" إن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم... فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ} [الآية يعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله {حَيْثُ أَتَى} وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر.
ص510
ويدل على ذلك أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة {لا يفلح} يراد بها الكافر كقوله تعالى في سورة يونس: - {قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {68} قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [يونس، آية 68 – 70].
وقوله في الأنعام " – {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [آية، 21]..(2) "
(ج) أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن السحر بالشرك، وفي بعض الأحاديث سماه شركاً، وحكم صلى الله عليه وسلم بالكفر على من أتى ساحراً فصدقه، كما تبرأ صلى الله عليه وسلم من الساحر والمسحور.
__________
(1) معارج القبول 1/518 .
(2) أضواء البيان 4/441 – 443 = باختصار ، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 35/193 .(212/287)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - " اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر.. الحديث (1) "
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه (2) "
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك.(3)
ص511
" والتولة ضرب من السحر، قال الأصمعي: - وهو الذي يحبب المرأة إلى زوجها.(4) "
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - " من أتى عرافاً، أو ساحراً، أو كاهناً فسأله فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.(5)
وعن عمران بن حصين (6)
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) أخرجه النسائي 7/103 وقال المنذري في الترغيب 4/51 " وراه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة ولم يسمع منه عند الجمهور " وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/78) ، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير 5/221 رقم (5714)
(3) أخرجه أحمد (1/381) ، وأبو داود ، ح (3883) وابن ماجه ح (3530) وأخرجه الحاكم (4/417، 418) وصححه على شرط الشيخين .
(4) انظر شرح السنة للبغوي 12/158 .
(5) أخرجه البيهقي (8/36) ، وقال المنذري في الترغيب (4/53) : رواه البزار وأبو يعلى باسناد جيد موقوفاً ، وقال الهيثمي في المجمع (5/118) : " رواه البزار ، ورجاله رجال الصحيح خلا هبيرة بن مريم وهو ثقة . " ، وقال ابن كثير في التفسير (1/137) : " وهذا إسناد صحيح " وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/217) : - وسنده جيد ، ومثله لا يقال بالرأي "
(6) أبو نجيد عمران بن حصين الخزاعي ، صحابي جليل أسلم عام خيبر ، وغزا عدة غزوات ، وبعثه عمر إلى البصرة معلماً ، وكان مجاب الدعوة ، مات سنة 52 هـ .
انظر : الإصابة 1/509، 511، وسير أعلام النبلاء 3/175.…(212/288)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له.. " الحديث (1)
(د)أن الصحابة رضي الله عنهم أمروا بقتل أولئك السحرة، وقد تقرر شرعاً أن دماء المسلمين محظورة إلا ما استثناه الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.(2) "
وليس الساحر زانياً محصناً، ولا قاتل نفس، فتعين أن يكون كافراً مرتداً.
يقول ابن تيمية: - " أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله، وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله
ص512
بن عمر، وجندب بن عبدالله... (3) "
فمن هذه الآثار ما جاء " عن بجالة بن عبدة (4) أنه قال: - كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر. (5) "
يقول ابن قدامة – معلقاً على هذا الأثر -: - " وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعاً. "
__________
(1) وقال المنذري في الترغيب (4/52) : - " رواه البزار وإسناده جيد " ، وقال الهيثمي في المجمع (5/117) : - " رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن إبراهيم وهو ثقة "
(2) تقدم تخريجه .
(3) مجموع الفتاوي 29/384 ، وانظر المنتقى للباجي 7/117 ، والمغني لابن قدامة 8/153
(4) بجالة بن عبدة التميمي البصري ، كان كاتباً لجزء بن معاوية في خلافة عمر ، وثقه جمع من العلماء وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلك ولم يره .
انظر : تهذيب التهذيب 1/417 ، والإصابة 1/339
(5) أخرجه أبو داود ح (3043) . وأحمد (1/190، 191) والبيهقي 8/136 ، وابن حزم في المحلى وصححه 13/470 ، 473(212/289)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، فقال أن أم المؤمنين حفصة(1) رضي الله عنها سحرتها جارية لها، فأقرت بالسحر، وأخرجته، فقتلتها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فغضب، فأتاه ابن عمر رضي الله عنه، فقال: جاريتها سحرتها أقرت بالسحر وأخرجته، قال: فكف عثمان رضي الله عنه، قال إنما كان غضبه لقتلها إياها بغير أمره. (2) "
وعن جندب الخير(3) رضي الله عنه قال: - " حد الساحر ضربة بالسيف.(4) "
ص513
وقتل جندب بن عبد الله البجلي (5) رضي الله عنه ساحراً كان عند الوليد بن عقبه (6).
__________
(1) حفصه بنت عمر بن الخطاب ، أم المؤمنين ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ثلاث من الهجرة ، روت عنه عدة أحاديث ، كانت صوامة قوامة ، توفيت بالمدينة سنة 41 هـ .
انظر : الإصابة 7/580، وسير أعلام النبلاء 3/175.…
(2) أخرجه مالك (2/871) ، والبيهقي (8/136) ، وقال الهيثمي في المجمع (6/280) رواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن المدنيين وهي ضعيفة ، وبقية رجاله ثقاث . "
(3) أبو عبدالله جندب بن عبدالله الأزدي ، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، قدم دمشق ، ويقال له جندب الخير .
انظر : الإصابة 1/509 ، 511 ، وسير أعلام النبلاء 3/175 .
(4) 10) أخرجه الترمذي ح (1460) ك الحدود ، باب ما جاء في حد الساحر ، وذكر الترمذي أنه لا يصح رفعه ، والبيهقي 8/136 ، والحاكم 4/360 وصححه ووافقه الذهبي .
(5) أبو عبد الله جندب بن عبد الله البجلي ، صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزل الكوفة والبصرة ، وله عدة أحاديث ، بقى إلى حدود سنة سبعين .
انظر : الإصابة 1/509 ، وسير أعلام النبلاء 3/174 .
(6) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/222 ، والبيهقي 8/136 .(212/290)
وأما ما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما عندما باعت جارية مدبرة (1) سحرتها، فيحمل على أن سحرها من قبيل الأدوية الضارة، والتدخينات المؤذية، كي تموت أم المؤمنين، فيتحقق عتقها، ولذا أمرت عائشة رضي الله عنها بعقاب تلك الجارية بنقيض قصدها، كما هو ظاهر في الحديث التالي:-
فعن عمرة قالت: - اشتكت(2) عائشة فطال شكواها، فقدم إنسان المدينة يتطبب (3) فذهب بنو أخيها يسألونه عن وجعها، فقال: والله إنكم تنعتون نعت امرأة مطبوبة (4)، قال هذه امرأة مسحورة سحرتها جارية لها، فقالت: نعم(5) أردت أن تموتي فأعتق، قال وكانت مدبرة، قالت: فبيعوها في أشد العرب ملكة (6)، واجعلوا ثمنها في مثلها.(7) "
وقد أجاب الإمام الشافعي عن هذا الأثر قائلاً:-
" وأما بيع عائشة الجارية ولم تأمر بقتلها، فيشبه أن تكون لم تعرف ما السحر
ص514
فباعتها؛ لأن لها بيعها عندنا، وإن لم تسحرها، ولو أقرت عند عائشة أن السحر شرك، ما تركت قتلها إن لم تتب، أو دفعتها إلى الإمام ليقتلها (8)"
__________
(1) التدبير : هو تعليق العتق بالموت .
(2) اشتكت : أي مرضت )عن الفتح الرباني وشرحه بلوغ الأماني لأحمد البنا 14/159)
(3) يتطبب : أي يعاني الطب ولا يجيده (عن المرجع السابق) .
(4) مطبوبة : أي مسحورة (عن المرجع السابق) .
(5) هذا جواب عن سؤال لم يذكر في الحديث ، وكأن عائشة سألتها هل قول الطبيب صحيح ؟ فقالت نعم أردت أن تموتي فأعتق (عن المرجع السابق) .
(6) أي للأعراب الذين لا يحسنون إلى المماليك (عن المرجع السابق) .
(7) أخرجه أحمد (الفتح الرباني 14/159) الحاكم (4/219 ، 220) ، وصححه ، والبيهقي (8/137) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل (6/178) رقم (1757) .
(8) 10) الأم 1/392 ، وقد أورد البيهقي هذا الحديث تحت عنوان : - " باب من لا يكون سحره كفراً ولم يقتل به أحداً لم يقتل " ،
انظر : سنن البيهقي 8/137(212/291)
(هـ) أن السحر الذي يعد كفراً يتضمن أنواعاً كثيرة من المكفرات الاعتقادية والقولية والعملية، كأن يعتقد نفع الشياطين وضررهم بغير إذن الله تعالى، أو يعتقد أن الكواكب مدبرةًً لأمر العالم، أو ينطق بكلمة الكفر كسب الله تعالى، أو الاستهزاء برسوله صلى الله عليه وسلم.
كما يتضمن هذا السحر شركاً في توحيد العبادة، فمن ذلك أن يدعو غير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو يستعيذ بالشياطين أو يذبح لهم، أو يتقرب إليهم بالنذور.
وقد أورد القرافي أمثلة للكفر التي يتضمنها هذا السحر فقال: -
" هذه الأنواع قد تقع بلفظ هو كفر، أو اعتقاد هو كفر، أو فعل هو كفر، فالأول كالسب المتعلق بمن سبه كفر، والثاني كاعتقاد انفراد الكواكب أو بعضها بالربوبية، والثالث كإهانة ما أوجب الله تعالى تعظيمه من الكتاب العزيز وغيره، فهذه الثلاثة متى وقع شيء منها في السحر، فذلك السحر كفر لا مرية فيه. (1) "
ويذكر بن حجر الهيتمي أنواعاً من الكفر تندرج في هذا السحر فيقول:-
" إن اشتمل (السحر) على عبادة مخلوق كشمس، أو قمر، أو كوكب أو غيرها، أو السجود له، أو تعظيمه كما يعظم الله تعالى، أو اعتقاد أن له تأثيراً بذاته، أو تنقيص نبي، أو ملك... كان كفراً وردة. (2)"
ويتبين الشيخ السعدي وجه إدخال السحر في الشرك قائلاً: -
"السحر يدخل في الشرك من جهتين: - من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم، وربما تقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمته ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك
ص515
الطرق المفضية إلى ذلك، وذلك من شعب الشرك والكفر. (3) "
__________
(1) الفروق 4/140
(2) الإعلام ص 391
(3) القول السديد ص 74 ، 75(212/292)
5 - واستكمالاً لهذا المبحث نورد جملة من كلام العلماء في معنى السحر وحكمه. وهمزه ووسوسته، ويتلقاه الساحر بتعليمه إياه، ومعونته عليه، فإذا تلقاه عنه، استعمله في غيره بالقول والنفث في العقد. (1) "
وقال شيخ الإسلام الصابوني: - " ومن سحر منهم واستعمل السحر، واعتقد انه يضر أو ينفع بغير إذن الله فقد كفر بالله جل جلاله، وإذا وصف ما يكفر به استتيب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وإن وصف ما ليس بكفر، أو تكلم بما لا يفهم نهي عنه، فإن عاد عزر، وإن قال السحر ليس بحرام، وأنا اعتقد إباحته وجب قتله؛ لأنه استباح ما أجمع المسلمون على تحريمه. (2) "
ويقول ابن العربي: - " إن الله سبحانه قد صرح في كتابه بان السحر كفر؛ لأنه تعالى قال: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من السحر، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بقول السحر، " وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ " به وبتعليمه، وهاروت وماروت يقولان " إنما نحن فتنة فلا تكفر " وهذا تأكيد للبيان (3) "
وقال ابن الشاط: - " فالذي يستقيم في هذه المسألة: ما حكاه الطرطوشي عن قدماء أصحابنا أنا لا نكفره حتى يثبت أنه من السحر الذي كفر الله تعالى به، أو يكون سحراً مشتملاً على كفر كما قال الشافعي. (4) "
ويقول القرطبي: - " قوله تعالى: - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} تبرئة من الله لسليمان، ولم يتقدم في الآية أن أحداً نسبه إلى الكفر، ولكن اليهود نسبته إلى السحر، ولما كان السحر كفراً صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر، ثم قال " ولكن الشياطين كفروا " فأثبت كفرهم بتعليم السحر. (5) "
ص516
__________
(1) شرح السنة للبغوي 12/188
(2) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 96
(3) أحكام القرآن 1/31
(4) تهذيب الفروق 4/157
(5) تفسير القرطبي 2/43(212/293)
وقال النووي: - " والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح... كالسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها... (1) "
ويقول ابن تيمية: - " إذا تقرب صاحب العزائم وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك إلى الشياطين بما يحبون من الكفر والشرك، صار ذلك كالرشوة لهم، فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالاً ليقتل له من يريد قتله... ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة، وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل، إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد وإما غيرهما.. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين، أعانتهم على بعض أغراضهم... (2) "
ويقول السبكي: - وأما مذهب الشافعي فحاصله أن السحر له ثلاثة أحوال: حال يقتل كفراً، وحال يقتل قصاصاً، وحال لا يقتل أصلاً بل يعزر، أما الحالة التي يقتل فيها كفراً، فقال الشافعي رحمه الله: - أن يعمل بسحره، ما يبلغ الكفر، وشرح أصحابه ذلك بثلاثة أمثلة: - أحدهما أن يتكلم بكلام هو كفر ولا شك في أن ذلك موجب للقتل.
المثال الثاني: - أن يعتقد ما اعتقده من التقريب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل بأنفسها فيجب عليه أيضاً القتل،
المثال الثالث: - أن يعتقد أنه يقدر به على قلب العيان، فيجب عليه القتل كما قاله القاضي حسين والماوردي. (3) "
ويقول الذهبي: - " إن الساحر لابد وأن يكفر، قال الله تعالى: - {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة، آية 102]، وما للشيطان الملعون غرض في تعليمه الإنسان السحر إلا ليشرك به.
فترى خلقاً كثيراً من الضلال يدخلون في السحر ويظنون أنه حرام فقط، وما
ص517
__________
(1) روضة الطالبين 10/ 64 . وانظر مغني المحتاج للشربيني 4/136
(2) مجموع الفتاوي 19/34 ، 35 - بتصرف
(3) فتاوي السبكي 2/324(212/294)
يشعرون أنه الكفر، فيدخلون في تعلم السيمياء (1) وعملها، وهي محض السحر، وفي عقد المرء عن زوجته وهو سحر، وفي محبة الزوج لامرأته وفي بغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة أكثرها شرك وضلال. وحد الساحر القتل؛ لأنه كفر بالله أو ضارع الكفر... فليتق العبد ربه ولا يدخل فيما يخسر به الدنيا والآخرة. (2) "
ويقول البيضاوي: - " قوله تعالى {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} تكذيب لمن زعم ذلك، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبياً كان معصوماً عنه.. (3) "
وقال الحافظ ابن حجر: - " وقد استدل بهذه الآية: - {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه... كالتعبد للشياطين، أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلاً.
- إلى أن قال – وفي إيراد المصنف [البخاري] هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها: - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الآية على لسان الملكين: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر، فيكون العمل به كفراً، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه، وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسميته ما عدا ذلك سحراً مجاز. (4) "
ص518
__________
(1) السيمياء : - أحد علوم السحر ، وهو عبارة عما تركب من خواص توجب بعض التخيلات
انظر : ، ومقدمة ابن خلدون 3/1159 ، والفروق للقرافي 4/137 ، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 29/389 ، ومفتاح السعادة لطاش كبري 1/317 ، أبجد العلوم لمحمد صديق حسن 2/332 ، وأضواء البيان 4/452
(2) الكبائر للذهبي ص 41
(3) أنوار التنزيل 1/73
(4) فتح الباري 10/224 ، 225 = باختصار يسير(212/295)
وقال الدردير: - " وسحر فيكفر بتعلمه، وهو كلام يعظم به غير الله تعالى، وينسب إليه المقادير، ثم إن تجاهر به فيقتل إن لم يتب، وإن أسره فحكم الزنديق، يقتل بدون استتابة، وشهر بعضهم عدم الاستتابة مطلقاً. (1) "
وذكر الشيخ محمد بن عبدالوهاب السحر من نواقض الإسلام فقال: -
"السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر. (2) "
6 - ما يلحق بالسحر:
مما يلحق بالسحر: التنجيم، وهو أحد أقسام الكهانة، ولذا يسمي بعضهم المنجم كاهناً (3)، والكاهن " هو الذي يدعي مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن. (4) "
يقول القاضي عياض – ذاكراً أنواع الكهانة –
"كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب: - أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم باطل من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: - أنه يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده.
الثالث: - المنجمون، وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف، وهو الذي
ص519
__________
(1) الشرح الصغير 6/146 وانظر بلغة السالك 2/416 ، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2/288 ، والخرشي علي خليل 7/63
(2) مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب (رسالة نواقض الإسلام) 1/386 وانظر فتاوي محمد بن إبراهيم 1/163 ، وفتاوي اللجنة الدائمة 1/364 ، وفتاوي ابن باز 2/119 ، والمجموع الثمين من فتاوي ابن عثيمين 2/130
(3) انظر شرح السنة للبغوي 12/177 ، ومجموع الفتاوي لابن تيمية 35/172 ، 193
(4) معالم السنن للخطابي 4/225 ، وانظر النهاية لابن الأثير 4/214 ، وشرح السنة للبغوي 12/182 ، وفتح الباري 10/216 ، ومفردات الراغب ص 665 ، وشرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 221 ، ومفتاح السعادة لطاش كبري 1/340 ، وبلوغ الأرب للآلوسي 3/269 ، وفتاوي اللجنة الدائمة 1/393 .(212/296)
يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم، وإتيانهم والله أعلم. (1)
وأما تعريف التنجيم فهو مأخوذ من النجم والمراد به: الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أن المنجم يربط ما يقع في الأرض بالنجوم بحركاتها، وطلوعها، وغروبها واقترانها وتفرقها (2)
وهذا التنجيم إنما كان سحراً لقوله صلى الله عليه وسلم: - " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد (3) "
يقول ابن تيمية: - " فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر، وقد قال الله تعالى {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه آية 69] وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون، لا في الدنيا ولا في الآخرة. (4) " والتنجيم الذي يعد سحراً له أنواع منها: -
(أ) عبادة النجوم كما كان يفعل الصابئة، اعتقاداً منهم بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير تلك النجوم، ولذا بنوا هياكل لتلك النجوم، وعبدوها وعظموها، زاعمين أن روحانية تلك النجوم تتنزل عليهم فتخاطبهم
ص520
__________
(1) صحيح مسلم بالنووي 14/223 ، وانظر معالم السنن للخطابي 4/225 ، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 2/217 ، وفتح الباري 10/217 ، وفتاوي ابن باز 2/120 ، والمجموع الثمين من فتاوي ابن عثيمين 2/138 .
(2) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 35/192 ، وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبدالله ص 441 ، والمجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 2/138
(3) أخرجه أحمد (1/227) ، وأبو داود ح (3905) ، وابن ماجه ح (3726) وصححه النووي في رياض الصالحين ح (1673) ، والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/117
(4) مجموع الفتاوى 35/193(212/297)
وتقضي حوائجهم. (1). ولا شك أن هذا كفر بالإجماع. (2)
(ب) أن يستدل بحركات النجوم وتنقلاتها على ما يحدث في المستقبل من الحوادث والوقائع، فيعتقد أنه لكل نجم منها تأثيرات في كل حركاته منفرداً أو مقترناً بغيره. (3)
وفي هذا النوع دعوى لعلم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة؛ لأنهم بهذا يزعمون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب، ولأنه تكذيب لقوله تعالى {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [ النحل، آية 65] وهذا من أقوى أنواع الحصر؛ لأنه بالنفي والاستثناء.
كما أنه تكذيب لقوله سبحانه: - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} [ الأنعام، آية 59] (4)
__________
(1) انظر : أحكام القرآن للجصاص 1/51، ومجموع الفتاوي لابن تيمية 35/171 ، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 2/191 ، ومقدمة ابن خلدون 3/1149 وتيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبدالله ص 441 ، ومعارج القبول للحكمي 1/522 ، والمجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 2/143 .
(2) انظر الفتاوي لابن تيمية 35/177 ، وشرح العقيدة الطحاوية 2/775 ، وشرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 223 ، وتيسير العزيز الحميد ص 441
(3) انظر : معالم السنن للخطابي 4/226 ، والفتاوي لابن تيمية 35/171 ، وتيسير العزيز الحميد ص 442 ، ومعارج القبول 1/524 ، والمجموع الثمين من فتاوي ابن عثيمين 2/143 .
(4) انظر تيسير العزيز الحميد ص 442 ، والقول السديد للسعدي ص 77 ، 78 ، 84 ، وأضواء البيان للشنقيطي 2/197 ، وفتاوي ابن باز 2/120 ، والمجموع الثمين من فتاوي ابن عثيمين 1/143 .(212/298)
3 - ومن أنواع هذا التنجيم: - " ما يفعله من يكتب حروف أبي جاد، ويجعل لكل حرف منها قدراً من العدد معلوماً، ويجري على ذلك أسماء الآدميين والأزمنة والمكنة وغيرها، ويجمع جمعاً معروفاً عنده، ويطرح منه طرحاً خاصاً، ويثبت إثباتاً خاصاً، وينسبه إلى الأبراج الإثني عشر المعروفة عند أهل الحساب، ثم يحكم على تلك القواعد بالسعود والنحوس وغيرها مما يوحيه إليه الشيطان. (1) "
ص521
" قال بن عباس رضي الله عنهما في قوم يكتبون أباجاد، وينظرون في النجوم: - ما أدري من فعل ذلك له عند الله خلاق. (2) "
وهذا النوع أيضاً يتضمن دعوى مشاركة الله في علم الغيب الذي انفرد به سبحانه. (3)
يقول السعدي في هذا المقام: - " إن الله تعالى المنفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركة الله في شيء من ذلك بكهانة أو عرافة أو غيرها، أو صدق من ادعى ذلك، فقد جعل الله شريكاً فيما هو من خصائصه، وقد كذب الله ورسوله... (4) "
ويقول الشنقيطي: - " لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله، كان جميع الطرق التى يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين... (5) "
إن هذه الأنواع من التنجيم وما شابهها كفر أكبر يناقض الإيمان.. فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى التنجيم سحراً.. وقد سبق بيان وجه كون السحر كفراً.
__________
(1) معارج القبول 1/523 ، وانظر تفصيل الحديث عن علم تلك الحروف في مقدمة ابن خلدون 3/1159 – 1196 ، وأبجد العلوم لمحمد صديق حسن 2/236
(2) أخرجه عبدالرازق 11/26 ، والبيهقي 8/139
(3) ومما يحسن ذكره ها هنا أن ما يسمى بحساب الجمل ، والذي يستفاد منه في تيسير حفظ أزمان الأحداث والوقائع ... فهذا ليس ممنوعاً ؛ لأنه لا يتضمن شيئاً مما نهى عنه الشارع
(4) القول السديد ص 77 ، 78
(5) أضواء البيان 2/197 ، وانظر الموافقات للشاطبي 4/84(212/299)
إن هذا التنجيم يناقض الإيمان، لما فيه من اعتقاد أن تلك النجوم تنفع وتضر بغير إذن الله تعالى، ولما فيه من دعوى الغيب، ومنازعة الله تعالى فيما اختص به سبحانه من علم الغيب، كما قال سبحانه: - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن، آية 26]، كما أن هذا السحر يحوي شركاً في العبادة، ودعاء لتلك النجوم وتعظيماً وتقربا لها.
إضافة إلى ذلك فإن التنجيم إذا كان نوعاً من الكهانة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - " من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على
ص522
محمد صلى الله عليه وسلم. (1) "
وفي رواية: - " من أتى كاهناً فصدقه بما يقول.. فقد بريء مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. (2) "
فهذه الأحاديث دليل على كفر من سأل الكهان مصدقاً لهم، فإذا كان هذا حال السائل فكيف بالمسؤول؟
يقول ابن تيمية – ذاماً هؤلاء المنجمين -: - " فإن هؤلاء الملاعين يقولون الإثم ويأكلون السحت بإجماع المسلمين، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق عنه أنه قال: - " إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " (3)وأي منكر أنكر من عمل هؤلاء الأخابث، سوس الملك، وأعداء الرسل، وأفراخ الصابئة عباد الكواكب؟!!
__________
(1) أخرجه أحمد 2/429 ، والحاكم 1/8 وصححه على شرط الشيخين ، والبيهقي 8/135 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (5815)
(2) أخرجه أحمد 2/408 ، وأبو داود ح (3904) ، والترمذي ح (135) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (5818)
(3) أخرجه أحمد (91) ، . والترمذي ح (2168) وصححه ، وأبو داود ح (4338) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (1970)(212/300)
فهل كانت بعثة الخليل صلاة الله وسلامه عليه إمام الحنفاء إلا إلى سلف هؤلاء – فإن نمرود بن كنعان كان ملك هؤلاء، وعلماء الصابئة هم المنجمون ونحوهم – وهل عبدت الأوثان في غالب الأمر إلا عن رأي هذا الصنف الخبيث، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله؟!! (1) "
ومما يلحق بالسحر أيضاً: العيافة، والطرق، والطيرة، لما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: - " العيافة والطرق والطيرة من الجبت (2) "
والجبت هو السحر عند جمع من أهل العلم – كما سيأتي بيانه –
والمقصود بالعيافة: زجر الطير والحيوان، والاستدلال بأصواتها وحركاتها
ص523
وسائر أحوالها على الحوادث، واستعلام ما غاب عنهم. (3)
وأما الطرق فهو الخط في الأرض. وقال بعضهم: الضرب بالحصى، ويسمى علم الرمل حيث يستدلون بأشكال الرمل على أحوال المسألة حين السؤال. (4)
والطيرة: التشاؤم، وأصله أن العرب في الجاهلية يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر، فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع (5)
والجبت هو السحر، قال الله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء، آية 51].
__________
(1) مجموع الفتاوى 35/195 ، وانظر شرح العقيدة الطحاوية 2/763
(2) أخرجه أحمد (3/477) وأبو داود (3907) ، وحسن النووي إسناده في "رياض الصالحين" ح (1672) ، وكذا ابن تيمية في مجموع الفتاوي (35/192)
(3) انظر ترتيب القاموس المحيط 3/357 ، والمصباح المنير للفيومي ص 527 ، وشرح السنة للبغوي 12/177 ، وبلوغ الأرب للآلوسي 3/307 .
(4) انظر ترتيب القاموس المحيط 3/71 ، وشرح السنة للبغوي 12/177 ، ومختصر سنن أبي داود للمنذري 5/374 ومفتاح السعادة لطاش كبري زاده 1/336
(5) انظر ترتيب القاموس المحيط 3/116 ، والمصباح المنير للفيومي ص 454 ، والفروق للقرافي 4/238 ، وفتح الباري 10/212(212/301)
والجبت هو السحر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الجبت السحر، والطاغوت الشيطان " (1)
وهكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن والضحاك والسدي (2).
ووجه كون العيافة والطرق والطيرة سحراً، لما فيها من دعوى علم الغيب، ومنازعة الله تعالى في ربوبيته، فإن علم الغيب من صفات الربوبية التي استأثر الله تعالى بها دون من سواه، إضافة إلى أن بعضهم يعتقد أن تلك الأشياء تنفع أو تضر بغير إذن الله تعالى.
ص524
خاتمة
من خلال ما سبق عرضه في هذا المبحث، يمكن أن نشير إلى بعض الأمور التالية:
1- التأكيد على أهمية وخطورة دراسة نواقض الإيمان، وضرورة الاعتناء بها، وتحرير مسائلها بعلم وعدل، والحذر من مسلك ردود الأفعال، وما يؤول إليه من غلو أو إرجاء.
2- إن دراسة موضوع نواقض الإيمان، لا تنفك عن دراسة مقابله وهو الإيمان، ولذا فإن اللبس والخطأ في فهم حقيقة الإيمان يورث – بطبيعة الحال – لبساً وخطاً في دراسة الكفر، كما هو ظاهر حال المبتدعة من الوعيدية والمرجئة.
3- إذا كان الإيمان قولاً وعملاً، قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، فهذا النواقض إما أنها تضاد قول القلب أو عمله، أو تضاد قول اللسان أو عمل الجوارح. وحيث إن الإيمان تصديق وإقرار، وانقياد والتزام بطاعة الله تعالى ظاهراً وباطناً، فالكفر عدم الإيمان وهو تكذيب وجحود، وإباء واستكبار، وامتناع وإعراض.
4- ضرورة مراعاة ضوابط التكفير، وعوارض الأهلية والتي سبق الاشارة إلى بعضها، فإن الاعتناء بمثل ذلك يوجب توسطاً واعتدالاً بين الإفراط والتفريط.
__________
(1) أخرجه البخاري تعليقاً (8/251) ، وابن جرير موصولاً (3/13) وقال الحافظ ابن حجر : - " إسناده قوي " ، انظر الفتح 8/252
(2) انظر تفسير ابن كثير 1/485 ، وفتح الباري 8/251 ، 252 ، والدر المنثور للسيوطي 2/564 ، 565(212/302)
5- الاعتناء بالتفصيل والتوضيح عند دراسة تلك النواقض، وتحقيق حدودها وتعريفاتها شرعاً ولغة وعرفاً، والحذر من الإجمال والإطلاق.
6- تضمن هذا البحث جملة من نواقض الإيمان، كان من أهمها: الشرك في العبادة، فتحدثت – ابتداءً – عن وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة وحدة لا شريك له، ثم ذكرت حقيقة الشرك في العبادة، سواء كانت العبادة قولية أو عملية، ووضحت الفرق بين تلك المظاهر الشركية وما دونها من المعاصي،
ص525
كالفرق – مثلاً – بين السجود الشركي وسجود التحية، والفرق بين النذر الشركي، ونذر المعصية....، ثم أوردت عدة اعتبارات في كون تلك الممارسات ناقضاً من نواقض الإيمان.
7- ظهر من خلال عرض مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، أهمية وضرورة التحاكم إلى شرع الله تعالى وحده، وعظم منزلته من الدين، ثم ذكرت جملة من الحالات التي يكون فيها الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى خراجاً عن الملة، كمن جحد حكم الله تعالى، أو فضل حكم الطاغوت على حكم الله تعالى، أو ساوى بينهما، أو جوز الحكم بما يخالف شرع الله تعالى، أو لم يحكم بما أنزل الله إباء وامتناعاً. وأما المحكوم فإن كفره متعلق بقبوله لغير شريعة الله تعالى، ورضاه بها.
8- حوى هذا البحث مسألة تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً... فبسطت أدلة الفريقين واستدلالاتهم، مع المناقشة والترجيح. ولعل القول الراجح في هذه المسألة أن ترك الصلاة الذي يعد كفراً هو الترك المطلق الذي هو بمعنى ترك الصلاة بالكلية أو في الأعم الأغلب والله أعلم.
9- إن لنواقض الإيمان أمثله كثيرة جداً لا يمكن حصرها والإحاطة بها، وقد كثر كلام العلماء في هذا النواقض، وكثرت تفصيلاتهم، وإيراد أنواع وأفراد من المكفرات، وربما تركوا ما هو نظير تلك الأفراد، أو آكد منها، والأولى في هذا أن تذكر أجناس الأشياء والأصول التي ترجع إليها، لأجل إذا ذكرت الأشياء تفصيلاً، كان تمثيلاً لا حصراً. (1)
__________
(1) انظر الإرشاد للسعدي ص 203(212/303)
وفي الختام أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الجهد، وأن يبارك فيه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(212/304)
هُبَل صوفية حضرموت ..!!
---
يقول الله عز وجل وهو أصدق القائلين : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرايتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } الزمر : 38
ولكن صوفية حضرموت لهم رأي آخر ..!!
فهم لهم آلهة يدعونهم من دون الله ، وأكبرهم هُبل عينات ..!!
بدون إطالة ومبالغة ، إليكم ما قاله هُبَل عينات عن نفسه :
لاحظوا ثناء شيوخ صوفية حضرموت وعدم إنكارهم لما فيها من تأله على الله ..!!
فهو العرش والكرسي ومن بنى السماء ومن يطفي نار جهنم .. الخ ..!!
ومافي كتبهم ترقيع فارغ لزندقة واضحة ..!!
فمن هو الإله عندهم ..؟؟
الله عز وجل أم وليهم أبو بكر بن سالم وأمثاله ..؟؟
قارنوا هذه الآية بالوثائق بما في قصيدة هُبَل عينات الفخرية ..!!
وليقنعني أي صوفي بأنهم لا يؤلهون أوليائهم من دون الله ..!!!
ولوثائق هُبَل الصوفية بقية ..!!
وإليكم أخوتي في الله ما قاله هُبَل عينات عن مغفرته لذنوب الخلق ..!!
فقط لمن ألقى نظرة لوجهه ..!!
أو لمن رأى من رآه أو رأى من رأى من رآه ..!!
وأن الوقوف بين يديه حياً أو على رميم عظامه ميتاً خيراً من عبادة اللله الدهر كله ..!!
ولا يفوتكم شهادة شيوخ بنو صوفان لهُبَل عينات..!!
ولا شفاعته للخلق في وقته ..!!
وعودة لهُبَل عينات ..!!
الذي يقول هنا بأنه شفع للخلق ، وأن الله لن يعذب قوماً أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآخرهم هو ..!!
أبو بكر بن سالم الذي قالوا عنه أنه حامل العرش وحافظ الفرش والموقع في دفاتر الغيوب ما أرد ، ذكروا عنه في كتاب " المشرع الروي " و " كتاب تذكير الناس " بأنه يقول بأن الدنيا بين يديه كالقصعة ..!!
ومن أراد الوثائق من الصوفية فليطلبها ..!!
الكلام ليس في هذا ، بل هو في ما وضع عليه لون أحمر في الصفحة الثانية ..!!
فهل يفهم بنو صوفان المغزى ..؟؟(213/1)
أشك في هذا ..!!
بقي أن أقول للصوفية ، بأن يوسف المغربي المذكور في أسفل الصفحة هو من رآه أبو بكر بن سالم وهو في خصيتي أبيه ..!!
والأب في المغرب والموقع في دفاتر الغيوب ما أراد في حضرموت ..!!
فهل يا ترى استخدم تلسكوب هابل ..؟؟
وإليكم أخوتي في الله ما يعتقده صوفية حضرموت بهُبَل عينات أبو بكر بن سالم :
فهو مجلي الكمال ومن لم يعرف معناها فليرجع لقول ابن عربي عن العارف المكمل حيث قال: العارف المكمل هو من رأى كل معبود مجلي للحق يعبد فيه ..!!
ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك ..!!
ليعرف قصد الشاعر الذي يلبي عند استقباله هُبل المعظم ..!!
وخوفاً من الاطالة أضع لكم روابط لوثائق من كتبهم عن تجلي أسماء الله وصفاته على زنادقة الصوفية ..!!
تجلي الأسماء:
http://www.d-sunnah.net/files/u1/up/sefat---1.jpg
http://www.d-sunnah.net/files/u1/up/sefat--2.jpg
تجلي الصفات:
http://www.d-sunnah.net/files/u1/up/sefat-3.jpg
http://www.d-sunnah.net/files/u1/up/sefat-4.jpg
قارنوا ما فيها بما في القصيدة ولن تجدوها تحيد عما فيها قيد أنملة ..!!
وبالرغم من كل هذه الوثائق فالقوم موحدون ونحن مشبهة مجسمة نتبع ثور مبرطم كما قال علاّمتهم الحداد في روايته عن ابن عباس رضي الله عنه ..!!
وللقصائد الشركية بقية ..!!
لتروا من هو إله صوفية حضرموت ..!!
وتكملة لتقديس أبي بكر بن سالم عند صوفية حضرموت إليكم قصيدة قالها فيه من يؤمن به بأنه هو المعطي والمانع والحامي والشفيع ..!!
تأملوا في القصيدة وقارنوها بما قاله عبد الكريم الجيلي عن تجلي الأسماء والصفات كما في الرد السابق ..!!
وكما في بالوثائق في آخر الموضوع هذا عن ظهور الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة شيخه الجبرتي وبصورة الشبلي ..!!
لتعرفوا بأن صوفية حضرموت مثلهم مثل غيرهم يؤمنون بالحقيقة المحمدية ..!!(213/2)
وهي باختصار أن الله يحل في الرسول والرسول يحل في شيوخهم ..!!
الصفحة الأولى من القصيدة :
ما قاله الجيلي عن ظهور الرسول بصورة الجبرتي والشبلي :
http://www.d-sunnah.net/files/u1/up/...-Jabarti-1.jpg
http://www.d-sunnah.net/files/u1/up/...-Jabarti-2.jpg
فهل تجدون هنالك فرق ..؟؟
بقي ثلاثة صفحات من القصيدة ..!!(213/3)
هذه صور لصوفية سوريا في حلقات ذكر التي غثنا بها بنو صوفان ..!!(214/1)
هذه مفاهيمنا
كتبه
صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ
رد على كتاب
"مفاهيم يجب أن تصحح"
لمحمد بن علوي المالكي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله،وخير الهدي هدي محمدٍ- صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وبعد: فإن الفتن في هذا الزمان تتابعت، وتنوعت وتكاثرت، فمنها الفاتن للجوارج، ومنها الفاتن للقلوب، ومنها الفتان للعقول والفهوم، وقد خاض أناس في الفتن غير مبالين، وخاض أناس غير عالمين، وخاض فئام عالمين، وخاضت جماعات مقلدين.
حتى أصبح ذو القلب الحي ينكر من يراه وما يراه، فلا الوجوه بالوجوه التي يعرف، ولا الأعمال بالأعمال التي يعهد، ولا العقول بالعقول المستنيرة، ولا بالفهوم المنيرة.
فهو مخالط للناس بجسمه، مزايل لهم بعمله، يعيش في غربته بين جلدته، حتى يأذن الله بحلول الأجل فيلحق – إن عفا الله وغفر – بمن يفك غربته ويؤنس وحشته.
وإن من أعظم تلك الفتن وأشدها صرفاً عن الصراط المستقيم الفتنة عن تحقيق معنى الشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فكم من فاتنٍ عنها بعلم، وكم من مفتونٍ عنها بتقليد.
ولهذا الفتنة، عن تحقيق معنى الشهادتين صوركثيرة، جمع صورها هذا الزمان وأهله، وما اجتمعت في وقتٍ اجتماعها وتواردها في هذا الزمن، فما أقل الفقيه بها، المجاهد لها، على تنوعها وتشعبها، وظهورها وجلائها.(215/1)
فطوائف من الناس إذا سئلوا عن معنى كلمة التوحيد ظنوا معناها لا خالق موجود إلا الله، وكأن أهل الجاهلية والعمى ممن بعثت إليهم الرسل يقولون بتعدد المبدعين الخالقين المدبرين، حتى تبعث لهم الرسل
بلا إله إلا الله.
والشأن أن أولئك الجاهلين كانوا يُعَددون معبوديهم لا خالقهم، فأتت الرسل بلا إله إلا الله ومعناها
ما قال نوح لقومه - صلى الله عليه وسلم - { أن لا تعبدوا إلا الله } بالمطابقة.
والعبادة: هي الذل والخضوع والاستكانة في لغة العرب، وسميت العبادات بذلك لأنها تُفْعَل مع الذل والخضوع والاستكانة، وتورثُ الخضوع لرب العالمين في المآل، لأمره ونهيه، والأنسَ به والذل بين يديه والانكسار.
هذا ما تعلمه العرب من كلامها، فلفهمِهم المعنى أبوا أن يخضعوا لـ "لا إله إلا الله" ولو بنطقِ كلمة.
وإذا تدبرت أحوال بعض الناس اليوم وجدت ذلهم وخضوعهم عند القبور وأبنيتها، وتحت قباَبِها وفي المسير إليها أعظم من خضعانهم وانكسارهم إذا كانوا في مسجدٍ لله ليس فيه قبر، ولا قُبَّة.
وعند القبور تلك من نواقض معنى إفراد الله بالعبادة شيء لا تحصر صوره فمن طائف بالقبر سبعاً، ومن قائل: يا ولي الله اشفِ مريضي، وأزلِ الدينَ عني، ومن قائل: أنا في حَسْبك ووقايتك ادفعِ الآفات عني. يعتقدون في المقبور أن له تصرفاً في الكون بتفويض الله له التصرف، فمنهم من أُعطيَ بلداً يرزقُ من يشاء ويدفع عمن يشاء، ومنهم من أعطي قُطراً، ومنهم من فُوَّضَ له ربعُ العالم، ومنهم من فُوَّض له أمرُ الأرض كلها، وهو المسمى بالغوثِ، هكذا يزعمُ عبادُ القبور.
وهؤلاء في ذلك كمن اعتقد تفويض الله أمرَ العالم للكواكبِ السبعة.
ومنهم من أبى عقلُه أن يشرك في التصرف، كما فعله أولئك، ولكنه سار مع طائفةٍ أخرى في ما سماه أبو البقاء الكفويُّ في "الكليات" شرك تقريبٍ، وهو سائقٌ لشركِ التصرف.(215/2)
فادعى مع المدَّعين، وخاض مع الخائضين، وطلب من الأموات المقبورين أن يشفعوا له في غُفْران ذنبه، أو سَعَةِ رزقه، أو رفع كربته، أو شفاء مريضه، يدعون الوسائط أن تتوسط لهم عند الله فتشفع بحاجاتهم.
وكأن الله جل وعلا قد أغلق أبوابه دون حاجاتهم ودعواتهم، وكأنه في ملزمِ فعلِهم لا يعطي ولا يمتع
إلا بتوسطِ وسيطٍ، وفي هذا من التنقص ما فيه.
وتجدهم يتحببون لهذا المقبور بأنواع القُرب: فمن مهريقٍ الدمَ باسمه، ومن ناذرٍ له، ومن طائفٍ حول قبره يتقرب بالسعي والطواف لنيل شفاعته.
فهذان النوعان من الشرك الأكبر قد فَشَيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد أشرتُ أثناء هذه الورقاتِ إلى أن أول من أحدث الشرك الأكبر في المسلمين من هذه الأمة هم الباطنيون وعلى رأسهم "إخوانُ الصفا" وتولى كبر ذلك الدولة العبيدية.
وكثر انخداعُ الناسِ وخاصة الجهال بها، ووجد أناسُ آخرون في ذلك نعم المصدرُ لاكتساب معايشهم، وراج ذلك أكثر ما راج في الصوفية لكثرة المتعبدين بجهلٍ فيهم، فصاروا لُعْبةً وسلوى لأولئك، يتحكمون فيهم، لأجل الدنيا.
ثم شاع بعد القرن الخامس ذاك في الناس وكثر، فعَمَّ وطَمَّ وقَلَّ أن سَلِمَ منه بلدٌ، وفي كل قرن يعيش أولياء وكل من مات قُبَّبَ على قبره، واتُّخِذَ مزاراً، يستشفعُ به، ويسأل ويدعى.
فكثرت القبور، وكثرت العطايا للقبور، فكثر السدنةُ والمنتفعون، والمالُ فتنة، والجاه فتنة، والسيادة فتنة.
وأحبَّ من لم يتبع التوحيد أن يعظمَه الناسُ في حياته، فمن مقبلٍ للأيدي والأرجل، ومن متمسحٍ بالثياب خاضعٍ بالقول، والقلب والجوارح.
وقد رأيت مرة رجلاً يُظَنُّ عالماً في المطافِ حول البيت العتيق وهو يدور مقهقهاً مع رفيقٍ له، ومن الناس من تمسح به وقَبَّلَ يده!
أي حالٍ تلك، واي قلوبٍ هاتيك القلوبُ التي تقهقه حول الكعبة المشرفة، ثم هم أولياءُ في زعمهم.(215/3)
ووصفُ أحوال المنتسبين للإسلام اليوم يطولُ، ولكن الإيماءَ كافٍ، فالإطالةُ تضني، وقد جادلت يوماً
ببلدٍ إفريقي أحد المفتونين من كبار العلماء المُحَبَّذين لعبادة القبور والسدنةِ حولها في حالهم، ومعنى
العبادة، ومفهوم الشهادتين، فقال: أنا أعلم أنكم على الحق ولكن(سيب) الناس تعيش!
إن هذا هو الواقع فالمسألةُ ليست نصرةً للحق بدلائله، ولكنها سيادةٌ وجاهٌ وسمعةٌ وأموالٌ ثم يبحث لتثبيتِ هذا المقرر سلفاً في الدلائل الشرعية وإن كانت أحاديث مكذوبة، وفي الدلائل العقلية وإن كانت أوهى من خيوط العناكب.
وإن المحافظة على المجد والسيادة مما يحرص عليها ناصروا المذاهب البدعية، يورثونها أولادهم لحبهم أن يدعوا الورثة أغنياء! وإذا هلك صُيَّر مدفنه ضريحاً إن استطيعَ وتوجَّه قلوبُ الناس إليه، فيزداد الخليفةُ جاهاً وطاعةً ومالاً.
وفي كل صِقْعٍ من الأرض وُجِدَ فيه عبادُ القبور تجد فيه غالباً طائفةً على هدي النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -
سائرة لا يخدعهم تسيُّدٌ، ولا تؤثرُ فيهم شبهةٌ، وأولئك غرباء في كثير من البلاد يدلون الناس على السنة، ويهدونهم إلى التوحيد، وصَرْفِ القلوب إلى الله، وتعظيمه وإجلاله، والهيبة والخوف منه، ورجاءِ
ما عنده ، يعلقون القلوب بخالفهم وحده، لا بأحدٍ من الخلق، فلا يحبون إلا لله، ولا يبغضون إلا لله،
ولا يعبدون إلا إياه، همهم دعوة الناس إلى توحيد ربهم في الأعمال: أعمال القلوب وأعمال الجوارح.
يسمون أنفسهم أتباع السلف الصالح، وأكْرِمْ به من اتباع مقابلةً باتباع غيرهم للخلف الطالح، وأسْفِلْ به من اتباع.
ويسميهم أعداؤهم: الوهابية أو المتطرفة، ويسعى أعداؤهم في نشر الكتب الناقضة دعوة الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، رداً عليهم، وعلى أتباع الدعوة السلفية الخالصة.(215/4)
وتتخذ هذه الردود أشكالاً تتناسبُ البلدَ المنشور فيه الرد، فبينما يُصَرَّحُ بذلك في بلدٍ، يُسَرُّ به في بلدٍ ويأتي تلويحاً لا تصريحاً.
والحملةُ واحدة، والطريق قديمة سابلةٌ، ولها وُرَّادٌ، ودعاةٌ على جنباتها، اذا صَرَخَ داعٍ تجاوبَ الجميعُ بالصَرُّاخ.
والطريقُ ليست علميةً كما قد يُظَن، ولكنها سبيلٌ غايتُها التمكين لدعاة الباطلِ في أرضِهم، وأرضِ غيرهم.
ومن تلك الردود على الدعوة الإصلاحية كتابٌ سماه كاتبهُ: "مفاهيم يجب أن تصحح" طبع بمصر سنة 1405هـ، ثم طبع بالتصوير "الأفست" في المملكة العربية السعودية بأعداد كبيرة، ووُزَّع سراً وعَلَناً في كثير من أرجاء البلاد، وفي الحرمين وما جوارها أكثر.
وفي هذا الكتاب"مفاهيم يجب أن تصحح" تجويزُ كاتبه - وتحبيذُه حيناً - سؤال النبي- صلى الله عليه وسلم - الشفاعةَ
في قبره، وسؤاله التوسط، وتجويزه ودعوته لطلب الغوث منه - صلى الله عليه وسلم -، فالاستغاثة به منجاة عنده، وطلبُ شفاعتهِ مشروعٌ عنده بعد موته، وسؤاله الاعانة ونحو ذلك، وطرد هذا في الصالحين ونحوهم.
بل زاد بأن قول القائل: يا رسول الله أريدُ أن تردَّ عيني، أو يزولَ عنا البلاءُ، أو أن يذهبَ مرضي: من الجائزاتِ، التي لا عَتْبَ على قائلها، كما ذكره في(ص98) من كتابه.
وفي كتابه من التدليل لشبهة المتهافتةِ بالأحاديث الموضوعة، والواهية، والمنكرة، والباطلة والضعيفة جداً، والضعيفة شيءٌ كثير، وكثير منها يَسْتَدِلُّ به بتعسفٍ مع وهاء الدليل وضعفه.
والقوم لهم وَلَعٌ بالمكذوبات الواهيات، وإعراض عن الصحاح العاليات الغاليات.
وليس هذا جديداً، بل شأنُ كل من نهج غير سبيل السلف وأتباعهم حبُّ البدع، وإغلاؤها، حتى صار وضعُ الحديث عند طائفةٍ من أولئك والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلاً خفيفاً.(215/5)
ومنهم من يضع الحديث ويفتري على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عالماً، ومنهم من يكون جاهلاً، وهاك مثالاً لهؤلاء وأولئك تُبْصِرْ به ما وراء ذلك.
جاء في كتاب "الدرر السنية في الرد على الوهابية" لأحمد بن زيني دحلان(ص55)(1) : (ذكر العلامة السيد علوي بن أحمد بن حسن بن القطب السيد عبد الله الحداد باعلوي في كتابه الذي ألفه في الرد على ابن عبد الوهاب المسمى "جلاء الظلام في الرد على النجدي الذي أضل العوام" وهو كتاب جليل ذكر فيه جملة من الأحاديث.
منها حديث مروي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي - صلى الله عليه وسلم - أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه "سيخرج في ثاني عشر قرناً في وادي بني حنيفة رجل كهيئة الثور، لا يزال يلعق براطمه، يكثر في زمانه الهرج والمرج، يستحلون أموال المسلمين ويتخذونها بينهم متجراً، ويستحلون دماء المسلمين ويتخذونها بينهم مفخراً، وهي فتنة يعتز فيها الأرذلون والسفل تتجارى بينهم الأهواء كما تتجارى الكلب بصاحبه".
قال: ولهذا الحديث شواهد تقوي معناه، وإن لم يعرف من خرجه) انتهى.
فهذا من وضع الرجل المذكور أو شبهه، يكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - عياناً أمام الخلق، فيالها من قلوبٍ تلك التي تتجرؤ على ذلك، ويالها من قلوبٍ تلك التي تحبُّ أولئك.
يكذبون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعون محبةَ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فهل يجتمعان في قلبٍ كلا والله، إلا في قلب مبتدع مأفون كاذب.
__________
(1) : ومن كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذبه على غيره ممن سار على نهجه واقتفى سنته أولى، فقد افترى هذا الرجل على الشيخ محمد بن عبد الوهاب افتراءات: منها قوله: (والظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة) اهـ(ص50)، ومنها قوله(54): (وكان ابن عبد الوهاب يأمر أيضاً بحلق رؤوس النساء اللاتي يتبعنه) اهـ، والافتراءات كُثُر.(215/6)
ومن العجب أنه قال (لم يعرف من خرجه) ولو أسنده إلى كتاب معدوم مفقودٍ لراج كذبُه أكثر على الجهال، لا على العلماء الذين يعرفون نورَ كلامِ النبوة.
ومن الصنف الثاني الذين كذبوا على جهل ما جاء في "الرد المحكم المنيع"(ص17) قال: (المعلوم لطلبة العلم، والعامة، فكيف للعلماء قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الناس مؤتمنون على أنسابهم)) اهـ والمعروف عند العلماء
بل طلاب العلم بل صغار طلبة العلم أن جملة(الناس مؤتمنون على أنسابهم) من قول الإمام مالك بن أنس
رحمه الله تعالى.
وكل من أحب البدع هَجَرَ السننَ، وكل من زين البدعة فسينقص من معرفته بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بقدر ذلك، ومن تأمل ذلك في الخلق عَلِمَه.
وكتابُ "مفاهيم يجب أن تصحح" مَجْلَبٌ لما تفرق من شُبَه الذين عارضوا دعوةَ الشيخِ محمدِ بن عبد الوهاب، فهو يتابعُهم حتى في أوهامهم، وفي عَزْوِهم، وفي فِكْرِهم، حتى إنه لم يتكلفْ عناء توثيقِ أقوالهم، أو تعنَّى فوجدَ خلاف ما كتبوا، فأثبته كما أرادوا.
ولما كان هذا الكتابُ يعبر فيه كاتبهُ عن رأيه، وفيه من الشطاطِ عن فهم التوحيد ما فيه، ومن عدم الفهمِ لدعوة الشيخ ما فيه، ومن الخوض في الدفاع عن الداعين أصحاب القبور من الأنبياء والصالحين، وفي تجويز ما قال الفقهاء في باب "الردة" إنه كفرٌ بالإجماع، ولما لكاتبه من تَبَعٍ ومريدين استعنتُ اللهَ في كشفِ ذلك، وبيان الحق فيه، وبيان أن ما جوزَه الكاتبُ في "مفاهيمه" من الشرك الذي بُعِثَ الرسلُ جميعاً وآخرهم محمدُ بنُ عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لقمعه.
والشركُ في الإلهيةِ له صورٌ يزينها الشيطانُ للواقعين فيه، وهو شَغِفٌ لهَفٌ على أن يخوضوا فيما نهاهم الله عنه، ويُقْنعهم بأنهم لم يخوضوا فيما نهى الله عنه.
فله طرقٌ وسبلٌ، وعلى كل سبيل زينةٌ وبهجةٌ يخدعُ بها الناسَ.
والمنكرُ واجب الإزالةِ بحسب المراتب التي جاءت في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(215/7)
فعسى أن يأذنَ الله لهذه الورقات بالقبول عنده، وأن يُنْتَفَعَ بها، فإن المُنْيَةَ الإنتفاعُ بها، وليس وراء القبول مُبْتَغَىَ، ولا سواه مُرْتَجى.
وسميتُ هذا الردَّ "الورقات الكاسرة للمفاهيم الخاسرة".
ولما أطلعتُ على هذا الكتاب سماحةَ والدي ومن له بعد اللهِ الفضلُ علَّي نصر المولى به الحق، وجزاه الله أحسنَ الجزاء، ورفع درجتَه، وأمْتَعَ به، أشار بتسميته "هذه مفاهيمنا"، وإشارته أمرٌ، وطاعَتُه غُنْمٌ، فسميتهُ بما سماه به طرحاً لما أرى عند ما يَرَى، ورَفْعاً لرأيِه، واتهاماً لقولي عند مقاله.
وكتبته مقطعاً(1)، والقلب مشتَّتُ الشواغلِ، في كل وادٍ منه مُزْعَة، والهمومُ لتدني الأحوال مترادفة، والفتنُ الطاغية صادةٌ عن صفاء المقال، وإحكام الأقوال، والأنيس قليلٌ، بل عزيز، فاللهم إن مفزعَنَا إليك لا إلى غيرك، فثبت أقدامنا على الحق، وبَصَّرْنا بأنفسنا، ولا تجعل من عملنا لأحدٍ سواك شيئاً، ونعوذ بك أن نشركَ بك على علم، ونستغفرك مما لا نعلم، فإنَّ صفتنا التقصير، وصفة الرب العفو والغفران، فاغفر اللهم جَمَّاً، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ رَبَّ العالمين.
كتبه
صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ
يوم الخميس13/5/1406هـ.
الباب الأول
وفيه مباحث
1ـ معنى الوسيلة.
2ـ تخريج الآثار والأخبار التي استدل بها كاتب "المفاهيم".
3ـ رد استدلالات الكاتب بما ساقه من آثار.
قال (ص45):
(الوسيلة: كل ما جعله الله سببا في الزلفى عنده، ووصلة إلى قضاء الحوائج منه. والمدار فيها على أن يكون للوسيلة قدر وحرمة عند المتوسل إليه) ا هـ.
__________
(1) : ورددت به على الباب الأول من كتابه، وفصلاً من الثاني، لأني رأيت أن أصول أقواله في هذين، وفي الكتاب أغلاط كثيرة سيما في الحديث، وأغلاط في الاستدلال، فتركت الكلام على ذلك، واقتصرت على رد الشركيات ووسائلها، وما بين به منهج المؤلف في مفاهيمه، والبصير ينظر بعين ما ذكر إلى ما طوى.(215/8)
أقول: كلامه حوى جملتين الأولى من الحق، والثانية فيها إجمال به يتوصل إلى ما نهى الله عنه، ولم يجعله وسيلة.
فقول: (والمدار فيها.. الخ)! مجمل يمكن تفسيره على أحد وجهين:
الأول: أن يدخل في ذلك ذوات الأنبياء والصالحين باعتبار أن لهم من المنزلة والزلفى عند الله ما يجل عن الوصف.
فإن كان هذا معنيا، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل ذوات الأنبياء والصالحين أو جاههم أو حرمتهم وسيلة إليه ولا سببا للزلفى لديه. وإنما جعل الوسيلة إليه هو اتباعهم وتصديق ما أخبروا به، وأتباع النور الذي جاءوا به، والجهاد من أجل تقريره وتثبيته بين الخلق، فهذا من الوسائل المشروعة التي يشرع للداعي بمسألة أن يقدمها بين يدي مسألته،ولا يصح للداعي دعاء عبادة دعاؤه إلا باتباعهم وتصديقهم.
فهذا من الوسائل المشروعة التي أمر الله بها، وشرعها.
وأما الأنبياء والصالحون فليس من المشروع التوسل بذواتهم ولا جاههم ولا حرمتهم كما سيأتي بيانه.
وإنما يشرع التوسل بدعائهم في حياتهم كما كان يفعله المسلمون زمنه - صلى الله عليه وسلم - وبعده من طلب الدعاء في الاستسقاء وغيره.
وأما بعد مماتهم فليس التوسل بدعائهم ولا ذواتهم مشروعا بإجماع القرون المفضلة.
الثاني: أن تكون الوسائل من الأعمال ونحوها مشروعة، لم تتبع فيها سبل المبتدعة، وإنما اتبع فيها السنة، وهذا حق.
والكاتب أجمل ليدخل الوسيلة المبتدعة في خلل كلمات الحق، وقد بينا ما فيها، وما كان ينبغي له
ذلك وهو يفسر آية من كتاب الله.
وفي الوسيلة قولان ذكرهما أهل التفسير، وقربهما ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/348) قال: (أحدهما: أنه القربة، قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والفراء. وقال قتادة: تقربوا إليه بما يرضيه.
قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقربت إليه. وأنشد:
إذا غفل الواشون غدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
الثاني: المحبة، يقول: تحببوا إلى الله. هذا قول ابن زيد) اهـ.(215/9)
وفي أسئلة نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قوله تعالى: { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } ]المائدة: 35[، قال: الوسيلة الحاجة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت عنترة وهو يقول:
إن الرجال لهم إليك وسيلة أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
وفي المادة شواهد غير ما ذكر.
فالوسيلة: التقرب إلى الله بأنواع القرب والطاعات، وأعلاها إخلاص الدين له، والتقرب إليه بمحبته ومحبة رسوله ومحبة دينه ومحبة من شرع حبه، بهذا يجمع ما قاله السلف، وقولهم من اختلاف التنوع.
وتأمل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } ]المائدة: 35[، ففي تقديم الجار والمجرور { إليه } إفادة اختصاص الوسائل بالله، لا يشركه معه فيها أحد.كما في { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ } ]الفاتحة: 5[. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في"تفسيره" (2/98): (التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة على وفق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتفسير ابن عباس داخل في هذا، لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.
وبهذا التحقيق تعلم أن ما يزعمه كثير من ملاحدة أتباع الجهال، المدعين للتصوف من أن المراد
بالوسيلة في الآية الشيخ الذي يكون له واسطة بينه وبين ربه أنه تخبط في الجهل والعمى، وضلال مبين،(215/10)
وتلاعب بكتاب الله تعالى. واتخاذ الوسائط من دون الله من أصول كفر الكفار كما صرح به تعالى في قوله عنهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[،وقوله: { وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ]يونس: 18[. فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الطريقة الموصلة إلى رضا الله وجنته ورحمته هي اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن حاد عن ذلك فقد ضل سواء السبيل { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } ]النساء: 123[) انتهى كلامه.
قال الكاتب (ص43):
(إن التوسل ليس أمرا لازماً أو ضرورياً، وليست الإجابة متوقفة عليه، بل الأصل دعاء الله تعالى مطلقا،كما قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب } ]البقرة: 186[) انتهى. أقول: إذا كان الأصل هو دعاء الله تعالى بلا واسطة، فلم العدول عن الأصل إلى غيره، ولا يخفى أن غير الأصل لا يتمسك به إلا من عدم الأصل، والله جل جلاله حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، يحب أن يدعوه عبده، وأن يرجوه، وأن يخافه، وأن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته.
فإذا كان هذا لا ينقطع عن مسلم في أي بقعة كان وهو الأصل الأصيل، فَلِم العدول عنه، والتنكب له؟! أ فتعدل إلى طريق هي أهدى؟!.
تقولُ: إن التوسل الذي ننكره وهو التوسل بالذوات وعمل غير الداعي ونحوها، ليس الأصل،
بل الأصل. معكم وأنتم حقيقون بالأصل. تقر لنا بالهداية والاتباع، وترغب في مخالفة الأصل دون دليلٍ صحيح!(215/11)
أما في الأصل لك كفاية؟! أما في دعاء الله وحده بلا واسطة لك مقنع؟! إذا كان الحي القيوم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، يحب أن يدعوه عبده كل حين: دعاء عبادة أو دعاء مسألة، وهو الذي يقول: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب } ]البقرة: 186[ إذا كان كذلك فلم العدول إلى الأموات تتوسل بذواتهم أو جاههم أو حرمتهم وغيرها من الألفاظ البدعية؟!
لِمَ لا يُعلَّم المسلمون دعاء الله وحده، فتخلص قلوبهم من الالتفات إلى غيره في دفع كربة أو رفع بلاء، أو جلب نفع؟ علموهم هذا ولا تعلقوا قلوبهم بغير الله فيتخذوهم أنداداً، فيذهب ذكرهم لربهم وحده، وحبهم له وحده، إذ نفعهم معلق في أذهانهم بوسائط .
إن من انفتح عليهم باب البدعة في التوسل ألقى بهم ولو بعد حين إلى دائرة الإشراك، إذ هو طريقه وسبيله ومنه يتدرج إلى دعاء الأموات أنفسهم أو سؤالهم الشفاعة، أو الإغاثة، أو الإعانة.
وكل هذه صرح كاتب المفاهيم بتجويزها في مواضع من كتابه، كما سيأتي في مباحث الشفاعة. وكل ذلك من سيئات ترك الأصول المتفق عليها، واتباع المتشابهات المنهي عنها.
قال الكاتب (ص44):
(ونحن نرى أن الخلاف شكلي، وليس بجوهري، لأن التوسل بالذوات يرجع في الحقيقة إلى توسل الإنسان بعمله، وهو المتفق على جوازه).
أقول: هذا خطل من القول، ومخادعة للنفس ظاهرة، إذ المتوسلون بالذوات يعلمون بُعد هذا التبرير والتأويل، وأن الخلاف جوهري لا صوري، وبرهان ذلك فساد الدليل الذي ادعيتموه، وهو راجع إلى المجاز العقلي، والكلام فيه سيأتي مفصلاً، ثم هل عمل الذات المتوسَّل بها عمل للمتوسِّل المتفق على جوازه؟(215/12)
ولكنى أقول هنا على سبيل المجاراة والمناظرة: هب أن الخلاف شكلي. أفلا يجب عليكم ترك الألفاظ الموهمة لأمور غير شرعية؟ فإن القائل: أتوسل بفلان، دالٌ ظاهر لفظه على التوسل بالذات المجردة عن الجامع بين الذاتين، ولا قرينة لفظية ولا غير لفظية متصلة ولا غير متصلة تصرفه عن هذا الظاهر.
والقرينة المدعاة قلبية خفية، والحكم على ما في قلوب الناس فرع الاطلاع عليها، ولا سبيل إلى ذلك.
ومن المتقرر أن الشريعة المطهرة جاءت بترك الألفاظ الموهمة لما ينهى عنه شرعأ، كما قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ]البقرة: 104[.فقد كانت يهود تستعمل (راعنا) للسب، والمسلمون حين قالوها لا يشركونهم في ما عقدت قلوبهم عليه من تفسير اللفظ، ومن اليقين أن الصحابة لم يقولوا اللفظ وهم يعنون المعنى الفاسد، فهذه من أقوى القرائن القلبية. ومع هذا نهوا عن ذلك.
قال القرطبي في "تفسيره " (2/57): (في هذه الآية دليلان: أحدهما: على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض.
الدليل الثاني: التمسك بسد الذرائع وحمايتها) انتهى.
وقال الجصاص في "أحكام القرآن" (1/58): (وقوله { رَاعِنَا } وان كان يحتمل المراعاة والانتظار، فإنه لما احتمل الهزء على النحو الذي كانت اليهود تطلقه نهوا عن إطلاقه، لما فيه من احتمال المعنى المحظور إطلاقه، ومثله موجود في اللغة) ثم قال: (وهذا يدل على أن كل لفظ احتمل الخير والشر فغير جائز إطلاقه حتى يقيد بما يفيد الخير) انتهى كلام الجصاص.
فتأمل كيف أن الصحابة استعملوا هذا اللفظ وهم أبعد الناس عن إرادة معنى الهزء والتنقص، فنهاهم الله تعالى عن ذلك اللفظ لما فيه من الاشتراك، ولم يكف في تجويز استعماله ما قام بقلوبهم و نياتهم من المعنى الخير الصحيح. وهذا جلي لمن تجرد!
قال (ص44):(215/13)
(ومحل الخلاف في مسألة التوسل هو التوسل بغير عمل المتوسل، كالتوسل بالذوات والأشخاص. بأن يقول اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أو أتوسل إليك بأبي بكر الصديق أو بعمر بن الخطاب أو بعثمان أو بعلي رضي الله عنهم).
أقول: الواجب عند الاختلاف الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفهم أصحابه الكرام رضى الله عنهم، كما قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } ]النساء: 115[. ومسألة التوسل بالذوات، وكذا التوسل بأعمال من انقضى سعيهم، لا خلاف عند السلف من الصحابة والتابعين أنها ليست من الدين، ولا هي سائغة في الدعاء. وبرهان ذلك أنه لم ينقل عن واحد منهم بنقل صحيح مصدق أنه توسل بأحد الخلفاء الأربعة أو العشرة أو البدريين. والعمل على وفق
ما فهموه هو المنجي كما فضل في "السلف والسلفية، من هذا الكتاب، ومن ابتغى نهجا جديدا فهو الخَلَفي، وليس له حظ منهم.
إذا تقرر هذا، فالتوسل بالذوات ونحو ذلك ممنوع لأوجه:
الأول: أنه بدعة لم تكن معروفة عند الصحابة والتابعين، وكل بدعة ضلالة، وليس على الله أكرم من الدعاء، وفي الحديث: { الدعاء هو العبادة } أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد صحيح عن النعمان بن بشير.
فإذا كان عبادة بل هو العبادة فإحداث أمر في العبادة مردود باتفاق العلماء.
الثاني: أن قول القائل: أتوسل بأبي بكر وعمر... خطأ محض، جره إليه سقم فهمه، وكثافة ذهنه، واعتقاده أن كل شيء توسل به يكون وسيلة، وهذا غلط.(215/14)
فمن قال أتوسل بأبي بكر مثلاً فقد جمع بين ذاتين لا وسيلة ولا طريق توصل وتجمع أحدهما بالآخر، فكأنما هذا القائل قد لفظ لفظاً لا معنى له، بمنزلة من سرد الأحرف الهجائية، إذ لا اتصال بين ذات المتوسَّل والمتوسَّل به حتى يجمع بينهما.
فلا بد من جامع يتوسل به، وهو حب الصحابة مثلا، وهو من عمل المتوسل، فإذا قال: أتوسل إليك رب بحبي لأبي بكر، أو بحبي لعمر، أو بحبي لصحابة نبيك كان هذا حسناً مشروعاً.
وكذا إن قال: أتوسل إليك بتوقيري وتعزيري وحبي واتباعي لنبيك نبي الرحمة كان هذا من الوسائل النافعة.
فلازمٌ ذكر الإيمان أو العمل الصالح الذي يصل بين ذاتين لا يجمع بينهما إلا بجامع.
كما حكى الله عن عباده المؤمنين قولهم: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } ]آل عمران: 53[، وقوله: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ } ]آل عمران: 193[، والآيات في هذا الباب كثرة.
فإذا كان خيرةُ الخلق الأنبياء والرسل واتباعهم وحواريوهم لم يحيلوا على ما في قلوبهم بل قالوا بلسانهم ما حواه جنانهم، وهم الذين لا يشك بما في قلوبهم أفلا يكون الخلوف الذين جاؤوا من بعدهم أولى وأحرى أن يفصحوا وأن يظهروا، وأن لا يتحيلوا لفاسد قولهم بالمجاز العقلي؟!
الثالث: أن الصحابة فهموا من التوسل التوسل بالدعاء لا بالذوات، فعمر بن الخطاب رضى الله عنه توسل بدعاء العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومعاوية بن أبي سفيان توسل بدعاء يزيد بن الأسود.(215/15)
ولو كان التوسل بالذوات جائزا عندهم لأغناهم عن تكلف غيره، ولتوسلوا بذات أكرم الخلق وأفضل البشر وأعظمهم عند الله قدرا ومنزلة، فعدلوا عن ذات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموجودة في القبر، إلى الأحياء ممن هم دونه منزلة ورتبة. فعلم أن المشروع ما فعلوه، لا ما تركوه.
قال الشهاب الألوسي في "روح المعاني" (6/113) في الكلام على عدول الصحابة: (وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس وهم يجدون أدنى مساغ لذلك.
فعدولهم مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبحقوق الله تعالى، ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة، يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق: دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره) انتهى.
الرابع: أن يقال تنزلا: لا يخلو التوسل بالذوات أن يكون أفضل من التوسل بأسماء الله وصفاته، والأعمال الصالحة أو لا. فإن قيل التوسل بالذوات أفضل فهو قول كفري باطل.
وإن كان التوسل بأسماء الله وصفاته وبالأعمال الصالحة أفضل فلم ينافح عن المفضول، وتترك نصرة الفاضل وتأييده ونشره وتعليمه للناس؟!
قال كاتب المفاهيم (ص46):
(وقد جاء في الحديث أن آدم توسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .قال الحاكم في المستدرك: حدثنا أبو سعيد عمرو
بن محمد بن منصور العدل حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي حدثنا أبو الحارث(215/16)
عبد الله بن مسلم الفهري حدثنا إسماعيل بن مسلمة أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أعن أبيه، عن جده عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي... } الحديث. أخرجه الحاكم في "المستدرك" وصححه (ج2 ص651) ورواه الحافظ السيوطي في "الخصائص النبوية" وصححه. ورواه البيهقي في "دلائل النبوة"، وهو لا يروي الموضوعات، كما صرح بذلك في مقدمة كتابه. وصححه أيضا القسطلاني، والزرقاني في "المواهب اللدنية" (2/62)، والسبكي في "شفاء السقام".
قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في "الأوسط "وفيه من لم أعرفهم. "مجمع الزوائد"، (8/253))
اهـ كلام الكاتب.
أقول: هذه الأسطر حوت أغلاطاً، واستغفالاً، وتحريفاً، مما سأبينه إن شاء الله. وما كنت أظن أن يتجاهل الجاني على نفسه، المعجب بعلمه، علماء زمانه، ومن انتسب للعلم من أتباعه حتى يكتب
ما كتب على هذا الحديث وما بعده من الأحاديث.
ولي مع الكاتب هنا وقفات ثلاث:
الأولى: في ما كتبه، وفي عزوه الحديث لمن خرجه.
الثانية: في الكلام على رواية الحديث.
الثالثة: في النظر في متن الحديث ودرايته.
أما الأولى: فينتظم عقدها أمورا:
الأول: عزوه الحديث فيه قصور، فقد رواه جماعة من طبقة مشايخ الحاكم ومن نحو طبقته ومن بعدهم، وكلهم رووه من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فكثرتهم لا تفيد الخبر قوة، ولذا لن أذكر أولئك حتى لا يستكثر بهم الجهول بالحديث واصطلاحات أهله.(215/17)
الثاني: ساق إسناد الحاكم ولم يحسن النقل فقد سقط من الإسناد [عن أبيه] وألحقتها بالإسناد، ووهم أيضا في توثيق النقل من "المستدرك"، فذكره مرتين (ج 2ص651) وهذا قلب وخطأ، وليس سبق قلم لأنه تكرر مرات.ثم طالعت رسالة "إعلام النبيل" لواعظ بالبحرين فوجدته عزاه كما هنا (ج2 ص651)، وقد طبع قبل "المفاهيم"، فتأمل تواردهم على التقليد في كل شيء! وصواب التوثيق (2/615)، و"المستدرك" لم يطبع إلى هذه السنة إلا طبعة هندية واحدة.
وقال: وصححه، يعني الحاكم وهذا غلط، فالحاكم كتب: (صحيح الإسناد)، والمشتغلون بالحديث يفرقون بين صحة الإسناد وصحة الحديث.
الثالث: قوله: (ورواه الحافظ السيوطي... وصححه) من عجائب مفاهيمه، ومما يدل على عدم تعاطيه علم الحديث - وإن أعطي - شهادة الزور - لأن قوله (رواه) خطأ لا يستعمله المحدثون، فمن يذكر الحديث ويسوقه في كتاب له مستدلا به على مراده لا يجوز أن يقال إنه رواه. فكلمة (رواه) لا تقال إلا لمن ساق حديثا أسنده عن مشايخه، إلى منتهاه.
وأما قوله: (وصححه) فأعجب، إذ أن السيوطي لم يعقب الحديث بتصحيح في "الخصائص" الذي نقل منه تصحيحه، وهذا افتراء على السيوطي.
والكاتب- لضعفه العلمي- أخذ قول السيوطي في مقدمة "الخصائص" (1/8): (ونزهته عن
الأخبار الموضوعة وما يرد) فعممه، وقول السيوطي لا يفيد صحة كل ما يورده.
ولذا صرح بضعف إسناد الحديث في كتابه الآخر "مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفاء" (ص30) (طبع بمصر طبعة حجرية سنة 1276).
والسيوطي في"الخصائص" اتبع أبا نعيم في "الخصائص" له، وإن كان الإسناد مظلما، أو كان المتن منكرا، صرح بهذا في كتابه (1/47) فقال بعد ذكره حديثين شديدي النكارة: (ولم تكن نفسي تطيب بإيرادهما، ولكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك) اهـ.
الرابع: قال عن البيهقي (وهو لا يروي الموضوعات) اهـ.(215/18)
أقول: لِم لَم ينقل ما قاله البيهقي نصا بعد رواية الحديث، لم يجعل ديدنه التلبيس والإجمالات التي تلبس على البسطاء، فهو دائما طاوٍ للذي يقوض دليله.
قال البيهقي في "دلائل النبوة" (489/5) بعد سياقه الحديث: (تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف) اهـ.
وكلمة البيهقي هذه غالية،يعرف قدرها المحدثون، أما المبتدعة فلا يعرفون إلا الإجمال، شأن الطلبة الذين لا يعرفون مصطلحات أهل العلم.
قال الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/140-141): (وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكرا) اهـ. فإذا كان هذا شأن الصدوق، وشأن من دونه ممن خف حفظهم وكثر نسيانهم وضاع أكثر ضبطهم، فما بالك بتفرد الضعيف الذي أجمع أهل العلم بالجرح والتعديل على عدم تعديله، فقال بعضهم كالحاكم أحاديثه موضوعة، مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
الخامس: قال الكاتب: (وصححه القسطلاني).
أقول: هذا كتاب "المواهب" فهل صححه، أم أنه ذكر كلام البيهقي الذي سلف. ونصه (1/76 مع شرحه): (وقال - أي البيهقي-: تفرد به عبد الرحمن) هذا كلام القسطلاني، وفهم مراده شارح
المواهب الزرقاني فقال: (تفرد به عبد الرحمن، أي: لم يتابعه عليه غيره، فهو غريب مع ضعف
راويه) اهـ.
والقسطلاني في المواهب وبعض كتبه الأخرى ينقل عن السيوطي في مؤلفاته دون عزو إليه، وجرت في ذلك كائنة تحكى نقلها ابن العماد في "شذرات الذهب"، وأسوقها ليعلم أن القسطلاني في المواهب يأخذ كلام غيره فلا يكترث به في (التصحيح)، وليس معدودا في أهل التخريج والتعديل والتجريح وإنما هو(215/19)
ناقل(1)، قال ابن العماد(8/122ـ123): (ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغض منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد منها، ولا ينسب النقل إليها، وأنه ادعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا، فألزمه ببيان مدعاه، فعدد مواضع قال إنه نقل فيها عن البيهقي، وقال: إن للبيهقي عدة مؤلفات فليذكر لنا ذكره في أي مؤلفاته لنعلم أنه نقل عن البيهقي فنقله برمته، وكان الواجب أن يقول: نقل السيوطي عن البيهقي. وحكى الشيخ جار الله بن فهد أن الشيخ رحمه الله قصد إزالة ما في خاطر الجلال السيوطي، فمشى من القاهرة إلى الروضة إلى باب السيوطي ودق الباب. فقال له: من أنت؟ فقال: أنا القسطلاني، جئت إليك حافيا مكشوف الرأس ليطيب خاطرك علي، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب، ولم يقابله) انتهى النقل عن "الشذرات".
وللسيوطي كتاب سماه: "الفارق بين المصنف والسارق" لعله- ولا أجزم- يعني القسطلاني حيث قال فيه: (وأغار على عدة كتب لنا أقمنا في جمعها سنين، وتتبعنا فيها الأصول القديمة، وعمد إلى كتابي "المعجزات والخصائص" الطويل والمختصر، فسرق جميع ما فيها بعباراتي التي يعرفها أولو البصر(2) انتهى.
السادس: قوله: وصححه الزرقاني في "المواهب اللدنية" (ج2 ص62).
أقول: ليس للزرقاني كتاب باسم المواهب، وكأن الكاتب أراد شرح المواهب. ثم إن الزرقاني ضعفه ولم يصححه، فقال (1/ 76): (هو غريب مع ضعف راويه)، فلم ينقل الكاتب ما ليس صحيحاً، ويحرف وكم هو يجيد التلبيس، ولمَ يوثق نقله توثيقا خطأ فيحيل إلى - ج 2 - وهو في الجزء الأول.
__________
(1) 1 ) : أعني للتخريج والتصحيح، وكتبه نافعة مع الاحتراز عن الواهيات التي يسوقها.
(2) 2 ) : (ص745) من "مجلة عالم الكتب"، ربيع الثاني 1402هـ، فقد نشرت رسالة "الفارق" كاملة، بتحقيق قاسم السامرائي.(215/20)
السابع: قال في تعداد من صحح الحديث: (والسبكي في "شفاء السقام")، والسبكي قلد الحاكم في تصحيحه، والمقلد لا يستكثر به، قال السبكي (ص163): (وقد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم) اهـ. والسبكي مقر بوجه ضعفه لكنه قال: (عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا يبلغ في الضعف إلى الحد الذي ادعاه).
الثامن: أسقط من نقله عن الهيثمي عزو الحديث إلى "المعجم الصغير" للطبراني، فلزم التنبيه.
الوقفة الثانية:
الكلام على الرواية، وإسناد الحديث.
مما سبق سطره ورسمه تجلى أن الحديث لم يقل بصحة إسناده إلا الحاكم، قال الحاكم في "المستدرك"
(2/615): (صحيح الإسناد(1) وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم) انتهى، ومدار الحديث عند كل من أخرجه مرفوعا على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الموضع أن الحاكم لا يقبل كلامه هنا عند التحقيق العلمي، وذلك لأمور:
الأول: أنه قال في كتابه "المدخل إلى الصحيح" (1/154): (عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه) اهـ
وكان قال في أول "المدخل" (1/114): (وأنا مبين بعون الله وتوفيقه أسامي قوم من المجروحين ممن ظهر لي جرحهم اجتهادا، ومعرفة بجرحهم، لا تقليدا فيه لأحد من الأئمة، وأتوهم أن رواية أحاديث هؤلاء
لا تحمل إلا بعد بيان حالهم لقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: { من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب
فهو أحد الكاذبين } ) انتهى.
__________
(1) 1 ) : ومن اللطائف أن طبعة المستدرك الهندية، وقع فيها خطأ مطبعي، هكذا: "هذا حديث صيح الإسناد" وصيح من قولك تصيح الشيء إذا تكسر، كما في "تاج العروس شرح القاموس" (2/186)، فمعنى: صيح الإسناد: منكسر الإسناد، وهذه عجيبة ولله حكمة في وقوع هذا الخطأ فتبصروا!.(215/21)
وسردهم وذكر منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كما نقلناه لك. فهذا تعارض وتناقض من الحاكم، فما السبب فيه؟! وما الحامل له على تصحيح إسناد حديث فيه عبد الرحمن؟! الجواب معلوم عند أهل الحديث والنظر السالم من الهوى، وهو أنه ابتدأ كتابة كتابه "المستدرك" سنة 393 هـ(1) أي بعد بلوغه 72 سنة من عمره، قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (5/233): (ذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك: أنه ذكر جماعة في كتاب "الضعفاء" له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في "مستدركه" وصححها، من ذلك: أنه أخرج حديثا لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكان قد ذكره في الضعفاء، فقال: إنه روى عن أبيه أحاديث موضوعه لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه) انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
وجرى على هذا علماء الحديث في شأن المستدرك، ومنه قول السخاوي في "فتح المغيث" (1/36): (يقال إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره وقد حصلت له غفلة وتغير، أو أنه لم يتيسر له تحريره وتنقيحه، ويدل له أن تساهله في قدر الخمس الأول منه قليل جدا بالنسبة لباقيه، فإنه وجد عنده إلى هنا انتهى إملاء الحاكم) انتهى.
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث الذي احتج به مجيزوا التوسل بالذوات ضعيف جدا في الحديث، قاله علي بن المديني، وقال أبو حاتم الرازي: كان في نفسه صالحاً، وفي الحديث واهياً.
وضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي والدار قطني وغيرهم كثير، وقال الطحاوي: (حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف).
فهذه عبارة إمام الحنفية في وقته وشيخ المصريين في زمانه،أفيستحل الكاتب أن يتقرب إلى الله ويتعبد بحديث في النهاية من الضعف، كيف تقوى قدماك على التماسك وأنت تسأل أمام ربك، وبم تحتج، وعلى من تتكى، أعد للمسألة جوابا، فإن الأمر عظيم.
__________
(1) 1 ) : كما هو مثبت في "السماع" ( ج1 ص2) وغيرها.(215/22)
الثاني: أن في إسناد الحاكم والبيهقي رجلا اسمه عبد الله بن مسلم الفهري ترجمه الحافظ الذهبي في "الميزان" (2/405) وقال: (روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبرا باطلا فيه "يا آدم لولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي في دلائل النبوة" انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (3/360): (قلت: لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته) اهـ.
يعني بالذي قبله الترجمة السابقة لترجمة الفهري، وهو عبد الله بن مسلّم بن رُشيد قال الذهبي: ذكره ابن حبان متهم بوضع الحديث...
الثالث: أن إسناد الحديث ضعفه جماعة كثيرون:
فمنهم: البيهقي في "دلائل النبوة" (5/486).
ومنهم: الذهبي في "تلخيص المستدرك" (2/615)، قال: (موضوع)، وفي "الميزان": قال: (باطل)، فهو موضوع الإسناد باطل المتن.
ومنهم: الشيخ تقي الدين بن تيمية حكم بوضعه في "الرد على البكري" (ص6) من مختصره.
ومنهم: ابن عبد الهادي الحافظ نصر القول بوضعه في "الصارم المنكي".
ومنهم: الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/323) قال عن راويه: (وهو متكلم فيه) ونقل كلام البيهقي بضعف راويه.
ومنهم: الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/253).
ومنهم: السيوطي في "تخريج أحاديث الشفاء" (ص30).
ومنهم: الزرقاني في "شرح المواهب" (1/76).
ومنهم الشهاب الخفاجي في "شرح الشفاء" (2/242).
ومنهم ملا علي القاري في "شرح الشفاء" (1/215).
ومنهم ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/67) وذكر القول ببطلانه.
الوقفة الثالثة:
في النظر في متن الحديث ودرايته.(215/23)
إن الثابت أن الدعاء الذي به قبل الله توبة آدم هو ما قاله الله في سورة الأعراف: { قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ]الأعراف: 23[.فهذه هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. كما قال تعالى: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }
]البقرة: 37[. قال ابن كثير الحافظ في "تفسيره" (1/116): (روي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي، وخالد بن معدان، وعطاء الخراساني
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم) اهـ.
عشرة من أهل العلم فسرها بآية الأعراف، ومنهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث المنكر في توسل آدم.
وهذا مما يزيد في توهين روايته الحديث المنكر الواهي وهنا على وهن، ولم يذكر أن أحداً من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم فسر الكلمات بتوسل آدم بالنبي محمد- صلى الله عليه وسلم - ، بطريق صحيحة ولا ضعيفة، إلا أن تكون واهية موضوعة ولعل قصة مغفرة ذنب آدم بتوسله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - تلقاها جهلة المسلمين من أهل الكتاب في عيسى عليه السلام، فأرادوا إثبات فضيلة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا ما قالوا.
نقل الشهرستاني في كتابه"الملل والنحل"(1/524) عن عقائد النصارى قولهم: (والمسيح عليه السلام درجته فوق ذلك، لأنه الابن الوحيد، فلا نظير له، ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء. وهو الذي به غفرت زلة آدم. عليه السلام) اهـ.
فهذا من اعتقاد النصارى، فنافسهم جهلة المسلمين في ذلك.
قال (ص47): بعد سياق حديث لما اقترف...واستشهاد ابن تيمية به.قال:
(فهذا يدل على أن الحديث عند ابن تيمية صالح للاستشهاد والاعتبار لأن الموضوع أو الباطل
لا يستشهد به عند ا لمحدثين) الخ..(215/24)
أقول: بل إن شيخ الإسلام ذكر الحديث في "الرد على البكري" في أوله وحكم عليه بالوضع وأنه أشبه بحكايات بني إسرائيل قال (ص6): (هذا الحديث وأمثاله لا يحتج به في إثبات حكم شرعي لم يسبقه أحد من الأئمة إليه وإثبات عبادة لم يقلها أحد من الصحابة ولا التابعين وتابعيهم إلا من هو أجهل الناس بطرق الأحكام الشرعية، وأضلهم في المسالك الدينية، فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
لا بإسناد حسن ولا صحيح، بل ولا ضعيف يستأنس به و يعتضد به).
وشيخ الإسلام ذكر في غير موضع أن الحديث موضوع، ولكنه لما كان فيما نقل الكاتب طرفا منه في كلام مع أهل وحدة الوجود ذكر هذين الحديثين بأسانيدهما على خلاف عادته فهو لا يذكر إسناداً
إلا نادراً وإنما ساق الأسانيد ليعلم حالهما من طالعهما، وعادة العلماء أن من ساق إسنادا فقد أدى عهدته، والحكم عليه بعد ذلك بوضع أو غيره إنما يكون إذا أراد الرد على من يعتمده في لفظ من ألفاظه.
ولهذا تجد حفاظ الحديث كأبي نعيم والخطيب ونحوهما، والبيهقي أحيانا يذكرون من الأحاديث الموضوعة أو شديدة الضعف ما يعرفه أهل النظر، واعتذر عنهم بأنهم يسوقون الأسانيد ومن ساق الإسناد فقد ذكر عواره أو ظلامه إن كان فيه عوار أو ظلمة.
قال (ص50):
(وفي الحديث التوسل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يتشرف العالم بوجوده فيه، وأن المدار في صحة التوسل
على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند ربه عز وجل وأنه لا يشترط كونه حيا في دار الدنيا) اهـ.
أقول: لم يكتف الكاتب بتصحيح حديث موضوع بل استخرج للحكم الوارد فيه علة ثم عدى العلة بالقياس إلى غير محل الحكم وإلى غير زمان الحكم.
وتوضيح هذا:
أن في الحديث توسل آدم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وجوده، أي قبل حياته،أي: وهو فاقد الحياة، ولا معنى لتوسله بمن كان كذلك إلا جوازه في الحياة، وقبلها وبعدها. كذا استنتاج الهوى وقياس الردى.(215/25)
ثم إن تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - عند هذا الكاتب بالتوسل لا معنى له حيث قاس كل من كان له عند الله القدر الرفيع على النبي، بجامع النبوة، أو الولاية، أو الكرامة.
وهذا هو عين احتجاج أصحاب القبور المفتونين بعبادتها من دون الله، عدوا بالقياس دعاء الميت والطلب منه على طلب الدعاء من الحي، وجادلوا في ذلك، فلما ظنوا أنه ثبت لهم ما زعموه في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: لا معنى لاختصاص النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء أو الاستشفاع أو نحوه من العبادات، بل يعدى جواز هذا الفعل إلى غيره - صلى الله عليه وسلم - بجامع النبوة إن كان نبيا أو الكرامة.
أو كما قال هذا القائل هنا: (المدار في صحة التوسل على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند ربه عز وجل)، وهذا تمهيد وتقعيد لمسائل لم يفصح عنها في هذا الموضع.
فانظر هذا التجرؤ على أحكام الشرع: تصحح الموضوعات، وقياس فاسد لم يقل به عالم قط منذ بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى انتهاء القرون الثلاثة الأولى حتى ظهرت القرامطة الباطنية، وأتباعهم (إخوان الصفا) وهم جماعة مشهورة ظهروا في أول القرن الرابع، وهم الذين جلبوا هذا الذي تبناه الكاتب وقبله أخذه أهل الضلالة، فانظر ما قاله إخوان الصفا وكيف شرعوا هذا الدين الذي لم يعرفه المسلمون في المئات الثلاث، فسبحان من صير القلوب إلى قلبين.
جاء في الرسالة 42 من رسائل "إخوان الصفا" (4/21). قولهم: (اعلم يا أخي أن من الناس من
يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله
المقربين والتعظيم لهم ومساجدهم والاقتداء بهم وبأفعالهم والعمل بوصاياهم وسننهم على ذلك بحسب ما يمكنهم ويتأتى لهم ويتحقق في نفوسهم ويؤدي إليه اجتهادهم. فأما من يعرف الله حق معرفته فهو
لا يتوسل إليه بأحد غيره، وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله.(215/26)
وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه. ومن قصر فهمه معرفته فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم وعباده.
فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا اتباع آثارهم والعمل بوصاياهم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلبا للقربة إلى الله والزلفى لديه.
ثم اعلم! أنه على كل حال من يعبد شيئا من الأشياء ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالا ممن لا يدين شيئا ولا يتقرب إلى الله البتة).اهـ.
هكذا أدخل إخوان الصفا الباطنيون الشرك في المسلمين، فانتشر في الجهال انتشارا، واشتعل فيهم اشتعال اللهب في يابس الشجر، فقام جماعات من العلماء ينكرون هذا، وكان أول أمره غير متضحة غايته، ولا مستبين سبيله، لأن المسلمين لم يكن دين الأصنام فيهم، ثم استبان الشأن، وانكشف الغطاء فأنكره العلماء في القرن الرابع والخامس، ومنهم ابن عقيل الحنبلي، فقال:
(لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى).
فهذا الشرك الأكبر أصله وسببه هذا القياس الفاسد الباطل الذي قاله صاحب المفاهيم، باب التوسل بالذوات الذي لا نقول بأنه شرك بل هو بدعة من الطرق والوسائل لهذا الشرك الأكبر وكل ما كان وسيلة إلى الكفر والشرك فهو ممنوع يجب سد بابه وإغلاقه ووصده وتتريبه حتى لا يفتح مرة أخرى.(215/27)
ومن في قلبه حب لله وللإسلام الذي جاء به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ليغار ويشتد غضباً أن يعود شرك الجاهلية، الذي أزالته بعثة حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وعقد المؤلف فصلاً (ص51) عنونه بـ: توسل اليهود به - صلى الله عليه وسلم -.
وساق فيه أن ابن عباس قال: (كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود، فدعت يهود بهذا الدعاء، وقالوا إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان أن تنصرنا عليهم...) "تفسير القرطبي" (2/ 26- 27)) اهـ.
وأقول: إن المؤلف أغرب كثيرا في الاستدلال بفعل اليهود الذي نقله، فمن حيث الرواية: فإن قول
ابن عباس ذكره الكاتب غير مخرج ولم يذكر من صحح إسناده لأنه لم يجد من صححه وقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/263)، والبيهقي في"دلائل النبوة" (2/ 76) من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من كلامه. وقال الحاكم بعد ذكره الحديث: (أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير وهو غريب) اهـ، قال الذهبي في "تلخيصه": (قلت:
لا ضرورة في ذلك، فعبد الملك متروك هالك) اهـ.
وذكر السيوطي في "الدر المنثور" أن إسناده ضعيف، وهو لا يقول ضعيف إلا إذا لم يكن في الإسناد حيلة يصحح بها.
والحاكم قد ذكر عبد الملك في "المدخل"(1/170) وقال: (روى عن أبيه أحاديث موضوعة)
وعبد الملك هذا كذبه ابن معين وابن حبان والجوزجاني وغيرهم، وهو الذي وضع حديثا لفظه: (أربعة أبواب من أبواب الجنة مفتحة: الإسكندرية وعسقلان وقزوين وعبادان، وفضل جُدّة على هؤلاء كفضل بيت الله على سائر البيوت).
كذب صريح، ويروج ما يرويه جهلة المسلمين، ممن لا يغارون على كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقوم لهم ولع بالكذوبات، وإعراض عن الصحاح.
قال شيخ الإسلام في "التوسل والوسيلة" (1/299-300 "مجموع الفتاوى"):(215/28)
(قوله تعالى: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } ]البقرة: 89[ إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولا، كبني قينقاع وقريظة والنظير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج وهم الذين عاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة ثم لما نقضوا العهد حاربهم... فكيف يقال: نزلت في يهود خيبر وغطفان؟ فإن هذا من كذاب جاهل لا يحسن كيف يكذب.
ومما يبين ذلك أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب) انتهى.
إذا ظهر هذا وانجلى فالرواية الثابتة الصحيحة ما أخرجه ابن جرير (2/333 ط.شاكر)، وأبو نعيم في "الدلائل" (1/ من الأصل) والبيهقي في "الدلائل" (2/75) كلهم من طريق ابن إسحاق في "سيرته" (ص63رواية يونس بن بكير) قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا: كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن نبيل مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم، فلما بعث الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - اتبعناه وكفروا به،ففينا وفيهم أنزل الله عز وجل: { وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } ]البقرة: 89[ وهذا إسناد جليل، فإن الأشياخ هؤلاء صحابة أدركوا الأمر وعلموه فما أجل هذا وأحسنه!.
وقد جاءت أخبار كثيرة في هذا المعنى عن ابن عباس وغيره، تركتها اجتزاء بما صح، وحذر الملال بسرد الطوال. فاللهم! ألهم وعلم.
ذكر الكاتب (ص52) حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه في توسل الضرير بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -
في حياته.(215/29)
أقول: هذا الحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" (4/138)، والترمذي في "جامعه" (5/569)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (417-418)، وابن ماجه في "سننه"(1385)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9/19) والحاكم في"المستدرك" (1/313 و519) وغيرهم.
قال أحمد: ثنا عثمان بن عمر ثنا شعبة عن أبي جعفر قال سمعت غمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف به. ثم رواه أحمد قال: ثنا روح قال: حدثنا شعبة عن أبي جعفر المديني به.ثم رواه أحمد قال: ثنا مؤمل قال: حدثنا حماد- يعني ابن سلمة- قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي به.
قال النسائي في "عمل اليوم والليلة": خالفهما هشام الدستوائي وروح بن القاسم فقالا: عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خراشة عن أبي أمامة بن سهل عن عثمان بن حنيف.
وهذا الاختلاف علة، قد يرد بها بعض المحدثين الحديث، وهي موضع تأمل. وإسناد رواية شعبة وحماد حسن لابأس به، فإن أبا جعفر هو الخطمي المدني كما ثبت في روايات أحمد وغيره، وهو عمير بن يزيد الأنصاري الخطمي المدني، قال الحافظ في"التقريب": (صدوق).
ورأى طائفة من أهل العلم ضعف الحديث، لأن أبا جعفر فيه كلام، وبعضهم ضعف الإسناد لأجل عدم التثبت أن أبا جعفر هو الخطمي، معتمدين على نفي الترمذي أن يكون هو الخطمي.
هذا، ولا حجة في الحديث على ما ادعاه مجيزوا التوسل بالذوات والجاه ونحوها، لأنه جار على أصول الشريعة في باب التوسل، وهو التوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وهو معنى الشفاعة، فمدلول الحديث التوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والتوجه بدعائه في حياته، وهذا مما ثبتت به السنة في أمور غير هذا الحديث، فأثبته أهل السنة والحديث، ولا مراء في هذا، ولا استشكال في معنى الحديث.
ومن ظن أن الحديث فيه توسل بالذات فيلزمه تساؤل، وهو أن يقال: كيف يخفى هذا الدعاء الذي(215/30)
فيه توسل بالذات على عميان ومكفوفي الصحابة فلم يستعملوه في حياته ولا بعد مماته، ولا من بعدهم، والناس حريصون على جوارحهم وحواسهم؟ نعلم من هذا الإلزام أن الحديث إنما فيه التوسل بدعاء
النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا بذاته، وهذا مقطوع به جزما، فيبقى الحديث خاصا بهذا الأعمى وحده ومعجزة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، والحمد لله الموفق للصالحات.
ثم قال الكاتب:
(وليس هذا خاصاً بحياته - صلى الله عليه وسلم - بل قد استعمل بعض الصحابة هذه الصيغة من التوسل بعد
وفاته- صلى الله عليه وسلم - ).
واستدل له بتعليم عثمان بن حنيف رجلا له حاجه عند عثمان أن يدعو فيقول: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فيقضي حاجتي، وتذكر حاجتك..) ففعله. فقضى عثمان حاجته.
هذا مختصر ما رواه الطبراني.
قال: (هذه القصة صححها الحافظ الطبراني والحافظ أبو عبد الله المقدسي).
أقول: هنا بدأ صاحب المفاهيم وشرع في تعميته الحقائق، وكفْره النقول الصادقة، وأخذه في التمويه على غير المتتبعين لمقالاته.
فقال: هذه القصة صححها الحافظ الطبراني... وما صححها الطبراني وحاشاه، ولو نقلت ما قاله صدقا وأمانة لما لبست على المطالع لكلامك، إذ الثقة فيمن ينتسب إلى العلم تعمي كثيرين عن تتبع نقوله وهل يصدق فيها ولا يحرف أم الشأن استغلال الثقة في نشر وترويج غير الحق؟
قال الطبراني في "الصغير" (1/184): (لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي- وهو ثقة- وهو الذي يحدث عنه ابنه(1) أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي.
__________
(1) 1 ) : تحرفت مطبوعة "المعجم الصغير" في هذه الجملة، والتصويب من "مجمع البحرين" للهيثمي (1/101/1) نسخة أحمد الثالث بتركيا.(215/31)
وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد- وهو ثقة- تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة والحديث صحيح) اهـ.
فبهذا النقل اتضح أن تصحيح الطبراني للحديث السابق وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن القصة لم يعترض لها إلطبراني بتصحيح ولا غيره، بل قال: (لم يروه... الخ) وهو يشعر بضعف القصة عنده، وهو الحق.
وبيان هذا أن القصة رواها الطبراني في "الصغير" و"الكبير" (9/17-18) من طريق شيخه طاهر بن عيسى بن قيرس المصري التميمي، حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني به.
وهذا الإسناد آفته رواية عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد وهي منكرة عند أهل الحديث
لم أر بينهم اختلافا في ذلك. قال ابن عدي في"الكامل في ضعفاء الرجال"(4/1347) (حدث عنه
ابن وهب بأحاديث مناكير)، ثم قال: (ولعل شبيب بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم، وأرجو أنه لا يتعمد شبيب هذا الكذب) اهـ.
والقصة مدارها على هذا الإسناد، فالمتن منكر، ولا خير في منكر. ثم مما يدلل على هذه النكارة أن الحديث رواه الحاكم (1/526-527) وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص170ط الهند) من طريق أحمد بن شبيب بن سعيد قال: ثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المدني وهو الخطمي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل فذكر الحديث دون القصة.
وهذا الرواية أصح، لأنها من روايات أحمد بن شبيب عن أبيه قال الحافظ في "التقريب" في ترجمة شبيب: (لا بأس بحديثه من روايات ابنه أحمد عنه لا من رواية ابن وهب) اهـ.(215/32)
فأحمد بن شبيب وهو الراوي المختص بأبيه لم يذكر القصة عن أبيه وهي من نفس الطريق التي رواها ابن وهب عن شبيب فدل تفرد ابن وهب عن شبيب على نكارتها ودلت مخالفة رواية ابن وهب عن شبيب - وهي منكرة- لرواية أحمد بن شبيب عن أبيه شبيب دل ذلك على شدة نكارتها وبطلانها، وأنها يمكن أن تكون مكذوبة.
إذا تبين هذا فالقصة إما مكذوبة أو منكرة للأمور التي ذكرنا، وهي حجة كافية ناصعة بيضاء لمن أراد الله تبصرته، و من يضلل الله فماله من هاد.
والعجب من صاحب المفاهيم كيف يكون حبه للمنكرات والواهيات أشد من حبه لما صح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان حقه - صلى الله عليه وسلم - نفي الكذب عنه، وترك الواهيات المنسوبة له، لا نشرها وترويجها.
وفي الإسناد شيخ الطبراني طاهر بن عيسى، وهو مجهول لا يعرف بالعدالة، ذكره الذهبي ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، فهو مجهول الحال، لا يجوز الاحتجاج بخبره لاسيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة. قاله الشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد" (ص212 ط الأولى).
قال (ص54):
(إن عثمان بن حنيف "علم من شكا إليه إبطاء الخليفة عن قضاء حاجته هذا الدعاء الذي فيه: التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والنداء له، مستغيثا به بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ) اهـ.
أقول: هذه ثالثة الأثافي، وقاصمة الظهر، أنستنا ما قبلها من التوسل البدعي، فإذا الشأن في النداء للموتى والاستغاثة بهم، فما كنت أظن أن يبلغ صاحب المفاهيم هذا المبلغ من الهوى حتى رأيت رقمه ببنانه، وقوله بلسانه، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
وهذا القول فاسد مناهض لدين الإسلام، موافق لما عليه أهل الجاهلية من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين وندائهم لكشف الملمات ورفع المدلهمات، أفما يقرأ هؤلاء القرآن، ويسمعون قول سلف الأمة من الصالحين؟(215/33)
أفما قرؤوا قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } ]الاسراء: 56-57[. ففي هذه الآية إنكار عام على كل من دعا من دون الله شيئا، جنيا أو نبيا فكلمة { الَّذِينَ } في الآية اسم موصول، والأسماء الموصولة من صيغ العموم عند الأصوليين والنحويين كما هو مقرر في هذين العلمين. فقوله: { الَّذِينَ } يعم كل من دعي من دونه تعالى في كشف الضر أو تحويله،فعمت الأنبياء والصالحين وغيرهم من الملائكة والجن فدعاء هؤلاء لا يجوز، فإنه دين الجاهلية والمشركين وصور هذا الدعاء كثيرة فمنها النداء للموتى أنبياء أو غيرهم كما هو ظاهر من الآية، و منها الاستغاثة. فالأنبياء والصالحون بعد مماتهم لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فكيف يملكون لغيرهم. فهذه الآية تظهر دين المشركين وتبينه فما لهؤلاء يعودون إلى دين المشركين. ما لهم يدعون دين الرسل المتيقن، ويرضون بدين الجاهلية الباطل؟!.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن (ص24) من رده على ابن جرجيس:
(وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ*أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ
وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } ]النحل: 21[، وليست هذه الآية في الأصنام كما يزعمه من لم يتدبر، لأن(215/34)
{ وَالَّذِينَ } لا يخبر به إلا عن العقلاء، ولأن الأصنام من الأخشاب والأحجار لا يحلها الموت، فإنها لم تحلها الحياة حتى يحلها الموت، ولأنها لا تبعث يوم القيامة بعث الإنسان ليجزى بما كسبت يداه، ولا يعقل منها شعور بهذا البعث حتى ينفيه الله عنها، وقد قال تعالى: { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } ]النحل: 21[،فهذه الآية فيمن يموت ويبعث، كما لا يخفى على من تدبرها، وتأمل قوله تعالى: { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }
وهذا إنما يستعمل فيمن يعقل كما لا يخفى على من له معرفة باللغة العربية، فالحمد لله على ظهور الحجة
وبيان المحجة).
عودٌ إلى استدلاله الفاسد بقول المكروب بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -: { يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي } وأي دليل في هذا بعد معرفة بطلان الحديث ونكارته؟! أفيحتج بالمنكرات والأباطيل؟! إنه لعجب عجيب وأمر غريب واستدلال مريب، فنتنزل معهم في المناظرة بالكلام على معنى هذا اللفظ فأقول:
أولاً: أيكون قولك وقول المسلمين في "التشهد": (السلام عليك أيها النبي...) نداء للنبي بعد مماته؟ أينادي المسلمون النبي في كل صلاة، أم أن لفظ النداء هنا لاستحضار منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ليكون أمكن في القلب لما يجب في حقه من تعزيره وتوقيره ونصرته؟ فما استدل واحد من العلماء المهتدين بالتشهد على دعوى جواز مناداة النبي بعد موته، وهذا إجماع لا خلاف فيه.
وهذا الأثر- مع نكارته الشديدة- من هذا الباب إنما يكون لاستحضار ما قلنا في لفظ المصلي في التشهد، وهو التفات، والالتفات له مقتضيات معلومة في فنون المعاني والبيان، وأقول هذا تنزلا في المجادلة، وإلا فما ينبغي ابتداءً، والمناسب هنا ما ذكرنا آنفاً.(215/35)
ثانياً: غاية ما في هذا الأثر المنكر الضعيف أنه توجه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء، فأين هذا من دعاء الميت؟! فإن التوجه بالمخلوقات سؤال به لا سؤال منه، وكل أحد يفرق بين سؤال الشخص وبين السؤال به، فإنه في السؤال به قد أخلص الدعاء لله، ولكن توجه إلى الله بذاته، وأما في سؤاله نفسه ما لا يقدر عليه إلا الله، فيكون قد جعله شريك الله في عبادة الدعاء، فليس في حديث الأعمى وحديث ابن حنيف هذا إلا إخلاص الدعاء لله كما هو صريح فيه، إلا قوله يا محمد إني أتوجه بك، وهذا ليس فيه المخاطبة للميت فيما لا يقدر عليه، إنما فيه مخاطبته مستحضراً له في ذهنه كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته(1) كما أوضحته في الوجه الأول.
ثالثاً: أيكون هذا الدعاء الذي تفرج به الكروب، وتزول به الشدائد المهلكات، وتحصل به المنجيات خفياً على الأمة، فلم يستعملوه حين أصابتهم الشدة والضيق؟! قحط المسلمون في زمن عمر فتوجهوا بالعباس أي - بدعائه - والرسول - صلى الله عليه وسلم - ميت عندهم، وأصاب المسلمين فتن في زمن عثمان وعلي، وبعده محن وأمور لا يعلم شدتها إلا الله فلِمَ لَمْ يستعملوه؟! أين زعمكم يا أرباب الحجاج! وأصحاب الفهوم؟!!
قوله (ص54):
(ولما ظن الرجل أن حاجته قضيت بسبب كلام عثمان مع الخليفة بادر ابن حنيف بنفي ذلك الظن، وحدثه بالحديث الذي سمعه وشهده، ليثبت له أن حاجته إنما قضيت بتوسله به - صلى الله عليه وسلم -، وندائه له واستغاثته به) اهـ.
أقول: هذا افتراء على صحابي جليل شهد بدراً وما بعدها، وقول بالظن، والظن أكذب الحديث، وجراءة ما بعدها جراءة.
__________
(1) 1 ) : "تيسير العزيز الحميد" (ص212).(215/36)
وقد قدم كلامه هذا بمقدمة فيها: أن القصة صحيحة صححها الطبراني والمقدسي، ونقل تصحيحهم لها المنذري والهيثمي وغيرهم، وهذا هوى ظاهر إذ أن كلام الطبراني كما سبق نقله بحروفه، إنما هو في تصحيح الحديث أي: المرفوع، ولم يقل: (القصة صحيحة)، بل قال: (الحديث صحيح)، وليت شعري! أما اقشعر بدن كاتب المفاهيم وهو يفتري هذه الافتراءات،وينقل ويكذب في النقل، { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } ]النحل: 105[، ولا شك أن افتراء كهذا على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى حفاظ المسلمين وأئمتهم تشق قراءته وتشق رؤيته.
قال (ص68) معنونا: (التوسل به في المرض والشدائد).
عن الهيثم بن [حنش] (1) قال: كنا عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله، فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك. فقال: يا محمد! فكأنما نشط من عقال.
وعن مجاهد قال: خدرت رِجْلُ رَجُلٍ عند ابن عباس رضي الله عنهما فقال له ابن عباس: اذكر أحب الناس إليك. فقال: محمد - صلى الله عليه وسلم - فذهب خدره،ثم قال: فهذا توسل في صورة النداء) اهـ.
أقول: الكلام هنا في أمرين:
الأول: الرواية: فالخبر الأول أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (رقم170)، قال: حدثنا محمد بن خالد بن محمد البرذعي قال: ثنا حاجب بن سليمان قال: ثنا محمد بن مصعب، قال: ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الهيثم بن حنش به. وهذا إسنادٌ ضعيف جداً، فيه علل كثيرة:
منها: أن محمد بن مصعب القرقساني ضعيف عندهم، قال ابن معين: لم يكن من أصحاب الحديث، كان مغفلا. وقال النسائي: ضعيف ومثله عن أبي حاتم الرازي.
وقال ابن حبان: (يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل لا يجوز الاحتجاج به). وقال الإسماعيلي: محمد بن مصعب من الضعفاء. وقال الخطيب: كان كثير الغلط؛ لتحديثه من حفظه.
__________
(1) 1 ) : وحُرف اسم الراوي في "المفاهيم" إلى خنس، فصححته.(215/37)
وقال أحمد: ليس به بأس، ونحوه عن ابن عدي. ووثقه ابن قانع، وابن قانع من المتساهلين. فمن هذا يتضح ضعفه كما ذهب إليه أئمة أهل العلم.
وأما قول أحمد: ليس به بأس، يعني في نفسه،فهو صدوق في نفسه، ولكنه ضعيف الحديث.
ومنها: أن الهيثم بن حنش مجهول العين، قال الخطيب في "الكفاية في علوم الرواية"(ص88):
(المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن
لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحد، مثل عمرو ذي مر، وجبار الطائي، وعبد الله بن أغر الهمداني، والهيثم بن حنش... هؤلاء كلهم لم يرو عنهم غير أبي اسحاق السبيعي) اهـ.
ومنها: أن أبا إسحاق السبيعي مدلس، وقد عنعنه عن هذا المجهول.
ومنها: أن أبا إسحاق قد اختلط، ومما يدل على تخليطه في هذا الحديث أنه رواه تارة عن أبي شعبة (أو أبي سعيد)، وتارة عن عبد الرحمن بن سعد. وهذا اضطراب يرد به الحديث.
وأمثل ما روي في هذا الباب وأصحه على تدليس أبي إسحاق فيه، ما رواه البخاري في "الأدب المفرد" (964) قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن سعد قال: (خدرت رِجْلُ ابن عمر، فقال له رجل: أذكر أحب الناس إليك فقال محمد).
وهذه الرواية أصح ما روي، وأفادت فوائد:
الأولى: قول ابن عمر: محمد، بدون حرف النداء، والشائع عند العرب - كما سيأتي- استعمال
"يا النداء" في تذكر الحبيب؛ ليكون أكثر استحضاراً في ذهن الخادرة رجله، فتنطلق.
وابن عمر عدل عن الاستعمال الشائع إلى غيره؛ لما في الشائع من ا لمحذور.
الثانية: أن تذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أحب الناس إليه هو الحق؛ لأنه لا يؤمن أحد حتى يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؛ بل ومن نفسه التي بين جنبيه.وهذا ما نعقد عليه قلوبنا، بهداية ربنا.(215/38)
الثالثة: أن سفيان من الحفاظ الأثبات، فنقله خبر أبي إسحاق بهذا اللفظ يدل على أنه هو المحفوظ، وسواه غلط مردود.
وأما الخبر الثاني: فأخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (169)، وفي إسناده: غياث بن إبراهيم كذبوه. قال ابن معين: كذاب خبيث. ولفظه في تذكره (محمداً) مجردٌ من حرف النداء، فلا حجة فيه، والكلام فيه على نحو ما مر في قول ابن عمر.
الأمر الثاني: في الدراية: يقال لهذا المستدل: غاية ما ذكرته أن فيه ذكرا للمحبوب، لا طلب حاجة
منه أو به أن يزال ما به، ولا أن يكون واسطة لإزالة خدر الرجل، وليس فيه توسلٌ، وإلا لكان لازماً أن من ذكر محبوبه فقد استغاث به وتوسل به في إزالة شدته، وهذا من أبطل الباطل، وأمحل المحال.
فما قوله إذا ذكر الكافرُ حبيبه فزال خدَرُ رجله وانتشرت بعد قيد وخدور؟ أفيكون توسل به؟! ويكون من يزيل الأمراض والأخدار - سبحانه وتعالى - قد قبل هذه الوسيلة؟!
وهذا الدواء- التجريبي- للخدر كان معروفاً عند الجاهليين قبل الإسلام جُرَّب فنفع، وليس فيه
إلا ذكر المحبوب، وقيل في تفسير ذلك: إن ذكره لمحبوبه يجعل الحرارة الغريزية تتحرك في بدنه، فيجري الدم
في عروقه، فتتحرك أعصاب الرجل، فيذهب الخدر.
وجاءت الأشعار بهذا كثيرا في الجاهلية والإسلام:
فمنها: قول الشاعر:
صبُّ محبُّ إذا ما رِجْلُه خَدَرت نادى (كُبَيْشَةَ) حتى يذهب الخَدَر
وقولُ الآخر:
على أنَّ رجلي لا يَزَالُ امْذِ لُها مقيماً بها حتى أُجيْلَكِ في فكري
وقال كُثَيَّر:
إذا مَذَلَتْ رجلي ذكرتُكِ اشتفي بدعواك من مَذْلٍ بها فيهون
وقال جميلُ بثينةَ:
وأنتِ لعَيْنِيْ قُرَّةٌ حين نَلْتَقِيْ وذِكْرُكِ يَشفِيْني إذا خَدَرتْ رجلي
وقالت امرأة:
إذا خدرت رجلي دعوتُ ابنَ مُصْعبٍ فإنْ قلتُ: عبدَ اللهِ أجْلَى فتورَها
وقال الموصلي:
واللهِ ما خَدَرَتْ رجلي وما عَثَرَتْ إلا ذكرتُكِ حتى يَذْهبَ الخدَرُ
وقال الوليد بن يزيد:(215/39)
أثيبي هائماً كَلِفاً مُعَنَّى إذا خَدَرتْ له رجْلٌ دَعاكِ (1)
وغير ذلك من الأشعار، أفيقال: إن هؤلاء توسلوا بمن يحبونه،من نساءٍ وغلمان، وأجيب سؤلهم، وقبلت وسيلتهم؟!!
وقال (ص68) معنونا: (التوسل بغير النبي - صلى الله عليه وسلم -).
ونقل أحاديث من "مجمع الزوائد" للهيثمي (10/ 132). والهيثمي الحافظ بَوَّب لهذه الأحاديث بقوله: (باب ما يقول إذا انفلتت دابته، أو أراد غوثا أو أضل شيئا) ساقه ضمن أبواب أدعية السفر.
وفِقْهُ الهيثمي في هذا التبويب ظاهر، وأما من بوب بـ (التوسل بغير النبي - صلى الله عليه وسلم -) فليس بفقيه في النصوص، وسأبين هذا.
استدل صاحب المفاهيم تحت هذه الترجمة بأحاديث:
قال: (عن عتبة بن غزوان عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { إذا أضل أحدكم شيئا أو أراد عونا وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل يا عباد الله أعينوني،فإن لله عبادا لا نراهم.وقد جرب ذلك } ... رواه الطبراني ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم إلا أن يزيد بن علي لم يدرك عتبة) انتهى كلامه.
والكلام عليه من أوجه:
الأول: ما وقع في نقله من التحريفات، فمنها أنه جعل قوله: (وقد جرب ذلك) من كلام رسول الله،
إذ أدخله بين الحاصرتين وهو ليس من كلامه، إنما من قول بعض الرواة المتأخرين كما سيأتي.
ومنها: أن (يزيد) محرفه وصوابها زيد بن على، كما هو في معجم الطبراني.
الثاني: الحديث رواه الطبراني في "معجمه الكبير" (17/117)،من طريق أحمد بن يحيى الصوفي ثنا عبد الرحمن بن شريك(2) حدثني أبي عن عبد الله بن عيسى عن زيد بن علي عن عتبة بن غزوان مرفوعاً.
قال الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار": (أخرجه الطبراني بسند منقطع) اهـ.
ويقال: ومع الانقطاع ففي إسناده كلام من وجهين:
__________
(1) 1 ) : "بلوغ الأرب" (2/320-321).
(2) 1 ):هكذا في نسختي المصورة عن مكتبة أحمد الثالث(9/27/1)، وقد تحرفت في المطبوعة إلى عبد الرحمن بن سهل.(215/40)
1 - عبد الرحمن بن شريك: قال أبو حاتم: واهي الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال:
ربما أخطأ، ذكر ذلك ابن حجر في "تهذيب التهذيب"،ولم يذكر سوى هذين القولين.
2 - شريك والد عبد الرحمن هو ابن عبد الله النخعي القاضى المشهور، قال الحافظ في "التقريب": (صدوق، يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي قضاء الكوفة، وكان عادلاً فاضلاً عابداً، شديداً على أهل البدع) اهـ.
فاجتمع في هذا الإسناد ثلاثُ آفات: الانقطاع، وضعف عبد الرحمن، وضعف شريك. فالإسناد ضعيف بيقين.
وقال: (وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { إن لله ملائكة ]في الأرض[، سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: أعينوني يا عباد الله! } . رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ نقله عن "مجمع الزوائد".
أقول: وفي نسخة من "مجمع الزوائد" رواه البزار، ولعله أصوب، فإن أثر ابن عباس أخرجه البزار في "البحر الزخار" وذكره الهيثمي في "كشف الأستار" (4/33-34)، قال البزار: (حدثنا موسى بن إسحاق ثنا منجاب بن الحارث ثنا حاتم بن إسماعيل عن أسامة بن زيد عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره.
قال البزار: (لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد) اهـ.
وفي هذا الإسناد نظر:
1 - أسامة بن زيد هو الليثي المدني. عدَّلَه بعضهم وجرح حديثه آخر ون، قال أحمد بن حنبل:
ليس بشيء رواها الأثرم عنه. وقال عبد الله بن أحمد لأبيه: أراه حسن الحديث، فقال: إن تدبرت حديثه فستعرف فيه النكرة، وكان يحيى بن سعيد يضعفه.
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
وقال النسائي: ليس بالقوي.
وقال البرقي: هو ممن يضعف، وقال: قال لي يحيى: أنكروا عليه أحاديث. هذه حكاية أقوال بعض من تكلموا فيه.(215/41)
وممن وثقه: ابن معين في رواية أبي يعلى، وكذا نحوه في رواية عباس. وفي رواية الدارمي عن ابن معين: ليس به بأس. وتبع ابن معين ابنُ عدي فقال: ليس بحديثه بأس. ووثقه ابن شاهين، وابن حبان وزاد: (يخطئ)، ومن تدبر هذه الأقوال علم أن ما تفرد به حقه الرد، فإن توبع قبل، ومن أحاديثه التي تفرد بها حديث ابن عباس.
2 - حاتم بن إسماعيل الراوي عن أسامة بن زيد قال فيه الحافظ: (صحيح الكتاب صدوق يهم) اهـ.
قال الشيخ ناصر الألباني: (خالفه جعفر بن عون فقال: ثنا أسامة بن زيد… فذكره موقوفا على
ابن عباس. أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2/455/1)، وجعفر بن عون أوثق من حاتم بن إسماعيل فإنهما وإن كانا من رجال الشيخين، فالأول منهما لم يجرح بشيء، بخلاف الآخر، فقد قال فيه النسائي: ليس بالقوي، وقال غيره: فيه غفلة. ولذلك قال فيه الحافظ: صحيح الكتاب صدوق يهم. وقال في جعفر: (صدوق).
ولذلك فالحديث عندي معلول بالمخالفة) اهـ.
3 - تفرد أسامة به، وقد نقدم أن تفرد ضعيف الحفظ يعد منكراً، إذا لم تؤيده أصول صريحة صحيحة.
وقال الحافظ ابن حجر: (هذا حديث حسن الإسناد، غريب جدا) اهـ من "شرح ابن علان للأذكار" (5/151)، ومن المعلوم أن حسن إسناده لا يدل على حسن الحديث دائماً.
والحديث على ضعفه من أبواب الأذكار لا يدل على ما يدعيه المبطلة من سؤال الموتى ونحوهم، بل إنه صريح في أن من يخاطبه ضال الطريق هم الملائكة، وهم يسمعون مخاطبته لهم، ويقدرون على الإجابة بإذن ربهم؛ لأنهم أحياء ممكنون من دلالة الضال، فهم عباد لله، أحياء يسمعون، ويجيبون بما أقدرهم عليه ربهم، وهو إرشاد ضالي الطريق في الفلاة، ومن استدل بهذه الآثار على نداءِ شخص معين باسمه فقد كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يلاحظ ويتدبر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذاك سيما أهل الأهواء.(215/42)
إذا تبين هذا فالأثر من الأذكار التي قد يتساهل في العمل بها مع ضعفها؛ لأنها جارية على الأصول الشرعية، ولم تخالف النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم هو مخصوص بما ورد به الدليل؛ لأن هذا مما لا يجوز فيه القياس لأن العقائد مبناها على التوقيف.
ولهذا روى عبد الله بن أحمد في "المسائل" (ص245) عن أبيه قال: (ضللت الطريق في حجة وكنت ماشياً، فجعلت أقول: يا عباد الله! دلونا على الطريق، فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق).
فما بَوّبَ به صاحب المفاهيم هذا الحديث وأشباهه بقوله: (التوسل بغير النبي- صلى الله عليه وسلم - ) هو من عدم تدبر الأحاديث وفهمهما كما فهمها أئمة العلماء، فلم يقل عالم من المتقدمين إنها دليل في التوسل بغير النبي - صلى الله عليه وسلم -، كيف وقد أجمعوا على منعه.
وقال ناقلاً عن "مجمع الزوائد" وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: { إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة: فليناد يا عباد الله! احبسوا، فإن لله حاضراً في الأرض سيحبسه } . رواه
أبو يعلى والطبراني، وزاد: { سيحبسه عليكم } وفيه معروف بن حسان وهو ضعيف اهـ.
أقول: الحديث في "المعجم الكبير" (10/267) حدثنا إبراهيم بن نائلة،و"مسند أبي يعلي" (2/244)، وفي "عمل اليوم والليلة" لابن السني (ص136) من طريق أبي يعلى، كلاهما قال: حدثنا الحسن بن عمر بن شفيق حدثنا معروف بن حسان (أبو معاذ) السمرقندي عن سعيد بن أبى عروبة عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مسعود به مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف لأمور:
1 - معروف بن حسان: قال أبو حاتم: (مجهول)، وقال ابن عدي: (منكر الحديث)، قلت: هو الراوي عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: { من ربى شجرة حتى نبتت كان له كأجر قائم الليل
صائم النهار } ، وهو حديث موضوع، رواه الكنجروذي في "الكنجروذيات" .(215/43)
2 - سعيد ابن أبي عروبة: اختلط، قال النسائي: من سمع منه بعد الاختلاط فليس بشيء. ومعروف بن حسان من الصغار، ولم يسمع منه قبل الاختلاط إلا الكبار، وسمع منه قبل استحكام اختلاطه جماعة، وسمع منه بعد استحكام الاختلاط كثير.
وكان بدأ اختلاطه سنة 132هـ، واستحكم 148هـ، أفاده البزار.
3 - تدليس سعيد بن أبي عروبة: قال الحافظ (كثير التدليس). وروى هذا الحديث معنعناً عن
ابن بريدة فلا يقبل.
4 - قال الحافظ في "نتائج الأفكار": (حديث غريب أخرجه ابن السني وأخرجه الطبراني، وفي السند انقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود) اهـ. فهذه علة رابعة، أفادها الحافظ وهي الانقطاع.
5 - روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/424- 425): حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره.
وهذا الإسناد معضل، وتدليس ابن إسحاق مشهور، فهذه علل تِلْوَ علل، ليس لها دواء من التلف، وإسناده مطروح.
ولهذا كله لم يصَحَّحْ أو يحسن هذا الحديث أحدٌ ممن له معرفة أو مشاركة في علم الحديث،
بل إما مضعف، أو ناقل تضعيف غيره.
وبعد: فقول صاحب المفاهيم (ص69): (فهذا توسل في صورة النداء) من الدعاوي العريضة لغةً وشرعاً.
فأما اللغة: فلا يعرف أن من صور التوسل النداء، بل النداء دعاء وطلب مباشر، لمنادى حاضر يسمع ويجيب، والتوسل جعل القرب سببا لقبول الدعاء.
وأما الشرع: فالأحاديث ضعيفة، والأول والثالث شديدا الضعف، والثاني: والذي فيه ذكر الملائكة
ضعيف وغريب جداً، ولا دلالة فيه على المدعى وهو التوسل، إذ هذا نداء حي يقدر على إجابته.
وما أحسن ما روى الهروي في "ذم الكلام" (4/68/1): (أن عبد الله بن المبارك ضل في بعض أسفاره في طريق، وكان قد بلغه: أن من اضطر في مفازة فنادى: عباد الله! أعينوني أعين.
قال: فجعلتُ أطلب الجزء أنظر إسناده).(215/44)
قال الهروي: فلم يستجز أن يدعو بدعاء لا يرى إسناده)(1) اهـ.
فهذه طريق السلف، وأتباعهم البحث في الأسانيد، وصنيع بعض الخلف وأتباعهم الفرح بكل ما يؤيد رأيهم ولو بالموضوعات المكذوبات، ولا يغارون على سنة المصطفى محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال (ص69):
(وجاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بعد ركعتي الفجر: { اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أعوذ بك من النار } .
ثم قال: (وتخصيص هؤلاء بالذكر في معنى التوسل بهم، فكأنه يقول: اللهم! إني أسألك وأتوسل إليك بجبريل.. الخ. وقد أشار ابن علان إلى هذا في الشرح) انتهى كلامه.
أقول: في ما قاله تعليل لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتحليل لما في نفسه - صلى الله عليه وسلم - ، وإلا فما أدراه عما في قلبه - صلى الله عليه وسلم - حتى يقول: (كأنه يقول)، هذا تجرؤ عظيم على مقام الرسالة.
ثم أيَّد تجرأه بنسبته ذلك إلي ابن علان في "شرح الأذكار" (2/141)، وما قاله ابن علان ولا أشار إليه، ولكنه تحريف تبديل، وصنيع مذموم رديء.
فهاك ما قاله ابن علان في "شرح الأذكار" قال: (إنما خصهم بالذكر- وإن كان تعالى رب كل شيء- لما تقرر في القرآن والسنة من نظائره من الإضافة إلى كل عظيم المرتبة وكبير الشأن، دون ما يستحقر ويستصغر)، ثم قال: (فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية الله لهذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول الحاجات ووصول المهمات) اهـ.
وهو كلام جيد من ابن علان، فالتوسل بربوبية الله لهذه الأرواح لا بالأرواح، وهو توسل بصفةٍ من صفات الله العلى، وهذا التوسل مما يحبه الله ويرضاه، واختاره رسوله وانتقاه.
فجرَّد المتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذر الخائضين ذوي المين والحين، محبي إفساد ذات البين.
__________
(1) 1 ):"سلسلة الأحاديث الضعيفة" (2/109).(215/45)
وعقد صاحب المفاهيم (ص69) عنوانا، قال فيه معنونا: (معنى توسل عمر بالعباس). قلب فيه
ما قاله العلماء في معنى هذا التوسل، وأنه توسل بالدعاء؛ لأن العباس يملكه.
فقال عجباً، فاسمعه: (من فهم من كلام أمير المؤمنين أنه إنما توسل بالعباس ولم يتوسل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن العباس حي والنبي ميت: فقد مات فهمه، وغلب عليه وهمه، ونادى على نفسه بحالة ظاهرة،
أو عصبية لرأيه قاهره. فإن عمر لم يتوسل بالعباس إلا لقرابته من رسول - صلى الله عليه وسلم - ..).
أقول: ما أعجب هذا وأسهل صده ورده، وإنما أتي كاتبه من أمرين:
الأول: شهوةٌ خفية تُرى خلل أسطر قوله، وأحرفه.
الثاني: قلة التتبع والفقه لمعنى الاستسقاء بالصالحين وتاريخه، فقد صح أن معاوية بن أبي سفيان
- رضي الله عنه - استسقى بـ (يزيد بن الأسود). قال الحافظ العَلَم يعقوب بن سفيان في كتابه "المعرفة والتاريخ" (2/380- 381): حدثنا أبو اليمان قال حدثنا صفوان عن سليم بن عامر الخبائري: أن السماء قحطت، فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون، فلما قعد معاوية على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فناداه الناس. فأقبل يتخطى الناس فأمره معاوية فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم!إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا،اللهم! إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد! ارفع يديك إلى الله، فرفع يزيد يديه، ورفع الناس أيديهم.
فما كان أو شك أن فارت سحابة في الغرب كأنها تُرْس، وهبت لها ريح، فسقينا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم.
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات (7/444)،وأبو زرعة في "تاريخ دمشق " (1/602) وإسناده مسلسل بالثقات الكبار، فهو في غاية الصحة.
فهذا معاوية الصحابي - رضى الله عنه - فهم من الاستسقاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حال حياته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو لهم.(215/46)
وفهم من فعل عمر بالعباس، أن يدعو العباس لهم، وسار على هذا الفهم، فاستسقى واستشفع بيزيد يدعو لهم، وأي قرابة ليزيد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! ولا شك أن قرابته مع صلاحه سبب لقبول دعائه، أما مجرد القرابة من غير صلاح فلم تفد عمه أبا لهب ونحوه.
إنما هو السبب الأعظم، والحبل الأكرم، اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنحن على فهم الصحابة مقتفون ومتبعون، ولمجانب سنة الخليفة الراشد والصحابة من بعده مجانبون، ولفهم أهل الأهواء رادون ناقضون، والحمد لله رب العالمين.
قال (ص65) معنوناً: (توسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بحقه وحق الأنبياء والصالحين).
ثم استدل بحديث قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت أسد أم علي - رضى الله عنه - وفيه: { اغفر
لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي } . قال: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح [كذا بـ"مجمع الزوائد" (ج9 ص 257] رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"بسند جيد.
ورواه ابن حبان والحاكم وصححوه عن أنس.
ورواه ابن أبي شيبة عن جابر.
وابن عبد البر عن ابن عباس.
واختلف بعضهم في روح بن صلاح أحد رواته، ولكن ابن حبان ذكره في الثقات وقال الحاكم: ئقة مأمون، وكلا الحافظين صحح الحديث. وهكذا الهيثمي في "مجمع الزوائد" ورجاله رجال الصحيح، ورواه كذلك ابن عبد البر عن ابن عباس، وابن أبي شيبة عن جابر، وأخرجه الديلمي وأبو نعيم، فطرقه يشد بعضها بعضا بقوة وتحقيق). اهـ.
هذا كلام صاحب المفاهيم بحروفه أطلت الكتاب بنقله ليتبين لمن طالع كلامه أمور:
الأول: قلة معرفته بالتخريج وأصوله.
الثاني: تناقضه في حديث واحد وفي أسطر متقاربة في مواضع:(215/47)
منها: أنه نقل عن الهيثمي أول كلامه ما يفيد ضعف الحديث، ثم قال في آخره: صححه الهيثمي. فكيف يزعم أنه صححه وإنما قال عن روح: (وفيه ضعف)، قاله بعد سياق من وثقه مستدركاً عليهم. ثم قوله: (رجاله رجال الصحيح)، إنما تفيد لو كانوا كلهم رجال الصحيح أن رواته ثقات، ولا دخل للحكم على الإسناد بالصحة فكيف بتصحيح الحديث؟!
ومنها: أنه قال: بسند جيد، ثم ذكر صحته من الطريق نفسها التي قال إن إسنادها جيد.
ومنها: قوله وأخرجه الديلمي وأبو نعيم، وإنما أخرجاه من طريق روح؛ ليلبس وليوهم كثرة الطرق.
الثالث: تكراره لرواية ابن أبي شيبة وابن عبد البر مرتين وما أدري لم؟! ولكن يريد تطويلاً. وعبارته في هذا الحديث مختلة مضطربة متكررة العبارات، ليست بمستقيمة كما هو ظاهر لمن قرأها فضلاً عمن تأملها، فكيف لم ينبه عليها الذين قرضوا كتابه؟!
تخريج الحديث: حديث أنس المذكور: أخرجه الطبراني في "الأوسط "(1/152-153)، وفي "المعجم الكبير" (24/352)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/121)، من طريق روح بن صلاح حدثنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس.
وفي هذا الإسناد روح بن صلاح: ضعفه الدار قطني، قال الذهبي: الدار قطني لا يضعف
إلا من لا طِبّ فيه. اهـ. نقله عنه المناوي في "فيض القدير" (1/28). وضعفه ابن عدي، وابن ماكولا
وقال: (ضعفوه)، وقال ابن يونس في "تاريخ الغرباء": رويت عنه مناكير.
أما توثيق ابن حبان فعلى قاعدته في توثيق المجاهيل، وقد ترجم روحاً في "الثقات" فقال: (روح
بن صلاح من أهل مصر، يروي عن يحيى بن أيوب وأهل بلده). (روى عنه محمد بن إبراهيم البوشنجي وأهل مصر) اهـ (2/132/2) من ترتيب الهيثمي نسخة دار الكتب).(215/48)
فهذا ظاهر أنه مجهول، فلا يتكثر بتوثيق ابن حبان، والحاكم تلميذ ابن حبان فلعلّه استقى توثيقه منه، ومن كان ضعيفاً فلا يقبل حديثه،فكيف إذا تفرد به؟!فإن هذا الحديث لم يروه أحدٌ من أصحاب سفيان الثوري مطلقا ولذا قال الطبراني في "الأوسط " ونقله عنه أبو نعيم في "الحلية": (تفرد به روح بن صلاح)، ومعلوم أن الضعيف إذا تفرد بحديث صار منكراً كما قاله الذهبي في "الميزان" في ترجمة ابن المديني، وسبقت الإشارة إلى ذلك.
قوله: (رواه ابن حبان والحاكم وصححوه عن أنس).
لم يذكر هذا التخريج الحفاظ الجهابذة، ابن حجر في "الإصابة" ولا السيوطي في "الجامع الكبير"، وذكر كل ما فيه المتقي الهندي في "كنز العمال" في موضعين ولم يذكر هذا المخرج.
وكأن المؤلف اغتر بالكوثري فهو الذي عزا هذا العزو في "مقالاته" (ص391) وحاله في التلبيس والتحريف تعلم من "التنكيل" للعلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني.
أما قول الكاتب: (ورواه كذلك ابن عبد البر عن ابن عباس)، فهذا تدليس شديد، وتلبيس عتيد، فرواية ابن عباس ليس فيها توسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بحقه وحق الأنبياء، فهذه اللفظة ليست في رواية ابن عباس فلماذا يلبس صاحب المفاهيم على المطالعين لكتبه، أيريد إثبات أمر لم يثبت ولم يرو، إن إيراد الشواهد في باب معناه عند العلماء أن الشاهد يدل على ما ترجم به، وهذا لا يوجد في كلام صاحب المفاهيم، فكأن له قصدا يستخفي به، ويتدسس لإثباته.
وإليك ما قاله ابن عبد البر في"الاستيعاب" (4/1891)، قال: (روى سعدان بن الوليد السابري عن
عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لما ماتت فاطمة أم علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قميصه واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه.
فقال: إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة واضطجعت معها ليهون عليها) اهـ.(215/49)
فأفادنا هذا التوثيق عوار ما قاله صاحب المفاهيم ملبساً تلبيسين:
الأول: قوله (رواه)، وأنت ترى أن ابن عبد البر لم يروه، وإنما حكى أن سعدان بن الوليد رواه وفرق بعيد بين الحالين.
الثاني: أن الشاهد في التوسل بحق النبي والأنبياء ليس له ذكر في خبر ابن عباس،فتحفظ مما يمليه هؤلاء المبطلة، وكن حذراً.
وقال صاحب المفاهيم (ص66-67):
(قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا: حدثنا أبو عمر بن
مطر حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي
صالح عن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب، فجاء رجل إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
يا رسول الله! استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا. فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال: { ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبرهم أنهم مسقون، وقل له: عليك بالكيس الكيس } .
فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: يا رب! لا آلوا إلا ما عجزت عنه. وهذا إسناد صحيح
]كذا قال الحافظ ابن كثير في "البداية"(جـ 7 - ص91)(1) في حوادث عام ثمانية عشر[. اهـ .كلام صاحب المفاهيم.
أقول: الكلام هنا في مبحثين:
الأول: الحافظ ابن كثير ساق قبل رواية البيهقي رواية سيف،وفيها أن عمر- رضى الله عنه-
صعد المنبر فقال للناس: أنشدكم الله الذي هدا كم للإسلام هل رأيتم مني شيئاً تكرهون؟
فقالوا: اللهم لا. وعم ذلك؟ فأخبرهم بقول المزني وهو بلال بن حارث. ففطنوا ولم يفطن. فقالوا:
__________
(1) 1 ) : في الأصل (جـ 1) وصوابه (جـ 7)، وقد تكرر الخطأ في العزو إلى الجزء في (ص77) أيضاً، وكأنه ليس مطبعياً.(215/50)
إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا. ا هـ المقصود. وهذه الرواية مبينة أن قول نبي الله لعمر في رواية سيف: { عهدي بك وفي العهد شديد العقد فالكيس الكيس يا عمر } هو ما فسرها صحابة رسول الله (ففطنوا ولم يفطن عمر) كما جاء صريحاً، وهو إرشاده للإستسقاء.
وفي هذا سرّ لطيف وهو أن قول القائل: (يا رسول الله!استسق الله لأمتك) منكر، جره تباطؤ عمر عن طلب السقيا، وعدم الفزع إلى المشروع، يجر إلى وجود غير المشروع، فلذا قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -:
{ عهدي بك وفي العهد شديد العقد فالكيس الكيس } . أقول هذا مع ضعف الرواية، لأبين مقصد ابن كثير حين ساق الروايتين الضعيفتين..
إذا تبين هذا عُلم فضل علم ابن كثير- رحمه الله - حيث جعل رواية البيهقي هي الثانية، ورواية سيف المفصَّلة معنى الكيس هي الأولى، فتأمل هذا! وتبين مقاصد الحفاظ في أحكامهم.
ويقال: تأخر عمر عن الاستسقاء وهو العبادة المشروعة التي يحبها الله، لما فيها من الذل بين يديه، والانكسار له، وتوجه القلوب بصدقٍ وإخلاص نحو ربها لكشف ضرها، إن تأخر عمر عن الاستغاثة المشروعة سبب هذا الأمر غير المشروع.
ولذا؛ لم يفعل أحد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما فعل هذا الرجل الذي جاء إلى قبر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وقال ما قال، وهم إنما سقوا باستسقائهم، لا بقول الرجل غير المشروع. فتنبه لهذا.
الثاني: أن هذه الرواية التي ساقها الحافظ ابن كثير من رواية البيهقي في "دلائل النبوة" فيها علل يعلل بها المحدثون:
الأولى: عنعنة الأعمش، وهو مدلس، والمدلس لا يقبل من حديثه إلا ما قال فيه (حدثنا)
و (أخبرنا) ونحوها، دون (قال) أو (عن)، إذ احتمال أنه أخذه عن ضعيف يهي الحديث بذكره،
كما هو معلوم في "مصطلح الحديث"، مع أن الأعمش في الطبقة الثانية من المدلسين عند الحافظ وغيره.(215/51)
الثاني: مالك الذي في إسناده والذي هو عمدة الرواية مجهول، وذكره البخاري وابن أبي حاتم،
ولم يذكرا فيها تعديلاً ولا جرحاً، فهو مجهول. والمجهول لا يقبل حديثه. وابن كثير إنما صحح الإسناد على طريقته في توثيق مجاهيل كبار التابعين كما يعلم من تتبع صنيعه في التفسير وغيره. وإذا كان مجهولاً فلا علم لنا بتاريخ وفاته.
الثالث: أن أبا صالح وهو ذكوان الراوي عن مالك لا يعلم سماعه ولا إدراكه لمالك، إذ لم نتبين وفاة مالك، سيما ورواه بالعنعنة فهو مظنة انقطاع، لا تدليس.
الرابعة: أن تفرد مالك المجهول به رغم عظم الحادثة وشدة وقعها على الناس إذ هم في كرب شديد أسودَّ معه لون عمر بن الخطاب،إن سبباً يفك هذه الأزمة ويرشد إلى المخرج منها مما تتداعى همم الصغار فضلاً عن الكبار لنقله وتناقله، كما في تناقلهم للمجاعة عام الرمادة، فإذا لم ينقلوه مع عظم سبب نقله دل على أن الأمر لم يكن كما رواه مالك، فلعله ظنه ظناً.
ونقل الكاتب (ص67) قول الحافظ في هذه الرواية:
(وروى ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار (وكان خازن عمر)...) فساق نحواً من حديث البيهقي.
قال صاحب المفاهيم: (وقد أورد هذا الحديث ابن حجر العسقلاني وصحح سنده كما تقدم، وهو من هو في علمه وفضله ووزنه بين حفاظ الحديث، مما لا يحتاج إلى بيان وتفصيل) اهـ.
أقول: منزلة الحافظ لا مكان للمجادلة فيها فهو عَلَم أشم في علوم الحديث، ولكن الشأن في فهم من ينتسب إلى العلم، ولا يدرك ألفاظ الحافظ ومدلولاتها.
فالحافظ المِدْره الجهْبذ ابن حجر لم يصحح إسناده مطلقاً كما زعمه صاحب المفاهيم، إنما قال: (بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار...) اهـ(215/52)
ومعنى هذا أن الحافظ صحح سنده إلى أبي صالح السمان، وما ذكر من رجال إسناده لم يقل بصحته كما هو ظاهر لأهل العلم، ففرق بين قوله هذا وبين ما لو قال: (بإسناد صحيح أن مالك الدار قال...)، فتبين أن كلام الحافظ هذا لا يمنع من علتين سبق تعليلُ الحديث بهما.
الأولى: جهالة مالك الدار.
الثانية: مظنة الانقطاع بين أبي صالح ذكوان وبين مالك الدار، إذا تقرر هذا واتضح، عُلم فضل قول الحافظ ابن حجر - رحمه الله - على قول ابن كثير الذي سبق. ومنه يتبين ضعف الأثر، ثم قد أوضحت أنه لا حجة في لفظه، بل ينعكس به الاستدلال على صاحب المفاهيم، وذلك إذا سلمت النفوس، وارتضت قواعد أهل العلم طريقاً وسبيلاً للوصول للحق، ومن لم يكن كذلك فلا يباليه أهل العلم باله، ولا يأخذون بالوزن مقاله.
رواية سيف في "الفتوح":
قال صاحب المفاهيم (ص67):
(وقد روى سيف في "الفتوح" أن الذي رأى في المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة، قال ابن حجر: إسناده صحيح. اهـ ]"فتح الباري" (ص 415 جـ2[) انتهى.
أقول: هذا كذب ظاهر على الحافظ ابن حجر، فكلامه انتهى عند قوله أحد الصحابة. أما قوله قال ابن حجر: إسناده صحيح، فهو من مفتريات صاحب المفاهيم على الحافظ، فانظر كيف فعلته، وسوء صنعته. وكيف يصحح الحافظ إسناداً يرويه سيف في "الفتوح"؟! والحافظ هو الذي يقول في سيف في كتابه "تقريب التهذيب": (ضعيف الحديث)، ومن قال فيه ذلك فلا يقبل حتى في المتابعات كما هو معلوم من اصطلاحه، ذكره في مقدمة كتابه، وسيأتي في المسألة التي تلي هذه كلام الحفاظ في سيف.
فما لصاحب المفاهيم وتعمد الكذب، فتعمده الكذب كبيرة، قال في "المشرع الروي في مناقب
آل أبي علوي" (1/58): (إن القبيح من أهل البيت أقبح منه في غيرهم، ولهذا قال العباس لابنه عبد الله
- رضى الله عنهما -، يا بني! إن الكذب ليس بأحدٍ أقبح من هذه الأمة أقبح منه بي وبك وبأهل بيتك) اهـ
وقال (ص67):(215/53)
(ذكر الحافظ ابن كثير أن شعار المسلمين في موقعة اليمامة كان [محمداه]) اهـ.
أقول: ابن كثير - رحمه الله - ساق ذلك في ضمن خبر طويل عن الغزوة، دخل حديث بعض الأخباريين في بعض. وأما هذا الشعار فقد روى خبره ابن جرير في "تاريخ الأمم والملوك" (3/293) قال: (كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن الضحاك بن يربوع عن أبيه عن رجل من بني سحيم..) فذكر قصة وفيها الشعار.
أقول: هذا إسنادٌ مظلم، وما عهدت مسائل العقيدة والتوحيد، بل ولا غيرها من أحكام الشريعة
تؤخذ من كتب التاريخ، وإنما تروى قصص التأريخ للعبرة والعظة، والتصديق بمجموعها، لا تفاصيلها
ولهذا قال أحمد بن حنبل: (ثلاثة ليس لها أصول وذكر المغازي..) وإظلام هذا الإسناد من ثلاث جهات:
الأولى: سيف هو ا بن عمر مصنف "الفتوح"، و"الردة"، يروي عن خلق كثير من المجهولين.
قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/255): (روى مطيّن عن يحيى: فَلْس خير منه. وقال أبو داود: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم: متروك.
وقال ابن حبان: اتهم بالزندقة.
وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر..) اهـ.
الثانية: الضحاك بن يربوع: قال الأزدي: حديثه ليس بقائم. قلت: وهو من المجهولين الذين تفرد بالرواية عنهم سيف.
الثالثة: جهالة يربوع والرجل السحيمي. وكل واحدة من هذه العلل والقوادح تضعف الحديث، فكيف وهو من رواية سيف بن عمر؟! وقد عرفت ما فيه، نسأل الله العافية.
ولا يُستنكر إيراد ابن جرير لمثل هذه الحكايات الواهيات، وتتابع المؤرخين بعده على ذكرها، فقد قال ابن جرير - رحمه الله - في مقدمة كتابه "تاريخ الأمم والملوك" (1/8) ما نصه: (فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة: فيعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُديَ إلينا) انتهى كلامه.(215/54)
استدل صاحب المفاهيم - على زعمه - بجواز التوسل بحق الصالحين بحديث أبي سعيد الخدري الذي ساقه (ص 65-66) ولفظه: { من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم! إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياءً ولا سمعه.. } الحديث .
أقول: المؤلف قصَّر في الحكم على الحديث والنظر في إسناده على عادته، فالحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 21)، وابن ماجه في "سننه" (1/256)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"
(85)، وأشار ابن خزيمة في "التوحيد" (ص17) إلى تخريج الحديث في كتاب آخر، كلهم عن فُضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري به مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف لأمور:
1 - فضيل بن مرزوق: وثقه بعضهم وضعفه آخرون، وهو ممن عيب على مسلم - رحمه الله - إخراج حديثهم في "الصحيح"، كما قال الحاكم - رحمه الله -، وأغلظ ابن حبان فقال: (يروي عن عطية الموضوعات).
2 - عطية العوفي: قال الذهبي في "الميزان": (تابعي شهير، ضعيف...، وقال أحمد: ضعيف الحديث.. وقال النسائي وجماعة: ضعيف) اهـ .
3 - عطية مدلس مع ضعفه، وتدليسه عجيب، قال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي، فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنى بأبي سعيد فيقول: قال أبو سعيد. انتهى.
4 - وقد أعلّ الحديث الشيخ ناصر الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1/ 37) بعلة أخرى، وهي: اضطراب عطية أو ابن مرزوق في روايته، حيث إنه رواه تارة مرفوعاً كما تقدم، وأخرى موقوفاً على
أبي سعيد،كما رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(12/110/1) عن ابن مرزوق به موقوفاً.
وفي رواية البغوي من طريق الفضيل قال: أحسبه قد رفعه، وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/184): موقوف أشبه. انتهى وهو كلام متجه؛ لأن المضطربين ضعاف في حديثهم، فلا يحمل ذلك على غير الاضطراب، كما هو معلوم من "أصول الحديث".(215/55)
وقد حسن إسناد الحديث الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء الصغير" (1/323)، وحسن الحديث الحافظ ابن حجر فقال في "نتائج الأفكار": (حديث حسن أخرجه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في كتاب "التوحيد" وأبو نعيم الأصبهاني. قال: وفي "كتاب الصلاة" لأبي نعيم عن فضيل عن عطية قال: حدثني أبو سعيد فذكره، ولكنه لم يرفعه. فقد أمن بذلك تدليس عطية..) انتهى.
أقول: أفاد الحافظ هنا أن تحسينه الحديث لأجل انتفاء تدليس عطية وفي هذا نظر من وجهين:
الأول: أن تدليس عطية ليس هو تدليس الإسناد المعروف حتى. يؤمن بقوله: حدثني، بل هو
تدليس آخر، فعطية يقول: حدثني أبو سعيد، أو قال أبو سعيد ويعني به الكلبي. كما أفاد الإمام أحمد
- رحمه الله -.
الثاني: أن الحافظ ذكر أن الرواية التي فيها حدثنا أبو سعيد موقوفة، فلم لم يعلّها بالاضطراب ،
وحقها ذلك؟! إذا عُلم هذا النظر، فقد قال جماعة كثيرون من الحفاظ بضعف الحديث:
منهم: الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، في "الترغيب والترهيب" (3/ 459).
ومنهم: الحافظ النووي في "الأذكار" (ص25).
ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1/288).
ومنهم: البوصيري الحافظ في "زوائد ابن ماجة". وغيرهم، ممن أصاب الحق، فمن تأمل ما ذكر متجرداً منصفاً، علم أن قول هؤلاء الحفاظ الأكثرين هو الأصوب، والله أعلم.(215/56)
تنبيه: قال شيخ الإسلام على هذا الحديث في "مجموع "الفتاوى" (1/288): (وهذا الحديث من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم، وقد روي من طريق آخر(1)، وهو ضعيف أيضاً، ولفظه لا حجة فيه، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم. وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه في الغار بأعمالهم) انتهى.
وقال رحمه الله (1/217): (ومن قال: بل للمخلوق على الله حق فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته، وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله به يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب.
وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل، لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه) اهـ.
وقال (1/214): (وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم ومُلاَّكهم، فيجلبون لهم منفعة، ويدفعون عنه مضرة، ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض
يراه منه: ألم أفعل كذا؟ يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقل ذلك بلسانه كان ذلك في نفسه.
وتخيل مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه) اهـ.
__________
(1) 1 ) : يشير إلى طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر عن بلال بنحوه. قال الحافظ ابن حجر: (هذا حديث واه جداً)، وقد ذكرت من أخرجه، وبقية الكلام عليه بأطول مما هنا في العدد الرابع من مجلة "كلية أصول الدين بالرياض".(215/57)
قال (ص62) معنوناً: (التوسل بآثاره - صلى الله عليه وسلم - ):
(ثبت أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتبركون بآثاره - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التبرك ليس له إلا معنى واحد ألا وهو التوسل بآثاره إلى الله تعالى، لأن التوسل يقع على وجوه كثيرة لا على وجه واحد، أفتراهم يتوسلون بآثاره ولا يتوسلون به؟! هل يصح أن يتوسل بالفرع ولا يصح بالأصل؟!).
أقول: لما كان أكثر من يتبع ما يدعو إليه المبتدعة الجهال الطغام الذين لا يفقهون الفروق اللغوية
ولا الشرعية بين الألفاظ، لما كان كذلك سهل على رؤسائهم وسادتهم أن يتلاعبوا بهم، وبالألفاظ الشرعية واللغوية فتلوى أعناقها وتكسر أيديها وتعكف أرجلها لتوافق ما يريدون.
وهذه الأسطر التي نقلتها من هذه البابة. فالصحابة ثبت أنهم يتبركون بذاته - صلى الله عليه وسلم -، وما بأيديهم من آثاره الجسمية كالشعر والعرق ونحو ذلك، والتبرك بذاته - صلى الله عليه وسلم - مما نقر به ونؤمن به كما يأتي بيانه، ولكن أين وجد مؤلف المفاهيم أن التبرك يسمى توسلاً ؟! وكيف استجاز أن يخرق أقوال أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم بتسميته توسلاً، البركة شيء، والوسيلة شي ة آخر؟!!
ولذا تعلم مجازفة وتعدي صاحب المفاهيم على صحابة رسول الله بقوله: (هذا التبرك ليس له
إلا معنى واحد ألا وهو التوسل بآثاره). ليٌّ لفعل الصحابة ظاهر، وكسر لأعناق تصرفاتهم جائر. وهو يريد تقرير مذهبه، ولكن بطريق غير علمية، لا تصلح إلا في الأزمنة الجاهلية، حيث يتبع الناس ساداتهم دون بحث ونظر، وبقي منهم بقية، ولكن اليقظة العلمية الشرعية كفيلة برد مزاعمه إليه ولو من أتباعه.
أنس - رضى الله عنه - كان عنده شعرة يتبرك بها، فهلا أحضرت لنا نقلاً واحداً أنه قال مرة: (أتوسل بشعر رسول الله)؟! لن تستطيع ولو طرت إلى الثريا، لن يأتي المبتدعة بشيء من هذا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.(215/58)
إن الصحابة يفرقون بين التبرك بالأثر المنفصل عن جسمه، وبين التوسل. ولكن القوم لا يفهمون،
أو يفهمون وعلى الصحابة يجنون، والحمد لله فنحن أهلُ السنة على طريق الصحابة سائرون، وبما قالوه قائلون.
وقال (ص64):
(وهذا في الحقيقة ليس إلا توسلاً بآثار أولئك الأنبياء إذ لا معنى لتقديمهم التابوت بين أيديهم إلا ذلك، والله سبحانه راض عن ذلك، بدليل أنه رده إليهم وجعله علامة وآية على صحة ملك طالوت، ولم ينكر عليهم ذلك الفعل) اهـ.
هذا آخر كلامه في (التوسل بآثار الأنبياء)، وواضح لأدنى ذي مسكة من علم ما في كلِمه من عُوَار:
ففيه: أن تقديمهم التابوت بين أيديهم مفتقر إلى إثباته لا أن تجعل مقالات بعض المؤرخين مما نقله الإخباريون في مجالسهم مقام النصوص التي يستدل بها، ويفرع عليها.
فلم أسمع أحداً ممن ارتبط بالعلم بسبب من المتقدمين والمتأخرين يستدل لحكم شرعي عقدي بقول مؤرخ.
أسفاً على ما أصله العلماء، فقد ذهب حين نطق أشباه العلماء، فإن كانت الإسرائيليات حجة عند كاتب المفاهيم وأشباهه كما هو ظاهر من احتجاجهم بها، فليحتجوا بما رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (10/9): قال يوسف عليه السلام: (اللهم! إني أتوجه إليك بصلاح آبائي إبراهيم خليلك وإسحاق ذبيحك؛ ويعقوب إسرائيلك).
فأوحى الله تعالى إليه: يا يوسف! تتوجه بنعمةٍ أنا أنعمتها عليهم؟ فاحتجوا بهذا يا أصحاب المفاهيم!
وفيه: التجني على مقام الربوبية بقوله: (والله سبحانه راض عن ذلك)، فانظر جزمه برضى المولى على فعل نقله الأخباريون لا يثبت عند العلماء، وليس له وزن.
يوصف الله بالرضى عن فعلٍ لم يقله هو ولا رسوله، وإنما قاله المؤرخون. ياله من تسرع، وسؤ نظر، وقلة مبالاة،نسأل الله السلامة، نسأل الله السلامة، نسأل الله السلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال (ص64): معنونا: (التوسل بآثار الأنبياء).(215/59)
ثم ساق قوله تعالى: { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ]البقرة: 248[. ونقل عن ابن كثير في "تاريخه" قول ابن جرير: (كانوا ينصرون ببركته وبما جعل الله فيه من السكينة).
أقول: كم بين الدعوى والدليل من بون تنقطع أكباد المهاري البزل عن وصوله، فالدعوى: التوسل بآثار الأنبياء، ودليل هذا عند قائله قول ابن جرير: (كانوا ينصرون ببركته). ففي هذا افتئات على العلم الشرعي وجناية من أوجه:
الأول: أن الآيات ليس فيها إلا أنهم أنكروا ملك طالوت، لكونه ليس من سلالة الملك، فقال لهم نبيهم إن آية صحة ملكه أن يأتيكم التابوت تسكنون لصحة كونه آية، وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، تستدلون بهذه البقية على الصحة دليلاً ثانياً، والدليل الثالث أن الملائكة تحمله. هذا ما دلت عليه الآية.
الثاني: أن كلام ابن جرير وغيره بحاجة إلى أن يستدل له لا أن يستدل به.
الثالث: هبهم كانوا يتبركون، فأين الدليل على أنهم كانوا يتوسلون به؟! ومؤلف المفاهيم لا يفرق بين التبرك، والتوسل!
الرابع: هبه كما زعمت، فمن أين جزمت أن ما جاز في شرع من قبلنا جائز في شرعنا مطلقاً؟!
الخامس: من أدلة عدم جواز فعل ما فعلت بنو إسرائيل- إن صح -: ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، والتوجيه إليه في سراياه التي بعثها، وهزم المسلمون فيها، كغزوة مؤته ونحوها، أفلا بعث شيئاً من آثاره كملابسه ونحوها لينصرون بها؟!
إن عدم الفعل مع اشتداد الحاجة إليه دليل على أن ذلك ليس مشروعاً عندنا.(215/60)
السادس: وهذا فهم الصحابة بعد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذوا شيئا من آثاره ليبعثوها مع المجاهدين تبركاً بها، واستنصاراً بها، وإنما بعثوا الرجال العاملين المخلصين، وتفقدوا أمر السنن في حروبهم، تفقدوا آثار أنبيائهم الآمرة الناهية لا آثارهم الجسمية، هذا شأنهم في حروبهم.
وقال في (ص66) معنونا:
(التوسل بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته)، وذكر برهانه على هذا العنوان الغريب، فقال: قال الإمام الحافظ الدارمي في كتابه "السنن": باب ما أكرم الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته.
حدثنا أبو النعمان حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عمرو بن مالك البكري(1) حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت: أنظروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجعلوا منه كواً إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا. فمطرنا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل (تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق، ومعنى كواً أي: نافذة) اهـ "سنن الدارمي" (جـ 1 ص43)). انتهى ما نقله صاحب المفاهيم.
ووضعه(تفتقت من الشحم...) إلخ بين أقواس من تصرفه، وإخلاله بالنقل السليم، فإن اللفظ في "سنن الدارمي" (1/43) هكذا: (وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق) اهـ . هذه عبارة "سنن الدارمي"، فتصرفه مذموم، وزاد على الأثر قوله: ومعنى كواً أي نافذة، وهذه ليست في "سنن الدارمي" التي نص على النقل عنها. وهذا الأثر ضعيف جداً لا حجة فيه، لأوجه:
الأول: أن راويه عمرو بن مالك النكري ضعيف بمرة، قال ابن عدي في "الكامل"(5/1799): (منكر الحديث عن الثقات، ويسرق الحديث، سمعت أبا يعلى يقول: عمرو بن مالك النكري: كان ضعيفاً)،
ثم قال بعد أن ساق أحاديث: (و لعمرو غير ما ذكرت أحاديث مناكير) اهـ، وقال ابن حبان: (يخطى ويغرب) اهـ.
__________
(1) 1 ):هكذا حرفها الناقل، وفي "السنن"النكري، بالنون.(215/61)
فعمرو وأمثاله ممن هذه حالهم كيف يجترأ على الاحتجاج بروايتهم؟! أما من غيرة على سنة رسول الله وشريعته من سراق الحديث؟!
الثاني:أن سعيد بن زيد الراوي عن عمرو فيه ضعف، قال يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال أحمد: ليس به بأس: كان يحيى بن سعيد
لا يستمرؤه، ساق هذه الأقوال الذهبي في "الميزان".
الثالث: قال شيخ الإسلام في "مختصر الرد على البكري" (ص68-69): (وما روي عن عائشة
- رضى الله عنها - من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر، فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، وإنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب.
ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان بعضه باقياً كما كان على
عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في "الصحيحين" عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد.
ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -) انتهى.
وبعد أن تبين وانجلى نكارة هذه الحكاية نقلاً وعقلاً، إسناداً وتأريخاً يعلم أن قول صاحب المفاهيم بعد سياق الأثر: (فهذا توسل بقبره - صلى الله عليه وسلم -، لا من حيث كونه قبراً، بل من حيث كونه ضم جسد أشرف المخلوقين، وحبيب رب العالمين، فتشرف بهذه المجاورة العظيمة، واستحق بذلك المنقبة الكريمة) اهـ.
مما اعتمد فيه على المنكرات الواهيات، ولهذا فلا قيمة لكلامه، ولو بنخالة شعير، أو وزن قطمير
وهذا ظاهر لكل أحد، والحمد لله على توفيقه.
وقال صاحب المفاهيم في (ص72) بعد سياقه قصة العتبي:(215/62)
(فهذه القصة رواها الإمام النووي في كتابه المعروف بـ"الإيضاح" في الباب السادس (ص 498). ورواها أيضا الحافظ عماد الدين ابن كثير في تفسيره الشهير عند قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ... } ]النساء: 64[ الآية.
ورواها أيضاً الشيخ أبو محمد بن قدامه في كتابه "المغني" (ج 3 ص556).) انتهى.
أقول: هذه عبارات عامية، ليست علمية، ولا تنبئ عن فهم طالب علم، ذلك أن قوله رواها،... ورواها... إلخ خطأ محض؛ لأن كلمة رواها لا تقال إلا لمن ساق القصة بإسناده بقوله: حدثنا أو أخبرنا أو نحوها من كلمات التحمل والأداء.
1 - فالنووي لم يروها، وإنما قال في "المجموع شرح المهذب" (8/274) وفي آخر منسكه المعروف
بـ " الإيضاح": (ومن أحسن ما يقول: ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له، قال: كنت جالساً عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ...) انتهى.
فهذا هو قول النووي، وما هو برواية، ومن قال إنه رواية: فإما أن يكون لا فقه له ولا فهم بمصطلحات العلماء، وإما أن يكون متشبعاً بما لم يعط، ملبساً، فهذا لا حيلة فيه.
2 - وابن كثير لم يروها، وإنما قال في "تفسيره": (ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه "الشامل" الحكاية المشهورة عن العتبي...) وما هذه برواية، وإنما هو نقل.
3 - وابن قدامة في "المغني" لم يروها، وإنما حكاها بصيغة التضعيف (3/557) فقال: (ويروى عن العتبي...).
وليست هذه رواية، إنما نقل بصيغة التمريض وهي تفيد التضعيف، ثم المؤلف يعلم أن قصة العتبي ضعيفة السند واهية، فهي مردودة غير صحيحة.(215/63)
ولعلمه بذلك أورد الشبهة التي لم يبق له مع الضعف إلا هي، فقال (ص73): (هذه قصة العتبي، وهؤلاء الذين نقولها، وسواءً أكانت صحيحة أم ضعيفة من ناحية السند الذي يعتمد عليه المحدثون في الحكم على أي خبر، فإننا نتساءل ونقول: هل نقل هؤلاء الكفر والضلال؟! أو نقلوا ما يدعو إلى الوثنية وعبادة القبور؟!...) اهـ.
أقول:
أولا: مادام أنها ليست من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا فعل خلفائه الراشدين، وصحابه المكرمين، ولا من فعل التابعين والقرون المفضلة، وإنما هي مجرد حكاية عن مجهول، نقلت بسند ضعيف فكيف يحتج بها في عقيدة التوحيد الذي هو أصل الأصول؟! وكيف يحتج بها وهي تعارض الأحاديث الصحيحة التي نهى فيها عن الغلو في القبور والغلو في الصالحين عموماً، وعن الغلو في قبره والغلو فيه - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً؟! وأما من نقلها من العلماء أو استحسنها فليس ذلك بحجة تعارض بها النصوص الصحيحة وتخالف من أجلها عقيدة السلف، فقد يخفى على بعض العلماء ما هو واضح لغيرهم، وقد يخطئون في نقلهم ورأيهم وتكون الحجة مع من خالفهم، وما دمنا قد علمنا طريق الصواب فلا شأن لنا بما قاله فلان أو حكاه فلان، فليس ديننا مبنياً على الحكايات والمنامات، وإنما هو مبني على البراهين الصحيحة.
ثانياً: قد تخفى بعض المسائل والمعاني على من خلع الأنداد وتبرأ من الشرك وأهله، كما قال بعض الصحابة: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده ما قاله أصحاب موسى: { اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } } .حديث صحيح.(215/64)
والحجة في هذا أن هؤلاء الصحابة وإن كانوا حديثي عهد بكفر فهم دخلوا في الدين بلا إله إلا الله، وهي تخلع الأنداد وأصناف الشرك وتوحد المعبود، فمع ذلك ومع معرفة قائليها الحقة بمعنى لا إله إلا الله، خفي عليهم بعض المسائل من أفرادها. وإنما الشأن أنه إذا وضح الدليل وأبينت الحجة فيجب الرجوع إليها والتزامها، والجاهل قد يعذر، كما عذر أولئك الصحابة في قولهم: اجعل لنا ذات أنواط، وغيرهم من العلماء أولى باحتمال أن يخفى عليهم بعض المسائل ولو في التوحيد والشرك.
ثالثاً: كيف يتجاسر أحد أن يعارض نصوص كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقول حكاه حاكٍ مستحسناً له، والله سبحانه يقول: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
]النور: 63[؟!
قال الإمام أحمد: عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:
{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } ، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. رواه عن أحمد الفضل بن زياد، وأبو طالب، ولعله في كتاب "طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -" لأحمد رحمه الله.
فطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمة على طاعة كل أحد، وإن كان خير هذه الأمة أبا بكر وعمر، كما قال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
فكيف لو رأى ابن عباس هؤلاء الناس الذين يعارضون السنة الثابتة، والحجة الواضحة بقول أعرابي في قصة العتبي الضعيفة المنكرة.(215/65)
إن السنة في قلوب محبيها أعظم وأغلا من تلك الحجج المتهافتة التي يدلي بها صاحب المفاهيم البدعية، تلك المفاهيم المبنية على المنامات والمنكرات. فاعجب لهذا، وجرد المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحذارِ ثم حذارِ من أن ترد الأحاديث الصحيحة، وتؤمن بالأخبار الباطلة الواهية، فيوشك بمن فعل ذلك أن يقع في قلبه فتنة فيهلك.
رابعاً: ما من عالم إلا ويردّ عليه في مسائل اختارها: إما عن رأي أو عن ضعف حجة، وهم معذورون قبل إيضاح المحجة بدلائلها، ولو تتبع الناس شذوذات المجتهدين ورخصهم لخرجوا عن دين الإسلام إلى دين آخر، كما قيل: من تتبع الرخص تزندق. ولو أراد مبتغي الفساد والعدول عن الصراط أن يتخذ له من رخصهم سلماً يرتقي به إلى شهواته، لكان الواجب على الحاكم قمعه وصده وتعزيره
كما هو مشهور في فقه الأئمة الأربعة وغيرهم.
وما ذكر فقيه أن من أحال لتبرير جرمه على قول عالم عُلِمَ خطؤه فيه، أنه يقبل منه ولا يؤخذ بالعتاب.اللهم احفظ علينا ديننا وتوحيدنا.
وعنون صاحب المفاهيم (ص76): (بيان أسماء المتوسلين من أئمة المسلمين).
وعمدته في هذا إيراد أكثر أولئك العلماء حديثاً فيه التوسل، وهذا من الحكم بالظن المنهي عنه،
بل ثبت عن بعضهم - وهم الأكثر - خلاف ما زعمه، والقاعدة المقررة عند أهل العلم أن العالم إذا أورد أثراً بإسنادٍ فقد خفف من العهدة التي تجب عليه من إتباع ذلك بالحكم على الحديث.
وإذا رُوي حديث وصححه راويه في كتاب له فلا يعني هذا إلزامه بالقول به، إذ قد يكون له نظر وفهم، ولعل سبباً اكتنف حكم الحديث يمنع من القول به، من إجماع على خلافه، أو نسخ، أو لكونه ليس في شرعنا، ونحو ذلك. وتفصيل هذا الإجمال يطلب من كتب لأصول.
قال المؤلف معددا أسماء:
1 - فمنهم الحاكم في "المستدرك"، فقد ذكر حديث آدم وصححه.(215/66)
والجواب: حال الحديث أنه واضح الضعف، كما نص الحاكم على ضعف راويه في "المدخل"، وأن النسخة التي روي بها الحديث موضوعة، و"المستدرك" لم يحرره الحاكم، بل أكثره مسودة، كما سبق تفصيل ذلك.
فالقول بأنه يقول به مع تضعيفه الشديد لرواية راويه، وضميمة القاعدة التي ذكرنا، ليس بمستقيم مع المنهج العلمي الموفق.
2 – ومنهم: البيهقي في "دلائل النبوة"، فقد ذكر حديث آدم وغيره،وقد التزم أن لا يخرج الموضوعات.
والجواب: أن البيهقي عقب الحديث بيّن تفرد راويه عبد الرحمن مع ضعفه. وهذه علة توجب رد الحديث.
3 – ومنهم: السيوطي في كتابه "الخصائص النبوية"، فقد ذكر الحديث وغيره.
والجواب: ذكره ولم يحكم عليه، وذكره في "تخريج الشفاء" له، وقال بضعف إسناده.
4 – ومنهم: ابن الجوزي في "الوفا" فقد ذكر الحديث وغيره.
والجواب: أن ابن الجوزي ذكر كل ما وجد ولم يتكفل بصحة إسنادٍ، وقد ذكر في كتابه "مكذوبات يعرفها أهل الشأن "، ويعدونها من تناقضاته.
وقال: (5،6،7)، ومنهم عياض وملا قاري والخفاجي.
والجواب: أن القاري والخفاجي قد ضعفوا حديث توسل آدم، والعبرة بتضعيفهم لابرأيهم، انظر "شرح القاري" (1/215)، و"شرح الخفاجي" (2/242).
قال: 8 - ومنهم القسطلاني في كتابه "المواهب اللدنية".
والجواب: أن القسطلاني لا يفرد بقول بتصحيح حديث آدم، فإنما هو في كتابه هذا ناقل من السيوطي، وقد ذكرنا القصة في ذلك، وما قد يكون سبباً لتأليف السيوطي "الفارق بين المصنف والسارق".
قال: 9 - ومنهم الزرقاني في "شرحه على المواهب" (ج1 ص44).
والجواب: ضعف الزرقاني حديث آدم، فإن كان رأيا ارتآه فليذكر دليله، ولم أجد في (ج1 ص44) من شرح المواهب شيئا من ذلك.
قال: 10 - ومنهم النووي.
أقول: ذكره قصة العتبي لا يعني أنه يجيز التوسل بالذوات ونحوه.
قال: ومنهم ابن كثير.
الجواب: نقله قصة الأعرابي لا يعني تجويزه للتوسل بالذوات ونحوه، وقصة آدم ذكرها وضعف راويها.(215/67)
وقصة الرجل الذي جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بينت ما فيها فارجع إليه، وتصحيح إسنادها لا يعني القول بجواز فعلها، كما يشير إليه صنيع ابن كثير نفسه.
وذكره شعار المسلمين ]يا محمداه [ ليس مقصوداً، بل ورد في أثناء نقل طويل بإسنادٍ مظلم. اهـ.
قال: 12 - ومنهم ابن حجر فقد صحح سند قصة الرجل الذي جاء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والجواب: لم يصححها، وإنما قال: بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار.
وفي هذا تنبيه لعلة الرواية عنده، يفهمهما المشتغلون بعلم الحديث.
قال: 13- ومنهم القرطبي المفسر.
الجواب: ذكر القرطبي نحوا من قصة الأعرابي، وحكايته لها لا يدل على قوله بموجب كل لفظٍ فيها.
ومن هذا ينجلي الغطاء، وينكشف ما تحت الكساء، ويظهر أن قول صاحب المفاهيم فيه تجن على أكثر من ذكرنا قولهم، وما كان يحسن به هذا، وهو شيء لم يسبق إليه ولم يفعله المصنفون قبله، ذلك لأنه مردود على مقتضى قواعد أهل العلم، وبالله التوفيق.
ذكر (ص54): استغاثة الخلق يوم القيامة بالأنبياء وآخرهم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: ليشفع إلى ربه في أهل الموقف... الخ.
ثم قال: (فهذا إجماع من الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين، وتقرير من رب العالمين، بأن الاستغاثة عند الشدائد بأكابر المقربين من أعظم مفاتيح الفرج ومن موجبات رضى رب العالمين) اهـ.
أقول: هذه جراءة قبيحة على رب العالمين، وعلى أنبيائه ورسله، فلو صعدت أبخرة هذه الجراءة إلي السحاب لنزل ماؤه سماً زعافاً، ولو نزلت إلى ينابيع الماء لقلبتها ناراً تلظى.
ولكن الهوى يفسد العقول، ويجر إلى عبادة غير الله { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
عِلْمٍ } ]الجاثية: 23[، { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } ]الفرقان: 43[، أيكون
دين الجاهلية قرره رب العالمين؟!(215/68)
أيكون دين الجاهلية أجمع عليه: الأنبياء والمرسلون؟! ما أقبح الهوى! وما أظهر الجاهلية في كلام كاتب المفاهيم الخاسرة! إن الذي يكون يوم القيامة: أن الخلق يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لهم إلى ربهم في فصل القضاء بينهم وإراحتهم من الموقف، وهذا الطلب جار على المألوف الجائز من طلب الشفاعة من حي حاضر قادر بمعنى أن يدعو الله للطالب في حصول مقصوده، فالشفاعة معناها: طلب الدعاء من الحي الحاضر، وهذا بخلاف طلب الشفاعة من الميت، أو التقرب إليه بشيء من أنواع العبادة بقصد
أن يشفع له كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا
عِنْدَ اللَّهِ } ]يونس: 18[ .
قال (ص55):
(وفي "الفتاوى الكبرى": سئل شيخ الإسلام -رحمه الله-: هل يجوز التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ فأجاب: الحمد لله، أما التوسل بالإيمان به، ومحبته وطاعته والصلاة والسلام عليه، وبدعائه وشفاعته ونحو ذلك من ما هو من أفعاله وأفعال العباد المأمور بها في حقه، فهو مشروع باتفاق المسلمين ]"الفتاوى الكبرى" ج1 ص140 [اهـ.
أقول: جرى كاتب المفاهيم على هديه الذي رضيه لنفسه، وهو التحريف والتبديل، فبتر آخر كلام شيخ الإسلام، ليوهم أنه ساوى بين التوسل بدعائه وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتاً. وهذا تحريف للمعنى من جنس ما مر من تحريفاته. قال الشيخ بعد قوله الذي نقله الكاتب: (وكان الصحابة - رضى الله عنهم- يتوسلون به في حياته، وتوسلوا بعد موته بالعباس عمه، كما كانوا يتوسلون به) اهـ. فهذا التفسير للإجمال السابق لابد من ذكره ونقله، وفيه أن التوسل به في حياته يكون بدعائه لمن طلب منه الدعاء، أوبابتدائه الدعاء لمن شاء من أصحابه. فهذا حق؛ لأن نبي الله حي بين أظهرهم، ممكن من الدعاء في
دار التكليف، ممكن من سؤال الله لمن طلب منه، بالنصوص القطعية.(215/69)
أما بعد انتقاله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، والحياة البرزخية، فقد انقطع ما كان يعمله في حياته من الدعاء لمن طلب منه، والشفاعة لمن استشفعه.
وما خرج عن ذلك فهو مردود، إلا بنص ولا نص منقول يدل عليه، لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف، كما يفهمه أو لو الشأن. والرسول - صلى الله عليه وسلم - - كما بين في باب الشفاعة من هذا الكتاب- لم يتشفع ولم يتوسل بمن قبله من الأنبياء، بل ولا شهداء أحد وأفضلهم حمزة بن عبد المطلب، فلم يسألهم الدعاء ولا توسل بهم وهم الأنبياء، والشهداء الذين ثبتت حياتهم، وأنهم ليسوا بأموات، ولكنها حياة برزخية.
هذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحن له أتباع، والمبتدعة الضلال لأهوائهم أتباع.
ومن نظر في هذا نظرة، حدثت له فكرة، أنجته بإذن مالك الأفئدة من الحسرة، إن كان من طلاب الصراط المستقيم، والهدي القويم، هدي خير الخلق أجمعين.
قال (ص56):
(مما يستفاد من كلام الشيخ ابن تيمية أن من دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صح له أن يتوسل إلى الله
بدعائه - صلى الله عليه وسلم - له، وقد جاء أنه - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لأمته، كما ثبت ذلك في أحاديث كثيرة) اهـ .
ثم قال: (لذا فإنه يصح لكل مسلم أن يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بذلك فيقول: اللهم! إن نبيك محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لأمته، وأنا من أفراد هذه الأمة، فأتوسل إليك بهذا الدعاء أن تغفر لي وأن ترحمني، إلى آخر ما يريد، فإذا قال ذلك لم يخرج عن الأمر المتفق عليه بين كافة علماء المسلمين) اهـ .
أقول: قد بينت آنفاً ما في التوسل بدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد موته من البدعة، والخروج عن فهم السلف للتوسل.
والتوسل بدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس مقصوداً للكاتب، وإنما أتى بذلك ليصل إلى شيء آخر، وهو(215/70)
ما صرح به بقوله: (فإن قال: اللهم! إني أتوسل إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد فاته التصريح بما ينويه،
وبيان ما ينعقد عليه قلبه، وهو مقصود كل مسلم، ومراده لا يخرج عن هذا الحد) اهـ.
فهذا الكلام بيّن لِمَ ساق الكاتب كل ما مر من كلام شيخ الإسلام؟ فانظروا ضعف حجته، وقلة بصيرته في إحالته على قلوب المتوسلين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وهو يزعم أنه بما في قلوبهم عليم وأن مراداتهم لا تخرج عن الحد الذي اطلع به على قلوبهم. أفتش الكاتب قلوب الداعين؟!أم هو نقيبهم ينافح عنهم؟!
وها هو الكاتب خرج عن هذا الحد المدعى، فتوصل بالتوسل البدعي إلى جواز الاستغاثة بالأنبياء، وطلبهم الشفاعة، فجعله سلماً.
ثم ما الذي يحجز الداعي من التصريح بما في قلبه؟! لا يمنعه إلا شيء هو أحسن عنده من
ما لم يذكره، فلو كان يعتقد في لفظ أنه أقرب وأصح لقاله فإنه داعٍ سائل، والسائل يتحرى المقرب الصحيح، فلو كان مقصودهم ما اعتذر به الكاتب لصرحوا به، ولكن مقصودهم هو التوسل بذاته،
مما هو من البدع، ووسائل الشرك، والإقسام به على الله تعالى، واتخاذه شفيعاً، ومغيثأ، ومعيناً،
فيما لا يقدر عليه إلا الله أو بعد موته.
ثم إنك إن فتشت لا تكاد تجد اليوم أحداً ينافح عن جواز التوسل بالذوات إلا وهو يجيز الشرك: كالاستغاثة بالأموات ودعائهم أو طلب شفاعتهم. وقد طالعت من كتبهم شيئاً فوجدتهم كما وصفت لك، فلعلك تكون من المستبصرين الناجين.
قال (ص57):
جاء في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : { حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم تعرض أعمالكم عليّ، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت شراً استغفرت الله لكم } . رواه الحافظ إسماعيل القاضي في "جزء الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -"، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" وصححه.(215/71)
وهذا صريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - يستغفر للأمة في برزخه، والاستغفار دعاء،والأمة تنتفع بذلك") اهـ كلام صاحب المفاهيم.
أقول: الكلام في هذه الأحرف من أوجه:
الأول: هذا الحديث أخرجه إسماعيل القاضي (ص36) في "جزء الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -" مرسلاً، فقال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا غالب القطان عن بكر بن عبد الله المزني قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...فذكره بلفظ آخر غير ما ذكر، فأوهم صنيع صاحب المفاهيم أنه رواه باللفظ المذكور، وبكر بن عبد الله المزني من التابعين الثقات، توفي سنة 106 هـ، فهو مرسل، والمرسل. لا يقبل عند المحدثين.
وأما قول الكاتب: (ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" وصححه) ففيه: أن الهيثمي ذكر رواية البزار (وسيأتي ما فيها)، وقال: (رجاله رجال الصحيح) وهذه العبارة لا تفيد تصحيحه الحديث، فلا يجوز أن يقال إنه صححه، كما تجرأ عليه صاحب المفاهيم. وذلك أن قوله: (رجاله رجال الصحيح) تفيد ثقة الرجال وأنهم مخرََّج لهم في الصحيح، ولا تفيد لا صحة الإسناد ولا صحة الحديث.
فصحة الإسناد تفتقر إلى معرفة اتصال الرواية وعدم الانقطاع في الإسناد، وألا يكون في الإسناد مدلس رواه بالعنعنة.
فمثلاً: لو روي حديث من طريق أحمد بن حنبل عن سفيان الثوري عن ابن المسيب عن أبي بكر الصديق، لجاز أن يقال: رجاله أئمة أثبات حفاظ، ولا يعني ذلك التكفل بصحة الإسناد،إذ ظاهر الإسناد الانقطاع بين كل راو وشيخه،فأحمد لم يدرك سفيان وهو لم يدرك ابن المسيب، وسعيد لم يدرك أبا بكر.
وصحة الحديث ليست بلازمة لصحة الإسناد، بل بينهما مراتب يعرفها أهل العلم والنظر، فكم من
حديث صحيح الإسناد وهو شاذ أو غلط أو معلل.
وذلك أن تعريف علماء الحديث للحديث الصحيح جمع أمرين: صحة الإسناد وانتفاء الشذوذ والعلة. فما لم يجتمع الأمران لا يقال بصحة حديث.(215/72)
ومن هذا يعلم ما في قول صاحب المفاهيم من نسبة تصحيح الحديث للهيثمي من تَقَوُّل على الهيثمي، وزيادة أمرٍ لم يقله الحافظ الهيثمي رحمه الله.
ومثله ما نقله صاحب المفاهيم في (ص172) من كتابه من قول العراقي: إسناده جيد.
الثاني: الحديث رواه البزار في "مسنده" (1/397 زوائده) فقال: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: { إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام } قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { حياتي خير لكم.. الحديث } .
قال البزار: (لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد) اهـ. وهذا إسنادٌ فيه: عبد المجيد بن
أبي رواد، وهو ممن لا يقبل ما ينفرد به عندهم، ولذا قال الحافظ العراقي شيخ الهيثمي: (رجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد بن أبي رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي،فقد ضعفه بعضهم) فهذا هو التحقيق، وقد تفرد بهذه الزيادة { حياتي خير لكم... } .
أما أول الحديث { إن لله ملائكة...الخ } فهو محفوظ من حديث سفيان عن عبد الله بن السائب به، واتفق رواة الحديث عن سفيان على هذا القدر تم أتى عبد المجيد فتفرد عنهم بهذه الزيادة فهي شاذة ضعيفة كما يقتضيه التحقيق.
الثالث: لو ثبت الحديث لم يكن فيه ما ادعاه صاحب المفاهيم من جواز التوسل بعموم استغفار
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته؛ لأن دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته لأمته وسؤاله الله لهم أبلغ وأقطع من استغفاره
بعد موته- إن ثبت-، وهذا السبب الذي كان موجوداً في حياته هو عين السبب الذي علق الحكم
به بعد مماته، فلما لم يشرع هذا العمل وهو التوسل بالاستغفار العام مع قيام المقتضي له في حياة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم أن إحداثه بدعة.(215/73)
ويؤيد هذا أن خير القرون ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، لم يستعمل أحد منهم التوسل بهذا الطريق الذي اخترعه عشاق البدع، وهُجَّار السنن.
أقول: وتوسع صاحب المفاهيم على عادته بتمسكه بأدنى شبهة وأبعدها، فقال (ص173) أواخر كتابه حول الحديث: (الحديث صحيح لا مطعن فيه) اهـ . وهذا افتراء أو قلة علم؛ بل فيه مطعن
كما قدمناه.
قال:
(وهو يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أعمالنا بعرضها عليه، ويستغفر الله لنا على ما فعلنا من سيئ وقبيح، وإذا كان كذلك فإنه يجوز لنا أن نتوسل به إلى الله ونستشفع به لديه، لأنه يعلم بذلك فيشفع فينا ويدعو لنا...) اهـ
أقول: في الحديث عرض الأعمال، والكاتب يستدل به على جواز طب الشفاعة، يا له من فقه غاب عن الأمة بضعة عشر قرناً، حتى ظهر هؤلاء المبتدعة فأدركوه! فعرض العمل عليه - صلى الله عليه وسلم - شيء وتجويزك طلب الشفاعة أمر آخر بعيد، فإن عرضت عليه أعمالك فلن يرضى - صلى الله عليه وسلم - بالشرك الذي فيها، ومنه طلب الشفاعة من الموتى ولن يستغفر لمشرك يستغيث بالأموات، { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ]التوبة: 113[.إن طلبك الشفاعة من الأموات سيئ من العمل وشرك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستغفر لمن ترك دينه واتبع هواه فأشرك. إن استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته، إنما تكون في حياته وفي الدار الآخرة لا في دار البرزخ، وله أنواع من الشفاعات ليس فيها نصيب لمشرك.
فمن طلب الشفاعة منه بعد موته، فحري أن يكون فوت على نفسه شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، وإن من
سيئ الكلام تعدي صاحب المفاهيم على مقام النبوة حيث جزم بقوله: (فيشفع. فينا ويدعو لنا).(215/74)
وإن من سيئ القول وخطله وشنيعه تعدي الكاتب على مقام الألوهية، فيجوز طلب الشفاعة من
النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، والشفاعة حق لله وحده، وإنما تطلب منه وحده، كما يدعو المخلصون بقولهم اللهم!شفع فينا نبيك محمداً - صلى الله عليه وسلم - .
وفي باب الشفاعة بيان هذه الأصول بما فيه مقنع لمن أراد الله هدايته.
وضع (ص61) عنواناً هو: (الشيخ الأمام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر التوسل).
أقول: تحليتك محمد بن عبد الوهاب بالشيخ الإمام: إما أن تكون اعترافاً بفضله قي تجديد أمر دين الإسلام، وإصلاحه وجهاده، وإما أن تكون عنيت بها وضعها اللغوي.
فإن أردت المعنى الأول فالشيخ قد أقام دعوته في محاربة أصناف الشرك الجلي والخفي، الأكبر منه والأصغر، وحارب وسائل الشرك التي تجر إليه مما حرمه الله ورسوله، ومن تأمل كتاب "التوحيد" ألفاه في فلك ما ذكر دائر، وعلى الصراط المستقيم سائر.
والشيخ -رحمه الله- جاهد في إرجاع الناس إلى دينهم الذي جاء به رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وجاهد
في إقناعهم بأن ما يفعله بعض الناس في زمانه ويدّعونه إسلاماً هو عين ما عليه المشركون الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد كان كثير من المنتسبين إلى الدين في زمانه عبَّاداً للقبور: يدعون أصحاب القبور استقلالاً من دون الله، ويدعونهم مع الله طلباً للشفاعة منهم والقربى إلى الله زلفى، ويرجونهم دفع المضرات، ورفع المهلكات، وتفريج الكربات كما قال الله عن أشباههم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[. ثم هم يقدمون لأولئك المقبورين أصناف القرابين والعبادات التي لا تكون إلا لله جل وعلا: كالذبح، والنذر، وهم يخضعون لأولئك المقبورين الميتين أعظم من خضعانهم في مساجد الله.(215/75)
كانوا يستغيثون بالأموات، ويخافونهم خوف السر، ويحبونهم أشد من محبة الله، ويتقربون إليهم أكثر من تزلفهم إلى ربهم، بل نسوا ربهم وذكره، وفشت فيهم مذاهب الإلحاد والزندقة، كمذهب وحدة الوجود،
وتعظيم الأولياء على الأنبياء، كما قال مقدمهم:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
هذا جزء في واقع أسود رآه الشيخ في هذه الديار، فجاهد متوكلاً على ربه مقتفيا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في سيرته الجهادية، فنصره الله وأعزه، ومكن له الدين.
وذلك الواقع الذي وصفنا موجود في أكثر البلدان الإسلامية، والواجب تبصيرهم بالمكفرات الواقعة الكثيرة ثم جهادهم بأنواع الجهاد باليد واللسان والقلب، ولكن اثاقل الناس إلى الأرض، إلا قليلاً.
هذا الذي ذكر من أصناف الشرك الأكبر كانت محاربته وتغيره، وهداية الناس إلى الإسلام همَّ الشيخ الأول، ثم إن الشيخ - رحمه الله - داع حكيمٌ متروٍ، فإذا كان المخاطب واقعاً في أصناف الشرك فمن غير الحكمة أن ينهاه عن البدع ووسائل الشرك وهو لم يعلم بعدُ أن الشرك موجود بين الناس، بل الواجب أن يبين الشرك ثم إذا استقرت حقيقة الإسلام في قلب العبد وترك وجاهد الشرك الأكبر، فهو سينكر وسائل الشرك؛ لأن العاقل البصير إذا كره شيئاً كره وسائله ودواعيه.
إن السلامة من سلمى وجارتها أن لا تحل على حال بواديها
فهذا الشاعر القديم عرف هذه الحقيقة، وإليها يهتدي العقلاء، وقد دلت الشريعة إليها وحضت عليها
قاعدة "سد الذرائع".
وقال ملخصاً مباحثه في التوسل (ص73):
(إن التوسل: ليس مقصورا على تلك الدائرة الضيقة التي يظنها المتعنتون).
أقول: هذه كلمات ينفر منها ذووا القلوب الحية، التي قد ملأت محبة الله وإعظامه وإجلاله جوانحها، ويستأنس لها من شغل بذكر غير الله مع الله، أو نسوا الله فأنساهم أنفسهم. يالها من ألفاظ لو مزجت بماء البحر لمزجته، ولو سالت على زروع الناس لأفسدت معيشتهم. سبحان الله!!(215/76)
التوسل بأسماء الله وصفاته دائرة ضيقة! أسماء الله التي لا تحصى دائرة ضيقة للتوسل!
صفات الله العُلى وأفعاله الحكيمة دائرة ضيقة! سبحان الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
يا صاحب المفاهيم! لو دعوت ربك متوسلاً إليه بأسمائه لانقضى عمرك وعمر من معك، ولم تبلغوا نهاية، ولم تحصوا لها عدداً.
يا صاحب المفاهيم! لو ظللت تدعو الليل والنهار لا تفتر أبداً تتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى
لم تنقض، ولانقضى عمرك.
يا صاحب المفاهيم! لو توسلت إلى الله بأسمائه الحسنى بما يناسب مطلوبك من أسمائه، لا نقضت حوائجك ولم تبلغ بعضاً من أسماء الله.
يا صاحب المفاهيم! إن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، فلو ظللت تدعو بها مفردة، ثم تجعل مع الاسم آخر ثم هكذا، لبلغت ما لو دعا به الخلق من أولهم إلى آخرهم ما يسعهم غير مكررٍ ولا معيد.
يا صاحب المفاهيم! إني أنذرك مغبة هذه الكلمة الوبيلة التي يقْشَعِرُّ منها البدن، وعليك بالانطراح بين يدي الله والتوبة من هذا القول، وما جرَّ إليه من الشرك، وما قرب إليه من البدع، ولا حول ولا قوة
إلا بالله، وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
اللهم إنا نبرأ إليك من قول من قال: إن التوسل بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا دائرة ضيقة، فتقبل اللهم براءتنا، وعلمنا من أسمائك، وآثار صفاتك، ما يقوي قلوبنا، ويهدينا إلى صراطك المستقيم.
الباب الثاني
مسائل في توحيد الربوبية والألوهية وفيه:
- الشرك في قوم نوح وإبراهيم، وفي العرب
- دخول الشرك في المسلمين من هذه الأمة
- رد القول "بالمجاز العقلي" لتبرير الشرك
الشرك في قوم نوح:
أخرج البخاري في "صحيحه"(8/667) في تفسير قوله تعالى: { ولا تذرن وَدّاً ولا سواعاً } الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ.
أما وَدّ فكانت لكلب بدومة الجندل.
وأما يغوث فكانت لمراد ثم بني غطيف بالجرف عند سبأ.
وأما يعوق فكانت لهمدان.(215/77)
وأما نسر فكانت لحمير لآلِ ذي الكلاع.
أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم.
ففعلوا فلم تعبد. حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عبدت).
ومما جاء في معنى كلام ابن عباس ما أخرجه عبدُ بن حميد عن محمد بن كعب في قوله: { وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً } ]نوح:23-24[.قال: (كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، فنشأ قوم بعدهم، يأخذون كأخذهم في العبادة.
فقال لهم إبليس: لو صورتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم، فصورا ثم ماتوا.
فنشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها، فعبدوها).
وأخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر يزيدَ بنَ المهلب، فقال: أما أنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله ثم ذكر وداً قال: وكان ودٌّ رجلاً مسلماً، وكان محبباً في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان، ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به. قالوا: نعم فصور لهم مثله فوضعه في ناديهم، وجعلوا يذكرونه. فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل
لكم في كل منزل كل رجل تمثالاً مثله فيكون في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم.
فصور لأهل كل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به. قال وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون
ما يصنعونه به، وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله.
قال: وكان أول ما عبد غير الله في الأرض ود، الصنم الذي سموه بود).
وهناك روايات أخر، قال الحافظ في "فتح الباري"(8/669): (قال بعض الشراح: محصل ما قيل في هذه الأصنام قولان:
أحدهما: أنها كانت في قوم نوح.
الثاني: أنها كانت أسماء رجال صالحين. إلى آخر القصة.(215/78)
قلت: بل مرجع ذلك إلى قولٍ واحد، وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام، ثم تبعهم من بعدهم على ذلك).
انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
الشرك في قوم إبراهيم:
قال الشهرستاني في "الملل والنحل"(1/560-563): (وكانت الفرق في زمان الخليل عليه السلام راجعة إلى صنفين اثنين:
أحدهما: الصابئة.
والثاني: الحنفاء.
فالصابئة كانت تقول: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره واحكامه إلى "متوسط". لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانياً لا جسمانياً، وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب. والجسماني بشر مثلنا يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب. يماثلنا في المادة والصورة.
قالوا: { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ } ]المؤمنون:34[. والحنفاء كانت تقول: إنا نحتاج – في المعرفة والطاعة- إلى متوسط من جنس البشر، تكون درجته
في الطهارة والعصمة، والتأييد والحكمة: فوق الروحنيات. يماثلنا من حيث البشرية يمايزنا من حيث الروحانية.
فيتلقى الوحي بطرف الروحانية.
ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية.
وذلك قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } ]الكهف:110[،
وقال عزَّ ذكره: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً } ]الاسراء: 93 [.
ثم لما لم يتطرق للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة والتقرب إليها بأعيانها والتلقي عنها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكلها، وهي السيارات السبع وبعض الثوابت.
فصابئة النبط والفرس والروم: مفزعها السيارات.
وصابئة الهند: مفزعها الثوابت.
وسنذكر مذاهبهم على التفصيل على قدر الإمكان بتوفيق الله تعالى. وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً.
والفرقة الأولى: هم عبدة الكواكب.
والثانية: هم عبدة الأصنام.(215/79)
ثم قال (ص673) ذاكراً مذهب أصحاب الروحانيات: (ومذهب هؤلاء أن للعالم صانعاً فاطراً حكيماً مقدساً عن سمات الحدثان والواجب علينا معرفة العجر عن الوصول إلى جلاله.
وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه.
وهم الروحانيون المطهرون المقدسون: جوهراً، وفعلاً، وحالة.
أما الجوهر فهم المقدسون عن المواد الجسمانية المبرؤن عن القوى الجسدانية، المنزهون عن الحركات المكانية، والتغيرات الزمانية، قد جبلوا على الطهارة، وفطروا على التقديس والتسبيح، لا يعصون الله
ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول: عاذيمون، وهرمس.
فنحن نتقرب إليهم ونتوكل عليهم، وهم أربابنا وآلهتنا، ووسائلنا وشفعاؤنا عند الله، وهو رب الأرباب وإله الآلهة رب كل شيء ومليكه) اهـ.
والغرض من نقل هذا كله تبيان بعض حال الصابئة الذين عبدوا الكواكب لشبهة الوصول إلى الله عن طريق من جبل على الطهارة والتقديس والتسبيح.
وبين شرك قوم نوح وشرك قوم إبراهيم جامعٌ تفرعت عنه أصناف الشرك بعد في الناس فمقل من الشبه ومستكثر، فبعثت لهم الرسل.
فكان شرك قوم نوح يرجع إلى مظاهر الصلاح في البشر وشرك قوم إبراهيم من العقل والفلسفة لأسرار الطبيعة ووظائف الأفلاك.
فشرك قوم نوح شرك تقريب وشفاعة.
وشرك قوم إبراهيم شرك أسباب وإعانة فإذا اتخذت له أصنام كان شرك تقريب وشفاعة، كما دل عليه آخر كلام الشهرستاني.
شرك العرب وديانتهم:
اعلم أن العرب كانوا بعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - على دينه الحنيفية، وبُثَّ هذا الدين فيهم فتلقوه من ولد إسماعيل عليه السلام، وانتشرت فيهم الحنيفية، وأحبوا البيت وهوت إليه قلوبهم.
(وأول من وضع فيه الأصنام عمرو بن لُحَيْ بن غالوثة بن عمرو بن عامر لما سار قومه إلى مكة، واستولى على أمر البيت، ثم صار إلى مدينة البلقاء بالشام.(215/80)
فرأى هناك أقواماً يعبدون الأصنام. فسألهم عنها، فقالوا: هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية، والأشخاص البشرية: نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقى، ونستشفي بها فنشفى.. فأعجبه ذلك.
وطلب منهم صنماً من أصنامهم فدفعوا إليه هبل، فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة. وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين.
فدعا الناس إلى تعظيمها، والتقرب إليها، والتوسل بها إلى الله تعالى)(1).
وذكر الشهرستاني أيضاً أديان العرب واعتقاداتهم، فأُجملهم:
الطائفة الأولى: منكروا الخالق والبعث والإعادة وهم شرذمة وأفراد.
الطائفة الثانية: منكروا البعث والإعادة.
الطائفة الثالثة: عباد الأصنام.
ومنهم من كان يميل إلى اليهودية. ومنهم من كان يميل إلى النصرانية. ومنهم من كان يصبو إلى الصابئة.
قال عند ذكره الطائفة الثالثة (2/1232):
(وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع الإعادة. وأنكروا الرسل، وعبدوا الأصنام.
وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الدار الآخرة. وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا، وقربوا القرابين، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر. وأحلوا وحرموا.
وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم نذكرهم) اهـ.
كيف دخل الشرك في المسلمين؟
وببعثة نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - زالت عبادة الأصنام على أصنافها، وتحررت العقول من دناءة تفكيرها، ووضاعة تصورها، فارتقت إلى التوحيد بعد أن كانت في حمأة الشرك، وأصبحت قلوب العرب وغيرهم متجهة إلى الله وحده، لا شريك معه غيره لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، فأتم الله الأمر، وأكمل الدين، وأعلا كلمته.
فدام على هذا المسلمون زماناً وقروناً، حتى ظهرت فيهم الحركات الباطنية الخبيثة: كالإسماعيلة
وما تفرع عنها من قرامطة، وإخوان الصفا، وعبيديين، ودروز ونحوهم مما يعدون صوراً لعقيدة واحدة.
__________
(1) :الشهرستاني، "الملل والنحل"(2/1222، 1223) ط. بدران.(215/81)
اتخذت هذه الحركة منذ القديم تقديس أهل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - شعاراً لها، وسلسوا الإمامة في إسماعيل بن جعفر، وكانوا ف تقديسهم لآل البيت مشهورين فالدولة الفاطمية أثر هذه الحركة الباطنية.
فالمسلمون في القرون الأولى لا يوجد بينهم من تحوم مظاهر الشرك في ذهنه كشرك العرب باتخاذ الصالحين والأنبياء وسائل وشفعاء، حتى بث الاسماعيليون معتقداتهم بين الناس سراً، فاستحسن الجهال هذا الأمر لخفته وطرح التكاليف الشرعية، فأخذ يظهر الاعتناء بالقبور وتشييد مزارات ومشاهد وتحري الدعاء عندها، حتى نقلهم الشيطان إلى اتخاذهم شفعاء ثم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر، ثم نقلهم إلى الاعتقاد بأن له تصرفاً في الكون، تدرج هذا في قرنين أو نحوها.
وإن أقدم من وقفت عليه يرجع المسلمين إلى دين الجاهلية في الاعتقاد بالأرواح والقبور هم
الاسماعيليون، وبخاصة إخوان الصفا، تلك الجماعة السرية الخفية التي بثت عقائدها، ورسائلها الخمسين بسرية تامة حتى لا يكاد يعرف لها كاتب ولا مصنف، وإن ظن ظنا.
ثم تبعهم على تقديس المقبورين من أهل البيت الموسويون الملقبون بالاثنى عشرية، وصنفوا التصانيف في الحج إلى المشاهد، وفي كيفية الزيارات والأدعية عند القبور، يسندونها بطرق باطلة كاذبة إلى أئمة أهل البيت رضي الله عنهم.
وقد طالعت كتاب "الزيارات الكاملة" لابن قولويه(1) فرأيت فيه من هذا شيئاً كثيراً، وهو مطبوع.
ومن طالع تراث الإسماعيلين، وحركة إخوان الصفا وجد ما قلتُه ماثلاً أمامه، فإن الشأن عظيم، وإن فتنة الناس بالقبور واتخاذ أهلها شفعاء ووسطاء لم تعرف قبلهم، ولما غلب الجهل قبل ظهور الدولة الفاطمية عرفت هذه الأمور طائفة من الناس، فلما ظهرت الدولة العبيدية شيدت المشاهد ونشرت
ما كان سراً من عقائدها.
__________
(1) :هو أبو القاسم جعفر بن محمد، المتوفي سنة 367 هـ، وكتابه طبع طبعة حجرية بالنجف سنة 1356هـ.(215/82)
جاء في الرسالة الثانية والأربعين من رسائل إخوان الصفا، ما يبين هذا، ويبرهن له، فقال مؤلفوا الرسائل(4/19/21):
(وذلك أن القوم الذين بعث إليهم النبي عليه الصلاة والسلام والتحية والرضوان، كانوا يتدينون بعبادة الأصنام، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى بالتعظيم لها والسجود والاستسلام والبخورات، وكانوا يعتقدون أن ذلك قربة لهم إلى الله زلفى، والأصنام هي أجسام خرس، لا نطق لها ولا تمييز ولا حس ولا صورة
ولا حركة، فأرسلهم الله، ودلهم على ماهو أهدى وأقوم وأولى مما كانوا فيه.
وذلك أن الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا بشراً فهم أحياء ناطقون مميزون علماء مشاكلون للملائكة بنفوسهم الزكية، يعرفون الله حق معرفته، والتقرب إلى الله بهم أولى وأهدى وأحق من التوسل بالأصنام الخرس التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنك شيئاً.
ثم اعلم أنا نبين هاهنا بدء عبادة الأصنام فنقول: بأن بدء عبادة الامم للأصنام أولاً كان عبادة الكواكب، وبدء عبادة الكواكب كان عبادة الملائكة. وسبب عبادة الملائكة كان التوسل بهم إلى الله تعالى، وطلب القربة إليه.
وذلك أن الحكماء الأولين لما عرفوا بذكاء نفوسهم وصفاء أذهانهم أن للعالم صانعاً حكيماً، وذلك لتأملهم عجائب مصنوعاته، وتفكرهم في غرائب مخلوقاته، واعتبارهم تصانيف أحوال مخترعاته،
ولما تحققت في نفوسهم هويته، أقروا له عند ذلك بالوحدانية ووصفوه بالربوبية،وعلموا أن له ملائكة هم صفوته من خلقه، وخالص عباده من بريته: طلبوا عند ذلك إلى الله القربة، وتوسلوا إليه بهم، وطلبوا الزلفى لديه بالتعظيم لهم، كما يفعل أبناء الدنيا، ويطلبون القربة إلى ملوكهم بالتوسل إليهم بأقرب المختصين بهم، وكان من الناس من يتوسل إلى الملك بأقاربه وندمائه ووزرائه وكتابه وخواصه وقواده، وبمن يمكنه بحسب ما يتأتى له، الأقرب فالاقرب والأدنى فالأدنى، كل ذلك طلباً للقربة إليه والزلفى لديه.(215/83)
فهكذا وعلى هذا المثال فعلت الحكماء وأهل الديانات ومن عرف الله، وآمن به وأقر به، فإنهم طلبوا القربة إليه والزلفى عنده: كل واحد بحسب ما أمكنه وتأتى له، وأدى إليه اجتهاده، وتحقق في نفسه.
فلما مضى أولئك الحكماء والربانيون العارفون بالله حق معرفته، وانقرضوا خَلَفهم قومٌ آخرون لم يكونوا مثلهم في المعرفة والعلم، ولم يعرفوا مغزاهم في دياناتهم، فأرادوا الاقتداء بهم في سيرتهم واتخذوا أصناماً على مثل صورتهم، وصوروا تماثيل على مثل ما فعلت النصارى في بيعهم، من التماثيل والصور مثل أشباه المسيح عليه السلام ومثل الروح القدس وجبرائيل ومريم عليهما السلام، وكذلك أحوال المسيح في متصرفاته، ليكون ذلك تذكاراً لهم بأحواله كيف ما يمموا تلك التصاوير والتماثيل.
ثم قال إخوان الصفا الباطنيون:
فصل:
ثم اعلم يا أخي أن من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم، أو بأولياء الله
وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين، والتعظيم لهم ومساجدهم، ومشاهدهم، والاقتداء بهم وبأفعالهم، والعمل بوصاياهم وسننهم على ذلك بحسب ما يمكنهم ويتأتى لهم ويتحقق في نفوسهم ويؤدي إليه اجتهادهم فأما من يعرف الله حق معرفته فهو لا يتوسل إليه بأحد غيره وهذه مرتبة أهل المعارف الذين هم أولياء الله.
وأما من قصر فهمه ومعرفته وحقيقته: فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بأنبيائه، ومن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلى الله تعالى إلا بالأئمة من خلفائهم وأوصيائهم، والتعلق بسننهم، والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم، والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم، وعند التماثيل المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم، وتعرف أحوالهم، من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه.(215/84)
ثم اعلم أنه على كل حال من يعبد شيئاً من الأشياء ويتقرب إلى الله تعالى بأحد فهو أصلح حالاً ممن لا يدين شيئاً ولا يتقرب إلى الله البتة..) انتهى ما نقلته من رسائل إخوان الصفا.
وهذه الجماعة الباطنية كان مبدأ نشاطاتها في أول القرن الثالث، ولم تعرف رسائلها التي قعدت لمذهبها، وبثت ذلك في أواسط الناس إلا في القرن الرابع الهجري، بسرية تامة فدخلت الأفكار في الطغام، وأنكرها العلماء الأعلام، وكفروا أصحابها كما قال ابن عقيل صاحب الفنون وهو من علماء القرن الخامس حيث انتشرت المذاهب بتأييد الدولة العبيدية قال: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا
بها تحت أمر غيرهم، وهم عندي كفار لهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي! افعل بي كذا وكذا، أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداءً بمن عبد اللات والعزى ...) انتهى.
فصل
قال صاحب المفاهيم (ص26) معنوناً: (الواسطة الشركية)، وذكر قوله تعالى: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ } ]الزمر: 3[ فقال: (هذه الآية صريحة في الإنكار على المشركين عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة من دونه تعالى، وإشراكهم إياها في دعوى الربوبية على أن عبادتهم لها تقربهم إلى الله زلفى.
فكفرهم وشركهم من حيث عبادتهم لها ومن حيث اعتقادهم أنها أرباب من دون الله.
وهنا مهمة لا بد من بيانها وهي أن هذه الآية تشهد بأن أولئك المشركين ما كانوا جادّين فيما يحكي ربنا عنهم) اهـ.
أقول: حوى هذا الكلام على مسألتين:
الأولى: أن كفار العرب ومشركيهم يعتقدون أن أصنامهم أرباب من دون الله، تخلق وترزق، وهذه تخالف صريح القرآن فيما حكاه عنهم.(215/85)
الثانية: أن قولهم فيما حكى الله عنهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ } ]الزمر: 3[،
لم يقولوه على سبيل الجد، فيما حكاه الله عنهم، وهذه المسألة الثانية من عجائب الأقوال، وغرائب المخترعات، مما سبق به كتاب "المفاهيم" غيره، وبزّه!! فالله يحكي عن المشركين قولاً يبني عليه حكماً وعند هذا أنهم غير جادين، وكأن الله حكى عنهم غير عالم أنهم ليسوا جادين، أفتراه يحكي هزلاً، والقرآن فصل؟! { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } ]الطارق: 14[.
وكلماته في هذه المسألة مما يأنف أن يقوله طالبُ علم، بل لا يقوله إلا من في قلبه زغل وفتنة، وشرك وبدعة.
يقول الله تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } ]الزمر: 3[،
هذه الآية بتمامها، أسيقت لقولٍ غير جاد؟ سبحان الله من هذا الافتراء المحض!! الذي خالف أقوال أهل العلم جميعاً، ولم يقل به أحداً من المفسرين هذا الذي فهمه صاحب المفاهيم.
قال الفخر الرازي في "تفسيره" (26/241):
(واعلم! أن الضمير في قوله: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[ عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله، وهي قسمان: العقلاء، وغير العقلاء، أما العقلاء: فهو أن قوماً عبدوا المسيح وعزيراً والملائكة، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم، ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام. إذا عرفت هذا فنقول: الكلام الذي ذكره الكفار لائقٌ بالعقلاء، أما بغير العقلاء فلا يليق، وبيانه من وجهين:(215/86)
الأول: أن الضمير في قوله: { مَا نَعْبُدُهُمْ } ضمير للعقلاء، فلا يليق بالأصنام.
الثاني: أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار في المسيح والعزير والملائكة أن يشفعوا لهم عند الله، أما يبعدُ من العاقل أن يعتقد في الأصنام والجمادات أنها تقربه إلى الله؟...) اهـ.
ولا بأس أن نشفع كلام الرازي بكلام أحد المتأخرين، هو سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن" قال:
(5/3037): (فلقد كانوا يعلنون أن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض...ولكنهم لم يكونوا يسيرون مع منطق الفطرة في إفراد الخالق إذن بالعبادة، وفي إخلاص الدين لله بلا شريك.
إنما كانوا يبتدعون أسطورة بنوة الملائكة لله سبحانه، ثم يصوغون للملائكة تماثيل يعبدونها فيها، ثم يزعمون أن عبادتهم لتماثيل الملائكة – وهي التي دعوها آلهة أمثال اللات والعزى ومناة(1) – ليست عبادة لها في ذاتها، إنما هي زلفى، وقربى لله؛ كي تشفع لهم عنده وتقربهم منه!
وهو انحراف عن بساطة الفكرة واستقامتها، إلى هذا التعقيد والتخويف، فلا الملائكة بنات الله،
ولا الأصنام تماثيل الملائكة، ولا الله – سبحانه – يرضى بهذا الانحراف،
ولا هو يقبل فيهم شفاعة، ولا هو يقربهم إليه عن هذا الطريق، وإن البشرية لتنحرف عن منطق الفطرة،
كلما انحرفت عن التوحيد الخالص البسيط الذي جاء به الإسلام، وجاءت به العقيدة الإلهية الواحدة مع كل رسول.
وإنا لنرى اليوم في كل مكان (عبادة) للقديسين والأولياء تشبه عبادة العرب الأولين للملائكة، أو تماثيل الملائكة، تقرباً إلى الله بزعمهم، وطلباً لشفاعتهم عنده. وهو سبحانه يحدد الطريق إليه، طريق التوحيد الخالص الذي لا يلتبس بوساطة أو شفاعة، على هذا النحو الأسطوري العجيب).
__________
(1) 1 ) : ليست اللات والعزى ومناة تماثيل للملائكة، كما يعلم من تفسير سورة النجم، بل هي تماثيل لبشر أو حجر.(215/87)
وفي تفسير "التحرير والتنوير" (23/322): (والاستثناء في قوله: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } ]لقمان: 25[،استثناء من علل محذوفة. أي:
ما نعبدهم لشيءٍ إلا لعلّة أن يقربونا إلى الله، فيفيد قصراً على هذه العلة قَصْر قلب إضافي...) انتهى.
ولو نقلت ما قاله المفسرون لبلغ مئاتٍ من الصفحات، ولكن فيما ذكر فتحُ بابٍ لمن أراد مزيداً من النقول.
فبهذا ظهر أن قول صاحب المفاهيم: (وإن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحي ربنا عنهم) من المفاهيم الباهتة التي تفرد بها بعد أربعة عشر قرناً، ولازمها أن هذا القرآن فيه كلام يحكيه رب العالمين ليس صدقاً بل هزلاً، فبئست المقالة.
وقد أظهر صاحب المفاهيم هذا اللازم حيث قال (ص27): (وقل ذلك أيضاً في قوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ]لقمان: 25[، فإنهم لو كانوا يعتقدون حقاً أن الله تعالى الخالق وحده، وأن أصنامهم لا تخلق لكانت عبادتهم لله وحده دونها) اهـ.
وهذا كلام لو مزج بماءٍ فراتٍ لمزجه، ويأتي رده في المسألة التالية كلامي هذا.
توحيد الربوبية والإلهية
أما المسألة الأولى: وهي زعمه أن كفار العرب الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كفروا وأشركوا؛ لأنهم اعتقدوا أن أصنامهم أرباب، تخلق وترزق، فصاحب المفاهيم يظن أن كفار العرب لم يكونوا يقولون بأن الله خالقهم، وذكر آية لقمان والزمر: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ]لقمان: 25[، فقال: إنهم لا يعتقدون ذلك، وإنما حكى الله عنهم ما لم يعتقدوه كما مر نقله بنصه آنفاً.(215/88)
وهذه المسألة أصل ضلال كثير من الخلق، وأصلها الذي سبَّب نشرها بين الناس هو منطق اليونان المذموم، ومن تتلمذ له من أهل الكلام المشؤوم، وهي القاعدة التي ارتكز عليها أتباع أولئك الأقوام في تفسير كلمة التوحيد.
والحق الذي لا مرية فيه وأطبق عليه كل العلماء وهو صريح القرآن، أن مشركي العرب في زمن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعتقدون أن الله خالقهم ورازقهم، فهم مقرون بتوحيد الرب بأفعاله، من الخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة والتسخير ونحو ذلك من أفعال الرب، فلم يكونوا يعتقدون مشاركة أحدٍ له في ذلك، وهو الذي سماه العلماء: (توحيد الربوبية).
فهم مقرون بهذا التوحيد، ولم يدخلهم في الإسلام، وليسوا مقرين بتوحيد الله بأفعالهم: كالدعاء والاستغاثة والرجاء والخوف والمحبة والنذر والذبح ونحو ذلك، مما سماه العلماء: (توحيد الألوهية)، أي: توحيد العبادة.
وقد نوع الله جل وعلا في كتابه الكريم الدلائل في إقرار المشركين بتوحيد الربوبية، وإشراكهم في الألوهية، بما إذا قرأه المسلم زاد تبصراً في حالهم، وفقهاً في عقيدتهم.
النوع الأول من الدلائل على ذلك: كقوله تعلى في سورة (يونس): { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } ]يونس: 31[.(215/89)
وقال عز وجل في سورة (المؤمنون): { )قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } ]المؤمنون: 84-89[، فتأمل تعقيبه بـ { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } ، والنكتة فيه أن من أقر بكل هذا ولم يوحد الله بالعبادة فهو مسحور، سحر جاهٍ أو سحر رياسة، أو نحوه.
وقال تعالى اسمه وتعاظم في سورة (العنكبوت): { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ *اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } ]العنكبوت61-63[. وقال تعالى في (لقمان): { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } ]لقمان: 25[، وفي (الزمر): { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ]الزمر: 38 [الآية. وغير هذه الآيات في القرآن.
وهي ظاهرة في أن اعتقاد المشركين: أن لا رازق إلا الله، وأنه تعالى مالك السمع والأبصار، والمحي المميت، وهو مدبر الأمر.(215/90)
وأنه تعالى له الأرض ومن فيها، وله السماوات السبع والعرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء، ليس لأحدٍ ملك، وأنه يجير ولا يجار عليه.
وأنه خالق السماوات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، وأنه منزل القطر، ومحي الأرض بعد موتها. كل هذا اعتقاد مشركي العرب وغيرهم، حكاه القرآن عنهم، وألزم أولئك بأنهم ما داموا مقرين بذلك فَلِمَ لَمْ يوحدوه بعبادته؟! ولِمَ يتخذون شفعاء يطلبون شفاعتها من عقلاء أموات، أو جمادات؟!
وصاحب المفاهيم ينكر هذا ويقول: إن هؤلاء المشركين لم يقروا بما حكاه الله عنهم، فيا لها من جراءة ما بعدها جراءة!!
النوع الثاني: كقوله تعالى في سورة (الأنعام): { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } ]الأنعام: 19[، فهذه الآية الكريمة أفادت أن المشركين يشهدون بأن الله إلههم، ولكنهم يقولون إن معه آلهة أخرى، وهذه الشهادة منهم أكدت بالقسم وبأداة التأكيد (إن)، وأكدت باللام.
فلفظ (مع) في قوله تعالى: { أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى } يدل على أنهم مقرون بربوبية الله، وكذا بألوهيته، لكنهم جعلوا معه آلهة أخرى، جعلوها مع الله، فشركهم من حيث إشراكهم آلهة مع الله يتوجهون إليها كوسائط توصلهم إلى الله، وترفع حاجاتهم، وتلبي طلبهم بالدعاء لها، هذا اعتقادهم ودينهم.(215/91)
وجاء مثل هذا المعنى في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ]الحجر: 95-96[، وقوله: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } ]المؤمنون: 117[، وقوله تعالى في آيات (النمل): { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } ]النمل: 60[، وقوله: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } ]النمل: 61[، وقوله: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } ]النمل: 62[، وقوله: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ]النمل: 63[، وقوله: { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ]النمل: 64[،وقوله تعالى: { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } ]الشعراء: 213[، وقوله تعالى: { الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } ]قّ: 26[، والآيات كثيرة، يذكر الله في كتابه ما يعتقده المشركون أن مع الله إلهاً، فهم مقرون بربوبية الله وأحديته، ولكن يتخذون معه آلهة في العبادة، ومن تأمل هذا وتدبر تلك الآيات الكريمات العزيزات، انفتحت له من العلم أبوابٌ ولج منها إلى الفهم الصحيح لما بعث الله به رسله.
النوع الثالث: كقوله تعالى: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } ]الأنعام: 148[، وقوله: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ } ]الرعد: 33[، في الرعد وغيرها من الآيات المفيدة أنهم مقرون على أنفسهم بالشرك، في العبادة بل القرآن كله في مخاطبته للمشركين مضمن هذا.(215/92)
ولفظ الشرك لا يكون في لسانٍ إلا ومعناه إشراك شيئين في حكم، فهم مع اعترافهم بشركهم مقرون بربوبية الله، ولكنهم أشركوا به في الإلهية.
النوع الرابع: إخباره تعالى عن هؤلاء المشركين الذين كَذَّبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاربوه وقلوه، أنهم
لا يشركون إلا في الرخاء واليسر،لا في الشدة والكرب والعسر، فهم حين ذلك مخلصون لله وحده
لا يدعون سواه، ولا يتخذون وسائط . وهذا النوع متعدد في القرآن الكريم العزيز، كقوله تعالى: { حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ]يونس:
22[، وقال تعالى: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } ]العنكبوت: 65[، وقال: { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } ]لقمان: 32[. فيا من قال: إن أولئك الكفار يشركون بربوبية الله لا في عبادته؛ ويتأول آياتٍ تأويلاً من نوع اللعب!
يا من قال ذلك! أفيدعو أولئك مخلصين في حالة الشدة من لم يعتقدوا ربوبيته وإلهيته؟!(215/93)
إن الحق الذي لا يجوز المحيد عنه هو الذي دل عليه القرآن، من إقرار المشركين بربوبية الله، وكذا بألوهيته، لكنهم أشركوا مبررين صنيعهم بتأويلات وشبهات باطلة، فإذا كمان الشدة والكرب، أخلصوا دينهم لله، وتركوا طلب الدعاء من غير الله، وتركوا الاستغاثة بغير الله، أخلصوا ذلك كله لله، ونسوا غيره من الملائكة والأنبياء والصالحين.
النوع الخامس: كقوله تعالى في آخر سورة (يوسف): { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ }
]يوسف: 106[، وإيمانهم بالله هو قولهم: الله خالقنا ورازقنا، ومميتنا وحيينا، وإشراكهم هو جعلهم لله
شريكاً في عبادته ودعائه، فلا يخلصون له بالطلب منه وحده، ونحو هذا قال أهل التأويل: ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وعامر، وقتادة، وعطاء، وجمع كما في "تفسير ابن جرير" (13/50-51)، وابن أبي حاتم.
هذا هدى، فهل لهؤلاء من آذانٍ صاغية، وقلوب تخاف الآخرة، ونفوسٍ تكره النار وغضب الجبار؟! اللهم! اهدهم فإنهم لا يعلمون.
الدليل من السنة على إقرار المشركين بتوحيد الربوبية
وكذا في السنة أدلة على إقرار المشركين بالربوبية، وأن ذلك الإقرار لا ينفع إلا إذا شهد المقر بالربوبية (أن لا إله إلا الله)، والإله هو المعبود كما قال تعالى: { أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّه } ]هود: 26[، فمن ذلك:
ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (2/4) عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع
الفجر، وكان يستمع الأذان، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار. فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { على الفطرة } ، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { خرجت من النار } ، فنظروا فإذا هو راعي معزى).(215/94)
فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن قال: (الله أكبر): { على الفطرة } ، أفاد فائدة وهي أن هذا القول وما يدل عليه من توحيد الربوبية، هو في الفطر مستقر(1)، ولذا لم يحكم بنجاته من النار وإسلامه إلا بقوله: (أشهد أن لا إله إلا الله)، شهادة متضمنة نفي كل معبود سوى الله، وهو توحيد الألوهية، ودلالة هذا ظاهرة.
ومن ذلك ما جاء في "صحيح مسلم" (15/11 مع "شرح مسلم") عن عمرو ابن الشريد عن أبيه قال: (ردفتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: { هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ } ، قلت نعم، قال: { هيه } ، فأنشدته بيتاً، فقال: { هيه } ، ثم أنشدته بيتاً، فقال: { هيه } ، حتى أنشدته مئة بيت).
ورواه مسلم من طريق أخرى بمثله، وزاد: قال: { إن كاد ليسلم } ، وفي الطريق الأخرى طريق
عبد الرحمن بن مهدي قال: { فلقد كاد يسلم في شعره } .
قال النووي: (واستزاده من إنشاده لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث) اهـ.
ومن شعر أمية قولُه:
الحمد لله ممسانا ومصبحنا بالخير صَبَّحنا ربي ومَسَّانا
ربُّ الحنيفية لم تنفد خزائنها مملؤة طبق الآفاق أشطانا
ألا نبي لنا منا فيخبرنا ما بعد غايتنا من رأس هجرانا
بينا يُريَّبُنا آباؤنا هلكوا وبينما نقتفي الأولاد ألانا
وقد علمنا لو أن العلم ينفعنا أن سوف تلحق أخرانا بأولانا
وقد عجبت وما بالموت من عجب ما بال أحيائنا يبكون موتانا
وشعره معروف سائر، وكثير منه في نحو هذه المعاني، المفردة رب الخليقة بالربوبية، المؤمنة بالبعث.
فانظر إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إن كاد ليسلم } ، فلم يحكم له بالإسلام بمجرد توحيده رب الخليقة بالخلق والإحياء والإماتة ونحو ذلك،وهو من الجاهلين الذين كانوا في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) 1 ) : ومن ذلك قول أوس بن حجر: وباللات والعزى ومن دان دينها وبالله إن الله منهم أكبرُ.(215/95)
والإكتفاء بهذين الحديثين من سنة حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - فيه كفاية لمن أراد الحق وسعى إليه.
ومن شعر العرب الدال على إقرارهم بالربوبية، قول أوس بن حجر(1):
وباللات والعزى ومن دان دينها وبالله إن الله منهن أكبر
ومنه قول درهم بن زيد الأوسي(2):
إني ورب العُزّى السعيدة والله الذي دون بيته سَرَفُ!
وفي الباب أشعار كثيرة فيها الإقرار بالربوبية، ولكني أجتزأت منها بما ذكرت؛ لأجل ورود ذكر الله جل جلاله وأصنامهم في بيت واحد؛ ليكون أدل على المراد، وأثبت عند الحجاج.
وكانت تلبية نزار إذا ما أهلت:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك(3).
المجاز العقلي
وتعلق صاحب المفاهيم به في تبرير أعمال الشرك ووسائله
أكثر صاحب المفاهيم من تبرير وتسويغ ما يقوله المتوسلون بالذوات والجاه والحرمة ونحوها، وكذا
ما يقوله المتخذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصالحين واسطة بينهم وبين الله في الدعاء والشفاعة، وكشف الضراء وجلب السراء، وغفران الذنوب بحجة المجاز العقلي.
وكذا ما يفعله العاكفون على القبور من استغاثتهم بالأموات، وطلب الشفاعة من الصالحين المقبورين وغيرهم ممن قد لا يعرفون بصلاح، يجادل في الحكم عليهم بالشرك بحمل صنيعهم على المجاز العقلي. والاحتجاج بالمجاز العقلي، وإن احتاج إليه بعض المتأخرين من البيانيين لتخريج بعض أنواع الإسناد في قصائد الشعراء، أو في كلام العرب، فلا يجوز لتخريج الكلام الذي ظاهره شرك وكفر، بحجة صدوره من مُقِرًّ بوحدانية الخالق، وهذا مجمع عليه بين علماء الشريعة: الفقهاء والمحدثين.
__________
(1) 1 ) : "الأصنام" (ص17).
(2) 2 ) : "الأصنام" (ص19).
(3) 3 ) : "الأصنام" (ص7).(215/96)
ولم يحتج بالمجاز العقلي في منع التكفير إلا قلة من متأخري المنتسبين للعلم، بعد ظهور دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -، لجأوا إلى ذلك تخلصاً من الإنكار عليهم، وتبريراً لأوضاعهم الفاسدة، وتخريجاً لأقوالهم الشركية، وهو عمل باطل لأن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يصار إلى المجاز
إلا بدليل؛ ولأن فتح هذا الباب يُحْيي شجرة الشرك.
وإليك شيئاً من كلامه:
قال (ص16) تحت عنوان "(المجاز العقلي واستعماله):
(الاعتقاد الصحيح هو اعتقاد أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده، فهو الخالق للعباد وأفعالهم،
لا تأثير لأحدٍ سواه، لا لحي، ولا لميت. فهذا الاعتقاد هو التوحيد المحض، بخلاف ما لو اعتقد غير هذا فإنه يقع في الإشراك) اهـ.
أقول: هذا الاعتقاد هو توحيد الربوبية، وما هو بالتوحيد المحض، بل التوحيد المحض هو ما جمع بين
توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وما لم تجتمع فيه هذه الثلاثة فليس بتوحيد محض.
وقد قدمنا بالأدلة القاطعة من القرآن والسنة أن المشركين الذين بُعِثَ إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقرين بما سماه صاحب المفاهيم "توحيداً محضاً".
اسمع قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ
لاَ يُؤْمِنُونَ } ]يونس: 31-33[، فهم مقرون بأن الله هو الخالق وحده، والمحي المميت وحده، وهو وحده مدبر الأمر، ومع ذلك أخبر أنهم ليسوا مؤمنين، وأنهم على ضلال.(215/97)
فاحتج عليهم بما يقرون به: وهو توحيد الربوبية، على ما ينكرونه توحيد سبحانه بأفعالهم وهو الألوهية، ولا بُدّ عند الاحتجاج أن يقدم للمعارض ما به يقر، فانظر إلى لطيف هذه الحجة واستعمال القرآن لها.
والمشركون الذين بعث إليهم نبي الله إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – مقرون بذلك المعنى، ومقرون بأن الله خالق ما يعملون، فهم مخلوقون وأفعالهم مخلوقة لله.
ولذا احتج عليهم إبراهيم – عليه السلام – بما يقرون به فقال لهم ما أخبر الله عنه: { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ]الصافات: 95-96[ فأنكر عليهم العبادة: وهي صرف القلب لهذه المنحوتات المصورة على صور الوسائط، وحجهم بما يقرون به، وهو خلق الله لهم
ولما يعملونه، فأين هذا من التوحيد المحض، وهم المشركون شركاً محضاً؟!
وقوله: (لا تأثير لأحد سواه لا لحي ولا لميت الخ) تفوح منه رائحة قول غلاة الصوفية القائلين بوحدة الوجود، وأنه ما ثمَّ إلا الله، وأفعال العباد هي أفعاله، وقول صاحب المفاهيم: (بخلاف ما لو اعتقد غير هذا فإنه يقع في الإشراك)، نابع ومتفرع عن أصل أهل الكلام المذموم، وهو أن غاية التوحيد توحيد
الربوبية، والمشرك من اعتقد وجود خالقين، أو نابع من القول بوحدة الوجود كما ذكرنا، ومن عرف حال المشركين الذين أخبر الله بأحوالهم ومعتقداتهم، تيقن بطلان هذا الكلام العقلي لا الشرعي، فإنه ليس له من دلائل الكتاب السنة نصيب، بل القرآن كله في تقرير خلافه.
ولكن تتلمذ فئام لأهل الكلام وكتبهم، وانصرفوا عن تدبر كتاب ربهم، والإشراك أقسام:
منها: ما يقع في الربوبية كاعتقاد الثنوية القائلين بوجود خالقين.
ومنها: ما يقع في الألوهية، كما هو شرك أكثر بل كل من بعثت لهم الرسل الذين قصَّ الله علينا في القرآن أخبارهم.(215/98)
فما من منازع في توحيد الربوبية عند العرب إلا شرذمة لا يصح أن تنسب لهم مقالة كما قاله جمع من العلماء، وما أولئك بالموحدين توحيداً محضاً.
قال صاحب المفاهيم (ص21):
(والأمر الجامع في ذلك أن من أشرك مع الله جل جلاله غيره في الاختراع والتأثير، فهو مشرك، سواء كان الملحوظ معه جماداً، أو آدمياً، نبياً، أو غيره، أو ملكاً، أو جناً، أو عملاً عمله.
ومن اعتقد السببية في شيء من ذلك اطردت أو لم تطرد، فجعل الله تعالى سبباً لحصول مسبباتها، وأن الفاعل هو الله وحده لا شريك له فهو مؤمن، ولو أخطأ في ظنه ما ليس بسببٍ سبباً؛ لأن خطأه في السبب لا في المسبب الخالق المدبر جل جلاله، وعظم شأنه).
أقول: وهذا الاعتقاد هو عين ما كان يعتقده مشركوا العرب حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل، لا فرق، فكيف تجري هذه الشبه في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد أكرمها الله ببعثة نبيه وإجابته واتباعه؟! ثم إن أهل وحدة الوجود يقولون: إن من اعتقد أن هناك فاعلاً غير الله فقد أشرك وهو قول الجبرية أيضاً، وذلك
ما يدل عليه كلامه.
والمشركون لم يعتقدوا أن أوثانهم تخلق بنفسها، ولا أنها تنفع بنفسها ولا أنها تفعل هي، بل الفاعل
عندهم والمدبر هو الله كما قال تعالى: { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ } ]يونس: 31[، وقال: { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ]المؤمنون: 88-89[، فإذا أخبرنا الله أن أولئك الأقوام إنما أشركوا شرك واسطة، لا شرك خلق وإيجاد، أشركوا شرك تسبب لا شرك استقلال، فلماذا لا نتبع ما قال الله وندع قول أحفاد اليونان من أهل الكلام؟!(215/99)
إنها فتنة عظيمة شديدة عسى الله أن يخرج أقواماً منها، قال تعالى إخباراً عن أهل النار: { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } ]الشعراء: 96-100[، فتأمل قوله تعالى حق التأمل وتدبره، واجمع بينه وبين قوله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ]لقمان: 25[، { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ]الزخرف: 87[ تعلم من ذلك أمرين:
الأول: أن تسوية المشركين معبوديهم برب العالمين لم تكن في الخلق والإيجاد، بل سووهم برب العالمين في التوجه والعبادة.
فحق الله أن لا يتوجه بطلب الغفران ورفع الدرجات والعطاء والرحمة إلا منه. وهم توجهوا بطلب الغفران والعفو وطلب الخير من أصنامهم الممثلة على صور الصالحين، وكان شعارهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[، وكذا قولهم: { هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } ]يونس: 18[.
فتبين باليقين القاطع أن تسويتهم معبوداتهم برب العالمين، إنما هي في المحبة والتعظيم والتوجه والقصد، وطلب الشفاعة والواسطة.
فالقرآن حق كله، وأحسن وأعلى وأغلى ما فسر به القرآن القرآن.
الثاني: أن اتخاذ الشفعاء ودعاء المقبورين طلباً لشفاعتهم شرك وهو عين شرك الجاهلين، وشركهم كان في الألوهية في التسوية بين الله وبين خلقه في التوجه والقصد طلباً للشفاعة والدعاء والتسبب،
وقول صاحب المفاهيم: (إن هذا سبب ) كذب على الشرع، فإن الله لم يجعل هذا سبباً لقبول الدعاء
ولا أمر به ولم يشرعه لعباده.(215/100)
ومن توجه إلى كتاب الله وتفقه فيه وتبصر بآياته وما أخبر الله فيه عن عقائد المشركين وعقائد الموحدين، وأحوال الرسل مع أقومهم وما يتصل بذلك من بيان التوحيد والشرك فإنه من المهتدين حقاً.
وسيقوم بقلبه من محبة الله وتوحيده، وتعظيمه وطاعته ما به يصل برحمة الله إلى اليقين في الدنيا، والجنة والنعيم في الآخرة.
اللهم! يسر لنا أسباب ذلك منة منك وتكرماً.
قال صاحب المفاهيم(ص25):
(وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل إلى تكفيرهم) اهـ.
أقول: يعني بهذا أن من قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته: أستغيث بك يا رسول الله! إذا كان القائل موحداً فيجب حمله على المجاز العقلي، إذ لا يعقل استغاثة موحد بالأموات على سبيل الاستقلالية عند الكاتب.
بل المعنى الذي طلبه المستغيث هو التسبب، وهذا المعنى كثير وروده في كتاب "مفاهيم يجب أن تصحح"، والحق ينبني على أن هذه المقدمات والأمور التي يعلل بها للمستغيثين باطلة مقدماتها، وباطلة نتائجها، وكشف ذلك يتم بأمرين:
الأول: أن يقال: ومن قال إن المستغيث والداعي إذا قصد التسبب لا يكفر، بل القرآن لما كشف حال العرب أعلم أنهم لم يكن شركهم إلا بقصد التسبب لا الاستقلالية، كما قال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } ]يوسف: 106[، أي: وما يؤمن أكثرهم بأن الله هو خالقهم وما يعملون، وهو المحي المميت، وأنه الذي يجير ولا يجار عليه إلا وهم مشركون به في اتخاذ الأصنام وسائط، واتخاذ الأرواح التي صورت على أجسام أصحابها الأصنام سبباً لتحصيل مقصودهم فيما يزعمون.(215/101)
أفلا ترى إلى أنهم إذا أيقنوا بالهلاك في البحر أخلصوا الدعاء لله، فلم يتخذوا وسيلة إليه من المخلوقين كما يفعلونه في الرخاء؟ فعلم من ضد أحوالهم وبنصّ القرآن أن أولئك المشركين ما كانوا يعتقدون الاستقلالية، بل كانوا يعتقدون التسبب بما لم يجعله الله سبباً ولم يأذن به، فلم لم يحتج لهم بالمجاز العقلي؟! ولم كفروا بقولهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[، وهم إنما جعلوهم سبباً لتقريبهم إلى الله زلفى؟!
الثاني: أن تخريج أقوال عباد القبور - المستغيثين بالموتى، الداعين إياهم ليشفعوا لهم عند ربهم، المحبين أصحابها أعظم من محبتهم لله - على المجاز العقلي منكر كبير، وخطأ عظيم مخالف لحقيقة حالهم؛ ذلك أن كثيراً يعكفون على قبور الميتين ويعتقدون أن لصاحب القبر تصرفاً في الكون، وأنه يفعل ما شاء مطلق التصرف(1) بإعطاء الله له، وهذا كفر أعظم من كفر اعتقاد التسبب، وهذا لم يخطر على أذهان الجاهلين من العرب، ولذا تجد هؤلاء المشركين المعاصرين ينادون معبودهم، ويستتغيثون به ولو كانوا بعيدين عنه بعداً كبيراً، لاعتقادهم بأن له قوة أكبر من قوتهم البشرية، أعطاه الله إياها، وفوض له إصلاح شؤون طائفة من الخلق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ومن سمع أقوال المستغيثين بأصحاب القبور علم أنهم يعتقدون أن لهم شيئاً من التصرف والاستقلالية، وهو كفر فوق كفر التسبب والواسطة.
__________
(1) 1 ): ونقل موسى محمد علي في كتابه "اتوسل والوسيلة" (ص229) عن محمد عبد الله الشكاز قوله الآتي مستحسناً له مستسهداً له، فال: (الرجال أربعة: { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ، وهم رجال الظاهر شهداء الجهاد البواسل، و { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } ، وهم رجال الباطن، جلساء الحق تعالى ولهم المشورة...ثم قال: فرجال الظاهر هم الذين لهم التصرف في عالم الملك والشهادة) اهـ.(215/102)
قال أبو الفضل الشهاب الألوسي في تفسيره "روح المعاني"(6/115): (ولا أرى أحداً ممن يقول ذلك
إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب، ويسمع النداء، ويقدر بالذات
أو بالغير على جلب الخير أو دفع الأذى وإلا لما دعاه، ولما فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم).
فالألوسي يبصر عبدة القبور المستغيثين بأصحابها، ويعرف ما يدور بخلدهم من كثرة ما يراهم، وعلى
مثل حال من ذكر كثير من الذين يصرفون وجوههم إلى غير الله.
وقد وقع في هذا صاحب المفاهيم حيث قال(ص91) في وصف نبي الله ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -:
(فإنه حي الدارين، دائم العناية بأمته، متصرف بإذن الله في شؤونها، خبيرٌ بأحوالها...) اهـ، فإنه يُلْمِح
ويشير إلى ذلك المعنى الذي عليه عبدة القبور، من اعتقاد تصرف المقبورين من الأنبياء والصالحين بشؤون الناس.
قال صاحب المفاهيم (ص95):
(فالقائل: يا نبي الله اشفني واقض ديني، لو فرض أن أحداً قال هذا فإنما يريد: اشفع لي في الشفاء، وادع لي بقضاء ديني، وتوجه إلى الله في شأني، فهم ما طلبوا منه إلا ما أقدرهم الله عليه، وملكهم إياه من الدعاء إياه من الدعاء والتشفيع.
وهذا هو الذي نعتقده فيمن قال ذلك، وندين الله على هذا، فالإسناد في كلام الناس من المجاز العقلي الذي لا خطر فيه على من نطق به) اهـ.
أقول:
أولاً: ومن قال إن الدعاء والشفاعة يملكها ويقدر عليها من حياته برزخية نبياً كان أو غيره؟ فهذه قالة فاسدة يقيناً.
وقد فصلت في موضعٍ آخر حكم الواسطة، وكذا حقيقة الشفاعة، وكيف تطلب، فيراجع في محله.
الثاني: أن هذا القول فيه من الزعم على الإطلاع على قلوب عباد القبور شيء كثير، وكأنما صاحب المفاهيم كفيل بكل من دعا أصحاب القبور أن يدافع عنهم! وكان قصارى ما يجب عليه إنصافاً وعدم مكابرة أن ينسب ذلك إلى اعتقاده هو نفسه، وإلا فقلوب الناس لا سبيل إلى معرفة حقيقة ما فيها.(215/103)
الثالث: أن من نتائج هذا القول السيئ إلغاء أقوال الفقهاء في باب حكم المرتد، إذ كل من صدر منه قولٌ شركي وكفري سيخرج من عهدته بالمجاز العقلي.
فهؤلاء المنافقون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا في غزوة تبوك: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب
بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء) فنزل فيهم قول الله جل وعلا: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ]التوبة 65-66[ الآيات، أخرجه ابن أبي حاتم بإسنادٍ حسن، وأخرجه ابن جرير وغيره.
فلمْ يعذرهم عن استهزائهم، ولا قبل منهم، ولوكانوا في هذا الزمان لخرّج أصحاب المجاز العقلي قولهم، ولم يكفروهم، وكذا من قال من الزنادقة: الشيطان ربي، أو الحلاج إلهي، أو الولي الفلاني مطلع على سري، أفيقول فقيه: إن كان موحداً حمل قوله على: الشيطان عصى ربي، والحلاج أضله إلهي، أو رب الولي الفلاني مطلع سري؟!
هذا ما لم تحم حوله أقوال فقيه، ولا خرَّجها مخرج، ولا اعتذر عنهم بذلك معتذر، ولو أجيز ذلك لسمعت الأقوال الكفرية الشركية صباح مساء من الفسقة والمنافقين، ولطعنوا جهاراً في الدين، ثم إذا أتت الأمور عند الحاكم أحال كل منهم على المجاز العقلي، وخَرَجَ من عهدة الشرك.
أفيقول بهذا حاكم؟! أم يتسيغه مفتٍ؟! أم يقول به طالب علم؟! أم يفوه به منتسب لأهل العلم؟! إن قبل هذا قابل فأبشر بعزةٍ لدين الزنادقة، وتولٍ لدين الموحدين، دين رب العالمين، ثم أبشر بكل شر.
أفيجوز بعد هذا أن يحتج محتج بالمجاز العقلي الحادث؟! فهذا مذهب المالكية في الردة لا يقبل المجاز العقلي، فمن ذلك ما قاله الدردير في "شرحه الصغير"(6/144) وما بعدها: (الردة: (كفر مسلم) متقرر إسلامه بالنطق بالشهادتين مختاراً، يكون:(215/104)
(بصريح) من القول: كقوله أشرك بالله.
(أو قول يقتضيه) أي: يقتضي الكفر، كقوله: جسم كالأجسام.
(أو فعل يتضمنه) أي: يستلزمه لزوماً بيناً)).
ثم قال في حكم من سبّ نبياً(6/154):
((ولا يعذر) الساب (بجهل)؛ لأنه لا يعذر أحد في الكفر بالجهل،(أو سَكْرٍ) حراماً(أو تهور): أي كثرة
الكلام بدون ضبط.
ولا يقبل منه سبق اللسان(أو غيظ) فلا يعذر إذا سب حال الغيظ بل يقتل الخ(أو بقوله: أردت كذا) فلا يقبل منه ويقتل)) اهـ.
فانظر إلى عدم الاعتداد بقوله: أردت كذا، وهو عين المجاز العقلي، الذي يزعمه الزاعمون.
وفي "شرح الشيخ عليش على مختصر خليل"(4/477) قال: ((أو) سب لـ(تهور) أي: توسع ومبالغة (في) كثرة (كلامه) وقلة مراقبة وعدم ضبطه وعجرفته، فلا يعذر بالجهل ولا بدعوى زلل اللسان)) اهـ.
وعند الحنفية من التكفير بمجرد القول ما يطول، وقد اختلفوا في قول القائل من الخطباء في ألقاب السلطان: العادل الأعظم، مالك رقاب الأمم، سلطان أرض الله، مالك بلاد الله، حكى ابن نجيم في "البحر الرائق"(5/124) الخلاف في كفره، والموحد ظاهر مرادُه، وأنه لا يعني بمدحه السلطان، إضافة هذه الأشياء له حقيقة، بل إنما يعني به الإسناد المجازي، وهو المجاز العقلي، فلم يمنع ذلك من حكم بعضهم بكفره.
ومقصودنا التمثيل لا التتبع، وبما ذكرنا يبطل تبرير الأقوال الشركية والكفرية بالمجاز العقلي.
فصل:
قال صاحب المفاهيم (ص16):
(ولا شك أن المجاز العقلي مستعمل في الكتاب والسنة) انتهى.
أقول: قال القزويني في "الإيضاح في علوم البلاغة"(ص28-29) بعد سياق حد المجاز العقلي وأمثلته: (واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة، بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيء الشيء، وتصلحه له).
ثم قال: (وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام) اهـ.(215/105)
وهذا الكلام من شيخ البلاغة القزويني يبطل أن تبرر أقوال عبدة القبور بالمجاز العقلي، إذ استعماله وتعاطيه ليس سهلاً، خاصة في الأمور الشرعية، وأعلاها الكفر والإيمان.
وأما في قول أديب أو شعر شاعر فيتعاطى مع شيء من العسر، والسكاكي وهو من هو أنكر وجوده في الكلام، وهو وإن كان يسميه تسمية أخرى، فإخراج التسمية يبعد شيئاً من تطبيقاتها.
وما من شك في أن أولئك المستغيثين بعباد الله الصالحين ممن وارتهم القبور لم يحم حول خاطرهم معنى المجاز العقلي، بل ولا عرفوه ولا سمعوا به والقول بالمجاز العقلي عند من أجازه مقترن بقصد المتكلم به، أما من لم يحم حوله له بال فما يخرج قولهم عليه.
وقد اختلف العلماء في وقوع المجاز أصلاً في اللغة، وفي القرآن، فنفى جماعة من محققي العلماء وقوعه في اللغة: منهم أبو إسحاق الإسفرائيني، وأبو علي الفارسي، قال: إنه لا مجاز في اللغة أصلاً، أفاده
ابن السبكي في "جمع الجوامع" من كتب الأصول.
ونصر هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة شمس الدين ابن القيم في "الصواعق" وغيرهما.
قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز"
(ص7):
(ثم إن القائلين بالمجاز في اللغة العربية اختلفوا في جواز إطلاقه في القرآن، فقال قومٌ: لا يجوز أن يقال في القرآن مجاز منهم: ابنُ خُوَيْز منداد من المالكية، وابن القاص من الشافعية، والظاهرية، وبالغ في إيضاح منع المجاز في القرآن الشيخ أبو العباس ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، بل أوضحا منعه في اللغة أصلاً.
والذي ندين الله به ويلزم قبوله كل منصف محقق أنه لا يجوز إطلاق المجاز في القرآن مطلقاً على
كلا القولين) اهـ.
ولا يحسن في مثل هذا المختصر الإطالة بتفصيل الإجمال، ولكن ينبغي أن يعلم أن النافي للمجاز
- وهم طائفة من أئمة الأصول والعربية والعقائد- يعنون منع اطراده في كل ما شاء من يجيزه.(215/106)
فالتوقف عند ما استعملته العرب في مجاري كلامها هو التحقيق، فما استعملته العرب جاز استعماله مما يفيد بسياقه غير ما يفيده بأفراده، أعني: أن تركيب الكلام يفيد ما لا يفيده أفراد الكلام.
فإن استعملت العرب هذا المعنى التركيبي صح استعماله، وهو حقيقة في المعنى المركب، لا في المعنى الإفرادي، ومن أراد أن لا يفرق بين ما استعملوه مركباً وما استعملوه في وضعه الأول، فسيعكر عليه ذلك نصوص كثيرة.
فما يسميه المجيزون مجازاً هو عند النافين أسلوب من أساليب اللغة العربية، واللغة العربية كلها حقيقة، والحقيقة تكون لفظية أي: يدل اللفظ على معناه بمفرده، وتكون تركيبية أي: تدل الألفاظ على معناها بتركيبها.
والفرق بين هذا وبين القول بالمجاز: أن المجاز أعم، وقول المحققين أخص، فالمدعون للمجاز يجوزون عباراتٍ وأساليب لم تعهدها العرب في كلامها، بتقدير محذوفاتٍ في الكلام وتقدير نسبٍ لا ضابط لها.
والعقل ليس أصل اللغة جزماً، بل أصل صحة الاستعمال السماع، فما جاء عنهم مستعملاً في موارده قبل، وسمي:حقيقة، وما لم يستعملوه فلا يستعمل في دلالات الألفاظ ومفرداتها، ولا في قواعدها وأبنيتها.
والمسألة معروفة مشهورة، ولا تحتمل أكثر من هذا في مثل هذه الردود المختصرة.
الباب الثالث
الشفاعة
الشفاعة
معنى الشفاعة في اللغة: تقولُ: شَفَعَ لي يَشْفَعُ شفاعةً، وتَشَفْعَ: طَلَبَ.
قال ابن سيده في "المحكم"(1/233) ونقله في "اللسان"، قال أبو منصور: (روى أبو عمر عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } ]البقرة: 255[، قالا: الشفاعة: الدعاء ها هنا.
والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره)(1).
وشفع إليه: في معنى طلب إليه.
والشافع: الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، فمعنى الشفاعة: الدعاء.
__________
(1) : "تهذيب اللغة" للأزهري(1/436-437).(215/107)
وعلى هذا يفسر موارد اللفظ في القرآن والسنة، في لفظ الشفاعة، فمما ورد في السنة ما رواه
أبو هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاته على الجنازة: { اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر له } رواه أحمد.
وعن أنس وعائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه } رواه مسلم.
وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { ما من مسلمٍ يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه } رواه مسلم.
فهذا معنى الشفاعة في وضع اللغة واستعمال الشرع.
آيات الشفاعة:
جاءت في الشفاعة آيات كثيرة في كتاب الله الكريم، فبعضها ينفي الشفاعة مطلقاً عن أحدٍ غير الله،
وأخرى فيها إثبات الشفاعة عنده تعالى وتقييد الانتفاع بهذه الشفاعة بإذن الرحمن - جل وعلا -
بالشفاعة، وفي آيات غيرها تقييد الانتفاع برضى الله - جل شأنه - عن عن المشفوع له.
فمما جاء في اختصاص الشفاعة بالله وحده ولا يملكها أحد غيره قوله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ]الزمر: 43،44[، فهذا نفي بالنص الصريح أن يملك أحدٌ الشفاعة؛ لقوله:
{ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } ]الزمر: 44[. ومن ذلك نفيه تعالى أن يكون من دون الله شفيع، قال:(215/108)
{ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } ]الأنعام: من الآية51[ وهذه الآية في المؤمنين قال: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ]الأنعام: 51[، وهذا نفي منه تعالى أن يكون للمؤمنين شفيع من دون الله، ومنه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ]البقرة: 254[.
فنفى تعالى أن يكون في ذلك اليوم شفاعة، ومنه قوله تعالى: { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ]الزخرف: 86[، وفي آيات أُخر: ذكر الله تعالى أن الشفاعة موجودة في ذلك اليوم، وتنفع بقيد وشرط: أن يأذن الله تعالى للشفيع أن يشفع.
فمنه قوله تعالى في أعظم آية في القرآن: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه } ]البقرة: 255[، وقال في أول يونس: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } ]يونس: 3[، وقال تعالى في النجم: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } ]النجم: 26[، وغير ذلك من آيات الذكر الحكيم.
وفي آياتٍ أُخر ذكر تقييد الانتفاع برضى الله، واتخاذ الشافع والمشفوع له عهداً عند الله، قال تعالى:
{ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ(215/109)
جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } ]الانبياء: 28،29[، وقال: { لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً } ]مريم: 87[.
وقال: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } ]طه: 109[، وآيات أخر
لا تخفى على من تتبع ما في الباب من آيات، فإذا تبين أن الله –تبارك وتعالى- قد نفى في كتابه شفاعة، وأثبت شفاعة، وجب على طالب الحق أن ينظر في هذه الشفاعة المنفية، والشفاعة المثبتة، ومعنى هذه وهذه، حتى لا يضل في هذا الأمر الذي ضل فيه فئام من أمة محمد، وإنما كان سبب ضلالهم أن كل فرقة أخذت بآية، وبنت عليها أحكاماً ولم تتتبَّع آيات الشفاعة في القرآن، فضربوا كتاب الله بعضه ببعض، والقرآن حق كله، والحق لا يناقض حقاً أبداً.
فالآيات الأولى دلت على أن هناك شفاعةً منفية ليست لأحدٍ من الخلق، وهذه الشفاعة هي ذاك النوع الذي يظنه المشركون في الجاهليات، وأولئك المشركون ظنوا أن الشفاعة عند الله، كالشفاعة عند غيره، وهذا أصل ضلال النصارى أيضاً.
فمن ظن أن الشفاعة المعهودة من الخلق للخلق تنفع عند الله، مثل: أن يشفع الإنسان عند من يرجوه المشفوع إليه أو يخافه، كما يشفع عند الملك ابنه، أو أخوه، أو أعوانه، أو نظراؤه الذين يخافهم ويرجوهم، فيجب سؤالهم، لأجل رجائه أو خوفه منهم، أو أن لهم حقاً عنده يوجب عليه الإجابة فيمن يشفعون فيه عنده، وإن كان يكره شفاعتهم، ويشفعون بغير إذنه.
فهذه الشفاعة هي التي نفاها الله - جل وعلا- في الآيات الأولى، وهي أن يكون للشافع حق عند الله كما للشفعاء حق عند الملوك ونحوهم.(215/110)
وهذا النوع هو الشركي الذي أشرك به من أشرك بالله، واتخذ وسائط يسألهم الشفاعة، كما كان يفعله النصارى، وأشباههم في ذلك من هذه الأمة، ويعتقدون أن لهم أن يسألوا المقبورين من الأنبياء والصالحين شفاعتهم، وهم يعتقدون أن لهم حقاً عند الله به يجيب شفاعتهم ولا يرد شفاعتهم.
وهذا غلط:
فإن دعاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- قد يرد، وليس كل ما دعوا به أجيب، بل ربما امتنعت إجابتهم لحكمة يعلمها الله - عز وجل-، إما أنه قد سبق في القضاء ما يخالف ما دعوا به، أو لأنهم دعوا وشفعوا فيمن لم يرض الله قوله، أو نحو ذلك من الموانع.
ومن المتقرر في الكتاب والسنة أن الأنبياء ليس لهم حق في أن يجاب جميع ما دعوا به، ودعاؤهم حري بالإجابة وهم أرفع من غيرهم من أممهم، فإجابة سؤالهم إما إعطاؤهم عين ما سألوا، أو تأخير ذلك بالأجر الجزيل لهم.
وقد يستنكر بعض الناس هذا لكونه لم يرتو من علوم الكتاب والسنة، ولم يتفقه فيها، ولذا سأسوق بعض الدلائل لعلّها تكُفُّ بعض الناس، وتبصر أقواماً:
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال الله له: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ]التوبة: 80[،فرسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم - - وهو خير الخلق وأعظمهم قدراً عند الله – لو استغفر لأولئك المنافقين لم يغفر لهم، وذلك لوجود مانع يمنع الإجابة، وهو أن المُسْتَغْفَر له غير مرضي عنه، فشرط الرضى غير متحقق في المشفوع له؛ فلم يُجب الداعي فيما سأل، وفي الآية بيان لهذا بقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وقد تمتنع إجابة الله للرسول - صلى الله عليه وسلم - لحكمة يعلمها الله(215/111)
- جل وعلا- كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"(8/171-172) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { سألت ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها } .
وأورد الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" قول بعض شراح المصابيح: (اعلم أن جميع دعوات الأنبياء
مستجابة) فتعقبه بقوله (11/97): (وأما جزمه بأن جميع أدعيتهم مستجابة فيه غفلة عن الحديث
الصحيح: سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعنى واحدة..الحديث) انتهى كلام الحافظ(1).
وأخرج البخاري (11/96) ومسلم (1/130-132) عن أبي هريرة وأنس ابن مالك ومسلم نحوه عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبىء دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة } ، هذا لفظ نسخة الأعرج عن أبي هريرة.
قال الحافظ في "الفتح":(وقد استشكل ظاهر الحديث بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة ولاسيما نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط، والجواب: أن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهو على رجاء الإجابة) اهـ.
وعلى هذا جرى أهل العلم وشراح الحديث، وقال الكَرْماني في"شرح البخاري"(22/122) عند شرح الحديث: (معناه لكل نبي دعوة مجابة البتة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهو على رجاء إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب) انتهى.
__________
(1) :لعل شارح المصابيح اعتمد في قوله على ما روي عن عائشة في حديثٍ: (وكل نبي مجاب) وهو حديث ضعيف؛ ولذا لم يعرج الحافظ عليه بالاستدلال، فتنبه.(215/112)
وكذلك غيره من الأنبياء لهم دعوة مستجابة، وما كل ما دعوا به أجيب، فهذا نوح قال: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ]هود: 45،46[ فسأل نوح ربه الشفاعة في ابنه فلم يعطها؛ لأنه فقد شرط الرضى على الابن، ولذا قال: { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } .
وهذا إبراهيم خليل الله - صلى الله عليه وسلم - لم تنفع شفاعته في أبيه، وأمثال هذا معلوم لمن تدبر القرآن والسنة، مقرر فيهما أوضح تقرير وأبلغه، فإذا انتفى هذا عن الأنبياء، فالصالحون أولى وأولى.
وبعض الخلوف الجهال يظنون أن للأنبياء حقاً عند ربهم لا يرد، ولا يعلمون بهذه الآيات والأحاديث، وذلك من تسويل الشيطان وتلاعبه بهم.
قال ابن جرير في تفسير آية البقرة: { وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ } ]البقرة: 123[: (فتأويل الآية إذاً: واتقوا يوماً لا تقضي نفس عن نفس حقاً لزمها الله –جل ثناؤه- ولا لغيره، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع، فيترك لها ما لزمها من حق.
وقيل: إن الله - عز وجل- خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم بها فيها؛ لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل، وكانوا يقولون: نحن أبناؤ الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وسيشفع لنا عنده آباؤنا، فأخبرهم الله
- عز وجل - أن نفساً لا تجزي عن نفس شيئاً في القيامة، ولا يقبل منها شفاعةُ أحدٍ فيها، حتى يستوفي لكل ذي حق منها حقه)(1) انتهى.
والطائفة الثانية من الآيات أفادت إثبات الشفاعة،وهي الشفاعة الشرعية المخالفة لما عليه المشركون. وأخبر الله - تعالى - أنها لا تنفع إلا بشرطين:
الأول: إذنه سبحانه للشافع أن يشفع.
الثاني: رضاه سبحانه عن المشفوع له.
__________
(1) : (2/32) ط. الأستاذ محمود شاكر.(215/113)
وهذان الشرطان لازمان لكل شفاعة ترجى منفعتها، فأما الإذن: فهو إذن الله – تعالى– للشافع، ونكتة هذا القيد وسره صرف الوجوه إلى الله وإسلامها له وتعلقها به، وترك تعلقها بغيره لأجل الشفاعة؛ لذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد وذكر ما يدل على وجوب عبادة الله وحده، وهذا الشرط لم يفهمه فئام من الناس، ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقاً، وطلبها من غير الله فعادوا لما ظنه المشركون وقصدوه.
وحقيقتها أن الله إذا أراد رحمة عبده ونجاته أذن لمن شاء في الشفاعة رحمة للمشفوع فيه، وكرامة
للشافع. وإذا سأله الشفاعة ولم يأذن الله له لم تنفعه كما في شفاعة نوح لابنه، وإبراهيم لأبيه، ونبينا
محمدٍ لعمه في استغفاره، حتى نزلت: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ]التوبة: 113 [صلى الله عليهم وسلم تسليماً.
فالرسل المذكورون صلوات الله وسلامه عليهم لم يأذن الله لهم الإذن الشرعي في أن يشفعوا: فلذا ردت شفاعاتهم، ولم يرض سبحانه فيمن شفعوا فيهم لأنهم كفار مشركون؛ فلذا لم تنفع شفاعة هؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
والله لا يرضى إلا التوحيد كما قال: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } ]آل عمران: 85[؛ ولذا فسر السلف الرضا في الآيات التي وردت بها بالإخلاص والتوحيد، وترك الشرك كله.(215/114)
فأخرج ابن جرير في "تفسيره"(16/97)، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في "تفسيره"، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(ص109) كلهم من طريق معاوية ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى في مريم: { لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً } ]مريم: 87[ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، ويتبرأ إلى الله من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله.
وهذه الطريق هي التي قال فيها الإمام أحمد هاتيك الكلمات، قال: (إن بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً).
قال الحافظ ابن حجر: (وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه فيما يعلقه عن ابن عباس) انتهى.
وهذه الطريق أعلى الطرق جودة وصحة عن ابن عباس في التفسير.وفي المعنى ما أخرجه ابن مردويه في "التفسير" في هذه الآية عن ابن عباس قال: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة).
وأخرج ابن جرير(17/13)،وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "البعث" وفي"الأسماء والصفات"
(ص109) عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } ، يقول:
الذين ارتضى لهم شهادة أن لا إله إلا الله. وهذه الطريق سلف الكلام عليها.
وفي قوله تعالى في الملائكة: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } .
قال قتادة: : { وَلا يَشْفَعُونَ } قال: لا تشفع الملائكة يوم القيامة: { إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } قال: لأهل التوحيد، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير(25/62)، وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: { وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ } ]الزخرف: 86[، قال: كلمة الإخلاص.(215/115)
شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا تقرر هذا فينبغي النظر في نصوص الشرع الخاصة بشفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ففي الحياة الدنيا طلب الصحابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لهم وهو معنى أن يشفع لهم، وهذا
لا ينازع فيه أحد، وإنما الشأن في طلب الشفاعة منه بعد موته، وأهل السنة مجمعون في القرون الثلاثة المفضلة على أمرين:
الأول: عدم مشروعية طلب الشفاعة منه في قبره، وإنما ظهر خلاف من خالف من شذّاذ الناس بعد نشاط الدعوات الباطنية كالإسماعلية والفاطمية، ومن تأثر بها كالموسوية الجعفرية وشبهها، فروجوا هذا في الناس، فأشكل على بعضهم.
فقد كان المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة لا يعرفون طلب الشفاعة منه بسؤاله إياها، بل مضى الخلفاء الراشدون ولم يسأل أحد منهم نبي الله الشفاعة بعد موته، ولو كانت مشروعة لكانوا أحرص عليها، ولم يتركوا طلبها منه بعد موته.
فلو لم يكن تغير نوع الحياة له أثر عندهم لما تركوا ذلك، وكذلك مضى التابعون وتابعوهم بإحسان وتابعوهم، حتى نشطت الدعوات الباطنية التي تسترت بالتشيع لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل إنهم ألفوا الكتب باسمهم، وهذا ظاهر لمن درس حركة إخوان الصفا والعبيديين (الفاطميين) وكلها باطنية إسماعيلية، شعارهم التشيع لأهل البيت بزعمهم، وهم أول من أحدث الكذب في النسب إلى آل البيت رضي الله عنهم.
فالمقصود من هذا أن الاستشفاع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بسؤاله الشفاعة بعد موته محدث أحدثه الباطنيون.
الثاني: وهو الأهم، أن أهل السنة مجمعون أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنواعاً من الشفاعة يشفع بها، ولم يذكروا منها طلبها منه في قبره، بل كلها يوم القيامة.
فينبغي تأمل هذا، ومن خالف إجماع أهل السنة فليس منهم.
فصل:(215/116)
وبرهان هذا الإجمال الذي قدم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه: { أول شافع، وأول مشفع } أخرجه مسلم (7/59). وهذه الشفاعة هي الشفاعة العظمى لأهل الموقف، بالنص والإجماع.
فهذه قوله - صلى الله عليه وسلم - نحكمه على من ادعى محبته وتصديقه، فقوله: { أنا أول شافع، وأول مشفع } يقتضي أولوية مطلقة لا استثناء فيها، على كل من قامت قيامته.
ومن زعم أنه بعد موته في قبره يشفع، وأن الصالحين يشفعون بعد موتهم في قبورهم فلا معنى لقوله:
{ أنا أول شافع } عند ذاك الزاعم، إذ لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع في قبره لكان يشفع من حين موته إلى أن ينفخ في الصور، وحينئذ فلا معنى لقوله: { أنا أول } ، إذ لو كان يشفع في قبره لانتفى تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - بهذه الفضيلة يوم القيامة!
فإذا كان في حياته يشفع لهم بالدعاء، وبعد موته يشفع، وبعد قيام قيامة الناس يشفع، فأي معنى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: { أنا أول شافع } ؟! فهو على هذا الفرض مستديم الشفاعة، ودائم قبولها منه عند أولئك الزاعمين، وإذا كان كذلك فأي فائدة من إنشاء هذا الخبر أنه أول شافع وأول مشفع؟! فتدبر هذا فإنه مفيد لمن أراد الله به خيراً.
فأهل السنة المتمسكون بما كان عليه الصحابة يطلبون في حال موت النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة من الله،
ويسألون الله أن يشفع فيهم نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وطلبهم هذا يكون بأمرين:
الأول: الاستقامة على تحقيق كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وفهم معناها، والعمل بمقتضاها، ومخالفة
معتقدات مشركي العرب وأشباههم ممن قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[،
وممن قالوا: { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } ]يونس: 18[، يشيرون إلى أوثانهم التي مثلوها بصور الأنبياء والصالحين.(215/117)
الثاني: التضرع والاستكانة بين يدي الله في أوقات الإجابة والأسحار أن يمنّ عليهم بالاستقامة على التوحيد، ويثبتهم عليه، وأن يشفع فيهم نبي الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - حين يأخذ الناس الكرب، فيكون أول شافع وأول مشفع.
اللهم! أنلنا شفاعته، واجعلنا ممن شفعته فيهم، ولا تحرمنا هذه الشفاعة، ونسألك الثبات على التوحيد، والعزيمة على الرشد. وبهذين الأمرين يكون أهل الحق والسنة قد أخذوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: { لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً } متفق عليه.
وهو تفسير لقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: { أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه } متفق عليه.
فأهل الحق أخذوا وأعملوا القولين، ولم يحرفوا أحد القولين عن مراد الله، فاهتدوا، فزادهم هدى وآتاهم تقواهم.
فصل
قال صاحب المفاهيم (ص78):
(زعم بعضهم أنه لا يجوز أن تطلب الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، بل ذهب البعض الآخر من المتعنتين إلى أن ذلك شرك وضلال، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } ]الزمر: 44[ وهذا الاستدلال باطل، ولا يدل على فهمهم الفاسد، وذلك من وجهين:
أولاً: أنه لم يرد نص لا في الكتاب ولا في السنة ينهى عن طلب الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا) اهـ.
أقول: هو لا يعني بقوله في الدنيا حال حياته - صلى الله عليه وسلم -، لأنه يعلم أن هذا لم يقله أحد، وإنما يعني بقوله: (في الدنيا) طلبها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بعد موته،كما صرح به بعد،بقوله (ص81): (لا بأس بطلبها منه أيضاً بعد موته) اهـ.
وهذا الوجه مردود من وجوه كثيرة، أجتزئ منها أوجهاً:
الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته لا يقال أنه في الدنيا لا عقلاً ولا شرعاً.(215/118)
الثاني: أن هذا برهان لا يقوم عند العارفين بالبراهين، إذ قوله: (لم يرد نص) متهافت، فمن أراد أن يثبت حكماً ويعتمده وينصره، فلا بد أن يأتي بنص يدل على ثبوته، فقوله بجواز طلب الشفاعة من المقبورين أنبياء وصالحين هو الذي يجب أن يبرهن عليه بنص، لا أن يقال لمن نفاه معتمداً على عمومات النصوص في حال المشركين، إنه لم يرد نص، وكذا لمن نفاه بناءً على النفي الأصلي حتى يرد دليل الإثبات؛ لأن العبادات توقيفية، لا بد لها من أدلة صريحة.
الثالث: أن قوله: (لم يرد نص) غير صحيح، فعمومات النصوص تنهى عن طلب الشفاعة من الأموات؛ لأنهم أفضوا إلى ما قدموا، فتأمل قوله: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } ]يونس: 18[ والدعاء هو العبادة، والشفاعة طلب الدعاء، فعلم أن قولهم { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا } تفسير لـ { َيَعْبُدُونَ } في أول الآية.
وهنا نقلُ أسوقه عن الرازي(1) ليستبين به الحال، وأن لا يقال إن هذا فهم(الوهابيين) فقط! قال في "تفسيره"(17/59-60): (اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنهم شفعاؤنا عن الله !..) فذكر صوراً منها قوله:
(ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى.
ونظيره في هذا الزمان: اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقادهم أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون لهم شفعاء عند الله) اهـ.
وهو كلام يقضي على قول صاحب المفاهيم من أُسَّه، حتى يواري كلامه في رمسه، من رجل هو عندهم مقدم في قوله وحسه.
__________
(1) :والنقول كثيرة، لكن اخترت الفخر لأنهم يفخرون بفهمه في (أصول الدين)، وهذا المنقول عنه من أصول الدين.(215/119)
والآيات في الشفاعة الشركية كثيرة، نوَّعَها الله جل وعلا في كتابه؛ ليتدبر باغي الخير، متحري الصراط المستقيم.
وهو إخبار عن قوم مشركين كي نبعد عن حالهم وصفتهم، وسياقة الآيات كلها وأقوال أهل التفسير والعلم فيها يخرج بي عن قصد الاختصار والإيجاز، وقد قدمت طرفاً منها، ويرجع المستزيد لأقوال المفسرين وأهل العلم عند آيات الشفاعة.
الرابع: قال تعالى في سورة سبأ: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ]سبأ: 23[، والآية قبلها قوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ]سبأ: 22،23[.
فأبطل تعالى صور الشرك التي يعتقدها المشركون في كل زمان، وهذه الآية قال فيها بعض أهل العلم المتقدمين: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك لمن عقلها.
قال الرازي في "تفسيره"(25/254-255): (واعلم أن المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة..) فذكر ثلاثة ثم قال: (رابعها: قول من قال: إنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا، فقال تعالى في إبطال قولهم: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ]سبأ: 34[، فلا فائدة لعبادتكم غير الله، فإن الله لا يأذن في الشفاعة لمن يعبد غيره، فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة) اهـ كلام الرازي بحروفه.
فتأمل قوله: إن من طلب الشفاعة فوت على نفسه الشفاعة التي تكون يوم القيامة؛ لأنها لا تنال
إلا بالتوحيد، ومن التوحيد ترك طلب الشفاعة من المقبورين، سواء كانوا أنبياء أو صالحين وإنما تطلب شفاعة الأنبياء من الله سبحانه لا منهم، وتطلب من الله بتحقيق التوحيد والاستقامة عليه، وترك طلب الشفاعة ممن لا يملكها.(215/120)
وهذا هو الحق الذي اتفقت عليه أقوال أهل العلم قبل إحداث الباطنية التعلق بالأموات، والتفلسف لإثباته بطرق عقلية لا شرعية.
وإنما ضل من ضل بسبب أنه ظن أن ما في القرآن من آيات في الشفاعة هي عن قوم مضوا وانتهوا، وهذا من مداخل الشيطان والأهواء على النفوس، وما أحسن قول شمس الدين ابن القيم(1) على هذه الآية: (فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً ونجاةً وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك وموارده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً.
وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك.
ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة؛ إذا
نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره
أو شر منه، أو دونه، فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه) اهـ.
قال صاحب المفاهيم (ص78):
(ثانياً: أن هذه الآية لا تدل على ذلك، بل شأنها شأن غيرها من الآيات التي جاءت لبيان اختصاص الله سبحانه وتعالى بما هو ملك له دون غيره، بمعنى أنه هو المتصرف فيه، وهذا لا ينفي أنه يعطيه من يشاء إذا أراد فهو مالك الملك،يعطي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء..) الخ كلامه.
ثم قال:
(كذلك الشفاعة كلها له، وقد أعطاها للأنبياء وعباده الصالحين، بل وكثير من عامة المؤمنين كما نطقت به صحاح الأحاديث المتواترة معنوياً، وأي حرج في أن يطلب الإنسان من المالك بعض ما يملكه ..الخ ) اهـ.
أقول:
__________
(1) :"مدارج السالكين" (1/343-344).(215/121)
أولاً: اختصاص الله بالشفاعة اختصاص ملك، ومعنى ذلك أنه ليس لأحد من الخلق شفاعة إلا من أخبر الله أن له شفاعة مقيدة بقيود، فالله - جل وعلا - هو مالكها يأذن لمن شاء أن يشفع، في من رضي أن يشفع فيه.
فالشفاعة ليست ملكاً مطلقا ً لهم كما زعمه الكاتب ؛ لأن المالك له التصرف فيما يملكه، وإنما حقيقة الشفاعة أنها لله وحده، لكنه سبحانه يأذن لمن شاء أن يأذن له، وفي هذا تمام صرف القلوب إلى خالقها وحده مالك الشفاعة، وعلى هذا دلت الآية في الزمر قال تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ]الزمر: 43،44[. فأخبر تعالى أن من اتخذهم المشركون شفعاء لا يملكون شيئاً، وشيئاً نكرة في سياق النفي، فتعم الشفاعة وغيرها، فهم لا يملكون الشفاعة، كما نبه عليه جماعة من المفسرين.
فهذه الآية صريحة في أنهم لا يملكون الشفاعة،وهذا الملك هو الذي يظنه المشركون وهو المطلق من شرطي الإذن للشافع، والرضى عن المشفوع له، فالشفيع مع هذين الشرطين يملك الشفاعة ملك انتفاع موقت، لا ملكاً دائماً؛ ولذا يحتاج في كل شفاعة أن يأذن الله ويرضى، فليست الشفاعة للشفيع مطلقاً؛ ولذا قال سبحانه: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ } ]الزمر: 43[، فقوله: { مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: من دون إذنه ورضاه.
ثانياً: قول الكاتب إن الشفاعة أعطيت للأنبياء والصالحين...الخ، مغالطة ظاهرة، فالشفاعة أعطيت للأنبياء والصالحين يوم القيامة مع شرط الإذن والرضى، لا إعطاءً مطلقاً؛ ولذا لا نصيب فيها لمشرك، وصحاح الأحاديث المتواترة معنوياً- كما قال- هي في الشفاعة يوم القيامة لا في الحياة البرزخية.(215/122)
ففي الحياة البرزخية لا يجوز أن يسأل أحدٌ ميتاً الشفاعة؛ لأنهم لا يملكونها في الحياة البرزخية حتى ولا ملك انتفاع؛ لأنهم قد أفضوا إلى ما قدموا.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخبر بأنه سيشفع يوم القيامة، لم يخبر بأنه في قبره يشفع، ولا يوجد دليل صحيح
ولا ضعيف في ذلك.
فقوله: (كما نطقت به صحاح الأحاديث المتواترة معنوياً) تلبيسً على الأغمار، فالأحاديث في شفاعة القيامة لا الحياة البرزخية، ولذا عدل الكاتب عن إثبات الحجة إلى الإحالة الإجمالية وما فيها من تلبيس، لينخدع بها من عري عن العلم.
ولم لا يحاكم الكاتب نفسه إلى الصحابة الكرام؟! فهل طلب الشفاعة بعد موت النبي- صلى الله عليه وسلم - صحابي من العشرة، أو طلبها أحدٌ من البدريين، أو أحدٌ ممن شهد بيعة الرضوان، أو ممن حج معه حجة الوداع،
أو من شاء من الصحابة؟
فلم يطلب أحد منهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته البرزخية الشفاعة، بل عدلوا إلى طلبها - وهي الدعاء - ممن هو دونه عام القحط، وهذا إجماع منهم.
ثالثاً: أن آية الزمر: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } ]الزمر: 44[ رد على من يصرف قلبه لغير الله احتجاجاً بالشفاعة، كما كان مشركو العرب يصنعون مع آلهتهم، فإنهم كانوا يعتقدون في آلهتهم أنها شفعاءُ لهم، فأخبر تعالى أن الشفاعة له، ليس لأحدٍ منها شيء.
قال الرازي في "تفسيره"(26/285):
(اعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً. فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع،وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله.
فأجاب الله تعالى بأن قال: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ } ]الزمر: 43[.(215/123)
وتقرير الجواب: أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام، أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لهم.
والأول باطل؛ لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً ولا تعقل شيئاً، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها؟!
والثاني باطل؛ لأن في يوم القيامة لا يملك أحدٌ شيئاً، ولا يقدر أحدٌ على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله، الذي يأذن في تلك الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره) انتهى.
قال صاحب المفاهيم (ص78-79):
(وأي حرج في أن يطلب الإنسان من المالك بعض ما يملكه لا سيما إذا كان المسؤول كريماً، والسائل في
أشد الحاجة إلى ما سأله).
أقول: هذا على أن الشفاعة وإن كانت ملكاً لله، فقد ملكها الأنبياء والصالحين، وهذه المقدمة قد احتج بها مشركو العرب، فيظنون أن الله ملك الملائكة والأنبياء الشفاعة تمليكاً مطلقاً من القيود، وهذا غلط في الفهم أسوأ غلط؛ لأن الله - جل جلاله - وتقدست أسماؤه لم يملك أحداً من خلقه الشفاعة تمليكاً مطلقاً من القيود،بل لا أحد يشفع عنده إلا بأمرين:
1 - إذن الله للشافع أن يشفع.
2 - رضاه عن المشفوع له.
والإذن هنا ليس هو الإرادة الكونية، بمعنى أنه لو لم يأذن لم يقع ولم يكن، بل من ظن هذا الظن فقد ظن نظير ما قاله المشركون: { ا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا } ]الأنعام: 148[ فإنهم قالوا لو لم يشأ الله شركنا لم يحدث في ملكه وملكوته، ولم يأذن بوقوعه، وهذه الشبهة أصل ضلال كثيرين.(215/124)
فالمقصود هنا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين إنما يشفعون لمن أذن الله له يوم القيامة، ورضي توحيده وقوله، وأما في الدنيا في حياتهم وتمكنهم من الدعاء، فقد يشفعون بمعنى أنهم يطلبون من الله ويدعون، فمن دعا من الأنبياء دون إذن من الرحمن وشفع فيمن لم يأذن الرحمن بالشفاعة فيه، فهذا يرد عليه ولا تقبل شفاعته، وهذا ظاهر، كما قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لما استغفر لعمه: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ]التوبة: 113[.
وقال لنبيه: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ]التوبة: 80[ والآية في شأن المنافقين الذين كانوا يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلون مع الناس ويجاهدون، لكنهم لم يخلصوا ولم يوحدوا ربهم بأعمالهم، فكان هذا شأنهم، فلم ينفعهم استغفار نبي الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال (ص79):
(وهل الشفاعة إلا الدعاء، والدعاء مأذون فيه، مقدور عليه لا سيما الأنبياء والصالحين في الحياة،
وبعد الوفاة في القبر، ويوم القيامة، فالشفاعة معطاة لمن اتخذ عند الله عهداً، ومقبولة لديه عز وجل في كل من مات على التوحيد) اهـ.
أقول: وهذه الجملة من كلامه حوت تلبيساً وغلطاً، فالنصوص قد جاءت بجواز طلب الشفاعة أي: الدعاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وجاءت بطلبها منه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، ولم تجئ بطلبها منه في حياته البرزخية.
ومما يؤكد منع طلبها منه وهو في البرزخ: أن الأحاديث جاءت في حياته ويوم القيامة، فلو كان طلبها في البرزخ مشروعاً لانتفى تخصيص الحياة والقيامة بالذكر.(215/125)
فلما كان كذلك علم منه أن النوع الثاني من الحياة، وهو الحياة البرزخية تخالف ما قبلها وما بعدها، وبدليل أن الصحابة لم يفعلوا ذلك بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فتقرر أنها لا تطلب من الأموات.
وهذا برهان إجمالي، وأما تفصيل الرد على قوله فيقال:
قوله: (الدعاء مأذون فيه مقدور عليه)، ليس صحيحاً على إطلاقه في الحياة والموت.
فأما والداعي حي قادر فهذا صحيح، وأما بعد موته فليس الأمر كذلك، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل قبره مسجداً، فقال فيما روته عائشة وابن عباس وأبو هريرة: { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ؛ يحذر ما صنعوا.
قالت: فلولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. متفق عليه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والشاهد أن هذه اللعنة لمن اتخذ القبر مسجداً إنما هي لأن المسجد يقصد للدعاء، وأعلى أنواع الدعاء الصلاة،والصلاة دعاء في اللغة، قال تعالى: { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } ]التوبة: 103[.
وقال الأعشى في شعره المشهور:
تقولُ بنْتي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتحِلاً يا ربّ جّنَّب أبيْ الأوْصَابَ والوجعا
عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي نوماً، فإنَّ لجنْبِ المرءِ مضطجَعا
قوله: (صليتِ) يعني: دعوتِ، وشواهد هذا المعنى كثيرة، والصلاة كلها دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ومن لم يعرف هذين النوعين للدعاء لم يوفق لفهم الآيات في الدعا.
فإذا كانت المساجد إنما تقصد لدعاء الله فيها؛ فلعنة الله على من اتخذ قبور أنبيائه مساجد، معناها: النهي البليغ الشديد عن الدعاء عندها، ولمن دعا عندها. وإذا كان من دعا عندها كذلك
ولم يدع إلا الله، فكيف به إذا سأل الميت الدعاء؟! والحي إذا أتيته وسألته الدعاء كان لك جائزاً.(215/126)
وأما الميت إذا سألته أن يدعو ا لك فذلك شركٌ؛ ولأجله نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد، يدعى عندها ويصلى عندها، ونحو ذلك من وسائل الشرك، وهذا مع إخلاص السائل في دعائه، وإنما تحرى القبر لشرف المقبور، ولظنه أن المكان مبارك،وهذا من جنس من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن شرار الناس، فإن المساجد بنيت لدعاء الله فيها بالصلاة والذكر.
إذا تقرر هذا فانظر إلى فهم الخليفة الراشد عمر فيما عَلَّقه البخاري في "صحيحه"، وقد رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال: القبر، القبر، القبر، يحذر أنساً، ويعلمه أن بقرب مكان صلاته قبراً.
ولو كان الميت يملك الدعاء، ولو كان رسول الله صلى يملك بعد موته أن يدعو لمن سأله، ويقدر على الدعاء، كما يقدر عليه حياً، فلأي معنى نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره مسجداً؟! فالمسلمون كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم، وكان يدعو لهم في حياته فلو كان دعاؤه لهم مقدوراً مستديماً بعد موته - صلى الله عليه وسلم -
لما نهى عن اتخاذ القبور مساجد، وهي الذريعة الكبرى، والوسيلة العظمى للإشراك الأكبر برب الأرباب، بطلب الدعاء من الأموات، والاستغاثة بهم، ونحو ذلك.
الثاني: أن يقال: إذا كان طلب دعاء الأموات من الأنبياء جائزاً وهم يقدرون على الدعاء،
فلأي معنى لم يطلب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه أن يدعو لهم بعد موته وعدلوا إلى العباس ويزيد الجرشي وهم أعلم الأمة وأحرص الأمة على الخير؟!(215/127)
الثالث: هؤلاء شهداء أحد معروف مكانهم وفضلهم، معروفة قبورهم لم يذهب إليهم أحد من المسلمين من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته ولا بعد مماته يسألونهم الدعاء، وهم أحياء حياة برزخية بنص القرآن: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } ]آل عمران: 169-171[،فَلِمَ ترك أولئك طلب دعاء هؤلاء الشهداء، بل كانوا يدعون لهم، لا يسألونهم الدعاء، وهم أحياء بنص كريم، لكن حياتهم ليست كحياتنا على الأرض؟!
نعلم منه أنهم وإن كانوا أحياء حياة برزخية لا نعلمها، فهي مختلفة في ما يقدرون عليه عن حياتهم في الدنيا، وهذا تقرير نافع لمن تأمله وتدبره، والحمد لله رب العالمين.
الرابع: أن مسلماً أخرج في "الصحيح"(7/189) عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم } .
وأخرج أيضاً أن عمر قال لأويس لما لقيه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { يأتي عليكم أويس بن
عامر } الحديث وفيه: { لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل } فاستغفر لي، فاستغفر له.(215/128)
وفقه هذا الحديث الصحيح: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرشد عمر إلى أن يطلب الدعاء من أويس وهو تابعي، وأين منزلته من منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟! فأرشده الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يدعو له المفضول ويترك طلب الدعاء من خير الخلق في قبره، وهذا دليل واضح في أن الفرق هو تغير نوع الحياة، وقدرة الحي على
الدعاء للمعين، بخلاف من حياته برزخية - عليه الصلاة والسلام -، فتأمل.
قوله: (لا سيما الأنبياء والصالحين في الحياة، وبعد الوفاة في القبر، ويوم القيامة، فالشفاعة معطاة لمن اتخذ عند الله عهداً).
أقول: قد مر فيما سبق في الوجهين الثاني والثالث الماضيين ما به يرد على هذه المقالة السيئة، التي تخالف شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبقي هنا أمر وهو أن يقال:
قوله: (وبعد الوفاة في القبر) مما لا يستطيع أن يأتي عليه بدليل، بل إن المشركين في الجاهلية اتخذوا بعض أصنامهم عند أماكن أناس صالحين، وعند قبورهم، ولم يكونوا يطلبون منها سوى الشفاعة.
والمشركون لم يكونوا يحجون لأصنامهم ولا يتصدقون لها، بل كانوا يدعون أصنامهم الممثلة على صور الصالحين، أو المتخذة على قبورهم، وكان لهم معها حالان:
1 - حال الرخا: وهم أنهم يسألونها حيناً أن تدعو لهم، وحيناً يدعونها أنفسها، وهم يعتقدون أن أرواح من اتخذ الصنم على صورته تحل عند الصنم، فتسمع الدعاء وتدعو لهم فتجيبهم إلى ما يطلبون.
ويسألونها جلب الخيرات، وإغداق الأموال، واستمرار المسرات، فهذه كانت حالهم في الرخاء كلها دائرة على طلب الدعاء من الأصنام، أو دعوتها، وحالهم قولهم: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[ أي: ما ندعوهم.(215/129)
ويستعينون على تحقيق استجابة الأوثان لهم بصرف النذور لهم، وإيصال القرابين إلى أعتابهم فتذبح بأسماء الأوثان، فيجيب الجن بعض ما طلبوا، فيظنون أن المجيب هو المدعو، فقويت عبادتهم عندهم.
2 - حال الشدة: وأهل الجاهلية كانوا في هذا الحال يخلصون العبادة له، أي: الدعاء، كما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ
يُشْرِكُونَ } ]العنكبوت: 65[ وغيرها من الآيات.
وهذا يدل على أن الله أعظم في نفوسهم من تلك الأصنام لعلمهم أنه لا يجيب في الشدة إلا بالإخلاص،
وتوجيه الدعاء وهو العبادة له سبحانه.
وجماع هذا أن من سأل المقبور أن يدعو له لكشف شدته فإنه قد صرف محض حق الله للمقبور، وبيانه أن من وقعت به شدة، وكان به شدة حاجة إلى ما سأله، فسيكون في قلبه من التعلق بمن سأله وحبه ورجائه أمر عظيم، وسيكون قلبه مضطراً لتعظيم هذا المسؤول، وهذا كله مما يجب أن لا يكون إلا لله، فإذا كان الحب ورجاء إجابة السؤال، وتفريج الهموم، وزوال الكروب يطلب من غير الله من المقبورين: أنبياء أو صالحين فما بقي للقلب تعلق بالله، أين المحبة التي لا تكون إلا لله؟!
فإذا علق هذا بالموتى كان كما قال تعالى عن أشباههم: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } ]البقرة: 165[.(215/130)
فالحمد لله الذي وفق محبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقةً لاتباع سنته وهديه، في دعائه، وفي فعله وتركه، وخذل من شاء من خلقه بعدله، فتركوا سبيله في فعله وتركه، ولم يرتضوها، وتشعبت بهم السبل والطرق، { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } ]الكهف: 103،104[ الآيات.
فالشيطان حريص على إغواء بني أدم ويأتي كلاً بما يناسبه، فيأتي من ينتسب إلى العلم فيضله
بما ينتسب إليه، ووقائع أحابيله في العيان ظاهرة، وشبهه في قلوب مواليه قاهرة، ولا حول ولا قوة
إلا بالله.
قال (ص80):
(وإذا صح طلب الشفاعة منه في الدنيا قبل الآخرة فإن معنى ذلك أنه سينالها حقيقة في محلها يوم القيامة، وبعد أن يأذن الله تعالى للشفعاء بالشفاعة لا أنه ينالها هنا قبل وقتها) اهـ.
أقول: أولاً: ليس هذا قصد من يطلب الشفاعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، بل قصده أن يشفع
له الآن، وصاحب المفاهيم يرواغ نفسه، ويناقضها، فإذا كان قصده كذلك فلم أطال في إثبات
خبر عثمان بن حنيف الباطل الضعيف، فيمن أبطأ عليه عثمان بالاستجابة؟!
أليس - في زعمه - أن شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له كانت هنا في الدنيا؟! ولم ساق خبر العتبي، وقد أجيبت عندكم شفاعته في الدنيا؟! ولم سردت كل ما سردت من أقوال، تريد بها إثبات طلب الشفاعة منه - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا، وتحبب ذلك للناس ببيان أثر طلبها في الدنيا؟!
لِمَ كل هذا من صاحب المفاهيم؟! لِمَ يتناقض، وفي صفحات متقاربة؟! أينسى، أم يتناسى، أم هو صاحب هوى؟!
ثانياً: يقال: إذا كان مقصودكم - إن صدقتم - طلب الشفاعة الآخروية التي تكون يوم القيامة، فلم
لا تتبعون السبل المشروعة التي سنها من أعطي الشفاعة - صلى الله عليه وسلم - ؟!(215/131)
ومن أمثال ذلك سؤال الله له الوسيلة كما في حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { من قال حين يسمع النداء؛ اللهم!رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة } أخرجه البخاري في "صحيحه" وغيره.
وفي "صحيح مسلم"(2/4) من حديثٍ لعبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
{ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه } أخرجه البخاري
(1/193)(1) .
والإخلاص ترك الشرك وإفراد الله بالعبادة، كما في حديث أبي هريرة الآخر: { إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة – إن شاء الله – من مات لا يشرك بالله شيئاً } متفق عليه.
فبهذا وأمثاله تطلب الشفاعة من الله، فيطلبها أهل التوحيد بترك الإشراك وتحقيق التوحيد، وبسؤال الله لنبيه الوسيلة،ولا يطلبها أهل التوحيد الكارهون للشرك بأصنافه - الصحابة وأتباعهم إلى يوم الدين- من النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره، بل يعلمون بدلائل القرآن والسنة أن من سأله الشفاعة بعد وفاته فهو خليق بحرمانه
من الشفاعة.
فاتبعوا يا عباد الله المشروع في سؤال شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، وابتعدوا عن ما لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته المقربون.
وإذا لم نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة فغيره من الصالحين أولى وأولى، ودلائل هذا ظاهرة، فعسى أن تجد قلوباً مهدية، لم يعل عليها هواها، فالتبصر التبصر، والاتباع الاتباع.
__________
(1) :وهو في الصحيحين باختلاف يسير عن هذا اللفظ.(215/132)
ثالثاً: يقال: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة لا تطلب منه في الدنيا لا سيما وهو ميت وإنما تطلب منه في وقت الحاجة إليها، وفي حال حياته - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة حينما يشتد الحال بأهل الموقف كما صح في الحديث، وحينما يريد أهل الجنة دخول الجنة، وحينما يدخل أهل الكبائر من أمته في النار أو يؤمر بدخولهم فيها، كما دلت على ذلك النصوص الصحيحة، أما طلبها الآن فهو طلب قبل أوانه، ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
قال (ص92) في رده على أهل السنة والجماعة الذين يفرقون بين ما مكن الله العبد منه في الحياة الدنيا، وبين ما لم يمكنه في الحياة البرزخية.
قال: (ولنقتصر هنا على هذا السؤال: أيعتقدون أن الشهداء أحياء عند ربهم كما نطق القرآن بذلك أو لا؟ فإن لم يعتقدوا فلا كلام لنا معهم؛ لأنهم كذبوا القرآن حيث يقول: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ } ]البقرة: 154[، { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ]آل عمران: 169[ وإن اعتقدوا ذلك فنقول لهم: إن الأنبياء وكثيراً من صالحي المسلمين الذين ليسوا بشهداء كأكابر الصحابة أفضل من الشهداء بلا شك) اهـ.
أقول: يظهر أن الكاتب لا يعرف معتقد أهل السنة والجماعة، ولو عرفه لما فتح فاه، ولا نبس بما نبس
به، فكتب علماء السنة وخاصة علماء هذه البلاد، وتلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب منتشرة
مشهورة، وفيها بيان اعتقادنا والحمد لله.(215/133)
فمن ذلك ما كتبه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد عبد الوهاب في الاعتقاد لأهل مكة لما دخلها أتباع الدولة السعودية الأولى سنة 1218 هـ فمما قال: (والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء، المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب) اهـ(1) .
وسئل الشيخ عبد الله أبابطين المتوفي سنة 1282هـ: هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره؟ فأجاب:
(الله سبحانه وتعالى أخبر بحياة الشهداء، ولا شك أن الأنبياء أعلى رتبةُ من الشهداء، وأحق بهذا، وأنهم أحياء في قبورهم، ونحن نرى الشهداء وميماً، وربما أكلتهم السباع، ومع ذلك هم { أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ }
]آل عمران: 169،170[ فحياتهم حياة برزخية، والله أعلم بحقيقتها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات بنص القرآن والسنة، ومن شك في موته فهو كافر) اهـ(2).
فهذا بحمد لله معتقدنا، ولو علمه الكاتب لما حرك قلمه بهذه الشبهة، والقوم يظنون أنهم أفراح بالدلائل الصحيحة الصريحة من أهل السنة والجماعة، وما صح دليل إلا وقد نصره أهل السنة نصراً بليغاً، مع النظر في غيره من الأدلة، والحمد لله رب العالمين.
ثم دخل الكاتب في الأرواح وخصائصها، وخاض بغير علم فمما قال (ص93): (ولا شك أن الأرواح لها من الانطلاق والحرية ما يمكنها من أن تجيب من يناديها، وتغيث من يستغيث بها، كالأحياء سواء بسواء، بل أشد وأعظم) اهـ.
__________
(1) :"الدرر السنية"(1/114).
(2) :"الدرر السنية"(2/165).(215/134)
أقول: فهلا أتى الكاتب على علمه بالأرواح من دليل نقلي، والله سبحانه يقول: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } ]الاسراء: 85[ أم أنه كشف له الغيب فعلم ذلك!
وهنا أمور يجب تقريرها:
الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بما يمكن علمه من شأن الأرواح، وهو لم يعلم صحابته وأمته هذا العلم من أنها(تغيث من يستغيث بها كالأحياء سواء بسواء بل أشد وأعظم)، أفكتم هذا العلم الذي علمه المفسرون المشركون؟!.
الثاني: أن الأرواح لا تعلم أحوالها وكيف هي، وقدراتها، والذي نعلمه قطعاً أنها لا تجيب من يدعوها، ولا تغيث من يستغيثها.
فما ظن الكاتب بدين الجاهلية دين المشركين، أيعبدون أصناماً أحجاراً ؟! أم أنهم لم يعبدوها
إلا وقد رأوا أثرها من إجابة دعاء، وإغاثة؟!
إن أعظم فتن الشياطين هي الشرك، وبابه القبور حيث يظهر عمل شياطين الجن من تمثل بصورة المقبور، وتكليم الحاضرين، وربما أجاب سؤالاً، وغير ذلك.
الثالث: ومما يتفرع عما أسلفتُ ما ذكره الشيخ العلم تقي الدين ابن تيمية في "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح"(1/322): (والشيطان إنما يضل الناس ويغويهم بما يظن أنهم يطيعونه فيه، فيخاطب النصارى بما يوافق دينهم، ويخاطب من يخاطب من ضلال المسلمين بما يوافق اعتقاده، وينقله إلى
ما يستجيب لهم فيه بحسب اعتقادهم، ولهذا يتمثل لمن يستغيث من النصارى بجرجس في صورة جرجس، أو بصورة من يستغيث به من النصارى من أكابر دينهم إما بعض البتاركة، وإما بعض المطارنة، وإما بعض الرهبان، ويتمثل لمن يستغيث به من ضلال المسلمين بشيخ من الشيوخ في صورة ذلك الشيخ، كما يتمثل لجماعة ممن أعرفه في صورتي، وفي صورة جماعة من الشيوخ الذين ذكروا في ذلك.
ويتمثل كثيراً في صورة بعض الموتى، تارة يقول: أنا الشيخ عبد القادر، وتارة يقول: أنا الشيخ(215/135)
أبو الحجاج الأقصري، وتارة يقول: أنا الشيخ عدي، وتارة يقول: أنا أحمد بن الرفاعي، وتارة يقول: أنا
أبو مدْين المغربي، وإذا كان يقول: أنا المسيح أو إبراهيم أو محمد، فغيرهم بطريق أولى.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { من رآني في المنام فقد رآني حقاً،فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي } ، وفي رواية: { في صورة الأنبياء } ، فرؤيا الأنبياء في المنام حق، وأما رؤية الميت في اليقظة فهذا جني تمثل في صورته.
وبعض الناس يسمي هذا روحانية الشيخ، وبعض الناس يقول: هي رفيقه، وكثير من هؤلاء من يقوم من مكانه ويدع في مكانة صورة مثل صورته، وكثير من هؤلاء ومن هؤلاء من يقول يرى في مكانين، ويرى وافقاً بعرفات وهو في بلده لم يذهب، فيبقى الناس الذين لا يعرفون حائرين، فإن العقل الصريح يعلم أن الجسم الواحد لا يكون في الوقت الواحد في مكانين.
والصادقون قد رأوا ذلك عياناً لا شكون فيه، ولهذا يقع النزاع كثيراً بين هؤلاء وهؤلاء، كما قد جرى ذلك غير مرة، وهذا صادق فيما رأى وشاهد، وهذا صادق فيما دل عليه العقل الصريح، لكن ذلك المرئي كان جنياً تمثل في صورة إنسان) اهـ.
وذكر - رحمه الله - في " قاعدة في التوسل والوسيلة" من تفصيل ذلك ما يزيد المؤمنين هدى،
ومما قال (1/174) "مجموع الفتاوى": (وعند المشركين عباد الأوثان ومن ضاهاهم من النصارى، ومبتدعة هذه الأمة في ذلك من الحكايات ما يطول وصفه.
فإنه ما من أحدٍ يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبياً كان أو غير نبي إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلالة، كما أن الذين يدعونهم في مغيبهم ويستغيثون بهم فيرون من يكون في صورتهم، أو يظنون أنه في صورتهم، ويقول: أنا فلان، ويكلمهم ويقضي بعض حوائجهم، فإنهم يظنون أن الميت المتسغاث به هو الذي كلمهم وقضى مطلوبهم، وإنما هو من الجن والشياطين.(215/136)
ومنهم من يقول: هو ملك من الملائكة، والملائكة لا تعين المشركين، وإنما هم شياطين أضلوهم عن سبيل الله، وفي مواضع الشرك من الوقائع والحكايات التي يعرفها من هنالك، ومن وقعت له ما يطول وصفه) اهـ.
فقَطْع الكاتب بأن أرواح الموتى تغيث من يستغيث بها، كالأحياء بل أشد وأعظم، من الشرك الذي خدعت الجن والشياطين به طوائف من الناس، فتقربوا إلى المقبورين، وإنما تقربوا في الحقيقة إلى شياطين الجن، فتشكلت لهم الجن وأرضوهم حيث أشركوا بهم، وهذا ما يريده إبليس اللعين، وقد أطاعه فيه عباد القبور، والمنافحون عنهم.
قال الكاتب(ص96) شارحاً لمعنى حديث: { إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله } قال: (هذا الحديث الشريف ليس المقصود به النهي عن السؤال والاستغاثة بما سوى الله، كما يفيده ظاهر لفظه، وإنما المقصود به النهي عن الغفلة عن ما كان من الخير على يد الأسباب فهو من الله، والأمر بالانتباه إلى أن ما كان من نعمة على يد المخلوقات فهو من الله وبالله.
فالمعنى: وإذا أردت الاستغاثة بأحد من المخلوقين - ولابد لك منها - فاجعل كل اعتمادك على الله وحده، ولا تحجبنك الأسباب عن رؤية المسبب - جل جلاله -، ولا تكن ممن يعلمون ظاهراً من هذه الارتباطات والعلاقات بين الأشياء المترتب بعضها على بعض، وهم عن الذي ربط بينها غافلون) اهـ.
أقول: هذا التفسير لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناه الكاتب على مفهوماته للتوحيد وهو توحيد الربوبية، وفسره تفسيراً لم ينقله عن عالم يركن إلى تفسيره وشرحه، ولا إلى إمام يحتذى حذو فهمه ويتابع عليه.
فإذا كان من عند نفسه فلا شك أنه لن يقبل ولن يصار إليه، والعجب منه كيف جُرُأته على تحريف مرادات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنصرة هواه.
ومما يدل على بطلان ما فسره به:(215/137)
أولاً: أن هذه الوصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس منقبة لابن عباس، ولو فسرت بما فسرها به الكاتب لكانت غير منقبة، إذ تفسيره يدل على أن المخاطب معه أدنى درجات الإيمان والتوحيد، فهو يحذر من الوقوع في براثن رؤية الأسباب، وحاشا ابن عباس - رضي الله عنه - عن ذلك.
الثاني: أن هذا الشرح خارج عما قاله الشراح من أهل العلم، وما كان كذلك فهو من الهوى إن لم يقم
صاحبه عليه دليلاً صحيحاً نقلاً ونظراً، وهو مما ليس في قول الكاتب هنا، وأنى له ذلك.
قال الحافظ الفقيه ابن رجب في "شرح الأربعين"(2/228): قوله - صلى الله عليه وسلم -: { إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله } هذا منتزع من قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ]الفاتحة: 5[، فإن السؤال لله هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة، كذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث النعمان بن بشير وتلا قوله تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ]غافر: 60[ خرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: { الدعاء مخ العبادة } .
فتضمن هذا الكلام أن يسأل الله عز وجل، ولا يسأل غيره، وأن يستعان بالله دون غيره، فأما السؤال فقد أمر الله بمسألته فقال: { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه } ]النساء: 32[، وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: { سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل } ، وفيه أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً: { من
لا يسأل الله يغضب عليه } ، وفي حديث آخر: { ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع } .(215/138)
وفي النهي عن مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة، وقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً منهم: أبو بكر الصديق وأبو ذر وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه).
ثم قال ابن رجب: (واعلم أن سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعين؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل
من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على دفع هذا الضرر ونيل المطلوب، وجلب المنافع ودرء المضار.
ولا يصح الذل والافتقار إلا لله وحده لأنه حقيقة العبادة، وكان الإمام أحمد يقول: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك) انتهى كلام ابن رجب.
وقال ابن حجر الهيتمي المكي في "الفتح المبين شرح الأربعين"(ص172): (فمع النظر لذلك لا فائدة لسؤال الخلق مع التعويل عليهم فإن قلوبهم كلها بيد الله سبحانه وتعالى، ويصرفها على حسب إرادته، فوجب أن لا يعتمد في أمر من الأمور إلا عليه سبحانه وتعالى، فإنه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى
ولا معطي لما منع، له الخلق وله الأمر... ثم قال: (فبقدر ما يميل القلب إلى مخلوق يبعد عن مولاه لضعف يقينه ووقوعه في هوة الغفلة عن حقائق الأمور التي تيقظ لها أصحاب التوكل واليقين، فأعرضوا عما سواه وأنزلوا جميع حوائجهم بباب كرمه وجوده) اهـ.
وفي"الفتوحات الوهبية بشرح الأربعين النووية"،قال إبراهيم بن مرعي المالكي(ص178):
(وإذا استعنت أي: طلبت الإعانة على أمر من أمور الدنيا والدين، ولذا حذف المعمول المؤذن بالعموم
{ فاستعن بالله } ؛ لأنه القادر على كل شيء، وغيره عاجز عن كل شيء، والاستعانة إنما تكون بقادر على الإعانة، وأما من هو كلٌّ على مولاه لا يقدر على إنفاذ ما يهواه لنفسه فضلاً عن غيره، فكيف يؤهل للاستعانة أو التمسك بسببه ؟! ومن كان عاجزاً عن النفع والدفع عن نفسه، فهو عن غيره أو أعجز، ليت الفحل يهضم نفسه.(215/139)
فاستغاثة مخلوق بمخلوق كاستعانة مسجون بمسجون، فلا تستعن إلا بمولاك فهو دليلك في أخراك وأولاك، كيف تستعين بعبد مع علمك بعجزه ؟! فمن لا يستطيع دفع نازلة عن نفسه كيف يدفعها عن غيره، من أبناء جنسه؟! فلا تنتصر إلا به فهو الولي الناصر، ولا تعتصم إلا بحبله فإنه العزيز القادر) انتهى.
فهذه شذرة من كلام أهل العلم، يبين بها خروج الكاتب بمفاهيمه عن فهمهم ومن كان كذلك فليس منهم.
الثالث: إذا كان هذا كلام العلماء فيمن هو حي يقدر على إجابة السؤال وإعانة الطالب، فما ظنك
بالميت الذي هو أضعف في إجابته من الحي، بل لا يجيب حياً سأله في أمرٍ يتعلق به، فالميت مشغولٌ
بنفسه: إما في نعيم وروضة وإما في جحيم وحفرة.
قال كاتب المفاهيم العجيبة:
(هذا الحديث يخطىء كثير من الناس في فهمه إذ يستدل به على أنه لا سؤال ولا استعانة مطلقاً من كل وجه وبأي طريق إلا بالله، ويجعل السؤال والاستعانة بغير الله من الشرك المخرج عن الملة).
أقول: إن من خَطَّأَ العلماء لا يؤبه لكلامه، فالحي الأولى له والأكمل تحقيقاً لتوحيده، أن لا يسأل أحداً شيئاً ولا يستعين بأحد مطلقاً إلا بالله، فهذه مرتبة الأنبياء والصديقين، ولذا قال أنس بن مالك
- رضي الله عنه -: (خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فو الله ما قال لي: أفٍ قط، ولم يقل لشيء فعلته، لم فعلت كذا وكذا؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟) وبهذا أوصى طائفة من أصحابه
أبا بكر وأبا ذر وثوبان، فهذا من تحقيق كمال التوحيد.
وأما سؤال الميت الأشياء والاستعانة به، فهو منافٍ للتوحيد من أصله، إذ الميت لا يمكنه إعانة نفسه، فهو عن الناس في شغل، وحدُّه وقصاراه نفسه لا غير.
وقد قال تعالى: { وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } ]فاطر: 22[ يعني؛ سمع إجابة، والكاتب يماحل نفسه، ويلوي أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتوافق مذهبه، ولو كانت مخالفة لقول أهل العلم أجمعين.(215/140)
ثم إن في تفسيره الحديث بما فسره به تنقصاً لابن عباس - رضي الله عنهما -، وقع فيه من جراء اختلاق التفاسير والشروح، ومن خالف وقع.
ثم أراد أن يقوي نظرته المخالفة لأقوال أهل العلم بما ليس بدليل،فمما قال (ص97): (وقال - صلى الله عليه وسلم -: { إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله } ، فانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: { يفزع إليهم في حوائجهم } ولم يجعلهم مشركين بل ولا عاصين ).
أقول: لم يذكر مخرج الحديث، فقد رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(1) عن ابن عمر- رضي الله عنه-
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/192): فيه شخص ضعفه الجمهور، وأحمد بن طارق الراوي عنه
لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح، هذا ما نقله المناوي في "فيض القدير"(2/477-478) عن الهيثمي وما في المجمع المطبوع مختل، وبه بياض فلتراجع نسخة مضبوطة.
ورواه ابن عساكر في "تاريخه" عن ابن عمر. ورواه ابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال"
(4/1507) من طريق عبد الله بن إبراهيم ابن أبي عمرو قال حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر به.
وهذا إسناد ضعيف جداً وإن قيل بوضعه كان متجهاً؛ لأن عبد الرحمن حدث عن أبيه بالموضوعات كما قاله الحاكم وغيره، والراوي عنه عبد الله بن إبراهيم من الضعفاء.
وأورد الكاتب أحاديث في الحث على قضاء حوائج الناس، مستدلاً بها على فساد فهم أهل العلم الذين قالوا بأن ترك سؤال المخلوق القادر على الإجابة من إكمال التوحيد، وأن من سأل من لا يقدر على الإجابة ممن زال عن دار العمل والتكليف دار الدنيا، فقد أشرك.
__________
(1) :رقم (13334)، من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، وعناه الهيثمي حيث قال: فيه شخص ضعفه الجمهور.(215/141)
وما فهم العلماء بفاسد، ولكن فهم المعجب بفهمه هو الفاسد، ونُذَكر الكاتب بقوله في أهل العلم: (وكيف يفتح الله علينا لنستفيد من علومهم إذا كنا نعتقد فيها الانحراف والزيغ عن طريق الإسلام)
(ص39)، وحق هذا فما فتح لكاتب المفاهيم أبواب الاستفادة من أقوالهم؛ لأنه يعتقد فيها الانحراف،
حيث قال: (وهذا الحديث يخطئ كثير من الناس في فهمه)، والذين أخطؤوا هم العلماء، فعلى نفسه
حكم، ولمفاهيمه وزن.
وختم كلامه على الحديث (ص99) بعجب عجيب وأمر مريج فقال: (وبهذا يبين أن المقصود من الحديث ليس ما توهموه، فإنه فاسد واضح الفساد كما تبين، وإنما المقصود الترهيب من سؤال الناس أموالهم بلا حاجة طمعاً فيها). وهذا التأويل يعرف الجهال فساده.
قال (ص98):
(ومن أخذ بالسبب الذي أمر الله بسلوكه لنيل جوده فما سأل السبب بل سأل واضعه، فقول القائل:
يا رسول الله! أريد أن ترد عيني أو يزول عنا البلاء أو أن يذهب مرضي، فمعنى ذلك طلب هذه الأشياء من الله بواسطة شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كقوله: ادع لي بكذا واشفع لي في كذا، لا فرق بينهما إلا أن هذه أصرح في المراد من ذلك) اهـ.
أقول:
إن قول القائل: يا رسول الله! أريد أن ترد عيني أو أن يذهب مرضي من شرك التصرف، وهو شرك أكبر ناقل عن الملة.
وأما قول القائل: ادع لي بكذا واشفع لي في كذا، سائلاً النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته فهو من شرك التقريب والشفاعة.
وكلا الأمرين شرك ولكن الأول أعظم وأشد؛ لأن معناه إشراك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التصرف، فقائله
- كما هو الحال المشاهد من قائلي مثل هذا مع غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصالحين - يعتقدون أن الميت يتصرف في جزءٍ من الكون، فبيده إشفاء المرضى بتفويض الله له ذلك، وبيده إزالة البلاء والقحط والنكبات، لتفويض الله له التصرف في جزءٍ من الكون.(215/142)
وهذا معلوم، والكاتب مغالط فيدعي معرفة عقائد كل من قال تلك الكلمات، وذاك من الدعاوي العريضة التي هي محض تخرص، أو مغالطة.
فمن ذلك ما في "رماح حزب الرحيم" لعمر الفوني(1/219)(1) قال في النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته) اهـ.
وفي شعر لأحدهم(2) قال:
فلذا إليك الخلقُ تفزَع كلهم في هذه الدنيا وفي اليوم الأهم
وإذا دهتهم كربة فرجتها حتى سوى العقلاء في ذاك انتظم
جُدْ لي فإن خزائن الرحمن في يدك اليمين وأنت أكرمُ من قسم
وعند عباد القبور المستغيثين بأصحابها من اعتقاد تصرفهم في العالم شيء كثير، وهو من أعظم الشرك، الشرك في الربوبية.
ومن أدلته على خطأ فهم العلماء لحديث ابن عباس قوله (ص98):
(ويكفي في بيان الخطأ أن الحديث نفسه إنما هو جواب منه - عليه الصلاة والسلام - لسؤال
ابن عباس راوي الحديث بعد تشويق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله فإنه قال: { يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن } ، فأي تحريض على السؤال أجمل من هذا؟ قال ابن عباس: بلى) اهـ.
أقول: الحديث أخرجه الترمذي في "جامعه"(رقم 2516) بإسناده عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: { يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله... } الحديث. وأخرجه أحمد(1/293) هكذا، وجماعة.
هذه الرواية المشهورة القوية السند.
وهي التي أشار إليها الكاتب حيث قال: (هذا طرف من الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وصححه عن ابن عباس مرفوعاً)، وليس فيها السؤال والجواب اللذان أوردهما.
__________
(1) :نقله عنه عبد الرحمن الوكيل في "هذه هي الصوفية"(ص81).
(2) 1 ) :نقلته عنه عبد الرحمن الوكيل في "هذه هي الصوفية"(ص87).(215/143)
وإنما ورد ذلك من طريق ضعيفة منقطعة، أخرجها أحمد في "المسند"(1/307) وغيره، وفي كلام أحمد شاكر على الحديث وبيان انقطاعه كفاية، فيرجع إليه(4/286-288).
ثم قال الكاتب:
(ولو جرينا على هذا الوهم ما صح على مقتضاه أن يسأل جاهل عالماً ولا واقع في مهلكة غوثاً
... الخ).
أقول: هذا مما يعرف بالأسباب الظاهرة للعيان مما جاءت الشريعة بإقراره بين الناس، وأن لا حرج فيه، وأما سؤال الموتى فهذا من الأسباب الخفية التي جاءت الشريعة بردها ونهي الناس عنها، وقتال المشركين من العرب وغيرهم عليها.
وشعر الكاتب فداحة الخطأ وتكثير الكلام فيما لا طائل تحته فقال: (فإن قالوا: إن(1) الممنوع إنما هو سؤال الأنبياء والصالحين من أهل القبور في برازخهم لأنهم غير قادرين، وقد سبق رد هذا الوهم مبسوطاً).
أقول: جواب الشرط لم يذكره، والعبارة ركيكة، وأما رده عقيدة السلف والعلماء، فهو مردود عليه؛ لأنه ـ كما سبق ـ ينفي شرك التصرف ظاهراً، ويقع في شرك القربى والزلفى. وأبطال دعواه فُصّل فيما كتبته عليها.
ثم تكلم الكاتب على حديث رواه الطبراني في "معجمه الكبير" أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا لنستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
{ إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله } .ساقه هكذا الكاتب، ثم قال في معناه (ص101):
(فلا بد من تأويله بما يناسب عمومات الأحاديث لينتظم شمل النصوص، فنقول: إن المراد بقوله
ذلك هو إثبات حقيقة التوحيد في أصل الاعتقاد، وهو أن المغيث حقيقة هو الله تعالى والعبد ما هو
إلا واسطة في ذلك ) اهـ .
أقول:
__________
(1) :في كلامه:أن بفتح الهمزة.(215/144)
ما أجرأ الكاتب على عسف الأحاديث، فإن أبا بكر - رضي الله عنه - هو الصديق أول المؤمنين وصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار، وفضائله وسبقه مشهور، أفيظن به أنه يحوم على خاطره استقلال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإغاثة؟! هل يجوّز مسلم أن يأتي على ذهن أبي بكر أن إغاثة الرسول - عليه الصلاة والسلام - مستقلة؟! هذا ما قرره كاتب المفاهيم، وفي حمل الحديث على ما حمله عليه من هذا المعنى الباطل نسبة الصديق إلى غاية الضلال، وهو الشك في خالق الأسباب المتفرد بها، يالها من معان سيئة قبيحة جرها عدم الفقه والفهم، فما أفسد وأشنع مفاهيمك يا كاتب المفاهيم!
وفي الجعبة سهام مريشة، والاكتفاء بهذا الوجه في رد إفكه كاف، قال شيخ الإسلام في "رده على البكري" حين أورد جنس كلام كاتب المفاهيم قال (ص 204):
(والنبي - صلى الله عليه وسلم - نفى وأثبت، وإن كان ما نفاه لم يخطر بقلوبهم، فأي حاجة إلى نفيه، وإن قيل: إنهم ظنوه فذلك بهتان عظيم، بخلاف ظنهم أنه يقدر على دفع المكروه فإن هذا الظن قد كان يقع منهم كثيراً، وقد يكون الأمر كما يظنه الظان، فليس فيه قدح لا في الصحابة - رضي الله عنهم - ولا في الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخلاف من يقول: لا تعتقدوا في أني مثل الله أقدر وأستقل بالتأثير كما يفعله الله، فإن هذا المعنى لا يظنه به من هو دون الصحابة، فكيف يظنونه هم) انتهى.
الباب الرابع
التكفير
التكفير
إن من أكبر المسائل التي تصد طوائف عن قبول الحق في مسائل التوحيد وإخلاصه لرب العالمين مسألة التكفير، وتصوير هذه المسألة قولهم:
إن المسلم الذي يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ ويصلي ويقيم الأركان الظاهرة، لا يمكن أن يكفر أبداً، ويف يكفر وهو قائم بالأركان؟!(215/145)
ولا يتصورون أن هناك نواقض للإسلام تبطله وتناقض لا إله إلا الله، بل إن من الناس من يقول: من قال لا إله إلا الله فهو مسلم ولو لم يعمل، فترك العمل ممن قال كلمة التوحيد لا يخرجه عن الإسلام، وهذا المعروف من مذهب المرجئة والماتريدية، ومن تبعهم اليوم من الناس.
وهذان القولان قديمان، ظهرا في العصور الأولى، وليسا جديدين، وأكثر من تشرح وتبين له مسائل إخلاص التوحيد، توحيد الله بأفعال العبيد - من ساقه الشيطان عدو ابن آدم إلى تعظيم الموتى، وطلب شفاعاتهم، ودعائهم، أو سؤالهم العطايا، والغفران، والمعافاة في الأبدان والبلدان - يكبر عليه الحكم على من صرف شيئاً مما ذكرنا للموتى بالشرك الأكبر المخرج من الدين.
ويقولون: أيكفر من نطق بالشهادتين وصلى وصام وزكى وحج؟!
لا يكفر أبداً ولو دعا غير الله، ويستدلون بهذه المقدمة الفاسدة على إنكار أن يكون صرف ما ذكر بعضه للموتى شركاً، فيبطل عندهم الحق بالاستدلال العكسي.
وفي هذا الباب بيان الحق في هذه المسألة التي أوغرت الصدور، لعدم نظر المبطلة في الأدلة الشرعية، وكلام أهل العلم في باب الاعتقاد، وكلامهم في باب المرتد.
فصل
وأعظم شروط صحة الإسلام هو إخلاص القلب وتوحيده، كما قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[، وقال سبحانه:
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ } ]الزمر: 11 [،وقال: { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي }
]الزمر: 14[، وقال تعالى: { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ]غافر: 14[، وقال:(215/146)
{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } ]البينة: 5[ والآيات لا تحصى، بل القرآن كله يدعو ويأمر بالإخلاص، إما بالمطابقة أو بالتضمن أو الالتزام، ومن تدبر هذا وجده كذلك.
وفي السنة من الأمر بالإخلاص، وعدم قبول دين تاركه شيء كثير، ومن ذلك ما رواه البخاري عن
أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { لقد ظننت يا أبا هريرة! أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث،أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه،
أو نفسه } قال الحافظ في "فتح الباري" (1/194): (قوله: { خالصاً } احترازٌ من المنافقين، ومعنى أفعل في قوله { أسعد } الفعل، لا أنها أفعل التفضيل، أي: سعيد الناس كقوله تعالى: { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } ) اهـ كلام الحافظ.
وعن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به
وجهه } أخرجه النسائي في "الجهاد"(6/25) وإسناده حسن.
وفي هذا الباب أحاديث عدة، في إخلاص التوحيد والعمل، وبيان أن العمل ما لم يكن خالصاً لا يقبل وهو شرك، وأعظم الأعمال التوحيد، ومن لم يخلص العبادة لله فعمله مردود عليه، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: { أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه } أخرجه مسلم (8/223).
والعبادة تارة تكون بالجوارح - والإخلاص أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله - كالصلاة والصيام ونحو ذلك، وتارة تكون قلبية والجوارح مفصحة عن إرادة القلب.
فإن من الناس من قد يخفي رياءه وشركه، ولا يحب أن يطلع على ذلك الناس، كالمنافقين أظهر بجوارحه عبادة، وأشرك في قلبه ولم يخلص.(215/147)
ولكن ليس أحدٌ من الناس المنتسبين للإسلام يظهر الشرك ويبطن التوحيد، فهذا غير موجودٍ، ولا هو حقيقة، فإن من أظهر بلسانه وعمله الشرك وترك الإخلاص فلا بد يقيناً أن يكون قلبه غير مخلص، وهذا لا مخالف فيه.
ويستثنى من ذلك المكره بالقتل كما قال تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ } ، أما والمرء مختار راغب في العبادة فلا يعقل أن يظهر لفظاً شركياً وقلبه مخالف لفظه.
فالمظهر للإخلاص المبطن خلافه منافق كالمنافقين في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمظهر الشرك مشرك من المشركين كالذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مشركي العرب وغيرهم.
فالمنافقون في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويصلون معه، ويصومون ويزكون ويؤدون الشعائر الظاهرة ومع كل هذا هم في الدرك الأسفل من النار، تحت الكفار وشر منهم؛ لأنهم
لم يخلصوا أعمالهم لله، ولم يقولوا كلمة التوحيد بإخلاص، بل ناقض إظهار الإسلام أعمالٌ كفرية كتولي المشركين، والاستهزاء بالمؤمنين، ونحوها من المكفرات التي دلت على عدم إخلاصهم، فكفروا مع نطقهم بالشهادتين، وفعلهم أركان الإسلام.
وهذا من أنفع البراهين الدالة على فساد قول من قال: إن من قال لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وقام بالشعائر إنه لا يتطرق إليه كفر مع قيامه بالأركان، وهم نظروا إلى الظواهر، والأس الأعظم والركن الوثيق الإخلاصُ لم يلتفتوا له.
وهذا الإخلاص هو مدلول كلمة التوحيد؛ ولذا سميت كلمة الإخلاص، فإن من قالها غير معتقدٍ
ما دلت عليه من إخلاص العبادة لله فلا يسمى شاهداً بها؛ ولذا كان الركن الأعظم من أركان الدين شهادة أن لا إله إلا الله، لا قول لا إله إلا الله فقط.(215/148)
فمن الخلق من يقولها بلسانه، ولكنه لا يشهد بها بقلبه، بمعنى: أنه لا يخلص ما دلت عليه، فهذا فقد من دينه الركن الأوثق وهو الإخلاص.
فصل:
ولذا يجد المطالع في كتب أهل العلم الفقهية باباً في كل كتاب منها يسمى: باب الردة، أعاذنا الله منها ومن ما قرب إليها، يذكرون فيه ألفاظاً يكفر بها المسلم ويصير مرتداً مباح المال والدم، مع أن هذا المرتد يكون – غالباً – يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويكون صائماً حاجاً، ولكنه ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام كالشرك فصار مرتداً عن الإسلام.
وها أنا أسوق في هذا الموضع عبارات أهل العلم وكلامهم من المذاهب الأربعة المتبوعة لينجلي المقام، وتظهر حقيقة الحال، في هذا الأمر.
قال في "مختصر خليل على شرح الدردير"(6/144)، من كتب المالكية المعتمدة: (الردة: (كفر مسلم) متقررٍ إسلامه بالنطق بالشهادتين مختاراً، يكون(بصريح) من القول كقوله أشرك بالله،(أو قول يقتضه) أي: يقتضي الكفر، كقوله جسم كالأجسام،(أو فعل يتضمنه) أي: يستلزمه لزوماً بيناً: (كإلقاء مصحف)
أو بعضه ولو كلمة، وكذا حرقه استخفافاً، لا صوناً، ومثل إلقائه تركُه بمكان(قذر)...ومثل المصحف: الحديث وأسماء الله وكتب الحديث، وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف بالشريعة..الخ) .
قال الصاوي في "حاشيته" على أول كلامه: (قوله: (متقرر إسلامه) الخ: ظاهره أن الإسلام يتقرر بمجرد النطق بالشهادتين مختاراً، وإن لم يوقف على الدعائم، وليس كذلك، بل لابد في تقرير الإسلام من الوقوف على الدعائم والتزامه الأحكام بعد نطقه بالشهادتين) انتهى.
فعلم من هذا أن الردة تلحق المسلم القائل ألفاظ الشهادتين العامل بالأركان، وهو مذهب أهل العلم
جميعهم، لا خلاف بينهم في ذلك.(215/149)
والحنفية أكثر الفقهاء توسعاً في باب المرتد رعاية لجانب تعظيم آيات الله ودينه؛ حتى أنهم ليكفرون بألفاظ فيها نوع ترك التعظيم والاحترام الواجب لله ورسوله ودينه وعلماء المسلمين وعلومهم. فهاك نبذاً مما قاله ابن نجيم الحنفي في كتابه: "البحر الرائق شرح كنز الدقائق"(5/119-125):
(ويكفر إن اعتقد أن الله يرضى بالكفر، وبقوله: لو أنصفني الله تعالى يوم القيامة انتصفت منك، أو إن قضى الله يوم القيامة، أو إذا أنصف الله، وبقوله: بارك الله في كذبك... وبقوله: الله يعلم أني فعلت كذا وهو يعلم أنه ما فعل.. وبإتيان الكاهن وتصديقه، وبقوله: أنا أعلم المسروقات، وبقوله: لا أعلم أن آدم عليه السلام نبي أو لا... ويكفر من أراد بغض النبي - صلى الله عليه وسلم - بقلبه...ويكفر بقوله: إن كان ما قال الأنبياء حقاً أو صدقاً.
وبرده حديثاً مروياً إن كان متواتراً، أو قال على وجه الاستخفاف؛ سمعناه كثيراً...، وباستخفافه بسنةٍ من السنن.
وبإنكاره إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - على الأصح، كإنكاره خلافة عمر - رضي الله عنه - على الأصح، لا بقوله: لولا نبينا لم يخلق آدم عليه السلام، وهو خطأ.
وبقوله: لا أترك النقد لأجل النسيئة، جواباً لقوله: دع الدنيا للآخرة... ويكفر بإنكاره أصل الوتر والأضحية، وباستحلال وطء الحائض.
ويكفر باستحلاله حراماً علمت حرمته من الدين من غير ضرورة لا بفعله من غير استحلال...، وبقراءة القرآن على ضرب الدف أو القضيب، وباعتقاد أن القرآن مخلوق حقيقة، والمزاح بالقرآن كقوله: والتفت الساق بالساق، أو ملأ قدحاً وجاء به وقال: وكأساً دهاقاً، أو قال عند الكيل أو الوزن وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، وقيل إن كان جاهلاً لا يكفر.
وبترك الصلاة متعمداً غير ناوٍ للقضاء، وغير خائف من العقاب، ويكفر بإتيانه عيد المشركين مع ترك
الصلاة تعظيماً لهم. ويكفر بقوله: إن هذه الطاعات جعلها الله عذاباً عليناً، بلا تأويل، أو قال:(215/150)
لو لم يفرض الله هذه الطاعات لكان خيراً لنا، وبالاستهزاء بالأذكار، وبتسميته عند أكل الحرام، أو فعل الحرام كالزنا، ويكفر بالاستهزاء بالأذان لا بالمؤذن.
ويخاف الكفر على من قال للأمر بالمعروف: غوغا، على وجه الرد والإنكار، ويكفر بقوله له: فضولي ...ويكفر بتصدقه على فقير بشيء حرام يرجو الثواب.
ويخاف عليه الكفر إذا شتم عالماً أ, فقيهاً من غير سبب.
وبخروجه إلى نيروز المجوس والموافقة معهم فيما يفعلون في ذلك اليوم، ويشرائه يوم النيروز شيئاً لم يكن يشتريه قبل ذلك تعظيماً للنيروز، لا للأكل والشرب، وبإهدائه ذلك اليوم للمشركين ولو بيضة تعظيماً لذلك اليوم..
وبتحسين أمر الكفار اتفاقاً، حتى قالوا: لو قال: ترك الكلام عند أكل الطعام من المجوس حسن،
أو ترك المضاجعة حالة الحيض منهم حسن فهو كافر.
وبذبحه شيئاً في وجه إنسان وقت الخلقة، أو للقادم من الحج أو الغزو، والمذبوح ميتة، وقيل: لا يكفر، وقوله لسلطان زماننا، عادل، وقيل: لا، وعلى هذا الاختلاف قول الخطباء في ألقاب السلطان: العادل الأعظم، مالك رقاب الأمم، سلطان أرض الله، مالك بلاد الله وبقوله: لا تقل للسلطان هذا، حين عطس السلطان فقال له رجل: يرحمك الله...وباعتقاد أن الخراج ملك السلطان.
ويكفر بتلقين كلمة الكفر ليتكلم بها ولو على وجه اللعب.
وكذا من حسن كلام أهل الأهواء وقال: معنوي، أو كلام له معنى صحيح، إن كان ذلك كفراً من القائل كفراً من القائل كفر المُحَسَّن، وكذا من حسن رسوم الكفرة، واختلف في تكفير من قال: إن إبراهيم بن أدهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة.
قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر. وفي "الجامع الأصغر": إذا أطلق الرجل كلمة
الكفر عمداً لكنه لم يعتقد الكفر قال بعض أصحابنا: لا يكفر، لأن الكفر يتعلق بالضمير ولم يعقد الضمير على الكفر، وقال بعضهم: يكفر، وهو الصحيح عندي لأنه استخف بدينه...(215/151)
والحاصل أنه من تكلم بكلمة الكفر هازلاً أو لاعباً كفر عند الكل، ولا اعتبار باعتقاده... الخ) انتهى كلام ابن نجيم، وهو منبٍ عن كثير من ألفاظٍ يكفر بها عند الحنفية وكثير من غيرهم.
وقال الخطيب الشربيني في شرحه لمتن أبي شجاع المسمى"غاية الاختصار" من الكتب الفقهية الشافعية (2/175) بعد تعداد صور يكفر بها المسلم: (وهذا باب لا ساحل له) اهـ وفي "الكبائر"
لابن حجر الهيتمي من ذلك شيء كثير وكذا في "قواطع الإسلام" له.
وقال مرعي بن يوسف الحنبلي في كتابه"غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى" (3/353):
(من ادعى النبوة أو صدَّقه، أو أشرك بالله تعالى، أو سبه، أو رسولاً أو ملَكاً له، أو جحد ربوبيته،
أو وحدانيته، أو صفة...أو كتاباً أو رسولاً أو ملَكاً له، أو وجوب عبادة من الخمس ومنها الطهارة،
أو حكماً ظاهراً مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً، بلا تأويل كتحريم زنا أو لحم - لا شحم - خنزير،
أو حشيشة، أو حل خبز، ونحوه أو شك فيه ومثله لا يجهله، أو يجهله وعرف وأصرّ، أو سجد لصنم
أو كوكب، ويتجه السجود للحكام بقصد العبادة كفر، وللتحية كبيرة، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً، قاله الشيخ.
أو أتى بقولٍ أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، أو امتهن القرآن - صانه الله تعالى - أو ادعى اختلافه أو القدرة على مثله، أو أسقط حرمته كفر...الخ).
فلعله بهذه النقول عن فقهاء المذاهب الأربعة يظهر الحق، ويبطل قول من قال: إن المسلم القائل بالشهادتين القائم بالأركان لا يكفر، كما يدندن حوله كثير من غلاة القبوريين منذ أزمان.
فصل
فإذا تقرر إجماع أهل العلم أن الذي يقول لا إله إلا الله محمد رسول، ويصلي ويزكي ويصوم ويحج،(215/152)
قد يخرج من الدين جملة، فيكون مرتداً لقولٍ يقوله، أ, فعلٍ يفعله، أو اعتقادٍ يقوم بقلبه، فإننا بعد ذلك نقيم البرهان من كلام أهل العلم على تكفير عباد القبور، العاكفين عليها الداعين أصحابها، أو المستشفعين بأهل القبور كائناً من كانوا، وإن في كلام الله - تبارك وتعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأكبر العلم الذي ليس بحاجة معه إلى نقل كلام آخر، ولكن من الناس من لا يفقه دلائل الكتاب والسنة حتى تنقل له أقوال العلماء، وإن هذا الفصل منشأ لهذه الغاية، بما لا يظل بعده للمنازع حجة، ولا سبيل إلى الاعتراض،
إذ من تأتي النقول عنهم صرحوا بكفر وشرك من سأل غير الله، أو اتخذه واسطة.
فمنها: ما قاله الشيخ العلامة صنع الله بن صنع الله الحلبي ثم المكي المتوفي سنة 1120هـ في كتابٍ رد به على من ادعى أن للأولياء تصرفاً في الحياة وبعد الممات، قال:
(هذا وإنه قد ظهر الآن بين المسلمين، جماعات يدعون أن للأولياء تصرفاتٍ في حياتهم وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات ...، قال: وهذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة).
ثم ساق قوله تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } ]فاطر: 13[، وذكر آياتٍ في هذا المعنى ثم قال: فقوله في الآيات كلها: { مِنْ دُونِهِ } أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده...إلى أن قال:(215/153)
وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } ]الزمر: 30[، { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت } ]الزمر: 42[.
ثم قال: (وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله، وأبدع، لمصادمة قوله جل ذكره:
{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } ]النمل: 62[،
{ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر } ]الأنعام: 63[)، وذكر آياتٍ لهذا المعنى ثم قال: (فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المستعان لكشف الشدائد والكرب، وأنه المتفرد بإجابة المظطرين، وأنه المتسغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك.
فإذا تعين - جل ذكره - خرج غيره من ملك ونبي وولي، فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي
أو روح أو غير ذلك في كشف كربةٍ أو قضاء حاجته تأثيراً فهو على شفا حفرة من السعير.
قال: فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن: { هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } ]يونس: 18[،
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[، { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ } ]يّس: 23[.
فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك
مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره) انتهى كلام العلامة صنع الله الحلبي ثم المكي الحنفي(1).
__________
(1) :باختصار من "تيسير العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله،(ص196-199).(215/154)
3 - وقال العلامة أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 845 صاحب التصانيف في كتابه "تجريد التوحيد المفيد"(ص8):
(وشرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية. فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عباد الأصنام، وعباد الملائكة، وعباد الجن، وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، والذين قالوا: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ]الزمر: 3[ ويشفعوا لنا عنده، ولنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك، وأقاربه وخاصته.
والكتب الإلهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده، وتقبح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى، وجميع الرسل - صلوات الله عليهم - متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم،
وما أهلك تعالى من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله).
وقال (ص12-13): (والناس في هذا الباب أعني: زيارة القبور على ثلاثة أقسام: قوم يزورون الموتى فيدعون لهم، وهذه هي الزيارة الشرعية. وقوم يزورونهم يدعون بهم، فهؤلاء المشركون في الألوهية والمحبة(1) وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: { اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد } وهؤلاء هم المشركون في الربوبية).
وقال المقريزي أيضاً (ص18-19):
(ومن خصائص الألوهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به، ومنها التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به، ومنها الحلف باسمه فمن حلف بغيره فقد شبهه به، ومنها الذبح له فمن ذبح لغيره فقد شبهه به، ومنها حلق الرأس إلى غير ذلك.
__________
(1) :يعني بـ(يدعون بهم) الاستشفاع بهم، وسؤالهم الشفاعة والتوسط، ولا يعني التوجه بالذوات أو الجاه ونحو ذلك، لأن هذا ليس شركاً، بل بدعة ووسيلة إلى الشرك.(215/155)
هذا في جانب التشبيه، أما في جانب التشبه فمن تعاظم وتكبر ودعى الناس إلى إطرائه ورجائه ومخافته، فقد تشبه بالله، ونازعه في ربوبيته، وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان، ويجعله كالذر تحت أقدام خلقه) انتهى.
وقال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي في "شرح درر البحار": (إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً: يا سيدي فلان! إن رُدّ غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب والفضة أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعاً، لوجوه: - إلى أن قال -: (منها ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقادُ هذا كفر) انتهى، نقله عنه جماعة منهم سراج الدين بن نجيم في "النهر الفائق شرح كنز الدقائق"، وعنه نقل الشوكاني في "الدر النضيد"(ص40) وغيرهم.
وقال العلامة محي السنة في الأصقاع اليمانية حسين النعمي المتوفى سنة 1187هـ في كتاب "معارج الألباب في مناهج الحق والصواب"(ص209) بعد كلام طويل في الدعاء: (فدعاءُ غير الله تعالى: إخراج للدعاء عن محله وموضوعه، كقيامه بتلك الصلاة على تلك الكيفية للمقبور والحجر، سواء بسواء، والفصل بين الصلاة والدعاء: فصلٌ بين متآخيين، وتفريق بين قدين، وإلا فليجعلوا للمقبور صلاة وصياماً، ونحوهما، يفارق الذم والتشريك، ويكون صالحاً خالياً عن الفساد والمنكر، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم) اهـ.
وكتابه كله في موضوع القبور،وعبادها، وفيه من البراهين المنيرة، والحجج القويمة ما يرجع كل ضال كتبت له الهداية إلى سواء الصراط.
وقال قرين النعمي ومؤاخيه في نصر السنة في اليمن العلامة محمد ابن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى سنة 1182 في داليته المشهورة في مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
ويَعْمُر أركانَ الشريعةِ هادماً مشاهدَ ضلَّ الناسُ فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سُوَاعٍ ومثله يغوثُ وودٌ بئسَ ذلك من وَدّ
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتِفُ المضطرُّ بالصَمَدِ الفرد(215/156)
وكم عقروا في سَوْحها من عقيرةٍ أهلْتْ لغير الله جهلاً على عمد
وقال في كتابه"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"(ص15):
(والنذور بالمال على الميت ونحوه، والنحر على القبر، والتوسل به، وطلب الحاجات منه: هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنما يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، والأسماء لا أثر لها، ولا تغير المعاني ضرورة لغوية وعقلية وشرعية) اهـ.
وقال عالم اليمن في القرن الثالث عشر محمد بن علي الشوكاني في "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد"(ص19) بعد سياقه الأدلة على كفر عباد القبور المستشفعين والمستغيثين بأصحابها: (فإن قلت: إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات، قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه.
قلت: وهكذا كانت الجاهلية، فإنهم كانوا يعلمون أن الله هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده،
وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز.
ثم قال (ص21): (فإن قلت: إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون بها.
قلتُ: هؤلاء إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها بأفعالهم، فن من استغاث بالأموات، أو طلب منهم
ما لا يقدرُ عليه إلا الله سبحانه، عظّمهم أو نذر لهم بجزء من ماله، أو نحر لهم، فقد نزلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال، فهو لم يعتقد معنى لا إله إلا الله، ولا عمل بها، بل خالفها اعتقاداً وعملاً، فهو في قول لا إله إلا الله كاذب على نفسه، فإنه قد جعل إلهاً غير الله) اهـ.
ومثل هذه النقول كثيرة في الشرق والغرب من علماء كل بلد، الذين تخلصوا من التقليد والتبعية للمشايخ الكذبة المستفيدين من المساكين الجهلة.(215/157)
والنقول كثرة فتتبعها تجد ما قلنا، وما زال أهل العلم(1)، في كل قرن ينكرون هذه الأمور ويكفرون فاعلها، ففي القرن الخامس: أنكرها وكفر بها ابن عقيل الحنبلي صاحب الفنون.
وفي السادس: ابن الجوزي،وفي السابع: أبو شامة والنووي وغيرهم وابن تيمية،وفي الثامن: ابن القيم وابن عبد الهادي وابن كثير وابن مفلح وكلهم حفاظ مشهورون، وفي التاسع: المقريزي وغيره كابن قطلوبغا وفي العاشر: البركوي، وفي الحادي عشر: صنع الله الحلبي والبهوتي، وفي الثاني عشر: جماعات تفرقت بلدانهم والتقت كلماتهم بهدي ربهم، ففي وسط الجزيرة محمد بن عبد الوهاب، وفي اليمن النعمي والصنعاني، وغيرهم جماعات ثم بعد ذلك كثر القول بالحق في أصقاع الأرض في الهند والعراق ومصر والشام والجزيرة وغيرها من البلدان في الشرق والغرب.
ولو قال عالم أو عالمان في مسألة حكماً بدليها لوجب الرجوع إلى قولهما، فكيف بأمة من العلماء ينهون ويحذرون عن هذا الشرك وأدلتهم أوضح أدلة، وأصحها في النقليات، وأصرحها في العقليات؟!
فليخف كل إنسان على نفسه وإسلامه، فإن الأمر أمر كفر وإسلام، وإلحاد وإيمان، فالخوف الخوف، والنجاة النجاة يا عباد الله!
فصل
وللشيخ تقي الدين ابن تيمية وعلماء الحنابلة الأقوال المستفيضة في كفر متخذ الشفعاء والأنداد من الأموات، فهاك بعضها تتميماً للمقام:
قال شيخ الإسلام: (من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، يدعوهم، ويسألهم - كفر - إجماعاً) نقله عنه جماعة مقررين له، ومنهم ابن مفلح في "الفروع"(6/165)، والمرداوي في"الإنصاف"
(10/327)، والشيخ مرعي في "غايةالمنتهى"(3/355)، وفي "الإقناع وشرحه"(4/100)، ونقله من غير الحنابلة ابن حجر الهيتمي المكي في "قواطع الإسلام".
__________
(1) 1 ):ومن ذكرت أسمائهم على سبيل التمثيل والتصريح.(215/158)
قال الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد"(ص194): (وهو إجماع صحيح ومعلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي: عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات.
وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن دعاء الله عبادة له، فيكون صرفه لغير الله شركاً) اهـ.
وقال ابن تيمية في "الرسالة السنية":
(فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني،أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل) اهـ.
وقال تلميذه ابن القيم في "مدراج السالكين"(1/340):
(والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد
أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد.
وقال: وترى المشرك يكذب حالُه وعملُه قولَه، فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله ثم
يغضب لهم ولحرماتهم - إذا انتهكت - أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشش به، سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم الباب بين الله وبين عباده، فإنك ترى المشرك يفرح ويُسَرّ ويحن قلبه، وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة، وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده لحقته وحشة، وضيق وحرج، ورماك بنقص الإلهية التي له، وربما عاداك.
رأينا والله منهم هذا عياناً، ورمونا بعداوتهم، وبغوا لنا الغوائل، والله مخزيهم في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا، فقال هؤلاء: انتقصتم مشايخنا) اهـ.
وقال الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه "الصارم المنكي" آخر ورقة منه: (قوله - أي السبكي -:(215/159)
إن المبالغة في تعظيمه واجبة(1) أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً حتى الحج إلى قبره، والسجود له والطواف له، واعتقاد أنه يعلم الغيب،وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين،ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن شاء، ويدخل الجنة من شاء، فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين) اهـ.
فتدبر مقالة هذا الحافظ العلم، والحافظ قبله، تعلم منه أن الخزي والسوء على المشركين، الذين سهلوا قيادهم لمردة الشياطين وجند إبليس، وهو على إضلالهم حريص، فقال لرب العالمين: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ]صّ: 83[.
فافطن لهذه المواضع التي التقت فيها كلمة أهل العلم الذين أثنى عليهم وشهد لهم بالإمامة والفقه واتباع السنة علماء عصرهم، ومن بعدهم إلى يومنا.
وبهذه النقول الجليات، والكلمات الواضحات، والأحرف النيرات، من العلماء الأعلام، تنزاح شبه طالما علقت بقلوب الذين زين لهم المتسيدون الفساد والشرك جهلاً أو عن علم.
والواجب الوقوف على هذه المكفرات، المحكوم على مرتكبها، بالشرك الأكبر المخرج من الدين، والنظر فيها وفقه معانيها، وسؤال الله الابتعاد عنها، وتجنب أهلها، والبراءة منهم قولاً وعملاً.
ويتحتم شرعاً على طالب السلامة، مبتغي الجنة ورضا رب العالمين أن يتعلم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ويتعلم فضله، وأنواعه، وأن يتعلم حكم ضده ليحذر منه، من الشرك الأكبر ووسائله ودواعيه.
وليستقيم طالب النجاة على التوحيد قولاً وعملاً واعتقاداً، وليباعد نفسه من كل ما يخدشه،
__________
(1) :أي:تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - .(215/160)
أو يكْلِمه، وليوطن نفسه على تحقيقه كاملاً تاماً من شوائب النقصان، فبهذا تنال الكرامة عند الله، ويلحق المؤمن بأفضل الخلق محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وبأصحابه، والصديقين والشهداء، { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } ]النساء: 69[.
فصل
قال الشوكاني في "الدر النضيد"(ص27-28):
(واعلم أن ما حررناه وقررناه من أن كثيراً مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركاً، قد يخفى على كثيرٍ من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفياً في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر وكونه قد شاب عليه الكبير وشب عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه ولا يرى و لا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه، ويندب الناس إليه.
وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة وللعامة فيهم اعتقاد، وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر، ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت؛ ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم الأرزاق، ويقتنصوا النحائر، ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً.
وربما يهولون على الزائر لذلك الميت، ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه... ثم قال:(215/161)
فبمجوع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة، وانقراض القرن بعد القرن يظن الإنسان في مبادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما تعلمه من العلم بعد ذلك، بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه، وإذا سمع من يقول ذلك أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه؛ لأنه يبعد كل البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات إلى كونه من أقبح المقبحات وأكبر المحرقات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودب فيه الأخلاف، وتعادوته العصور، وتناوبته الدهور.
وهكذا كل شيء يقلد الناس في أسلافهم، ويحكمون العادات المستمرة، وبهذه الذريعة الشيطانية، والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي على يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكراً والمنكرمعروفاً، وتبدلت الأمة بكثير من المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك ومرنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم، وأنسوا إليه، حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك ولم تقبله طبائعهم، ونالوا ذلك المرشد بكل الكره، ومزقوا عرضه بكل لسان) انتهى كلام العلامة الشوكاني، وهو فصل فيما ذكرهن فعسى الله أن يهدي به أقواماً إلى طريقه القويم، وصراطه السابل الكريم.
فصل
وكثيراً ما يردد المفتونون بالقبور، الغالون في الصالحين في منع الحكم على فعلهم بالشرك أن هذه الأمة
لا يقع فيها إشراك بالله، ورجوع إلى أديان من سبق من الأمم، فيحتجون بهذا مع احتجاجهم بمنع تكفير من تلفظ بلا إله إلا الله، ولم يعمل بما دلت عليه من إخلاص العبادة لله، وإفراده وحده بأنواع أفعال العباد كالمحبة والرجاء والخوف - خوف السر - والدعاء والاستغاثة والاستعانة والذبح والنذر ونحوها.(215/162)
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قطع هذه الشبهة من القلوب، وبصر أمته بهذه المسألة فتركها وقد حذر وأنذر وأخبر، فحذر من سلوك مسلك اليهود والنصارى، وأخبر بأن أمته تحذو الأمم قبلها في ما عملته تلك الأمم من شرك وعصيان، فروى الشيخان البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي سعيد الخدري
- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: { لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم } ، قلنا: يا رسول الله! آليهود والنصارى؟ قال: { فمن؟ } هذا لفظ البخاري (13/300)، وأخرجه البخاري عن أبي هريرة.
قال ابن بطال في "شرح البخاري": (أعلم - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور، والبدع، والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس) اهـ.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله(1): (وهذا من معجزاته، فقد اتبع كثير من أمته سنن اليهود والنصارى وفارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الأديان والحروب والعادات من زخرفة المساجد، وتعظيم القبور واتخاذها مساجد، حتى عبدوها ومن فيها من دون الله، وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت...واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، والإعراض عن كتاب الله، والإقبال على كتب الضلال من السحر والفلسفة والكلام، والتكذيب بصفات الله التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -).
__________
(1) :"تيسير العزيز الحميد"(ص320-321) ط. الأولى.(215/163)
قال: (إن الأمم قبلنا وجد فيها الشرك، فكذلك يوجد في هذه الأمة كما هو الواقع)، وروى أحمد في "المسند"(5/278،284)، وأبو داود في "السنن"(4252)، وابن ماجه (3952)، والحاكم(4/449)، وغيرهم عن ثوبان - رضي الله عنه - في حديثٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { لا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان } .
هذا لفظ أحمد وأبي داود، وإسناده صحيح على شرط مسلم، ففي الحديث الرد على من قال بخلافه من عباد القبور، الذين ينكرون وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة.
وفي معناه ما أخرجه البخاري(13/76)، ومسلم(8/182) عن أبي هريرة مرفوعاً: { لا تقوم الساعة حتى تضطرب ألياتُ نساء دوس على ذي الخَلَصة } .
وأخرج مسلم (8/182) عن عائشة مرفوعاً: { لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى } .
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً كثيراً، وإن عبادة اللات والعزى لكائنة.
قال ابن بطال في شرحه للبخاري: (هذا الحديث وما أشبهه ليس المراد به أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض حتى لا يبقى منه شيء؛ لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة، إلا أنه يضعف ويعود غريباً كما بدأ) اهـ.
ففي هذه الأحاديث دليل على أن الأمة يكون فيها الشرك قبل قيام الساعة، وفي حديث ثوبان دليل واضح على وقوع الشرك في قبائل، وفي لفظ: { فئام } أي: جماعات كثيرة، وهناك قبائل من أمته على الحق ثابتون، فدل على أن هذا عند غربة الدين واشتداد ذلك، وهذا من علامات القيامة الصغرى
التي تكون قبل قيام الساعة بأزمان مديدة، شأنها شأن سائر العلامات الصغرى التي تكون كما أخبر
نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من بعد موته إلى قرب قيام الساعة.
وهذه العلامات كثيرة في أحاديث مشهورة، ولحوق قبائل من أمته بالمشركين، وعبادة قبائل الأوثان من جنسها مما يكون شيئاً إلى قيام الساعة.(215/164)
وحديث عبادة اللات والعزى وذي الخلصة تكون العبادة - وهو الظاهر - لها بأعيانها، وقد يكون أراد أجناسها مما يعبد من دون الله، والأول أليق لتعين حمل النص على ظاهره.
فصل
ويحتج بعض المبتدعة المخرفين بحديثٍ رواه مسلم في "الصحيح"(8/138): عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: { إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش
بينهم } (1).
والجواب: أن يقال: إن الشيطان أيس بنفسه – ولم يُأَيَّس – لما رأى عز الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإقبال القبائل على الدخول في هذا الدين الذي أكرمهم الله به، فلما رأى ذلك يئس من أن يرجعوا إلى دين الشيطان، وأن يعبدوا الشيطان أي: يتخذوه مطاعاً.
وهذا كما أخبر الله عن الذين كفروا في قوله: { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } ]المائدة: 3[ فهم يئسوا أن يراجع المسلمون ما عليه المشركون من الدين الباطل القائم على اتخاذ الأنداد مع الله، وصرف العبودية إلى أشياء مع الله أو من دونه.
فلما رأى المشركون تمسك المسلمين بدينهم يئسوا من مراجعتهم، وكذا الشيطان يئس لما رأى عز المسلمين ودخولهم في الدين في أكثر نواحي جزيرة العرب.
والشيطان - لعنه الله - لا يعلم الغيب، ولا يعلم أنه ستحين له فرص يصد الناس بها عن الإسلام والتوحيد، وكانت أول أموره في صرف الناس لعبادته بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث أطاعه أقوام وقبائل، فارتدت عن الإسلام إما بمنع الزكاة، أو باتباع مدعي النبوة.
فنشط وكانت له جولة وصولة ثم كبته الله، والمقصود أن الشيطان ييئس إذا رأى التمسك بالتوحيد والإقرار به والتزامه، واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو حريص على أن يصد الناس عن هذا.
__________
(1) :ساقه صاحب المفاهيم (ص27) هكذا: { إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرتكم - جزيرة العرب - } ، فحذف كلمة (المصلون) الثابتة.(215/165)
ولذا تمكن من هذا في فتراتٍ مختلفة، فعبده القرامطة عبادة طاعة وهم في الجزيرة وأفسدوا
ما أفسدوا، وعبده من بعدهم مما يعرفه أولو البصيرة. { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } ]يّس: 60-61[.
قال أبو جعفر محمد بن جرير إمام المفسرين - رحمه الله - في "تفسيره"(22/23 حلبي): (يقول:
وأَلَم أعهد إليكم أن اعبدوني دون كل ما سواي من الآلهة والأنداد، وإياي فأطيعوا، فإن إخلاص عبادتي، وإفراد طاعتي، ومعصية الشيطان هو الدين الصحيح والطريق المستقيم) انتهى.
ثانياً: إن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه هذا القرآن الذي فيه فصل ما بين الشركوالتوحيد، ونُوَّع هذا في القرآن وقرر حتى صار مما يعلم بالضرورة أن النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله يدعو إلى التوحيد - توحيد العبادة - وينهى عن الشرك وهو اتخاذ الأنداد وعبادة غير الله ومحبة غيره كمحبة الله.
فهذا معلوم بالضرورة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل أناساً مقرين بتوحيد الربوبية وهو أن خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم ومحيهم ومميتهم، قاتلهم ليقروا ويلتزموا بتوحيد الإلهية الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
فبهذا الأصل وهو الركن الأوثق والطود الأعظم نعلم يقيناً أن الله - جل وعلا - لم يترك هذا الأمر ملتبساً أو مما يجتهد فيه أهل الذكر، بل هو أصل مقطوع به، مجزوم به لا اشتباه فيه ولا التباس،
كما قال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في حديث العرباض بن سارية الصحيح: { تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } ، فهذه البيضاء هي مضمون لا إله إلا الله، وهي إفراد الله بالعبادة وخلع الأنداد، والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة من الشرك وأهله، كما فسرها أهل العلم - رحمهم الله -.(215/166)
فإذا علم هذا يقيناً فمحال أن يكون الشرك بصورته التي نهى الله عنها موجوداً في بلادٍ كثيرة ويحكم عليها بالشرك، ويوجد في الجزيرة بصورته ولا يحكم عليها بالشرك، هذا من التلاعب والهوى الصارخ، فمعنى الحديث متضح والحمد لله.
ثالثاً: جاء في الحديث إياس الشيطان من أن يعبده المصلون، والصلاة من أركان الإسلام العظام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، والصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } ]العنكبوت: 45[، وأعظم المنكر الشرك بالله وصرف محض حق الله إلى غيره من الأنبياء والصالحين، فيكون هذا القيد لازماً للشهادة وإخلاص الدين، فيكون المعنى:
إن الشيطان يئس أن يعبده المخلصون دينهم لله، فتأمل نكتة تقييده بالمصلين، ويعني بها حقيقة الصلاة وثمرتها، وهذه نكتة مفيدة منَّ الله بها، والحمد لله الموفق للصالحات.
الباب الخامس
التبرك
التبرك
تقول: تبرك يتبرك تبركاً.مأخوذ من البركة.
قال أبو منصور في "تهذيب اللغة"(10/231): (وأصل البركة: الزيادة والنماء).
فالبركة: زيادة ونماء في شيءٍ يريده المتبرك في تبركه بما تبرك به.
وهذه الزيادة والنماء قد تكون في أمكنةٍ، وقد تكون في ذوات، وقد تكون في صفاتٍ، هذا على مقتضى ورودها اللغوي، وأما الشرعي فيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء الله.
ومن الأول قوله تعالى: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } ]فصلت: 10[، وقوله: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } ]الأعراف: 137[،وقوله:
{ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } ]لأعراف: 96[، وقوله: { وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً }
]المؤمنون: 29[.(215/167)
ومن الثاني قوله تعالى: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ }
]الصافات: 113[، وقوله تعالى في قصة نوح: { اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ }
]هود: 48[.
ومن الثالث قوله تعالى: { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } ]النور: 61[، وقوله:
{ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } ]الانبياء: 50[، وإذا تدبرت كتاب الله العزيز وجدت أنه يدل على أن البركة من الله، وتُطلب منه سبحانه وتعالى وحده، وهو يضعها فيمن شاء من خلقه، وفي
ما شاء من بريته.
قال تعالى: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ]لأعراف: 54[، وقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } ]الفرقان: 1[ وقال: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً } ]الفرقان: 61[
وقال: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ]المؤمنون: 14[، وقال: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ }
]الرحمن: 78[، والآيات الواردة بلفظ(تبارك) كثرة.
ولفظ { تَبَارَكَ } لم يرد في كتاب الله إلا مسنداً إلى الله، وهي صيغة مفيدة أعظم أنواع معنى البركة، وأكثرها نفعاً، وأعمها متعلقاً وأثراً. فالبركة لله، والله - سبحانه وتعالى - أخبر أنه أعطى بركة لأصنافٍ من خلقه:
فمن ذلك:(215/168)
1 - الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } ]الصافات: 113[، وقال في إبراهيم وأهل بيته: { رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } ]هود: 73[، وقال في نوح: { اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ } ]هود: 48[، وقال عيسى عليه السلام: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ } ]مريم: 31[.
2 - ومن ذلك وضعه البركة في أماكن العبادة كالمسجد الأقصى، والمسجد الحرام، قال تعالى:
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }
]الاسراء: 1[،وقال تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا } ]آل عمران: 96[.
3 - ومن إخباره عن ما أنزله من الذكر أنه مبارك، قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } ]الانبياء: 50[، وهذا الذكر هو القرآن العظيم كما قال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ }
]الأنعام: 92[، وقوله: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } ]صّ: 29[.
فالقرآن الحكيم ذكر مبارك، وتدبر آياته عمل مبارك، ومن هذا التدبر علوم القرآن، والسنة مبينة لمجمل القرآن، وهي مباركة، واتباع القرآن والسنة مبارك، وعلومهما الناشئة عن تدبر آيات الكتاب وفقه السنة علوم مباركة.
هذه أنواع ثلاثة فيها بركة خاصة، دل عليها الذكر الحكيم، وهناك بركة عامة، لها أنواع أيضاً:
فمن ذلك:
1 - أن المطر مبارك لما يحصل به من زيادة في معايش الناس وزروعهم، ونماء في ذلك، قال تعالى:
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } ]قّ: 9[.(215/169)
2 - ومن ذلك مباركته تعالى في الأرض كما قال: { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا }
]فصلت: 10[،وقوله: { مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } ]الأعراف: 137[.
3 - ومن ذلك مباركته تعالى ما يأتي من السماء وما يخرج من الأرض، كما قال: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } ]لأعراف: 96[، فهذه وأشباهها، مباركة عامة يحصل بها النفع والخير، والنماء والزيادة.
ولعله يظهر أن البركة الخاصة اللازمة لذاتٍ - دون المكان والصفة - تكون متعدية يحصل التبرك بأعيانها لما فيها من البركة اللازمة الدائمة بالذات.
وأما البركة الخاصة بمكان العبادة كالمسجد الحرام والمسجد النبوي، فإن البركة لا تكون متعدية بأجزاء المسجد، فلا يتمسح بأعمدة المساجد ولا جدرانها بإجماع المسلمين، والمساجد مباركة، فعلم أن بركتها معناها زيادة ونماء في ما يحصله العابد من الخير، فالمسجد الحرام صلاة فيه بمئة ألف صلاةٍ فيما سواه، والمسجد النبوي بألف صلاة.
وهذا نحو بركة الرسل - صلوات الله عليهم -، فإنها في أحد قسميها بركة اتباع عمل، فالمتبع لسنتهم المهتدي بهديهم يحصل له نماء وزيادة في ثواب عمله بسبب اتباعهم، فهذه معنى البركة الخاصة بقسميها، بخلاف المباركة العامة فإنها قد تحصل في وقتٍ دون وقت، أو في نوع دون نوع، فمما هو بَيَّن أنه ما كل
ما جاء من السماء وخرج من الأرض يكون مباركاً دائماً، بل إعطاؤه البركة من الله متعلق بأمورٍ أخرى،
إن وجدت أعطي البركة، وإن انتفت زالت البركة، فهي بركة عامة من حيث ظرفها، خاصة من حيث
وقتها، غير لازمة للشيء، إذا تقرر هذا، فالبركة في مواردها من الكتاب والسنة قسمان:
الأول: بركة ذات، وأثرها أن يكون ما اتصل بتلك الذات مباركاً، وهذا النوع للأنبياء والمرسلين(215/170)
لا يشركهم فيه غيرهُم، حتى أكابر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا يشركونهم في هذه البركة.
ولا يعتدى أثر بركة الأنبياء إلا لمن كان على ما دعى به سائرين، وبعمله مقتدين، وبأمره ملتزمين وعن نهيه منتهين، ولذا فصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تتعهد إليهم بركته في معركة أحد حين خالفوا أمره وعصوه.
وهذا النوع من تعدي البركة قد انقطع بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا ما كان من أجزاء ذاته باقياً بيقين بعد موته أحد، وقد ذهب ذلك المتيقن مع انقراض قرن الصحابة - رضي الله عنهم -.
الثاني: بركة عمل واتباع: وهي عامة لكل من وافق عمله سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكل مسلم فيه بركة عمل مقدرة بقدر اتباعه وموافقته لأمر الله ونهيه، بالإتمار بالأمر، والانتهاء عن النهي.
ولذا جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه"(9/569) في النخلة: { وإن من الشجر لما بركته كبركة المسلم } .
فكل مسلم بركة بقدره، وليست هي بركة ذات، معلوم هذا باليقين وما ادعاه مدع، وإنما هي بركة عمل.
وفي الصالحين من عباد الله المتبعين بركة عمل واتباع بقدر ما فيهم من مقتضيات تلك البركة، فالعالم بالسنة له بركة علم، والحافظ لكتاب الله الواقف عند حدوده فيه بركة من أثر ذلك، وهكذا.
وإن أعلى الصالحين بركة أشدهم اتباعاً لدين الإسلام، ومحافظة على واجباته، ومباعدة عن محرماته، ومن المحرمات أفعال القلوب، فكم من مبتعد عن محرمات الجوارح، خائض في محرمات القلوب، ولا يبالي.
وبهذا تجتمع النصوص، فما كان من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فهو مما اجتمع فيه نوعي
البركة، وما كان من غيرهم فهم مما بورك فيهم بركة عمل وعلم واتباع، ولذا تجد أثر هذه البركة لا يتعدى
إلا بالأعمال، لا بالذات ولا بأجزائها.(215/171)
ولذا قال أُسيد بن حُضير في سبب مشروعية التيمم: (لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر) أخرجه البخاري في "التفسير" من صحيحه.
واللفظ المروي عند الشيخين البخاري ومسلم: (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر) ومعنى اللفظين واحد، ومعلوم أنه ما كان أسيد ولا غيره يبتغي من أبي بكر أو آله بركة ذاتٍ كما كانوا يفعلونه مع
النبي - صلى الله عليه وسلم -، من التبرك بشعره ونحوه، وإنما هي بركة عمل هو الإيمان والتصديق والنصرة والاتباع.
ومن ذلك ما قالته عائشة - رضي الله عنها - لما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - جويرية بنت الحارث قالت: (فما رأيت امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها) أخرجه أحمد في "المسند"(6/277)، وأبو داود في "السنن" بإسناد جيد.
فهذه بركة عمل لتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، فكان أن سبب ذلك عتق كثير من قومها.
التبرك بالنبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -:
إن النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - مبارك الذات، مبارك الصفات، مبارك الأفعال، وهذه البركة فيه - صلى الله عليه وسلم - متحققة في ذاته وصفاته وأفعاله.
فقد ثبت عن بعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يتبركون بأشياء منفصلة عن بدنه كالشعر، والوضوء، والعرق وغير ذلك، مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، في الصحيحين وغيرهما.
فله - صلى الله عليه وسلم - من أنواع البركة أعلى ما يهبه الله بشراً من رسله، وأجزاؤه - صلى الله عليه وسلم - تتعدى بركتها، ويجوز التبرك بها، كما فعلت جماعة من الصحابة.
وأما آثاره المكانية كمكانٍ سار فيه، أو بقعةٍ صلى فيها، أو أرض نزل بها فلم يعرف دليل شرعي يومئ أو يشير إلى أن بركة بدن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تعدت إلى هذا المكان، فيكون مباركاً يشرع التبرك به، ولذا
لم يكن يفعل هذا صحابته في حياته ولا بعد مماته.(215/172)
فما سار فيه رسول الله أو نزل فيه فلا يجوز التبرك به؛ لأن هذا وسيلة إلى تعظيم البقاع التي لم يشرع لنا تعظيمها، ووسيلة من وسائل الشرك، وما تتبع قوم آثار أنبيائهم إلا ضلوا وهلكوا.
قال المعرور بن سويد الأسدي؛ خرجت مع أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب من مكة إلى المدينة، فلما أصبحنا صلى بنا الغداة، ثم رأى الناس يذهبون مذهباً، فقال: أين يذهب هؤلاء؟
قيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم يأتون يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم، فيتخذونها كنائس وبيعاً، من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض، ولا يتعمّدها. أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"، وابن أبي شيبة في "المصنف"(2/376)، ومحدث الأندلس محمد بن وضاح القرطبي في "البدع والنهي عنها"(ص41)، بإسناد صحيح.
فهذا قول الخليفة الراشد، الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { إن الله - عز وجل - جعل الحق على قلب عمر ولسانه } أخرجه أحمد(2/95) عن ابن عمر بإسناد صحيح، ورواه من طريق أخرى عن ابن عمر(2/53)، ورواه أحمد(5/145)، وأبو داود(رقم2962) عن أبي ذر، ورواه أحمد(2/401) عن
أبي هريرة ورواه جمع عن هؤلاء وغيرهم من الصحابة.
ولا شك أن قول عمر السالف في النهي عن تتبع الآثار من الحق الذي جعله الله على لسان عمر رضي الله عنه. قال ابن وضاح رحمه الله (ص43):
(وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي - صلى الله عليه وسلم -،
ما عدا قباء وأحداً)(1).
قال ابن وضاح: (فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال بعض من مضى: كم من أمرٍ هو اليوم
معروف عند كثير من الناس كان منكراً عند من مضى،ومتحبب إليه بما يبغضه عليه، ومتقربٍ إليه
بما يبعده منه، وكل بدعة عليها زينة وبهجة) اهـ.
__________
(1) :وفي نقل الاعتصام عنه:ما عدا قباء وحده.(215/173)
فانظر إلى كلامه المتين: وكانت وفاة ابن وضاح سنة 286 هـ.
المقصود من هذا أن السلف سلف الأئمة كانوا ينكرون التبرك بالآثار المكانية، وينكرون تحريها والتعلق بها رجاء بركتها، ولم يخالف في ذلك إلا ابن عمر – رضي الله عنهما -، فقد كان يتتبع الأماكن التي صلى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصلي حيث صلى، ونحو ذلك.
وما نقل نقل مصدق عن غير ابن عمر من الصحابة أنه كان يفعل مثل ما فعل ابن عمر في الآثار المكانية.
وابن عمر ما كان يطلب بركة المكان،ولكنه يطلب تمام الاقتداء بكل ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله، حتى إنه أراد الصلاة في كل مكانٍ صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يتتبع ذلك ويعلمه،وما كان فعله - فيما يظهر - قصداً للتبرك بالبقعة كما يفهمه المتأخرون، وإنما قصد تمام الاقتداء، ولم يفعله غيره من صحابة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولم يوافقوه، بل إن أباه نهى الناس عن تتبع الآثار المكانية، وقوله مقدم على رأي ابنه عند الخلاف باتفاق، وهو خلاف لا يقوم في مقابلة اتفاق عمل الصحابة على ترك ما فعله ابن عمر - رضي الله عنه-، ولا شك أن الصواب، والحق مع عمر - رضي الله عنه - وبقية الصحابة، وهو الحري بالاتباع، الفاصل عند النزاع، والله أعلم.
التبرك بذوات الصالحين:
قد تقدم أن بركة الذوات لا تكون إلا لمن نص الله على إعطائه البركة كالأنبياء والمرسلين وأما غيرهم من عباد الله الصالحين فبركتهم بركة عملٍ، أي: ناشئة عن علمهم وعملهم واتباعهم لا عن ذواتهم، ومن بركات الصالحين: دعاؤهم الناس إلى الخير ودعاؤهم لهم ونفعهم الخلق بالإحسان إليهم بنيةٍ صالحة ونحو هذا.
ومن آثار بركات أعمالهم ما يجلب الله من الخير بسببهم ويدفع من النقمة والعذاب العام ببركة
إصلاحهم، كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ]هود: 117[.(215/174)
وأما أن يعتقد أن ذواتهم مباركة، فيتمسح بهم، ويشرب سؤرهم وتقبل أيديهم للبركة دائماً ونحو ذلك، فهو ممنوع في غير الأنبياء لأوجه:
الأول: عدم مقاربة أحدٍ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف بالمساواة في البركة والفضل؟!
الثاني: أنه لم يرد دليلُ شرعي يدل على أن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلُه في التبرك بأجزاء ذاته، فهو خاص به كغيره من خصائصه.
الثالث: ما قاله الشاطبي - رحمه الله - حين تعرض لقياس غير النبي عليه بجامع الولاية، قال في كتاب "الاعتصام"(2/6-7): (إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم لم يقع من أحدٍ منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان ثم علي ثم سائر الصحابة، الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحدٍ منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها(1)، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء) اهـ.
وكذا لم يفعلوا ذلك مع الحسن والحسين - رضي الله عنهما -،ولا فاطمة - رضي الله عنهم أجمعين- فالبركة الذاتية لا تنتقل بالنطفة، خلافاً لمن زعم غير ذلك من غلاة الرافضة، ومن تبعهم من مقلدة وغيرهم.
الرابع: أن سد الذرائع قاعدة من قواعد الشريعة العظيمة قد دلّ عليها القرآن العظيم في مواضع، وفي
السنة شيء كثير يقارب صحيحه المئة، ولعلّه لهذا لم يسلسل التبرك بذوات الصالحين، إنما اختص به
الأنبياء.
__________
(1) :يعني التبرك بالعرق والشعر والوضوء ونحو ذلك.(215/175)
الخامس: أن فعل هذا النوع من التبرك مع غيره - صلى الله عليه وسلم - لا يؤمن أن يفتنه، وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء وتزكية نفسه، وكل هذا من محرمات أفعال القلوب.
فصل
قال صاحب المفاهيم (ص156) بعد أن ساق آثاراً وأحاديث فيها تبرك بعض الصحابة بذات
النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعض أجزاء ذاته، قال:
(والحاصل من هذه الآثار والأحاديث هو أن التبرك به - صلى الله عليه وسلم -، وبآثاره وبكل ما هو منسوب إليه سنة مرفوعة، وطريقة محمودة مشروعة) اهـ.
أقول: في هذا الكلام إجمال سببه عدم التحقيق، وترك تدبر النصوص، فصاحب المفاهيم لم يفرق بين التبرك بذاته - صلى الله عليه وسلم - أو ما انفصل منه، وبين الآثار الأرضية من بقاع صلى فيها، أو جلس فيها.
الأول: كما تقدم بيانه قد فعل بحضرة النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأقره فهو سنة ومشروع.
الثاني: وهو التبرك بالآثار الأرضية، فليس بمشروع، ولذا لم يستطع صاحب المفاهيم أن يأتي بدليلٍ يصدق عليه دعواه العريضة في قوله: (سنة مرفوعة)، وهذا من عدم التفرقة بين المتفرقات، وترك سبيل المحققين من أهل العلم.
ومما يدل على أن التبرك بالآثار الأرضية غير مشروع ومحدثٌ أمورٌ:
الأول: أن هذا النوع من التبرك لم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل فيه شيء نقلاً مصدقاً، لا بإسنادٍ صحيح ولا حسن ولا ضعيف، فلم ينقل أن أحداً تبرك في زمانه بأثر له أرضي، وإذا لم ينقل مع توافر الدواعي على نقله، ووجود الهمم على نقل ما هو دونه بكثير: علم أنه لم يكن في زمانه - صلى الله عليه وسلم -، وما كان كذلك فإحداثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، والبدع يجب النهي عنها ومضادتها.
وهذا ما أرشد الخليفة الراشد إلى النهي عنه، وعن تتبع الآثار الأرضية، كما مَرّ في ما رواه المعرور بن سويد الأسدي.
الثاني: أن بركة ذوات الأنبياء والمرسلين لا تتعدى إلى الأمكنة الأرضية، وإلا لزم أن يكون كل أرضٍ(215/176)
وطئها، أو جلس عليها، أو طريق مر بها، تطلب بركتها، ويتبرك بها. وهذا لازم باطل قطعاً، فانتفى
الملزوم، وهذا جلي لمن تأمل اتساعه وتسلسله.
الثالث: أن طلب التبرك بالأمكنة الأرضية خلاف سنة الأنبياء جميعاً قبل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يتحروا الآثار الأرضية للأنبياء قبلهم، ولا أمروا بتحريها، وكل ما كان خلاف ذلك فهو مما أحدثه الخلوف - الذين يفعلون ما لا يؤمرون - بعد أنبيائهم حين صعبت عليهم التكاليف الشرعية، فرغبوا في التعلق لغفران الذنوب وزيادة الحسنات بالتبرك المبتدع بالآثار المكانية؛ ولذا قال عمر: (إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم)، وقد سبق تخريجه.
الرابع: أن الأمكنة الأرضية لا تكون مباركة إلا بدوم الطاعة فيها، وهي سبب إعطاء الله البركة، فالمساجد مباركة لذلك، وبركتها لا تكون مع زوال الطاعات عنها.
فمما يمثل به على هذا: أن المساجد التي غلب عليها الحربيون وصيروها كنائس زالت عنها بركة المسجد التي كانت حين كان يطاع الله فيه، وبعد أن أحدث فيها الشرك وتعبد فيها بغير شريعة الإسلام، فالبركة تنتزع، وهذا مما لا منازع فيه ولا مجادل.
الخامس: أن التبرك بالآثار المكانية وسيلة إلى ما هو أعظم: من تقديسها والاعتقاد فيها، ولا غرو، فقد قال الإخباريون عن أولاد إسماعيل - صلى الله عليه وسلم -: أنهم (ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش.
وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم وصبابة بمكة)(1).
وما كان هذا شأنه فمنعه أوجب، إذ الوسيلة إلى ما ليس بمشروع ليست بمشروعة سداً للباب، وقطعاً للذريعة.
إن السلامة من سلمى وجارتها أن لا تحلَّ على حالٍ بواديها
__________
(1) : "الأصنام"(ص6)، ولم أسقه للاستدلال، وإنما لبيان ما قيل في حالهم.(215/177)
السادس: أن تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتماس بركته وتحريها يكون بما بقي اليوم من نوعي البركة وهي بركة الاتباع، والعمل بسنته، وجهاد أعداء سنته، والمخالفين لأوامر شرعه، والمنافقين الذي فتنوا الناس وأضلوهم، وبهذا رغب السلف من التابعين وأئمة الهدى، الذين حققوا محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنالهم من بركة اتباعه ما أذن الله فيه، وتركوا عدا هذا من التبرك بالآثار الأرضية، فعلم من هذا أن ما تركوه غير معروف عندهم، ولا هو بمشروع.
وفي هذه الأمور لطالب الهداية والتوفيق مقنع، وللراغب في سداد القول والعمل منجع، وإن الحق لأحق أن يتبع، والحمد لله الموفق للصالحات.
وقال صاحب المفاهيم (ص156):
(وبالنصوص التي نقلناها،يظهر كذب من زعم أن ذلك ما كان يعتني به ويهتم بفعله أحد من الصحابة
إلا ابن عمر،وأن ابن عمر ما كان يوافقه على ذلك أحد من أصحاب الرسول- صلى الله عليه وسلم - وهذا جهل أو كذب
أو تلبيس.
فقد كان كثير غيره يفعل ذلك ويهتم به، ومنهم: الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم-، وأم سلمة، وخالد بن الوليد، وواثلة بن الأسقع، وسلمة ابن الأكوع، وأنس بن مالك، وأم سليم، وأسيد بن حضير(1) وسواد ابن غزية، وسواد بن عمرو، وعبد الله بن سلام، وأبو موسى، وعبد الله ابن الزبير، وسفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسرة خادم أم سلمة، ومالك بن سنان، وأسماء بنت أبي بكر، وأو محذورة، ومالك بن أنس وأشياخه من أهل المدينة كسعيد بن المسيب، ويحيى بن سعيد) انتهى.
أقول: لن أطيل القول في تخريج ما نسبه إلى هؤلاء الصحابة والتابعين، ولكن هنا أمور:
الأول: أن اتهام صاحب المفاهيم من قال بتفرد ابن عمر بالاهتمام بالآثار المكانية بالكذب ثم بالجهل
والكذب والتلبيس، من سيئات المقال، وفضائح الأحوال،إذ ما كان يظن بالصغار أن يكذبوا الكبار من
__________
(1) :تحرف اسم حُضَير بالحاء المهملة إلى خضير بالخاء المعجمة، فصححته.(215/178)
أئمة الحديث والفقه والدين الذين قالوا بتفرد ابن عمر.
الثاني: أن هذا القول نسبتُهُ إلى الجهل أحق، إذ من لم يفرق بين البركة الذاتية، والآثار المكانية فخليق باطراح قوله.
الثالث: أن من أورد أسماءهم إنما رُوي عنهم التبرك بآثاره - صلى الله عليه وسلم - الذاتية الباقية بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم - والعرق والجبة والرداء وما شاكل ذلك على القول بصحته، وإلا فعند التحقيق فلا يصح منه إلا شيء قليل.
فلِمَ يُكذَّب من يقول بالفرق وهو الحقيق بالنظر الصحيح، والقول المنيع؟! أما من لم يسبر العلم
ورضي منه بحظ أدنى الناس نظراً ومعرفة فلا وزن لقوله عند أهل العلم.
وهذه التعمية من صاحب المفاهيم ينخدع بها من يحسن الظن به ويثق بعلمه، وتبعتهم يوم القيامة كبيرة { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } ]البقرة: 166[.
ولا يستطيع صاحب المفاهيم أن ينقل عن غير ابن عمر من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبركه بالآثار المكانية، بسندٍ صحيح أو حسن.
الرابع: نسبته ذلك للإمام مالك إمام المدينة وعالمها ليست صحيحة، فمالك - رحمه الله- كان ينهى عن تتبع الآثار المكانية، وينقل مالك هذا عن أعلام التابعين المدنين، وفي كتب أصحاب مالك من هذا نصوص، منها: ما قاله محدث الأندلس ابن وضاح (ص43) في كتابه "البدع والنهي عنها" قال: (وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ما عدا قباءً وأحداً) اهـ.
فما للذي ينتسب لمذهب مالك لا يكون مالكياً في هذه المسائل، سلفياً كما كان مالك رحمه الله رحمة واسعة؟!
فصل
في معنى الانتساب إلى السف،والسلفية
المسلمون صنفان: سلفيون، وخلفيون.
أما السلفيون: فهم أتباع السلف الصالح.
والخلفيون: أتباع فهوم الخلف، ويسمون بالمبتدعة، إذ كل من لم يرتض طريقة السلف الصالح في العلم والعمل، والفهم والفقه فهو خلفي مبتدع.(215/179)
والسلف الصالح: هم القرون المفضلة، وعلى رأسهم وفي مقدمتهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أثنى الله عليهم بقوله: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } ]الفتح: 29[ الآية.وأثنى عليهم رسول الله بقوله: { خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } .
وتتابعت أقوال الصحابة أنفسهم، والتابعين لهم بإحسانٍ على الثناء على مجموعهم، والاقتداء بمسالكهم.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) وهذا أمر مجمع عليه بين أهل السنة، لا يخالف في ذلك منهم مخالف، وإذا كانوا على مثل هذا الفضل العظيم فلا غرو أن يتشرف المسلم بالانتساب إلى طرائقهم في فهم الكتاب والسنة، وتفسيرهما، وعملهم بالنصوص.
وكانت كل فرقة ضالة من فرق الأمة تستدل لمراداتها ومذاهبها بآياتٍ وأحاديثٍ خلاف فهم السلف لها، وتوسعوا في ذلك حتى كفر بعضهم بعضاً وضربوا كتاب الله بعضه ببعض، كل ذلك بفهمهم للنصوص حَسبَ ما تدعيه كل فرقة، فأصبحت كل الفرق الزائغة تقول: نأخذ بالكتاب والسنة، فالتبس الأمر على
ضعيفي النظر، قليلي العلم.
والمخرج من هذه الدعاوي والأقوال الزائغة هو اتباع نهج خير القرون، فما فهموه من النصوص هو الحق، وما لم يفهموه ولم يعملوا به فليس من الحق.(215/180)
وهكذا تابعوهم بإحسانٍ ممن تلقوا عن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم أجمعين -، فصار من انتسب إلى منهج هؤلاء الصحابة في فهم الكتاب والسنة، ومن أخذ بما صحت روايته عنهم مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ترك الآراء العقلية والفهم المحدث صار من هذا نهجة وسبيله سلفياً، وصار من لم يكن كذلك خلفياً مبتدعاً، إذ تقرر هذا، فكل مسألة من مسائل العلم لا تخلو من أحد ثلاث أحوال:
الأول: أن يكون الصحابة وتابعوهم قد قالوا بها وعملوا بها جميعاً أو بعضهم ولم يظهر له مخالف.
الثاني: أن يكون عمل بها بعضهم، وخالف فيها بعض آخر وهم أكثر.
الثالث: أن تكون المسألة غير معمول بها عندهم.
أما القسم الأول: وهو أن يكون عمل الصحابة كلهم بالمسألة، أو بعضهم ولم يعرف له مخالف، فلا شك أن هذا هو السنة المتبعة، والنهج الواضح البين، والصراط المستقيم، والمحجة البيضاء، فلا يحل لأحدٍ مخالفتهم في ذلك، وأمثلة هذا أشهر وأكثر من أن تذكر في العقائد والعبادات.
وأما القسم الثاني: وهو أن يكون قد عمل بها بعضهم، وخالف آخرون، وهم أكثرهم، حيث آثر عامة الصحابة غير ما اختاره ذلك القليل، وعملوا بغير ما عمل، قال الشاطبي في "الموافقات في أصول الشريعة"(3/57) في وجوب اتباع أكثرهم: (فذلك الغير هو السنة المتبعة، والطريق السابلة، وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلاً، فيجب التثبت فيه، وفي العمل على وفقه، والمثابرة على ما هو الأعم الأكثر، فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل: إما أن يكون لمعنى شرعي، فلا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به، وإذا كان كذلك فقد صار العمل على وفق القليل كالمعارض للمعنى الذي تحروا، وموافقة
ما داوموا عليه)(1) انتهى.
__________
(1) :وساق الشاطبي أمثلة، وفي "التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيمية من ذلك أمثلة كثيرة.(215/181)
ثم قال (3/70-71): (وبسبب ذلك ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل، إلا قليلاً، وعند الحاجة ومس الضرورة إن اقتضى معنى التخيير، ولم يخف نسخ العمل، أو عدم صحة في الدليل، أو احتمالاً لا ينهض به الدليل أن يكون حجة، أو ما أشبه ذلك، أما
لو عمل بالقليل دائماً للزمه أمور:
أحدها: المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها.
الثاني: استلزام ترك ما داوموا عليه، إذ الفرض أنهم داووا على خلاف هذه الآثار، فإدامة العمل على موافقة ما لم يداوموا عليه مخالفة لما داوموا عليه.
والثالث: أن ذلك ذريعة إلى اندارس أعلام ما داوموا عليه، واشتهار ما خالفه، إذ الاقتداء بالأفعال أبلغ من الاقتداء بالأقوال، فإذا وقع ذلك ممن يقتدى به كان أشد.
الحذر الحذر من مخالفة الأولين، فلوكان ثَمَّ فضل ما لكان الأولون أحق به، والله المستعان) انتهى كلام الشاطبي - رحمه الله -.
وأما القسم الثالث: وهو أن تكون المسألة غير معمول بها عندهم، فلا مراء في أن ما خرج عن عملهم كلهم بدعة وشر، إذا كان مما يتقرب به عامله إلى ربه، لا إن كان من العاديات فالأصل فيها الإباحة.
ولذا يقال لكل من عمل عملاً لم يكن على طريقة السلف وفهمهم لنصوص الكتاب والسنة: إنك مبطلٌ مبتدع، مُتَّبعٌ غير سبيل المؤمنين.
وقد يحسَّن المحدثات التي لم يتقرب بها صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أناسُ ينتسبون إلى العلم، في رغبات ونوازع مختلفة، وهو كله خطأ على الدين، واتباع لسبيل الملحدين، فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك: إما أن يكونوا أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون، أو حادوا عن
فهمها. وهذا الأخير هو الصواب.
إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة(215/182)
وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها(1).
والمحدثات أنواع: فمنها الشركي، ومنها البدع التي تجر إلى الشرك، ومنها بدع تقضي على السنن، وهذه المحدثات بأنواعها لم تكن في زمن الصحابة والتابعين مطلقاً، فلا كان في زمنهم قبور يعكف عندها، وتبنى القبابُ عليها، ويستشفع بأصحابها.
ولا كان عندهم توسل بحرمة الأنبياء والصالحين أو جاههم أ وذواتهم، ولا كان عندهم تحرٍ للدعاء عند القبور، ولا كان عندهم هذه الموالد والاحتفالات بمناسبتها، كل هذا لم يكن عندهم بإجماع المسلمين، فإذا كان كذلك فما استدل به الخلف من شبه لتبرير هذه البدع ينقسم ثلاثة أقسام:
الأول: آيات كريمة تأولوها على مراداتهم، محرفين لمعانيها عاسفين لها عسفاً.
الثاني: أحاديث، وهي قسمان:
القسم الأول: أحاديث صحيحة ليست على فا فهموه، ولا توافق مرادهم، وإنما يحرفونها عن معانيها وسياقها.
القسم الثاني: أحاديث واهية أو مكذوبة، وما أكثرها عندهم، وما أشدَّ فرحهم بها، وما أعظم إغلاءهم لهما، وما أحبهم لترديدها ونشرها.
الثالث: حكايات ومنامات يتناقلونها، وكأنها من مصادر التشريع.
والمخرج من الاستدلال بالآيات والأحاديث الصحيحة يكون بأمرين:
الأول: أن ما يستدل به المبتدعة ليس هو المعنى المراد، فأهل السنة المتبعون لفهم السلف يفهمون منه غير ما فهمه المبتدعة، فيكون فهمُ الخلف مردوداً بفهم السلف.
الثاني: - وهو فرع الأول - أن يقال: هل عمل السلف الصالح بفهم الخلف لما يستدلون به أم لم يعملوا به؟ والسلف لم يعملوا بهذه المحدثات اتفاقاً، ولن يقدر مبتدع أن يأتي بعمل للسلف مخالف لعمل الصحابة؛ لأن أهل السنة متبعون لعمل الأولين من الصحابة والتابعين، بخلاف الخلف الذين يفعلون
ما لا يؤمرون.
__________
(1) :عن "الموافقات" للشاطبي(3/73).(215/183)
وفي هذا المعنى ما رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله)(1).
ولذا لا تجد فرقة من الفرق الضالة ولا أحداً من المختلفين بعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، والشأن والصواب في صحة الاستدلال لا بمجرد الاستدلال.
قال الشاطبي بعد ذكر مجمل هذه المعاني (3/77):
(فلهذا كله يجب على كل ناظرٍ في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به، فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل) انتهى.
إذا تبين هذا وانجلى، وظهر الحق واعتلى، فالذين يصح تشرفهم بالانتساب إلى السلف الصالح يدورون مع هذه المسائل التي ذكرت.
1 - فما كان عمل الصحابة به منتشراً، عملوا به.
2 - وما تفرد به واحد منهم أو أفرادٌ وخالف فيه بقيتهم ردوه إلى الله والرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أمرهم ربهم بذلك حيث قال: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ]النساء: 59[.
فأمر بالرد إلى الله وهو الرد إلى كلامه المنزل الحكيم قرآنه العظيم،وأمر بالرد إلى رسوله- صلى الله عليه وسلم - وهو الرد إليه في حياته، وإلى سنته الثابتة الصحيحة بعد وفاته، والنظر للاتباع في عمل الأكثرين.
فلم يظهر بحمد في قاعدتهم إخلال، ولا نابها اضطراب وهي القاعدة البينة، والسبيل النهج الواضح، والصراط المستقيم، وعليها سار الأئمة الأربعة في أكثر فقههم رحمهم الله وأجزل لهم المثوبة.
__________
(1) :رواه الدارمي(1/47)، واللالكائي في "السنة"، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"، وكذا رواه الدراقطني وابن أبي زمنين في "أصول السنة"، ونصر المقدسي في "الحجة على تارك المحجة" وآخرون.(215/184)
3 - وما لم يعمل به أولئك الكرام - أعني صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر العبادات - فهو محدث أحدثه الخلوف.
فما كف الصحابة والتابعون عما كفّوا عنه إلا لنظر سديد، وفهم حميد لأدلة الكتاب والسنة،
ولا تركوا ما تركوا ما أحدثه من بعدهم - مع وجود أسبابه عينها التي برَّرَ بها المحدثون محدثاتهم -
إلا عن فهم لأمور الشرع، وتركهم سنة متبعة وسبيل مقتفاة.
ولا رغبوا فيما رغبوا عنه مما طلب به الخلوف الأجر والثواب إلا وفِعْل ما رغبوا عنه ليس من الدين، فإنهم أحرص الناس على الخير، وأكثرهم تحرياً لولوج أبواب الطاعات المشروعة، فإنهم لا يتركون مشروعاً إلا وقد أتوه وطلبوا الثواب، وتقربوا إلى الله بعمله.
فما أفقه من اتبعهم في أخذهم وتركهم، وفقههم وعلمهم، وفهمهم وعملهم، وما أحراه بكل خير وقربة، وما أجدره بأن يوفق في أمره كله.
الفصل السادس
قال (ص10):
(أما هو - صلى الله عليه وسلم - فإننا نعتقد أنه - صلى الله عليه وسلم - بشر يجوز عليه ما يجوز على غيره من البشر من حصول الأعراض والأمراض التي لا توجب النقص والتنفير.
كما قال صاحب العقيدة:
وجائز في حقهم من عرض بغير نقص كخفيف المرض) اهـ.
أقول: بئس ما قاله صاحب عقيدتكم من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصيبه إلا المرض الخفيف، وبئس القدوة المقتدى بها، فأنتم مقتدون بقوله هذا ونحن متبعون لحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أنتم تصدقون أقوال صاحب عقيدتكم، ونحن نصدق أقوال حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فبؤساً لكم باتباع صاحبكم، وهنيئاً لنا باتباع نبيناً محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته.
يقول عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك، فقلت:
يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً.(215/185)
قال: { أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم } أخرجه البخاري في كتاب المرضى من "صحيحة" (10/111)، قال الحافظ في "الفتح": (صدر هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الدارمي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم كلهم من طريق عاسم ابن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال:
{ الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه...الحديث } اهـ كلام الحافظ.
فهذا اعتقادنا نتبع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنتم اتبعوا ناظم عقيدتكم مخالفين قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه.
اسمع قول عائشة فيما أخرجه البخاري ومسلم في "صحيحيهما": (ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).
فالذي جر الكاتب إلى هذه المخالفة الظاهرة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الغلو المنهي عنه، فانظر بطلان
دعواهم، وصحة دعوى المتبعين للسلف.
قال القاضي عياض - رحمه الله - في "شرح مسلم": (وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم) اهـ.
قال (ص31):
(الأدعياء والمتطفلون على بساط الحقيقة كثيرون، والحقيقة بريئة منهم، ولا تعترف لهم بصحة نسبتهم إليها)، ثم قال: (ولقد بلينا معشر المسلمين بكثير من هؤلاء، يعكرون صفو الأمة ويفرقون بين الجماعات ...)، ثم قال: (ويدخلون إلى تصحيح مفاهيم الإسلام من باب العقوق) اهـ.(215/186)
أقول: لقد عاشت هذه البلاد السعودية منذ ضم الحجاز تحت لواء حكمها على عقيدة واحدة، ائتلف عليها جميع رعاياها في شتى أنحائها، لا تسوءُهم بدعة، ولا يؤرقهم عصيان وكفران،كلهم على كلمة واحدة، وجماعة واحدة، في صفوٍ من العيش، لا تفرقات ولا أحزاب إقليمية، متحابين، يصحح مصيبهم مخطاهم، ويسدده ويقيله عثرته، في ما تختلف فيه الأفهام، ويسوغ فيه الاجتهاد والنظر، وكانوا متفقين في الأصول، لا خلاف بينهم فيها، ولا جدال حولها، إذ قر قرارها، وأجمع المسلمون في هذه البلاد على ذلك، لا نعلم مخالفاً لهم بينهم.
ثم ظهر من أثار الفتنة، وفرق المسلمين، وعكر صفو الأمة، وجعل الجماعة الواحدة جماعات: فمَنِ الأدعياء المتطفلون الذين فعلوا هذا؟! وجعلوا لا يفتؤون في الصد عن العقيدة التي كانت عليها هذه البلاد من التوحيد الخالص.
فهذا سهم ارتد عليك من جعبتك، وقول خشيت أن ترمى به فسارعت إلى الرمي به.
ثم نقول لك: من هو الذي يفرق الجماعة؟!أهو الذي يدعو إلى عقيدة التوحيد وإفراد الله بعبادة واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاعتصام بالكتاب والسنة، حتى تكون الأمة جماعة واحدة معبودها واحد:
وهو الله، وقدوتها واحد: هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، ودليلها واحد، وهو الكتاب والسنة، وتحت راية واحدة هي
راية التوحيد؟!، أم الذي يدعو إلى التعلق بغير الله من الأولياء والصالحين، وإلى اتباع الطرق الصوفية المبتدعة وإلى الاستدلال بالأحاديث الموضوعة، والحكايات المكذوبة والمنامات الشيطانية مما تزخر به كتب القوم؟! { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ]الأنعام: 81[.
قال (ص33):
(وهذا ما حققه علماء الأصول من سلف هذه الأمة - رضي الله عنهم -: كالإمام العز بن عبد السلام، والنووي، والسيوطي، والمحلي، وابن حجر) اهـ.
أقول: مما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن لفظ السلف له إطلاقات:(215/187)
منها: ما هو عامٌ كلي يُعنى به الصحابة والتابعون وتابعوهم، ثلاثةُ القرون المفضلة، وهذا المعنى
هو الذي يصح عند إضافته إلى الأمة، كقولهم: سلف الأمة، وإلى هؤلاء وخاصة الصحابة ينسب السلفيون.
ومعنى هذه النسبة: (السلفي): أنه ينهج نهج الصحابة وتابعيهم، فإن اتباع الكتاب والسنة كل يدعيه، وكل يطمح إلى شرف الانتساب إليه، وما كل ما ظنه المرء مطمحاً يصل إليه، فرب طامح تشعبت السبل به، فالفرق الضالة كلها تنتسب إلى الكتاب والسنة، كالمعتزلة من المتقدمين، والقاديانية من المتأخرين، والرافضة المتقدمين والمتأخرين وغير هؤلاء.
فحقيقة الانتساب الصحيح إلى الكتاب والسنة الذي به يفرق بين أهل السنة والجماعة وغيرهم اتباع الصحابة، وانتهاج منهجهم، وارتضاء طريقتهم، فبهذا تنقطع الأسباب المدعاة، ويظهر المحق والمبطل،
وقد فُصَّل هذا الإجمال في موضع آخر من هذه (الورقات).
ومنها: ما هو خاص يضاف إلى القائل بالنسبة لمن سبقه كقولهم: سلفنا، فهذا لفظ يصدق على كل
من تقدم القائل، ولا يقتضي رفعة في رتبة شرعية، ولا منزلة دينية، وهذا هو الذي يستعمله المؤلفون
عند ذكر علماء الأمة الأجلاء المتأخرين عن مرتبة أولئك، وهو الذي يصدق على الذين ذكرهم المؤلف
وأقدمهم وفاة العز بن عبد السلام وكانت وفاته في القرن السابع، وآخرهم ابن حجر الهيتمي.
وهؤلاء عند علماء الشافعية متأخرون كما هو اصطلاحهم في المتقدمين والمتأخرين، وحد التفرقة رأس الأربع مئة عند الشافعية، فإطلاق(سلف هذه الأمة) عليهم ليس مستقيماً لا باقتضاء لغوي
ولا عرفي.
قال (ص41) في فصل (حقائق تموت بالبحث):
(وذلك مثلاً كاختلاف العلماء في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - سبحانه وتعالى - كيف كانت؟ والخلاف الطويل العريض الدائر بينهم في ذلك الباب، فمن قائل: رآه بقلبه، ومن قائل:
رآه بعينه، وكل يورد دليله ويستنصر له بما لا طائل تحته، والذي أراه أن كل ذلك عبث لا فائدة فيه،(215/188)
بل ضرره أكبر من نفعه) اهـ.
أقول: هذا قول كاتب المفاهيم الغريبة العجيبة، وفي قوله من الجرأة والانتقاص للسلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ورميهم بالبحث فيما لا فائدة فيه! بل إنهم في زعمه يبحثون فيما ضرره أكبر من نفعه!
من علمك هذا الاختيال والزهو؟ ومن صيرك حكماً على أقوال الصحابة تتهمهم بالعبث، ومباحثهم بالضرر؟.
قال أبو العباس القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(1/148) نسخة الأحمدية بحلب:
(واختلف قديماً وحديثاً في جواز رؤية الله تعالى،فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأهل السلف والسنة على جوازها فيهما ووقوعها الآخرة.
ثم هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه أم لا؟ اختلف في ذلك السلف والخلف، فأنكرته عائشة وأبو هريرة وجماعة
من السلف، وهو المشهور عن ابن مسعود وإليه ذهب جماعة من المتكلمين والحدثين.
وذهبت طائفة أخرى من السف إلى وقوعه، وأنه رأى بعينيه، وإليه ذهب ابن عباس، وقال: اختص موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية، وأبو ذر وكعب والحسن وأحمد بن حنبل، وحكي عن ابن مسعود وأبي هريرة في قولٍ لهما آخر) اهـ.
وطلب دلائل هذه المسألة وسبب الاختلاف له موضع آخر،وإنما المقصود هنا رد قول الكاتب الجريء على السلف، أن ضرر البحث في المسألة أكبر من نفعه.
ولو كان الكاتب ذا أدب علمي، وورع ديني لما ضمن كلامه هذه الاتهامات لخير القرون صحابة(215/189)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال في (ص29) من كتابه في العلماء والسلف الصالح: (كيف يفتح الله علينا لنستفيد من علومهم إذا كنا نعتقد فيها الانحراف) اهـ، فهذا قوله ذكرناه به، وحَتْفَهَا تحمل مَعْز بأظلافها، ويداك أوكتا وفوك نفخ، إذ هو مقر على نفسه بأن فتح باب العلوم لا يجتمع مع التنقص للسلف، وهو متهم بعض علوم الصحابة بالعبث والضرر، فصدق؛ فإن باب علومهم موصدٌ أمامه، مغلق لا يفتح إلا لمن أجلهم ونظر فيما اختلفوا فيه وترضى عنهم.
فكتاب المفاهيم بشهادة كاتبه على نفسه ليس له بعلوم الصحابة اتصال، ولا ارتباط بسبب من الأسباب، وإن كان يدعي خلاف ذلك فرب زَعَمات يُسمين عَزَمات.
وفي (ص38) عنون بـ (حقيقة الأشاعرة) وقال فيه:
(يجهل كثير من أبناء المسلمين مذهب الأشاعرة، ولا يعرفون من هم الأشاعرة ولا طريقتهم في أمر العقيدة..ولا يتورع البعض أن ينسبهم إلى الضلال أو يرميهم بالمروق من الدين والإلحاد في صفات الله، وهذا الجهل بمذهب الأشاعرة سبب تمزق وحدة أهل السنة..الخ).
نقول: مذهب الأشاعرة في العقيدة معروف، ومخالفاته لمذهب أهل السنة محررة معلومة، فيجب هنا أن نذكر طرفاً من حال الأشاعرة ليتضح حالهم، ولا يلتبس الآمر فأقول: الأشاعرة جمع أشعري وهي نسبة إلى الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري جده البعيد أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -، ولد سنة 260 تقريباً وتوفي سنة 324هـ.
مات أبوه فتزوجت أمه بعده أحد رؤوس المعتزلة وهو: الجبائي، فتربى الأشعري في حجره، حتى كانت تلمذته له خاصة، فعرف فكره ودرس مذهبه حتى بلغ أربعين سنة فيما قيل يناظر على مذهب الاعتزال.
ثم يقال: إنه رقى يوم جمعة كرسياً، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي: أنا فلان ابن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع.(215/190)
وقيل غير ذلك واخترت أخصرها لفظاً، والمقصود أنه تاب من اعتزاله، ثم بعد ذلك جلس في حلقة أصحاب ابن كلاّب، فأخذ منهم زماناً، فكان مذهبه المتوسط الذي ينسب إليه أتباعه هو المذهب الكلابي الذي لم يتخلص من براثن الاعتزال وهو نفي الصفات، ما عدا سبعاً منها، والقول بالأرجاء، والكلام النفسي، ونفي الحكمة عن أفعال الله وشرعه.
ثم نظر في النصوص نظرة تعلم فتاب من مذهبه ذلك، ورجع إلى مذهب أهل الحديث في الجملة، وهاك نصوصاً من كتبه مقررة لذلك.
1 - قال في "مقالات المسلمين" وهو أوثق الكتب نسبه له بعد أن سرد مذهب أهل الحديث وعقائدهم بتفصيل (1/320-325): (فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله...).
2 - قال في "الإبانة" العبارة المشهورة المنقولة: (قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا، وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته
قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون...) اهـ.
ولكن المنسبين إليه بقوا على مذهبه المخالف لمذهب السلف في باب الصفات والقدر وغيره،
ولم يكونوا على مذهبه الأخير الذي استقر عليه، بل بقوا على مذهبه الذي رجع عنه والذي هو ضلال وخروج عن منهج السلف، فكيف يقال إن تضليل الأشاعرة تمزيق لوحدة أهل السنة؟! بل نقول إن الدفاع عن مذهب الأشاعرة – وهو مذهب باطل – هو التمزيق لوحدة أهل السنة، حيث حسب على أهل السنة من ليس منهم ليحل مذهبهم الباطل على مذهبهم الحق ويدس في صفوفهم من ليس منهم.
قال (ص38) عن الأشاعرة:
(هم الذين قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: (والعلماء أنصار علوم الدين، والأشاعرة أنصار أصول الدين) "الفتاوى" الجزء الرابع) اهـ.(215/191)
أقول: ما قال هذا شيخ الإسلام، وإنما نقله في فتوى له(4/16) عن العز بن عبد السلام من قوله، وهذا نصه:
(رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة، فيها أشياء حسنة، قد سئل بها عن مسائل متعددة، قال فيها: فذكر نقولاً منها قوله: قال: (وأما لعن العلماء لأئمة الأشعرية، فمن لعنهم عزر، وعادت اللعنة عليه، فمن لعن من ليس أهلاً للعنة وقعت اللعنة عليه. والعلماء أنصار فروع الدين، والأشعرية أنصار أصول الدين).
هذا كلام العز بن عبد السلام، وتعقبه شيخ الإسلام بقوله: (فالفقيه أبو محمد أيضاً إنما منع اللعن، وأمر بتعزير اللاعن لأجل من نصروه من "أصول الدين"، وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسنة والحديث، والرد على من خالف القرآن والسنة والحديث ولهذا كان أبو إسحاق يقول: إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة).
وهذا ظاهر عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد. ولهذا
قال أبو القاسم ابن عساكر في "مناقبه": (ما رأيت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين، حتى حدثت فتنة ابن القشيري) الخ كلام الشيخ.
فعلم بهذا أن شيخ الإسلام ما أطلق بأن الأشاعرة أنصار الدين، بل إنه رد على أبي محمد بن
عبد السلام إطلاقه ذلك القول؛ لأنهم إنما يمدحون بما وافقوا فيه الكتاب والسنة، ويذمون بما خالفوا فيه القرآن والحديث.
فالأشاعرة نصروا الدين في مسائل نقضوا بها على المعتزلة، وأحسنوا، ولكنهم لم يتبعوا القرآن والحديث في مسائل معروفة من الأصول، فلذا إنما نصروا جانباً، وعظمت الفتنة بهم فيما ضلوا فيه عن القرآن المجيد والحديث.(215/192)
وكاتب المفاهيم ليس ذا تحرٍ في نقوله، بل إنه مقلد في عباراته، فهذه الجملة من قول العز بن عبد السلام قد نسبها إلى شيخ الإسلام ترويجاً لها رجلٌ أشعري معاصر، يقطن مكة الآن، وجل من ترى اليوم منهم شيوخاً وصغاراً منهجهم عدم التثبت، وترك التوقي، والتلبيس والتزوير، فالله المتسعان.
قال (ص29) في تعداد أسماء الأشاعرة: (وأبو حيان التوحيدي صاحب "البحر المحيط").
أقول: كيف يؤمن على تصحيح المفاهيم، وتفسير القرآن وشرح الحديث من لا يفرق بين أسماء العلماء ولا يعرفهم.
فمن كان هذا شأنه وتلك علومه فسيخلط حين ينسب الأقوال ويتقول على أهل العلم ما لم يقولوه، فربما يقول القول محمدُ بنُ إسحاق ابن خزيمة، فيجعله لمحمد بن إسحاق بن يسار صاحب السيرة، وربما يروي أبو نعيم الفضل بن دكين خبراً فيجعله من مرويات أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، وربما ينقل عن محمد بن إدريس أبي حاتم الرازي ويجعله لمحمد بن إدريس الشافعي، وربما ينسب لأبي داود السجستاني ما لأبي داود الطيالسي، وربما ينقل عن أبي زرعة العراقي ما لأبي زرعة الرازي، كما صنعه بعضهم، وهكذا.
وفي علوم اللغة ربما نسب لابن هشام صحاب السيرة ما لابن هشام شارح مقصورة ابن دريد
أو لابن هشام النحوي شارح الألفية، وربما نسب ما لأبي عبيد لأبي عبيدة، أو ما للأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة ما لأخفش آخر، كعلي بن سليمان أو غيره، وربما نقل عن الأزهري أبي منصور ويظنه الأزهري خالداً المتأخر شارح "أوضح المسالك" وغيره، وهكذا.
وفي علوم القراءات ربما عزى القول أو القراءة لابن كثير المكي، فظنت لابن كثير المفسر، وبينهما قرون، وربما نسب لنافع المدني ما لنافع مولى ابن عمر، وربما ذكر قراءة عاصم بن أبي النجود فظنت كمنزلة روايته عند المحدثين.(215/193)
وفي علوم الفقه: ربما خلط بين ابن تيمية شيخ الإسلام أبي العباس وبين جده أبي البركات، وربما نسب ما لابن حجر العسقلاني لابن حجر المكي، وربما ظن قول ابن عبد الهادي يوسف قولاً لابن عبد الهادي محمد ابن أحمد، وربما خلط بين الهيثمي والهيثمي، وربما ظن ابن نجيم صاحب "البحر الرائق" هو
ابن نجيم صاحب"النهر الفائق"، وربما ظن الزيلعي الفقيه هو الزيلعي صاحب "نصب الراية".
وسرد بقية العلوم، أو الاستفاضة فيما أشير إليه ليعلم؛ فلا يخرج بنا عن المقصود الذي مثلنا بنظيره، وألمعنا إلى قليله.
وإني لا نقضي عجبي من قول الكاتب: أبو حيان التوحيدي صاحب "تفسير البحر المحيط"، ثم أعجب أكثر حين أرى أسماء العلماء الذين صدروا كتابه بالتقريظات والثناء العاطر، وكلهم يزعم أنه قرأ الكتاب!
ومنهم من حُلّي اسمه بالقاضي العلامة المؤرخ (!) الفقيه،ومنهم العلامة المحدث المحقق، ومنهم العلامة الفقيه، ومنهم العلامة الفقيه الأصولي الذي امتدح كتاب "المفاهيم" بقوله:
بحث دقيق عميق لا يقوم له خبط وخَلْطٌ وتدليس وإيهام
ومنها تقاريظ لم تنشر تواضعاً!
كيف يفوت المقرظين هذا الخلط العجيب بين رجلين عاش أحدهما في القرن الرابع، والآخر في السابع والثامن الهجريين؟! كيف لم تمر عليهم هذه العبارة ويصححوها؟!
أو هي مرت ولم يعرفوها؟!
ما من شك أن المستنتج أنهم لم يقرؤوا كتابه، إذ فوت مثل هذا على أمة من العلماء لا يتصور
إلا بأحد سببين، الأول: ذكرناه، والآخر: نطويه ليتفكر فيه اللبيب.
إن المتوسط من طلبة العلم يدرك من هو التوحيدي، ومن صاحب "البحر المحيط"، فهاك يا من زبزب قبل أن يحصرم ترجمة الرجلين، لعلّها تكون لجاماً عن الإعجاب بالنفس، أو الإعجاب بالتقريظات.
أما التوحيدي فهو علي بن محمد بن العباس البغدادي، قال الذهبي فيه(الضال الملحد... صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية) اهـ . ولد نحو سنة 335هـ وهلك نحو سنة 414هـ أو فيها.(215/194)
له تصانيف فمما طبع: "الإمتاع والمؤانسة"، وفيه ذكر اتصاله بإخوان الصفا، وله"البصائر والذخائر"، و"الصداقة والصديق"، و"مثالب الوزيرين، وغيرها.
ومذهبه غامض يتدسس فيه وله إعجاب بالمعتزلة، وكأنه لذلك سمى نفسه التوحيدي، نسبة إلى توحيدهم الذي هو نفي الصفات، وقيل نسبة تمرٍ بالعراق يقال له: توحيد، وليس بمستقيم.
والتوحيدي أو حيان يشبه أن يكون من إخوان الصفا الباطنيين،أو من أتباع الإسماعيليين فإنه يردد آراءهم في كتبه، وهذه الآراء شر محض، وفلسفة صرفة، ودين غير دين الإسلام.
وأما أبو حيان الأندلسي صاحب تفسير "البحر المحيط" فهو أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيَّان الأندلسي الغَرْناطي النفزي، نسبة إلى نِفْزة، قبيلة من البربر. قال ابن العماد في "شذرات الذهب"(6/145): (نَحْوي عصره، ولُغويه، ومفسره ومحدثه ومقريه ومؤرخه وأديبه، ولد بمَطْخشَاش مدينة من حضيرة غرناطة في آخر شوال سنة 654هـ) اهـ وقال الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة"
(4/304): (كان ظاهرياً وانتمى إلى الشافعية، واختصر "المنهاج"، وكان أبو البقاء يقول: إنه لم يزل
ظاهرياً، قلت: كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه) اهـ.
توفي سنة745 هـ، وهو قائل هاتيك الأبيات في شأن الشيخ تقي الدين ابن تيمية لما دخل مصر.
قال الكاتب (ص9):
(جاء في الحديث: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم } . والمعنى أن إطراءه والتغالي فيه والثناء عليه بما سوى ذلك هو محمود، ثم قال: (نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيءٍ من صفات الربوبية، ورحم الله القائل حيث قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
فليس في تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - بغير صفات الربوبية شيء من الكفر والإشراك بل ذلك من أعظم الطاعات والقربات..) انتهى.(215/195)
أقول: أهل السنة والحديث - بحمد لله وتوفيقه - يعظمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أمرنا أن نعظمه به، من الإيمان به وبما جاء به، وتعزيره وتوقيره، واتباع النور الذي جاء به، والاستنان بهديه وسنته في الأمور كلها.
وهم يحبون حديثه وسنته، ويدافعون عنها، وينافحون عن أقواله، ولا يرتضون أن ينسب أحد إليه
ما لم يقله، أو يترجح أنه ما قاله.
يعرفون منزلته التي أنزله الله فلا ينزلونه عنها وحاشاهم، ولا يرفعونه عنها كما فعله الغلاة، وهم في كل ذلك متبعون طريقة الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، ومن بعدهم من أئمة الهدى والدين.
ثم لما ظهرت طوائف الابتداع كالصوفية الغلاة اظهروا فتنة عظيمة فتنوا بها الناس ألا هي: إظهار تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأقوال، وهجر اتباعه بالأفعال،فخالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطريقة أصحابه الكرام الخلفاء الراشدين فمن بعدهم.
وأدخل أولئك المتصوفة من الأحاديث المكذوبة والموضوعة ما لا يكاد يحصى عن قلة علم وجهل
بالحديث، أو عن قصد عمد، وأشيعت في الناس وانتشرت حتى هجرت السنن الصحيحة واتبعت الأحاديث المردودة، وهم معترفون بأنهم لا يعرفون الحديث ومخارجه، ولا صحيحه من بهرجه، ومن نظر في كتب القوم وجد ذلك جلياً.
وسياق كاتب المفاهيم لحججه بين ضعف الاستدلال والتقليد، فهو مطلق لنفسه الحبل على الغارب، فهذا الحديث الذي استدل به أخرجه البخاري في "صحيحه"(6/478) عن عمر مرفوعاً: { لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله } .(215/196)
والكاتب وضع يده على بقية الحديث لئلا يفهم منه قاري كلامه الفهم الصحيح واجتزاؤه هذا مخل، وهو من باب التحريف لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحريف معنى، إذ لا يتضح المعنى إلا بإتمامه، فإن معنى الحديث: لا تتجاوزا الحد في مدحي فيفضي بكم ذلك إلى ما آل بالنصارى لما أغرقوا في مدح وتعظيم عيسى - عليه السلام -، فإنهم رأوا ما أجراه الله على يديه من معجزات كإحياء الموتى وإسماع الصم وإعادة الأبصار مع ضميمة كونه كلمة الله، فادعوا فيه الألوهية.
فالكاف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: { كما } ليست كاف تشبيه، إنما هي كاف التعليل التي تدل على مآل الحال.
جاء في إنجيل"برنابا" في الفصل الرابع والتسعين قول عيسى - عليه السلام -: (إني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض أني برئ من كل ما قاله الناس عني من أني أعظم من بشر؛
لأني بشر مولود من امرأة، وعرضة لحكم الله، أعيش كسائر البشر عرضة للشقاء العام).
ثم جاء فيه رد النصارى عليه:
(قال الوالي وهيرو دوس: يا سيد! إنه لمن المحال أن يفعل بشر ما أنت تفعله، فلذلك لا تفقه ما تقول) اهـ.
هذا قول عيسى - عليه السلام -، وقد أخبر الله عنه في المائدة، أنه قال: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ]المائدة: 117[، وقال لهم: { اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم } ]المائدة: 72[،وقال: { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } ]الصف: 6[، قال شيخ الإسلام في "رده على البكري"(ص105):(215/197)
(فلو امتثلوا أمره كانوا مطيعين لرسل الله، موحدين لله، ونالوا بذلك السعادة من الله تعالى في الدنيا والآخرة، فغلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله: يستغيثون به وبغيره من الأنبياء والصالحين، ويطلبون منهم، ويشركون بهم، وكذبوا بالرسول الذي بشر به، وحرفوا التوراة التي صدق بها، وظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح، وكان هذا من جهلهم وضلالهم.
فإنهم كلما أطاعوه فيما دعاهم إليه كان له مثل أجورهم، وكانت طاعتهم له، والإقرار بعبوديته،
وبما بشر به فيه: وله ولهم من الأجر ما لا يحصيه إلا الله، ففوتوا هذا الأجر والثواب عليهم وعليه،
وله ولهم فيه الخبر المستطاب، واعتاضوا عن ذلك بما ضرهم في الدنيا والآخرة.
وإذا بين لهم قدر المسيح فقيل لهم: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } ]المائدة: 75[، قالوا: إن هذا تنقص بالمسيح، وسب له واستخفاف بدرجته وسوء أدب معه، بل قالوا: هذا كفر وجحد لحقه، وسلب لصفات الكمال الثابتة له) اهـ.
ففي حديث عمر { لا تطروني } إرشاداً إلى قطع وسائل الإطراء والأمر بأن نقول فيه:
عبد الله ورسوله، هذا الذي ارتضاه - صلى الله عليه وسلم - لنفسه، أفلا نرتضي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ارتضاه هو لنفسه؟! وقد نهى عن تعظيمه بأحاديث كثيرة؛ قطعاً وحسماً لمادة الإطراء المستوجبة لرفعه فوق منزلته التي أنزله الله، المؤدية لوصفه بما لا يجوز إلا لله.
ثم إن قول الكاتب: (نعم يجب علينا أن لا نصفه بشيء من صفات الربوبية. ورحم الله القائل حيث قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم).
أقول: إن قولك كله من مشكاة هذا القائل الذي أبهمته، وأنت من أحفظ الناس لاسمه، إنه البوصيري
صاحب البردة، فلم أبهمته، وتركت التصريح باسمه؟!(215/198)
وقولك هذا من أقوال شراح البردة، يتناقله الضلال من قديم في ردودهم على أهل الحق، وعلمهم حول البردة يدندن، قال الأزهري في شرحه للبيت(ص32):
(اترك ما قالته النصارى - في نبيهم عيسى بن مريم - عليهما السلام - أنه ابن الله كما اخبر الله
- سبحانه وتعالى - عنهم، فإن نبينا نهى عن مثل ذلك، حيث قال: { لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى } ، أي: لا تصفوني بذلك، واحكم بعد ذلك له - صلى الله عليه وسلم - بما شئت من أوصاف الكمال اللائقة بجلال قدره، وخاصم في إثبات فضائله) اهـ . يعني لا تقولوا ابن الله وقولوا بعد ذلك ما شئتم من الغلو والشرك، وهذا من فروع الإطراء الذي نهى عنه، وقعوا فيه، فالغلو شر كله، وقادهم الغلو إلى قولٍ خطير، عظيم شره، وهو قول البوصيري:
لو ناسبت قدرَه آياتُه عظماً أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
قال إبراهيم الباجوري شارحاً للبيت (ص33):
(لو ناسبت آياته قدره في العظم لكان من جملة آياته أن يحيى اسمه دارس الرمم حين يدعى به،
فلم تناسب آياته قدره في العظم، وهو المطلوب؛ لأن الواقع أن قدره - صلى الله عليه وسلم - أعظم من آياته، حتى من القرآن المتلو بخلاف غير المتلو) انتهى(1).
فانظر ما جره إطراء البوصيري من المعاني المستولية الوخيمة، التي تنادي عليهم بالويل والثبور من كل سهل وجبل، وغَوْرٍ ونجد، حتى اتهموا الله بأنه لم يوفه حقه، فاللهم!
إنا نبرأ إليك من هذا القول وقائله وممن ارتضاه.
خاتمة
__________
(1) :قال الإمام ابن جرير الطبري في كتابه "التبصير في معالم الدين": (من ادعى أن قرآناً في الأرض، أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا أو نكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد ذلك بقلبه أو أضمره في نفسه، وقاله بلسانه فهو بالله كافر حلال الدم وبرئ من الله، والله منه بريء) اهـ المقصود منه، نقله عنه القاضي أبو يعلى في كتابه "إبطال التأويلات لأخبار الصفات" (ص8-9 نسختي الخطية).(215/199)
الحمد لله بدءاً وانتهاءً، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا نهايةُ ما أردتُ الردَّ عليه من كتاب "مفاهيم يجب أن تصحح"، وبقيت مسائل تعرَّض لها
لم أتناولْها كالمولد، وشد الرحل لزيارة القبر النبوي، والخصائص النبوية، ونحوها من المباحث؛ لأجل أن منها ما قد أشبع الكلامُ عليه، ومنها ما لا يتسع الكلامُ في أخبارها، روايةً ودرايةً.
وإني أسألُ الله العلي القديرَ، العليمَ الحكيمَ، أن يُبَصَّرنا بأنفسنا، وينفع بما كتبتُ، والله المسؤولُ أن يُوفقنا للإلتزام بدينه، وتوحيده، كما يحبُّ ويرضى، وأن لا يَكِلَنا لأنفسنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دليل موضوعات الكتاب
مقدمة ... 2
الباب الأول ... 10
تعريف الوسيلة، ومناقشة الكاتب في تعريفه ... 11
رد كلام الكاتب في التوسل المبتدع بالذوات والجاه ونحوها ... 14
كلام الكاتب حول حديث توسل آدم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيان ما فيه ... 18
استخراج الكاتب علة للتوسل بالنبي وتعديته الحكم بالقياس، ورده وأول من قاس مثل قياسه، ونتيجة ذلك ... 26
أثر توسل اليهود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوته، وبيان أنه كذب موضوع ... 29
حديث توسل الأعمى في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعائه، والكلام عليه ... 31
رواية تعليم عثمان بن حنيف من أبطأ عليه عثمان بالإجابة، ضعيفة جداً، وباطلة منكرة ... 32
تجويز الكاتب الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وبيان أنه شرك ... 34
افتراء كاتب المفاهيم على صحابي لنصرة هواه ... 37
آثار فيها ذكر المحبوب لإزالة خدر الرجل، وجهل الكاتب بها رواية ودراية ... 37
سياق الكاتب أحاديث فيها أدعية لمن ضلّ في فلاة ونحوه، وتخريجها، ورد كلام الكاتب ... 41
زعم الكاتب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كأنه توسل بجبريل في دعاءٍ له، ورد افترائه ... 46(215/200)
رد كلام الكاتب حول معنى توسل عمر بالعباس ... 47
حديث قبر فاطمة بنت أسد، وتوسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن قبله، وبيان جهالة الكاتب في تخريجه، وتلبيسه ... 48
حديث نداء رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره زمن القحط، وضعفه، وتوجيه كلام ابن كثير، وابن حجر ... 51
كذب الكاتب على ابن حجر ... 54
قد يورد بعض المؤرخين ما يستنكر شرعاً، والجواب عن ذلك ... 56
حديث { أسألك بحق السائلين عليك } وتخريجه، والكلام عليه رواية ودراية ... 56
الرد على زعم الكاتب أن التبرك هو معنى التوسل بآثاره - صلى الله عليه وسلم - ... 59
احتاج الكاتب بالإسرائليات، وألزامه بأثر إسرائيلي ينقض دعواه ... 60
تقديم بني إسرائيل التابوت في معاركهم، وبطلان استدلال الكاتب به أثراً ونظراً ... 61
بيان أن حديث الدارمي في فتح كوة من قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماء لاستنزال المطر، باطل وضعيف الإسناد جداً، وقول ابن تيمية إنه كذب ... 62
الكلام على قصة العتبي، وتوجيه نقل من نقلها، وبيان ضعف عبارة الكاتب علمياً ... 64
سرد الكاتب أسماء بعض من أورد الآثار الضعيفة في التوسل وقوله: إنهم يتوسلون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والرد عليه ... 67
الرد على افتراء الكاتب في أن الاستغاثة بالمقربين عند الشدائد أجمع عليها الأنبياء والمرسلون وقررها رب العالمين، تعالى الله عما يقوله الظالمون علواً كبيراً ... 69
تحريف الكاتب النقل عن شيخ الإسلام لنصرة هواه في التوسل، والرد عليه ... 70
حديث عرض الأعمال عليه، والكلام عليه رواية ورد الاستدلال به ... 72
افتراؤه على الإمام محمد بن عبد الوهاب في أنه لا ينكر التوسل البدعي، وجهله بطريقة الشيخ في الدعوة ... 76
الرد على شناعة الكاتب حيث قال إن التوسل ليس مقصوراً على الدائرة الضيقة التي يظنها أهل السنة، ويعني بـ (الدائرة الضيقة) التوسل بأسماء الله وصفاته والأعمال الصالحة ... 77(215/201)
الباب الثاني ... 79
الشرك في قوم نوح ... 80
الشرك في قوم إبراهيم ... 82
أصل ما بعد هذين الصنفين من الشرك نابع منهما ومن فلسفتهما ... 83
الشرك في العرب ... 85
دخول الشرك لهذه الأمة عن طريق الباطنيين ... 85
قول الكاتب إن ما حكاه الله عن المشركين في القرآن لم يقولوه جادين في إقرارهم بالربوبية ... 89
توحيد الربوبية والألوهية، والفرق بينهما، وإقرار المشركين بالأول دون الثاني ... 92
دلائل ذلك من القرآن ... 92
دليل ذلك من السنة ... 97
من شعر العرب الدال على ذلك ... 98
مسألة (المجاز العقلي)، ورد احتجاج الكاتب به في تجويز الشرك الأكبر ... 99
رد اعتقاد الكاتب أن المشرك من أشرك في الربوبية، أما السببية والتوسط فليس شركاً عنده ... 101
رد قوله: (لا سبيل لتكفير المؤمنين بإسناد شيءً لغير الله) ... 103
اعتقاد المشركين اليوم بأن أصحاب القبور، والمشايخ المعبودين يتصرفون في الكون ... 104
قول الكاتب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: (دائم العناية بأمته، متصرف بإذن الله في شؤونها، خبير بأحوالها، وهذا شرك في الربوبية، والعياذ بالله ... 105
تجويز الكاتب أن يطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشفاء وقضاء الدين، احتجاجاً بالمجاز العقلي على فهمه للشرك ... 105
مسألة المجاز، وهل يوجد في اللغة أم لا؟ وتحقيق المقام ... 107
الباب الثالث ... 110
معنى الشفاعة لغة، وما ورد في القرآن من الشفاعة المنفية والمثبتة ... 111
معنى الشفاعة المنفية ... 112
ليس للأنبياء حق على الله في أن يجيب كل ما دعوا، ودلائله ... 114
معنى الشفاعة المثبتة ... 116
شفاعة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 118
تجويز الكاتب طلب الشفاعة من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره، ورد ذلك ... 121
تلبيس الكاتب بجعل الشفاعة أعطيت للأنبياء والمؤمنين مطلقاً، بالتواتر المعنوي ... 127(215/202)
رد قول الكاتب أن الدعاء مأذون فيه مقدور عليه من الأموات ... 128
تناقض الكاتب وتلبيسه في تقريره أن الشفاعة وإن طلبت في الدنيا فمحلها الآخرة ... 132
جهل الكاتب بمعتقد أهل التوحيد والسنة، واحتجاجه بحياة الشهداء ... 134
تعاظم الكاتب وزعمه أنه يعلم شؤون الأرواح، وجزمه بأنها: (تجيب من يناديها، وتغيث من يستغيث بها، كالأحياء سواء بسواء بل اشد وأعظم) ... 135
رد قوله، وبيان أن ذلك من فعل الشياطين عند القبور، ليضلوا بني آدم ... 136
رد كلام الكاتب الفاسد على حديث ابن عباس: { إذا سألت فاسأل الله } ... 138
تجويز الكاتب الشرك، في قول القائل: (يا رسول الله أريد أن ترد عيني أو يزول عنا البلاء أو يذهب مرضي) ونحو ذلك ... 143
نقول عن المشركين في أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتصرف في الدنيا حيث شاء ... 143
رد كلام الكاتب على حديث يروى (أنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) ... 145
بيان تنقص الكاتب لأبي بكر الصديق في شرحه للحديث ... 146
الباب الرابع: التكفير ... 147
نقول عن كتب فقهية من باب المرتد، فيها أن المسلم قد يكفر بأشياء ... 151
نقول عن أهل العلم في كفر عباد القبور ... 155
سبب خفاء هذا الحكم على بعض المنتسبين للعلم المتأخرين ... 164
رد أقوال الكاتب في أن هذه الأمة لا يكون فيها شرك، خاصة الجزيرة ... 166
الباب الخامس: التبرك ... 172
المعنى اللغوي لـ (التبرك)، والآيات في ذلك ... 173
البركة لله، لا يجوز أن تطلب من غيره ... 173
البركة نوعان: خاصة وعامة ... 175
تقسيم البركة الخاصة إلى: بركة ذات، وبركة عمل ودليله ... 175
البركة الخاصة اللازمة لذوات الأنبياء قد تتعدى بركتها بالذوات ... 175
البركة الخاصة بأماكن العبادة والصفات، لا تتعدى بركتها بالعين، بل بالعمل ... 175
التبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ... 177
التبرك بذوات الصالحين ... 179
رد بعض آراء الكاتب في التبرك ... 183(215/203)
فصل في معنى الانتساب إلى السلف ... 186
الباب السادس ... 192
عقيدة الكاتب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تصيبه الأمراض، إلا ما لا يوجب التنقيص من خفيف المرض، ورده ... 193
رمي الكاتب الدعاة إلى معتقد السلف بالتفرقة بين الأمة، وهو أحق بتهمته ... 194
لفظة السلف له إطلاقات ... 195
رمي الكاتب الصحابة رضي الله عنهم بالبحث فيما ضرره أكبر من نفعه، بالالتزام ... 196
الأشاعرة ... 197
تلبيس الكاتب وكذبه في النقل عن ابن تيمية، وتقليده لأشعري معاصر ... 199
خلط الكاتب بين أبي حيان التوحيدي، وأبي حيان الأندلسي، ومتابعة كل من قرظ كتابه له على هذا الخلط، وهم يزعمون قراءة الكتاب ... 200
قول الكاتب في إن إطراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغير جعله ولداً لله أو أقنوماً، جائز ... 203
قول شراح البردة موافقة لصاحبها أن قدره أرفع من جميع الآيات التي أوتيها، وقول الباجوري: حتى من القرآن...الخ ... 206
خاتمة ... 207
دليل الموضوعات (الفهرس) ... 208(215/204)
هذه هي الصوفية
تأليف
عبدالرحمن الوكيل
قام بصف الكتاب ونشره
أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين.
"أما بعد" فما زلت أذكر، وأنا طالب في معهد طنطا الديني، ذلك الشيخ الشيبة يقسم لن – وعيناه مخضلتان بالدموع ونبرات صوته أصداء عميقة بعيدة الغور من الشجو الولهان، والحنين الهائم، والحرمان الجريح _ يقسم لنا أن في ضريح عبد العال المجاور لضريح البدوي شعرة من رأس الرسول!، وأنها معين حير، وفيض بركة ويمن، ومطاف آمال، ومهوى رجاء!! وأذكر أنني حين سمعت حديثه، يؤكده بقسم غليظ، شعرت بقلبي، وكأنما يود أن ينشق عنه الصدر؛ ليهفو في صبابته الملهوفة إلى معبد الشعرة يقبلها، ويكنها في مهجته، بل شعرت كأنما حملت الملائكة إلى بشرى الخلود!!.
وما زلت أذكر أيضاً أنني سألت الشيخ؛ ليطمئن قلبي على هذا الأمل ألحلو الساحر الفتنة، عما جعلهم يوقنون بسبة هذه الشعرة إلى رأس النبي الأعظم؟ فأجاب – تولاه الله بما قدّم - : لقد وضعناها في زجاجة، وأقمنا حولها ذكر وإنشاد، فإذا بالشعرة تذكر مع الذاكرين على دفيف الدفوف، وحنات النايات، والنغم المطرب المرقص من الأناشيد!!.
وأذكر أنني آمنت بهذه الأسطورة كأنما هي من الله برهان ساطع!! وأذكر أن الشيخ تداركنا – حتى يحكم القيد – بحجة أخرى، فزعم أنهم وضعو الشعرة تحت الشمس، فلم يجدوا لها ظلاً!! وكان هذا الوثني الجديد حجة عندي تدحض كل ريبة!!.
وأذكر – ويارب غفرانك – أن خرافة الشيخ هذه غمرتني بنشوة سكرى
خلت فيها أنني أرى الجنة، أو أنني صحابي يتلو عليه الرسول وحي الله!!.(216/1)
فكنت أهفو إلى هيكل الشعرة خاشع الطرف، رياب القلب بالولاء، أصلي لها بنجاوى الحب الحب العابد، وألثم خشب هيكلها وحجره في شغف تأثر الأشواق عربيد التهلف، وأنهنه بالأرواح العطرية – التي أخال أنها تناسمني منها – دموعي المسكوبة لوعة عشق، وظمأ غرام!!.
وتعال معي أذكرك بأنني كنت أطوف حول صنم البدوي، حتى إذا مثلت أمام الكوة الصغيرة في وثنه النحاسي بالبراق، أنفذت منها يديّ – في رعشة التقديس – حتى ألمس ستر القبر، ثم أخرجها رويداً رويداً في حرص وحذر بالغين، وقد ضممت قبضتيهما على ...؟ على ماذا؟ كنت أوقن حينذاك أنني أضمهما على بركات سماوية تفيض من روح الله على القبر (يزعم الصوفية أن فوق كل ضريح ولي نافذة مفتوحة في السماء، يفيض الله منها بركاته على الطائفين حول الضريح!) ثم أبسط يدي في جيبي، ثم أمسح بها وجهي، رجاء أن أكون ميسر الرزق، داني قطوف النجاح، مشرق الوجه بنور الله!! وتعال – ولا تسأم من ذكرياتي، فإنها عبرة ضحية، وعظة مأساة – أذكر بذلك الدوي ترجف منه الأرض، وترتعد جدر المعهد حين كانت توزع أسئلة اختبار آخر العام الدراسي، أتدري ماذا كان يحدث؟.
تهب هذه الآلاف المضطربة من الطلبة رافعة أكفها في ضراعة ناعقة بما لا يسمع، ولا يبصر، حتى ليبح صوتها، وتتمزق حناجرها إذ تنقع ضارعة: يا سيد!! وياويل السمع من طول "ياء النداء"!!. لقد كانت تطول، وتطول، حتى ليخيل غليك أنها دخان مارد يحترق، فيلمس دخانه قبة النجم، ولعلهم كانوا يفعلون ذلك؛ لتصل أصداء ضراعتهم إلى حيث جثمت على الأرض في غيابة القبر جيفة من دعوة!!
ولعلك تسألني : ماذا كان يفعل بك شيوخكم؟ كانوا يرفعون في سكرة الحب وذلك الخشية أيديهم المعروقة، يمسحون بها وجوههم، أو يمشطون لحاهم، ومن بين الشفاه الذوابل تنساب هذه الهمهمة :"رضي الله عنك!!" ثم يلتفتون إلينا، وعلى وجوههم ألق الرضى ناصحين في تأييد وإعجاب: "كفاية ما خلاص سمعكم السيد!!"(216/2)
وتعال – وناشدتك الله إلا ما أصغيت غير مال ولا كاره – أذكرك بذلك الشيخ الأكبر الذي كان يشرك الدهماء في يوم "الكنسة" وكان يمزق عمامة صنم البدوي مزقاً مزقاً، ثم يهديها إلى مريديه بركة – في زعمه – من روح الله التي يغرق صيبها ذيالك الوثن!!.
لقد كان للشيخ الأكبر شيخ هو تاجر خيط في المدينة، وقد أعطاه العهد، وألبسه "خرقة التصوف"، وكان التاجر على أمية وجهالة، بيد أنه كان خبيراً بزندقة الصوفية، مؤمنا بها، يبثها، ويهوى بالهالكين في حمأتها!!.
ولقد كنا نرى الشيخ الأكبر يخفض من رأسه عبودية للتاجر الصوفي!! ثم يلثم يديه في خشية ورهبة وإجلال!! وكنا نهتف إعجاباً بصنيع الشيخ؟ إذ نراه دلائل قوية على إيمان عميق، وتواضع كريم!!.(216/3)
كذلك كنا نحرص كل الحرص على أن ننتشي بمشهد الشيخ، وهو يطوف حول ضريح البدوي، يتملس نحاسه وستره، حى إذا بلغ فمه موضعاً منه، راح يشويه بسعير القبل من شفتيه الناريتين!! ونحرص كل الحرص على أن نوفض من منازلنا سراعاً إلى "مولد: البدوي؛ لنشهد سرادق الشيخ الأكبر المضروب على أيد طويل عريض من الأرض من السرادق الفخم الضخم مهرولين صوب النصب الكبير، أو ما يسميه الدراويش "العمود الصاري" (هو عمود طويل من الخشب مفرط في الإرتفاع مثبت في قاعدة من الأسمنت) نقترف هذا لعلنا نصيب بركة من القطب الغوث الذي قيل لنا : إنه لا يحرص على شئ كما يحرص على شهود الليلة الخاتمة "للمولد" هو والأقطاب الآخرون والأوتاد والأبدال والأنجاب!! ولعلنا نبصر واحداً منهم فيما تجسد فيه من صور (كان قد حدثني نقيب صوفي من قريتي عن القطب وأنه رآه. قال:"كنا بمولد البدوي مرة دون الصاري فسمعت من بعيد – فحيح مزمار، فرأيت شيخي يهرول إلى باب السرادق، ثم يكسر من قامته، حتى لتكاد تمس رأسه بالأرض، ويرفع يديه في رعب شديد يحي يهما رجلاً أشعث أغير منهتك السوأة، وبيده عكاز طويل، يدب به على الأرض، وقد تقدمه رجل مثله ينفخ في "مزمار" ثم تنهد الرجل وهو يستعيد ذكرياته، ثم قال:"وهكذا رأيت القطب، فقد سألت شيخي عن الرجل الأول: أليس هو القطب؟ وصاحب المزمار حاجبه؟! فأجاب : بلى، ولكن اكتم السر!!".
ثم تعال معي إلى الجامع الأحمدي الكبير، أو هيكل الطاغوت الأكبر؛ لترى هذه الحشود التي يمور، ويموج بها الجامع من نساء ورجال وأطفال، وفدوا إلى الصنم من كل فج عميق، وقد اشعلوا مواقدهم، يطهون الطعام، أو يصنعون "الشاي، والقرفة" أمام كل منهم "شوال" خبزة ووعاء "دقته" وقد حبا على الأرض الأطفال يبولون، أو يتبرزون!!.
وهنا، وهناك حانات ذكر يرقص فيها "الدراويش" وتتخلع "الدرويشات"
* * *(216/4)
ويزور بي شيخ أهلي – وأنا صغير- القاهرة، فيجوب بي الصحراء، ويجتاز الأودية، ويسلك المفاوز، ويتعثر في الجلاميد نشداناً لضريح ابن الفارض سعياً على القدم!! وهناك حيال الوثن الفارضي، يغني مرافقي قصيدة ابن الفارض:
"نسخت بحبي آية العشق من قبلي" فتذرف عيناه وعيناه الدموع، ويحترق قلبي وقلبه شجناً على هذا العاشق المحروم، عصف به الغرام، وأضناه الحرمان!! كل هذا كان !! ثم ماذا؟!
ثم هداني الله سواء سبيله، وسلكت بي رعايته مسلك التوحيد والإيمان، فماذا حدث بعد؟! تطلعت نفسي إلى الماضي الوثني – وهي نهب حسرة حزينة المأساة، وخميل وأفراح معطرة – تطلع الناجي من السعير ما زالت في أتونه المتأجج ضحايا تعسة منكودة جنت عليه الصوفية ما جنت عليّ، وتطلعت إلى الريف الحزين، يستعبده شيوخ الطرق، ويغصبون أيتامه ما يوصوص فيهم من رمق خاب الشعاع، وأرامله ما هن في حاجة ملهوفة إليه ليسددن خلة، أو يستر عورة، ومساكنيه حتى الذبالة المحتضرة من حشاشتهم.
تطلعت إلى الريف الوديع تجعل منه الصوفية فساد عقيدة، وضلالة فكر، وذلة ومهانة في الأخلاق، وردغة بدع وجهالة وخرافة وأساطير، وعبودية خانعة لهوى الأحبار، وسدانة يعكف فيها السدنة على بغي طواعيتهم، يبشرون بسماحة بره. وأريحية رحمته!!.
وتطلعت إلى المدينة يعبث في أرجائها الصوفية، فتحيل أهلها – حتى الكثير من المثقفين منهم – عبيد قبور، وعباد جيف، وأحلاس منكر وزور، وموالي أذلاء لكل طاغية!!.
تطلعت إلى هؤلاء وأولئك، وذكرت ما كابدته، فصرخت موجعاً من هول الفاجعة أحاول إنقاذ الضحايا التعسة. المغذة السري وراء الذئاب الضواري من الصوفية!!.(216/5)
وأكتب ما أكتب، ضارعاً إلى الله وحده أن يمد بالمعونة – فمنه وحده يستمد – وأن يتبين لتلك الضحايا المسكينة أنها تتجرع الغسلين تحسبه رحيقاً، وتطعم الوزين تظنه فاكهة الخلد، وتدين بوثنية – هي شر ما ابتدع الشيطان لأوليائه من وثنيات، وتخالها توحيداً مطيباً بروح الله !!.
…………* * *
هذا الكتاب
هذا الكتاب. لهذا الكتاب الذي نصدره بهذه المقدمة قصة. فمن أعوام خلت شكا سماحة شيخ الصوفية إخوناً لي من أنصار السنة، بدعوى أنهم ينالون من كرامة الصوفية، فكان أن رجوت وكيل النائب العام أن أقف وحدي موقف المتهم، فلم يجد المحقق ما يأخذنا به، وقد قدمنا له الأدلة الدامغة من كتب الصوفية على ما دمغناهم به، وعلى صفحات "مجلة الهدى النبوي" نشرت – بعد التحقيق معي – خطاباً مفتوحاً إلى سماحة الشيخ، فيه ما فيه من حق يصعق باطلاًن وتوحيد يقضي على وثنية؛ ليعمل الشيخ ومن خلفه، أنهم مهما كادوا لنا، وأمكروا بنا، فإننا لن نسكت عن أساطيرهم، ولأحنقه، فيضرب بكل سهم في جعبته، فتكون فرصة أهتبلها، لكشف خفايا الصوفية أما كل جهة يشكو إليها مني، وألح إخواننا أنصار السنة هنا وفي السودان العزيز وغيره في طبع الخطاب، فطبعت منه آلاف النسخ، فكان أن صودر في السودان بأمر الحاكم العام السابق ولما أن نفدت نسخه طبعه إخواننا في سوريا الشقيقة ( طبع هناك تحت إشراف الأخ الكريم الأستاذ"محمد نسيب الرفاعي" عن جماعة الصراط المستقيم بحلب عام 1952م وقد جاء في مقدمته الرائعة التي قدم له بها الأخ الكريم ما يأتي : "إن بوادر خاتمة أولياء الشيطان قد لاحت ، وبشائر انتصار الحق على الباطل قد دقت، وإن هذه البوادر والبشائر لاحت جميعها من هذا الكتاب – صوفيات – هذا الكتاب الذي ساوم المبطلون الضالون صاحب المطبعة التي طبع فيها على إعطائه أجرة الطبع، وقيم الورق مقابل تسليم الكتاب لهم لحرقوه.. هوناً أيها القوم، ما يغنيكم أحراق كتاب الصوفيات؟ أليس مأخوذاُ عن كتبكم(216/6)
ورسائلكم؟ إن كل تهمة موجهة إليكم فيه إنما هي منقولة باحلرف الواحد من مجلدات نتحداكم أن تقولوا إنها ليست لسادتكم وكبرائكم").
وقد ترجم للأندونيسية.
وألح إخواننا في طبعه مرة أخرى، فعدت إلى الكتاب أكتبه من جديد وأزيده كثيرا من النصوص،وموضوعات جديدة لم تكن في طبعته الأولى، حتى أربى الكتاب على ضعفي حجمه الأول، فليس افتئاتاً على التاريخ أن أسميه "هذه هي الصوفية" بدلاً من اسمه الأول "صوفيات" (رد عليه كاتب في السودان سماه "الجياد الصافنات في الرد على صوفيات" ورد عليه في سوريا بكتاب سماه "نسف الصوفيات" فكان ردهما أبلغ دليل على أن الصوفية وثنية عفنة، وحجة على أنهم في ضلال ما دمغناهم به.) وسيرى القراء كما عودتهم، أنني لم أرم الصوفية بغير ما به تدين، وأننا لم نعتد بقول أحد في الصوفية، وإنما اعتددنا بنقل نصوص كثيرة من كتب الصوفية بينة الدلالة على معتقدهم، مقارنين بينها وبين بعض آيات القرآن الكريم، وأحاديث خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، هذا لكيلا يفتري صوفي أننا نرميهم بغير ما يفترون على الله. كنا نستطيع أن نصنع صنيع بعض نقدة الصوفية قديماً وحديثاً، فنأتي بفتاوى أئمة المسلمين في شأن الصوفية، أو ننقل ما نقلوه عن الصوفية من نصوص، بيد أني رأيت أن يكون للعدل والحق والتحقق الرعاية الأولى، فنقلب دين الصوفية من كتبهم التي يؤمنون بها ذاكراً اسم الكتاب، وتاريخ ومكان طبعه، ورقم الصفحة التي عنها نقلب؛ لأرمي الظن والريب باليقين الواضح؛ ولأبعد كل شبهة تتوهم أننا نفتات عليهم، أو نبهتهم؛ وليكون كل قارئ مفتياً لنفسه بالحق، وحكما بين الحق وباطلهم.(216/7)
وقد يعيب علينا بعض من سحرتهم طقوس الصوفية، وشاعريتها الكهنوتية العنف في المحاجة، لكننا لهؤلاء نقول: رويدكم!! فإنما نسمي الأشياء بأسمائها، ونصفها بصفاتها، فلا نقول عن الزقوم: إنه تفاح الجنة، ولا عن الغسلين: إنه رحيق الفردوس، ولا عن الشرك: إنه توحيد، بل لا نحب أن نداهن النفاق فنزعم أن شرك الصوفية خطأ، فحسب، كما ينافق بعض الشيوخ الذين مردوا على النفاق، ومرنوا على المخادعة والمداجاة؛ ليحسبوا مع الكافرين، ومع المؤمنين!! وعجب مغرب في العجب، أن نغضب، بل نرتجف من الحنق إذا دعينا نحن بغير أسمائنا، ونحقر من ينتسب إلى غير أهله، ثم لا نغضب من نعب الباطل بأنه حق!! وعجب ذاهل الدهشة أن نرمي بالعمى والجهالة من يسم الليل: بأنه نهار مشمس، أو من يقول عن المر: أنه حلو، أو من يقول عن الثلاثة: إنها واحد!! أو من ينسب إلى مذهب رأي مذهب آخر، أو من يخطئ في حقيقة تاريخية، أو جغرافية، أو مادة قانونية، ثم لا نرمي بهما – بالعمى والجهالة – من ينعت الصوفية بأنها إسلام صحيح، ومن يقول عن الطائفين حول القبور، اللائذين بأحجارها الصم: إنهم مسلمون!! ثم يمكر؛ ليحسب مع المسلمين، فيقول عن أولئك: ولكنهم مخطئون!!
عجب أن نكفر من ينسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم حديثاً موضوعاً، والقائلين بأن الله ثالث ثلاثة، ثم نحكم بالإيمان الحق لمن ينسبون إلى النبي أنه الصوفي الأول، وأنه الموحي بدين الصوفين!! من يقولون: أن الله عين كل شئ وأنه مليون ملايين!! نحكم بإيمان هؤلاء، لا لشئ سوى أن لهم أسماء تشاكل أسماء المسلمين!!.(216/8)
إن الحق والدفاع عنه يحتمان علينا أن نسمي كل شئ باسمه، ونصفه بصفاته، وإلا افترينا عليه، وجعلنا للباطل السورة والصولة، وداجينا في الإيمان. أما هذه النعومة والطراوة والرخاوة المخنثة في الذياد عن الحق، والجهر بكلمة الحق، أما ذلك فنشر أنواع الجبانة الذليلة، والخداع والرياء والعجز المهين!! قولوا عنا ما شئتم، فإن للحق صولة تجتاح كل صولة أخرى، ولن ينال منها أن ترموا بعض جنده بالعنف في البيان والمحاجة. وعجيب أن نرمي بالعنف، أو ينتقد علينا هذا في الدفاع عن أعظم مقدسات الدين والفضيلة، والله يقول (9:73 يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين، واغلظ عليهم، ومأواهم جهنم وبئس المصير).
قولوا ما شئتم، فليس بنافع ما تتقولون به في الذياد عن الصوفية أو الإبقاء على رمقها الشاحب المحتضر!! بل ستبقى رغم تتقولون به تلك الحقائق الصاعقة العاصفة المدمرة تدك هياكل الصوفية. ستبقى شاهد عدل وحق ساطع البرهان على أن الصوفية عدو الإسلام الألد الخصام، بيد أن هذا العدو، يسحرك بغزل التقبيل، ويسكرك بخمرة العناق، حتى إذا أغمضت عينيك النشوة الحالمة، أنفذ إلى صميم قلبك خنجره المسموم.
وما نشتري بما نكتب رضاء الناس، وإنما نبتغي به رضاء الله، فلله ما بذلت من جهد، وأضرع إليه سبحانه أن يدخره لي جهداً في سبيله، وألا يضيعه بذنب منا نقترفه، وهو مولانا ونعم النصير.
……………عبدالرحمن عبد الوهاب الويكل
القاهرة
11 من ربيع الأخر سنة 1375
26 من نوفمبر سنة 1955
……………________
الفل الأول
مقدمة
معذور
شكوت إلى النيابة يا سماحة الشيخ (المقصود سماحة شيخ الطرق الصوفية فإليه يوجه الخطاب) لتنتصف لك من إنسان يدعوك إلى الحق، وإلى الإيمان به.
ولا تثريب عليك!! فهتك القناع السحري عن الصوفية حرمان لكهنتها من السحب يجبى باسم الأوثان. ولم لا؟!(216/9)
وسيراها الناس ثمت أمشاجاً من اليهودية الباغية، والمجوسية الماجنة، والوثنية المستغرقة في الجحود!1 سيرون الصوفية الغزلية الفتون حمأة من الشرك الخاتل تمض على شفتيه بسمات الغانية المتبرجة؛ لتفتك، وتقتل!!.
أرأيت إلى من شكوته، كيف يفتر لك العذر، ويبتسم إشفاقاً عليك من ثورتك العارمة؟! وما تنقم من هذا المسلم سوى أنه يبصرك بجنابه هذه الجماعة التي قال فيها (36:60 ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان، إنه لكم عدو مبين؟!) يبصرك بجنايتها الظالمة على الدين الحق وقيمه الروحية على الفكر الملهم، والأخلاق التي تستوحي السماء النور والسمو والهداية. على المثل العليا للجماعة الإسلامية.
أملنا في الشيخ
ولقد كنا نأمل – والشيخ من كبار علماء الأزهر – أن يقود هذه الجماعة الضالة الحيرى إلى هدي الله، وأن يحول بينهم، وبين تدمير ما للجماعة الإسلامية من مقومات، وما لدينا من قيم، وما زال الأمل يغريني طيفة الشاعر أنك يا سماحة الشيخ ستفعل ذلك لمالك في ماضيك من سوابق خير، وأوقن أنك لو فعلت، لكنت ليث بطولة فادية، تهتف بها الأحقاب في إعجاب، وترتل الثناء عليها مزامير القرون!!.
ضحية
هذا رجاء شاب مسلم أغوى صباه الغرير سحر الصوفية، فجرعته زعافها يحسبه خمرة الجنة تدهق كئوسها الملائكة، وغسلينها يخاله رحيقاً ترويه به الحور النواعم، ثم أشرقت على روحه المظلم أشعة الهدى من كتاب الله، فنظر، فماذا رأى؟.(216/10)
رأى ماضيه الصوفي شيطان كفر مارد يغتال إيمان، وشرك يعصف بالرمق الشاحب من توحيده، فياحرة قلباه!! كان الفتى اليتيم الروح بأمل أن يمشي على الماء، وأن يحلق بجناحيه فوق قبة النجوم، وأن يتخذ بالروح الإلهي الأعظم، وأن يهتك – كالشهاب الثاقب – حجب "السوية والغيرية" (اصطلاحان صوفيان مأخوذان من كلمتي "سوي وغير" والصوفي الحق في دين الصوفية من يوقن أنه لا "سوى ولا غير" أي يرى الكل عيناً واحدة!!) ليشهد حقيقة الوحدة الكبرى، وحدة الوجود، ويسعد بها، وقد تحققت في ذاته!! كان يأمل ذلك كله، فبكل هذه الأساطير المجوسية وعدته الصوفية. ولكن !! وآه مما بعده امن أدمع وجراح!!.
أملت أن أمشي على الماء، فكانت الحمم المدمدمات من سقر!! أملت أن أحلق بجناحي فوق الأفق، فإذا هي مأساة المشرك التي قصها الله في كتابه (22:31 ومن يشرك بالله، فكأنما خر من السماء، فتخطفه الطير، أو تهوي به الريح في مكان سحيق). فمن ذروة القمة الحالمة الخيال هويت – يدكني الصخر الأصم الناتئ- إلى غور سحيق سحيق!!.
وهنالك على الصخور الحدباء بقيت منى أشلاء متأثرة، تروى لك عبرتي الحزينة المفجوعة!!.
وها في القلب الدامي جراح نازفة تنوح بين يديك بمأساتي الدامية!!.
أملت الاتحاد بالروح الإلهي، فلم أجد غير الشيطان ينفث في دمي فتونه، ويتلظى في غرائزي غياً يتعشق كل ساجية!!
أملت شهود الوحدة الكبرى!!
وآه من هذه الأسطورة الناعسة الفتنة، المكحولة الآثام!!
فقد وعدتني الصوفية أن هذه الأسطورة ستجعل مني إلهاً ثائر الرغبات، عاصف الشهوات، يجمع به هواه إلى امتهان ألوهيته في سيبل هذه الرغاب التي تشهاها الحرمان من شاعر ظامئ الجسد.
آه يا يوم التلاقي ……ليتني كنت ألهاً
لأبحث الناس ……للناس خدوداً وشفاهاً(216/11)
وعدتني بالربوبية تتجلى في بصورة بشرية، فأصرف الوجود بقدري القاهر، وقضائي الذي لا مرد له، وأسخر السماء والأرض، والعواصف والجن، والملائك والحور، أسخرهم لصبوات شبابي، ونزوات هواي!!.
ألم يبح كاهن الصوفية التلمساني في دينه الأم والأخت، ويرمي من يحرمهما على الابن والأخ بأنه محجوب؟! (ص 177 ج1 مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية).
ألم يؤكد طاغوت الصوفية الأكبر "ابن عربي" (هو محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي مات سنة 638هـ) أن الرب الأعظم غانية هلوك تحترق الشفاه على ثغرها قبلاً دنسة ملتهبة!! وأن هذا الرب لا يبلغ كمال تجليه الأعظم إلا حين يتجسد في صورة أنثى تجتاح أنوثتها خطيئة كل عربيد في غيابة الليل!! قد يتجلي هذا الرب في صورة ملك أو رجل، بيد أن تجليه في صورة ماجنة تعول بالشهوة ، وتصرخ بالرغبة، وتتقتل بالمفاتن، وتغازل بالإثم – تجليه في تلك الصورة أحلى وأجمل، وأتم وأكمل!!.
إذ يتجلى في الرجل بصورة فاعل، أما في المرأة فيتجلى في صورة فاعل، وصورة منفعل، وصورة فاعل منفعل معاً في مجلي واحد(سيأتيك نصه بلفظه) !!.
تثليث آخر!! غير أن وراءه شهوة متمردة تنزو به!! عذراك إن جمحت بي رغبتي في الذياد عن الحق إلى ذكر خطايا صوفية، يدمي منها حتى الخزي، وتثير الحياء في صفاقة وجه البغي!! عذرك فإنما نجاهد لتدمير الطاغوت الأكبر، وشيخ الصوفية يشكو منا إلى النيابة، لأننا نكشف لهم ما افتراه الشيطان من أديان وثنية، فتن بها الآبقين من الخلف، وسماهم لهم صوفية!!.(216/12)
فمضى الكهان يبشرون بها على أنها توحيد يشع منه وحده الحق، وإيمان سماوي الروح، عذري الحب، فكان خطرها الناجم الداهم، هو القاصمة، بل كانت أشد خطراً على المسملين من المجوسية، فهذه مستعلنة النبي لها من قلنسوتها آية. أما الصوفية، فبسمات حلوة خلوب، ونجاوي ناعمة شف رقتها عشق محروم، ونغمات عذاب آسرة، وعائم منتفخة كالبطون المتخمة من الحرام، ولحىً بيض مرسلة على قلوب سود، يعيث فيها مشط موسوس، ومسبحات بألوان الطيف مسحورة الهينمة، لا تمل من الترتيل، موشاة الذوائب، منعمة الأنامل، تصطفق حباتها في رعونة ثائرة!!.
واجب الشيخ
كان واجب الشيخ – وقد ذكرته بهدى الله – دعوة أتباعه إلى الإسلام، يؤمنون بالكتاب والسنة، ويكفرون بالصوفية، وتراثها الوثني، فإن لم يرض اتباعه بالله وحده رباً، وبكتابه – فحسب – إماماً، وبرسوله الحق وحدة أسوة وقدوة، كان حقاً على الشيخ أن يفر إلى الله مخبتاً مؤمناً، وأن يترك – رضى النفس – هذا المنصب وأصنامه، ترجمهما لعنة الله!1.
لماذا أكتب للشيخ؟
في خيالي الكليل شفق خاب من حسن الظن بالشيخ، وأطيافه شاحبة الصور تخيل على أن الشيخ على جهالة بدين الصوفية، وبما تطفح به كتبها من وثنية، ومن أعماق نفسي الحانية ينبعث دعاء ثائر الإلحاح في بر وإشفاق، يدعوني إلى أن أنشر بين يدي الشيخ، وصوب فكره وعينيه كتاب الصوفية ليرى فيه صور أربابها – وتعالى جد ربنا الحق -، ورسولها – وبرأ الله خاتم النبيين من بهتانها -، وأوليائها – وحاشا أولياء الرحمن أن تمسهم صوفية -، فلعل الشيخ حين يرى هذه الصور التي تفجع النفس والضمير والخلق الكريم والفكر البصير، يهب بها على الجاهلية الصوفية ثورة حق قوى لطمه باطل، وعزم مشبوب أحنقه ظلم خاتل. ونهاك يروى التاريخ عنه للآباد الواعية قصة البطولة الفادية، وتزخر القلوب المؤمنة بمشاعر الإعجاب به آية حب عميق، ودليل أخوة في الله أتراك تفعل يا سماحة الشيخ؟!(216/13)
وإلا فسنظل – بعون الله – نلهب بسياط الحق ظهور الآبقين، وندك بمعاوله – غير هيابة ولا واهنة – معابد الأصنام، حتى تخر على سدنتها وعبيدها، ولن يحول بيننا – بتوفيق الله – وبين التذكير بماهدي الله إليه، وفرض علينا الجلاد المستلئم دونه، عواصف شر تثيرها علينا أحقاد الصوفية المستعرة، فما لقلب المؤمن أن يرهب في الحق إلا من فظره، ولا أن يرغب إلا في رضاه (9: 129 فإن تولوا، فقل حسبى الله، لا إله إلا هو. عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم)
دين الصوفية
للصوفية مدد من كل نحلة ودين إلا دين الإسلام، الله إلا حين نظن أن للباطل اللئيم مدداً من الحق الكريم، وأن للكفر الدنس روحاً من الإيمان الطهور. والصوفية نفسها تبرأ إلا من دين طواغيتها مؤمنة بأنه هو الحق الخالص. يقول التلمساني – وهو من كهان الصوفية- "القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا(ص 145 جـ 1 مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية)" وابن عربي يزعم أن رسول الله أعطاه كتاب فصوص الحكم – وهو دين زندقته – وقال له: "اخرج به إلى الناس ينتفعون به – ويقول : فحققت الأمنية كما حده لي رسول الله بلا زيادة ولا نقصان" ثم يقول:
……فمن الله، فاسمعوا……إلى الله فارجعوا (ص 4فصوص الحكم بشرح بالي ط 1309هـ)(216/14)
على حين يذكر الحق وتاريخ الصادق أن الصوفية تنتسب على كل نحلة مارقة، وتنتهب منها أخبث ما تدين به، ثم تفتريه لنفسها، مؤمنة به، وتحمل على الإيمان به كل فراشة تطيف يحجميه، وإلا فهل من الإسلام أسطورة وحدة الوجود، وخرافة وحدة الأديان؟! فتلك تزعم أن الله سبحانه عين خلقه، عينهم في الذات والصفات والأسماء والأفعال، تزعم أن واهب الحياة، وخالق الوجود غين الصخر الأصم، والرمة العفنة!! ووحدة الأديان تزعم أن كفر الكافر، وخطيئة الفاجر عين إيمان المؤمن، وصالحة الناسك، تزعم أن دين الخليل هو دين أبيه آزر، وأن إيمان موسى عين كفر فرعون، وأن وثنية أبي جهل عين توحيد محمد، فكل رب الدين ورسوله!! كل تغين للذات الإلهية، غير أنها سميت في تعين بمحمد، وفى أخر بأبي جهل، وهي هي في مظهريها، أو اسميها!! تزعم أن دين إبليس وإيمانه عين دين أمين الوحي، وروح إيمانه، بل زادت الخطيئة فجوراً، فزعمت أن إبليس أعظم معرفة بآداب الحضرة الإلهية من أمين الوحي، وأسمى مقاماً!!
أفمن دين الإسلام هذه الخطايا الكافرة؟!
افتراء على دين الله
ولكن ما بالي أسرف في الحجاج؛ لأثبت ما ليس في حاجة إلى دليل يثبته، بل ما الصوفية – نفسها – تقر مؤمنة به؟!(216/15)
سلوها لم انتبذت من المسلمين مكاناً قصياً تسمي فيه المدنسين برجسها صوفيين، ولا مسلمين، والاسمان متقابلان تقابل الظلام الجائر، والضوء الباهر؟ سلوها لم تمقت ما سمي به الله من يعبدونه على بصيرة، وتجنح إلى اسم ماله من دلالة إلا على كفر أو مذلة؟ سلوها من هم كهان دينها، وأحبار طقوسها؟ سلوها لم تورث أحقاد طواغيتها على الكتاب والسنة؟ سلوها لم تفتن الأغرار عن دين الحق، فتزعم لهم أن الإسلام شريعة وحقيقة، تعني بالشريعة ما أوحاه الله إلى رسوله، وبالأحرى وساوس الأبالسة النافثين لبدع الصوفية. سلوها، وسلوها؟ ولكن لا تكدوا أنفسكم، فهذا ابن عجيبة الفاطمي الهوى، الصوفي الدين يلهمكم جواب ما عنه تسألون، فإليكم ما افتراه: "وأما واضع هذا العلم "يعني التصوف" فهو النبي صلى الله عليه وسلم علمه الله بالوحي والإلهام، فنزل جبريل أولاً بالشريعة فلما تقررت، نزل ثانياً بالحقيقة، فخص بها بعضاً دون بعض، وأول من تكلم فيه، وأظهره سيدنا علي كرم الله وجهه، وأخذه عنه الحسن البصري(ص 5 إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة جـ 1 ط 1913م. وفي قوله ذاك دليل الصلة الوثيقة بين الصوفية وبين الشيعة التي تؤله أئمتها)" وإنها لفرية جائرة الإفك على رسول الله، وبهت له بجريمة ملعونة، جريمة كتمان العلم، واي علم؟ إنه علم الحقيقة في دين الصوفية!! أفيكتم الرسول الحق وعلمه ودلائله، وقد توعد كاتم العلم بعقاب شديد من الله "من كتم علماً يعلمه الله إياه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار(أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم وصححة من طريق أبي هريرة وقال الترمذي: حسن صحيح.)" ثم وراء هذا البهتان اتهام صريح لأبي بكر وعمر وعثمان، ومعهم خيار الصحابة من السابقين، بأنهم كانوا أنضاء ضلالة وجهالة بما يعرج بالروح على محبة الله، وراءه محاولة حقود مصممة على تجريد الجماعة الإسلامية من خيرا سلفها وخيار خلفها من صفة الإيمان الحق. وحسب الصوفية أن تبوء هي(216/16)
وحدها بما تبهت به الصديقين والشهداء.
وسيلة المعرفة عند الصوفية
ويدين الصوفية ببهتان آخر يدمعها بالمروق عن الإسلام، ذلك هو اعتقادها أن الذوق الفري (يعني به الذوق الخاص بكل إنسان)- لا الشرع، ولا العقل – هو وحده وسيلة المعرفة ومصدرها. معرفة الله وصفاته، وما يجب له (لم نقل: وما يستحيل عليه. لأن الصوفية تؤمن بأنه سبحانه يجب له كل شئ، لأنه عين كل شئ، فلا يستحيل عليه نقص ولا عجز)، فهو – أي الذوق – الذي يقوم حقائق الأشياء، ويحكم عليها بالخيرية أو الشرية، بالحسن أو القبح، بأنها حق أو باطل، فلا جرم أن تدين الصوفية بعدد عديد من أرباب وآلهة، ولا عجب أن ترى النحلة منها تعبد وثناً بغير ما تعبده به أخرى، أو تخنع لصنم يكفر به سواها من النحل الصوفية، ولا عجب من ذلك كله، ما دامت تجعل "الذوق" الفردي حاكماً وقيماً على المسميات وأسمائها، فيضع للشئ معناه مرة، ثم ينسخه بنقيضه مرة أخرى. هذه الحدة في توتر التناقض صبغة الصوفية دائماً في منطقها المخبول، ولقد ضربت الصوفيين أهواء أحبارهم بالحيرة والفرقة، فحالوا طرائق قدداً، تؤله كل طريقة منها ما ارتضاه كاهنها صنماً له، وتعبده بما يفتريه هواه من خرافات!! على حين يجمعهم على الوحدة هوى واحد، وغاية واحدة، هي القضاء على الإسلام والجماعة الإسلامية.(216/17)
وما إخالك يا سماحة الشيخ تمتري فيما ذكرته لك، فأنت به خبير، وإلا ففيم هذه الشيع المتطاحنة (يقول رويم البغداد: "لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا، فإن اصطلحوا، هلكو" ص 181 طبقات الصوفية للسملي، فليتنافر المسلمون، ولتطاحنوا فهذا دين الصوفية.) وفيم هذه المشيخات المتنابذة، كلما دخلت واحدة منها عليك لعنت أختها، بل فيم هذه الحرب التي يثيرونها عليك في مكر دنئ ورياء ماكر؛ إذ جلست على عرشهم دون أن تكون لك قدم ثابتة في التصوف، ودون أن تنصب شيخ طريقة من قبل؟!! قلها صريحة الجرأة يا سماحة الشيخ، يهب الله لك هداه، ومقام الصديقين، وإنه للخير الذي تنشده نفس كل مؤمن.
الفصل الثاني
آلهة الصوفية
يفتري الصوفية – فمالهم من سجية غير ذلك – أنهم الذين يعرفون الله معرفة لا يمس يقينها ريب، ولا يشوب جلال الحق فيها شبهة، ويصمون المسلمين بعمى البصيرة (يقول نيكلسون "والصوفية لا يفتئون يعلنون أنهم أمة الله المختارة" ص 117 الصوفية في الإسلام ترجمة نور الدين شريبة.)، وعمه العقل، وخطل الفكر، وجمود العاطفة، وفساد الذوق، وخمود جذوة الحياة في الشعور، والإغراق العميق السحيق في المادية الصماء، والجمود الأحمق على عبادة التاريخ، وما زالت تلك دعواهم. فما الرب الذي يعبدونه وإذا شئت إحكام الدقة، فسلهم: ما الرب الذي اختلقوه، ثم عبدوه؟(216/18)
ناشدتك الله – إن مسك فيما أقول وهم ريبة، أو فتنك منهم عن الحق غزل ابتسامة، أو ترنيمة عاشقة بتسبيحة أو دعاء، ناشدتك الله إلا ما قرأت شيئاً من كتبهم، لتعرف رب الصوفية الأعظم. اقرأ من الفتوحات، أو الفصوص، أو ترجمان الأشواق، أو عنقاء مغرب، أو مواقع النجوم، وكلها لابن عربي. اقرأ من الإنسان الكامل للجيلي، اقرأ من تائية ابن الفارض وشرحها للنابلسي أو القاشاني، اقرأ من الطبقات والجواهر والكبريت الأحمر لشعراني، اقرأ من الإبريز للدباغ، اقرأ من كتاب الجواهر، والرماح وهما للتيجانية، وروض القلوب المستطاب لحسن رضوان، بل اقرأ حتى مجموع الأوراد الذي يتعبدون به الآن ودلائل الخيرات، "وأحزاب" الكهنة منهم في العشايا والأسحار.(216/19)
إن الصوفية تنعت ابن عربي بأنه "الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر" وتخر له ساجدة، والجيلي بأنه "العارف الرباني والمعدن الصمداني" وابن الفارض بأنه "سلطان العاشقين" والشعراني بأنه "الهيكل الصمداني والقطب الرباني" فماذا أدعوك إذن إلى تلاوة كتب تنقم منها الصوفية دلائل الحق، وإشراق الهدى، بل إلى كتب تقدسها الصوفية على اختلاف نوازعهم، وتباين أهوائهم، ويجلونها – ولا أعدون الصدق إذا قلت يعبدونها – ويرونها الأفق الأسمى لنور التوحيد، والمنبع السلسال لفيوض الربانية!! فإن قرأت شيئاًَ من تلك الكتب، فتدبر بعده آية واحدة من كتاب الله، واقذف بنور الحق الإلهي على دياجير الباطل الصوفي، وثمت يروعك، ويستفز الغضاب الثوائر من لعناتك أن تجد الصوفية تدين برب يتجسد في أحقر الصور، وتتعين "هويته وإنيته(الهوية عندهم هي الحقيقة الباطنة للذات الإلهية، والإنية هي حقيقتها الظاهرة في مجاليها المتنوعة)" في أنتن الجيف، وتتمثل حقيقته الوجودية صور أوهام في الذهن الكليل، وظنون حيرى في الفكر الضليل، وتهاويل أسطورية في الخيال. ألم تؤله الصوفية في دين كاهنها التلمساني رمة كلب تقزز من صديدها الدود(مر التلمساني على كلب أجرب ميت في الطريق، فقال له رفيق له – وكان التلمساني يحدثه عن وحدة الوجود - : أهذا أيضاً هو ذات الله؟ مشيراً إلى جثة الكلب. فقال التلمساني: نعم. الجميع ذاته، فما من شئ خارج عنها، انظر 145 مجموعة الرسائل الكبري لابن تيمية.)؟.
ومعذرة يا سماحةالشيخ، فوالذي هدى المسلمين إلى دينه الحق، وأوجب الجهاد دونه، ما قلت إلا الحق للحق، وما رميت إلا بالحق، وإن شئت فمرحباً بموعد نلتقي فيه للمحاجة، فاختر ما شئت من أمكنة، وإن يكن قبة البدوي!!(216/20)
وهاك من النصوص ما يكشف لك في جلاء عن معتقدات الصوفية، وسأختار من النصوص مالا يمكر به التأويل، من كتب تتخذها الصوفية شرعة لها ومنهاجاً في الدين، وتجعل أوثان من افتروها مطافات تستروح عندها – كما تزعم – نسائم الجنة، وعبير الخلود، وروح الله، وتضرع إلى جلاميدها الصم أن تهب للروح السكينة، وللقلب اليقين المطمئن، وأن تمد الوجود بالحياة الفياضة بالخير واليمن والبركة، وأن تكشف لعبادها حقيقة الربوبية والإلهية ليعرجوا إلى الاتحاد بها، وترجو ما ينخر في عظامها من سوس، وينهش لحومها من دود، أن يصرف كهان الصوفية في أقدار الله، وأن يجعل لهم السلطان على قضائه، وأن يحقل بهم فوق الذرى السامقات من أقداس الربانية!!
إله ابن الفارض
(ابن الفارض هو عمر بن أبي الحسين علي بن المرشد بن علي شرف الدين الحموي الأصل المصري المولد، توفي سنة 632هـ، ولم نتحدث عمن سبقه من الصوفية كالحلاج أو البسطامي مثلاً، لأننى اخترت أن أنقل عمن يجمع الصوفية جميعاً سلفاً وخلفاً على تقديسهم، أما الحلاج وغيره فيطعن فيه رياء ونفاقاً بعض الصوفية فتركته، حتى لا يكون لهم رياء معذرة) يؤمن هذا الصوفي ببدعة الاتحاد، أو الوحدة سمها بما شئت. بصيرورة العبد رباً، والمخلوق خلاقاً، والعدم الذاتي الصرف وجوداً واجباً، وإذا شئت الحق في صريح من القول، فقل: هو مؤمن ببدعة الوحدة، تلك الأسطورة التي يؤمن كهنتها بأن الرب الصوفي تعين بذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله في صور مادية، أو ذهنية، فكان حيواناً وجماداً وإنساً وجناً وأصناماً وأوثاناً. وكان وهما وظناً وخيالاً، وكانت صفاته وأسماؤه وأفعاله، عين ما لتلك الأشياء من صفات وأسماء وأفعال؛ لأنها هي هو في ماهيته ووجوده المطلق أو المقيد، وكل ما يقترفه البغاة من خطايا، وما تنهش الضاريات من لحوم، أو تعرق من عظام، فهو فعل الرب الصوفي، وخطيئته وجرمه!!(216/21)
وإخالك الآن تود لو تسوى بي الأرض، أو تدهمني – على غرة صاعقة، إذ يجري على لسان الحق ذكر ابن الفارض منعوتاً بالزندقة وتعجب أن يكون سلطان العشق الصوفي زنديقاً!!
وما علي – برحمة الله – مما تود، ولن يمنعني عجبك في ذهوله من أن أحكم على ابن الفارض بما ارتضاه هو ديناً له وتدبر ما سأنقل لك عنه من تائيته، فلعل يزول عجبك، وينفثئ غضبك.
…جلت في تجليها الوجود لناظري……ففي كل مرئي رآها برؤية
يزعم أن الذات الإليهة هتكت عنه حجب الغيرية، وجلت له الحق المغيب، فرأي حقيقة الله متعينة بذاتها في كل مظاهر الوجود، رأي هذا الكون المادي بكل ما يدب عليه، أو يغتال الحياة والأعراض في غياهب ليله الساجي، ومغاوره المظلمة، رآه هو عين الله وماهيته، ورأى وجوده عين وجوده، فما تم من شئ عند ابن الفارض إلا وهو الله، بل ما للرب – رب ابن الفارض- وجود سوي وجود تلك الصور المادية، أو الذهنية المنطبعة عن شئ متحقق، أو متوهم، أو متخيل. أما وقد نعق بهذا البهتان، فليفتر لنفسه ما يترتب على الإيمان به؛ لهذا راح يزعم أنه بذاته اتحد بذات ربه، فكانت الثنائية في الاسم، وكانت الوحدة في الحقيقة والوجود، وأنه في جلوة تلك الوحدة يشهد في ذاته وصفاته وأفعاله ذات الله وصفاته وأفعاله، وعن هذا يعبر.
…وأشهدت غيبي، إذ بدت، فوجدتني …هنالك إياها بجلوة خلوتي
شهد "هوية" الوجود الإلهي، أو باطنه، "إنية" وجوده هو، أو ظاهره، فلم يجد للرب وجوداً سوى وجوه ولا لذاته كياناً متقوماً غير كيانه، فهتف في جذل البشرى: أنا الله!!
بيد أنه خشي أن يتوهم أحد أن هذا الشهود وهم طارئ، أو حال عارض أو صورة من حلم أسبل لها فكره وعينه، خشي هذا، فقال:
…ففي الصحو بعد المحر لم أك لغيرها …وذاتي بذاتي، إذ تحلت ، تجلت(216/22)
والصحو في دين الصوفية هو رجوع العارف إلى الإحساس بعد سكرته بوارد قوى، وفيه يشهد العارف المغايرة بين الذات الإلهية ومظاهرها أو صفاتها، يشهد أن الكون ليس هو الذات الإلهية، وإنما هو تجليات أسمائها وصفاته، ومجال لأفعالها. أما المحو في دينها فهو امحاء الكثرة والغيرية، والخلقية المتنوعة المتعددة. وفناء السوية، وتجلى الوحدة المطلقة، فيرى الصوفي الخلق عين الحق، والمربوب عين الرب.
فثمت إذن فرق عند الصوفية بين الصحو والمحو، ولكن ابن الفارض أبي أن يؤمن بهذا الفرق المبتدع، فهتك الستر، ومزق القناع؛ ليكشف لك في قول صريح عن حقيقة معتقد الصوفية، ومضى مسرعاً يلهث؛ ليدرك فكرك قبل أن يؤمن بذلك الفرق بين الصحو وبين المحو!! وليؤكد لك أن دين الصوفية قائم من أول مرة على الإيمان بأن الله سبحانه هو عين خلقهّ!! على نفي كل مغايرة – مطلقة، أو مقيدة، إضافية، أو نسبية – بين الخالق والخلق، سواء في ذلك حال الصوفي في الصحو، وحاله في المحو، وهكذا صرح ابن الفارض في جرأة شرود بما يرمز عنه سواه من منافقي الصوفية، حين يفجؤهم برهان الحق، ولذا يقول.
إلى كم أواخي الستر، هاقد هتكته…وحل أواخي الحجب في عقد بيعتي
يعني أنه عاهد الحق حين بايعه على أن يهتك كل ستر، و يحل كل أنشوطة، حتى يرى كل ذي بصر أن الله يتمثل دائماً في صور الخلق، وتتعين ذاته بذواتهم!!
وتدبر هذه الصراحة الصارخة الجرأة في قول ابن الفارض: "وذاتي بذاتي، إذ تحلت تجلت" تدبر تجد الزنديق، يأبى أن يثبت لربه ذاتاً، ويتعالى أن يجعل وجوده هو فيض وجود ربه، فلم يقل :"وذاتي بذاته" أو "ذاته بذاتي" وإنما قال: ليحكم بالعدم الصوفي على رب الوجود الحق، وخالقه: "وذاتي بذاتي" فليس ثمت إلا ذاته هو في الحالينّّ ألا تحس الجحود طاغي البغي؟!(216/23)
ما ثم عند ابن الفارض من رب، ولا مربوب. إلا وهو ابن الفارض إنه الخلاق. وإنه هو الوجود، وواهب الوجود، وما الرب الأكبر إلا أثر من آثار قدرته، أو جزئي تأئه حيران من كليه!! هذا دين ابن الفارض. فبماذا تحكم عليه؟!
فوصفين إذ لم تدع باثنين وصفها…وهيئتها – إذ واحد نحن- هيئتي
يزعم أن كل ما وسف به الله نفسه، فالموصوف به على الحقيقة هو ابن الفارض؛ لأنه الوجود الإلهي الحق، في أزليته، وأبديته، وديمومته، وسرمديته.
…فإن دعيت كنت المجيب، وإن أكن
……………منادى أجابت من دعاني، ولبت
إن دعي الله أجب ابن الفارض؛ لأنه عينه، وإن دعي ابن الفارض لبى الله، لأنه اسمه ومسماه! ولكن أتلمح الكبر جائر العتو من ابن الفارض على خالقه؟ إذ يزعم أنه إن دعي الرب، فما يفعل ابن الفارض شيئاً سوى أن يجيب، أما إذا دعي ابن الفارض، فما يكفي الرب أن يجيب، وإنما يهرول ملهوفاً إلى التلبية!!.
ما كفاه زعمه أنه الله، فأكد أن الرب الأكبر ما هو إلا صورة شاحبة منه، وظل حيران له!!.
فقد رفعت (يصح أن يكون معناه أن الخطاب رفع بينه وبين غيره، لعدم وجود غير، ويصح أن يكون معناه أن"الفتحة" من تاء الخطاب في مثل "خلقت" بفتح التاء تحولت إلى ضمة وهي علامة رقع، فصارت "خلقت" بضم التاء لا فتحها أي صارت تاء المخاطب بفتح الطاء عين تاء المتكلم) تاء المخاطب بيننا وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي.
الخطاب يستلزم الاثنينية، إذ لا بد له من طرفين متقابلين مخاطب ومخاطب، ولهذا يكفر ابن الفارض بما يؤكده الخطاب في آيات الله، أو في دعاء الداعي من دلالة على المغايرة بين المتخاطبين!! وينفي صدور خطاب أو دعاء منه إلى "غير ما" فما ثم "غير" حتى يخاطبه، أو يدعوه!!.
فإذا ما صدر منه خطاب، أو دعاء إلى الله، فلا تحسبن أنه يخاطب غيره؛ إذا الخطاب صادر منه إليه، والدعاء متوجه به من نفسه إلى نفسه.(216/24)
لقد كان يقول من قبل أن يكشف عنه الغطاء: أنت أنت، فما تجلت له الحقيقة صار يقول: "أنا أنا" فما "أنت" تلك إلا "أنا" ذاتاً ووجوداً!!.
ويرى ابن الفارض أن إثبات الربوبية الخلاقة وحدها لنفقسه شئ دون مقامه الأكبر، فيفتري أن له الربوبية بوحدانيتها وصفاتها وأسمائها وأفعالها، بملكها وملكوتها، برحمانيتها وجبروتها، بقدرتها، القهارة، وعلمها المحيط الشامل، بما أبدعت من خلق، ومنحت من حياة.
ولا فلك إلا ومن نور باطني …به ملك يهدى الهدى بمشيئتي
(يقول تعالى لبنيه الأعظم (28:56 إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء) فجعل ابن الفارض نفسه أعظم من محمد، وقريناً مساوياً لله!!)
ولا قطر إلا حل من فيض ظاهري
………………به قطرة عنها السحائب سحت
ولولاي لم يوجد وجود، ولم يكن…شهود، ولم تعهد عهود بذمة
فلا حي إلا من حياتي حياته……وطوع مرادى كل نفس مريدة
(أيقول هذه مسلم؟ إنها لله وحده، فنسبها ابن الفارض على نفسه!!)
فبماذا يحكم المؤمن على زنديق يفتر أن ملكوت كل شئ بيده، وأن الوجود كله قطرة فيض من جوده ووجوده، وأن الإرادة البشرية كلها طوع هواه.
وكل الجهات الست نحوي توجهت……بما تم من نسك وحج وعمرة
لها صلواتي بالمقام، أقيمها………وأشهد فيها أنها لي صلت
هذه الصلوات يقيمها النساك في قدس المحاريب، وهذه الضراعات يتبتل بها القديسون، وهذه الدعوات يتهجد بها العباد تحت سجوات الليل، وهذه المناسك ينسكها الحجاج والمعتمرون. إنها لا ترفع في الحقيقة إلى الله، وإنما تتوجه بها القلوب إلى ابن الفارض رجاء رحمته، وابتعاء رضاه!.
وهؤلاء المصلون يولون وجوههم شطر المسجد الحرام. إنهم يولونها شطر هيكل ابن الفارض. وهذه النذور يحفد بها الملهوفون، إنها قرابين العبودية منهم، ويبتغون بها وجه ابن الفارض!(216/25)
والله جل شأنه يقول: (2:115 ولله المشرق والمغرب، فأينما تولوا فثم وجه الله) غير أن ابن الفارض يرفع في وجه الحق باطله، فيفتري أنه ما ثم إلا وجهه هو، وأن الكون كله ما يولي بجهاته الست وجهه إلا إليه!.
وذلك الرب الصوفي الهيمان في ملكوت ابن الفارض! ايعيش عاطلاً بلا عمل؟ أيخالف عن أمر ابن الفارض؟ كلا فقد أرغمه ابن الفارض على أن يرتسم خاشع الذل في المعابد يصلي لابن الفارض، ويرجو رحمته.
أرأيت إلى سلطان العاشقين: كيف يفتري في شعره الوثني كل هذه الخطايا المجوسية؟!
ويهفو ابن الفارض لاهث الأنفاث؛ ليفتري لك مرة أخرى. أنه هو الله. كلانا مصل واحد ساجد إلى …حقيقته بالجمع (الجمع عند الصوفية هو "شهود الحق "أي الله" بلا خلق)في كل سجدة.
ولكن لـ(كلانا) هذه دلالتها الحتمية على وجود اثنين أو تحقق وجودين يغاير أحدهما الآخر. لهذا كر ابن الفارض يعدو في لهفة مجنونة؛ ليستدرك على "كلانا" بما ينسخ ما توهمه، فقال:
وما كان لي صلي سواي، ولم تكن……صلاتي لغير في أدا كل سجدة
عبادة الأنوية
ولست أدري لم يغرم الصوفية دائماً بنعوت المرأة يحملونها على ربهم، فيزعمون أن ربهم يتجلى – غزلي الجمال – في صورة أنثى عاشقة ملهوفة تتقتل بفتون أنوثتها الهيم لحيوان يراودها عن نفسها. إن هذا الإلحاح الجسدي في عبادة الأنوثة يدفعنا إلى محاولة اكتناه ما يعتلج به من شعور يتلظى بالنزوات الملتهبات والشهوات العرابيد؛ لتدرك علة ذلك التمجس الصوفي الذي يؤله نار الجسد. أترى حين استبد بالصوفية عشق الأنثى، ولوعهم بالحرمان، أراقوا الغزل في هوى المعشوقة، فلم تند أنوثتها منهم غليلاً، ولم تبح لحمها للناب الملهوف، أتراهم حين احترقوا تلهفاً حتى إلى ظلى أنثي مبذولة، فلم ينالوا، صور لهم ما يؤج في غرائزهم من سعير أن الأنيى ليست – إذن – إلا ربا تعالت كبرياؤه وتسماى عرشه؟(216/26)
أم تراهم – والأنوثة تعاطيهم صهباء إثمها – أبوا إلا أن يترعوا الدن كله، فراحوا يمدونها في الغي، فزعموا لها أن الحقيقة الإلهية ليست إلا أنثى مشتهاة مشتهاة، وأن حقائق الوجود كله أنوثة تشرب الشهوات خمر جسدها المعتق؟! يمثل ابن عربي الطائقة الأولى، وستأتيك أنباؤه، أما ابن الفارض (يصور لنا أحد أتباع ابن الفارض لوناً من ألوان مجون سلطان العاشقين فيقول: "دفع إلى دارهم، وقال: اشتر لنا بها شيئاً للأكل، فاشتريت ومشينا إلى الساحل، فنزلنا في مركب، حتى طلع البهسنا، فطرق باباً، فنزل شخص فقال: بسم الله، وطلع الشيخ، فطلعت معه، وإذا بنسوة بأيديهن الدفوف و والشبابات، وهم يغنون له، فرقص الشيخ على أن انتهى، وفرغ ونزلنا، وسافرنا حتى جئنا إلى مصر، فبقي في نفسي شئ، فلما كان في هذه الساعة جاءه الشخص الذي فتح له الباب، فقال له: يا سيدي فلانة ماتت – وذكر واحدة من أولئك الجواري – فقال: اطلوا الدلال، وقال: اشتر لي جارية تغني بدلها، ثم أمسك أذني، فقال: لا تنكر على الفقراء !!" ص 319 جـ 4 لسان الميزان لابن حجر العسقلاني طبع الهند 1230هـ. هذا هو ابن الفارض القديس يرقص ويغني والنسوة يرقصن معه ويضربن له الدفوف!! ومع هذا يرحم على تابع أن ينتقده!! وهكذا كل الشيوخ) فاسمع إليه يقول:
ففي النشأة الأولى تراءت لآدم…بمظهر حواء قبل حكم البنوة
وتظهر للعشاق في كل مظهر…من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة "لبنى" وأخرى "بثينة"…وآونة تدعى"بعزة" عزت
يزعم أن ربه ظهر لآدم في صورة حواء، و"لقيس" في صورة "لبنى" و "لجميل" في صورة "بثينة" و "لكثير" في صورة "عزة". فما حواء البشر إلا الحقيقة الإلهية، وما أولئك العشاق سكرت على شفاههن خطايا القبل المحرمة، وتهاوت بهن اللهفة الجسدية الثائرة تحت شهوات العشاق، ما أولئك جميعاً سوى رب الصوفية تجسد في صور غوان تطيش بهداهن نزوة ولهى، أو نشوة سكرى، أو رغبة تتلظى في عين عاشق!!.(216/27)
ويسرف ابن الفارض في توكيد أنوثة ربه، وتجليه أبدا في صورت جسد امرأة يزل بها موعد الليل، فيقول:
ولسن سواها، لا، ولا كن غيرها…وما إن لها في حسنها من شريكة
خشي ابن الفارض أن يتوهم أحد في ربه أنه يغاير حقيقته، أو تتباين صفاته، وهو يتجلى مرة بعد مرة في صورة غانية، أو أن يظن أن هؤلاء الغانيات "لبنى، بثينة، عزة" تغير حقائقهن حقيقة ربه في شئ ما، خشي ابن الفارض ذلك، فاستدرك على الأوهام بما يحيلها يقيناً ثابتاً في أنوثة ربه، فقال: " ولسن سواها، لا، ولا كن غيرها" وهكذا صدق فيهم قول الله (117:4 إن يدعون من دونه إلا إناثاً، وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً) ماذا يحدث للشباب المسلم، ومنه لو أنه آمن بهذه الصوفية؟!
فليفهم كل عاشق يطويه الليل على خاطئة أنه حين يقترف الخطيئة مع أنثاه، وتعربد في جسدها الرخص أنيابه وأظفاره، ليفهم كل عاشق أن أنثاه هذه التي يعرق أنوثتها ليست إلا رب الصوفية الأعظم!!.
وليصحح مؤرخو الأدب تاريخ، فابن الفرض يؤكد أن أولئك العشاق "قيس، جميل، كثير" وكل شعراء العشق لم يريقوا خمور الغزل إلا للذات الإلهية متجسدة في صور عشيقاتهن القواتل!!.
أوعيت إذن علة إطلاق الصوفية على أربابهم أسماء نسوة (أنصت إلى المنشدين اليوم في حلق الرقص الصوفي أو الذكر كما يزعمون تجدهم يرقصون الذاكرين على مناجاة "ليلى وسعاد" وغيرهما!!) جلهن عواطل من الفضيلة، عوار عن الشرف؟!
وعلة عبادتهم لأجساد تلظى فيها الشيطان، وعربد بخطاياه؟ّ ذلك لأن كهان الصوفية أوحوا إليهم أن أربابهم تتجلى دائماً في صور إناث تجردن لخطايا العشق، وآثام الليل في حان الغرام!!.
ومعذرة إلى من يقرءون للهدى عما أثرته في نفسوهم من غثيان بذكر هذا القئ القذر من الكفر الصوفي، وعما يحسونه بنقل تلك الأبيات من حرج تختنق فيه العاطفة، ويتقلى الضمير.
لمن كان سجود الملائكة؟(216/28)
ولا يمل ابن الفارض من تكرار إفكه الوثني يزعم فيه أنه هو الله، فيضيف إليه أنه عين رسل الله أيضاً، وعين آدم الأب الأول للبشرية، وعين الملائكة الذين سجدوا لآدم.
وفي شهدت الساجدين لمظهري…فحققت أني كنت آدم سجدتي
(يعني به آدم عليه السلام، فهو في دينه تجسد للذات الإلهية التي هي ابن الفارض)، وإليك شرح القاشاني – وهو كاهن صوفي – لهذا البيت: "أي عاينت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري، فعلمت حقيقةً أني كنت في سجدتي آدم تلك السجدة، وأن الملائكة يسجدون لي – والملائكة صفة من صفاتي - (فسر الملائكة بأنها صفات، لتقي القول بالغيرية والتعدد، ولكيلا يعترض عليه بمثل هذا: ما دمت تتحدث عن ساجدين وعن مسجود له فقد قلت بذوات كثيرة، وأغيار عديدة.. لا يعترض عليه بمثل لأنه يزعم أن الملائكة ليست ذوات. وإنما هي صفات للذات الإلهية والصفات عنده عين الذات، فلا تعدد، ولا غيرية!!)، فالساجد صفة مني تسجد لذاتي (ص 89 جـ 2 كشف الوجوه الغر على هامش شرح الديوان طبع 131هـ) أرأيت إلى شرح القاشاني؟ لقد نقلته لك بلفظه مثلا لما يشرح به الصوفية أساطير دينهم؛ لتؤمن أنى لم أمل مع الهوى فيما شرحت لك به أبيات ابن الفارض، وأظنني ما بلغت مبلغ القاشاني في الشرح، فهو صوفي يدين بالتائية. وحسبنا هذا من سلطان عشاق الصوفية!!.
إله ابن عربي(216/29)
أما هذا الطاغوت الأكبر، فقد افترى للصوفية رباً عجيباً يجمع بين النقيضين المتوترين في ذاته، وبين الضدين الحقيقيين في صفاته، فهو الوجود الحق، وهو العدم الصرف، هو الخلاق، وهو المخلوق، هو عين كل كائن، وصفاته عين صفات كل موجود وكل معدوم، هو الحق الكريم والباطل اللئيم، هو الفكرة العبقرية، والخرافة الحمقاء، هو الخاطرة الملهمة، والوهم الذاهل، والخيال الحيران، والمستحيل الذي لا يتصور فيه العقل أبداً أن يخطر حتى مرة واحدة في بال الإمكان، والممكن الذي يرى فيه الفكر أجلى معاني الإمكان، والذي لا يتوهم فيه العقل وهم استحالة. هو المؤمن، وهو الكافر، هو الموحد الخالص التوحيد، وهو المشرك الأصم الوثنية. هو الجماد الغليظ، وهو الحيوان ذو المشاعر المرهفة، والحساسية المتوقدة، هو الملاك الساجد تحت العرش، وهو الشيطان الذي يصطرخ في سقر، هو القديس الناسك يذوب قلبه في دموع التسابيح، وهو العربيد يضج الماخور من بغى خطاياه، هو الراهبة التي تحيا على النور يغمر الوجود بمباهجه، وهو الظلام موار الكهوف بالفزع والرهبة، تلك هي بعض ذاتيات رب ابن عربي، وبعض خصائص الإله الصوفي!!.
ولهذا يؤمن الطاغوت بأن اليهود عباد العجل ناجون، بل يؤمن بأنهم كانوا على علم بحقيقة الألوهية، لم ينعم موسى ولا هرون بلمحة من تجلياته، ولا ببارقة من انكشاف الأسرار الإلهية المغيبة لن!! لأنهم ما قصروا العبادة على فكرة مجردة خاوية كموسى، وإنما عبدوا الرب متجلياً في صورة عجل، فأدركوا من حقيقة الأمر ما لم يدركه هرون، وهو أن الذات الإلهية لا تعبد إلا حين تتجلى في صور خلقية!!.(216/30)
ويؤمن ابن عربي بقدسية عبدة الأصنام، ويمجد صدق إيمانهم وإخلاص توحيدهم، يؤمن بالصابئة عباداً يوحدون الله، ويخلصون له الدين، يؤمن بسمو إيمان الذين عبدوا ثلاثة آلهة غير أنه يعيب عليهم قصورهم عن إدراك الحقيقة كاملة؛ إذ عبدوا الله في ثلاثة أقانيم، على حين كان الواجب أن يعبدوه في كل شئ، فليس الرب عنده هو تلك الأقانيم فحسب، وإنما هو عين ما يرى أو يحس، فأصحاب الثالوث عنده مخطئون؛ لأنهم عبدوا بعض مظاهر الرب، أو بعض تعيناته وكان واجباً أن يعبدوه في الكل؛ لأنه هو ذلك الكل فيما ظهر منه، وفيما بطن!! (اقرأ الفص "العيسري" و "المحمدي" من فصوص الحكم لبن عربي).
ربوبية كل شئ
واسمع إليه يؤكد لك أن كل شئ هو الله سبحانه : " سبحان من أظهر الأشياء، وهو عينها (ص 604 جـ2 الفتوحات المكية لابن عربي.)" "إن العارف من يرى الحق (الله) في كل شئ، بل يراه عين كل شئ (ص 374 فصوص بشرح بالي، ص 382 بشرح قاشاني ص 192 جـ1 بتحقيق الدكتور عفيفي.)" وكلمة "شئ" في دين الطاغوت تطلق حتى على الصور الذهنية والوهمية وعلى العدميات، فوق إطلاقها على كل موجود له كيانه المادي المستقل المتقوم بذاتياته وخصائصه. فانب عربي كما ترى أصرح الدعاة إلى وحدة الوجود، بل هو كاهنها الأكبر!!.
الرب إنسان كبير
واسمع إليه يحكم على ربه بأنه يجب أن يوصف بما يوصف به الخلق، حتى بما فيهم من نقص وعجز وحمق وجهالة، ويحد بما يحد به كل كائن على حدة: "فما يحد شئ إلا وهو حد الحق(والحد هو أتم أنواع التعريف، فإذا عرفت الصنم مثلا بحد ما، فهذا التعريف صادق على الرب الصوفي، لأنه هو ذلك الصنم نفسه) فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له، فهو الإنسان الكبير(ص 111 فصوص الحكم ط الحلبي)".
الرب هو صور العالم(216/31)
واسمع إليه يؤكد لك أن ربه هو كل ما ترى من صور العالم: "هي ظاهر الحق؛ إذ هو الظاهر، وهو باطنها؛ إذ هو الباطن، وهو الأول؛ إذ كان، ولا هي، وهو الآخر؛ إذ كان عينها عند ظهورها(ص 112 فصوص ط الحلبي) وتدبر تعريف ابنعربي لربه بقوله: "هو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره (يعني أنك إذا رأيت إنساناً، أو حجراً، فقد رأيت الرب الصوفي، بل الرائي والمرئي هما عين ذلك الرب)، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه، باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز(هو أحمد بن عيسى ممن تكلم في الفناء الصوفي نوفي سنة 279)، وغير ذلك من أسماء المرئيات(ص 77 جـ 1 فصوص ط الحلبي) والعارف الحق بالله عند ابن عربي هو من يرى "سريان الحق (الله) في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق فيها(ص 181 المصدر السابق).
صفات الرب صفات الخلق
ويحكم ابن عربي على ربه، ويصفه بالعجز الذليل، والنقص المشين، والسفه والحماقة، وبأنه مناط مذمة وتحقير مهانة. فيقول : "ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص، وبصفات الذم؟! ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها – وكلها حق له – كما هي صفات المحدثات حق للحق (ص 80 فصووص راجع ما كتبته في "دعوة الحق" ص 30 وما بعدها.).
لقد خشي ابن عربي أن يتوهم فيه إنسان أنه يطلق صفات الخلق على الله سبحانه إطلاقاً مجازياً، أو يطلق صفات الله على خلقه كذلك. خشي هذا، فمحا توهم المجاز عن الأولى بقوله: "كما هي صفات المحدثات حق للحق" فلا تتوهم مجازاً ما فيما يحكم به ابن عربي على ربه، أو فيما يصفه به من ذم ونقص وعجز. ومحاه عن الأخرى بقوله:"وكلها – أي صفات الله من ربوبية وإلهية وخالقية ورازقية، وسواها مما هو من صفات الله وحد – حق له"، أي للمخلوق، فالخلق يوصف بصفات الله على الحقيقة لا على المجاز!! ذاك دين ابن عربي.
رب الصوفية وجود وعدم(216/32)
ورب الصوفية في دين ابن عربي يستغرق كل نسبة عدمية، أو وجودية "فالعي لنفسه، هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها وسواء كانت محمودة عرفاً وعقلاً وشرعاً، أو مذمومة عرفاً وعقلاً وشرعاً، وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة (ص 79 فصوص)"
يكون مناط الذم من الشرع والعقل والعرف؟ لقد نعت ابن عربي ربه بكل مذمة، فلماذا لا يذمه الشرع والعقل والعرف؟!
كل شئ رب للصوفية
لقد كفرت الصابئة؛ لأنهم عبدوا الكواكب، وكفرت اليهود؛ لأنهم عبدوا العجل، وكفرت النصارى؛ لأنهم عبدوا ثلاثة أقاني، وكفرت الجاهلية؛ لأنهم عبدوا أصناماً أقاموها لمن مات من أوليائهم، لتكون مقصد الرجاء، ومطاف الآمال، كما كان أصحابها، وهم ناعمون بالحياة. فماذا تقول في الصوفية، أو بماذا تحكم عليها، وهي تدعو إلى عبادة كل شئ؟! ألا يقول الجيلي :"إن الحق تعالى من حيث ذاته، يقتضي ألا يظهر في شئ، إلا ويعبد ذلك الشئ، وقد ظهر في ذرات الوجود (ص 83 جـ 2 الإنسان الكامل للجيلي) ويزيد ابن عربي الفرية جلاء بقوله : "و العارف المكمل من رأى كل معبود مجلي للحق يعبد فيه، ولذلك سموه كلهم إلهاً، مع اسمه الخاص بحجر، أو شجر، أو حيوان، أو إنسان، أو كوكب، أو ملك" (ص 195 جـ 1 فصوص، وقد عدد في هذا النص آلهة الذين كفروا من قبل، فعبدوا الحجر والشجر والحيوان والإنسان والكوكب والملك، يعني الصابئة واليهود والنصاري والذين أشركوا. وصوب عبادتهم، إذ كل ما عبدوه في دينه ليس غلا رباً تجلى في صورة ذلك المعبود).
فهل تراني جنحت إلى غلو ما حين قلت لك: إن الصوفية استمدت من كل كفر، ودانت بكل ما دان به الكافرون من قبل، فكانت هي وحدها تاريخ الوثنية كلها، وحمأتها منذ ابتدعها إبليس ليضل الكافرين؟!.(216/33)
ألا ترى ابن عربي حفي القلب والشعور والعاطفة بعبادة الحجر والشجر "آلهة الجاهلية" وبعبادة الحيوان "آلهة الفرعونية واليهودية" وبعبادة الإنسان "إله النصرانية والشيعة" وبعبادة الكوكب والملك "أي آلهة الصابئة"؟!.
فالصوفية هي كل ذلك الكفر، ثم تحته وفوقه، وعن شماله ويمينه ومن خلفه ومن قدامه كفرها الخاص بها!! وفيما ذكر ابن عربي ما يثبت اليقين في قلبك بما أقول.
التجسد في النساء
وكما عبد ابن الفارض جسد الأنثى، عبده كذلك ابن عربي، بيد أن الأول عبد المرأة مستباحة العفة له، وعبدها الآخر مستعصية الشرف عن أهوائه.(216/34)
وإليك نصاً واحداً من فصوصه يكشف لك عن مدى إيغال ابن عربي في عبادة الأنثى "ولما أحب الرجل المرأة، طلب الوصلة (يقصد بها ما يحدث بين الذكر والأنثى)، أي غاية الوصلة التي تكون في المحبة، فلم يكن في صورة النشأة العنصرية أعظم وصلة من النكاح (يقصد به ماله من معنى في أذهان العامة بدليل ما ذكره بعده. لا يريد الزواج بل شيئاً آخراً) ولهذا تعم الشهوة أجزاءه كلها، ولذلك أمر بالاغتسال منه – فعمت الطهارة، كما عم الفناء فيها – عند حصول الشهوة، فإن الحق غيور على عبده أن يعتقد أنه يلتذ بيغره، فطهره بالغسل (يزعم أن الله لم يأمر بالغسل إلا ليتطهر العبد مما توهمه من أنه كان مع امرأة، على حين كان هو مع الربة الصوفية جسداً وخطيئة!!)؛ ليرجع بالنظر إليه فيمن فنى فيه، إذ لا يكون إلا ذلك، فإذا شاهد الحق الرجل الحق(الحق في دين الصوفية هو الذات الإلهية في وجودها المطلق!!) في المرأة، كان شهوداً في منفعل، وإذا شاهده في نفسه – من حيث ظهور المرأة عنه – شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة ما تكون عنه، كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة، فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل؛ لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة؛ فلهذا أحب صلى الله عليه وسلم النساء؛ لكمال شهود الحق فيهن (يزعم ابن عربي أن علة حب الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء هي اعتقاده أنهن الله في أجمل صور تعيناته وتجلياته، ورغبته في الالتذاذ الجسدي المتنوع بربه!!) إذ لا يشاهد الحق مجرداً عن المواد أبداً، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله، وأعظم الوصلة النكاح (ص 217 فصوص جـ 1 ط الحلبي، ص 437 استامبول بشرح القاشاني، ص 420 بشرح بالى ط 1309هـ).(216/35)
وتستطيع أن تلخص، وتستخلص من هذا النص وحده دين ابن عربي كله. إنه يعتقد أن رب الصوفية يتجلي أعظم تجل له في صورة أنثى يهصر جسدها المستسلم حيوان ثائر الجسد. يعتقد أن العاشقين ينتهبان خطايا الليل، هما رب الصوفية!! ويحلف على العشاق عربدت بهم خمرة الأجساد من دنان الإثم أن يدينوا بأنهم كانوا مع الرب الصوفي ليلاً وخطيئة وغريزة ولذة!! فما استغرقوا في اللذة بأنثى، بل بالرب المتجسد الخطايا في أنوثة عصفت بها الرذيلة!! ثم ينحدر ابن عربي في سرعة مجنونة إلى أعمق الأغوار السحيقة من المادية، فيؤكد لنا : أن الرب الصوفي شئ مادي، وأنه لا يرى أبداً كاهنا الأكبر هذه الفرية الكبرى فيقول : "لا يشاهد الحق (الله) مجرداً عن المواد أبداً" ويقول: "وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها، وليست إلا هو(ص 76 جـ 1 فصوص لابن عربي ط الحلبي)":
وما ينبغي – احتراماً لعقلك يا سماحة الشيخ – أن أدلك على أساطير الزندقة في تلك النصوص الصوفية، فإنها تكاد تنشب مخالبها في العين لتراها!!
أترى تخزك الندامة على أنك شكوتنا، فنكأت لك الجراح، أم تراها تخزك لما ظلمت به من يود لك الخير، ويدعوك إليه، ولأنك في مكانك هذا تحمل أوزار الصوفية كلها على ظهرك؟!
التجسد المسيحي، والتجسد الصوفي
وتلوذ بي عاطفة من إشفاق تحملني على ألا أزيد جرحك انتكاساً بذكر نصوص أخر، غير أنني أود تذكير الشيخ بأن المسيحية حين سلبتها الصوفية رشدها وهداها، وقداسة الروحانية فيها، فرغبت بها عن التوحيد الخالص إلى الشرك؛ بعبادة ثلاثة آلهة!! إن المسيحية حين استعبدتها غواية الصوفية أبت أن تخبط وراءها في كل مهلكة، فلم تؤمن بتجسد الذات الإلهية في كل شئ وإنما اختارب جسداً طيباً طاهراً، شرف الله صاحبه بالرسالة، وآمنت بأنه التجسد الأعظم لله!! ومع هذا لم تنل من الله إلا لعنة الأبد، وغضب الأبد، وسعير جهنم يصلونها، وبئس المصير.(216/36)
أما شيخكم الأكبر، فقد هوى به الكفر، أو هوى هو بالكفر، إلى أبعد أعماق الهاوية الساحقة الماحقة، وانحدر به إلى كل منحدر، فآمن بتجسد ربه في أجساد تقيحت من الدنس، آمن بتجسد ربه في الجيف، وفي الأوثان، وعدل السامري، وفرعون موسى، ثم هفت به غلمته الآثمة، فكشفت عن دخيلة نفسه الآبقة تعبد رباً تتلظى غرائزه، وتتسعر شهواته، وتشتهي مفاتنه حين يتجسد في أنثى طاحت بها نزواتها لقي تحت رغبة كل عابر يراود خطيئة!!.
لماذا عبد ابن عربي المرأة؟
إن كبريتكم الأحمر هذا أحب امرأة ذات مرة، هي ابنة الشيخ مكين الدين. وأين؟ في مكة!!.
وهفا العاشق المدله يتلمس جسد المرأة، وسبيل أنيابه إليها، راح يتوسل إليها أن تتجرد له، وأن تبيح قدس عرضها لخطيئته، فأبت العذراء، يتلهب حياؤها كرامة أن يلغ في شرفها ذئب!!.(216/37)
لقد أرادته للقلب الطاهر، وأرادها هو للجسد الثائر، أرادته للطهر والمعبد وأرادها هو للدنس والماخور، فتمنعت الفتاة عن نابه الطحون، فنظم فيها ديوانه "ترجمان الأشواق" قرباناً من شهواته إلى جسدها الفواح العطر والفتنة، لعلها تنحدر معه إلى الهاوية، فتهب له من جسدها مضغة، أو من دمها رشفة، فذادته الفتاة عن حرم مخدعها الوردي، ولجت في إبائها النبيل الكريم، وأبت غلا أن تكون عذراء متألقة العرض، روحانية العاطفة، ممنعة العفة والشرف، ترى، هل أراب اليأس منها عشق ابن عربي؟ كلا، فقد استغرق نفسه، ووجوده، وملآ عليه دنياه فتنة ولهفة وقلقاً عاصفاً، فلم يعره اليأس، ولا مس لهبه خمود، فعاد إلى ديوانه يشرحه بدين الصوفية، يؤكد لهذه الجميلة النافرة الأبية أنها هي الرب متجسداً في صورة أنثى جميلة، وأنه ما أحبها إلا لأنها أجمل تعينا الحقيقة الإلهية، وأنه – إذ يتشهاها – فإنما يتشهى فيها أنوثة ربه، وجسده الفائر!! فأتب المرأة إلا أن تكون أنثى شريفة، لا رباً صوفياً يحتسي الآثام!! ومضى ابن عربي وراء الأسطورة موغلا في التيه الموحش، والدغل الرهيب، مضى وراءها يمجدها، ويهتف بها حتى صارت الأسطورة حقيقة صوفية صريحة، منحها ابن عربي وجوداً حياً صريحاً، وأمدها مثله الأحبار الزنادقة معه ومن بعده وهكذا تغزل الصوفية في "ليلى وبثينة وسعاد"!!
وتسائلهم، فيزمون الشفاه تهكما من حماقة جهلك!! ويرمقونك بالنظر الشزر، وكأنما يقولون لك: مسكين!! ما زال يجهل أن ربنا أنثى جميلة!! ضليل!! لم يهتد إلى أن الغانية اللعوب الهلوك هي الأفق الأعظم لتجليات الربوبية والإلهية، وإلى أن جسدها المنهوم الجائع إلى الآثام جسد ربنا الأعظم!! وأنها هي هو جسداً فاتنا، ورذيلة سوداء!!
فقر الإله الصوفي إلى الخلق(216/38)
الله سبحانه يقول: (35:15 يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد) غير أن الصوفية تؤمن بإله هو الفقير إلى الخلق. فقير إليهم في وجوده فقير إليهم في علمه، فقير غليهم في بقائه، فقير إليهم في طعامه وشرابه، فقير إليهم في كل شئ يهب له الظهور بعد الخلفاء، والوجود بعد العدم، ويحول بينه، وبين الفناء.
يقول ابن عربي: "فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه" ويقول : "فأنت غذاؤه بالأحكام (أي أسماؤك أسماؤه، وصفاتك صفاته، وأفعالك أفعاله، فلولاك ما سمى ولا وصف، ولا حكم عليه بحكم لأنك عينه وذاته) وهو غذاؤك بالوجود، فتعين عليه ما تعين عليك، والأمر منه إليك، ومنك إليه، غير أنك تسمي : مكلفاً، وما كلفك إلا بما قلت له: كلفني بحالك، وبما أنت عليه – ولا يسمي مكلفاً.
فيحمدني، وأحمده…ويعبدني وأعبده (ص 83جـ 1 فصوص ط الحلبي)
ذلك هو رب الصوفية الذي افتراه لها ابن عربي، وبه يدين أقطابها، وله يسجدون!!
إله الجيلي
(هو عبد الكريم بن إبراهيم الجيلاني أو الجيلي توفي نحو 830هـ)
وهذا الكاهن الوثني الأكبر يدين بدين صنميه ابن الفارض وابن عربي، غير أن اللون الفاضح الصارخ في زندقته هو اعتقاده أن الله ما هو إلا إنسان كامل (يقول الكمشخانلي "الإنسان الكامل المتحقق بحقيقة البرزخية الكبرى عين الله وعين العالم" ص 111 جامع الأصول في الأولياء)، وأن الإنسان الكامل ما هو إلا الرب الأكبر الجامع بين الحق والخلق في وحدة، ولقد سبقه بهذا الإلحاد ابن عربي، ولكن الجيلي كان حفياً به أكثر، مديراً حول محوره زندقته، ولقد رأي الجيلي ألا يمن بهذه المرتبة على أحد قبله، فمضى يؤكد القول أن إنسانيته هي أفق الربوبية والألوهية الأسمى.
ادعاء الجيلي الربوبية العظمى
"لي الملك في الدارين، لم أر فيهما……سواي، فأرجو فضله، أو فأخشاه(216/39)
وقد حزت أنواع الكمال، وإنني………جمال جلال الكل، ما أنا إلا هو"
هذا قول الجيلي. والله يقول : (3: 189 ولله ملك السموات والأرض والله على كل شئ قدير) ولكن الجيلي يفتري أن له وحده ملك الدنيا والآخرة وأنه ليس للوجود رب سواه، ولا ليوم الدين ملك غيره، وأنه الغني بذاته، فلا تنفح قلبه رغبة في نعمة من أحد؛ لأنه الوهاب للنعم. ولا تلفح نفسه وهبة من سلطان؛ لأنه ملك الكل ومالكهم!! ولم يكتف الجيلي بهذا، بل مضى يعدد أنواع الخلق، وصور الوجود المادي والحسي والروحي والمعنوي؛ ليزعم بعدها أنه هو عينها ذاتاً ووجوداً، فلا يتوهم واهم أن شيئاًَ ما في الوجود يغاير الجيلي، أو يخرج عن حقيقة ذاته، فقال:
"فمهما ترى من معدن نباته……وحيوانه مع إنسه وسجاياه
ومهما ترى من أبحر وقفاره……ومن سجر، أو شاهق طال أعلاه
ومهما ترى من صورة معنوية…ومن مشهد للعين طاب محياه
ومهما ترى من هيئة ملكية……ومن منظر إبليس قد كان معناه
ومهما ترى من شهوةر بشرية …لطبع، وإيثار لحق تعاطاه
ومهما ترى من عرشه ومحيطه…وكرسيه، أو رفرف عز نجلاه
فإني ذاك الكل، والكل مشهدي…أنا المتجلي في حقيقته، لا هو
وإني رب للأنام وسيد جميع …الورى إسم، وذاتي مسماه (ص 32 وما بعدها جـ 1 الإنسان الكامل للجيلي ط 1293هـ)
أرأيت إلى الجيلي بأية وثنية ينعق؟ وبأية مجوسية يدين؟ أرأيت إليه في قوله: "أنا المتجلي في حقيقته لا هو؟" يا للجيلي!! يحكم على الوجود الحق بالعدم الصرف!!
أرأيت إليه في زعمه أنه "رب للأنام وسيد"؟!
أرأيت إليه – وقد جنت شهوة الزندقة فيه – يفتري أن الشهوات أحدى مقومات الوجود الإلهي، وأنها في دنسها عين وجوده؟! وأن إبليس في غيه وتمرده هو عين الرب الأعظم؟! وأن كل اسم في الوجود هو اسم الله سبحانه، لأنه عين كل مسمى. وأن كل صفعة لكائن ما، هي لله صفة، لأنه غين الموصوف بها؟ فعلام يدل كل هذا، أو أثارة واحدة منه؟(216/40)
أسأل الله يا سماحة الشيخ أن يشرق في قلبك شعاع من هدى الله، لتبصر على نوره هذا الكيد الدنئ للإسلام، تؤجج أحقاده الصوفية، وتؤرث أضغانه في خبث خاتل، ودهاء يفتنك بالبسمات العذاب، يترقب الفرصة للطعنة النجلاء.
وإن تعجب، فعجب تقديس الصوفية للجيلي، وتبرئة ساحته مما يحكم به الحق والعدل عليه!! إنها محاولة الرياء الجبان انهتك ستره، فيلوذ بالبراءة حتى من نفسه، لتسنح له الفرصة مرة أخرى، فيجهز على الضحية.
إن تلك الزندقة الجيلية يتوارثها صوفي عن صوفي، فحق عليهم قول الله (53: 51 أتواصوا به؟! بل عم قوم طاغون).
كيف يجعله الصوفية قطباً عرجت روحه إلى الحق تستلهمه الوحي، وهو القائل؟!:
"لي الملك والملكوت نسجي وصنعتي…لي الغيب. والجبروت مني منشأه" (ص 23 جـ1 الإنسان الكامل)
رب الصوفية نقيضان وضدان(216/41)
دانت الصوفية كما رأيت برب هو عني كل شئ، وعين كل ما يطيف بالذهن من صور، ومن الأشياء ضدان، ومن الصور نقيضان، ورغم هذا لم يحجم الصوفية عن وصف ربهم بأنه يجمع في ذاته بين الشئ وضده، وبين الصفة ونقيضها. يقول الجيلي: "أعلم أن الله تعالى لما خلق النفس المحمدية من ذاته – وذات الحق جامعة للضدين – خلق الملائكة العالمين من حيث صفات الجمال والنور والهدى من نفس محمد، وخلق إبليس وأتباعه من حيث صفات الجلال والظلمة من نفس محمد (ص 41 جـ 2 المصدر السابق. وتأمل زعمه أن إبليس خلق من نفس محمد!! لقد رمانا الصوفية بالكفر، لأنا دعوناهم إلى الصلاة على رسول الله بما شرعه الله. فماذا يقولون في الجيلي؟) ويقول : "اعلم الوجود والعدم متقابلان وفلك الألوهية محيط بهما؛ لأن الألوهية تجمع الضدين من القديم والحديث، والحق والخلق والوجود والعدم، فيظهر فيها الواجب مستحيلاً بعد ظهوره واجباً ويظهر فيها المستحيل واجباً بعد ظهوره فيها مستحيلاً، ويظهر الحق فيها بصورة الخلق (الحق والخلق وجهان أو وصفان للذات الإلهية فالأول باعتبار باطنها، والآخر باعتبار ظاهرها) ويظهر الخلق بصورة الحق (ص 27جـ1 المصدر السابق) "الألوهية في نفسها تقتضي شمول النقيضين وجمع الضدين (ص69جـ1نفس المصدر)"
"تجمعت الأضداد في واحد البها…وفيه تلاشت فهو عنهن ساطع(ص33جـ1المصدر السابق)"
هذا رب عجيب لم يبتدعه غير خيال الصوفية المخبول. رب موجود معدوم واجب مستحيل، قديم حديث، وينعم بالحياة، ويهلكه الموت، فهو حي ميت في آن معاً!! هذا هو رب الصوفية الذي اخلقه الجيلي، وبه تدين الصوفية وإياه يعبدون!!
إله الغزالي
(هو محمد بن محمد بن أحمد الطوسي أبو حامد الغزالي مات سنة 505هـ)(216/42)
ولعلم ما يقلق دهشتك، ويثير ثائرتك أن يقرن بأولئك هذا الذي افترى له الصوفية أضخم لقب في التاريخ، وهو "حجة الإسلام" ليفتكون بهذا اللقب الخادع بما بقي من ومضات النور الشاحبة في قلوب المسلمين. فاسمع إلى كاهن الصوفية – لا حجة الإسلام – يتحدث عن التوحيد ومراتبه "للتوحيد أربع مراتب ... والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام!! (تدبر وصفه لعموم المسلمين بأنهم عوام في الاعتقاد!!). والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار(في هذه المرتبة يقرر وحدة الفاعل، بدليل ما سيقرره بعد، وهو أنه لا يشاهد إلا فاعلاً واحداً، فيلزمه نسبة فعل المجرم إلى ذلك الفاعل الواحد). والرابعة : ألا يرى في الوجود إلا واحداً (قرر فيما سبق وحدة الفاعل ولكنه لم ينف وجود غيره، أما في هذه، فيقرر وحدة الموجود أي وحدة الوجود، يقرر أن الذوات على كثرتها هي في الحقيقة ذات واحدة) وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية: الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً، فلا يرى نفسه أيضاً، وإذا لم ير نفسه؛ لكونه مستغرقاً بالتوحيد، كان فانياً عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه والخلق"(216/43)
ثم يحدثنا الغزالي عن مقامات الموحدين في كل مرتبة، فيصف صاحب المرتبة الرابعة من التوحيد بقوله: "والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد. فإن قلت. كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحداً، يكون الكثير واحداً؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات (يكل المعرفة بأسمى مراتب التوحيد إلى علوم المكاشفات، فما تلك العلوم؟ إنها قطعاً شئ آخر غي الكتاب والسنة، إنها أساطير الصوفية التي استمدوها من "أذواقهم ومواجيدهم" ثم سجلوها في كتبهم، فكأن القرآن وسنة الرسول ليس فيهما ما يصل بالقلب إلى قدس الحق من التوحيد الخالص، فتدبر تجد الغزالي يهدف إلى صرف المسلمين عن هدي ربهم إلى خرافات الصوفية وضلالاتهم)، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب (اقرأ بعد هذا قول الله تعالى "ما فرطنا في الكتب من شئ" وأهم شئ هو توحيد الله في ربوبيته وإلهيته، ولكن الغزالي يزعم أن حقيقة التوحيد الحق لا يجوز أن تسطر في كتاب، وهذا معناه أنها ليست في كتاب الله، وأنه لا يعرفها أحد إلا الصوفية أرباب الكشف!!) فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبية كفر (هذا معناه أنه هو وأمثاله من الصوفية يعرفون أسرار الربوبية، غير أنهم يضنون بها على الكتب، وأن المسلمين جميعاً لا يعرفون حقيقة التوحيد!! ومعناه مرة أخرى: أن كتاب الله ليس فيه الحق من التوحيد) ثم يضرب لنا مثلاً عن شهوة الوحدة في الكثرة بقوله : "كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد .. فكذلك كل مافي الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة فهو باعتبار من الاعتبارات واحد، وباعتبار أخر سواه كثير ومثاله الإنسان، وإن كان لا يطابق الغرض، ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحداً، ويستبين بهذا(216/44)
الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه، وتؤمن إيمان تصديق (بهذا الهراء يستدل الغزالي على الوحدة بين الخلق والخالق، ويحتم علينا الإيمان به!! كنا نحب أن يأتينا بآية من كتاب الله، أو أثارة من فكر صحيح وبرهان عقلي. بيد أنه لجأ إلى الخيال السقيم يشبه الوحدة بين الله وعباده بالوحدة بين الإنسان وأعضائه!!)، وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج (صلب سنة 309هـ لثبوت زندقته) حيث رأى الخواص يدور في الأسفار فقال: فيماذا أنت؟ فقال : أدور في الأسفار؛ لأصحح حالتي في التوكل، فقال الحسين: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟! فكأن الخواص (هو إبراهيم بن إسماعيل أبو اسحق الخواص مات 291هـ) كان في تصحيح المقام الثالث، فطالبه بالمقام الرابع (كل النصوص التي ذكرتها من كتاب الإحياء للغزالي جـ4 من ص 212 وما بعدها ط دار الكتب العربية. وعجيب أن يمجد الغزالي الحلاج، وهو يعلم أنه قائل هذه الأبيات:
سبحان من أظهر ناسوته …سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً……في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقة ……كلحظة الحاجب بالحاجب
* * *
مزجت روحك في روحي كما…تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شئ مني ……فإذا أنت أنا في كل حال
الطواسين للحلاج ص 130، 142. عجيب أن يمجد العزالي صوفياً يزعم أن الله آكل شارب، يحب الحياة ويخاف الموت، ويمحقه العدم ويقتله الحزن، وتزل به الشهوات، لنه عين خلقه!! أمل يجد الغزالي من المؤمنين من يتمثل به في بلوغ أمسى مراتب التوحيد؟ أمل يعطفه توحيد أبي بكر وعمر، فينصرف عنهما إلى تمجيد زندقة الحلاج؟!)(216/45)
أرأيت على من صنمته الصوفية باللقب الفخم الضخم؛ لتفتن به المسلمين عن هدي الله؟! أرأيت إلى الغزالي يدين بوحدة الوجود، أو الشهود؟! سمها بما شئت، فعند الكفر تلتقي الأسطورتان، لا تقل : إن وحدة الوجود أنشودة من البداية، ووحدة الشهود أغرودة عند النهاية، فكلتاهما بدعة صوفية بيد أنها غايرت بين الاسمين، وخالفت بين اللونين، ولكن البصر البصير لا يخدعه اسم الشهد سمي به السم الناقع!!
كلتاهما زعاف الرقطاء، غير أن واحدة منهما في كأس من زجاج، والأخرى في كأس من ذهب!!
ولقد فضح العزالي سره حين تمثل في إعجاب بتوحيد الحلاج. وهذا وحده كاف في إدانة الغزالي بالحلاجية، ولقد علمت ما هي!!
رأي في الغزالي
ولقد فطن إلى حقيقة دين الغزالي المستشرق نيكلسون، وإلى أنه النافث لجرثومة الصوفية، فقال: "إن الغزالي أوسع المجال لبعض صوفية وحدة الوجود أمثال ابن عربي وغير هؤلاء من طوائف الصوفية الذين كانوا إخوانا في ذلك الدين الحر بكل ما لكلمة الحر من معنى (ص 104"في التصوف الإسلامي" ترجمة الدكتور عفيفي.) ولقد كنا نحب أن يفطن إلى ذلك بعض من يمجدون الغزالي، كما فطن إليه المستشرق المسيحي (سبقه إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، فكشف كشفاً صريحاً مؤيداً بالنصوص القاطعة عن صوفية الغزالي وإن كان لم يستشهد بتلك النصوص التي نقلتها من الإحياء فيما قرأت لشيخ الإسلام)!!(216/46)
ويقول جولد زيهر : "وابن عربي الذي أشرنا من قبل إلى تأثره بالغزالي يخضع تفسيره الذي نحا فيه منحى التأويل إخضاعاً تاماً لوجهة النظر التي أخذ بها الغزالي (ص 259 مذاهب التفسير لجولد زيهر)!" ويقول: "خلص الغزالي الصوفية من عزلتها التي ألفاها عليها، وأنقذها من انفصالها عن الديانة الرسمية، وجعل منها عنصراً مألوفاً في الحياة الدينية، وفي الإسلام، ورغب في الاستعانة بالآراء والتعاليم بالتصوف، لكي ينفث في المظاهر الدينية الجامدة "كذا!!".. قوة روحية(ص 159 العقيدة والشريعة لجولد زيهر) ويقول: "إن الغزالي رفع من شأن الآراء الصوفية، وجعلها من العوامل الفعالة في الحياة الدينية في الإسلام (ص 161 نفس المصدر) وهكذا لم يعمل الغزالي للإسلام بل للصوفية، وبعد أن كان المسلمون على حذر من سمها، وفي انفصال تام عنها حملهم بسحر بيانه على أن يعتنقوا أساطيرها. ويقول كارل بكر "ولقد سادت روح "الغنوص" فرق صدر الإسلام كلها، ثم سادت التصوف الذي كان يعد في البدء بدعة خارجة عن الدين، ولكنه أصبح بفضل الغزالي خالياً من السم معترفاً به من أهل السنة (ص 10 التراث اليوناني ترجمة الدكتور بدوي) هذا هو خطر الغزالي!! صور التصوف للمسلمين رحيقاً خالياً من السم، فترشفوه، ففتك بهم.
رأي في خطر وحدة الوجود(216/47)
يقول "نيكلسون" : "إن الإسلام يفقد كل معناه، ويصبح اسما على غير مسمى، لو أن عقيدة التوحيد المعبر عنها بـ "لا إله إلا الله" أصبح المراد بها: لا موجود- على الحقيقة إلا الله. وواضح أن الاعتراف بوحدة الوجود في صورتها المجردة قضاء تام على كل معالم الدين المنزل، ومحو لهذه المعالم محواً كاملاً" حقيقة ساطعة، يقررها مسيحي، ويكفر بها شيوخ كبار يزعمون أنهم أحبار الدين وأئمته!! وهل المقام الرابع للتوحيد في دين الغزالي إلا مقام القائلين "لا موجود إلا الله" ؟ بل إنها لتسبيحة الصوفية في العشايا والأبكار!! وإني لعلي بينة من أني بهذا الحق الذي اشهد به، أثير ثائرة الكبار من الشيوخ، فكتاب "الإحياء" قرآنهم الأول. وبما يهرف الغزالي فيه، يؤولون كتاب الله، ويحرفون آياته. وفي وجه الحق من هدي الله يرفعون صلالة الأساطير من "الإحياء" وخرافة الأوهام من "المشكاة"!!
ولكني أصرخ بالحق في وجوه الثائرين: رويدكم!! فما نؤله من دون الله أحداً، وما نتخذ كتاباً يهدينا غير كتابه، ولا قدوة غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نسجد لصنم، ولا ننعق بطاغوت، وإن يكن هو الغزالي، أو كتبه (يحاول السبكي في كتابه طبقات الشافعية تبرئة ساحة الغزالي بزعمه أنه اشتغل في أخريات أيامه بالكتبا والسنة. ونحن نسأل الله أن يكون ذلك حقاً، ولكن لا بد من تحذير المسلمين جميعاً من تراث الغزالي، فكل ماله من كتب في أيديهم تراث صوفي، ولم يترك لنا في أخريات أيامه كتاباً يدل على أنه اشتغل بالكتاب والسنة)!!
دندنة الغزالي بوحدة الوجود(216/48)
يقول : "العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة، اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان له هذه الحالة عرفانا علمياً (أي وصل إليها عن طريق الدليل والبرهان) ومنهم من صار ذوقاً وحالا (أي وصل إليها عن طريق الكشف والإلهام)، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكراً، وقع دونه سلطان عقولهم، فقال بعضهم: أنا الحق(قائلها طيفور البسطامي)!. وقال الآخر: سبحاني!. ما أعظم شأني(قائلها البسطامي)! وقال الآخر : مافي الجبة إلا الله (قائلها الحلاج) وكلام العشاق في حال السكر، يطوي، ولا يحكى (يصف الغزال هذه المجوسية الصوفية بأنها هتفات أرواح سكرت بعشق الله، ولم يجد الغزالي ما ينقد به هذه الصوفية – إن عددته نقداً – سوى قوله: وكلام العشاق يطوى ولا يحكى !! ولكن ما حكم الله يا غزالي؟ لا يجيب !!، ولكنه حكم من قبل بأن ذلك أسمى مراتب التوحيد!!) فلما خف عنهم سكرهم، وردوا إلى سلطان العقل، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد، بل يشبه الاتحاد، مثل قول العاشق في حال فرط العشق:
…أنا من أهوى، ومن أهوى أنا…نحن روحان حللنا بدنا
(هذا البيت للحلاج وانظر ص 34 طواسين، والبيت الذي بعده.
فإذا أبصرتني، أبصرته……وإذا أبصرته أبصرتنا(216/49)
والغزالي يعرف أن ذلك للحلاج غير أنه يتستر على شيطان وحيه، والحلاج حلول يؤمن بثنائية الحقيقة الإلهية، فيزعم أن الإله: له وجهان، أو طبيعتان هما : اللاهوت والناسوت، وقد حل الأول في الاخر. فزوج الإنسان هي لاهوت الحقيقة الإلهية، وبدنه ناسوته. فإذا كان الغزالي قد رفض القول بالاتحاد، ودان بما يشبهه، فقد آمن بما هو أخبث منه، وهو الحلول. بدليل استشهاده بالبيت الذي عبر به الحلاج عن حلوليته!!) وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز: اتحاداً وبلسان الحقيقة توحيداًً. ووراء هذه الحقائق أسرار لا يجوز الخوض فيها (ص 122 مشكاة الأنوار للغزالي ط 1934م)" توحيد من؟؟ أتوحيد الرسول صلى الله عليه وسلم، أم توحيد البررة الأخيار من أصحابه؟ أجيبوا يا ضحايا الغزالي وسدنة الأصنام من كتبه؟
زمزمات بالوحدة(216/50)
وأصخ إلى زمزمات الغزالي بأسطورة الوحدة : "الكل من نوره، بل هو لا هوية (الهوية عند الصوفية هي ك الحقيقة الباطنة للذات الإلهية، أو هي الذات قبل التعين في ماجة، يزعم بهذا أن كل ما تحقق من إثبات الوجود، فباطنها هوية اللهّّ!!) لغيره إلا بالمجاز، فإذن لا نور إلا هو، وسائر الأنوار أنوار من الوجه الذي تليه، لا من ذاتها، فوجه كل موجه إليه ومول شطره (أينما تولوا، فثم وجه الله)، فإذن لا إله إلا هو، فإن الإله عبارة عما الوجوه مولية نحوه بالعبادة، والتأليه، أعني وجوه القلوب، فإنها الأنوار والأرواح، بل كما لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو، فإن هو: عبارة عما إليه الإشارة، وكيفما كان ، فلا إشارة إلا إليه، بل كلما أشرت، فهو بالحقيقة الإشارة إليه (ص 124 مشكاة الأنوار للغزالي. وتلك هي الطامة الغزالية؛ إذ يزعم أنك مهما أشرت إلى شئ ما، فإشارتك في الحقيقة واقعة على الله؛ لأنه عين ذلك الشئ المشار إليه!!)" فهو يفتري أن كل هوية في الوجود، هي عين هوية الله سبحانه، أي حقيقة!. ولذا لا يمكن أن تقع إشارة ما إلا عليه!. فإن أشرت إلى صنم، أو أوميت، فكلتا إشارتيك واقعة على رب الغزالي، ولم لا؟ وماهية الصنم أو حقيقته هي عين ماهية الرب الغزالي.(216/51)
تلك هي الأسطورة التي ابتدعها الغزالي، ووصى بها كهنة الصوفية من بعده!! وإليك هينمة الموبذان بخرافة الوحدة مرة أخرى: "لا إلا الله توحيد العوام! ولا هو إلا هو توحيد الخواص (يزعم أن الإيمان بما توجبه كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" هو توحيد العوام!! لأنه يثبت لله وحده الربوبية والإلهية، وينفيهما عن غيره. ويثبت بالتالي وجود خلاق وخلق، وفي هذا، أي في إثبات وجودين، أو موجودين يغاير أحدهما الآخر ثنائية تناقض صرافة الوحدة، وهذا شرك عند الصوفية وكاهنهم. ولذا يبهت "لا إله إلا الله" بأنها توحيد العوام. يبهتها بذلك، وهي توحيد الرسل جميعاً!! أما توحيد الخواص عنده، فكلمته "لا هو إلا هو" لأنها تثبت وجوداً واحداً، وتنفي الغيرية والكثرة والتعدد، تثبت موجوداً واحداً تنوعت مظاهره، فسميت خلقاً، وتنفي المغايرة بين من نسميهم الخلق وبين من نسميه الخلاق!! وتثبت أن وجود الأول عين وجود الثاني، فكما أنه لا وجود إلا وجوده، فكذلك لا ذات إلا ذاته، أما تلك الكثرة الوهمية في الذوات، فيؤمن بها عمى القلوب!! هذا دين الغزالي.)! لأن ذلك أعمن وهذا أخص وأشمل وأحق وأدق، وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية، فليس وراء ذلك مرقاة! إذ الرقي لا يتصور إلا بكثرة، فإنه نوع إضافة يستدعي مامنه الارتقاء، وما إليه الارتقاء، وإذا ارتفعت الكثرة، حققت الوحدة، وبطلت الإضافة، وطاحت الإشارة، فلم يبق علو، ولا سفل(استعمل نفس هذا التعبير العطار الصوفي في تذكرة الأولياء جـ2 ص 216)، ولا نازل، ولا مرتفع، فاستحال الترقي، واستحال العروج، فليس وراء الأعلى علو ولا مع الوحدة كثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج، فإن كان ثم تغيير من حال، فالنزول إلى السماء الدنيا، أعني بالإشراق من علو إلى اسفل، لأن الأعلى – وإن لم يكن له أعلى – فله أسفل، وهو من العلم الذي هو كنهه المكنون الذي لا يعلمه إلا العلماء(216/52)
بالله، فإذا نطقوا به، لم ينكره إلا أهل الغرة بالله (ص 125 المصدر السابق، وأقول: إن الله سبحانه أخبر أنه استوى على عرشه، وأن الملائكة تعرج إليه، وأن العمل الصالح يرفعه إليه ولكن الغزالي أبى إلا أن يرفع في وجه الحق وفي حرمه أصنامه هو، فزعم استحالة العروج، ونفاه نفياً باتاً، لكيلا يتنقاض مع ما يدين به من الحوحدة المحضة، فالقول بعروج أحد إلى الله إثبات للتعدد أو للكثرة أو للغيرية، إذ يسلتزم وجود من منه العروج ووجود من إليه العروج، وهذه ثنائية تنقض أو تناقض الوحدة التي يؤمن بها الغزالي، وحدة الوجود، فإذا قيل بعروج مان فالقول به مجازي محض، إذ العروج، هو من الذات الإليهة نفسها بنفسها إلى نفسها، فالذي منه العروج عين من إليه العروج، وإذا ما قيل: نازل أو صاعدن فالنازل هو الصاعد إذ هما ذات واحدة، والنزول عين الصعود، إذ هما وصفان متحدان في الحقيقة؛ مختلفان بالاعتبار، توصف بهما ذات واحدة في حال واحدة في آن واحد هي الذات الإلهية. فالملائكة الذين يعرجون إلى الله (4:70 تعرج الملائكة والروح إليه) هم عين الذات الإلهية في أسماء أخر لها. والعمل الصالح الذي يرفعه الله إليه، هو عين الذات الإلهية في وصف آخر لها، وإلا قلت بالكثرة والتعدد، وبأن الله غير الخلق!1 هذا دين الغزالي فتدبره، وتمت لمقاك ابن عربي بما تعرفه منه، ولكن باسم جديد، وزي ساحر، ولقت كبير خادع).(216/53)
ثم يتابع الغزالي الحديث عن الله، فيقول: "له نزول إلى سماء الدنيا وأن ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس، وتحريك الأعضاء، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: "صرت سمعه ... الحديث" فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غيره، (ص 125 المصدر السابق)" والجملة الأخيرة وحدها صريحة في الكشف عن إيمان الغزالي بالوحدة بين الحق والخلق. إذ يقرر أن كل سامع وباصر وناطق هو الله! وما إخال مسلما يلمح إيماضة من الحق في تلك الأوهام، ولا شعاعة من التوحيد في تلك الأمشاج الغزالية، وإنما يحس بيحموم الوحدة الصوفية، يطعى بسواده هنا، وهناك، ويخنق الأنفاس حتى تحتضر! ولقد شعر الغزالي بما في مفترياته من شطط متجانف لإثم، فخاف على باطهل أن يقذف عليه بالحق أهله، فوصف المنكرين لأساطيره بأنهم : أهل غرة! ومن أهل الغرة؟ إنهم الذين يدينون دين الحق من القرآن، ويكفرون بأساطير الغزالي! ليكن يا كاهن الصوفية! فما أنت الذي نعرف منه فيصل التفرقة بين الكفر والزندقة – كما سميت كتاباً لك- وإنما نعرف ذلك من كتاب الله الذي يدينك، ويحم عليك بما يصعق عابديك وكهان دينك (لا تعجب حين ترى الغزالي يجنح في دهاء إلى السلفية في بعض ما كتبت، فللغزالي وجوه عدة كان يرائي بها صنوف الناس في عصره، فهو أشعري. لأن نظام الملك صاحب المدرسة النظامية أراده على ذلك، وهو عدو للفلسفة، لأن الجماهير على تلك العداوة، وهو متكلم، ولكنه يتراءئ بعداوته للكلاميين اتقاء غضب الحنابلة، أما هو في كتبه "المضنون بها على غير أهلها" فصوفي إشراقي من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وفي كتبه الأخرى تجسده أشعرياً تارة، وسلفياً مشوباً بأشعرية تارة أخرى. وهكذا كان يلقى كل فريق بالوجه الذي يعرف أنهم يحبونه لا يهمه أكان وجه حق، أم وجه باطل!!)
أصنام صغيرة
إله ابن عامر البصر
(هو عامر بن عامر أبو الفضل عزالدين توفي غالباً أواخر القرن الثامن الهجري)(216/54)
ولكيلا ترتاب في أن ما ذكرته لك هو دين الصوفية جميعاً من سلفهم إلى خلفهم ومعاصريهم. أذكر لك دين بعض أصنامهم الصغيرة، فاسمع إلى ابن عامر في تائيته التي عارض بها تائية ابن الفارض، وزنا وقافية، ولطخها بنفس الزندقة الفارضية!
تجلى لي المحبوب من كل وجهة…فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبين منى بكشف سرائر……تعالت عن الأغيار لطفاً، وجلت
فقال : أتدري من أنا؟ قلت : أنت يا…منادي أنا؛ إذ كنت أنت حقيقتي
(قول المسلم: تعالى الله عن شريك. أما قول الصوفي : تعالى الله عن الأغيار أي ما ثم غير له، إذ ه عين كل شئ!!).
بهذا بدأ ابن عامر قصيدته، فكان صريح الزندقة فيها!
نظرت، فلم أبصر سوى محض وحدة……بغير شريك، قد تغطت بكثرة
تكثرت الأشياء، والكل واحد………صفات وذات ضمناً في هوية
ويظل الصوفي يهوى حتى يبلغ القرار السحيق من وحدة الوجود.
فأنت أنا ! بل : أنا أنت(1). وحدة
……………منزهة عن كل غير وشركة(2)
………إله الصدر القونوي(3)
يقول في كتابه "راتب الوجود" : "فالانسان هو الحق، وهو الذات، وهو الصفات، وهو العرش، وهو الكرسي، وهو اللوح، وهو القلم، وهو الملك، وهو الجن، وهو
__________
(1) يقول لربه: أنا أنت وأنت أنا، وإبليس في عتو جحوده وكفره قال لربه: "15 : 36 فأنظرني إلى يوم يبعثون" فلم يكفر اللعين كفر الصوفية، إذا اقر بربوبية الله. أما هم فيبهتون ربوبية الله بأنها عبودية شائنة.
(2) تائية ابن عامر بتحقيق الشيخ المغربي ظ دمشق سنة 1948م.
(3) محمد بن إسحاق توفي سنة 673هـ(216/55)
العالم الأخراوي، وهو الوجود، وما حواه، وهو الحق(1)، وهو الخلق، وهو القديم، وهو الحادث(2) وإخال أني أنتقص من فكرك، إن حاولت أنا أن أدلك على خطايا الوثنية في بذاء القونوي.
إله النابلسي
……(هو عبد الغني بن إسماعيل النابلسي توفي سنة 1143هـ)
يقول معقباً على قوله تعالى : (48 : 10 إن الذين يبايعونك، إنما يبايعون الله) يقول: "أخبر تعالى أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هو الله تعالى وتقديس وبيعته بيعة الله، ويده التي مدت للبيعة هي يد الله" ويفسر قول الله لموسى: (20 : 13 وأنا اخترتك) بقوله: "بأن تكون أنا، وأكون أنا أنت، فاستمع لما يوحى إليك مني، وهذا نظير حديث الإنسان الغافل لنفسه، يحدثها وتحدثه"
__________
(1) أذكرك بأن الصوفية يعنون بالحق الله سبحانه، أو هو الحقيقة الإلهية قبل تجليها في صور خلقية.
(2) من كتاب مراتب الوجود مخطوط بالظاهرية بدمشق رقم 5895 عام "نقلا عن الإنسان الكامل ص 115 للدكتور بدوي".(216/56)
ويفسر قوله سبحانه لموسى (20: 39 وألقيت عليك محبة مني، ولتصنع على عيني) بقوله: "أي ذاتي فأظهر بك، وتغيب أنت، وتظهر أنت، وأغيب أنا، وما هما اثنان، بل عين واحدة (عن رسالة اسمها "حكم شطح الولي" للنابلسي مخطوطة بالظاهرية بدمشق رقم 4008نقلاً عن كتاب "شطحات الصوفية ص 153 للدكتور بدوي)" وما ألمس من بهتان مسف في فجور الزور، وقحة الكذب؛ كبهتان النابلسي يزعم أن الصوفية تعتد بالكتاب والسنة في إيمانهم بوحدة الوجود؛ إذ يقول "إن عمدتنا وعدتنا هو التمسك بالقرآن العظيم وسنة نبيه الكريم في معرفتنا بربنا وإطلاق ما أطلقه على نفسه في كلامه القديم، وما أطلقه عليه نبيه البر الرحيم(نفس المصدر السابق وبمثل هذا الرياء يخدع الصوفية المسلمين عن دينهم، إذ يلونون الباطل بلون من الحق، ليمكروا به، وحق ما يقول جولد زيهر: "كان التصوف خصوصاً هو الذي عني بتصوير كثير من الأفكار الإفلاطونية المحدثة والغنوصية في صورة إسلامية، فعن دوائر التصوف صدر الكثير من الأحاديث الموضوعة التي قصد بها إلى تبرير قواعد التصوف" ويقول : "كل تيار فكري في مجرى التاريخ الإسلامي زاول الاتجاه إلى تصحيح نفسه على النص المقدس واتخاذ هذا النص سنداً له على موافقته للإسلام ومطابقته لما جاء به الرسول، وبهذا وحده كان يستطيع أن يدعي لنفسه مقاماً وسط هذا النظام الديني وأن يحتفظ بهذا المقام" انظر ص 218 التراث اليونان لبدوي و ص 3 مذاهب التفسير لجولد زيهر) لم يقنع بالكفر السفيه وحده، فأضاف إليه بهتاناً دنيئاً؛ إذ يزعم أن كتاب الله هو عدته في التمسك بوحدة الوجود، ويقيني أنك لو قرأت الفقرة الأخيرة، وأنت غافل عن عقيدة النابلسي، لأيقنت أنه مؤمن فاض بنور الحق قلبه، وهكذا كل صوفي يلبس لكل حال لبوسها، ويعطيك جانباً منه يرضيك، حتى إذا سكنت إليه خلتك، فقتلك!(216/57)
بل هكذا كل نحلة تثير على كتاب الله حرب أضغانها، فهي لا تستعلن بتكذيب الله في وحيه، وإنما تزعم – لتفتن الناس عن دينهم الحق – أنها تقدسه ولكنها – وهي مقنعة الأهداف بريائها الخاتل – تضع لألفاظ القرآن معاني ما أنزل الله بها من سلطان، وليست لها صلة ما بألفاظها، الله إلا حين تزعم أن الكفر معناه الإيمان، وأن الباطل هو روح الحق! ولهذا تجد تكذيبها لله شر وأخبث أنواع التكذيب، وما البهائية في تخنث كفرها أو القاديانية في مكر دعوتها إلا دليل صدق على ما أقول. فكلتاهما تفتري أنها تؤمن بكتاب الله ورسوله! وكلتاهما عدو ألد الخصام لله، ولرسله، ولكتبه.
إله ابن بشيش
(هو عبد السلام بن بشيش أو مشيش من كبار شيوخ الشاذلية)
للورد الذي افتراه ابن بشيش سحر الأمل، استهل بعد ياس في مشاعر الصوفية، ورقة البشائر تأسو الدموع وجراح الأحزان، إذ يرونه – على اختلاف طرائقهم – وحياً ينفح قداسة وربانية، وصلاة يخشع بها سجد الملائك، وتسابيح ترتلها الحور في خمائل الفردوس!(216/58)
وإليك هذا الورد الذي يضرع به الصوفية في معابد الأصنام كلما قبل السحر جبين الليل! "اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق" همسات غير خافتة بأسطورة الحقيقة المحمدية الصوفية، بيد أن هذه الهمسات تعلو رويداً رويداً حتى تحول صريخاً وفحيحاً في قوله: "ولا شئ إلا وهو به منوط؛ إذ لولا الواسطة، لذهب كما قبل الموسوط، الله إنه سرك الجامع الدال عليك، وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك" ثم تجن لهفته، فيهرول مجنون الخطى إلى هتك الستر عن معتقده، فيضرع إلى الله بهذه الصوفية الملحدة "وزج بي في بحار الأحدية (الأحدية "هي مجلى الذات ليس للأسماء، ولا للصفات ولا لشئ من مؤثراتها فيه ظهور، فهي اسم لصرافة الذات المجردة عن الاعتبارات الحقية والخلقية، وليس لتجلي الأحدية في الأكوان مظهر أتم منك إذا استغرقت في ذاتك، ونسيت اعتباراتك، وهو أول تزلات الذات من ظلمة العماء على نور المجالي، وهذه الأحدية في لسان العموم هي الكثرة المتنوعة" هذه هي الأحدية عند الصوفية انظر ص 30 جـ 1 الإنسان الكامل للجيلي) وانشلني من أوحال التوحيد، و أغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى، ولا أسمع، ولا أجد، ولا أحس إلا بها".
أرأيت إلى الصوفية تحت غلائل السحر الوردية، والليل ساجي الكون لا تسمع فيه سوى رفيف أجنحة الرؤى، وهمسات الأحلام، والكون في فيض الجمال الغامر، والبهاء الساحر يثير في القلب المؤمن أزكى مشاعر الإيمان والحب للخلاق البديع، فيسج لله في عبودية خالصة. في هذه الجلوات الروحية، وفي تلك المجالي حيث يتألق نور الجمال، ويهمس الليل بنجوى الوداع في سمع الفجر يضرع الصوفية إلى الله أن ينشلهم من أوحال التوحيد؟؟!
إله الدمرداش
(هو محمد الدمرداش المحمدي توفي سنة 929هـ)
يقول:
…لقد كنت دهراً قبل أن يكشف الغطا
………………إخالك إني ذاكر لك شاكر
فلما أضاء الليل أصبحت شاهداً(216/59)
………………بأنك مذكور وأنك ذاكر (ص 16 القول الفريد للدمرداش ط 1348هـ)
حتى هذه الزعنفة التائهة تزعم أن الغطاء كشف عنها فرأت أنها هي الله!! واسمع إليها تقول:
هو الواحد الموجود في الكل وحد …سوى أنه في الوهم سمي بالسوي (ص 14 المصدر السابق).
والكل هنا تعم الشيئية المطلقة في عمومها وشمولها، فما ثم إذن عنده من شئ يدركه الحس، أو يتخيله الوهم، أو تطيش به الغريزة إلا هوه عين الله ذاتاً وصفة!! غير أن الوهم الذي حال بين العقول وبين إدراك هذه الحقيقة، فظنت أن هذه الكائنات المحسة، وتلك الصور الذهنية شئ آخر غير الله! ولذا يقول : "فلا وجود سوى الله، والغير هم وخيال(ص 14 المصدر السابق)
إله ابن عجيبة
(هو أحمد بن عجيبة الإدريسي الفاسي نسبة إلى فاس بالمغرب توفي في منتصف القرن الثالث الهجري)
وهذا الذي تجرع الفاطمية الخبيثة ينقل في شرحه لحكم بن عطاء الله هذه الأبيات:
أرب وعبد، ونفى ضد؟……قلت له : ليس ذاك عندي
فقال : ما عندكم؟ . فقلنا……وجود فقد، وفقد وجد
توحيد حق بترك حق………وليس حق سواي وحدي(216/60)
ويشرحها بقوله: "ومعناها الإنكار على من أثبت الفرق، بأن جعل للعبودية محلاً مستقلاً منفصلاً عن أسرار معاني الربوبية، قائماً بنفسه، ولا شك أن العبودية تضاد أوصاف الربوبية على هذا الفرق، وأنت تقول في توحيد الحق: لا ضد له، فقد نقضت كلامك. ولذلك قال : ونفى ضد؟! فالواو بمعنى: مع، وهو داخل في الإنكار. أي : أيوجد رب. وعبد مستقل، مع نفي الضد للربوبية، والعبودية تضاد أوصاف الربوبية؟ ! والحق أن الحق تعالى تجلى بمظاهر الجمع في قوالب الفرق، ظهر بعظمة الربوبية في إظهار قوالب العبودية، فلا شئ، معه(ص 209 وما بعدها إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة)" يريد الفاطمي الخبيث أن يقول: نحن نؤمن بأن الربوبية لا ضد لها، فإذا آمنا بوجود عبودية تغاير الربوبية في الذات والصفات، فقد تناقضنا ونقضنا ما قلناه، فالذي ينبغي الإيمان به هو الوحدة المطلقة، هو أن العبد عين الرب حتى لا نناقض قولنا: إن الرب لا ضد له!! (يقول جولد زيهر: "عمد الصوفية إلى إقحام آرائهم في القرآن والحديث بطريق التأويل، وهكذا ورثوا الإسلام تركة فيلون" ص 140 العقدية والشريعة.)
وحسبك هذا من العلج الفاطمي!.
إله حسن رضوان
(توفي سنة 1310هـ أي منذ نيف وستين عاماً!!)
يقول في منظومته الكبرى"روض القلوب".
فليس في الوجود شئ يشهد……سواه، فالأشياء به توحد
والكثرة الموجودة الموهومة …في ذاتها بوحدة معدومة
والحق في الأشياء جميعاً ظاهراً…وسره قامت به المظاهر
وكل ذرة من الذرات………تنبي بأن الكل عين الذات
فوحدة الوجود لا تفارق……شيئاً، ولكن يستفاد الفارق
فبالحدوث والفناء يوصف……إذن، ولا يضر إذ يعرف
(ص 269 روض القلوب المستطاب ط 1322هـ)
ثم يبشر سالك الطريق الصوفي بقوله:
ولا يزال نوره يزيد………حتى لديه يكمل التوحيد
وسر وحدة الوجود ينكشف……لعينه، ومنه ذوقاً يرتشف
فتضمحل الكثرة المشهودة……له بنور الوحدة المقصودة
فلا يرى بعينه الموحدة……في الكون شيئاً غير ذات واحدة(216/61)
(ص115المصدر السابق)
من بواكير الزندقة
وأصخ يا سماحة الشيخ إلى فحيح الزندقة ينفث سمها الأول طيفور البسطامي أبو يزيد : "خرجت من الله إلى الله، حتى صاح مني في: يا من أنا أنت(ص 160 جـ 1 تذكرة الأولياء)" وإليه "سبحاني ما أعظم ثاني (نفس المصدر السابق ونفس الصفحة)"! أرأيت إلى الأصنام الصغيرة. تدين بدين أمها الكبيرة؟!.
تأليه الحيوان النجس
هأنذا شرقت وغربت، وياسرت، ويامنت مع الصوفية أحباراً وكهاناً، قدامى ومحدثين، ونقلت عن سلفهم، وسجل ماضيهم وحاضرهم، نقلت ما يدينون به في أمانة لم يجنح بها عن قدسها غل ولا حقد ولا غضب، نقلت هذا كله؛ لؤمن من لا يزال على فكره وقلبه غشاوة من سحر الصوفية، أن الصوفية – قديماً وحديثاً في النصرانية، وفي اليهودية، وفي دين من خدعوك بأنهم مسلمون – تؤمن بأن هذا الكون كله، حتى جيفه ورممه وخنازيره، وكلابه ماهو إلا حقيقة الرب الأعظم "هوية وإنية". ولذا ينقل محمد بهاء الدين عن زعيم صوفي قوله:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا…وما الله إلا راهب في كنيسة(النفحات الأقدسية شرح الصلوات الإدريسية ط 1314هـ)
وناقل هذا صوفي يتمثل بهذا البيت الصوفي في روعة الحب الخاشع، ليكثف لك عن روحانية الجمال الصوفي!.(216/62)
هذه هي الصوفية في كتابه، فماذا ترى؟ تؤمن بأن الله هو عين خلقه،وبأن الماخور عربدت فيه الأبالسة، عين المسجد تبتلت فيه الرسل!. وأن الوثنية السامرية عني التوحيد الحق، وأن الحج إلى مبكى اليهود، أو "كرمل(حيث ثوت رمة الهالك ميرزا حسين على الملقب ببهاء الله!!)" البهائية عين الحج إلى بيت الله. وما والله رميت الصوفية بفرية، بل بم يدينون به، ويدعون إليه، ويحبون أن يعرفوا به، فما رأى سماحة الشيخ الكبير؟ (قبل رأي الشيخ ننقل آراء بعض المستشرقين فيما جاء به الإسلام من التوحيد، فهذا غستاف لوبون يقول – وهو يتحدث عن وحدة الوجود - : "إن الإسلام يختلف عن النصراني، ولا سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي، فالإله الواحد الذي دعا إليه الإسلام مهيمن على كل شئ، ولا تحف به الملائكة والقديسون وغيرهم، وللإسلام وحده كل الفخار، بأنه أول دين أدخل التوحيد المحض، والإسلام وإدراكه سهل خال مما نراه في الأديان الأخرى، ويأباه الذوق السليم من المتناقضات والغوامض، ولا شئ أكثر وضوحاً ، وأقل غموضاً من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله" ص 158 حضارة العرب ترجمة عادل زعيتر، ويقول سيديو: "من شأن مبدأ التوحيد الجليل الذي انتشر بين قوم وثنيين أن يضرم الحمية في النفس المتحمسة العالية، ويسود هذا المبدأ القرآن وغليه يعود إبداعه، ويبدو هذا التوحيد المحض جازماً تجاه علم اللاهوت الذي تورطت فيه الفرق النصرانيةن بعد أن زاد عددها بفعل البدع" ص 88 تاريخ العرب العام لسيديو ترجمة زعيتر ثم يقول في ص 89 من الكتاب: " ومحمد إذ كان رسول الخالق بلغ أن الله لا ولد له، وإن إله الكون واحد، وأن الله مصدر كل قوة، وأن إلى الله مرد من لم يجيبوا دعوته، ويود محمد أن يجتذب الناس إلى عبادة خالق كل شئ بغير واسطة").
نور من القرآن(216/63)
وإشفاقاً على الصوفية أن يجدوا مشقة في إبصار الحق المتلألئ، أذكرهم بهدي الله من كتابه؛ ليعرف حقيقة النو من يخبط في تيه الظلام، ويدرك الحق من دوخه الباطل، وينعم بالتوحيد من شفى بالشرك، ولعل الصوفي الضليل يتخذون من التذكير بآيات الله منجاة له، فيجعلها حكماً يصدع بالحق والعدالة في شأن الصوفية.
يقول رب العالمين (19 : 92 – 94 إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) (10 : 2-4 إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، مامن شفيع إلا من بعد إذنه، ذلكم الله ربكم، فاعبدوه، أفلا تذكرون، إليه مرجعكم جميعاً، وعد الله حقاً، إنه يبدأ الخلق، ثم يعيده).
يقول سبحانه : إنه خالق السموات والأرض، فتقول الصوفية: لا، بل هو عين السموات والأرض، وما فيهن من دابة! ويقول سبحانه : إنه يدبر الأمر، فتصرخ الصوفية: مين وبهتان، فنحن الذين يدبرون الأمر له! ويقول الله : ذلكم الله ربكم، فاعبدوه، فيضج كل طاغوت صوفي. لا : بل أنا الله لا إله إلا أنا! ويقول جل شأنه: إليه مرجعكم جميعاً، فتزعم الصوفية: إن معنى الرجوع هنا أن تعود الذات المتكثرة إلى وحدتها، فتعود حقاً، بعد أن كانت خلقاً!.(216/64)
(38 – 3 إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، فاعبد الله مخلصاً له الدين، إلا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه(يقولون: أما نحن، فنتخذهم معه!! وهل الشرك إلا هذا؟) أولياء، ما نعبدهم (يقولون: أما نحن فندعوهم!! وهل الدعاء إلا العبادة، أو مخ العبادة؟) إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار(وتزعم الصوفية أن الكاذب الكفار هو الرب الأكبر في صورة كاذب كفار)، لو أراد الله أن يتخذ ولداً، لا صطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه، هو الله الواحد القهار، خلق السموات والأرض بالحق، يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار، خلقكم من نفس واحدة، ثم جعل منها زوجها، وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج، يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث (وتزعم الصوفية أن ربها هو ذلك الخلق المتطور في ظلمات ثلاث" العماء، الأحدية، الواحدية")، ذلكم الله ربكم له الملك(ويزعم الجيلي أن له الملك في الدارين ويزعم معه كذلك الأحبار!!)ن لا إله إلا هو، فأنى تصرفون؟".
يقول عز من قائل: (42 : 10، 11 وما اختلفتم فيه من شئ، فحكمه إلى الله (وتقول الصوفية بل حكمه إلى كتب ابن عربي أو الغزالي أو ابن الفارض، ويقول غيرهم بل: إلى كتب المذاهب الأربعة.) ذلكم الله ربي عليه توكلت، وإليه أنيب. فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسك أزواجاً (وتزعم الصوفية أن الله هو الذي جعل نفسه أزواجاً، فبدا حقاً في صورة خلق، أو إلهاً في صورة عبد!!) ومن الأنعام أزواجاً، يذرؤكم فيه، ليس كمثله شئ (وتقول الصوفية كما ذكرتك: بل هوعين كل شئ) وهو السميع البصير(وتقول اصوفية على لسان ابن عربي والغزالي وغيرهما: بل هو عين كل سميع وعين كل بصير.).(216/65)
(قل: هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد "وتقول الصوفية: بل كل شئ هو له كفو إذ كل شئ في الوجود هو الذات الإلهية.")
فأين أين من هذا التوحيد المشرق بالحق الأعظم. تلك الأساطير المجوسية التي ينعق بها ابن عربي، وينعب ابن الفارض، وينبح الجيلي، وتعوي الصوفية؟!
واهاً لشيخ الصوفية الكبير، أيغار على الصوفية من مسلم يدعوهم إلى الإنابة إلى الله، ولا يغار على المسلمين مما تجنيه الصوفية عليهم، وتألوا – وعلى نابها الأزرق تتلمظ الجرائم – أنها مثالية الطهر والحب ومعين الروحانية في الإسلام؟!
جبن النفاق
ولقد ناقشت أحد أتباعكم "الغلابة"، فاعترف بالفصوص، وأنها حق جليل، وبالطبقات، وأنها سجل كرامات مقدسة، فجئت بالمسكين صوب المذياع وكنت أحاضر في مكان كريم، يصخب عليه "الدراويش" في عيد وثني يحتفل فيه الصوفية بمولد الوثن الزينبي – وبرأ الله زينب رضي الله عنها من بهتان الصوفية – ورجوت الدرويش الثائر أن يتلو على الحشود من كرامات الصوفية المسجلة في طبقات الشعراني، فما إن قرأ كرامة سيده "على وحيش"، ورأى الجريمة الباغية، حتى ضر الأرض بالكتاب صارخاً مرتاعاً: هذا مدسوس(يقص الشعراني في طبقاته كرامات سيده على وحيش معقباً على ذكر كل كرامة يقوله: رضي الله عنه: "كان الشيخ رضي الله عنه يقيم عندنا في خان بنات الخطا!! وكان كل من خرج "أي بعد اقتراف الجريمة الباغية" يقول له: قف، حتى أشفع فيك، قبل أن يخرج، فيشفع فيه!! وكان إذا رأى شيخ بلد، أو غيره، ينزله من على الحمارة، ويقول له: أمسك لى رأسها حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا يستطيع يمشي خطوة، وإن سمح حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه" ص 135 جـ 2 الطبقات ط صبيح. جريمة فسق منكرة تروى بألفاظ فاسقة وأسلوب فاسق. وإذا أبى صاحب الدابة إلا صيانة غرضها من وحيش عطبه وحيش!! ومع هذا يقول الشعراني عن وحيش: "رضي الله عنه"!!).(216/66)
فقلت للمسكين المفجوع في معبوده! : حنانيك، وهل يمكن أن يكفر الصوفية بهذا الكتاب؟! ، أو يعترفون بأنه مدسوس؟! فأجاب الدرويش – والحقد في عينيه جمرات تتوهج، وفي بدنه رعدة غضبى - : إن من يدين بهذا، فهو كافر! ومن لا يعترف بأنه مدسوس، فهو كافر! ثم فر مذعورالرياء ! وهكذا يا سماحة الشيخ، كلما خشى صوفي افتضاح معبود له، قال: مدسوس! حتى إذا خلا إلى شيطانه، قال : ينفذ الشيخ ما اطلع عليه من قدر الله المغيب! فعله طاعة، لا معصية!.
وليس هذا شأن الصغار منكم، بل هو أيضا شأن أحباركم الكبار. فقد زعم لي مثل ذلك الزعم شيخ التيجانية في مصر حين صدمته ببهتان ابن عربي أما دراويشه، وأما أناس يحرص على أن يوقروه، ويعظموه!.
ولقد قلت لذلك الصوفي الصغير، كما قلته من بعد لشيخه الكبير: سل الصوفية، وشيخهم الأكبر، أن يكفروا بتلك الكتب، فإن فعلوا. كان الخير الذي تظمأ النفس إلى معينه، وكفي الله المؤمنين القتال!.
فهل تستطيع يا سماحة الشيخ أن تصنع باسم الله شيئاًن كهذا؟ أيمكن أن تصدر بياناً تعترف فيه بالحق غير هياب، ولا وجل، فتقول – مثلاً – فيه : "لما في الفصوص والطبقات و...، ...من مخالفة صريحة لدين الحق، فإنا نأمر أتباعنا، أن يكفروا بتلك الكتب؟!"
أم يمكن – مثلا آخر – أن تقول: "إن كتاب الفصوص، أو الطبقات، أو ... أو ... مدسوس على من نسب غليه، لن فيه، وفيما هو مثله كفراً!"؟ ليتك يا سماحة الشيخ تقدمها إلى الله صالحة!.
إيمان الصوفية بكتبهم
إن الصوفية هنا، وهناك، وفي كل مكان يتربصون فيه بالإسلام، يؤمنون بكتبهم إيماناً عنيداً طاغياً ياسر منهم في قبضته القاهرة عواطف القلوب، ومشاعر النفوس وسبحات الخواطر، وتأملات الفكر، ويدينون بكل حرف فيها يرمز إلى أسطورة، وبكل كلمة تفشي خرافة. فما تناوحت إحساساتهم بالحب إلا لها، أسطورة، وما فاتك بالقلوب أخطبوطهم إلا بها، وما قتلت عناكبهم ذباب النفوس إلا بلعابها السام!.(216/67)
بيد أنهم حين يلقون المؤمنين، يقولون رياء ومخادعة: مدسوس!.
حتى إذا خلوا إلى شياطينهم، قالوا: نفتن المؤمنين!.
وإلا، فإني أدوي بصيحة الحق، تتحدى الصوفية وطواغيتها أن يجرؤ واحد منهم على القول: إن تلك الكتب مدسوسة!.
أو يستنكر ما تطفح به من كفر، وليأتنا بأثارة من علم، أو ظن تدل على أنها دعية النسب إلى من افتروها!.
نعم أدوي بصيحة الحق: إن تلك الكتب ليست بمدسوسة، ويشهد بذلك التاريخ الحق، وتواتر النقل الصحيح، ولكن هبوها كذلك، فما ينفعكم، وأنتم بها تدينون، وتؤمنون إيمان عابد الخر بالدن والكأس والعربدة!.
مدسوسة! إنها الترس الأخير، يلوذ به من ينأد منك تحت صدمة الحق الصاعقة! وشهادة زور تفتري؛ لينجو بها المجرم من عقاب جريمته!.
زعمهم أن كتبهم أسرار ورموز
وآخرون من أسارى الصوفية يزعمون أن تلك الكتب أسرار ورموز، لا يفقهها إلا أولئك الذين أباح لهم الغيب الخفي مكنونه، وقدس أسراره، أو الذين هتك الله عنهم الحجاب الأعظم، فخروا تحت عرشه سجداً يسمعون وحيه، ويسجلونه رموزا (أما الدكتور فيليب حتى، فيقول: "ودين محمد عملي صريح، وقلما يشير إلى هدف عال يصعب نواله، ويكاد أن يكون خلواً من العقد اللاهوتية، وليس فيه أثر للأسرار الرمزية المقدسة، أو مراتب الكهنوت، وما رتبته أصول الرسامة والتكريس والخلافة الرسولية" "كلها مناصب دينية في المسيحية" ص 178 جـ 1 تاريخ العرب العام.) في شعرهم ونثرهم!.
من صفات القرآن يا هؤلاء أنه "بيان للناس" ومن الناس عالمون، وجاهلون ومنهم أميون وكاتبون وقارئون، ولكن الله جعله بياناً لهم جميعاً، ميسراً للذكر؛ ليعبد كل امرئ ربه على بصيرة.
بيد أني سأنحدر إلى فرية أولئك، فأزعم أن كتب الصوفية رموز مقنعة بالخفاء، وأسرار ملثمة بسحر الغيب!!
ولكني أسائلك، كيف يعبد الله برمز مقنع بالإبهام، وسر مستغرق في الغموض يحمل من الكفر وجهاً ظاهراً؟!(216/68)
أيحق لامرئ أن يعبد ربه بشئ أطبق عليه الجهل به، وبغير ما شرعه الله في كتابه، وأوحاه إلى رسوله؟!
أسائلك – ولا تغضب إذا ألحقت في تساؤلي - : أتفقهون يا كهنة الصوفية دلائل تلك الرموز، أم لا تفقهونها؟ فإن تكن الأولى، فأبينوا لأتباعكم؛ لتطمئن قلوبهم بالمعرفة، ولنزداد في نقدكم إنصافاً، وإن تكن الأخرى، فإنها دين الببغاء تردد ما تعي.
أما مع الحق، فأقول : لقد قرأت لابن عربي، ولابن الفارض، وغيرهما جل ما كتبوا، وما شرح به تلاميذهم تلك الكتب، فلم أجد في كل ما قرأت رمزاً مستوراً ولا سراً خفياً، بل دلائل صريحة تكشف في جلاء صريح عن حقيقة معتقد الصوفية!!
ترى أي رمز في قول ابن عربي : "العارف من يرى الله في كل شئ بل يراه عين كل شئ"؟! إن ابن عربي خشى أن يتوهم أتباعه حتى "الظرفية" المجازية في كل كلمة "في" أو الحلولية الحلاجية، وفيها ثنائية تناقض الوحدة، خشى ابن عربي ذلك، فأطاح الوهم بيقينه الجازم؛ ليؤمن الصوفية بوحدة الوجود إيماناً لا تنال منه شائبة وهم، ليؤمنوا أن الله هو عين كل شئ، وأن كل شئ هو الله! ومن الأشياء القيح المنتن، والعرض الذبيح، والجريمة يشخب منها الدم البرئ!! أفي ذلك رمز؟ أم بيان صريح وقح الجرأة سفيه الزندقة؟!
إن الحق بين يا سماحة الشيخ، فاهتف به لله، وأنصره لله، وإلا فالجزاء شديد بين يدي الله (2 : 166 إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب).
الفصل الثالث
دين الصوفية في الرسول(216/69)
"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده،والناس أجمعين (البخاري وأحمد وابن ماجه عن أنس)" هذا قول سيد الخلق، خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم. ولقد بلوت مما ذكرتك دين الصوفية، فهل لمحت فيه حتى لمحة حيرى من حق حائر، أو نفحة ولهى من خير شرود؟! هل لمحت منه بارقة خابية من حب لله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم(ما أروع تلك الكلمة التي قهر بها الحق حمدونا القصار الصوفي، فدمغ بها الصوفية حين سئل : ما بال كلام السلف، أنفع من كلامنا؟ فقال: "لأنهم تكلموا لعز الإسلام. ونجاة النفوس، ورضى الرحمن، ونحن لعز النفس، وطلب الدنيا، وقبول الخلق" هذا قول زعيم صوفي في القرن الثالث الهجري فما بالك بما بعده؟ انظر ص 125 طبقات الصوفية للسلمي.)؟ يقينك، ويقين كل من يبتلي الصوفية يجزم بأنها ترفع فوق الكتاب المنزل آية خرافة يهرف بها درويش مأفون ممرور.
أطوار الوجود الصوفية
تدين الصوفية بأن الوجود الإلهي له أطوار، أو مراتب، أو تنزلات، أو تعينات أو نسب، أو إضافات، فكلها ذات مدلول خرافي واحد!!(216/70)
وأولى تلك المراتب "العماء" والوجود الإلهي في هذا الطور لا يوصف بوصف، ولا يسمى باسم، ولا يعرف بحد ولا برس. أو كما يقول الكمشخانلي: "اعلم أن حقيقة الذات الإلهية من حيث هي هي، امتدادها –أعني مدة بقائها- غير مضبوط لأنها من حيث هي كذلك لا وصف لها، ولا رسم، فهي العماء، إذ لا يمكن معرفتها بوجه من الوجوه، ما لم تتعين بصفة. وأول هذه التعينات علمها بذاته، فهذه الصفة تنزل لها من الحضرة الإهلية الذاتية التي لا نعت لها إلى الحضرة الواحدية التي هي حضرة الأسماء والصفات، وتسمي : الحضرة الإلهية (ص 93 جامع الأصول للكمشخانلي)" نقلت لك النص بتمامه، ليستيقن قلبك بأننا ننصف الصوفية، فلا نسمهم إلا بما يحبون أن يعرفوا به. وقد يسمى الرب الصوفي في تلك المرتبة بالوجود المطلق، بيد أن النابلسي في غلو التجريد الذي ينتهي به إلى العدم المطلق، ينزه الوجود في تلك المرتبة حتى عن الإطلاق، لأن وصفه بالمطلق قيد، أو صفة له، فيستلزم أن يكون المطلق مقيداً، والمقيد مطلقا (رغم هذا، فهو واقع في التناقش، لأن الوصف بالسل، أي عدم الإطلاق، قيد أيضاً للوجود، كالوصف بالإيجاب!!)، فيتوتر التناقض بين وصفيه، ويستلزم أن تكون له صفة، وهو مجرد كل التجريد في ذلك الطور عن الاسم والصفة!!
ولقد أراد هذا "العماء، أو الوجود المطلق" أن يتعين في صورة؛ ليعرف وليعرف نفسه (هذه علة وضع الحديث الصوفي "كنت كنزاً مخفياً، فأردت أن أرعق، فخلقت الخلق، فبي عرفوني" ويفسر الصوفية"فب" بكلمة "محمد" لأنها تساويها في العدد في حساب الجمل!!) فتعين في صورة "الحقيقة المحمدية"، فكانت هي التعين الأول للذات الإلهية، أو الفتق بعد الرتق، أو معبر الوجود من الإطلاق إلى التقييد، أو من العماء إلى الأحدية ثم الواحدية!!
الحقيقة المحمدية(216/71)
يعرفها الصوفية بقولهم: "هي الذات مع التعين الأول، ولها الأسماء الحسنى وهي اسم الله الأعظم" (انظر تحت المادة جامع الأصول في الأولياء للكمشخانلي والتعريفات للجرجاني) فمحمد الصوفية ليس بشراً، ولا رسولاً، وإنما هو الذات الإلهية في أسمى مراتبها!!
ويقول الدمرداشي :"حقيقة الحقائق هي المرتبة الإنسانية الكمالية الإليهة الجامعة لسائر المراتب كلها، وهي المسماة بحضرة الجميع، وبأحدية الجمع، وبها تتم الدائرة، وهي أول مرتبة تعينت في غيب الذات، وهي الحقيقة المحمدية (ص 7 رسالة في معرفة الحقائق لمحمد الدمرداشي) ويقول الكمشخانلي : "صور الحق هو محمد؛ لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية (ص 107 جامع الأصول للكمشخانلي) فمحمد عندهم هو الاسم الأعظم، فما الاسم الأعظم؟ إنه "الجامع لجميع الأسماء، أو هو اسم الذات الإلهية من حيث هي هي أي المطلقة (ص 92 المصدر السابق)"!!
ومحمد هو الأحدية ! فما هي؟ إنها "مجلى الذات الإلهيةن ليس للأسماء، ولا للصفات، ولا لشئ من مؤثراتها فيه ظهور، فهي اسم لصرافة الذات المجردة عن الاعتبارات الحقية (أي لا توصف بأنه حق، أو خلق في تلك المرتبة) والخلقية(عن جامع الأصول تحت مادتي الأحدية والواحدية وعن الإنسان الكامل للجيلي جـ 1 ص 30)".(216/72)
ومحمد هو الواحدية، فما هي عندهم؟ إنها "عبارة عن مجلى ظهور الذات فيها صفة، والصفة فيها ذات (عن جامع الأصول تحت مادتي الأحدية والواحدية وعن الإنسان الكامل للجيلي جـ 1 ص 30)" والفرق بين الأحدية والواحدية : "أن الأحدية لا يظهر فيهاشئ من الأسماء والصفات، أما الواحدية فتظهر فيها الأسماء والصفات (عن جامع الأصول تحت مادتي الأحدية والواحدية وعن الإنسان الكامل للجيلي جـ 1 ص 30)" وبهذا يتجلى لك أن الصوفية تعتقد في محمد أنه هو الله سبحانه ذاتاً وصفة، وأنه هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنه هو الوجود المطلق، والوجود المقيد، أنه كان لا شئ قبله، أو معه، ثم تعين في صور مادية سمى في واحدة منها بجماد، وفي أخرى بحيوان، وهكذا حتى اندرج تحت اسمه كل مسمى، وصدقت ماهيته على كل ماهية!
من هدي الله
ذاك هو محمد الصوفية، أما محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فقد جلانا لنا ربه وخالقه، ومن اصطفاه رحمة للعالمين. جلا لنا حقيقته في قوله الحكم ( 18 : 110 قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد).
ترى هل يصدق على كل بشرى أنه هو ذات الله، واسمه الأعظم؟ إن الدين الصوفي يستلزم هذه الزندقة، بل يستلزم إطلاق تلك الصفات والأسماء على فرعون وأبي جهل – وغيرهما من طواغيت الكفر – فيصف كلاً منهم بأنه : هو الوجود الإلهي في تعينه الأول؛ إذ كلهم بشر!.
ونحن نؤمن – كما هدى القرآن والسنة – بأن أول خلق الله هو القلم أو العرش فمتى خلقت أسطورة الحقيقة المحمدية الصوفية؟! ونعلم بالتواتر القطعي أن عبد الله ابن عبد المطلب تزوج آمنة بنت وهب، وأنهما أنجبا طفلاً سمى محمداً، وأنه نشأ نشأة الخير والطهر والشرف والكرامة، وضيء الطفولة، نقي الصبان طهور الشباب؛ فلم يشب نقاء صباه ريبه، ولم تهف بقدس شبابه نزعة هوى، ولا نزعة صبوة، فكانت دنياه كلها معبداً يطيب أصائله وعشاياه وأسحاره بذكر الله وحده.(216/73)
ونعلم أنه جد في الحياة راعي غنم، ثم تاجراً، فكان في حالية المثل الأعلى في الجد القوي الصالح، والأمانة التي تعتصم بالتقوى، والحكمة الحكيمة في كل مايصرف به شئن دنياه، والرعاية التي تقدس الحق والواجب لكل ما حمل من أمانة، وأنه كان في كل أطوار حياته الكامل في الأدب والخلق، وحكمة العقل وسمو العاطقة، ونباغة الفكر، وقوة الإرادة ومضاء العزيمة، وجلال الشرف، وعزة الكرامة، ونبل المروءة، وكرم الإيثار والنجدة، وسماحة النفس، فلم يغمر قلبه إلا حب الله، ولم تنزع به الإرادة إلا إلى الخير، ولا العاطفة إلا إلى السم، ولا الفكر إلا فيما ينالا به رضاء الله. جواداً مسماحاً في سخائه وبره، محسناً كل الإحسان في كل ما أنعم الله به عليه، فلم يغضب إلا للحق، ولم يجبن إلا عن الذنب، ولم يطمع إلا فيما هو عند الله، ثم اصطفاه ربه خاتماً للنبيين، فجاهد في الله حق جهاده، وبلغ كل ما نزل إليه من ربه، وشهد الله له بذلك، قم قبضه الله غليه بعد أن صارت كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، فصلوات الله وسلامه عليه.
هذا قبس نستهدي به من حياة محمد صلى الله عليه وسلم، فقل لي عن الحقيقة المحمدية، تلك الأسطورة الصوفية الموغلة في تيه القدم والعدم: من أبوها؟ من أمها؟ ومم خلقت؟ ولمن أرسلت؟
شأن محمد
وتزعم الصوفية أن شأن محمد هو شأن الله!! اسمع إلى صوفي يقول: "شأن محمد في جميع تصرفاته شأن الله، فما في الوجود إلا محمد" ويقول : "لا يدري لحقيقته غاية، ولا يعلم لها نهاية، فهو من الغيب الذي نؤمن به" ويقول : ولما كانت بشريته صلى الله عليه وسلم نوراً محضاً، كانت فضلاته مقدسة طاهرة، ولم يكن لجسمه الشريف ظل كالأجسام الكثيفة، وهذا النور المحمدي، هو المعني بروح الله المنفوح في آدم، فروح الله نور محمد (هذه النصوص عن كتاب النفحات الأقدسية للبيطار ص 9 ، 11، 13)"
المهاجر من مكة(216/74)
يقول ابن عربي: "اللهم أفض صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أول التعينات المفاضة من العماء الرباني(العماء عند الصوفية"هو الحضرة الأحدية، وهذه تتعين بالتعين الأول لأنها محل الكثرة وظهور الحقائق والنسب الأسمائية، جامع الأصول مادة العين)، وآخر التنزلات المضافة إلى النوع الإنساني، المهاجر من مكة – كان الله (نصب لفظ الجلالة باعتباره خبراً لكان، فيكون معنى الجملة "المهاجر من مكة هو الله"). ولم يكن معه شئ ثان – إلى المدينة، وهو الآن على ما عليه كان، محصي عوالم الحضرات الخمس (يجعلها القاشاني ثلاثاً فقط "الفردية وهي حالة وجود الذات الإلهية في عين الجمع حيث كانت، ولم يكن معها شئ ثان، الثانية حضرة الوترية وهي حالة بقائها بعد فناء كل شئ في مقام الجمع، الثالثة حضرة المعية وهي حالة وجودها مع كل شئ في عالم التفرقة، والأولى ماوردت الصفات منها، والثانية ما صدرت إليها، والثالثة ما وردت إليها ثم صدرت عنها" كشف الوجوه الغر ص 133) في وجوده، سر الهوية في كل شئ سارية، الجامع بين العبودية والربوبية الشامل للإمكانية والوجودية(ص 2 مجموع الأحزاب ط استامبول سنة 1298هـ) أرأيت إلى قطب الصوفية الأكبر في غي إلحاده الأكبر، يفتري أن محمداً هو الله، وتأمل دهاء مكره، فيما يعبر به عن كفره، في قوله: "المهاجر من مكة كان الله ولم يكن معه شئ ثان إلى المدينة" إنك حين تقرأ تلك الجملة دون تدبر ستظن أن فيها خللاً، وأن جملة "كان الله، ولم يكن معه شئ ثان" لا صلة لها بما قبلها، ولا بما بعدها، وأعترف أني خدعت، فظننت أن هذه الجملة مقحمة، وحرت في إدراك هدف ابن عربي من وضع تلك الجملة التي تبين عن حق كريم بين باطل عربيد وآخر لئيم! بيد أني عدت إلى النص أتلوه، وفي فكرن دين ابن عربي، وثمت بدالي هدفه في وضح جلاء، وتبين لى أن الجملة ليست مقحمة، وإنما هي لحمة دينه وسداه، فلنعد إلى الجملة نرتبها كما تحتم قواعد اللغة الصحيحة "المهاجر(216/75)
من مكة إلى المدينة كان الله، ولم يكن معه شئ ثان" ما زدنا شيئاً على قوله، ولا نقصاً منه، وكل ما فعلناه هو وضع قوله : "إلى المدينة" موضعه، بعد أن نأى به ابن عربي عنه؛ ليمكر به، ويلتوي على القراء فهمه! بهذا يبدو لك جلياً أن ابن عربي يفتري أن المهاجر من مكة إلى المدينة لم يكن هو محمداً رسول الله، وإنما كان هو الله متجلياً في صورة اسمه فيها "محمد".
ولا ريب في أنك تعرف أن صاحب الرسول في الهجرة كان أبا بكر غير أن ابن عربي يقول :"ولم يكن معه شئ ثان" يعني أن أبا بكر هو الآخر لم يكن إلا الله متعيناً في صورة اسمه فيها: "أبوبكر"!
ومات محمد صلى الله عليه وسلم، ومات من بعد أبوبكر! فأي إله هذا الذي يتجرع عصة الموت مرتين؟ بل ما ذلك الإله الذي يموت ويحيا في كل لحظة آلاف المرات؟!
لقد دانت الصوفية بأن الرب الأكبر هو عين خلقه! وفي كل لحظة يعبر بها الوجود تفنى حياة، وتنبثق حياة، فياللصوفية! يعبدون رباً يموت آلاف المرات، ويولد آلاف المرات في آن واحد!
ومحمد الصوفية له مظهران، أو اعتباران، فهو عبد أو خلق باعتبار ظاهرة، وهو رب أو حق باعتبار باطنه، ولهذا يصفه ابن عربي – باعتبار ظاهره – بأن له العبودية ويصفه – باعتباره باطنه – بأنه له الربوبية! يصفه بأن له الإمكانية باعتبار ناسوته، وبأن له الوجوبية، باعتبار لا هوته!.
والنابلسي في شرحه لصلاة ابن بشيش يقول :"ما صلى على محمد إلا محمد، لأن صلاة العبيد عليه، صدرت منهم بأمره منهم من صورة اسمه (ص 557 مجموع الأحزاب ط استامبول)".
كرة من الحق على الباطل
أما محمد خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلمن فيهدينا الله إلى حقيقته بقوله : (3 : 144 وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات، أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟). وفي قوله سبحانه "قد خلت من قبله الرسل" حجة من الحق تزهق الباطل الصوف كله.(216/76)
وأما اعتقاد المسلمين في نبيهم الحق، فهو أنه صلى الله عليه وسلم "بشر مثلنا يوحى إليه" فالقرآن – وهو كلام الله وهداه ورحمته – يفرض عليهم الإيمان بذلك، فلا مناص من الإخبات له بالقلب والفكر والشعور، ويزيدنا القرآن هدي؛ إذ يقرر أن بشرية الرسول الأعظم مثل بشريتنا، في أسول من القول مشرق الإعجاز في بلاغة البيان وفصاحته، في أسلوب يفرض على الفكر الإيمان بمعناه البين دون أن يشتبه معناه الحق حتى على الأمي الجاهل، وذلك في قوله (18 : 110 قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)(216/77)
كلام هو الحق والحكمة والهدى في أسلوب جلي جلي محكم محكم، لا يأذن حتى لخاطرة واهية من ظن أن تقتحم عليك فدس يقينك، أو أن تحوم خفية حوله أو تفسد عليك شيئاً ما من فهمك لمعنى الآية. ومن تدبر "بشر مثلكم" لرأى أشعة الهدى الإلهي الأعظم تغمر حوله الوجود كله، وتهديك إلى الحق الذي يجب أن تؤمن به. ألا تراها تجعل بشريتنا هي المقياس الذي به نقيس بشرية رسول الله الكريم، حتى لا يفتننا حب هذه البشرية الطهور، فنظنها خلقاً آخر، أو نوعاً من البشرية يغاير في حقيقته بشريتنا، فلا ندرك كنهها، ولا شيئاً من خصائصها؛ لأنها لم تتحقق إلا في فرد واحد؟ لقد كان يكفي في الدلالة على المعنى أن يقال :"قل: أنا بشر" أو"أنتم بشر مثلي" ولكنه سبحانه – وهو الحكيم العليم الخبير – شاء أن يعرفنا بشرية محمد صلى الله عليه وسلم بما نعرفه نحن من خصائص هذه البشرية التي فطرنا عليها، وبما نبتليه من قيمها ومقوماته، وبما نعالج من غرائزها وعواطفها (غرائز البشرية الصالحة وعواطفها نفس غرائز البشرية الطالحة وعواطفها في الفطرة والفرق أن صاحب الأولى وجهها وجهة الخير، ووجهها الآخر وجهة الشر) وبما نعلمه- عن الله – من حقيقة بدئها. وغاية منتهاها، وبما نتجاوب به مع رواد الوجود من حب أو كراهية. ولذا طعم صلى الله عليه وسلم، وشرب، وتزوج، ونجل خير البنين. وذاق الشبع والجوع والمرض، ومست قلبه الأحزان، وذرفت عيناه الدموع، وجاشت نفسه برحمة البكاء، وغير ذلك مما قضاه الله على البشرية من أقدار في هذه الحياة، ثم جاءه صلى الله عليه وسلم ملك الموت الذي وكل بنا.(216/78)
غير أن بشريته صلى الله عليه وسلم آمنت حق الإيمان بما هداها الله إليه، وأنعم عليها به، فأدت حق الله كاملاً من الحق والشكر، وحلقت فوق قمة السمو الإنساني الأعظم، فكانت وحدها هي النجم الأرفع الأسمى، وتألقت بعبوديتها الخالصة فوق أعلى أفق للتوحيد الخاص، فما زلت بها عاطفة لإثم، ولا هفت بها غريزة إلى ذنب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اتخذ الله وحده رباً له، وجعل رضاه غايته والدعوة إليه هدف كفاحه وجهاده. والغاية العظمى لدنياه، والفلك الأعظم الذي تدور فيه حياته.
ثم تدبر ما حكم الله به على المشركين الذين قالوا : (25 : 7 ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) إن جل شأنه حكم عليهم بأنه ضلوا فلا يستطيعون سبيلاً! لتعلم أن هذا الذي استنكره المشركون ليس إلا قدر الله العدل الحكيم الذي قضاه على البشرية، وقسطاً من أقساطها في الوجود. وأنه لا يمس مقام النبوة بأثارة من ضعة، إذ النبي – قبل كل شئ – بشر، والبشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق!.
وتدبر ما وصف الله به رسله جميعاً (21 : 9 وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين) (25 : :20 وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق) تدبر هذه الآيات؛ لترد بها فرية الوثنية التي تزعم أن محمد صلى الله عليه وسلم نجم الحياة الأبدية الخالدة في الدنيا، وأن فضلاته كانت مقدسة طاهرة وإشعاعاً من أضواء الربانية!.
لماذا – إذن – كان يتوضأ صلى الله عليه وسلم، ويتيمم، ويغتسل؟.
وتدبر خطاب الله لنبيه ( 39 : 30 : 31 إنك ميت، وإنهم ميتون) ذكر موتنا عقب ذكر موته؛ لنهتدي إلى أن الموت الذي قضي علينا هو عين الموت الذي قضي على نبيه صلى الله عليه وسلم! ورغم هذا – على ما فيه من وضح وجلاء – وجد من يزعم أن موت محمد معناه الحياة السرمدية،وجد من يضع للفظ نقيض معناه، أو يضع للفظ إسفاف الشهوة من هواه!.(216/79)
يقول الصوفية: "إنه صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس، أو مكان أراد بجسده وروحه، وأنه يتصرف، ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته، لم يتبدل منه شئ (ص 219 جـ 1كتاب رماح حزب الرحيم لعمر بن سعيد الفوني ط 1345)".
وتدبر تلك الآيات التي يعاتب الله فيها سبحانه نبيه : (17، 73، 74، 75 وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك؛ لتفتري علينا غيره، وإذاً لاتخذوك خليلا، ولولا أن ثبتناك، لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيراً).
وعيد جليل الكبرياء، أحدي القهر والجبروت، أفتدرك منه وعيد رب لمثله، أو لنفسه، أم وعيد قادر قهار متعال له ملكوت السموات والأرض لأشرف عباده، وخاتم رسله؟! أفلو كان محمد رباً يشرك الله في ربوبيته وإلهيته – كزعم الصوفية – أكان يبتليه الله بمثل ذلك الوعيد الذي يغمر النفس خشيةً ورهبة، ويقهر عبوديتها قهر الرضى والحب على أن تخبت لله وحده، وعلى ألا تتعدى حدوده قيد لحظة، أو خاطرة!؟.
وهل أشد على نفس المؤمن من أن يتوعده الله بفقدان النصير، وبعذاب يتجرعه ضعف الحياة، وضعف الممات؟!
أفي قضايا العقل – ودينكم يؤمن بربوبية محمد – أن يتوعد الرب نفسه، وينذرها بعذاب الحياة والموت تصلاه ضعفين، وبالوحدة الصماء تقتل في النفس الشعور بالحياة؟!
أشرف صفات الرسول في أشرف مقاماته(216/80)
والله سبحانه يصف رسوله بأشرف الصفات – وهي العبودية – في أشرف مقاماته، وأخلدها ذكراً، وأجلها أثراً وغاية (17 : 1 سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) يصفه ربه بالعبودية الصرفة الخالصة وحدها في تلك الليلة التي استشرف فيها قمة السمو الأعظم، وتألقت أمجاده الخوالد الذكريات. آه لو قيل : "أسرى بمحمد" فحسب، إذن لراح الصوفية يثيرون ما يفتنون به من شبهات لا تجد من اللفظ النور القوي الذي يبددها، أذن لآلوا أن محمداً لم يكن بشراً، ولا عبداً، وإنما كان روحاً إلهياً سخرت لقدرته الآفاق، وعبدت لقهره متون الفضاء، فجاءت كلمة "عبده" في الآية حجة الحق المتلألئة التي تبيد الظنون، وتبدد كل شبهة تختلس الفتنة للعقول بأوهامها. جاءت برهاناً ربانياً – لا ينقض أبداً – على أن محمداً صلى الله عليه وسلم، ما كان إلا بشراً يوحى غليه، حتى في تلك الليلة التي وقف فيها دون عرش ربه الأعظم، يقبس من نور الله وهداه، فما بالك به في كل أصائل عمره وعشاياه؟!.
ويصفه سبحانه بالعبودية في مقام الدعوة إليه (72 : 18 وأنه لما قام عبد الله يدعوه، كادوا يكونون عليه لبداً) وتدبر إضافة "عبد" إلى "الله" ليغمر يقين الحق قلبك، فلا يشتبه عليك الفرق الجليل العظيم الكبير بين عبودية محمد وربوبية ربه وألوهيته، ولا تفتنك مجوسية الصوفية تبهت الحق بزعمها أن محمداً هو الله!!
ويصفه سبحانه بالعبودية في مقام هو الفيصل الحق الأكبر بين كون محمد دعياً، وكونه نبياً، ذلك هو مقام التحدي بالمعجزة العظمى، معجزة القرآن (2: 23 وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا، فأتوا بسورة من مثلة).(216/81)
والرسول نفسه يضع لنا على الطريق صوى ومنارات؛ حتى لا نحيد عنه، فنهلك، ويرشدنا إلى الحق؛ حتى لا تزيغ بنا غلواء الشاعرية في الحق، فيقول صلى الله عليه وسلم: "لاتطروني، كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" ويدوي صوته الأخاذ الرائع بصيحة الحق، يعظ بها ذلك الصحابي الذي جرفه غلو الحب، فقال لنبيه :"أنت سيدنا!" فصاح به؛ ليصمت، ثم أرسلها تعبر الأجيال والأحقاب والدهور عظة شافية هادية "إنما السيد الله تبارك وتعالى (عن حديث رواه النسائي بسند جيد)" فما إن تهامست تحت قبة الفلك الأصداء الراعشة الخافتة الواهنة المذعورة من قولة الصحابي، حتى تجاوب الوجود كله بدوي الصيحة الهادية من الرسول، تحول بين الأخر وبين أن تطمئن في سمع، أو تهز وتراً من قلب، وما زالت قلوب المؤمنين تتجاوب بعظة محمد العظيم في حب وإجلال. فصلى الله عليه وسلم.
وفي الصلا – وهي شعيرة الحب العابد – علمنا الرسول عن أمر ربه أن نشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، ولكن الصوفية تأبى إلا أن تدين بأن ذلك الحق باطل وخطيئة، فتكذب الله ورسوله، وتقول: لا بل محمد هو الرب الأعظم!
وفي حديث الشفاعة يقص علينا الرسول صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام – وقد ناشده الخلق أن يستأذن ربه في أن يشفع لهم عيسى عنده – يقول: "اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" ولكن الصوفية تأبى إلا اتهام عيسى بالحقد على محمد، وجحود فضله، فتقول : لا، بل هو رب نعبده، ونضرع إليه أن يهب لنا ما يملكه الله وحده، فيهتف الصوفية حتى يصكوا سمع الصخر – إن كان له سمع - :"الشفاعة يا محمد"!
تدبر ما ذكرتك به من آيات الله؛ لتؤمن أن محمداً صلى الله عليه وسلم، لم يبلغ ما بلغ من عظمة وكمال وسمو إلا بإخلاص الدين لله وحده، وأنه كان بشراً يوحى إليه، لا الله، ولا شريكه كما تفتري الصوفية!
آراء المستشرقين(216/82)
(لا أذكر رأي هؤلاء احتجاجاً به، وإنما هو لبيان أن هذا الحق، قد أدركه هؤلاء المستشرقون على عدواتهم، فقرروه. على حين يعاديه الصوفية ويكفرون به).
ومما يلوع النفس بالحسرة، والقلب بالأسى أن يدرك المستشرقون – على عداوتهم للإسلام – هذا الحق، ويظل الصوفية – ومنهم أحبار كبار يختالون أنهم أئمة الإسلام – مصرين في جحود أصم على عداوة ذلك الحق. يقول نيكلسون : "إذا بحثنا في شخصية محمد، في ضوء ما ورد عنه في القرآن من آيات، وما أثر عنه من الحديث في الصدر الأول، وجدنا الفرق شاسعاُ بين الصورة التي صور بها في ذلك العهد، وبين الصورة التي صور بها الصوفية أولياءهم، أو تلك الصورة صور بها الشيعة إمامه المعصوم. وظهر من المقارنة أن صورة شخصية الرسول لا تفضل عند الموازنة صورة الولي الصوفي، أو صورة الإمام الشيعي، إن لم تكن دونهما، ذلك أن الولي الصوفي والإمام المعصوم، قد وصفا بجميع الصفات الإلهية، بينما وصف الرسول القرآن بأنه بشر فيه كل ما للبشر من صفات، وأنه ينزل عليه الوحي من ربه بين آن وآخر، ولكنه لا يتلقاه مباشرة عن الله، بل بواسط الملك، وأنه لم ير الله قط، أو يطلع على أسراره، وأنه لا يتنباً بالغيب، ولا يفعل المعجزات، أو خوارق العادات، بل هو عبد من عباد الله ورسول من رسله (ص 158 في التصوف الإسلامي ترجمة الدكتور عفيفي)" ثم يتحدث الرجل عن محمد عند الصوفية، فيقول : "فمحمد إذن ليس المصدر الذي يستمد منه جميع الأنبياء والأولياء علمهم بالله، فحسب، بل هو الحقيقة الإلهية السارية في الوجود بأسره، كما أنه العلة الأولى في خلق كل ما هو مخلوق، والعقل الكلي الذي يصل ما بين الوجود المطلق "الله" وبين عالم الطبيعة، وليس العالم إلا صورة الحقيقة المحمدية، كما أن الحقيقة المحمدية ليست إلا صورة الله (ص 160 المصدر السابق)"(216/83)
ويقول جولدزيهر: "إن صورة النبي كما صورتها السنة، قد أصابها التعديل والتحوير، لكي تتلاءم مع تقديس الأولياء، حتى نجم عن ذلك أن العقائد الشعبية، وضعت صورة للنبي تتارض تماماً مع البيانات البشرية التي صور بها القرآن والسنة مؤسس الإسلام الأول (ص 234 العقيدة والشريعة لجولد زيهر).
ويقول هنيرش بكر :"من الثابت أن الغنوص قد أثر في إيجاد هذه الصورة التي صورتها العصور الوسطى الإسلامية المتأخرة لمحمد، وكان سبباُ في إيجاد ما يشبه عبادة محمد، وهذه العبادة، وتلك الصورة مخالفتان لما كان عليه الإسلام الأول كل المخالفة، أما أولياء الله في الإسلام، ففي مقابل الأرواح القدسية في الهيلينة "هم الكائنات الروحية الوسيطة بين الذات الإلهية وبين المادة عند الغنوصية" حتى أن محمداً – وهو نموذجهم الأعلى – ينتهي بأن يصبح هوالعقل الموجود منذ الأزل، وأن يكون الرحيم المخلص القدير، وعن طريق هذا المذهب، انقلبت فكرة الوحي التي كانت موجودة في الإسلام الأول إلى ضدها (ص 12 التراث اليوناني ترجمة الدكتور بدوي)".
ويقول فيليب حتى :"والعقيدة الثانية في باب الإيمان هي أن محمداً رسول الله، وخاتم النبيين، وفي علم الإلهيات القرآني ليس محمد إلا بشراً لم يتم الله على يده منالعجائب غير إعجاز القرآن، إلا أن التقاليد والأساطير التي اصطنعتها العامة، من بعد، نسجت حول هامة الرسول هالة من النور الإلهي (ص 177 جـ 1 تاريخ العرب العام لفيليب حتى.)" وهكذا يدرك يهود ومسيحيون حقائق من الإسلام يتعامى عنها أحبار الصوفية، لقد تجرد أولئك المستشرقون قليلاً من التجرد، ولكنهم فهموا كثيراً من الفهم الصائب، فوصفوا الحق ببعض صفاته، ولولا أنك على بينة من عقائدهم الأسطورية الباطلة، لظننتهم في قولهم هذا مسلمين يتهجدون في المحاريب في نور من القرآن!.(216/84)
أو يرضيك أن يصدع بذلك الحق، قوم لم تلن قلوبهم لدين الحق، وأن يسجد الصوفية للباطل، يعبدون خرافاته، ويمجدون أساطيره، ويزعمون أنهم أئمة الدين وأعلامه!.
لقد تزعمت يا سماحة الشيخ هذه الجماعة التي دوخها الباطل، فهلا ذكرتهم بهي الله، وجاهدتهم؛ لتحملهم عليه، فيؤمنوا به، وتخبت له قلوبهم؟!
كل شيء من نور محمد
بهذا يدين الصوفية، وفيه يتغزلون، ولقد عبر الدباغ عن هذه الأسطورة إذ يقولك"اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسماوات وأرضين وجنات وحجب، وما فوقها، وما تحتها إذا جمعت كلها، وجدت بعضاً من النبي، وأن مجموع نوره، لو وضع على العرش، لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش، لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها، ووضع ذلك النور العظيم عليها، لتهافتت، وتساقطت (ص 84 جـ 2 الإبريز)".
ويقول تيجاني: "لما خلق النور المحمدي، جمع في هذا النور المحمدي جميع أرواح الأنبياء والأولياء جميعاً جمعاً أحدياً، قبل التفصيل في الوجود العيني، وذلك في مرتبة العقل الأول (ص 14 جـ الرماح لعمر بن سعيد)".
ويقول الحلواني في قصيدته "المستجيرة" يخاطب رسول الله.
أنشأك نوراً ساطعاً قبل الورى…فرداً لفرد، والبرية في العدم
ثم استمد جميع مخلوقاته……من نورك السامي، فياعظم الكرم
فلذا إليك الخلق تفزع كلهم……في هذه الدنيا، وفي اليوم الأهم
وإذا دهتهم كربة فرجتها……حتى سوى العقلاء في ذاك انتظم
جد لي، فإن خزائن الرحمن……يداك اليمين، وأنت أكرم من قسم (ص 14 وما بعدها من رسالة لأحمد عبد المنعم الحلواني)".
والله تعالى يقول : (23 : 12 ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين)، ومحمد صلى الله عليه وسلم إنسان. وإلا فليأتوا له بصفة أخرى! والرسول نفسه صلى الله عليه وسلم يقول: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم (مسلم وأحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها)".(216/85)
تحدث الرسول عن النور، وعمن خلق منه، فلم يذكر نفسه أنه مخلق من نور، كما ذكر الملائكة، وتحدث عن آدم الأب الأول للبشرية،وعن خلقه، وأنه خلق مما ذكر الله في القرآن، يعني من طين لازب، ومحمد صلى الله عليه وسلم ابن آدم!، فلمن تنتسب الحقيقة المحمدية الصوفية؟!.
وفي كتاب الله آية واحدة تدك وحدها كل ما يوفض إليه الصوفية من نصب أقاموها لهذه الأسطورة، تلك هي قوله سبحانه لنبيه (: 3: 128 ليس من الأمر شيئ) وكلمة شئ أوسع كلمة في العربية دلالة على العموم والشمول، حتى أطلقها بعضهم على الموجود والمعدوم، بل يعمم ابن عربي دلالتها، حتى يجعلها تتناول الصور الذهنية! وفوق هذا جاءت كملة "شئ" نكرة في سياق النفي فزاد عمومها وشمولها.
وتدبر قوله سبحانه : (46: 9 قل : ما كنت بدعاً من الرسل، وما أدري ما يفعل بي، ولا بكم، إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ، وما أنا إلا نذير مبين).
فهل يدين الصوفية في الرسل جميعاً بما يدينوه به في محمد، إذ ليس هو "بدعاً من الرسل"؟!
وتدبر قوله سبحانه لنبيه: (72: 21، 22 قل: إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً، قل: إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملتحداً).
هذا هو هدي القرآن، فقارن بينه، وبين ما افترته الصوفية من إفك حول النور المحمدي الذي خلق منه كل شئ!! وثمت توقن أنه ليس في الإمكان – حتى في النادر منه – إيجاد نسب ما بين ما هدى الله إليه وبه من الحق، وبين ما ضل به الصوفية، وأضلوا خلقاً كثيراً.
تدبر قول الله تجد الهدى في إشراقه، والحق في جلاله والحكمة في نورها الإلهي، وتأمل إفك الصوفية، تجده قيئاً من الكفر المتقيح!!
أكان محمد يعرق القرآن قبل نزوله؟
مما تأفكه الصوفية أن جبريل عجب حين رأي محمداً يتلو القرآن قبل أن يعلمه إياهّّ فسأل جبريل، فأجابه النبي: ارفع الستر مرة حين يلقى إليك الوحي، ففعل جبريل، فرأى محمداً هو الذي يوحى إليه، فصاح مسبحاً: منك، وإليك يا محمد؟!!(216/86)
وما زال يهذي بهذه الأسطورة في الرحاب الفساح من الأزهر رجل لا عمل له سوى إثارة الحرب مؤرثة الأحقاد على الكتاب والسنة!!
ويتناقل هذه الأسطورة صوفي عن صوفي كل حمأة وثنية، أو حانة صوفية. ولم لا؟ وقد فح بهذه الفرية أفعوان الصوفية الأكبر ابن عربي؛ إذ يقول مفسراً قول الله سبحانه (20: 114 ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يوحى إليك وحيه) : "اعلم أن رسول الله أعطي القرآن مجملاً قبل جبريل من غير تفصيل الآيات والسور، فقيل له: لا تعجل بالقرآن الذي عندك قبل جبريل، فتلقيه على الأمة مجملاً، فلا يفهمه أحد عنك لعدم تفصيله(ص 6 الكبريت الأحمر للشعراني على هامش اليواقيت والجواهر ط 1307هـ)".
رد هذه الفرية
وبطلان هذه الفرية بدهي يحكم به من في قلبه بارقة من إيمان، بيد أن غشاوة الصوفية على بصائر معتنقيها حالت بينها وبين إدراك الحقيقة الإيمانية الأولى، وهي أن رب الوجود هو الله وحده لا شريك له، فلم لا تحول بينها وبين إدراك بطلان تلك الفرية؟! لهذا نذكرك بهدي الله سبحانه : (53: 5-7 علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى؛ وهو بالأفق الأعلى). آيات بينات تهديك إلى أن الذي علم رسول الله القرآن هو جبريل، وإلى أنه صلى الله عليه وسلم: لم يكن على علم بشئ ما منه قبل أن ينزل جبريل به عليه.
(25: 32، 33. وقال الذين كفروا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً، ولا يأتونك بمثل، إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً).(216/87)
ويقول ابن عربي أنه نزل عليه جملة واحدة، فقوله قول الكافرين!! ومن قوله سبحانه (إنا أنزلناه في ليلة القدر) نؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعلم بآية ما من كتاب ربه إلا في ليلة القدر، فمتى علم الرسول القرآن مجملاً؟ أقبل ليلة القدر، أم بعده؟ ومن علمه إياه مجملاً؟ أجبريل، أم غيره؟ ائتوني بأثارة من علم، إن كنتم صادقين. ويهب الله للحق برهاناً تنجاب به كل ريبة : (42: 52 وكذلك أوحينا إليك ورحاً من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب، ولا الإيمان) أيفهم الصوفية، أم هي اللجاجة في العناد؟ (10 : 15، 16. وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات، قال الذين لا يرجون لقاءنا: إئت بقرآن غير هذا، أو بدله، قل : ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، قل: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمراً من قبله، أفلا تعقلون؟).
وفرية الصوفية تناقض هذه الحجة الإلهية على صدق محمد.
أولا يذكر الصوفية أن رسول الله حين فجأه الوحي، كان يقول – وجبريل يغطه: "ما أنا بقارئ"؟!
وأنه عاد إلى زوجه الطيبة الطهور في خوف وقلق، وأن هذه المؤمنه العظيمة قالت له قولتها التي طيبها الإيمان بروحانيته "والله لا يخزيك الله أبداً"
أفكان يحدث هذا، أو بعضه، لو أنه صلى الله عليه وسلم، كان على بينة من القرآن، قبل نزوله عليه؟ لم قال: ما أنا بقارئ؟ يكررها ثلاثاً؟ لم عاد خائفاً حتى زملوه ودثروه؟ لم بث ذات نفسه إلى زوجته خديجة، ولم ذهب معها إلى ورقة بن نوفل؟! كل هذا حدث منه صلى الله عليه وسلم حتى بعد نزول الوحي عليه!! أهذه دلائل علم سابق بالقرآن، ويقين جازم به قبل نزول جبريل عليه به في ليلة القدر؟، أم دلائل مشاعر نفس مؤمنة تقية، فجأها من لله سبحانه، ما لم تكن تدريه من قبل؟!
واهاً للصوفية!! تبصر نور الشمس يتوهج، فتقول ياللظلام الدامس!! كبعض الطير يعشيه النهار!!(216/88)
ولقد كان أعداء الرسول يسألونه محرجين متعنتين، يبتغون تكذيبه، والتجديف عليه، فلم يكن يجيبهم بشئ – لأنه لا يعرف الجواب – عما سألوه عنه، إلا بعد أن ينزل جبريل عليه به. سألوه عن الروح، وعن فتية الكهف، وعن ذي القرنين، فقال صلى الله عليه وسلم: غداً أجيبكم!! وأنساه حرصه النبيل على إقامة الحجة عليهم وهدايتهم، فلم يقل: إن شاء الله، ففتر عنه الوحي حتى حز به الأمر، وبلغت به الشدة مبلغها، ولم لا؟ وعدوه متربص به، حريص على تكذيبه، وعلى أن يثير الشبهات حول رسالته، ورغم هذا يفتر عنه الوحي!! ثم من الله عليه به، فعلم عن الله جواب ما سألوه عنه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل: "لقد رثت على، حتى ظن المشركون كل ظن" فنزل قوله تعالى : (19: 64 وما نتنزل إلا بأمر ربك (انظر تفسير ابن كثير في هذه الآية). أفكانه يحدث هذا، لو أن رسول الله، كان على بينة من القرآن قبل نزوله؟ لماذا لم يجب من سألوه؟ لأنه لم يكن يعرف الجواب، ولكن ابن عربي يكفر بكل تلك الدلائل، ويفتري أسطورته، فتؤج في الصوفية كالنار في الهشيم، وتنتشر كالوباء الفتاك، وتظل ديناً يكتبه الشعراني ويهرف به حمقى الصوفية!!
وعذرنا في إطالة الرد على هذه الفرية أنها دين قوم يحسبون على الإسلام، ومن أئمته، وما زال عدو ربه "فلان" ينعت بها حتى اليوم في رحاب الأزهر، يضج بها نعيبه، والموذن يقول : الله أكبر!!
تعالوا إلى كلمة سواء
فما رأي صاحب السماحة في تلك الوثنيات؟ ألا يذكي في نفسك الحسرة، وفي أعماق قلبك السعير، أن ترى الصوفية تبهت الحق بما لم يبهته به إلحاد من قبل، وتجحد به جحوداً، ليس كعناده عناد، ولا كبغيه بغي. لا تدع رعب القلق يعصف بك، فيقلب على السهد جنبيك بحثاً عن كيد تكيد لنا به، بل (3: 61 تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).(216/89)
نحب أن نحتكم إلى الكتاب والسنة. لا تقولوا: قال فلان، فما أذكركم إلا بقول الله. اذكروا ابن عباس حبر هذه الأمة، وهو يقول لمن جادله بقول نسبه إلى العمرين: "يوشك أن ينزل الله عليكم ناراً من السماء، فتحرقكم أأقول لكم: قال الله. وتقولون لي: قال أبوبكر، وقال عمر؟" فاحذروا أن يقع بكم ما أشفق من ابن عباس على مجادليه، واختر يا سماحة الشيخ للمحاجة أي مكان تشاء، ولن أقول لك قبلها: أنا المصيب، وإنما أقول لك ما علمه الله لنبيه – وهو الذي ملأ الله قلبه باليقين الثابت والهدى والحق – (34: 24 وإنا، أو إياكم، لعلى هدى، أو في ضلال مبين).
أما أن تشكو منا إلى النيابة – ولها احترامها – فهو فرار جبان من صدمة الحق، وعجز ذليل في الدفاع عن الرأي، ولا نرتضي – رغم ما صنعت بنا – أن تمشك ريبة من تلك النقائص، وأنت العالم الكبير الذي تولى من قبل الخطير الكبير من مناصب الأزهر!.
الفصل الرابع
وحدة الأديان
آمنت الصوفية بأن الله سبحانه هو عين خلقه، هذه الأسطورة – أسطورة وحدة الوجود – استلزمت عند الصوفية الإيمان بوحدة الأديان سواء منها ما نسجته عناكب الأوهام، وافترته أساطير الخيال، وفارت به الشهوات، أو ما أوحاه الله إلى رسله، ولهذا آمن الصوفية سلفهم وخلفهم بأن الإيمان والتوحيد عين الكفر والشرك، وبأن الإسلام على هداه وقدسه، عين الدين المجوسي في ضلاله ورجسه.
دين ابن عربي
وكعهدك بي أذكرك بما اختلقوه من إفك حول تلك الأسطورة؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حىّ عن بينة.
يقول ابن عربي:
عقد الخلائق في الإله عقائداً……وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه (انظر شرح الفصوص لعبد الرحمن جامي شرح الفص الهودي)
ويقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي……إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة……فمرعى لغزلان، ودير لرهبان
وبيت لأوثان، وكعبة طائف………وألواح توراة، ومصحف قرآن(216/90)
أدين بدين الحب أني توجهت……ركائبه، فالدين ديني وإيماني(ص 39 ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق لابن عربي)
ويحذر ابن عربي أتباعه أن يؤمنا بدين خاص، ويكفروا بما سواه، فيقول: "فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص، وتكفر بما سواه، فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك "هيولي" (الهيولي لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة، وفي الاصطلاح الفلسفي هي "ما به الشئ بالقوة، أو جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجيم من الاتصال والانفصال"، وقد استعملها ابن عربي هنا بمعنى القابل، أي الذي تنطبع فيه صور المعتقدات كلها، وينفعل بها، وتصدر عنه أفعاله طبقاً لمعتقداته المتنوعة.) لصور المعتقدات كلها، فإن الله تعالي أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور، وكل مأجور سعيد، وكل سعيد مرضي عنه(ص 191 وما بعدها فصوص الحكم بشرح بالي ط 1309هـ).
وهذا الدين الأسطوري يستلزم حتما\ً نفي عذاب الآخرة، فرب الصوفية في دينهم كل مشرك وكل موحد، ويستحيل أن يعذب الرب نفسه، ولهذا يقول ابن عربي:
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده…ومالوعيد الحق(يعني بالوعد النعيم في الآخرة، ويعني بالوعيد عذاب الآخرة. يريد من هذا نفي العذاب مطلقاً في الآخرة حتى للمشركين) عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء، فإنهم……على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد…وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذاباً من عذوبة طعمه…وذاك له الكقشر، والقشر صائن(ص 94 فصوص جـ 1 بتحقيق الدكتور عفيفي).(216/91)
وهكذا يوغل ابن عربي إيغالاً سحيقاً في الغلو العجيب من التناقض، ويكدح شيطانيته؛ لتبتدع من البدع ما يقضى به على بقية الخير اليتيمة من إيمان المسلمين! لقد آمن بأن الرب عين العبد، وأن الإيمان صنو الكفر حقيقة وغاية ، فما الذي يمنعه من الإيمان بأن الوعد عين الوعيد؟ وأن نعيم الجنة وكوثرها عين عذاب السعير وغسلينها؟ لم يمنعه شئ، فصرح كما ترى به! فأي قضاء على الدين والأخلاق، أشد طغياناً من ذلك، إذا كان العمل الصالح يستوي والعمل الخبيث، وإذا كانت الفضيلة عني الرذيلة، وإذا كان الخير قرين الشر، وما مصير الإنسانية لو أنها آمنت بهذه الصوفية؟!
الحكم بنجاة فرعون
وبهذا يحكم ابن عربي بنجاة فرعون موس، يقول معقباً على قوله تعال (قرة عين لي ولك) : "فبه قرت عينها بالكمال الذي حصل لها، وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهراً مطهراً، ليس في شئ من الخبث (ص 201 المصدر السابق) ويقول عن فرعون أيضاً : "فنجاه الله من عذاب الآخرة في نفسه، ونجى بدنه، فقد عمته النجاة حساً ومعنى (ص 212 المصدر السابق)".
واقرأ بقية ما افتراه في "الفص الموسوي" من كتابه الفصوص، ففيه يفضل فرعون على موسى!.
دين الجيلي
الجيلي يؤمن بوحدة الوجود، كما بينت لك، وأنقل لك هنا نصاً يدينه، ويكشف عن معتقده هذا، وهو إيمانه بأن الله عين خلقه.
وما الخلق في التمثال إلا كثلجة…وأنت بها الماء الذي هو تابع
وما الثلج في تحقيقه غير مائه…وغيران في حكم دعته الشرائع(تأمل سخريته بالشرائع، لا لشئ سوي أنها تحكم بالمغايرة بين الخلق والخالق في الذات والصفات. والجيلي يشبه الوحدة بين الله وخلقه بالوحدة بين الثلج والماء، فكلاهما عين الآخر، فالثلج ماء متجمد، والماء ثلج ذائب، فالمغايرة بينهام في الاسم، لا في الحقيقة، كذلك الله وخلقه، إذ المغايرة بينهما في الاسم فقط، كالمغايرة بين الماء في حال تجمده، وبينه في حال ذوبانه)(216/92)
ولكن بذوب الثلج يرفع حكمه…ويوضع حكم الماء، والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البها…وفيه تلاشت، وهو عنهن ساطع(ص 23جـ1 الإنسان الكامل للجيلي ط 1293هـ) ولإيمان الجيلي بوحدة الوجود، آمن بوحدة الأديان.
وأسلمت نفسي حيث أسلمني الهوى…ومالي عن حكم الحبيب تنازع
فطوراً تراني في المساجد راكعا……وإني طوراً في الكنائس راتع
إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً……فإني في علم الحقيقة طائع (ص 143جـ1 إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة ط 1231هـ)
ويقول مفسراً لا إله إلا الله: "يعني الإلهية المعبودة ليست إلا أنا، فأنا الظاهر في تلك الأوثان، والأفلاك والطبائع، وفي كل ما يعبده أهل كل ملة ونحلة، فما تلك الآلهة كلها إلا أنا؛ ولهذا أثبت هلم لفظ الآلهة، وتسميته لهم بهذا اللفظ من جهة ما هم عليه في الحقيقة تسمية حقيقية لا مجازية... أنه أراد أن يبين لهم أن تلك الآلهة مظاهر، وأن حكم الألوهية فيهم حقيقة، وأنهم ما عبدوا في جميع ذلك إلا هو، فقال : لا إله إلا أنا، أي ما ثم من يطلق عليه اسم الإله إلا وهو أنا .. لا إله إلا أن، أي ما ثم إلا أنا، وكل ما أطلقوا عليه اسم الإله، فهو أنا(ص 69 جـ 1 الإنسان الكامل للجيلي، وتراه يصوب عبادة الأصنام، وعبادة الأفلاك، وعبادة الطبيعة، لأن هذه الأشياء التي عبدت ليست إلا ذات الله متعينة في تلك الصور، ومسماة بتلك الأسماء!!)".
هذه الوثنية الطاغية الجاحدة تبشر بها الصوفية حفية دائماً بتقديس عدو الله، كفرعون، وإبليس، ثم تزعم للناس أن أقطابها أحباء الله وأودّاؤه، وأنهم مشارق ألوهية وربوبية، وأن لهم القدرة الخلاقة القهارة التي تسخر الوجود كله لقبضتها الظلوم! لقد مجد ابن عربي فرعون، حتى فضله على موسى كليم الله، وهاهو الجيلي يمجد إبليس العدو الأول لله وللبشرية!(216/93)
يقص الله علينا إباء إبليس عن السجود لآدم، وقوله :"أناخير منه" فيقول الجيلي: "وهذا الجواب يدل على أن إبليس من أعلم الخلق بآداب الحضرة، وأعرفهم بالسؤال، وما يقتضيه من الجواب" واقرأ بقية خطاياه في كتابه "الإنسان الكامل"؛ لتراه في إعجابه الرائع بإبليس، وتقديسه له، وحكمه بأنه في الفردوس يوم القيامة، يقول الجيلي ص 42 جـ 2 من الإنسان الكامل " لايلعن إبليس أي لا يطرد من الحضرة الإلهية إلا قبل يوم الدين؛ لأجل ما يقتضيه أصله، وهي الموانع الطبيعية التي تمنع الروح عن الحقق بالحقائق الإلهية، وأما بعد ذلك فإن الطبائع تكون لها من جملة الكمالات فلا لعنة، بل قرب محض، فحينئذ يرجع إبليس إلى ما كان عليه عند الله من القرب الإلهي.. قيل إن إبليس لما لغن هاج وهام لشدة الفرح حتى ملأ العالم بنفسه، فقيل له: أصنع هكذا، وقد طردت من الحضرة؟ فقال: هي خلقة أفردني الحبيب بها لا يلبسها ملك مقرب ولا نبي مرسل" هذا نص الجيلي بلفظه!
دين ابن الفارض
يقول في تائيته الكبرى:
فبي مجلس الأذكار سمع مطالع…ولي حانة الخمار عين طليعة
وما عقد الزنار حكما سوى يدي…وإن حل بالإقرار بي، فهي حلت
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد…فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار توراة الكليم لقومه……يناجي بها الأحبار كل ليلة
وإن خر للأحجار في البد عاكف…فلا وجه للإنكار بالعصبية
وما زاغت الأبصار من كل ملة…وما راغت الأفكار من كل نحلة
ومااحتار من للشمس عن غرة صبا وإشراقها من نور إسفار غرتي
وإن عبدالنار المجوس،وما انطفت كماجاء في الأخبار في ألف حجة
فما قصدوا غير، وإن كان قصدهم…سواي، وإن لم يظهروا عقد نية
(الزنار هو ما يشده النصارى على أوساطهم، والبيعة (البيع) معابد النصارى، والبد هو الصنم أو بيت الأصنام، وصبا أي مال قلبه وفي البيت قبل الأخير، يشير إلى مايقال من أن نار المجوس التي ظلت تشتغل ألف عام خمدت ليلة مولد النبي)(216/94)
حانات الخمر، ومواخير الخطايا، وصلوات اليهود (أماكن عبادتهم) وبيع النصارى وهياكل المجوس والصابئة، وبيوت الأصنام، ومجالس الذكر، ومساجد الله، كلها عن ابن الفارض ساح فساح يعبد فيها الله عبادة يحبها ويرضاها (يقول جولد زيهر: "مهما تظاهر الصوفيون بتقديرهم للإسلام، فلغالبيتهم نزعة مشتركة إلى محو الحدود التي تفصل بين العقائد والأديان، وعندهم أن هذه العقائد كلها لها نفس القيمة النسبية إزاء الغاية المثلى التي ينبغي الوصول إليها، ص 151 العقيدة والشريعة.)
الفصل الخامس
شيوخ الصوفية وكراماتهم
عبادة الأحبار والكهان
(لا ينكر مسلم إكرام الله لأوليائه بما وعدهم به من أن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونستطيع أن نعرف من القرآن ما يكرم الله به أولياءه فقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون المتقون، فاقرأ في القرآن ما أعده الله للمؤمنين المتقين، تعرف ما يكرمهم الله به، ولكنك لن تجد فيه ما يزعمه الصوفية)(216/95)
ما ألحفت الصوفية في شئ إلحافها في الدعوة إلى اتخاذ شيوخها أرباباً من دون الله، ففرضت على الدرويش أن يكون وطاءً ذليلً لشيخه مستعبد الفكر سليب الإرادة كجثة الميت في يد الغاسل، وجعلت هذه العبودية الممتهنة أولى الدلائل على طاعة المريد لشيخه، وعلى حبه له، وعلى أنه يرقى معارج الوصول إلى حظائر القدس. اسمع إلى طيفور البسطامي يقول :"من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان (ص 147 كتاب الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية ط 1913م)" وغلى صاحب لطائف المنن يزعم : "من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع، ويكشف له عن قلبه القناع، فهو في هذا الشأن لقيط لا أب له، دعي لا نسب له (ص 146 المصدر السابق.)" وإلى محمد عثمان يقرر آداب المريد مع شيخه: "ومشاهدتك له في كل حال ورد عليك أنه بواسطته إليك يا فتى، ومنها أن تجلس جلوس الصلاة عند، وأن تفنى فيه، وألا تجلس فوق سجادته، وألا تتوضأ بإبريقه ولا تتكئ على عكازه، واسمع ما قال بعض الأصفياء: من قال لشيخه: لم؟! لا يفلح، ولتكن محضره في قلبك وخيالك، فإن غفلت عنه وقتاً، فهذا من مقتك، واجتهد في أن تنال مقام الفناء فيه، فمن ثم ترقى إلى مقام البقاء به (الهبات المقتبسة لمحمد عثمان ط 1939م) وقد نظمها مصطفى البكري، فقال:
وسلم الأمر له، لا تعترض……ولو بعصيان أتى أذى فرض
وكن لديه مثل ميت فأنى……لدى مغسل؛ لتمسى داني
ولا تطأ له على سجادة……ولا تنم له على وسادة(بلغة المريد للبكري)
وقد سبقه الجيلي بهذا.
وكن عنده كالميت عند مغسل…يفلبه كيف يشاء، وهو مطاوع(منحة الأصحاب للرطبي ص 75).(216/96)
وتحتم الصوفية على المريد ألا يعصى شيخه في أمر أو نهي، وإن رآه يخالف السنة المحمدية (انظر ص 131 قواعد الصوفية) وكلي يظل الدرويش تحت قبضة الشيخ يستذل كرامته، ويغصبه ماله وعرضه، قررت الصوفية على لسان الشعراني أن من أشرك بشيخه شيخاً آخر وقع في الشرك بالله (ص 154 المصدر السابق)، وأن من أخذ الطريق على غير شيخه، كان على غير دين (ص 103 جـ 2 لطائف المنن وقد شاكلوا الإسماعيلية في ذلك إذ يزعمون أن من أشرك مع إمامه سلطة أخرى أو ارتاب في وجوب الطاعة له، كان كمن أضاف للنبي نبياً آخر، وكمن شك في نبوته، وبذا صار كمن وضع مع الله إلهاً آخر. انظر ص 218 العقدية والشريعة لجولد زيهر). وكتب الصوفية طافحة بمثل تلك المنكرات التي تهدر الكرامة والقيم الإنسانية النبيلة، وتجعل من الإنسان لقى طريح الذل والهوان والصغار، وموطئاً مستعبدا لكل نعل نجسة باغية الوطء، تنزو بالرجس الحقير، وهذا سر ما ترى عليه الصوفية من انشطارها شطرين، شطر معبود، وآخر عابد، وسر ما يروعك إذ تبصر شيخاً كبيراً كبيراً يلعق نعل طفل صغير ما زال يتعثر في خراءته، ويتلطخ بنجاسة بوله!! لا لشئ سوى أنه حفيد مولاه شيخ الطريقة، ففيه سره، وفيه ربانيته (نصبت مشيخة الطرق طفلاً سنه خمس سنوات شيخاً لسجاة كبرى في مصر انظر ص 154 المجموعة الدمرداشية!!) وسر مخالفة الصوفية جميعاً عن أمر الله؛ لما يدينون به من أن شيوخهم لا يهمسون بهمسة إلا عن وحي من الله، فقلوبهم العروش التي استوى عليها برحمانيته، وسماوات كبريائه وجلاله وجماله، وأقداس وحيه التي يفيض منها هداه!! يقول القشيري: "من صحب شيخاً من الشيوخ، ثم اعترض عليه بقلبه، فقد نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة!! على أن الشيوخ قالوا: حقوق الأستاذين لاتوبة منها (ص 151 الرسالة للقشيري.)
لماذا يتوسل الصوفية بالقبور(216/97)
لن أجادلك هنا يا سماحة الشيخ في توسل الصوفية بالمقبور، وبالقبو (قال الجنيد عن قبر معروف الكرحي: "قبر معروف ترياق مجرب يستشفى به ويتبرك" انظر ترجمة معروف في الرسالة للقشيري والطبقات للسملي، وهكذا عبدت الصوفية القبور منذ نشأتها!!) فإنه أهو ما تقترف الصوفية وضحاياها من وثنية، وأحبارها لا يتراءون بالولاء الخاشع لأصنام القبور حباً في المقبور، بل لما يجمع لأوثان الموتى من نذور!!
آراء المستشرقين في التوسل(216/98)
يقول جولد زيهر: "بقى كثير من عناصر الديانات السابقة للإسلام، واستأنفت حياتها في المظاهر العديدة الخاصة بتقديس الأولياء. وفي الحق ليس من شئ أشد خروجاً على السنة القديمة من هذا التقديس المبتدع المفسد لجوهر الإسلام والماسخ لحقيقته، وإن السنى الصادق الحريص على اتباع السنة لا بد أن يعده من قبيل الشرك الذي يستثير كراهيته واشمئزازه" ويتحدث عن تقديس العامة للأولياء، فيقول: "وأضرحة الأولياء والأماكن المقدسة الأخرى هي موضع عبادتهم التي يرتبط بها أحياناً ما يظهره العامة من تقديس وثني غليظ لبعض الآثار والمخلفات، بل إن العامة تخص الأضرحة ذاتها بمالا يقل عن العبادة المحضة" ويتحدث عن الولي المحلي: "ويخشى الواحد منهم أن يحنث في يمين حلف فيه باسم الولي أكثر مما يحمر خجلاً عندما يحلق بالله باطلاً (النصوص السابقة عن ص 234، 232 العقيدة والشريعة)" ويقول رونلدسن: "بالرغم من التوحيد المصرح به في القرآن فإن الأمم الإسلامية، لا زالت تحتفظ بكثير من العادات الوثنية؛ فإن من أهم الصفحات في الحياة الدينية للعوام في جميع الأمم الإسلامية، هو تقديسهم لقبور الصالحين، وفي هاتين القضيتين ساير العلماء المحدثون (التعميم الخطأ، فالمحدثون يرون هذه البدعة من الشرك، ولعله يقصد من وضعوا الأحاديث التي نسبت زوراً إلى رسول الله، وترشح لقبول هذه البدعة.) اندفاع الرأي العام، وقد أصبح لكل قوم أئمة محليون يزورون قبورهم وآثارهم، فيفرح ذلك الإمام، ويشفع لهم، وينجيهم من الفقر والمرض (ص 266 عقيدة الشيعة)!!" وهكذا يدع الصوفية الفرصة سانحة لعدو الإسلام، ليجدف عليه بما يقترف الصوفية!! تأمل فيما قاله، تجده صوفية مصورة بكل خبثها!!.(216/99)
لن أجادلك في التوسل، وفي أنه شرك أصم، إذ التوسل خبث شرك آخر أشد خبثاً منه، فالصوفية يعتقدون أن أولياءهم ليسوا بشراً، وإنما هم آلهة تخلق ما تشاء وتختار، أوهم – كما نقلنا لك من قبل – ذات الله سبحانه وتعالى تجسدت مرة فكانت تيجانية، وأخرى، فكانت نقشبندية، وأخرى، فكانت رفاعية، أو شاذلية، أو برهامية!!
صوفي يخطب الجمعة عارياً
الشعراني كاهن الخطايا الصوفية، يبشر بها، ويكافح في سبيل الدعوة إليها، وعجيب أن ترى الشعراني يعقد على ذكر كل اسم صوفي يتنزى جسده فاحشة بقوله: "رضي الله عنه" ! اسمع إلى الكاهن يبشر بهتك العورة كرامة! "ومنهم الشيخ إبراهيم العريان، كان يطلع المنبر، ويخطبهم عرياناً، فيقول: السلطان، ودمياط، وباب اللوق، بين الصورين، وجامع طولون، الحمد لله رب العالمين، فيحصل للناس بسط عظيم (ص 129 جـ 2 الطبقات اللشعراني ط ابن شقرون).
أمن رفيف الروحانية بعبير القدسية من الولى على حشد محشود بعورة مكشوفة، وهذيان مخبول؟!
تصور، واجعل خيالك رحيباً رحيباً مجنحاً بتهاويل الشاعرية، حتى يمكن أن يتصور مشهد ولي يبارك المصلين بهتك عورته!!
تصور ذلك المعبود يصعد إلى المرقاة الأخيرة من المنبر في يوم جمعة، حتى إذا أنعم الشهود فيه الأبصار، وحدقوا إليه بالأفكار، ورنوا إليه بالقلوب، ابتغاء ترشف العظة الهادية. حتى إذا هومت عليه النواظر، وطافت به المشاعر، وحومت حوله الأحلام والعواطف، هتك الستر عن عورته فضلاً منه ونعمة؟! ذلك المعبود على منبره، في جامعه، في جمعته يجمع الناس حوله؛ ليعظهم عظة تصله بأسباب السماء، فيسمعهم ذلك الهراء المخبول، وهو منهتك السوءة: "باب اللوق. الخ".(216/100)
تلك الصورة الوثنية التي يراها الخيال الفسيح الذي قد يستشرف غيب الأبد، وقنة الأزل في تصوراته، ويهب للمستحيل أحياناً وجوداً في تهويماته – يراها أشد استعصاء عليه من تصور وجود المستحيل، بيد أن الشعراني يؤكد لنا أنها حقيقة صوفية، فيدين بها، ويبشر بها، ويدعو الله أن يعغمر مقترفها برضاه، ولا يأخذنك العجب؛ فإنه صوفي!.
إننا نعرف من كتاب الله أن الآديمة عوقبت على ذنبها الأول بكشف السوءة! (7: 22 فدلاهما بغرور، فما ذاقا الشجرة، بدت لهما سوءاتهما).
فماذا يريد الشعراني من دين؟
……صوفي يبهت البرئ بذنبه
ويمضي الشعراني في تمجيد شيخه العريان فيقول :"وكان يخرج الريح بحضرة الأكابر، ثم يقول: هذه ضرطة فلان، ويحلف على ذلك، فيخجل ذلك الكبير منه(نفس الصفحة والمصدر السابق)".
ولشد ما يشدخ العجب رأسه من العجب من صوفي يقدس الصوفية خطاياه، ويجعلون من معجزات قطبانيته بهت البرئ بذنب افترى هو جريرته، أو بخطيئة "ذوقية" يمجها حتى ذوق الخنفساء!.
هذا مع استحلال الكذب المفضوح العريان، مقسماً بالله على صدقه!.
أرأيت إلى الصوفية كيف تعبد خاطئاً ينفث مثل هذه اليحاميم المنتنة الخانقة في مجالس العظماء، ثم لا يمنعه فساد ذوقه، وسوء أدبه من أن يقذف سواه بذنبه، ويحلف بالله على صدق بهتانه؟!
الصوفي يؤجر على كشف عورته
وإليك ما يأفكه الدباغ: "إن غير الولي إذا انكشفت عورته، نفرت منه الملائكة الكرام، والمراد بالعورة: العورة الحسية، والعورة المعنوية التي تكون بذكر المجون وألفاظ السفه، وأما الولي، فإنها لا تنفر منه، إذا وقع له ذلك؛ لأنه إنما يفعله لغرض صحيح، فيترك ستر عورته لما هو أولى منه (ص 43 جـ 2 الإبريز للدباغ ط 1292هـ)".(216/101)
لقد جعلها الشعراني كرامة خاصة بالعريان، أما الدباغ، فيجعل كشف العورة دستوراً في الولاية الصوفية!، أما الكمشخانلي، فيحدثنا عن أنواع الأولياء المتصرفين، فيقول: "والرحمانيون وهم ثلاثة أيضاً، وهم عند الوحي يجلسون عرايا، ويسمعون الوحي ويفهمون المراد منه (ص 123 جامع الأصول في الأولياء)"! فتأمل الصوفية تزعم أن أولياءها يسمعون الوحي! ومن هم؟ سفهاء عرابيد، تخذتهم الخطايا دعاة مجونها وسفهها! وألسنة تعبر عن سوءاتها!.
جرد يا سماحة الشيخ كتيبة من علمك، وسلطان منصبك؛ لتؤدب هؤلاء الأقطاب الذين يهتكون عوراتكم، ولعل هذه العورات المتكشفة في فجور أجدر بأن تشكوها إلى النيابة ممن يدعوكم إلى سترها، ورتق فتوقها المفتضحة!.
تطور الصوفيين إلى وحوش وغيرها
يقول الشعراني عن الغمري: "ودخل عليه سيدي محمد بن شعيب، فرآه جالساً في الهواء، وله سبع عيون" يقول. عن الشيخ أبو لعي: "تدخل عليه تجده جندياً، ثم تدخل عليه، فتجده سبعاً، ثم تدخل عليه فتجده فيلاً، وكان يقبض من الأرض، ويناول الناس الذهب والفضة (ص 80، 81 جـ2 الطبقات)".
ترى لو أن مسلماً قتل صوفياً وهو"فيل، أو سبع" أتلزمه الدية، أم يلزمه القصاص؟ يزعم الشعراني أن ذلك الشيخ المتطور إلى فيل وسبع قد قطعه بعض الناس بسيوفهم، وأخذوه في تليس، ثم أصبحوا، فوجدوا الشيخ حياً جالساً (ص 80 المصدر السابق)"! خطايا: ثم ذكر الشعراني من جرائم شيوخه ما يفسد الصبي على أمه الطهور بأسلوب تستحي حتى البغي أن تهمس به في حانتها المعربدة، فاقرأه، تجد ثورة الخطيئة من جسد أو جعة الشبق!.(216/102)
اقرأ ما سجله عن كرامات على وحيش وأبو خودة (ص 122، 123جـ2 طبقات صبيح ويقول الشعراني عن أبي خودة: "وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة، أو أمرداً راوده عن نفسه، وحسس على مقعدته سواء كان ابن أمير أو ابن وزير ولو كان بحضرة والده أو غيره، ولا يلتفت إلى الناس)".، وغيرهما، ثم اذكر ما كان يقترفه المجرمون من (كلمتان غير واضحتان في السطر الثاني ص 106)، وبأية جريرة منكرة أخذهم الله أخذة رابية! وثمت ترى الشعراني يجعل من هذه الفاحشة الموبقة كرامة لسادته هؤلاء! معقباً على ذكر كل جريمة يقترفها فاسق منهم بقوله: رضي الله عنه! ولا تعجب، فتلك الجريمة دين الصوفية من قديم. قال يوسف بن الحسين الرازي: "نظرت في آفات الخلف، فعرفت من أين أتوا، ورأيت آفة الصوفية في صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، وأرقاق النسوان (ص 190 طبقات الصوفية للسلمي)". وإنه ليعترف بعدها بما يدينه بتلك الخطايا فيقول: "كل ما رأيتموني أفعله، فافعلوه إلا صحبة الأحداث، فإنه أفتن الفتن (ص 189 نفس المصدر)" ويقول: "عاهدت ربي أكثر من مائة مرة، ألا أصحب حدثاً، ففسخها على حسن الخدود، وقوام القدود، وغنج العيون، وما سألني الله تعالى معهم عن معصية (ص 191 نفس المصدر)" ويقص الخراز أنه رأى إبليس في النوم، فقال له: "تركت لي فيكم لطيفة. قلت: ما هي؟ قال: صحبة الأحداث، قال أبو سعيد : وقل من يتخلص من هذا من الصوفية(ص 232 نفس المصدر)".(216/103)
ولقد وبخ الله سبحانه قوم لوط بقوله: (26: 165 أتأتون الذكران من العالمين؟" ولعنهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، فما بالك بالصوفية، وقد اقترفت هذه الجريمة في صورة نكراء منكرة مسفة في الخزي والضعة والحقارة، اقترفتها مع الذكران ومع العجماوات من الدواب!؟ وأين؟ على قارعة الطريق، وعلى مشهد من كل رائح إلى السوق، أو غاد منه! ذلك ما ذكره الشعراني، وجعله كرامة ربانية لأوليائه، ويزيدها تفصيلاً، فيزعم أن "وحيشاً" كان يرغم صاحب الدابة على أن يستذلها له عند اقتراف الجريمة (طالعها في الطبقات جـ 2 ص 135 ط صبيح.)! وينازعني الحياء؛ لكيلا أسطر لك جرائم الصوفية بأسلوب الشعراني، فخذ بكتابه، وطالع فيه أية ترجمة لصوفي، وثمت، تطالعك الجريمة بوجهها الدميم الصفيق الغليظ المنكر!.
رمة تتصرف في الوجود
يقول الشعراني: "إن شيخي أخذ على العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد البدوي، وسلمني إليه بيده، فخرجت اليد الشريفة من القبر (يذكر الصاوي في حاشيته على شرح الخريدة للدردير، أن الرفاعي وقف تجاه قبر الرسول، وناجاه بهذين البيتين:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها…تقبل الأرض عني، وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح، قد حضرت……فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي!!(216/104)
قالوا: فخرجت اليد من القبر، ويظهر أن الشعراني أبى إلا أن تكون له ولسيده البدوي تلك الكرامة!!)، وقبضت على يدي قال سيدي الشناوي: يكون خاطرك عليه، واجعله تحت نظرك، فسمعت سيدي أحمد يقول من القبر: نعم!. ولما دخلت بزوجتي، وهي بكر، مكثت خمسة أشهر لم أقرب منها، فجاء، وأخذني، وهي معي، وفرش فرشاً فوق ركن قبته، وطبخ لي حلوى، ودعا الأحياء والأموات إليه، وقال: أزل بكارتها هنا، فكان الأمر تلك الليلة، وتخلفت عن حضوري للمولد، وكان هناك بعض الأولياء، فأخبروني أن سيدي أحمد البدوي كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح، ويقول: أبطأ عبد الوهاب، ما جاء!" ثم يزعم أن البدوي يدعو العرب والعجم ويسوقهم في مولده، وأنه أرى الشعراني كثيراً من الأحياء والأموات من الشيوخ والزمني بأكفانهم يمشون ويزحفون معه يحضرون المولد (اقرأ ترجمة السيد البدوي في طبقات الشعراني)! ويقول عن الحريثي: "قصدته في حاجة، وأنا فوق سطوح مدرسة أم خوند بمصر، ويقول خرج من قبره يمشي من دمياط. إلى أن صار بيني وبينه نحو خمسة أذرع، فقال: عليك بالصبر، ثم اختفى (جـ 2 ص 154 المصدر السابق ويروون أن رجلاً قصد إلى ضريح صوفي "مشتكياً فمد له القبر بعود الريحان خطاباً مكتوباً فيه بيت من الشعر لم يجف مداده، انظر ص 318 جـ 2 شرح الحكم لابن عجيبة)"!.(216/105)
هنا يكاد الإنسان يفقد علقه! إذ لا يتصور حتى ممن به مسكة ولهى من عقل أن يهرف، ويخرف بمثل ذلك الخبال ولكن لا عجب، فكل صوفي عدو للعقل فوق عداواته للشرع. كل صوفي يؤمن بأن "الذوق" وحده هو وسيلة المعرفة، أما العقل عندهم، فطاغوت أخرق، أما الشرع، فمادية تنسب مخالبها في الصخر، دون أن ترمق السماء بنظرة واحدة! أو هو نوع من عبادة التاريخ الميت؛ ولهذا تتباين عندهم قيم الأشياء، تبعاً لتباين الأذواق! وقد يرى الصوفي الباطل، فيما يرى غيره فيه الحق! و لا يضيرهم أن يتوتر التناقض بين ما يؤمن به صوفي، ويكفر به آخر غيره، فكلاهما في الدين صوفي على حق.
ولعل هذا سر فريتهم "من اعترض، انطرد!" إذ ربما حكمت بالشرع أو بالعقل على شئ ما بأنه باطل، وهو في "ذوق (لا يعرف القيصري الذوق بقوله: "ما يجده العالم على سبيل الوجدان والكشف لا البرهان والكسب، ولا على طريق الأخذ بالإيمان والتقليد" ص 193 مطلع خصوص الكلم، أو هو "أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البوارق المتوالية عند أدنى لبث من التجلي البرقي" ص 101 جامع الأصول للكمشخانلي، ويقول ابن عربي: "اعلم أن العلوم الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة مع كونها ترجع إلى عين واحدة" ص 107 فصوص الحكم ط الحلبي، ويعني بالعين الواحدة : الذات الإلهية!!" شيخك حق! فتعرض نفسك للطرد من حظيرته.(216/106)
على هذا يحمل الشيوخ الدراويش، ويستعبدونهم، فما يفعل الشيخ من شئ، إلا ويوحي إلى درويشه أنه أنه فعله عن أمر إلهي، وإن يكن ما فعله خطيئة خاطئة. ولا يملك الدرويش إلا أن يؤمن! ألا ترى الجنيد يجيب – حين سئل: أيزني العارف؟ - بقوله: "نعم! وكان أمر الله قدراً مقدوراً" ! حق لونه بباطل. ذلك الجنيد! زان ويسميه عارفاً! أي مؤمناً بلغ ذروة الإيمان، لأنه رأي القضاء في لوح الغيب فنفذه (يقول الدباغ: "إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصى، وهو ليس بعاص، وإنما روحه حجبت ذاته، فظهرت في صورتها، فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية" ص 23 جـ 2 الإبريز. ويقول: "يتصور في طور الولاية أن يقعد الولي مع قوم يشربون الخمر، وهو يشرب معهم، فيظنونه أنه شارب الخمر، وإنما تصورت روحه في صورة من الصور وأظهرت ما أظهرت" ص 41 المصدر السابق. وهكذا يقررون أن الرذيلة فضيلة.)!.
والرسول يقول "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
تنكر الصوفية على العقل أنه وسيلة إلى المعرفة، ويرهقها حنقاً من أن يحكم بالمغايرة بين الضدين، أو بين النقيضين، وتنكر على الشرع تفرقته بين الإيمان والكفر، أو الخير والشر؛ إذ لا تؤمن بغير "الذوق" سماء وحي، وقدس إلهام!
ولهذا كان من اصطلاحاتهم إلى المعرفة، كان حقاً من العارفين بكنه الحقائق الربانية!
أرأيت إلى الشعراني يؤكد أن سيده البدوي حي رغم تعفن البلى في رمته؟!، وأنه يطبخ ويغسل، ويدعو الأحياء والموتى إلى مولده؟! أرأيت غليه يؤكد أنه حين أخطر "الحريثي" في باله، قام من قبره، وهرول إلى مصر على قدميه من دمياط؟!.
حجة من الحق(216/107)
أسائلك – وما تضنيني كثرة التساؤل – ألهذه الوثنية صلة بقرآن، أو فكر؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ووري قبره، فيعز على ابنته فاطمة أن يهيل أصحاب أبيها العظيم التراب على وجهه الكريم، فتقول ملتاعة القلب بالأسى والحزن :"أو هان عليكم أن تهيلوا التراب على وجه رسول الله؟". ويجيبها أنس بالحق، يأسو في قلبها الحزين لوعة العاطفة، ويجلي عنه ران الهموم. "لو لا أننا أمرنا بذلك، ما فعلناه".
ترى لم لم يفصل رسول الله بعد موته في الخصومة التي احتدمت بين وزيره الأول أبي بكر، وبين ابنته الحبيبة فاطمة؟. ولم لم يحل بين عائشة وبين يوم الجمل؟ ولم لم ينذر عمر بالمكيدة التي دبرت له حتى قبل بها؟ ولماذا لم يحل بين خنجر المجوسي وبين صدر عمر الغامر (أما الشعراني، فيتحدث عن كرامة سيده الشريف المجذوب، فيقول: "ولما طعن أصحاب النوبة سيدي علياً الخواص جاءه الشريف، ورد عنه الطعنة" ص 135 جـ 2 الطبقات!!) الإيمان؟!. ولماذا لم يحم عثمان ذا النورين من قالته؟! وعلياً من السكين الخاتلة القاتلة؟!
وهذا ريحانته سيد شباب الجينة الحسين رضي الله عنه يحيط به عدوه كاليأس الظلوم بالأمل الكريم، وهاهو يرفع على يديه طفله في عمر الزهرة الندية، ثم يناشد عدوه حسوة من ماء يبل بها غليل عصفوره الظمآن!.
فلم ينل إلا سهماً غادراً ينفذ إلى صدر الصغير الرقيق!.
فلماذا لم يمدد رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بكأس من سلسبيل؟ أو ليمنع السهم الغادر عن هتك الشغاف من الطفل الصغير، ومن قتل أبيه البطل الأبي الكريم؟!
جواب ذلك كله: لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يملك شيئاً يمدهم به، أو يعين، إذ هو ميت، ولم يرو عنه في حديث صحيح أو ضعيف، ولا في تاريخ يعني بالحقائق أو الأساطير، أنه أمد بشئ، أو أعان بعون ما، بعد أن توفاه ملك الموت الذي وكل به.(216/108)
فلو أن الله سبحانه أعطى خصائص الحياة الدنيا في القبر لميت يعين بها الأحبة، أو يمدهم بقدرة منه، لوهبها لمحمد صلى الله عليه وسلم! بيد أنك ترى هذه الأحداث الجسام تدهم خيار الصحابة، والبررة الرياحين من آل بيته، فلا نسمع أنه صلى الله عليه وسلم أمدهم بشئ!؛ لأنه لا يقدر على ذلك!.
أما البدوي رغم موته، فينعم بالحياة الزاخرة القادرة في الدنيا، ويهبها لمن يشاء من الموتى، ويقضي حوائج الخلق، ويعطي العهود، ويكلم الطائفين حول صنمه، هو رمة عفنة!.
ألا ترى الشعراني يحب أن يؤكد لك أن هذا البدوي الأسطوري العجيب، أفضل وأكرم عند الله من سيد الخلق؟!
صوفي يدبر الأمر(216/109)
يقول الدباغ: "رأيت ولياً بلغ مقاماً عظيماً، وهو أنه، يشاهد المخلوقات الناطقة والصامتة، والوحوش، والحشرات، والسموات، ونجومها، والأرضين ، وكرة العالم بأسرها تستمد منه ويسمع أصواتها وكلامها في لحظة واحدة، ويمد كل واحد بما يحتاجه، ويعطيه ما يصلحه من غير أن يشغله هذا عن ذاك (ص 73 جـ 2 الإبريز للدباغ) يصف عبداً بصفات الربوبية والإلهية!! ويقول أحمد التيجاني (هو أحمد بن محمد أبو العباس ولد سنة 1150هـ) عن نفسه: "روحي" روحه صلى الله عليه وسلم تمد الرسل والأنبياء، وروحي تمد الأقطاب والعارفين من الأزل إلى الأبد (نفس ما ادعاه لنفسه الطاغوت ميرزا حسين علي الملقب بالبهاء!!)، وإذ جمع الله تعالى خلقه في الموقف ينادي مناد بأعلى صوته يسمعه كل من في الموقف، يأهل المحشر، هذا إمامكم الذي كان مددكم منه، كل ما فاض من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي. ومني يتفرق على جميع الخلائق ( ص 5 جـ2 رماح حزب الرحيم وما بعدها، ص3 جواهر المعاني ص 46، 47 جـ1 لعلي حرازم.)" ويصفه تابع له بقوله: "إذ تةجه أغنى وأقنى، وبلغ المنى ( ص 5 جـ2 رماح حزب الرحيم وما بعدها، ص3 جواهر المعاني ص 46، 47 جـ1 لعلي حرازم.)" ويصفه آخر بقوله: "لايتلقن واحد من الأولياء فيضاً من حضرة نبي إلا بواسطته ( ص 5 جـ2 رماح حزب الرحيم وما بعدها، ص3 جواهر المعاني ص 46، 47 جـ1 لعلي حرازم.)" وآخر بقوله "نفوذ بصيرته الربانية التي ظهر مقتضاها من إظهار مضمرات، وإخبار بمغيبات، ولعم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات ( ص 5 جـ2 رماح حزب الرحيم وما بعدها، ص3 جواهر المعاني ص 46، 47 جـ1 لعلي حرازم.)" ويقول البسطامي: "|رفعني "أي الله" فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد: إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت : ربني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك، حتى إذا رآني خلقك، قالوا: رأيناك لتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك (اللمع للطوسي ص 383 مطبعة بريل(216/110)
بليدن)". ونعت "حرازم" للتيجاني، بأنه يغني ويقني، ويعلم الغيب، نعت له بصفات الله. فالله سبحانه يصف نفسه بقوله: (53 : 48 وأنه هو أغنى وأقنى) (72: 26 عالم الغيب، فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، فإن يسلك من بين يديه ومن خلفة رصداً).
الكلاب أولياء الصوفية
إن البشرية في الأغوار السحيقة من تاريخها المظلم، وفي تيهها الوثني، لم تؤله كلباً، بيد أن الصوفية أرادت التجديد في صور الشرك، وأن تبتدع أصناماً جديدة، فألهت ما لم تؤله أحط الوثنيات في التاريخ!.
نقلت لك عن التلسماني اعتقاده أن رمة الكلب، هي ذات الرب الصوفي! وعن محمد بهاء الدين ما نقله عن مشائخه من تأليه الكلاب والخنازير، فاسمع على الشعراني يحدثنا عن كرامات سيدة العجمي.
"وقع بصره عل كلب، فانقادت إليه جميع الكلاب، وصار الناس يهرغون إليه في قضاء حوائجهم، فلما مرض ذلك الكلب، اجتمع حوله الكلاب يبكون، فلما مات، أظهروا البكاء والعويل، وألهم الله تعالى بعض الناس، فدفنوه، فكانت الكلاب تزور قبره، حتى ماتوا، فهذه نظرة إلى كلب، فعلت ما فعلت فكيف لو وقعت على إنسان (ص 61 جـ 2 الطبقات ترجمة العجمي)؟" ويقص الشعراني عن هذا العجمي: إنه كان يخرج من خلوته، فكل من وقع عليه نظره، انقلت عينه ذهباً خالصاً !! (نفس المصدر السابق وهذا معناه أنه رجل شديد الخطورة على الإنسانية، فكيف يكون ولياً من يكون سبباً في حرمان الناس من نعمة البصر؟ كيف يكون ولياً وهو نكبة على المجتمع)
إفك وحق(216/111)
ترى ينافحك الرضى يا سماحة الشيخ عما افتراه الشعراني؟! إني أصيح صيحة مدوية بالحق لعلها تهز ضميرك الديني، وأسائلك: أسائل ما تعلمته في الأزهر، حتى وصل بك إلى منصب القوامة المقدسة عند الصوفية على دينهم، هذا الدين الذي يفتري له كهنته و أحباره أنه ربيع الحياة الروحية الرفاف بالخير والحب!! ومعين الهداية الفياض بالحق والحكمة!! وأقباس من النور الأزلي، على أشعته يصل إلى هدفه الأبد والخلود!1 ومجالي الفردوس حيث الحور مجلوات الجمال، وحيث الملائك في سجود التسابيح!! أما هذا الدين في نظر احلق، فنفايات مجتها مجوسية الفرس، والهند، وزندقة الغنوصيين، وإلحاد الفلاسفة، ووثنية الصابئة وعبدة الأصنام!، إنه حمآة الشر والفساد من دين أولئك جميعاً، بيد أن لطواعيته أسماء إسلامية، ففتنوك بهذا الشف الرقيق، فلم ترهم، وهم يدسون السم لك في الرحيق!! إن أخس دين عبد به الشيطان، إذ افتن في افتراء بدعه!! إنه السم الزعاف يقسم لك: إنه سلافة الخلود!! والأفعوان الحقود يزعم: أنه ملاك رحمة ومحبة!! والليلة السوداء في قبر المشرك تؤكد لك أنها وضاءة صبح الجنة!! والدمامة الشوهاء تتراءى في الماخور الدنس برزة تتقتل أنوثتها الطاعية!! إنه الصوفية تزعم أنها إسلام!!.
خزي صوفي
ولقد سجل هذا الخزي والعار مستشرق إنجليزي صاحب الصوفية في مصر فأعطته العهد ثم مضى – بعد ابتلائهم – يسجل عليهم مخازيها، ويرمي بها المصريين جميعاً في كتابه: "ويزور المصريون الأضرحة معتقدين أنهم سينزلون عليهم البركات، وإما يقصد التماس البرء من مرض، أو طلب النسل، ويعتبر المسلمون أولياءهم المتوفين شفعاء لهم عند الله، ويقدمون لهم النذور (ص 167 وما بعدها كتاب "المصريون المحدثون" للمستشرق "لين" والمسلمون أبرياء من هذا الشرك الذي يقترفه الصوفيون، ويرمي به الرجل جميع المسلمين).(216/112)
ويقول: "وقد جرت العادة أن يقوم المسلمون (يحمل على المسلمين أوزار الصوفية، فما يفعل هذا مسلم. ولكنها الصوفية) كما كان يفعل اليهود بتجديد بناء قبور أوليائهم وتبييضها وزخرفتها وتغطية التركيبة أو التابوت أحياناً بغطاء جديد، وأكثر هؤلاء يفعلون ذلك رياء كما كان يفعل اليهود" ويقول جولد زيهر وهو يتحدث عن بدعة الموالد: "وكان علماء المسلمين لا يزالون حتى القرن الثامن الهجري يعدونه "أي الاحتفال بمولد النبي" مخالفاً للسنة، ونهت عنه غالبيتهم على اعتبار أنه بدعة مستحدثة في الإسلام. وتنطبق هذه الحالة أيضاً على أعياد دينية أخرى، نشأت في القرون متأخرة، واضطرت أن تجاهد؛ لكي يقرها العلماء بعد أن وصموها دهراً طويلاً: بأنها من البدع الدخيلة (ص 227 العقيدة والشريعة)" ويقول جوتييه: "وتقديس الأولياء إلى درجة قد تقرب من العبادة الذي نراه انتشر بعد في جميع الأقطار الإسلامية يشير في الحقيقة إلى رد فعل من الأمم والشعوب التي فتحها الإسلام ضد العقلية الإسلامية التي لا تسلم بوسطاء أو شفعاء لدى الله. إن لم يثر ضد إجلال أولياء والرسول إلى ما يقرب من العبادة أي ضد هذا التغيير الخطير في العقلية الإسلامية الأولى إلا الطائفة الوهابية (ص 158 المدخل تأليف جوتييه ترجمة الدكتور محمد يوسف موسى، أما الوهابية فكلمة ابتدعها أعداء الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب مقابل نقده الحق للعصبية المذهبية المقيتة).(216/113)
لا يسوءنا أن يجل هذه المخازي أولئك المستشرقون، ويحملونها على المسلمين جميعاً، ولكن الذي يجب أن تخزى به، هو أن ندع هؤلاء الصوفية يقترفون هذه الجرائر، وينفثون سمومها، فيكيد للإسلام بها عدوه، ويرمي المسلمين جميعاً بالحماقة والغباوة وعبادة الأساطير، ويقول في كل كتاب: هذا هو الإسلام!! ويهم يوقنون أنه دين الصوفية، لا دين الله، ولكنهم عدو يهتبل الفرصة؛ ليمحق بها عدواً له، ربما أخذتنا العزة ضد هؤلاء المستشرقين وحدهم، بيد أن الواجب هو أن تأخذنا العزة بالحق، فنجتث الصوفية من أصولها، وكفاها أن جعلت عدو الإسلام يحمل كل خزي لها عليه!! ليس أولئك المستشرقون هم عدونا الأول، وإنما عدونا من ملكهم هذه السلاح يقاتلوننا به. وليس غير الصوفية!!
أنواع الكرامات
يزعم المناوي أن للصوفيين أنواعاً من الكرامات.
"النوع الأول: إحياء الموتى، وهو أعلاها، فمن ذلك أن أبا عبيد اليسري الدماميني أحضر له فراخ مشوية فقال: طيري بإذن الله تعالى، فطارت. ووضع الكيلاني يده على عظم دجاجة أكلها، وقال لها: قومي بإذن الله، فقامت، ومات لتلميذ أبي يوسف الدهماني ولد، فجزع هليه، فقال له الشيخ: قم بإذن الله، فقام، وعاش طويلاً، وسقط من سطح الفارقي طفل، فمات فدعا الله، فأحياه (ص 11 الكواكب الدرية لعبد الرءوف المناوي ط 1938م)".
نفس المعجزات التي من الله بها على إبراهيم وعيسى، وعلى الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها!! ويقول الكلاباذي: "أجمعوا على إثبات كرامات الأولياء، كالمشي على الماء، وكلام البهائم، وطي الأرض، وظهور الشئ في غير موضعه (ص 44 التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ط 1933م) وقد نظمها حسن رضوان.
وإن تجلى جل شأنه على ……وطية بقدرة تحملا
وشاهد الأشياء تحت قبضته……وأنها تكونت عن قدرته
شهود غيب، غير أنه ظهر……عليه منه في الشهادة الأثر
ومن هنا حوال أرباب لهمم……كمشيهم فوق الماء بالقدم(216/114)
أو الهواء، أو على السحاب……أو طي أو خبز من التراب
ومن هنا دانت الصوفية بأولياء لهم "التصرف العام والحكم الشامل العام
في جميع المملكة الإلهية، وله بحسب ذلك الأمر والنهي والتقرير والتوبيخ والحمد والذم (ص 79 جـ 2 جواهر المعاني لحرازم)".
ويتحدث الكوهني عن معجزات سلامة الراضي: "حملت إحدى زوجات الإخوان، وفي التاسع مات الجنين، وبقى عشرة أيام ميتاً ببطن أمه، وعند الوضع ذاكر هذه الأخ شيخنا، فقال: كذلك يا فلان؟! وبتمامه تم الوضع طبيعياً كأن لم يكن هناك وليد مات منذ عشرة أيام. وأحد الإخوان كف بصر، فذاكر حضرة الأستاذ، فقال له: إن كتمت الأمر، أبصرت، فرضى بالشرط فمسح على عينه، فأبصر، وكان لبعض وجهاء بندر الجيزة ابنة وحيدة أصابتها حمى، وبعد شفائها، خرست، فلم تتكلم أبداً، فعرضوها على الأطباء سنوات، فلم تشف، فأحضروها لشيخنا، ونظر إليها نظرة، فسألها عن اسمها، فنطقت به، وذهب خرسها في الحال (ص 258 طبقات الشاذلية الكبرى للحسن بن محمد الكوهني الفاسي، وقد ألف كتابه في حياة شيخه "الذي مات من عهد قريب جداً)".
نفس المعجزات التي من الله بها على عيسى عليه السلام.
وهكذا تدين الصوفية بأن من أوليائها من يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى وكثير من هؤلاء الذين نسبت إليهم تلك القدر الإلهية طائفة تمردت على الله تمرد الشيطان!.
الصوفية يملكن كلمة التكوين
تزعم الصوفية أن شيوخها يقولون للشئ: كن، فيكون، فيتحدث أحدهم عن الولي الذي استخلفه الله، فيقول: "إنه خليفة يمكله الله كلمة التكوين متى قال للشئ: كن، كان من حينه (ص 8 جـ 2 جواهر المعاني لعلي بن حرازم)".(216/115)
ويقول أبو السعود: "إن الله أعطاني التصرف منذ خمس عشرة سنة، وتركناه تظرفاً" ويعلق ابن عربي على هذا بقوله: "وأما نحن، فما تركناه تظرفاً وإنما تركناه لكمال المعرفة (ص 129 جـ 1 فصوص ط الحلبي) ترى ماذا كان يعمل الله، وأبو السعود يتصرف في الوجود؟. هكذا يجعل الصوفية أولياءهم شركاء لله.
معجزات الرسل من قدرة الله
أما رسل الله، فما كانت معجزاتهم طوع أيديهم، كما تزعم الصوفية لشيوخها، ولا بأمرهم، وإنما كانت بيد الله وحده، وبأمره يكرم بها نبيه متى شاء سبحانه، ولا متى شاء الرسول. ما ضرب موسى بعصاه الحجر، أو البحر بأمره، وما انفلق البحر بقدرته، وإلا ففيم كان خوف موسى من أن يدركه فرعون وجنوده، لو أنه كان حتى على ظن من قدرة عصاه على فلق البحر؟!.
بل لماذا مسته رعدة الخوف حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم، حتى ثبته الله بقوله: (20: 68 لا تخف، إنك أنت الأعلى) هذه آية قدرة على صنع المعجزات؟ أم هو العجز البشري يضرع في صدق إلى قدرة الله المنقذة؟.
وما نزل جبريل بالقرآن على محمد بأمره، أو إرداته، بل بأمر الله وحده وإرادته (19: 62 وما نتنزل إلا بأمر ربك).
وتدبر، يتجل لك الهدى بينا من قوله سبحانه: (21: 69 قلنا: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) ما قالها إبراهيم، وإنما القائل لها – لأنه القادر عليها – رب إبراهيم. فأني من هذا زعم الصوفية، أن شيوخها يصرفون أقدار الوجود بنزعات الهوى، وعواء الشهوات؟! ويقولون للشئ كن، فيكون؟! تعالى الله عما يأفك الخراصون علواً كبيراً!.
ثم ماذا يتسفيد الخلق من دجاجة يردها الكيلاني إلى الحياة؟ ومن ذابة، يحي اليسرى منها العظام، وهي رميم؟! ومن كرامات الحريثي ووحيش يقترفان بغي الجريمة على مدرجة الطريق؟!.(216/116)
إن الصوفية – كما رأيت – قد حكمت بأن معجزات أولى العزم من الرسل طوع الهوي من البله الخرقي المشعبذين من أوليائها! فماذا يمنع أدعياء الصوفية من الزعم بأن الله سبحانه أوحى إليهم قرآناً، كما أوحى إلى محمد (ادعاها ربيب الصوفية ميرزا محمد علي الملقب "بالبا" ومن بعده مسيلمة ميرزا حسين علي الملقب بالبهاء. وادعاها غلام أحمد القادياني!!)، ما دامت الصوفية تحكم بأن معجزات الرسل أثارة من قدرة المعتوهين، ومقترفي الإثم والخطايا؟ بل ما دمتم يا كهنة الصوفية قد حكمتم بأن لأوليائكم حياة كحياة الله، وقدر قهارة شاملة، كقدرته، فالله سبحانه، يقول: (36: 78 قال: من يحي العظام، وهي رميم؟ قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة) ولقد زعمتم أن إحياء العظام، وهي رميم من قدرة أوليائكم؟ ولا ريب في أن من يقدر على أن يهب لغيره الحياة، قادر على أن يهب الديمومة لنفسه، والخلود الأبدي لحياته. وإلا، فكيف يهب لغيره، ما لا يهب، أو يستطيع أن يهبه لنفسه؟! أرأيت إلى الصوفية، كيف يصفون الحمقى الشاردين في تيه الضلالة بما يوصف به الخلاق العلي الكبير وحده؟
رجاء آخر
بودي أيها الصوفي – وإنه لود الإخلاص الصادق – أن ترفع على راحتيك كتاب الله، ثم تتدبر بعض آياته بالفكر البصير، والقلب الخشوع، والنفس المستعبرة، ويقيني أنك حينئذ، ستثور ثورة العاصفة على عاد، تدمر أصنام الصوفية وأوثانها، وترجم باللعنات الغضاب طقوسها وكهنوتها! وستغمر نفسك القلقة سكينة الإيمان، ويقين التوحيد.
إننا في قرن حطم العلم فيه الذرة، الجوهر الفرد الذي دان به الأشاعرة ركناً سادساً من أركان الإسلام، فهل يمكن أن تعين – أعانني الله وإياك- على تحطيم تلك الطواغيت الصماء، تقف عقبة كئوداً في سبيل الوصل إلى الله، وتنشر الخرافات العفنة والأخلاق العفنة، وتجمع حول عفويتها ذباباً عفناً كثيراً!.
سماع نطق الجمادات(216/117)
يعدد ابن عربي أنواع الكرامات، فيقول: "ومنها سماع نطق الجمادات على مراتب نطقها في العوائد وخرقها (ص 75 مواقع النجوم لابن عربي ط 1325هـ) والله يقول : (17 : 44 ولكن لا تفقهون تسبيحهم) فهل نصدق المفتري؛ لنكذب الله سبحانه؟! : "ومنها مكالمته للملأ الأعلى ومحادثته لهم (ص 81 المصدر السابق، وقد أخذها ابن عربي عن استاذه الغزالي، وزاد هذا فقال: إن الولي ينادى من سرادقات العز، كما نودي موسى!!)".
ترى أكلم الصديق وعمر الملأ الأعلى؟ بل أكلمه الرسل قبل البعثة، أو في غير أوقات الوحي؟ ولكن من الرسل عند الصوفية؟ إن أي زنديق صوفي أفضل عندهم من خاتم النبيين. ألا ترى البسطامي يفتري : "تالله، إن لوائي أعظم من لواء محمد (عن السهلجي والشعراني في لطائف المنن، ص 125، نقلاً عن شطحات الصوفية للدكتور بدوي) يقول : "لأن تراني مرة، خير لك من أن ترى ربك ألف مرة (المصدر السابق)".
صوفي يطوف الملكوت
يخاطب صوفي ربه بقوله : "إن قوماً طلبوك، فأعطيتهم طي الأرض، والمشي على الهواء، وكنوز الأرض، فانقلبت لهم الأعيان" ثم يتحدث عما أنعم عليه به ربه، فيقول : "أدخلني في الفلك الأسفل، فدورني في الملكوت السفلي، فأراني الأرضين، وما تحتها، إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي، فطوف بي في السماوات، وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم أوقفني بين يديه، فقال لي: سلني أي شئ رأيت حتى أهبه لك، فقلت : يا سيدي ما رأيت شيئاً أستحسنه، فأسألك إياه! (ص 103 قوت القلوب لأبي طالب المكي ط 1351هـ)" حتى عرش الله لم يستحسنه هذا الصوفي الوقح، ومع ذلك يزعم أن الله قال له : "أنت عبدي حقاً!".
أتراه، وهو يطوق بجوف الأرض، لم ير "البترول" ، فيدل على مكانه قومه؟!.(216/118)
والبيومي (هو علي بن حجازي بن محمد البيومي توفي سنة 1183هـ) يزعم أنه رأى الشيخ دمرداس في السماء، وأنه قال له : لا تخف في الدنيا ولا في الآخرة، وأنه كان يرى النبي في الخلوة، وأنه سمعه يقول لأبي بكر : اسمع بنا نطل على زاوية دمرداش، وأنه دخل على السيد البدوي، ورأى النبي عنده، وأنه خشي أن يكون واهماً في رؤية النبي، فرأى الدمرداش عند ضريحه يقول له : مد يدك إلى النبي فهو حاضر عندي (ص 320 جـ 1 عجائب الآثار للجبرتي)!.
صوفي يضمن الجنة لمن يطعمه
يزعم طاغوت التيجانية الأول ما يأتي: "أخبرني سيد الوجود يقظة، لا مناماً: كل من أحسن إليك بخدمة، أو غيرها، وكل من أطعمك يدخلون الجنة، بلا حساب، ولا عقاب، فسألته لكل من أحبني، ولكل من أحسن لي بشئ من مثقال ذرة، ومن أطعمني طعامه، كلهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب وسألته لكل من أخذ عني ذكراً، أن تغفر لهم جميع ذنوبهم، ما تقدم منها وما تأخر، وأن يرفع الله عنهم محاسبته على كل شئ، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموات إلى دخول الجنة، وأن يكونوا كلهم معي في عليين في جوار النبي، فقال لي صلى الله عليه وسلم : ضمنت لهم هذا ضمانة، لا تنقطع، حتى تجاورني، أنت وهم في عليين (ص 97 وما بعدها جـ 1 جواهر المعاني في فيض التيجاني لعلي حرازم)!".
والله سبحانه يقول لمحمد : (28 : 56 إنك لا تهدي من أحببت) ويقول محمد صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة: "اعملي فإني لن أغني عنك من الله شيئاً" وتشهد امرأة جليلة لصحابي عند موته بقولها: أشهد أن الله قد أكرمك، فيقول لها رسول الله معاتباً، يضع الصواب مكان الخطأ: "وما يدريك أن الله قد أكرمه؟ وإني لأرجو الخير والله إني لرسول الله، ولكني لا أدري ما يفعل بي غداً؟!" أما التيجاني؟! لقد قرأت قوله، فيم تحكم عليه؟، غير أني أضع إصبعك على قوله: "وكل من أطعمك" لأريك مبلغ حرص الصوفية على انتهاب أقوات الناس؟!.
قلب الصوفي أوسع من عرش الله(216/119)
يقول البسطامي: "لو أن العرش، وما حواه مائة ألف مرة ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف، لما أحس به، فقلب العبد الخصوصي بيت الله، وموضع نظره، ومعدن علومه، وحضرة أسراره، ومهبط ملائكته، وخزانة أنواره، وكعبته المقصودة، وعرفاته المشهودة (ص 120 جـ 2 فصوص الحكم لابن عربي ط الحلبين ص 141 مواقع النجوم)".
الملكوت في بطن صوفي
والدباغ الفاطمي الهدف يقول: "إني أرى السموات السبع والأرضين السبع، والعرش داخلة وسط ذاتي، وكذا ما فوق العرش من السبعين حجاباً (ص 73 جـ 2 الإبريز للدباغ)"
كرامات شتى
واقرأ في طبقات المناوي زعمه أن الصوفية يخطابون الموتى، وأن جده خاطب الشافعي رضي الله عنه في قبره، وأن روح "ذا النون المصري (هو ثوبان بن إبراهيم النوبي توفي سنة 245هـ)" كانت تدبر أجساماً عدة (سيأتيك زعم الدباغ أن روح القطب تدير 366 جسداً) وأن الخواص، كانت تنزل عليه الموائد من السماء، وأن الخضر كان يسقيه، واقرأ فيه تفضيل البسطامي (هو طيفور بن عيسى أبو يزيد البسطامي توفي سنة 361هـ) الأولياء على الأنبياء (هذا دين الصوفية، فابن عربي يقول:
مقام النبوة في برزخ……فويق الرسول، ودون الولي)
وأن طارقاً طرق بابه، فقال البسطامي: من تطلب؟ فقال: أبا يزيد، فأجابه: مافي البيت غير الله (اقرأ كل هذا في الكواكب الدرية للمناوي في تراجم من ذكرت أسماءهم)، واقرأ للسلمي زعمه أن داود والخضر، لقيا إبراهيم بن أدهم – وهو "بوذا" الصوفية – وخاطباه، وأكلا معه، وعلماه اسم الله الأعظم (ص 30، 34 الطبقات للسلمي، ص 8 الرسالة للقشيري).
الجنة والنار بيد من؟
يزعم الدسوقي أنهما بيديه، فيفتري : "أن بيدي أبواب النار أغلقها، وبيد جنة الفردوس فتحتها، من زارني أسكنته جنة الفردوس، وما كان ولي متصلاً بالله، إلا وهو يناجي ربه، كما كان موسى يناجي ربه (اقرأ ترجمة الدسوقي في الطبقات للشعراني)".
معجزات الرسل بعض كرامات الصوفية(216/120)
يفتري الدباغ هذا البهتان المجوسي، فيقول: "كل ما أعطيه سليمان في ملكه وما سخر لداود، وما أكرم به عيسى، أعطاه الله وزيادة لأهل التصرف من أمة النبي، ومكنهم من القدرة على إبراء الأكمه والأبرص. وإحياء الموتى (ص 12 الإبريز للدباغ جـ2)"
النشل كرامة صوفية
وأبى الدباغ إلا أن يفضح أقطابهم بهذه الكرامة، كرامة السرقة خلسة، فيقول: "إن الولي صاحب التصرف، يمد يده إلى جيب من شاء، فيأخذ منه ما شاء من الدراهم، وذو الجيب لا يشعر (ص 14 المصدر السابق)" والدباغ قطب صوفي معبود.
أأدلك على ردغة الوثنية في تلك الشركيات، أم تراها في غير حاجة إلى دلالة؟ وكذلك الظلام، وكذلك النتن، وكذلك اليحموم الخانق!.
الله – وتعالى علواً كبيراً – وعرشه وكرسيه، ملكه وملكوته، والعالم كله إنسه وجنه، حيوانه وجماده، علويه وسفليه. مشاعر الناس وخواطرهم وإرادتهم وعواطفهم وقلوبهم ونفوسهم. كل أولئك في دين الصوفية الآثم تحت قبضة طواغيتها، وبطشهم، وطوع سعار غرائزهم الضارية، وجنون شهواتهم المهمومة الآبقة!.
القطب وأعوانه
أسطورة خرافية، تنزع إلى تجريد الله من الربوبية والإلهية، وخلعهما على وهم باطل سمي في الفلسفة: "العقل الأول" وفي المسيحية : "الكلمة" وفي الصوفية: "القطب"!.
والقطب: هو أكمل إنسان متمكن في مقام الفردية، أو الواحد الذي هو موضع نظر الله في الأرض في كل زمان، عليه تدور أحوال الخلق، وهو يسري في الكون، وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد، ويفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وقد يسمى "الغوث" باعتبار التجاء الملهوف إليه (انظر جامع الأصول للكمشخانلي والتعريفات للجرجاني تحت مادة "قطب").
القطب القديم والقطب الحادث(216/121)
والقطب عند الصوفية نوعان. أحدهما: حادث أو حسي، وهو ما سبق الحديث عنه، والآخر قديم، أو معنوي، وهو الحقيقة المحمدية، يقول القاشاني: "وهو – أي القطب – إما قطب بالنسبة إلى ما في عالم الشهادة من المخلوقات يستخلف بدلا منه عند موته من أقرب الأبدال منه، أو قطب بالنسبة إلى جميع المخلوقات في عالم الغيب والشهادة، ولا يستخلف بدلا من الأبدال، ولا يقوم مقامه أحد من الخلائقن وهو قطب الأقطاب المتعاقبة في عالم الشهادة لا يسبقه قطب، ولا يخلفه آخر، وهو الروح المصطفوي المخاطب بلولاك، لما خلقت الكون (ص 103 جـ 2 كشف الوجوه الغر للقاشاني، وقد ادعى ابن الفارض لنفسه أنه القطب القديم وقطب الأقطاب
في دارت الأفلاك، فاعجب لقطبها الـ……محيط، والقطب مركز نقطة
ولا قطب قبلي عن ثلاث خلقته………وقطبية الأوتاد عن بديلة).
لا حركة لها، وإنما هو الروح القائم فيها جملة وتفصيلاً، ثم تصرفه في مراتب الأولياء، فلا تكون مرتبة في الوجود لعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه، فهو المتصرف في جميعها، والممد لأربابها، به يرحم الوجود، وبه يبقى الوجود في بقاء الوجود رحمة لكل العباد، وجوده في الوجود حياة لروحه الكلية وتنفس نفسه يمد الله به العلوية والسفلية. ذاته مرآة مجردة، يشهد فيها كل قاصد مقصده (ص 81 وما بعدها جواهر المعاني).
علم القطب
يتحدث تيجاني عنه بقوله: "ومما أكرم الله به قطب الأقطاب، أن يعلمه علم ما قبل وجود الكون، وما وراءه، وما لا نهاية له، وأن يعلمه علم جميع الأسماء القائم بها نظام كل ذرة من جميع الموجودات، وأن يخصصة بأسرار دائرة الإحاطة، وجميع فيوضه، وما احتوى عليه (ص 79 جـ 2 المصدر السابق)".
خصوصية القطب(216/122)
"قطب الأقطاب في كل وقت لا تقع بينه وبين الرسول حجابية أصلاً، وحيثما جال رسول الله من حضرة الغيب، ومن حضرة الشهادة، إلا وعين قطب الأقطاب متمكنة من النظر إليه، لا يحتجب عنه في كل لحظة من اللحظات (ص 63 المصدر السابق)" وحسبك هذا من تلك الأسطورة (كتبت عنه مقالاً ضافياً في مجلة الهدى النبوي) التي ألهتها الصوفية، وجعلت منها رباً أكبر يعبد ويخشى ويرهب (العجيب أن ابن الحاج – وله سابقة فضل في محاربة البدعة – يؤمن بهذه الأسطورة ويقول عن القطب "إن الله تعالى يديره في الآفاق الأربعة من أركان الدنيا كدوران الفلك في أفق السماء" انظر ص 328 مشتهى الخارف لمحمد بن الخضر الشنقيطي. وهكذا تقتل الصوفية بسمومها كل من يظن بها ظناً واحداً من خير!!).
أعوان القطب
أولاً: الإمامان، وهما يمنزلة الوزيرين له، أحدهما لعالم الملك، والآخر لعالم الملكوت. ثانياً: الأوتاد الأربعة: وقيل هم ثلاثة، لكما مات قطب الوقت أقيم مكانه واحد منهم، وعلمهم فيض من قطب الأقطاب، وإن ماتوا، فسدت الأرض! ثالثاً: الأبدال: والبدل حقيقة روحانية تجتمع إليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه وليه. وعددهم أربعون، اثنان وعشرون منهم بالشام، وثمانية عشر بالعراق! رابعاً: النجباء وهم دون الأبدال ومسكنهم مصر! وعلمهم أن يحملوا عن الخلق أثقالهم وعددهم سبعون! خامساً: النقباء وعددهم ثلاثمائة، وقبل خمسمائة، وهم الذين يستخرجون خبايا الأرض (المصدر السابق، ص 93 جامع الأصول للكمشخانلي)!(216/123)
تلك هي مملكة الأساطير التي ابتدعها خرافات الصوفية الحمقى، وخيالاتهم المخبولة (بل تزعم الصوفية أن كل صوفي يستطيع أن يكون قطباً يتصرف في الوجود. يقول أحدهم وهو يبشر الصوفية بنتيجة سلوك الطريق "وصرت أنت قطب الوجود تدوره بيدك كيف شئت" ص 114 جـ 1 الفتوحات الإلهية ط 1913م)؛ ليستعبدوا الخلق لما يشتهون، وليجعلوا منهم أخلاص رهبة منهم، وخوف مذعور. تلك هي المملكة التي ابتدعتها أوهام الصوفية إزاء ملكوت الله؛ ليغضبوا بها من الأحياء أقواتهم وإيمانهم، ومن الموتى أكفانهم! ترى ما ذا بقي لله وملائكته ورسله؟! الله أكبر، له الملك في الدنيا والآخرة.
خاتم الأولياء
وكما جعل الله للنبيين خاتماً، جعل الصوفية للأولياء خاتماً، والعنكبوت الأول الذي سال لعاله بهذه الأسطورة هو الحكيم الترمذي (هو غير صاحب السنن، فهو محمد بن علي بن الحسن بن بشير أو "بشر" الترمذي الملقب بالحكيم عاش إلى حدود 320هـ)، قال السلمي: "نفوه من ترمذ، وشهدوا عليه بالكفر بسبب تصنيفه كتاب "ختم الولاية"، وقال: إنه يقول: "إن للأولياء خاتماً، كما أن للأنبياء خاتماً، وأنه يفضل الولاية على النبوة (ص 170 جـ 2 مفتاح السعادة لطاش كبري زادة طبع الهند)" ويقول ابن تيمية عنه : "في كلامه من الخطأ ما يجب رده، ومن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية، مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما، ومنها ادعاه من خاتم الأولياء الذي يكون في آخر الزمان، وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء (ص 79 وما بعدها رسالة حقيقة مذهب الاتحاديين لشيخ الإسلام ابن تيمية)".(216/124)
وتوالت عناكب الصوفية على هذه الأسطورة، حتى قتلت بها ذباباً من الخلق كثيراً. قال ابن عربي – وهو يتحدث عن علم وحدة الوجود: "وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل، وخاتم الأولياء! وما يراه أحد من الأنبياء، أو الرسل إلا مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه –متى رأوه- إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة – أعني نبوة التشريع – تنقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً، فالمرسلون من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء (ص 62 جـ 1 فصوص الحكم ط الحلبي)
تفضيل خاتم الأولياء على خاتم النبيين(216/125)
زعم ابن عربي في النص الذي نقلته عنه آنفاً أن الرسل لا يستمدون أشرف علومهم إلا من خاتم الأولياء، وهذا يستلزم تفضيل الولي الخاتم على الرسل بعامة وعلى النبي الخاتم بخاصة، يقول ابن عربي: "ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن، وقد كمل سوى موضع لبنة، فكان صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة، وأما خاتم الأولياء، فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله به رسول الله، ويرى في الحائط موضع لبنتين، فلا بد أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكمل الحائط.. كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول" ويقول: "وفينا من يأخذه عن الله، فيكون خليفة عن الله بعين ذلك الحكم (ص 63، 163 المصدر السابق) فضل خاتم الأولياء بأمرين، أولهما: أخذ عن الله مباشرة، أما خاتم النبيين فيأخذ عن الله بواسطة الملك. الأمر الآخر: هو أنه على يديه تم الدين، فابن عربي يشير بهرائه ذاك إلى الحديث الصحيح الذي مثل فيه رسول الله ما بعث به والأنبياء من قبله ببيت كانت تنقصه لبنة، وأنه صلى الله عليه وسلم، هو الذي جاء بتلك اللبنة، يعني أنه هو الذي أتم الله به على المسلمين دينهم.
ولكن ابن عربي يزعم أن الدين كان ناقصاً لبنتين، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بواحدة، وأتى خاتم الأولياء بهذه، وبلبنة أخرى، فلم يكمل دين الله إلا علي يد خاتم الأولياء! أين هذا الإفك من قول الحق جل وعلا: (5: 3 اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً)؟!.
ادعاء كل شيخ أنه الخاتم(216/126)
يقول ابن تيمية: "ثم إن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة، لا حقيقة لها، وصار يدعيها لنفسه، أو لشيخه طوائف، وقد ادعاها غير واحد، ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل، ما تقله اليهود، ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص (ص 63 وما بعدها رسالة حقيقة مذهب الاتحاديين)" وحق ما يقول شيخ الإسلام – وعهدنا به الصدق والأمانة البالغة في النقل – فابن عربي يزعم في الفتوحات المكية أنه رأى رؤيا، ثم يقول: "ثم عبرت الرؤيا بانختام الولاية بي (ص 15 جـ 2، ص 5 رماح حزب الرحيم)" وادعتها التيجانية لشيخها أحمد. قال أحد أتباعه "الفصل السادس والثلاثون في ذكر فضل شيخنا، وبيان أنه خاتم الأولياء، وإمام الصديقين، ممد الأقطاب والأغواث ... (ص 15 جـ 2، ص 5 رماح حزب الرحيم)".
لماذا فضل خاتم الأولياء؟(216/127)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "تم صاحب الفصوص وأمثاله، بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك؛ فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة (ص 64 رسالة حقيقة مذهب الاتحاديين) وابن تيمية في فهمه الدقيق، ووعيه الكامل، وأمانته التي تستعصي على التهم يقرر الحق قوله، فقد نقلت لك عن ابن عربي ما يؤيد الحق الذي قرره ابن تيمية. وهاهو البسطامي يقول لأهل الشريعة: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت(ص 246 الكواكب الدرية للمناوي) ويقول : "خضنا بحراً، وقف الأنبياء بساحله (ص 63 جـ2 جواهر المعاني)" وقال ابن عربي: علماء الرسوم – يعني أهل الشريعة – يأخذون خلفاء عن سلف إلى يوم القيامة، فيبعد النسب، والأولياء يأخذون عن الله، ألقاه في صدورهم من لدنه رحمة منه، وعناية سبقت لهم عند ربهم (ص 246 الكواكب الدرية للمناوي) يعني أن أتباع الشريعة الإسلامية، إنما يأخذونها عن أناس طواهم الموت، أما الصوفية، فلهم الصلات المباشرة مع الله، يأخذون عنه من غير واسطة ملك أو نبي أو رسول! وبهذا كفروا بشريعة محمد، ومهدوا لأتباعهم الكفر بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
الديوان الصوفي
للصوفية أسطورة تزعم أن في الوجود ديواناً باطنياً، يحكم فيه القطب الأكبر بما يشاء، ويصرف – هو من ومعه من أقطاب صغار – أقدار الوجود. إنه عند الصوفية محكمة عليا يحاكم فيها الأقطاب أقدار الله، دون أن تستطيع أية قدة إلهية نسخ حكم لها، وقد وصف الدباغ هذا الديوان، وفصل مهامه، فلنترك له الحديث عن هذه الخرافة.
مكان الديوان وقضاته(216/128)
يقول الدباغك "الديوان يكون بغار حراء، فيجلس الغوث خارج الغار (سجل هذا على الصوفية الدرويش الصوفي الإنجليزي المستشرق ادوارد لين، فقال: "ويعتقد أن سطح الكعبة مركز القطب الرئيسي، ويفضل مركزاً آخراً بباب القاهرة المسمى: باب زويلة، ويسمى العامة باب زويلة: "المتولي"؛ لاعتقادهم أنه مركز هذا الكائن المجهول، ومن وراء مصراعي الباب العظيم الذي لا يقفل أبداً فضاء صغير، يقال: إنه مكان القطب، ويدق المصابون بالصداع مسماراً في الباب لفك السحر، كما أن المصابين بوجع الأسنان يخلعون سناً، ويولجونها في أحد شقوق الباب، وللقطب في مصر مراكز أخرى أقل شهرة، أحدها في قبر السيد البدوي، والآخر في مدينة المحلة، ويعتقد أن القطب ينتقل من مكة إلى القاهرة أو من مكان إلى آخر في لحظة، ويروي الكثير من المسلمين أن إلياس ويخلطه العامة بالخضر كان قطب زمانه، وأنه يولي الأقطاب المتعاقبين؛ إذ يقررون أنه لم يمت. ويزعمون أنه شرب من عين الحياة، ويكلف بعض الأولياء القيام ببعض الأعمال الشاقة ويقال لهم: أصحاب الدرك" ص 163 المصريون المحدثون وقد جاء هذا الانجليزي إلى مصر في القرن 19، وتصوف وأخذ العهد ثم راح يسجل الخزي الخرافي لا على الصوفيين بل على المصريين عامتهم، فانظر جناية الصوفية على مصر والإسلام!!)" ومكة خلف كتفه الأيمن، والمدينة أمام ركبته اليسرى وأربعة أقطاب عن يمينه، وهم مالكية على مذهب مالك بن أنس، وثلاثة أقطاب عن يساره، واحد من كل مذهب من المذاهب الثلاثة، والوكيل أمامه، ويسمى : قاضي الديوان ومع الوكيل يتكلم الغوث" والدباغ مغربي، ولمذهب مالك السيطرة في المغرب، فكان لا بد من هذه العصبية التي جعلت الدباغ يزعم أن أربعة الأقطاب كلهم مالكية! ترى على أي مذهب كان أولئك الأقطاب قبل مالك؟1 ولو أن المتكلم كان حنفياً، لقال: إنهم حنفيون!
أهل التصريف(216/129)
"والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث، وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته!"
الذين يحضرون الديوان ولغتهم
"ويحضره النساء وصفوفهن ثلاثة، ويحضره بعض الكمل من الأموات، ويكونون في الصفوف مع الأحياء، والأموات حاضرون في الديوان ينزلون إليه من البرزخ يطيرون طيراً، بطيران الروح، وتحضره الملائكة والجن، وفي بعض الأحيان يحضره النبي، وكلامه مع الغوث، وأما ساعة الديوان، فهي الساعة التي ولد فيها النبي، والأنبياء يحضرونه في ليلة واحدة هي ليلة القدر، فيحضره في تلك الليلة الأنبياء والمرسلون، ويحضره الملأ الأعلى من الملائكة المقربين ويحضره سيد الوجود معه أزواجه الطاهرات (هكذا في وسط الرجال؟! ومع عظم شأن ذلك الديوان، فإن الدباغ يقول عن نفسه: "إيش هذا الديوان؟ والأولياء الذين يقيمونه كلهم في صدري!! وإنما يقام الديوان في صدري والسموات والأرض بالنسبة إلى كالموزونة في فلاة من الأرض" ص 8 جـ 2 الإبريز)، ولغة أهل الديوان هي السريانية (تدبر الكيد الخفي للعربية لغة القرآن!!)؛ لاختصارها، ولأن الديوان يحضره الأرواح والملائكة، والسريانية هي لغتهم. والصغير من الأولياء يحضره بذاته!".
عدد أجساد القطب الكبير
"وأما القطب الكبير، فلا تحجير عليه، فإنه يدبر على رأسه، فيحضره، ولا يغيب عن داره؛ لأن الكبير يقدر على التطور على ما شاء من الصور، ولكمال روحه، تدبر له إن شاء ثلثمائة وستة وستين ذاتاً (أي بعدد أيام السنة الكبيسة!! فله في كل يوم إذن جسد جديد!!)".
تقاتل الأقطاب(216/130)
"وقد يغيب الغوث عن الديوان، فلا يحضره، فيحصل بين أولياء الله من أهل الديوان ما يوجب اختلافهم، فيقع منهم التصرف الموجب لأن يقتل بعضهم بعضاً (يسفكون الدم ظلماً، ومع هذا فهم أقطاب كبار يتصرفون في أقدار الوجود والله يقول : (5: 32 من قتل نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً)، وإذا حضر سيد الوجود مع غيبة الغوث، فإنه يحضر معه أبوبكر وعمر وعثمان وعلى والحسن والحسين وفاطمة وتجلس فاطمة مع جماعة من النسوة اللاتي يحضرن الديوان".
فيم يتصرف الأقطاب؟
"وأهل الديوان إذا اجتمعوا فيه، اتفقوا على ما يكون من ذلك الوقت إلى مثله من الغد، فهم يتكلمون في قضاء الله تعالى في اليوم المستقبل والليلة التي تليه (والله يقول: (31: 34 وما تدري نفس ماذا تكسب غداً)، ولهم التصرف في العوالم كلها السفلية، والعلوية، وحتى في الحجب السبعين، فهم الذين يتصرفون فيه، وفي أهله، وفي خواطرهم، وما تهجس به ضمائرهم، فلا يهجس في خاطر واحد منهم شئ غلا بإذن أهل التصرف(وصف الله نفسه بأنه عليم بذات الصدور، وقد وصف الصوفية أقطابهم بهذا وأكثر منه، فماذا تقول فيهم؟)،
وإذا كان هذا في عالم الرقا الذي هو فوق الحجب السبعين التي هي فوق العرش، فما بالك بغيره من العوالم؟!".
انعقاد الديوان في غير الغار
"ويكون الديوان في موضع آخر غير غار حراء مرة في العام في موضع يقال له: زاوية أسا1 خارج أرض سوس، بينها وبين أرض غرب السودان، فيحضره أولياء السودان، ويجتمعون في غير هذين الموضعين السابقين؛ لأن الأرض لا تطيقهم (انتهى مختصراً بلفظه من الإبريز للدباغ جـ 2 ص 2 إلى ص 9 ط 1292هـ)".(216/131)
هذا هو الديوان الصوفي، كما وصفه كاهن صوفي كبير نقلته بلفظه نفسه، بل قل: هذه هي أسطورة الوثنية المخبولة الحمقاء (دمغهم بهذا الخبال مستشرق مسيحي، فقال: "وللأولياء حكومة باطنة يرون أن عليها يتوقف نظام العالم، ورأس هذه الحكومة الأعلى يسمى: القطب، وهو أرفع صوفية في عصره، وإليه رئاسة الاجتماعات التي يعقدها في انتظام مجلس شوراه الموقر!! وأعضاء هذا المجلس لا يعوقهم عن الحضور حواجز الزمان والمكان، وإنما يأتون من أرجاء الأرض في لمحة طرف، يعبرون البحار والجبال والصحارى في ترتيب تصاعدي كما يلي: الأخيار 300، فالأبدال الـ40، فالأبرار ال 70، فالأوتاد ال 4، فالنقباء ال 3، وهؤلاء جميعاً يعرف الواحد منهم الآخر، ولا يعمل الواحد منهم إلا برضى الباقين، وعمل الأوتاد الطواف حول الأرض جميعاً في كل ليلة، فإن كان هناك مكان لم تقع أعينهم عليه، بدت فيه في اليوم الثاني شائبة نقص، فيخبرون القطب حتى يجعل همه إلى ذلك المكان المشوب، فيبرأ مما أصابه بفضل القطب" ص 119 الصوفية في الإسلام لنيكلسون ترجمة نورالدين شربية)، وكم للصوفية مثلها من أساطير!! قتلة سفاحون سفاكون للدماء، ينعتهم الدباغ بأنهم يتصرفون في أقدار الله وملكوته؟! فماذا بقي للرب الصوفي، وهذا كله في قبضة السفاكين؟!
بين الجاهلية والصوفية
كانت الجاهلية في إسفافها الوثني أقل حماقة من الصوفية، وتدبر ما قصه الله عن الجاهلية وشركها، تجدهم كانوا يوحدون الله في ربوبيته توحيداً حرمت حتى من مثله قلوب الصوفية، إن كانت لهم قلوب! يقول تعالى: (23: 84 – 89 قل: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون: لله. قل: أفلا تذكرون؟! قل: من رب السموات السبع، ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله. قل: أفلا تتقون؟! قل: من بيده ملكوت كل شئ، وهو يجير ولا يجار عليه، إن كنتم تعلمون؟! سيقولون: لله. قل: فأنى تسحرون؟!".(216/132)
هذا دين الجاهلية ولكن الله لعنهم لعناً كبيراً بشركهم، لأنهم أشركوا بالله في إلهيته، فتضرعوا إلى غيره بالدعاء.
أما الصوفية، فتدين بالقتلة، والمجرمين، وأوغاد الفاحشة أقطاباً يتصرفون في الوجود، ويسيطرون بقهرهم على سنن الكونية ونواميس الوجود التي فطرها الله وحده، وهو الذي يصرفها وحده، ويتحكمون في أقدار الله، فلا ينفذ منها إلا ما يشتهون، فأي الشركين أطغى بغياً، وأخبث رجسا؟ لقد وحدت الجاهلية الله في ربوبيته، وأشركت به في ألوهيته، أما الصوفية، فنفتهما عنه، بالعدم الصرف، أفيمكن أن يقاس إلحاد الصوفية، بشرك الجاهلية؟ أم ترى هذا ليلاً غاسقاً، وترى الإلحاد الصوفي دياجير تطغى، وتتراكم، وتطول، حتى لا يعرف أن الجواب مسفر الصبح، وضيء البيان، قوي الدلائل!
الفصل السادس
"التصوف العملي"
لقد افتروا لك أن التصوف نوعان: نظري أو إشراقي، والغاية منه معرفة الله "بالأذواق" واكتناه أسرار ربوبيته بالمواجيد، فكانت نتيجته أن دان مؤتفكوه بالوحدة التامة بين الخلق والخالق! والنوع الآخر منه هو العملي، وهو قائم على الرياضات والمجاهدات أي على الذكر والزهد والعبادة. ومحاولة التفرقة بينهما، كالتفرقة بين الخبث وريحه المنتن، فالنظري من التصوف وليد العملي؛ لأن النظرية وليدة التطبيق! وقد بينا لك دين الإشراقيين، فلنأتك بنبأ الآخرين!
دعوى الزهد(216/133)
زعمت الأوهام أن الصوفية بر زهادة، وقداسة روحانية. يعرجان بالروح إلى الملأ الأعلى، فدعني إذن أسائل كل صوفي: أليس في الإسلام ما تبلغ به النفس كمالها وسعادتها النضرة، وما تتألق به الروح، وتسمو إلى سماء الإيمان الحق، والنورانية الصافية، وما ينبغ به الفكر، فيدرك الحق إدراكاً لا يشوبه ريب وهم، ولا يريبه ظن، وما يصفو به القلب، فيفيض بالخير والرحمة والمحبة؟ أحسبت الإسلام غير مجد في تزكية الإنسان والتسامي به، حتى تفر منحدراً إلى الصوفية؟ إن في إخلاص التوحيد، وصدق الإيمان، وطيب الإحسان فيما أنعم الله به لواحة وريفة الظل، فناء الخميل، ثرة النبع في صحراء الحياة، تترغ من سلسلها العذب ما يجعل الحياة حوليك مجالى خير وسلام وصفاء، ومجاني نعمي روحي وسعادة نفسية. عبادتك الله كأنك تراه، تجريد لك من نوازغ العاطفة، أو يخمد الشعور بحق الحياة يضل به الفكر، أو تطيش الغريزة، أو تزل العاطفة، أو يخمد الشعور بحق الحياة الطيبة. إنها تطلقك في رحاب الوجود جهاداً دائباً في سبيل الحق وعملاً صالحاً تنشد به رضاء الله وحده، وتحقيق الخير العام للإنسانية، وتسبيحاً وتقديساً لله وحده، لا امتزاجاً، أو اتحاداً، كما تزعم الصوفية!.
ذلك بعض ما في الإسلام، فماذا في الصوفية؟1 فيما ذكرت لك من قبل الجواب الصادق.
إن الزهد الذي تبشر به الصوفية – حين تريد اغتصاب اليتيم والمسكين(من أعجب ما ترى. أن يدعو الشيوخ إلى الزهد. وهم يتكالبون على كل شئ خبيث، يدعون سواهم إلى الزهد؛ ليكون لهم هم وحدهم كل شئ. أفلا يدعون أنفسهم إلى التقوى؟!)- ليس من شعائر الإسلام، ولا من شرعته في شئ، مهما حاولت الصوفية توشيته؛ ليبدو لضحاياها شعيرة دينية سامية!.(216/134)
فمعنى الزهد تحقير الشئ، والتهوين من شأنه في اللغة التي شرفها الله، فنزل بها كتابه، وبهذا المعنى وردت في القرآن، ولم ترد مادتها فيه إلا مرة واحدة. قال تعالى يقص شأن السيارة الذين باعوا يوسف: (12: 20 وشروه بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين) تأمل هذه الكلمات "بخس، ودراهم، ومعدودة" ثم تأمل ورود كلمة "الزاهدين" بعدها؛ لتدرك جيداً حقيقة معناها.
فهو إذن –وهذا معناه- مما يمقته الله ورسوله، ويبرأ منه كل مؤمن بالله. ورحمته وحكمته؛ إذ معناه تحقير نعم الله، والتهوين من شأنها الأعظم.
إن في الزهد الذي تزعمونه القضاء على الفرد، وعلى قوى الجماعة الإسلامية، فيه صرف للهمم عن الجد والسعي في سبيل الخير للفرد والجماعة. والاستعمار القديم والحديث يعمل لنشر هذه الخرافة في الشرق وحمل أهله على الإيمان بها؛ ليعيش أهله أذلاء النفس مهزولي القوى؛ يرضون باللقمة الساغبة من فتات المستعمرين؛ عالة على مستعبديهم، يجرعونهم المسكنة والصغار! أشباحاً هزيلة، وظلالاً كابية لركام من الجيف!! وقد صدق الشرق في أحقاب من تاريخه خرافة الاستعمار الصوفي، فهوى من قمة المجد والقوة والحرية إلى حضيض المهانة والعبودية!(216/135)
نبئوني، ماذا يحدث لو اتخذ كل مسلم من الزهد الصوفي شريعة له؟! سيكون المسلمون – وقد حدث – فريسة هينة سهلة لكل ناب باغية، ومضغة محتقرة يمجها كل مشفر! وهذا هو هدف الاستعمار، وربيبته الصوفية التعسة! في الإسلام الذي أم الله به على عباده النعمة، وأكمل الدين، كلمة لو أخذ بها المسلمون، لكانوا مع الله وحده قلوباً عابدة، ومع إخوانهم قلوباً محبة تنزع دائماً إلى الإيثار والفداء والتضحية: إنها "التقوى" تتقي الله، فتطيعه طاعة قدسية، وتتبع رسوله. تتقي الله، فلا تغصب ما ليس لك. تتقي الله، فتعمل لنفسك ما يزكيها، ولغيرك ما يسعده، ويحفظ عليك وعليه الحياة (8: 1 فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله) ولجلال هذه الشعيرة الإيمانية كان لها من الله هذا الجزاء الأعظم (65: 2، 4 ومن يتق الله، يجعل له مخرجاً... ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً).
(7: 35 فمن اتقى، وأصلح، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون).
(7: 96 ولو أن أهل القرى آمنوا، واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) (3: 76 بلي من أوفى بعهده، واتقى، فإن الله يحب المتقين) (16: 128 إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون).
فلماذا رغبتم عن "التقوى" إلى "الزهد" وهو تراث "المانوية"؟ وقد هولتم به، كأنما هو وحده السبيل لهداية الإنسانية الحائرة؟ ترى هل ترون في القرآن للزهد ذكرا،ً أو أجراً؟!.
أصل الزهد الصوفي
أتدري عمن اقترف الصوفية دعوى الزهد الذي يحقر نعم الله، ويعمل لتحطيم كل مقومات الجماعة الإسلامية؟!(216/136)
إنهم بشروا بفتنة غيه عن المجوسية المانوية التي آمنت بألوهية الخير والشر، وبأن هذين المتقابلين في قيم الأخلاق امتزجا بربها الأكبر امتزاجاً تاماً، وأن هذا الرب "المانوي (نسبة إلى ماني بن فانك متنبئ فارسي، وقد وصى أتباعه بالزهد المسرف في الغلو. وبعدم الزواج؛ لفنى العالم، فيستطيع الرب التخلص من طبيعة الشر الكامنة فيه. وعنه استمد الصوفية ذلك. يقول أبو طالب المكي مفترياً على رسول الله هذين الحديثين: "إذا كان بعد المائتين، أيبحث العزبة لأمتي" أي عدم الزواج. وقال: "لأن يربي أحدكم جرو كلب، خير من أن يربي ولداً" نفس الدين، ونفس الهدف المانوي! انظر ص 150 جـ 4 قوت القلوب ط 1352، تجد المانوية الصرفة، ويقول الجنيد: "أحب للمبتدئ ألا يشغل قلبه بهذه الثلاث، وإلا تغير حاله، التكسب وطلب الحديث والتزوج، وأحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب؛ لأنه أجمع لهمه" إذا كان لا يتكسب وهو شاب، فمتى؟ وإذا كان لا يطلب حديث الرسول، فماذا؟ وإذا كان لا يتعلم، فأي شئ يكون هو؟ لو أننا نفذنا وصايا الجنيد لم تبق للأمة الإسلامية باقية. انظر ص 135جـ 3 المصدر السابق.)" الثنائي الطبيعة، لن يستطيع التخلص من الشر الذي يقوم ذاته، أو النجاة منه إلا بفناء العالم، فوصى "ماني" مسيلمة هذا الدين بالزهد وعدم الزواج؛ لينحدر مسرعاً إلى هوة العدم. اسمدته من "الغنوصية (معناه الاصطلاحي إدراك الأسرار الربانية بواسطة الكشف، والذي أعطاها هذا المعنى طائفة من المفكرين، عاشوا في القرون الأربعة الأولى من ميلاد المسيح، ومنهم يهود ومسيحيون ووثنيون. وأهم ما يدينون به هو الثنائية بين المادة والذات الإلهية، ومحاولة اجتياز الفاصل بينهما عن طريق سلسلة من الوسطاء، والمادة عندهم هي أصل الشر، والسبب الذي من أجله انحطت طبيعة الإنسان، ولكن الإنسان يستطيع عن طريق الخلاص "أي الزهد" أن يعود إلى الذات الإلهية والأصل الأول. انظر ص 7 التراث اليوناني للدكتور(216/137)
بدوي.)" التي زعمت أن غاية الإنسانية العظمى هي في الاتحاد بالرب!! الرب "الغنوصي" الذي صنعه الهوى، وأمدته الأساطير بالوجود الأسطوري!.
هذا هو أساس الزهد الصوفي، وهدفه، عليه قام، ويقوم، وهو كما ترى غير التقوى الإسلامية. غيرها في كل شئ، غيرها في المعنى والروح والنسب والغاية، فغاية الزهد الصوفي تدمير الجماعة الإسلامية (يتحدث جولد زيهر عن أثر الزهد الصوفي في تغيير النظر إلى المثل العليا للمسلمين: "تغير النظر إلى المثل الأعلى للحياة الإسلامية، فأصبح ينظر إليه من وجهة تخالف تلك التي أقرتها تعاليم المذاهب السنية، وهكذا أثر الصوفيون على الجماهير الخاضعة لنفوذهم، فقل إعجاب الناس بتلك السمة العسكرية لأبطال الإسلام – والشهداء الأقدمون ما كانوا إلا من فئة المجاهدين- فانصرفوا عنها، وولوا وجوههم نحو صر الزهاد الشاحبة وأجسام العباد الهزيلة والرهبان المنقطعين في الصوامع، بل إن الأبطال الأقدمين في عصور الإسلام الأولى الذين كانوا مثالاً يحتذى، صار لزاماً عليهم أن يحصلوا على صفات البطولة الجديدة، أي أنهم جردوا من سيوفهم، وألبسوا أردية الصوف!!" ص 154 العقيدة والشريعة.)، وغاية التقوى سمو بالفرد، سمو بالجماعة، وتشييد لصروح العدالة والحب والإيثار والإخاء الكامل، وبالرغم مما تأفك الصوفية من دعاوى الزهد، فإنا نرى كهانها عدواً خصيماً للقناعة، فتوجههم ضراوة الذئاب إلى الفتك بالحملان الوديعة البريئة، ويثيرهم الجشع إلى سلب ما على فم اليتيم.(216/138)
وإلا فاهدني إلى جواب ما أسائلك عنه. أيحسب قانعاً من يغصب قوت اليتيم؛ ليتخم به بطوناً تشكو البطنة؟! من يهتك عن أيامى المسكنة، وأرامل الفقر أستارهن؛ ليجعل منها للأصنام عمائم ضخمة كالداهية، منتفخة كبطون السحت، سوداء كحقد المشرك، حمراء كالجريمة المسفوحة، خضراء كالعشب السام، بيضاء كالكفن؟1 من يغصب الفتات من الغارمين، ثم يأكله من الربا الجائر؟! من تخب في الحرير، ويدب بنعليه على الطنافس، ويزعج الهامدين بأبواق سياراته، وتضج عربدته (قال أبو حمزة البغدادي، مما يرائي، ويخدع به عن حقيقة التصوف: "علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى، ويذل بعد العز، ويخفى بعد الشهوة وعلامة الصوفي الكاذب أن يستغنى بعد الفقر، ويعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء" ص 4 شرح الحكم لابن عجيبة وطبق هذا على السادة الصوفية!!)، ودراويشه من حوله يخبون في المآسي، ويدبون على الفواجع، ويقتاتون بالنكبات، ويتجرعون غصص الدموع، ويحتسون دم الجراح؟! (قال الأستاذ التابعي: "إنني أعرف شيخ طريقة اختار أحد بارات شارع شريف مقراً له. ويقصد إليه في البار المذكور أتباعه ومريدوه كلما أرادوا مقابلته في أمر ما، ويخرج إليهم ويمد يده يلثمونها، ورائحة الخمر تفوح من فمه، وقطرات الخمر على يده، وبقايا "المزة" على صدره وذقنه وأكمامه ... ويلتفت الشيخ إلى أصدقائه الجالسين في البار ويطلق نكتة ما. ويشترك معهم في الضحك من عبط المريدين والأتباع" صحيفة الأخبار 2/11/1955.).
أيحسب قناعة هذا النهم المستشري بالحرام، وذلك التكالب الضاري على سحت الأضرحة؟1 انظر إلى من حولك من كهانها، وأرني فيهم من يمسه الزهد حتى خطرة ذاهلة مضغة حيرى على شفتي يتيم محروم، نالها بعد سغب يائس!!؟ ذلك هو الزهد الصوفي، فما ذكرهم؟.
الذكر الصوفي(216/139)
في أعياد الوثنية التي يسمونها: موالد، وفي معابد الأضرحة التي يسمونها: مساجد، وفي كهوف الدراويش، وقد أتخموا بطون الطواغيت بالسحت!! في تلك الحمآت يقيم الصوفية حانات الرقص، أو ما يسمونه: الذكر، فيجلس الشيخ بين صفين من دراويش تعشقهم الرذيلة، ودرويشات نفرت منهن الفضيلة ثم يصفق بيديه اللامعتين من دسم الحرام إيذاناً ببدء الذكر، ثم يخرج من شفتيه ومنخريه اسم الله ملحداً في حروفه وفي النطق به!! وغضون جبينه تهمز الحياء وتلمز التقوى، ومنشد القوم يطربهم بالغزل الداعر في ليلى وسعاد، أو بالدفوف يدق عليها الشيطان، وبالنايات تصفر فيها الشهوة، ثم يهب الشيخ، ويهب معه المريدون، ثمت يميلون يمنة ويسرة، متأودة أعطافهم تأود الراقصات يلمحن في أيد الرواد دنان الخمر وفتنة الذهب، وما هي إلا لحظة، حتى تجن هذه الأجساد بما فيها من رغبات مكبوتة، مصفحة عن غليلها المحترق بالتأوه المخنث، والتمايل الخليع، وبالأصوات المنكرة بالمبحوحة من عويل الخطيئة والاستغاثة بزينب، أو نفيسة. لا يريدون زينت الطاهرة، ولا نفيسة العابدة. وإنما يريدون بهما شيئاً آخر!! فكل يغني على أنثاه!! وهكذا يظلون في اقتراف هذا الزور الملحد ساعة، أو ساعتين (يظل الراقص الصوفي يتخلع ساعة في حانة الذكر، دون أن يحس بملل حتى إذا وقف للصلاة "يخبط الصلوات الخمس" في خمس دقائق!! هذا لأن الرقص الصوفي شهوة وخطيئة، أما الصلاة فطهر وعبادة)، كل يريد أن يثبت للعيون الرانية في لهفة، والزعاريد المغازلة في توجع مشوق، أنه حيوان قوي الجسد!! وبعد هذا يزعمون أنها كانت من ساعات التجلي!! ولكم من أم باعت قوت يتيمها، وزوج ستر امرأته، ومدين يهلكه الدين بقية طعامه في سبيل "شيشة" الشيخ، و"حشيش" الشيخ، و"أفيون" الدراويش. وهم يرقصون في حانات الذكر!!(216/140)
أتراني بالغت؟ أم أني قصرت؟ إخالك تنزع إلى اتهامي بالتقصير، فكل ذي بصر تقع عيناه على الصوفية يعربدون في حانات ذكرهم، تقع عيناه على مشاعل المجوس، تتوهج كرغبات الفاجر!! وعلى الدفوف بأيدي فتية، أسبلوا شعورهم، وقد لمسهم الشيطان بلهيبه، فراحوا يتكسرون على النغم الشرود، ويهصرون غصونهم على النظرات المتوهجة الرغبات، وشيخ الطريقة سعيد؛ لأن شباك فتيته توقع في حبالها الهائمين، هذا يحدث، وتراه، ونراه، ولا نسمع النكير عليهم من أحد!! كأنما رذيلة القوم فضيلة مقدسة!!
ما هكذا ذكر الرسول ربه، وما هكذا ذكر الصحابة من بعده ربهم، ما ذكروه باسمه المفرد، ولا ذكروه في ميل وتأود. ما ذكروه بقيادة واحد منهم ينطق بالاسم مصفقاً، وينطقون به وراءه. ما ذكروه، ولهم منشد يغازل ليلى!! ما ذكروه وأصواتهم من ضجيجها تفزع الليل، وتصك جنباته، ما ذكروه جزاء مضغة لحم، أو نفثة "شيشة" !! ما ذكروه بالنايات والطبول والدفوف. ولكنهم ذكروه، كما علمهم رسوله، أما من ذكر الله ذكر الصوفية فهم مشركو الجاهلية (8: 35 وما صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) (المكاء: الصفير بالفم، أو التشبيك بالأصابع والنفخ فيها. والتصدية: التصفيق) وكفرة اليهودية والمسيحية!!
ذكر الصوفية بدعة يهودية
جاء في المزمور التاسع والأربعين بعد المائة: "ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص، بدف، وعود، ليرنموا... هللوا يا، سبحوا لله في قدسه، سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بصنوج الهتاف (العهد القديم. المزامير ص 641)".
وهكذا يذكر الصوفية!1 وحسبك أن ترى حانةً صوفية يذكرون بها؛ لتشهد الصلة الوثيقة بين الذكر الصوفي، والبدعة الجاهلية اليهودية!! ولكن الدباغ يزعم: "أن الصوفية يهتزون يميناً وشمالاً؛ لأن الأقطاب رأوا الملائكة تفعل ذلك" ص 72 جـ 2 الإبريز.
الشيخ جاسوس القلب(216/141)
يوجب الصوفية على الذاكر "أن يستحضر شيخه، وأن يستمد منه عند الشروع فيه، فيقول: مددك يا أستاذي، وأن يرى أن استمداده منه، عين استمداده منه صلى الله عليه وسلم، فإنه الواسطة إليه، وأن يستأذن شيخه بقلبه، فيقول: دستور يا أستاذي! وأن يستأذن أصحاب الطريق والقدم، وهم أهل السلسلة، فيقول: دستور يا أصحاب الطريق القدم (انظر ص 28 وما بعدها من رسالة لأحمد عبد المنعم الحلواني، ص 86- رسالة منحة الأصحاب لأحمد بن عبد الرحمن الشهير بالرطبي)" وهكذا توجب الصوفية على "الدرويش" أن يتلطخ بهذه الوثنية قبل أن يذكر الله، وأن يستأذن كل هذه الأصنام؛ ليتقبل الله ذكره، ويغمره برضاه! حجب صماء تمور حولها الدياجير، وتقصف الأعاصير، تضعها الصوفية في طريق السالك، حتى لا يرى شعاعة من نور!
كيفية الذكر
"أن يهتز من فوق رأسه إلى أصل قدميه، وأن يبدأ بـ "لا" يميناً، ويرجع بـ "إله" فيتوسط، ويختم "إلا الله" يساراً قبلة القلب، فإن ذكر اسما مفرداً كالله، و "هو" ضرب بذقنه على صدره، وأن يذكر مع جماعة مع رفع الصوت، وينتع الكلمة من سرته إلى قلبه (المصدر السابق)" هذه "البهلوانية" الرعناء، هي صورة الذكر الصوفي. ترى هل كان رسول الله – وهو يذكر ربه – يهتز من فوق رأسه إلى أصل قدميه؛ أو كان يضرب بذقنه صدره؟ أو كان يميل يمنة ويسرة؟ لم يفعل شيئاً من ذلك؛ لأنه نبي؛ ولأنه رجل أبي الرجولية. أما رفع الصوت، فالله يقول: (17: 110 ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلاً) وأصل الصلاة الدعاء، ولكن الصوفية بهدي ربهم يعدلون!.
صيغ الذكر الصوفي(216/142)
"من آداب المريد مع شيخه أن يذكر ما لقنه له أستاذه، فلا يتجاوزه إلى غيره (من رسالة الحلواني ص 30)" ولهذا تعددت صيغ الذكر الصوفي، تبعاً لتعدد الطرائق، وتباين الشيوخ، فمنهم من يذكر بالاسم المفرد، ومنهم من يذكر بـ "هو هو" ومنهم من يذكر بـ "أه أه". وكل طاغوت صوفي يحرم على عبدته أن يذكروا بغير ما أذن لهم فيه، أو أن يذكروا بما ترقص به الطرق الأخرى؛ لاعتقادهم أن بعض أسماء الله قد يضر ذكرها هذا، وينفع ذاك، أو تضر في حال، وتنفع في حال أخرى، والخبير بما ينفع الذاكر، أو يضره، إنما هو الشيخ؛ لهذا لا يستطيع "الدرويش" أن يذكر "لا إله إلا الله" إلا إذا أمره بها شيخه، ولا ينادي ربه بيالطيف، وإلا أصابه مس أو خبال، أو كما يسمونه "لطف"!.
اسمع إلى القديس الصوفي أبن عطاء الله السكندري يفتري الإثم الأكبر: "اسمه تعالى "العفو" يليق بأذكار العوام؛ لأنه يصلحهم، وليس من شأن السالكين إلى الله ذكره! اسمه تعال "الباعث" يذكره أهل الغفلة، ولا يذكره أهل طلب الفناء، اسمه تعالى "الغافر" يلقن لعوام التلاميذ، وهم الخائفون من عقوبة الذنب، وأما من يصلح للحضرة، فذكره مغفرة الذنب عندهم يورث الوحشة، اسمه تعالى "المتين" يضر أرباب الخلوة، وينقع أهل الاستهزاء بالدين (ص 23 وما بعدها مفتاح الفلاح ط 1332هـ)".
ويستمر ابن عطاء في سرد هذا البهتان حتى يستوفي أكثر أسماء الله. والله تعالى يقول: (17: 110 قل: ادعو الله، أو ادعوا الرحمن، أياما تدعو، فله الأسماء الحسنى) ويقول : (7: 180 ولله الأسماء الحسنى، فادعوه بها، وذروا الذين يلحدون في أسمائه، سيجزون ما كانوا يعملون) اسمه الغافر لا يصلح إلا للعوام! كأنما أولئك الطواغيت معصومون من الذنب، أو آلهة! على حين كان يستغفر الرسول ربه في اليوم مائة مرة! فهل تجد رحماً بين حق القرآن، وبين باطل الصوفية؟!
ذكر رسول الله(216/143)
ومن عبير السنة المطهرة، يسطع عليك ما يشفي روحك، فقارن بينه وبين ذلك اليحموم الصوفي. قال صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" "متفق عليه" وكان صلى الله عليه وسلم يقول دبر كل صلاة حين يسلم: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، ولا حول، ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون" "رواه مسلم" وقال: سيد الاستغفار أن تقول: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" رواه البخاري.
وفي الصحيحين عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم، إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "الله لك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض، ومن فيهن، ولك الحمد؛ أنت قيوم السموات والأرض، ومن فيهن، ولك الحمد؛ أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد؛ أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت فاغفر لي. ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت، ولا حول، ولا قوة إلا بك".(216/144)
أرأيت إلى هذا الذكر النبوي الجامع؟! إنها ضراعة النبوة والعبودية الخالصة تفتحت لها أبواب السماء، ما فيه ذكر باسم مفرد، ولا ضرب صدر بذقن، ولا هزة الرأس إلى أخمص القدم! ما فيه التناوح بالرأس يمنة ويسرة، ولا نتع من سرة إلى قلب. ما فيه منشد، ولا دف، ولا شبابة. ما في دائرة يقف في مركزها نصب يرقص الذاكرين بتصديه! إنما فيه قلب مؤمن ضارع ملأه حب الله خشية ورهبة وتقوى، يتوجه إلى خالقه الأعظم، مالك الملك كله في إيمان صادق، وتوحيد خالص، فصلوات الله وسلامه على محمد عبد الله ورسوله.
عبادة الصوفية
ذلك هو التصوف العملي في شعيرته الزهد والذكر، فما العبادة فين؟ أهي تلك الركعات، أو السجدات التي لا يقر فيها قلب، ولا جسد، ولا تسلم فيها لله خاطرة واحدة، ولا يخشع شعور، ولا يضرع دعاء؟ فإنما هي لأصنام القبور سجود وتسابيح، ولجلاميدها الصم عبودية، تطفح بالخشية منها، والتقوى لها، واللياذ بها، والذهول المستغرق إلا عنها! ألا ترى مساجد الله خراباً، ومعابد القبور، تمور بالحشود المحشودة فيها من كل صوب وحدب؟ ألا ترى مساجد الله التي طهرها الله من أوثان الأضرحة، خاوية على عروشها، أما المعابد التي جثم على صدرها قبر ميت، وثوت فيها رمته، أو وهمه، فتضيق – على رحابها الفساح – الآمين لها رجاء بركات القبر، والرمة البالية، أو الوهم الخرافي المشيد عليه القبر، أو العظام المنوعة من حيوانات شتى؛ لتنصب النذور على السدنة؟! ألا ترى تلك المعابد ينفق على فرشها وإضاءتها وتبخيرها الألوف؟! أما مساجد الله فتترك للغربان تسلح عليها، وللبوم ينعب فيها!.(216/145)
ما عبادة الصوفية؟ أهي تلك النذور يحفدون بها إلى الجيف؟ أهي هذا السجود على عتبات الأصنام دوخها وطء النعال؟! أهي هذا التقبيل الملهوف العاشق لأحجار الأوثان رجاء سلسبيل رحمة منها ومغفرة؟ أهي هذا التوسل إلى الله بعظام نخرة، وصفوان أملس، وخشب عافه السوس من طول ما طعم منه؟ أهي هذا الدعاء العريض بالهامدين في القبور، ينشدون منهم مدد الحياة، وروح الخلود؟ أهي تلك الأوراد (لكل طريقة ورد خاص بها تفضله على جميع الأوراد الأخرى، بل تفضله على القرآن، قال طاغوت التيجانية: "وسألته صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفاتح، فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون، ومن كل ذكر، ومن كل دعاء كبير أو صغير، ومن القرآن ستة آلاف مرة" ص 103 جـ 1 جواهر المعاني لابن حرازم التيجاني طريقة. فتدبر كيف تجاهد الصوفية في سبيل صرف المسلمين عن كتاب الله !!) الشركية ينعق بها الصوفية تحت سجوات ليلهم المعربد، وشفوف السحر الراقص، في هياكل الطواغيت؟! أهي هذا الحلف بالقبور والهامدين فيها، وجعل الحلف بالله عرضة للفرار من ذنب، أو جريرة؟!
ذلك هو الجانب العملي من التصوف في ذكره وزهده وعبادته، أتراه يصلح لهداية الإنسانية، وقيادتها إلى مثلها العليا؟ أم تراه يفتك بها فتك السل الدفين بالصدر الرقيق الحزين؟! أما جانبه النظري، فقد دانوا فيه كما بينت لك بأن العبد عين الرب، وبأن الشرك عين التوحيد، ذلك هو التصوف بنوعيه، إن شئت أن تجعله نوعين! فهل تراه يودي بالمسلمين إلا إلى التهلكة بعد أن يحيلهم من عباد للرحمن إلى عبدة للطاغوت؟ من أمة قوية عزيزة كريمة موحدة الغايات والمبادئ إلى أشتات واهنة، وأشباح هزيلة مستضعفة، تضرب بها الوثنية في متاهات الباطل، ويقضي عليها الوهن والذل والصغار، فتصبح المطايا الذلل للاستعمار، وأحلاف الضعة، والمهانة والاستكانة؟!(216/146)
دعاوى الصوفية وأدعيتهم
غشت الصوفية بصائر عشاقها بما تسحر به من فنون الخيال الغزلي، والشاعرية الحالمة في الصور البيانية المتأنقة الفتنة، المكحولة الروعة ذلك ما جعل بعضهم يجادلنا في شأن الصوفية، فيأتينا بأدعية ونجاوي صوفية، فيها وشي السحر الشاعر وفتنته، وبدعاوى فيها روحانية الحق وروعته، ثم يقول: أو من يقولون هذا، تفتري عليهم أنهم غير مسلمين؟!
لهؤلاء الذين خلبهم عشق الصوفية أقول: ما من كهان نحلة ضالة، أو أحبار دين زائف، إلا وناجوا معبودهم، ودعوه بما يخيل غليك من سحره أنها ضراعة نبوة في فجر الوحي، فهل نعدهم مسلمين بتلك النجاوى، وهذه الأدعية؟!
سلوهم قبل الفتنة: لمن هذه النجوى؟ ولمن تضرعون بهذا الدعاء؟ سلوهم عن صفات معبودهم، وأسمائه الحسنى، وعن شرعته التي كلفهم بها، وهناك حين يجيبونكم توقنون أنهم لا يناجون الله، ولا يدعونه، وإنما يفعلون ذلك لآلهة أخرى ابتدعوها؛ لتعبد من دون الله!.
ويذكرنا هؤلاء المسحورون بدعاوى الصوفية، إذ يفترون: "كلامنا هذا مقيد بالكتاب والسنة!" وكذلك زعمت كل فرقة نجمت في الجماعة الإسلامية؛ لتجد لها أنصاراً وأعواناً من الأغرار، الذين يخدعهم زيف القول الحلو عن رياء العمل المر! قالتها الشيعة التي تؤله أئمتها، وقالتها المعطلة، وقالتها المجسمة، وتقولها القاديانية والبهائية! وقد نقلت لك عن النابلسي – وهو صنم صوفي كبير – دعواه أن وحدة الوجود مستمدة من الكتاب والسنة!.
أنك لا تستطيع أن تمنع إنساناً من أن يدعي ما يشاء، ولكن الذي تستطيعه هو أن تبتلي دعواه، وتزنها بميزان الحق من الكتاب، وثمت تستطيع أن تحكم عليه عن بينة بالصدق، أو الكذب فيما ادعاه. وقد ابتليت معتقدات الصوفية وأربابها وآلهتها، فهل ترى لها أثارة من نسب إلى شرع، أو عقل؟(216/147)
لقد جحدت الصوفية الحقيقة الأولى، تلك التي يقررها الشرع، ويحكم بها العقل. وهي أن الله سبحانه وتعالى مغاير لخلقه في ذاته وصفاته وأفعاله، فكيف نحكم عليها بأنها تؤمن بما يترتب على تلك الحقيقة العليا من حقائق مقدسة؟ ليس المهم أن تقول، بل الأهم أن تعمل بما تقول، فهل يعمل الصوفية بالكتاب والسنة، كما ينافق بعض زعمائهم؟! ومما يجادلنا به عشاق السحر الصوفي قول ابن الفارض:
وإن خطرت لي في سواك إرادة…على خاطري يوما حكمت بردتي
وعلى ما في هذا البيت من غلو الإسراف في دعوى التجرد (للإرادة الإنسانية مجال فساح من الخير الذاتي، كإرادة الزواج. وكسب العيش، وإرادة التمتع الروحي بما أبدع الله من جمال في جنات الأرض، وما على من يريد ذلك جناح من الله ذي الرحمة. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت غرة عيني في الصلاة" وهل الحب إلا إرادة مصممة قاهرة؟ فهل أشرك محمد؛ لأنه أراد ذلك؟)، وحقارة الكذب، فإن هؤلاء ينسون قول ابن الفارض في نفس القصيدة:
فلا حي إلا من حياتي حياته……وطوع مرادي كل نفس مريدة
وينسون ما طفحت به تائيته الكبرى من زندقة باغية الجرأة، تؤكد لك أن حين يناجي رباً، فإنما يعني به أنثى مستباحة العفة، أو رمة بالية أو نفسه التي تحقق بها وجود ذلك الرب في مرتبته العينية! ويجادلنا هؤلاء بقول رابعة: "ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعاً في جنتك، وإنما عبدتك لذاتك"، ثم يهتفون لرابعة شهيدة العشق الإلهي! رابعة التي تزعم أنها تجردت من كل رغبة، أو رهبة أو طمع، أو خوف!.(216/148)
هؤلاء ينسون أن رابعة بهذا السحر الصوفي الفاتن تستشرف عزة الألوهية! وتفتري لنفسها الشائنة مقاماً يسمو عن مقام الرسل الذين جعل الله من صفاتهم أنهم يدعونه: رغباً ورهباً، أو خوفاً وطمعاً، يقول الله عن زكريا وآله: (21: 9 إنهم كانوا يسارعون في الخيرات، ويدعوننا رغباً ورهباً ، وكانوا لنا خاشعين) ثم تأمل هذه الآيات التي تنجيك من سحر رابعة: (7: 154 وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين) وصف الله من يدعونه خوفاً وطمعاً بأنهم محسنون، والإحسان أسمى مراتب العبادة، وأكمل مقامات العبودية، والعبودية هي غاية الحب، مع غاية التذلل ، فما الحب الذي تطفح به مشاعر رابعة؟!
(32: 16، 17 إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها، خروا سجداً، وهم لا يستكبرون، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، ومما رزقناهم ينفقون) أرأيت في صور القديسين الناسكين أروع من صور هؤلاء الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لذكر الله؟! ومن أخص صفاتهم دعاء الله خوفاً وطمعاً! فما حب رابعة؟!
من أخص خصائص البشرية أنه ترغب وترهب، حتى بشرية الأنبياء والرسل. ترهب وهي أسمى مقاماتها، ومن أصدق الدلائل على الحب المسيطر القاهر، أن يمتلئ القلب رغبة في المحبوب ورهبة من. رغبة في رضاه، ورهبة من غضبه (وجزاء رضوان الله في الآخر الجنة، وجزاء غضبه فيها النار، فإذا لم ترغب في جنته، فأنت غير راغب في رضاه، وإذا لم ترهب ناره، فأنت لا ترهب غضبه، وإذا لم ترغب الرضا، وترهب الغضب، فأنت دعي حب كذوب) أو جفاه، فإذا لم تكن ثم رغبة في نواله، فقد سئمته، وإذا لم تكن ثم رهبة من عقابه فقد احتقرته، كلما تسامى الحب، قويت الرغبة في نوال المحبوب، واشتدت الرهبة من حرمانه. الرغبة والرهبة جناحا الحب اللذان يحلق بهما فوق الذرى، فإذا تجردت منهما كان حبك كاذباًن لا يقهر منك شعوراً، ولا يوجه إرادة.(216/149)
ولكن رابعة تزعم أنها تجردت من تلك البشرية الطهور، بشرية القديسين، بشرية أولى العزم من الرسل! فماذا وراء هذا الزعم؟ وراءه أنها في قمتها العليا لا تدنو منها مكانة المصطفين الأخيار من أنبياء الله، وراءه أنها ليست بشراً، بل إلهاً، فالملائكة أنفسهم يرغبون، ويرهبون! وراءه اتهام صريح لمن نزل القرآن – وتعالى الله عن إفك رابعة – بأنه أخطأ حين أمرنا أن ندعوه خوفاً وطمعاً، وداجي حين رغبنا في الجنة، وخوفنا من النار.
دعواها التجرد شعور منها – وما أخبث هذا الشعور وأكذبه – بأنها ساوت من تحب!! ثم من رابعة هذه؟ أليست هي التي تقول عن الكعبة: "هذا الصنم المعبود في الأرض (ص 38 وما بعدها كتاب شهيدة العشق الإلهي للدكتور بدوي)"؟.
ثم اقرأ هذه الآية: (66: 11 وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون، إذ قالت :رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة) هذه القديسة العظيمة التي طيب الله ذكرها، وخلده في كتابه، وضربها مثلاً للذين آمنوا، إنها تضرع إلى الله؛ ليبني لها بيتاً في الجنة، أما رابعة التي لا تزن في القيمة خاطرة من امرأة فرعون، فتستعلي أن تطلب الجنة! واقرأ النور في قوله سبحانه: (9: 111 إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل) وعد كريم عظيم من الكريم القادر، يشتري به نفس المؤمن وماله، وما ذلك الوعد؟ أن تكون له الجنة، وقد وصف وعده في ختام الآية بقوله تعالى: "وذلك هو الفوز العظيم" ولكن رابعة في تعاليها الجاحد، لا تراه فوزاً عظيماً، فتطلب غيره! أليس هذا اتهاماً للكريم بالبخل، أو بأنه لم يحسن الوعد، ولا شراء نفس المؤمن وماله بالجنة؟!(216/150)
وينتفض هؤلاء إعجاباً بمعروف الكرخي (توفي سنة 200هـ وكان يقول: "إذا كانت حاجة إلى الله فاقسم عليه بي" انظر ص 9 الرسالة للقشيري مطبعة التقدم، فتأمل منذ متى كفرت الصوفية؟!، إذ يروون عنه أنه بال على شاطئ نهر، وتيمم، فقيل: يا أبا محفوظ!! الماء منك قريب!! فقال: "لعلي لا أبلغه(ص 83 طبقات الصوفية للسلمي، وقد نسبه أبو طالب إلى الرسول، انظر ص 29 جـ 3 قوت القلوب ط 1351هـ)" لقد كان رسول الله يطوف على نسائه، فيغتسل منهن جميعاً بغسل واحد، فلماذا كان لا يغتسل عقيب كل واحدة؟ بل ثبت عنه أنه كان أحياناً يبيت جنباً، غير أنه كان يتوضأ!! أكان معروف أشد خوفا من رسول الله؟ والله أرحم مما يظن معروف، لو أنه سبحانه قبض إليه عبده قبل أن يبلغ الماء القريب ليتوضأ. إنه هوس صوفي يغلو في الحب، حتى يتجرد من الرغبة والرهبة، ويغلو في الخوف، حتى يتيمم والماء منه قيد شبر واحد!! فما ندري أنحب حتى لا نخاف، أم نخاف حتى لا نحب؟! ويبهتون ابن حنبل أنه سأل بشراً الحافي عن الزكاة، فقال بشر: أما عندكم فالعشر، وأما عندنا، فالعبد، وما ملكت يداه لسيده!! وتبرق عيون الصوفية بالسرور السكران، وتميد أعطافهم من نشوة الخمر الصوفي !!.
هؤلاء ينسون الإثم الكبير في قول الصوفي الحافي: "عندنا أم عندكم" فإنه نزغة من الأسطورة الصوفية التي تزعم: أن الدين شريعة وحقيقة(يقول الدباغ: "إن الولي يسمع كلام الباطن، كما يسمع كلام الظاهر" ولهذا قدي يعصى الولي الصوفي في نظر الشريعة، فيكون مطيعاً في نظر الحقيقة. يقول الدباغ: "إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصى وهو ليس بعاص وإنما حجبت روحه ذاته. فظهرت في صورتها، فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية" ص 42 جـ 2 الإبريز. وهكذا بطلي منا الصوفية اعتقاد أن معاصيهم طاعات!!)، وأن الأولى دين الظاهرية، وأن الأخرى دين الباطنية، وقد سبق الحديث عن …ذلك؟.(216/151)
ويتناسون أنه ينتسب إلى غير أهله حين يزعم أن هذا الحق الذي قاله: "العبد، وما ملكت يداه لسيده" هو من دين الصوفية، أو من شرعة الباطن!
ثم من سيد بشر؟ (هو بشر نب الحرث أو نصر الحافي مات سنة 227هـ) لقد عرفتم سيد الصوفية الذي يعبدونه، فاعرفوا إذن سيد بشر!
ويذكرنا هؤلاء بالأدعية الصوفية التي تتبرج فيها أنوثة البيان الفاتنة، وتنهل منها دموع الحب، وتنوح جراحه، ولكني أذكر هؤلاء بأن البرهمية (نسبة إلى "برهما" الكائن الأوحد كما سمي في "الفيدا" كتاب الهند القديم المقدس، وتؤمن هذه النحلة بثلاثة آلهة "براهمان" الرئيس الأعلى، و "فيشنو" إله الحياة، والثالث "سيفا" وهو إله التدمير والخراب. وتؤمن هذه الطائفة بقدسية كهنة الدين؛ لأنهم في نظرهم الذين يملكون لهم الشفاعة عند الآلهة والتأثير عليهم، وعنها أخذت الصوفية هذا التقديس.) أو البوذية (نسبة إلى "بوذا" متنبئ هندي ولد في القرن السادس قبل الميلاد. وقد تطورت البوذية حتى اعتقدت في بوذا أنه إله تجسد لنقذ البشرية، بأن تحمل عنها عبء خطاياها!! ويظن بعض الباحثين أنه أسطورة لم توجد، وبصورة بوذا صورت الصوفية إبراهيم بن أدهم) ناجت ربها بصلوات من الدعاء، يغازل الروح شعرها بالروعة الآسرة، شفافة الترانيم عن نفس دلهها العشق، وقلب تبله الغرام، كذلك صنعت الزرادشتية (نسبة إلى "زرادشت" متنبئ فارسي ولد قبل المسيح، جاءهم بكتاب اسمه أفيستا، ثم أضيفت إليه شروح فسمي: "زند أفيستا" وتؤمن هذه النحلة بإلهين أحدهما للخير، واسمه "أورمزد" وآخر للشر، واسمه "أهرمن" إلا أن زرادشت يؤمن بانتصار الخير على الشر، فهو ذو نزعة تفاؤلية، لا تشاؤمية كما في ديانة ماني) والمانوية، والفرعونية واليهودية، والمسيحية والبهائية (نسبة إلى ميرزا حسين على الملقب بالبهاء، وخلاصة دينه أن الله سبحانه يظهر في دورات متعاقبة في صور الرسل، وأنه – أي ميرزا حسين علي- أتم وأكمل صورة للتجسد الإلهي، وأنه النبع(216/152)
الذي استمد منه الرسل جميعاً من لدن نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم) والقاديانية (نسبة إلى ميرزا غلام أحمد القادياني نسبة إلى قاديان توفي سنة 1908م وقد ادعى أن المسيح الموعود، أو المهدي المنتظر، وأن الله يوحي إليه، وقد انشطر أتباعه من بعده شطرين أحدهما الأحمدية، والأخرى القاديانية، والأولى أقل غلواً من الأخرى، وكلتاهما تكفر من لا يؤمن بغلام أحمد على أنه المسيح الموعود!!) ! وأنت إذ تتلو من أدعية هؤلاء – دون أن تكون على بينة من نسبتها إليهم – لن تشك في أنها ضراعات القديسين، بشرتهم برضاها السماء!! فهل نعدهم بهذه الأدعية دعاة حق، وجنود إسلام؟! لا تسأل الداعي: بماذا تدعو ربك؟ ولكن سله أولاً : من ربك الذي تدعوه، وما صفاته؟!
وهاك أنماطاً من الأدعية، فاقرأها، وتدبرها، وثمت تشعر بقلبك، وقد غمره اليقين بأنها ضراعة عبودية خالصة تتبتل تحت السحر في المحاريب، بيد أنك حين تعرف حقيقة من بث دموع الحب في تلك الأدعية، وإلى أي دين هو ينتسب، سيرود بك العجب كل مراد له، وستأسى على هذا الحلم الجميل الذي نعم به خيالك لحظة، بل ستشعر، كأنما تهوى من قمة السماء إلى غور جب بما يسكرك به من سلاف الأدعية، فتظن بالصوفية في نشوتك ظن الخير، وتحسبها مع المسلمين في فجر ومحراب!.(216/153)
فاقرأ معي هذا الدعاء: "اللهم لتكن مشيئتك أن أسير في طريق شريعتك، وأن أرتبط ارتباطاً وثيقاً بوصاياك، اللهم احمني من الذنوب والعصيان وإغراء الشيطان، ولا تجعلن للشهوات سلطاناً علي، ولتكن إرادتي خاضعة لك، أعني على التمسك بالخير، واشملني برعايتك اللهم آمين (ص 246 كتاب الفكر اليهودي جمع دكتور هرمس ترجمة الفريد يلوز)" أترى هذا النجوي أثارة من باطل؟ أم تجدها صالحة؛ لتدعو الله بها، وأنت حول بيته؟ وتأمل قوله: "اللهم اللهم" وقوله: "لتكن إرادتي خاضعة لإرادتك (قارن بهذا قول ابن الفارض "وطوع مرادي كل نفس مريدة")". ولكن أتدري لمن هذا الدعاء؟ إنه ليهودي! والله تعالى يقول عن اليهود: (2: 61 وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق، ذلك بما عصوا وكان يعتدون) فهل شفع هذا الدعاء وغيره عند الله لليهود؟ كلا. وإن راحوا يملأون به سمع الوجود؛ لأنهم لا يدعون به الله، وإنما يدعون رباً آخر، اختلقته أوهامهم المادية الصماء، لقد رفعوا أيديهم إلى السماء، وهي ملطخة بدم النبيين، وفي قلوبهم شتى أرباب وآلهة! وأطغى من هذا الشر، اقترفت الصوفية.
وهاك آخر: "إلهي عليك توكلت، فلا أخزى إلى الأبد، عرفني يا رب طرقك، وسبلك، علمني، أرشدني على حقك، وعلمني؛ لأنك أنت هو إلهي ومخلصي، وإياك رجوت اليوم كله، إذا تصورت كثرة أفعالي الردية أنا الشقي، فإني أرتعد من يوم الدينونة الرهيب (قارن بهذا زعم ابن عربي أن الوعد في الآخرة عين الوعيد، وأن النار عين الجنة!!)، لكن إذ أنا واثق بتحنن إشفاقك، أهتف إليك مثل داود: ارحمني ياألله كعظيم رحمتك (ص 241ن 268 كتاب خلاص النفوس في الصولات والطقوس)" وهذه النجوى الحنون، ألا تجدها رفافة تروح الحب الآمل في رحمة المعبود؟ ألا ترى فيها الهتاف بدعاء : "ياألله".(216/154)
ولكن أتدري ما هي؟ إنها صلاة رومية أرثوذكسية! والله تعالى يقول عن هؤلاء، ومن دان دينهم: (5: 73 لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد) فهل شفع، أو يشفع هذا الدعاء، ومثله لهم؟ أتراه ينسخ عنهم حكم الله بأنهم كافرون؟! كلا، وإن تجاوبت بأصدائه جنبات الوجود! فقد آمنوا برب هو ثالث ثلاثة، فلم يناجوا بها "الله" حقاً، وإنما ناجوا بها رباً، يزعمون أنه تجسد في ثلاثة مظاهر! وكفر الصوفية اشد شناعة؛ فقد آمنت برب هو عين كل شئ! أو كما يقولون في تسبيحتيهم المقدستين: "المظاهر عين الظاهر" يعنون بالمظاهر أنواع الخلف، وبالظاهر الله تعالى وتقدس والأخرى: "ذات ما ترى، عين ما ترى" يعنون أن ما تراه بعينيك من مظاهر الوجود هو عين الإله الصوفي!.
وهاك دعاء آخر: "السلام عليك أيها الإله العظيم، لقد أتيت إليك يا سيدي في سلام، فكن بي عطوفاً، فأنت صاحب العطف، واستمع لندائي، لب ما أقوله، فإني أنا واحد من عابديك (ص 341 "مصر" تأليف أدولف إرمان ترجمة الدكتور عبد المنعم بكر.)" أتنكر من هذا الدعاء شركاً؟ أو تستنكر منه وثنية؟ ولكنك إذ تبتلي معتقد صاحبهن تحتدم عاطفتك مقتاً له، ولسانك لعنة تنصب عليه؛ فإنه لونية فرعونية عبدت ربها في صورة عجل، أو كوكب! وكذلك الصوفية! بل إنها مرغت تلك الوثنية الفرعونية في ردغتها ثم خرجت بها صوفية تعبد كل شئ!(216/155)
واستمع معي إلى هذا الدعاء: "ربنا إنا نتوجه إليك، ونتضرع بين يديك ونذكرك بالتهليل والتكبير، ونثني عليك بالتسبيح والتقديس. إلهي! وملاذي، أمد إليك أيدي الابتهال، يا ربي المتعالي، وياذا الجلال والجمال، أن تنزل كل بركتك وموهبتك، وسابقة رحمتك، وسابغة نعمتك على أحبتك الذين شملتهم لحظات أعين رحمانيتك (ص 230، 265 مكاتيب عبد البهاء)" فهذه النجوى المضمخة بالعبير سكران الروح، غرامي النفحات، أتحس فيها شيئاً يرغب عنه إخلاص توحيدك؟ ولكن أتدري لمن هي؟ إنها للزنديق القزم القمئ عباس بن ميرزا حسين أو "عبد البهاء" يناجي بها ربه وإنما يناجي بها أباه ميرزا حسين علي الذي آمن به زنادقة البابية من الشيعة أنه أتم و أكمل مظهر تجسدت فيه الذات الإلهية، فقد زعم لهم ذلك، فآمنوا بما زعم! وقد زادت الصوفية هذا الكفر خطيئة، فعبدت رباً يتجسد بذاته ووجوده وصفاته وأفعاله في كل شئ!
مقارنة
ثم قارن بين تلك الأدعية التي آمنت ألفاظها، وكفرت قلوبها، وبين هذا الدعاء الصوفي الذي كفر لفظه ومعناه وقلب مفتريه! "إلهي استهلك كليتي في كليتكن وأمد أوليتي بأوليتك، حتى أشهد في أوليتي، وآخريتك في آخريتي، وظاهريتك في ظاهريتي، وباطنيتك في باطنيتي، وقابليتك في قابليتي، وأنت في إنيتي (أي وجوده الظاهر)، وهويتك في هويتي (الهوية باطن الذات الإلهية عند الصوفية، يطلب من الله أن يجعل وجوده بالباطن والظاهر عين وجوده هو في إنيته وهويته!!)، ومعيتك في معيتي، حتى أكون عنوان ذلك السر كله بل شكله وصورته (ص 15 مجموعة الأحزاب ط استامبول سنة 1298هـ)" يدعو الله سبحانه، وتعالى أن يجعله عينه وجوداً وذاتاً وحقيقة!! ومن يجرؤ على هذه الزندقة غير ابن عربي؟!(216/156)
وإليك صلاته على نبيه: "اللهم صل وسلم وبارك على الطلعة الذات المطلسم، والغيث المطمطم، لاهوت الجمال، وناسوت الوصال (أي الإنسان الذي وصل بين الألوهية والإنسانية في ذاته، فباطنه لاهوت، وظاهره ناسوت)، وطلعة الحق، هوية إنسان الأزل (أي حقيقة اللهن فالله عند ابن عربي إنسان قديم!)، في نشر من لم يزل (أي هو الإله القديم الذي ظهر في صورة إنسان، وعن هذا الإنسان انتشرت جميع الأنواع الخلقية، وعنه ينتشر مالا يزال في مكنون الغيب من أنواع الخلق.)، من أقمت به نواسيت الفرق على طريق الحق، فصل اللهم به منه فيه (ص 14 المصدر السابق)"! يقول ابن عربي، "اللهم صل على محمد الذي تجسد فيه الله، اللهم صل على نفسك التي ظهرت، وتظهر في صور الكائنات. ألا ترى مع الحق أن هذا الدعاء الصوفي يحموم الكفر الأثيم، وخطيئة الوثنية الجاحدة؟(216/157)
وما إخالك بعد هذا ممن ستخدعه فتنة السراب الخلوب فيما تتغزل به الصوفية من أدعية شعرية أو نثرية، فإنها إذ تدعو، أو تصلي، فإنما تفتري ذلك لرب ليس هو ربك الحق أيها المسلم، قد يفتنك من الصوفي دعاؤه: "الله" غير أن هذا الدعاء يهتف به البوذي واليهودي والبهائي، وكل يعنى به رب هواه، وإله أساطيره! وقد يخدعك من الصوفي قوله: "الله صل على محمد" ويقولها أيضاً البهائي! فمحمد الذي تصلي عليه الصوفية، ليس هو خاتم النبيين، وإنما هو ظن ابتدعوه، وسموه: "محمداً"؛ ليفتنوك به. محمدهم هو إله الآلهة الصوفية في تجسد بشري، بل إنك لترى الصوفية في كتبهم لا يسمونه إلا : بـ "الحقيقة المحمدية" يعنون بذلك أن الله حقيقته متعينة أو متجسدة في صورة محمد!! (6: 116 إن يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون) (45: 22 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه (العجب أن ابن عربي يقرر أن الهوى إله حق يجب أن يعبد، ويستشهد بهذه الآية، ويقرر صحة عبادة الهوى!! انظر ص 194 فصوص الحكم ط الحلبي جـ1)، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقبله، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله، أفلا تذكرون؟) هذا حكم الله، فبأي حكم بعده تؤمنون؟!
ويأفك الصوفية أنهم أحباء الله، وأحباء رسوله! يفترون ذلك في صوت ناعم رقيق، فيرعش جسدك سكر الصوت المفعم بأنوثة الرياء، وخنوثة النفاق فيصرخ "الدرويش" في وجه من يذكره بالحق: "أومن يقولون ذلك تفترون عليهم أنهم عدو لله!؟" ولكن لا تنس يا صاح أن اليهودية والنصرانية زعمتا هذا، فكذبهما الله (5: 20 وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناء الله، وأحباؤه. قل: فلم يعذبكم بذنوبكم؟! بل أنتم بشر ممن خلق) (47: 28 ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله، وكرهوا رضوانه، فأحبط أعمالهم) والدليل على الحب الصادق لله طاعته وتقواه، ومتابعة رسوله فيم جاء به (3: 31 قل: إن كنتم تحبون الله، فاتبعوني يحببكم الله).(216/158)
ولقد ذكرت لك دين الصوفية كما هو في كتبهم المقدسة، فهل تجد فيه بارقة من ظن، تميل بك إلى توهم أنهم أحباء الله وأودّاء رسوله؟ إنهم دانوا بأحبارهم وكهانهم أرباباً من دون الله، فكيف تصدق أنهم أحباء الله ورسوله؟
ودعوى حبهم للرسول وآل بيته دعوى الرجس أنه قداسة، والإثم الكبير أنه روحانية فضيلة!! وكتلك الفرية افتراء الشيعة أنهم أحباء آل بيت محمد!! أترى الشيعة والصوفية: اتبعوا الرسول، وجعلوه وحده الأسوة والقدوة الحسنة؟! ما ثم ما يحتجون به لدعواهم سوى العكوف على الأضرحة الزنيمة المفتراة لآل البيت! سوى تلك القباب التي شيدوها معبودة على عظام نخرة، لا تدري أهي لحيوان أم إنسان، أم هي أمشاج من عظام شتى، لا تدري أهي لصالح أما طالح، لمسلم أم يهودي، فقد شيدتها الفاطمية في مصر؛ لتصرف الناس عن حج بيت الله، ولتجعل قلوب المسلمين نفسها قبوراً خربة، ثم سمتها بأسماء آل البيت، وأقامت على سدانتها وعبادتها الصوفية! ما لهم من دليل على حبهم لآل البيت سوى عبادة تلك الأصنام بتقبيل أستارها وأحجارها ولثم نحاسها وخشبها، وتعطير أجوائها، والاستشفاع بأعتابها، واقتراف الأعياد الوثنية في كل موسم لها. وسل الآمين تلك "الموالد" عن عربدة الشيطان في باحاته، وعن الإثم المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها (يصف الجبرتي ما كان يحدث في مولد العفيفي – وكأنما يصف موالد اليوم "ينصبون خياماً كثيرة وصواوين ومطابخ وقهاوي، ويجتمع العالم الأكبر من أخلاط الناس، وخواصهم وعوامهم، وفلاحي الأرياف وأرباب الملاهي والملاعيب والغوازي والبغايا والقرادين والحواة، فيملئون الصحراء والبستان، فيطئون القبور ويبولون ويتغوطون ويزنون ويلوطون ويلعبون ويرقصون ويضربون بالطبول والزمور ليلا ونهاراً، ويجتمع لذلك الفقهاء والعلماء، ويقتدي بهم الأكابر من الأمراء والتجار والعامة من غير إنكار، بل يعتقدون أن ذلك قربة وعبادة، ولو لم يكن(216/159)
ذلك، لأنكر العلماءن فضلاً عن كونهم يفعلونه، فالله يتولى هدانا أجمعين" ص 225 جـ1 تاريخ الجبرتي ط 1322هـ)!. وهكذا تكد الصوفية في سبيل أن تجعل دنيا المسلمين كلها مقبرة، قفراء إلا من الوحشة، جرداء إلا من الرهبة والفزع، خاوية إلا من الخطايا تقترف باسم الإسلام! تك في سبيل أن تجعل نفوس المسلمين مقابر، وغاياتهم المقابر، وآلهتهم العظام البوالي في المقابر! وتحث المسلمين؛ ليجعلوا الحياة كلها قرباناً إلى غيابات العدم، وجيف المقابر! فما ينقضي في مصر أسبوع إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعباد أوثانها عند مقبرة يسبحون بحمد جيفتها، ويسجدون أذلاء لرمتها، ويقترفون خطايا المجوسية في حمأتها، ويحتسون آثام الخمر و"الحشيش" والأجساد التي طرحها الليل على الإثم فجوراً ومعصية ويسمونها للناس: "موالد" أو مواسم عبر وذكريات خوالد! وما تجتمع جماعة صوفية، أو تنفض، إلا ليبحثوا كيف يحتفلون بصنم قبر، أو رمة قبر؟1 وما يهوم ليل على صوفي، أو يفزعه بالنور نهار، إلا وقلبه مستعبد بهوي صنم قبرن أو رمة قبر! وما يقعد صوفي أو يقوم، أو يركب أو يمشي إلا وينعق مستغيثاً بصنم قبر، أو رمة قبر! قبور قبور! هذه هي دناي الصوفية، لها جهاد الصوفية، ولرممها عبادتها، لها تحيا، ولها تموت، وبها تعيش! وخير ما تتمناه الصوفية، هو أن يهلك المسلمون جميعاً، حتى يكون في كل ساعة "مولد" مقبرة، وعيد رمة! فيلقتل المسلمون أنفسهم؛ ليمدون الصوفية بأعياد كثيرة للقبور ونذور للجماجم! ما لهم من دليل على حبهم للرسول وآل بيته سوى تلك "التواشيح" التي تغزلون بها في العيون الحوالم النعسن والشفاه الظوامئ اللمس، والأهداب المسبلات في إغراء على لهب من الورد يتوهج في الخدود النضر، تلك هي أدلتهم! ويا لها من أدلة! حياة كلها خطايا، وقلوب أربابها رمم معبودة، ونفوس آلهتها جيف، وأفكار كلها للأساطير وحياة ميتة، ووجود يفزع منه العدم، ودنيا خمول خامد تعصف بها الذلة.(216/160)
فأني الكفاح في سبيل بناء الحياة؟
إن الله سبحانه وصف لنا نفسه في كتابه الحق بصفاته المقدسة، وسمى نفسه بأسمائه الحسنى، فوصفه المسلمون، وسموه بما وصف، وسمى به نفسه، فلم يفتروا له صفة، ولم يبتدعوا له اسماً، ولم يختلقوا لصفاته، ولا لأسمائه معاني غير التي وردت في اللغة التي نزل بها كتابه، هذا؛ لكيلا يفتروا عليه ما لم يتكلم به، أو يصفوه بما لا يحبه، أو يسموه بما لا يرضاه، وشرع سبحانه لنا شرعاً هادياً كريماً ختم به شرعته، بلغه رسوله الأمين، فلم يدخل المسلمون في شرعه سبحانه ما ليس منه، ولم يتهموا شرعه بالقصور أو التقصير؛ لأن ربه الحكيم الخبير خالق الزمان والمكان، يعلم ما يصلح لكل زمان ومكان، وقد أخبرهم سبحانه أن رسالة محمد، هي خاتمة الرسالات، فليس بعده من نبي ولا رسول، فما جاء به صالح للحياة، حتى تقوم الساعة، وإلا اتهمنا من نزله بأنه غير عليم ولا خبير ولا حكيم. كذلك لم يتهم المسلمون شرع الله بالجمود، ولا بأنه عقبة كئود تقف في طريق سمو حضارة الإنسانية، أو تقدمها. أما الصوفية، فتجحد بما وصف الله، أو سمى به نفسه، وتكفر بوحيه، وتؤمن برب تجزأت ذاته، فكانت كل شئ تراه العين، أو يطيف بالظن، فلتناج الصوفية بصلواتها ما تشاء، ولتدؤ بالدعوات تحت أقبية الليل في هياكلها العبقة بالبخور الوثني، فإنما نتاجي أصناماً، وإنما تضرع إلى رمم!.
دعوة الصوفية الأخلاقية(216/161)
يزعم بعض الكاتبين أن الصوفية دعوة أخلاقية مثالية، ويستشهد ل…ذلك بما يلمحه في كتبهم من دعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وبما يفتنه من روعة الجمال في البيان الأدبي عن تلك الدعوة، وعلى ما في هذا الزعم الغافل من غضون سود من الكذب، وتجاعيد كابية من الباطل، فإني أقول: إن الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة كم مشترك بين الأديان جميعها، سواء منها ما نزل به وحي من الله، أو ما افترته الأهواء، وأفكته الأساطير، فتش في كتب البوذية والبرهمية، والزرادشتية والمانوية والغنوصية وإخوان الصفا، بل فتش حتى في كتب اليهود الوضعية، وفي كتب أية نحلة (فالبهائية مثلاً تزعم أنها تؤمن بكل الكتب السماوية، كالتوراة والإنجيل والقرآن، وتسجل هذا في كتبها، وتزعم أنها تدعو إلى السلام العالمي، والإخاء البشري العام، فهل نحكم بأنها نحلة مؤمنة مسلمة؟ كلا. فإنها تدين برب تجسد في سيدها ميرزا حسين علي. والصوفية شر منها في معتقداتها الباطلة) ضالة، تجد دعوة تلتهب حماسة إلى التسامي بالخلق، وإلى تحقيق مثله العليا، فليست الصوفية – إن صدقنا زعمها – بدعاً في زعومها، وإنما هي كغيرها من الدعوات الضالة، شر ينافق بأنه : بر الخير، ورذيلة ترائي بأنها: روح الفضيلة، وكفر يختال بأنه: إيمان النبوة، فليست الدعوة الخلقية هي الفيصل بين دين ودين، أو دعوة ودعوة – فإنها في كل دعوة، وفي كل دين – وإنما الفيصل بين الأديان والدعوات، وكونها حقاً أو باطلاً، خير أو شراً هو العقيدة التي تنبعث عنها هذه الدعوة الخلقية، أو الباعث الذي يكمن وراء السلوك، والغاية التي توجهه إلى هدفه، وترجي منه. وقد ذكرت لك دين الصوفية، أو عقيدتها، فهل تجدها حقاً؟ وهل نعتبر ما تدعو إليه من المثل الأخلاقية خيراً، وإن كانت رائعة البيان فاتنة الصور، خيرة المظهر؟ وهل نعتبر ما ينبعث عنها من عمل خيراً في ذاتهن كبر يتيمن أو جهاد في سبيل مثل أعلى يعطف الإعجاب، ويلهم الفدائية؟ كلا. فالله يقوله(216/162)
لنبيه ك (39: 65 لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) وإن كان عمله خيراً نبيلاً في أعرفا السلوكيين. هذا؛ لأن الباعث، أو النية، أو العقيدة التي ينبعث عنها هذا العمل، ليست حقاً ولا خيراً، فكل ما ينتج عنها من سلوك، فهوة مثلها باطل وشر. ألم تر إلى هذا البطل العربي الذي قاتل مع أصحاب النبي قتالاً ليس كمثله قتال في الصبر والجلاد والبطولة التي تكافح الموت. لقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه في النار؟! هذا؛ لأنه قاتل حمية، ولا في سبيل الله، أو بمعنى آخر: لم تكن لديه العقيدة المخالصة التي تجعل من هذا القتال خيراً، أو عملاً صالحاً عند الله ثوابه. وعقيدة الصوفية إيمان برب يتجسد بذاته في حجر أو جيفة، فغاية الصوفي من عمله هو رضوان الإله المتجسد في الحجر أو الجيفة، وباعثه على العمل حب الحجر أو الجيفة!.
أما عمل المسلم، ودعوة المسلم الخلقية، وجهاد المسلم، فوراء هذا كله عقيدة خالصة، توحد الله توحيداً خالصاً في ربوبيته وإلهيته، ويوجه ذلك كله غابة سامية مطهرة، هي رضوان الله وحده.(216/163)
يقولون: اقرأوا ما كتب الصوفية من دعوة التسامي والروحانية، والتأملات الشاعرة في أسرار الكون، وسرائر النفس والحياة، والاستسلام المطلق إلى مبدع الوجود. وأقول لهم: بل اقرأوا ما كتب الصوفية عن الله ورسله، واقرأوا ما كتب الصوفية عن معتقدهم. ابتلوا العقائد، قبل ابتلاء الأخلاق يا أسارى الصوفية!، فما الخلق إلا نتيجة. والصوفية نفسها تقرر أنها دين وعقيدة، قبل أن تكون دعوة خلقية، فلتحاسب على دينها واعتقادها قبل محاسبتها على دعوتها الأخلاقية! وما أحكم وأحسن قول الفضيل بن عياض: "إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً، لم يقبلن وإذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما كان لله، والصواب ما على السنة، وهذا هو المذكور في قوله تعالى : (18: 110 فمن كان يرجو لقاء ربه، فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً (ص 74 تفسير ابن القيم).
فعلى الذين يعصف بهم الإعجاب بدعوة الصوفية الخلقية، أن يولوا إعجابهم شطر كل فرقة حكم الله عليها بالكفر، ففيها أيضاً الدعوة إلى مثل تكل الأخلاق التي يسحركم البيان عنها في الصوفية!، بل في بعضها أروع مما في الصوفية، اقرأوا هذه الدعوة: "خف الله إله آبائك، واخدمه بحب؛ لأن مخافة الله وحدها هي التي تردع الإنسان عن الذنوب، وحبه تعالى هو الذي يحث المرء على الخير، درب نفسك على الخصال الحميدة، أحب الحقيقة والاستقامة زينة النفس، وتعلق بهما، كن حازماً في المحافظة على كلمتك، ترفع عن المواربة والتهرب والمراوغة، أبغض الكسل والخمول".(216/164)
دعوة حارة إلى أروع الأخلاق، وحق يرف إيماناً وقدسية ولكن! ثم اقرأوا هذه : "إننا نبغى من العالم الحقيقة المجردة، ونجني الخير والطهر والجمال" دعوى ريانة الجمال، ولكن ليتها كانت صادقة! اقرأوا هذه : "فكر ملياً في ثلاثة أمور، تنج إلى الأبد من سيطرة الذنوب، اعلمك أن فوقك عيناً ناظرة، وأذناً سامعة، وأن جميع أعمالك مسجلة في كتاب (تلك النصوص عن الفكر اليهودي ترجمة ألفريد يلوز من ص 24، 200، 202 وما بعدها) قول تظنه إيماناً يتهجد بالصلاة المؤمنة، قول يوحي بالإيمان بأن الله بكل شئ محيط.
تلك الدعوات الرائعة في تساميها الغائي ليس في الصوفية مثلها، ومع هذا حكم الله سبحانه على أصحاب تلك الدعوات بأنهم عدوه، وأن عليه غضبه ولعنته؛ لأنهم يهود، والعقيدة اليهودية ظلاله، وباطل. فكل ما انبعث عنها من عمل، أو قول، فهو مثلها ضلال وباطل، وحابط عند الله، وإن كان يستهدف المثل العليا في أعراف الأخلاقيين.
فلو أن الدعوة الخلقية كانت وحدها، هي الميزان الذي تزن به إيمان الإنسان أو كفره، لحكمنا على أولئك اليهود الملعونين بأنه بررة يتبتلون في المحاريب المقدسة! لو كانت الدعوة الخلقية وحدها، هي أساس الحكم على الإنسان بأنه مسلم أو غير مسلم، لدخل تحت الحكم بالإسلام كل زنديق وملحد وكافر، فما منهم من أحد إلا ويدعو إلى الأخلاق الفاضلة.
العقيدة الصافية هي ملاك الأمر كله، وروح الدين كله، وهي التي تقوم العمل والخلق بالخيرية أو الشرية في نظر الإسلام، وهي التي لها المقام الأول والاعتبار الأسمى عند الله سبحانه. ثم تمثل ما تقتضيه تلك العقيدة الصافية في حياتنا أخلاقاً وسلوكاً ودعوة، واتباعاً صحيحاً لدي الله وحده.(216/165)
ليس المهم ما تتخلق به، أو تقوله، أو تعمله، بل الأهم قبل كل شئ ما تعتقده. اذكروا مرة أخرى، بل اذكروها دائماً، تلك هي الآية التي يقول رب العالمين فيها لمحمد: (39: 65 لئن أشركت ليحبطن عملك). والمعنى طبعاً، هو العلم الذي يبدو خيراً في ذاته، وإلا لما كان للتوعد بحبوطه معنى. ولقد أشرك الصوفية إشراكاً خبيثاً، وأخبث ما فيه أنه يفتتن الناس عن حقيقته، فيظنونه توحيداً صافياً. لقد خدعتك الدعوة الخلقية في الصوفية عن عقيدتها، فوزنت قولها في الأخلاق بميزانك العاطفي الذي يهتز مع الخديعة، ويميل ظالماً مع الهوى، ولكن زنها بميزان الحق والعدل من كتاب الله، زنها بميزان التوحيد الخالص، وثمت ترى أنها الفتنة الخاتلة، وأن دعوتها الخلقية ليست إلا شف رياء يحاول ستر عقيدتها الملحدة. أسمعوا ما يقول ابن عربي عن الله:
يا خالق الأشياء في نفسه ……أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه……فيك، فأنت الضيق الواسع(216/166)
يصف الله بأنه خالق مخلوق. وبأن ذاته هي جميع ذوات أنواع الخلق، وأنه ما زال يخلق في نفسه ملا ينتهي من أنواع الخلق، فهو ضيق؛ باعتباره حقاً؛ أي مجرداً عن النعوت، وهو واسع باعتباره خلقاً متنوعاً كثيراً لا ينتهي. واسمع إليه يقول عن الله: "فذكر – أي الله – أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد، فالهوية واحدة، والجوارح مختلف، ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة تختلق باختلاف الجوارح" . يصف الله بأنه نفس جوارح العبيد، فيد السارق، ويد القاتل، ويد المرتشي، ويد المقامر، ويد المخمور يتناول بها الإثم. كل هذه الأيدي، هي ايدي رب ابن عربي. والعين المختلسة والأذن السارقة، والفم المنتن من الحرام، كل أولئك من جوارح رب ابن عربي. والمعارف الحسية التي نستمدها من اليد والقدم والعين والسمع واللسان. إنما هي معارف رب ابن عربي؛ لآنه عين تلك الجوارح كلها! ويؤكد هذا بقوله: "فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى، فهو – أي الله – حق مشهود في خلق متوهم، فالخلق معقول، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين وأهل الكشف والوجود"(216/167)
أرأيت إلى غلواء الزندقة في دين ابن عربي؟!ن إنه يزعم أن الخلق شئ معقول؟! أما الله – سبحانه – فشئ محسوس!؛ لأنه عين ما ترى عيناك، وتسمع أذناك، أما "الخلق" فصفة، أو وجه من وجوه الحق سبحانه!، ويؤكد ذلك مرة أخرى بقوله: "ثم تممها الجامع للكل محمد صلى الله عليه وسلم؛ يما أخبر به عن الحق: بأنه عين السمع والبصر واليد، والرجل واللسان، أي : هو عين الحواس" وبقوله: "تحققنا بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها، فهو محدود بحد كل محدود (هذه النصوص كلها عن فصوص الحكم لابن عربي ص 88، 107 وما بعدها واقرأ هذا النص : "إن الله لطيف، فمن لطفه ولطافته أنه في الشئ المسمى كذا المحدود بكذا عين ذلك الشئ، حتى لا يقال فيه إلا ما يدل عليه اسمه بالتواطؤ واصطلاح فيقال: هذا سماء وأرض وصخرة وشجر وحيوان وملك ورزق وطعام والعين واحدة من كل شئ وفيه" ص 188 فصوص ط الحلبي، يعني أن الله هو عين كل هذه الأشياء وغيرها. فإذا عرفت شيئاً منها بتعريف، فهذا التعريف صادق على الله بالتواطؤ يعنى أنه هو عين تعريف الله نفسه في جنسه وفصله، فتأمل)" ربه عين كل شئ! ولكل شئ، حد يعرف به، فكل تعريف هو تعريف لكنه الذات الإلهية، إذ كل شئ عند ابن عربي هو عين الله!! فليطر فكرك عبر الآباد والآنات والآزال، وليجل خيالك، هو رب ابن عربي. فكر في المغول، والصليبيين، وكل مستعمر سام العرب والمسلمين خسفاً، أو هواناً، فكر في الجاهليين يجرعون صحاب النبي العذاب، فكر في الصهيونيين اليوم، وفيما يكيدون به للإسلام، فكر في السفاحين الأوغاد، فكر في أولئك جميعاً، وسل ابن عربي وأحلاسه عنهم، وثمت تسمع منهم: إنهم جميعاً الذات الإلهية! أليسوا أشياء؟ وابن عربي يقول: إن الله هو عين الأشياء جميعاً! أليسوا خلقا؟ وابن عربي يقول: إن الله هو عين الخلق؟ أليست لهم جوارح باغية ملطخة بالدم البرئ؟! وابن عربي يقول: إن الله هو عين كل يد(216/168)
وقدم ولسان! والصوفية المعاصرة تعبد ابن عربي، وتدين بقدسيته، وأتحداهم أن ينبذوه، أو يعلنوا على الملأ كفره ومروقه؟! فإن فعلوا، كان آية على أنهم خرجوا من دينه.
هذه تحاميم من عقيدة الصوفية، فهل ينفعها أن تملأ الوجود بعد ذلك بالدعوة إلى الخلق الفاضل؟ إنها إذ تقول : اتق الله، فإنما تعني به ربها الذي هو الصخر الأصم والجيفة المنتنة، تعني ربها الذي هو عين كل شئ، وإذ تقول: جاهد في سبيل الله، فإنما تعني به وهماً عبدته رباً يتعين بذاته في كل خلق! اقرأوا ذلك جيداً، ثم نبئوني: أما زلتم اسارى الإعجاب بدعوة الصوفية الخلقية؟!.(216/169)
على أن الدعوة الخلقية الصوفية، هي دعوة إلى الأخلاق السلبية (يمتاز الإسلام في دعوته الخلقية بأنه يدعو إلى أقوى وأعز الأخلاق الإيجابية وإلى أقدس الأخلاق السلبية، فهو لا يطلب منك ألا تفعل الشر فحسب، بل يأمرك أن تفعل الخير، فهو يأمر مثلاً بالجهاد والسعي في سبيل الرزق، وينهى عن الرهبانية والسرقة يتجلى لك ذلك في قوله سبحانه: (3: 110 كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وفي قوله (22: 77 وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) وقوله: (22: 30، 31 فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به) بل يتجلى لك ذلك أي جانب الإيجاب وجانب السلب في عقيدة التوحيد (4: 36 واعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً)"، فحسب، إذ هي قائمة على الزهد المانوي، فهي – على الزعم بأنها خير، ودون التفات إلى أن تتزعم العالم في سلام وأمن. تريد الوثنية الجريئة المقدامة التي تسخر كل شئ، أذن الله لها فيه في سبيل تحقيق فيمها الرفيعة المؤمنة. تريد الحياة دفاقة التيار، زخارة المشاعر بالحيوية المتدفقة، المندفعة دائماً إلى الأمام، جياشة الليل والنهار بالعمل الدائب المنتج المثمر، والجهاد في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا، إنما تصلح دعوة الصوفية الخلقية – بذلك الاعتبار نفسه – لجماعة تعيش في الكهوف، أو المغاور، أو على قنن الجبال في الحس الهامد، والشعور الخامد، والوجدان الأصم البليد، وكل إنسان فيها منطو على نفسه. لجماعة تقطعت أرحماها، فعاش كل فرد فيها لنفسه، يسخر ليله ونهاره لنفسه، دون أن يحول عينيه وغاياته عن نفسه وحدها! فهي أخلاق تطفح بالأثرة الضيقة المكتومة الخانقة، والفردية التي ترى الدنيا لها وحدها، وتعمل؛ ليكون كل شئ لها وحدها! إنها رهبانية تسري فيها قشعريرة الخوف المذعور من الحياة، ورعدة الفرق القلق من المجتمع. رهبانية تعيش في غيابة الخمول الأسوان وراء الوجود الإنساني! تصلح لجماعة تعيش(216/170)
للعدم الميت، لا للحياة الشاعرة بذاتها ومقوماته، تعيش للوحدة الكابية الساهمة المحتضرة، لا للجماعة التي يعمل فيها كل إنسان لنفسه، ولمن معه، وتجعل الإيثار النبيل شعارها، وابتغاء مرضاة الله فلك حياتها وغاياتها وبواعثها. فدعوة الصوفية الأخلاقية. فرار ذليل من الحياة، وجبن يرتجف من الحياة، وتفرد موحش في تيه الوحدة الذاهلة القاتمة، وقتل ظلوم لقوى الإنسانية المكافحة في سبيل تقدم الحياة، وكفران باغ بما أنعم الله به على الإنسان من قوى؛ ليعمل باسم الله ما يعمله لنفسه، وللجماعة التي يجب أن يشيد صروحها سامقات عاليات الذرى.
ويزعمون أن الصوفية جاهدت حتى نشرة الإسلام في بقاع كثيرة!، ولقد علمت ما دين الصوفية؟! فما نشروا إلا أساطير حمقاء، وخرافات بلهاء، وبدعاً بلقاء شوهاء، ما نشروا إلا وثنية تؤله الحجر، وتعبد الرمم! ما نشروا دينهم غلا في حماية الغاصب المستعمر، وطوع هوى الغاصب المستعمر، فعدوا الإسلام، يوقن تماماً أن البدع، هي الوسيلة التي تصل إلى الهدف دائماً، لكي يقضوا بها على الإسلام وأهله، فعلها قديماً، ويفعلها حديثاً. واقرأوا تاريخكم إن كنتم تمترون، أروني صوفياً واحداً قاتل في سبيل الله؟! أروني صوفياً واحداً جالد الاستعمار، أو كافحه، أو دعا إلى ذلك(سقط بيت المقدس في يد الصليبيين عام 492هـ والغزالي الزعيم الصوفي الكبير على قيد الحياة، فلم يحرك منه هذا الحادث الجلل شعوراً واحداً، ولم يجر قلمه بشئ ما عنه في كتبه، لقد عاش الغزالي بعد ذلك 13 عاماً إذ مات سنة (505 هـ) فما ذرف دمعة واحدة، ولا استنهض همة مسلم؛ ليذود عن الكعبة الأولى، بينما سواه من الشعراء يقول:
أحل الكفر بالإسلام ضيماً……يطول عليه للدين النحيب
وكم من مسجد، جعلوه ديراً……على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوف……وتحريق المصاحف فيه طيب(216/171)
أهز هذا الصريخ الموجع زعامة الغزالي؟ كلا. إذ كان عاكفاً عل كتبه يقرر فيها أن الجمادات تخاطب الأولياء!! ويتحدث عن الصحو والمحو. دون أن يقاتلن أو يدعو حتى غيره إلى قتال!! وابن عربي وابن الفارض الزعيمان الصوفيان الكبيران عاشا في عهد الحروب الصليبية، فلم نسمع عن واحد منهما أنه شارك في قتال. أو دعا إلى قتال، أو سجل في شعره أو نثره آهة حسرى على الفواجع التي نزلت بالمسلمين، لقد كانا يقرران للناس أن الله هو عين كل شئ، فليدع المسلمون الصليبيين، فما هم إلا الذات الإلهية متجسدة في تلك الصور. هذا حال أكبر زعماء الصوفية وموقفهم من أعداء الله!! فهل كافحوا غاصباً أو طاغياً؟) ؟! إن كل من نسب إليهم مكافحة المستعمر – وهم قلة – لم يكافحوه إلا حين تخلى عنهم، فلم يطعمهم السحت من يديه، ولم يبح لهم جمع الفتات من تحت قدميه، إلا و حين قهرت فيهم عزة الوطنية، ذل الصوفية، فقاتلوا حمية، لا لدين (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا" رواه البخاري ومسلم والترمذي.)! ثم اقرأوا ما كتب الزعيم مصطفى كامل في كتابه: المسألة الشرقية: "ومن الأمور المشهورة عن احتلال فرنسة للقيروان، أن رجلاً فرنساوياً دخل الإسلام، وسمى نفسه: سيد أحمد الهادي، واجتهد في تحصيل الشريعة، حتى وصل إلا درجة عالية، وعين إماماً لمسجد كبير في القيروان، فلما اقترب الجنود الفرنساوية من المدينة استعد أهلها للدفاع عنها، وجاءوا يسألونه أن يستشير لهم ضريح شيخ في المسجد، يعتقدون فيه، فدخل "سيد أحمد" الضريح، ثم خرج مهولاً لم بما سينالهم من المصائب، وقال لهم: بأن الشيخ ينصحكم بالتسليم؛ لأن وقوع البلاد صار بحتاً، فاتبع القوم البسطاء قوله، ولم يدافعوا عن القيروان أقل دفاع، بل دخلها الفرنساويون آمنين (ص 212 المسألة(216/172)
الشرقية للزعيم مصطفى كامل "نقلاً عن ص 11 من كتاب التصوف في الإسلام للدكتور عمر فروخ".)" وحين أغار الفرنجة على المنصورة قبل منتصف القرن السابع الهجري، اجتمع زعماء الصوفية! أتدري لماذا؟1 لقراءة رسالة القشيري والمناقشة في كرامات الأوليا (الطبقات للشعراني ط صييح جـ 1 ص 11)! :"من أجل ذلك يجب ألا نستغرب إذا رأينا المستعمرين، يغدقون على الصوفية الجاه والمال، فرب مفوض سام، لم يكن يرضى أن يستقبل ذوي القيمة الحقيقية من وجوه البلاد، ثم تراه يسعى إلى زيارة حلقة من حلقات الذكر، ويقضي هنالك زيارة سياسية تستغرق الساعات. أليس التصوف الذي على هذا الشكل يقتل عنصر المقاومة في الأمم؟ (ما بين القوسين من كلام الدكتور فروخ في كتابه "التصوف في الإسلام")" ثم إن كل من نسبت إليهم الصوفية أنهم جاهدوا في سبيل الله، وعملوا على نشر الإسلام، ليسوا صوفيين، وإنما حشرتهم الصوفية في زمرتها زوراً وبهتاناً، وأستاذها في ذلك الشيعة (يذكر الشيعة في كتب طبقاتهم كثيراً من أئمة أهل السنة وينسبون إليه أقوالاً هم أبرياء منها، كل هذا ليفتنوا المسلمين عن طريق ذكر هؤلاء البررة). لقد سمى الصوفية رسول الله صوفياً، ومثله الخلفاء، وكل بطل عبقري فذ من المسلمين زعموا أنه صوفي!! هذا؛ ليخدعوا المسلمين بهؤلاء عن زعمائهم من طواغيت الصوفية! ولفتنوا المسلمين بزعمهم أن أولئك القديسين الأبطال كانوا بعض أئمة الصوفية! والتاريخ يذكر أن لقب "صوفي" لم يبتدع إلا في منتصف القرن الثاني الهجري، وأن أول من لقب به هو "أبو هاشم الكوفي" فأروني صوفياً واحداً كان له فضل خير على الإسلام؟!.(216/173)
أجيبوا يا من فتنت الصوفية عن الحق عقولكم! لا تأتوني يا أسارى الصوفية بأقوالهم في الأخلاق، ولكن ائتوني بعقائدهم، ثم زنوها بالقرآن، إن كنتم به مؤمنين! لا تقولوا: قال فلان الصوفي: كذا في الأخلاق، أو فعل كذا مما هو في مظهره حق وخير، ولكن قولوا قبل كل شئ: إنه يعتقد كذا، فالصوفية تزعم أنها الحقيقة في الإسلام، وروح عقيدته. والأخلاق ليست غلا بنت العقيدة، والإسلام قبل كل شئن إنما يبتلي العقيدة أو النية، فإن كانت النية، أو العقيدة كما يحبها الله، اعتبر ما يصدر عنها من فعل صائب خيراً، وجازى عنه بالخير، وإن لم تكن العقيدة خالصة، فكل عمل يصدر عنها، فهو هباء، وإن كان في مظهره أعظم الخير (كما فعل ذلك الصوفي الكبير الإنجليزي المال والعاطفة، فبنى داراً كبيرة لعلاج الفقراء، لقد كان "المندوب السامي الإنجليزي" يذهب إليه في كل عام ليأكل عنده "الفتة" هو ورجال سفارته). اسمعوا قول الله: (4: 48إن الله لا يغفر أن يشرك بهن ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ثم قوله تعالى: (9: 102وآخرون اعترفوا بذنوبهم، خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم) ففي العقيدة لا يقبلها إلا خالصة نقية، أما في العمل؟ اقرأوا الآية؛ لتعرفوا الجواب.(216/174)
لقد افترت الصوفية على الله ما تفتره زندقة من قبل، فجعلته هو عين خلقه، اقرأوا هذا الكفر لابن عربي: "فالحق محدود بكل حد، وصور العالم لا تنضبط، ولا يحاط بها، ولا تعلم حدود كل صورة منها غلا على قدر ما حصل لكل عامل من صورته، فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم حده غلا بعلم حد كل صورة (ص 70 فصوص الحكم ط الحلبي جـ1)" يقولك إنه لا يمكن تعريف الله، لماذا؟ لأن الله هو عين كل شئ، فنحتاج في تعريفه إلا الأخذ بتعريف كل صورة من صور الوجود؛ إذ هو عينها، وصور العالم لا تنضبطن ولا تتناهى، فتعريفه سبحانه، لا يتناهى تبعاً لذلك! والصوفية تفتري على نوح أنه لم يحسن أداء رسالته؛ إذ دعا قومه إلى الشريعة، ول يدعهم إلى الحقيقة. دعاهم إلى الظاهر، لا إلى الباطن، ثم تحكم الصوفية على قوم نوح، فعملوا بالمستور، فكانوا من المفلحين، وتحكم بأن نوحاً نفسه أثنى عليهم لعبادتهم الأصنام (ص 70 وما بعدها فصوص"انظر الفص النوحي). ثم اقرأوا قول ابن عربي في الباب 129 من الفتوحات المكية:
لا تراقب، فليس في الكون إلا……واحد العين، فهو عين الوجود
ويسمي في حالة بإله………ويكنى في حالة بالعبيد
ترى، هل ستظلون مصرين على أن الصوفية دعوة إلى الأخلاق المثالية، وأنتم تعرفون أن الإصرار على كلمة كفر واحدة تمحو من سجل الإنسان كل كلمة مؤمنة، والصوفية مصرة على كلماتها الكافرة!!.
خلاصة دين الصوفية(216/175)
ونلخص لك دين الصوفية في كلمات قصار. أما في الوجود فيدينون بأن المطلق منه عين المقيد، أو نفس العيني المتقوم بخصائصه في هذا، أو ذاك من الأشياء ذات الكيان المادي، أو بمعنى آخر: يرون أن الله هو عين خلقه، وأما في الاعتقاد، فيدينون بأن الكفر والإيمان، أو الشرك والتوحيد، اسمان لحقيقة واحدة أو مترادفان لهما مدلول واحد، وأما في الدين، فيرون السماوي منه عني الوضعي، فمنزل الأول، هو الله، باعتباره حقيقة مجردة عن النعوت الإيجابية أو السلبية، أو الإضافية، وواضع الثاني هو الله – وتعالى جد ربنا – باعتباره متجسداً في صورة بشرية!! وأما في الجزاء الأخروي، فيلتقي عندهم طرفاه الثواب والعقاب فالنعيم في الفردوس عني العذاب في جهنم. كلاهما عين الآخر في الحقيقة والأثر!! وأما في الفكر، فيدينون بأن الحقيقة عين الخرافة أو الأسطورة، وبأن الحق والباطل، أو الصواب والخطأ يتحدان في الدلالة، وكلاهما مقياس صحيح لصاحبه، وأما في الأخلاق، فيدينون بأن الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة سواء في الباعث والغاية وفي القيمة، وإن شئت حديثاً أكثر اختصاراً، فقل: إن خلاصة دين الصوفية وفكرها وخلقها: لا تقابل، لا تضاد، لا تناقض، إذ الكل ذات واحدة، هي ذات الله سبحانه. أو كما يقول ابن عربي: "ما في الوجود مثل، فما في الوجود ضد، فإن الوجود حقيقة واحدة، والشئ لا يضاد نفسه (ص 92 فصوص جـ1 ط الحلبي)".
خلف الصوفية كسلفهم(216/176)
قد يقول قائل: ما لنا، ولابن عربي وغيره، فتلك أمة قد خلت، ومالها من أثر! وكلني أقول لهذا الذي خدعته الصوفية عن سمها، فسقته إياه يحسبه عسلاً مصفى: نحن لا نحارب أناساً، وإنما نحارب تراثاً وثنياً، آمن به سلف الصوفية على أنه الروحانية القدسية في الإسلام، وعاثوا به فساداً في عقائد المسلمين. والصوفية المعاصرة، تدين بما دان به سلفها كابن عربي وابن الفارض. وفي تقديس كهنة الصوفية لذكراهما، وفي التغني بشعرهما الوثني في نشوة سكرى. في ذلك كله برهان على أن الصوفية المعاصرة، امتداد طويل عريض عميق لدين ابن عبي والشعراني! إنها تتعبد بكل ما خلفت الصوفية السالفة من تراث، وتقدس ما كتب أحبارها، وتبشر به على أنه تجليات الروح الإلهي، وتؤمن به إيماناً عميقاً، يسلب الفكر، ويختلب البصيرة، ويهوى بالنفس إلى غور سحيق من الإلحاد، بل ربما أذنت لك الصوفية في الطعن على كتاب الله، وتثور وترغى وتزبد إذا مسست كتاب صوفي زنديق بسوء. ولئن أنكرت مرة على طبقات الشعراني ما فيها من خطايا، لرموك بعمى البصيرة.
كل صوفي هو ابن عربي في زندقته، وابن الفارض في وثنيته، والشعراني في خباله وخطاياه، تدبر أورادهم اليوم، وقصائدهم التي يرقصون بها رواد حانات الذكر! تدبر نعيبهم في كل لحظة بالهامدين، تجد دليل ما أقول. ألا تسمع منهم: مدد يأهل التصريف؟ مدد يا رئيسة الديوان (تأمل الحجاج قبل الحج وبعده تراهم يطوفون حول الأضرحة في مصر، كأنما يريدون طمأنة أوثانهم أنهم على العهد مقيمون!! بل تأمل الأسطورة التي يبتدعها سدنة كل صنم؛ إذ يزعمون أن من زار هذا الوثن، أو ذاك سبع مرات ماشياً كتب له ثواب حجة!! زعموا هذا للبدوي في طنطا، وللدسوقي في دسوق، ولشبل في الشهداء!!)؟(216/177)
واستمع إلى أولئك "المخمرين (هم طائفة من الدراويش يجلسون بعد الذكر، ثم يتبارون في إنشاد أزجال أو أشعار يزعمون أنها إلهام ساعتهم، وما زلت أذكر ذلك الرجل الهرم في قريتي "زاوية البقلي" وهو يقول عن الأقطاب:
ساعة يجونا عرب……ساعة يجونا اعجام
ساعة يجونا نصارى……لابسين زنار
ساعة يجونا سكارى……من حدا الخمار)" بعد حلقات الذكر، تجدهم يتسابقون إلى القول بأنهم : "يهود نصارى، مجوس" والدراويش يصيحون من الفرحة الطروب: "إكفر، اكفر" يامربي!
فرار الصوفية من النقد
زعم الصوفية أن من ينتقدهم، يطرد من رحمة الله! يهولون بهذا قيدا ظلوماً "للدراويش" حتى لا يحطموا أغلال الصوفية عن أعناقهم وقالوا: "وهذا الفن من الكشف يجب ستره عن أكثر الخلق: لما فيه من العلو، فغوره بعيد (ص 3، 8 رسالة الفناء من مجموعة رسائل ابن عربي طبع الهند، ص 8 إيقاظ الهمم شرح الحكم لابن عجيبة)"! باطنية منافقة، وريبة تلوذ به الصوفية إذا صعقتها صدمة الحق. وقالوا: "إذا رأيت منتقداً على التصوف، ففر منه فرارك من الأسد، واهجره (ص 3، 8 رسالة الفناء من مجموعة رسائل ابن عربي طبع الهند، ص 8 إيقاظ الهمم شرح الحكم لابن عجيبة)"
ترى هل يفر الصوفية من هذا النقد العادل؟ ما أرتضي لهم أن يكون تحت سطوة هذا الجبن الرعديد، ورهن هذا العجز الذليل!!(216/178)
وقالوا: "طريق الكشف والشهود، لا تحتمل المجادلة والرد على قائله، وحرمانه يعود على المنكر (ص 3، 8 رسالة الفناء من مجموعة رسائل ابن عربي طبع الهند، ص 8 إيقاظ الهمم شرح الحكم لابن عجيبة)" كل هذا؛ ليظل ضحايا الصوفي عمى البصائر، والقلوب، مختوماً على سمعهم، فلا يسمعون من أحد كلمة حق تجادل باطلاً صوفياً (كان يحضر مجلس الدباغ رجل لا يعتقد فيه أنه ولي كبير!! فكان إذا حضر سكت الدباغ عن أساطيره الصوفية خشية أن يفضحه الرجل أمام تلاميذه، ثم قال لهم: "إذا حضر هذا الرجل فلا تسألونا عن شئ حتى يقوم" ويروي أحد تلاميذه أنهم كانوا إذا سألوا الدباغ وذلك الرجل حاضر وجدوه – أي الدباغ – كما يقول تلميذه: "كأنه رجل آخر لا نعرفه ولا يعرفنا وكأن العلوم التي تبدر منه لم تكن له على بال" ص 42 جـ 2 الإبريز. أعرفت سر سكوت الصوفية أمامك؟ إنهم يخشون بطش الحق بهم أمام دراويشهم)!!
أما أن يا سماحة الشيخ، فسأظل إن شاء الله – ورعايته أستلهمها وعونه أستمده – أثيرها حرباً على الصوفية في تراثها الوثني، ومعتقداتها الفاسدة، وما نبتغي بها سوى الذياد عن الحق، ورضا الحق، ولن يروعنا في سبيل الله منكم وعيد. نعم سأظل – وعلى الله توكلت – أحارب باطل الصوفية بالحق من كتاب الله. فإنها محسوبة على الإسلام، بل يظن الكثير في أقطابها أنهم مشارق ربانية، وينابيع نورانية، ومثل عليا للروحانية، حفق على كل مسلم تمزيق هذه الأقنعة التي نسجتها تهاويل الأوهام، وأفانين الأساطير؛ لكيلا يحتج على دين الله بدين الصوفية؛ وليؤمن المسلمون أن الخير والهدى والسعادة في الاعتصام بكتاب الله وحده، والاقتداء بخاتم النبيين وحده، فهو أخلص الخلق توحيداً لربه، وأهداهم إيماناً به، وأزكاهم طاعة، وأشدهم تقاةً، وأرفهم بما نزله الله عليه، وهداه، وهدى المسلمين به.
مزاعم كاذبة(216/179)
تزعم الصوفية "أن التصوف صفة الله (ص 158 طبقات الصوفية للسلمي)"! وأن "من صدق بهذا العلم، فهو من الخاصة، وكل من فهمه فهو من خاصة الخاصة، وكل من عبر عنه، وتكلم فيه؛ فهو النجم الذي لا يدرك، وأن علم التصوف لا يستغنى عنه أحد، وأن نسبته إلى العلوم نسبة الكلي لها، ونسبة الشرط الذي لا بد منه لتحصيلها، وأنه لا يوجد تحت أديم السماء أشرف من علم التصوف، وأن لن ينقطع، حتى ينقطع الدين (ص 7،8 كتاب إيقاظ الهمم شرح الحكم لابن عجيبة)" كأنما رسول الله، وأصحابه كانوا من جهلة العوام!
وكأنما العلم الحديث الذي فجر الذرة، وسخر قواها، وجعل من الحديد طيراً، كأنما هو غير مجد في تقدم البشرية! لأنه ليس تصوفاً!
بل هذا معناه : أن ما جاء به المتصوفة أفضل وأعظم مما جاء به خاتم النبيين! أليسوا يقولون: "إنه لا يوجد تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم؟" والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن صوفياً، ولا دعا بدعوة التصوف!
فهل في مقدور صوفي أن يثبت صدق تلك الزعوم الكواذب، والظنون الشواحب البواهت! كما ثبت بالحق الساطع أنها زيغ وزيف وبهتان؟!
مرحى بالمحاجة
وهنا ينازعني الإشفاق على شيبتك يا سماحة الشيخ، وعلى نفسك الذاوية من هجير الأسى، ولفح اللوعة المضنية، بيد أني أرى من الخير، أن أصل ما بيني وبينك بالإلحاف في رجاء صادق، هو أن تقرأ، وأن تقرأ! ولست بطامع في أن ترد على ما كتبت! ترى أيخلف الشيخ الكبير ظني(أعثرني الله على كبير منهم في منزل رجل كريم لا يعرف دين الصوفي الكبير الذي كان علي بينة من عدة لغات وعدة فلسفات، ويتزعم طائفة كبيرة لها فروعها المنتشرة في كل مكان، فما هي إلا لحظات قصار، حتى قهر الله بالحق آياته، مما اضطره إلى أن يحكم بأن عقيدة السلف هي خير عقيدة. وهذا ديدنهم. فرار جبان، وكذب جبان!!)؟(216/180)
لم يحل خطر منصبك بينك، وبين أن تشكو منا إلى النيابة، فلما أن أيأسك عدلها من أن تظلم لك، شكوت على كل حكومة سابقة! فهل يحول بينك، وبين أن تذود عن الصوفية غائلة ساحقة ما حقة؟1 إني ليخيل على أن الشيخ الكريم سيدعوني إلى مناظرة يشهدها الجم الغفير من أتباعه، فمرحى مرحى بها، وإن كانت عند وثن الشعراني! وإذا لم ينزع أحدكم إلى الرد، فسيؤمن الكثيرون أن الصوفية باطل جبان لا يعربد بسورته إلا حين يغمض الحق عنه عينيه لحظة!.
وأصيخوا إلى قول الله: (40: 41-44 وياقوم: مالي أدعوكم إلى النجاة، وتدعونني إلى النار، تدعونني؛ لأكفر بالله، وأشرك به ما ليس لي به علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار، لا جرم أنما تدعونني إليه، ليس له دعوة في الدنيا، ولا في الآخرة، وأن مردنا إلى الله، وأن المسرفين هم أصحاب النار، فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله، إن الله بصير بالعباد) فهلا أفضتم إلى حمى الله، وعلى إشراق الهدى من كتابه وسنة رسوله، نسعى في الوجود دعاة إيمان وحق وتوحيد وإخاء وسلام؟!
دعوة من الحب إلى الضحايا
أما أنت أيتها الضحايا المسكينة التعسة، وأنت يا قرابين الشهوات من الطواغيت، فللهوى الباغي دماؤك المسفوحة، وللأوثان منك النسك الملحد.(216/181)
أيها الحيارى في ظلمات الليل، وغيابة التيه، انظروا، وانظروا، مصوب عيونكم داع كريم حبيب، تتألق البشائر علي محياه، يدعوكم بالحب: أن هلموا قبل أن يطويكم التيه، وتجتاحكم عواصفه، فباب التوبة مفتوح على مصراعيه، وما على بابه إلا كل من يرحب بكم. ومن سموات الهدى والقدس تسمعون قول الرحمن (39: 53 يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم) (25: 70-71 إلا من تاب، وآمن، وعمل عملاً صالحاً، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً، ومن تاب وعمل صالحاً، فإنه يتوب إلى الله متاباً) واحذروا، فإن الله يقول: (4: 48 إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فتعالوا إلى الله، فما يملك ابن عربي، أو البدوي أن يقبل لكم متاباً، أو يغفر لكم ذنباً، أو يبدل سيئاتكم حسنات! أو يعفو عن زلة واحدة!.(216/182)
أيها التائهون في كهوف الظلمات! عودوا إلى الحق من هدي الله الحق، ثم انظروا حواليكم حين تنيبون إلى الله، وتعملون بهديه. ألا ترون الإسلام رفاف الألوية في عزة على قمة الوجود الإنساني كله، وعلى الذرى السامقات من كل مناحيه؟! إلا ترون هداه يناسم في رحمة شرقه وغربه؟ ألا ترون الحياة فياضة الصفاء والبشر والخير، تهم بالسلام الوديع الرفيق الآمن؟! ألا ترون القلوب ينابيع ثرة للإخاء والحب والإيثار؟ ألا ترون الكون كله محاريب إيمان، وحمى حق وعدل، ومغاني سلام كريم؟! لا تعجبوا إذا رأيتم ذلك كله فإنه وعد الله العلي الكبير القدير: (24: 55 وعد الله الذين آمنوا منكم، وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الأرض، كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً، يعبدونني، لا يشركون بي شيئاً، ومن كفر بعد ذلك، فأولئك هم الفاسقون) كل هذا يحققه الله للمسلمين إذا هم أخلصوا لله وحده دينهم، ووعد الله لن يتخلف؛ لأنه الكريم القدير، وقد حقق الله سبحانه وعده لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأصحاب محمد، ولكل من سلك بالحق سبيل محمد، وسيحققه لكم إذا اتبعتم سبيله.(216/183)
دعوة صادقة الحب أيها الحيارى: لا منجاة لكم من آلامكم وأحزانكم، ومن الخوف الذي يعصف بكم، والقلق الذي تضطرب به مشاعركم، لا منجاة لكم من تلك الهموم الساجية إلا إذا لذتم بحمى الله وحده (لاذ الصوفية بفاروق، وأفاضوا غليه عبداناً يشكرونه على أن منح شيخهم كسوة، وبين يدي فاروق، وقف شيخ الصوفية يخطب عابداً شاكراً، فقال عن الكسوة: "إنها يا مولاي رمز لما أعطال الله من مواهب، وعنوان لفيض من فيوضاته سبحانه على قلب فاروق الطاهر تكشف عن مدى طهر وضعه الله فيك، فصفت روحك الطيبة. وإن هذا التكريم للصوفية إنما هو قبس من قلبك النقي ينير لنا الطريق، ويهدينا سواء السبيل، فبك نستضئ، ومن هديك نسترشد ، ومن روحك العالية نستمد الإلهام والهدى وإني إذ أتشرف بالوقوف بين يديك اليوم أقطع على نفسي عهداً وثيقاً أن أكون لجلالتك المخلص الوفي أمدك الله يا مولاي بروح من عنده، وألبسك حلة من مجده، وأيدك بجند من جنده، وأعانك بعونه وكفلك بعين رعايته" اقرأ الصحف الصادرة بتاريخ 25/3/1947م. فهل يذكر الصوفية؟! "بك تستضئ" تقديم الجار والمجرور يفيد قصر استضاءتهم على فاروق؟ فهل يذكرون؟ "من هديك نسترشد" هكذا؟ بتقديم الجار والمجرور؟ هذا معناه أن الصوفية لم تكن تهتدي بشئ إلا بهدي فاروق!!)، تؤمنون به، وتتدبرون آياته، وتهتدون بهديه، وتقتدون برسوله وحده (8: 24 يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله، وللرسول، إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون).
خاتمة(216/184)
وإني – وقد ناضلت الصوفية بهدي الله – أعرف أن هذا النضال يثير علي بغي أحقادهم، ويقف بي على شفا خطر يدهم بغتة منهم بجورهن غير أني أومن بهذه الحكمة الرائعة المؤمنة: "لأن يكون الناس جميعاً عدواً لي في الدنيا، خير من أن يكون الله وحده خصمي يوم القيامة" وأجعل من هذه الآية الكريمة مناراً لي (12: 110 حتى إذا استيأس الرسل، وظنوا أنه قد كذبوا، جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) هذا وعد الله لرسله، ووعده لأتباع رسله. فليتدبر الصوفية! وليشكوا إلى النيابة ما شاءوا، فلن ترى النيابة فيمن يدلها على الجناة جانياً، ولا في رد العدوان عن كل مقدسات الدين والفضيلة، وقيم الفكر جريمة! والصوفية بغي وفتنة مجنونة الأحقاد، غير أنها تحتال عذراء طاهرة ألم بها ظن مرتاب، وملائكية تسلسل الوحي في فجر المحراب!
ولن أضع القلم – وحسبي الله – إلا إذا أصميت الصوفية، وأدميت، أو إلا إذا تهدمت أنا، أو قضيت! فلن تخشى صولة الحق، سورة الباطل، ولكن كل هذا لن يمس قلوبنا بحقد، ولا نفوسنا بضغينة، بل إن ليرفع بأيدينا – ومن خلفها قلوبنا تحثها – في ضراعة خاشعة إلى الله أن يهب لنا، وللصوفية الإيمان الحق، وأن يهديهم سبحانه سبيل الإسلام.
(3: 8 ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب).
…………………عبدالرحمن الوكيل
…………… وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية
مراجع الكتاب ومصادره
القرآن الكريم ... 14 العهد القديم
كتب السنة ... 15 خلاص النفوس في الصلوات والطقوس
2 جامع الأصول في أحاديث الرسول ... 16 مكاتيب عبد البهاء كتب الصوفية
3 دليل الفالحين شرح رياض الصالحين ... 17 فصوص الحكم لابن عربي (اعتددنا بأربع نسخ بتحقيق الدكتور عفيفي، بشرح القاشاني، بشرح جامي، بشرح بالي أفندي)
4 الجامع الصغير للسيوطي ... 18 الفتوحات المكية لابن عربي
كتب التفسير ... 19 مجموعة رسائل ابن عربي طبع الهند(216/185)
5 تفسير ابن كثير ... 20 مواقع النجوم لابن عربي
6 تفسير ابن القيم ... 21 ذخائر الأعراق لابن عربي
7 تفسير الزمخشري ... 22 ديوان عم بن الفارض طبع بيروت
كتب لغة ... 23 شرح الديوان للبوريني والنابلسي
8 القاموس المحيط ... 24 كشف الوجوه الغر للقاشاني
9 معجم مقاييس اللغة لابن فارس ... 25 الإنسان الكامل للجيلي
كتب دينية إسلامية وغيرها ... 26 تذكرة الأولياء للعطار
10 مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية ... 27 الطواسين للحلاج
11 مجموع الرسائل الكبرى لابن تيمية ... 28 أخبار الحلاج
12 العلم الشامخ للمقبلي ... 29 اللمع للطوسي
13 حاشية الصاوي على الخريدة ... 30 التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي
31 قواعد الصوفية للشعراني ... 49 روض القلوب المستطاب لحسن رضوان
32 اليواقيت والجواهر للعشراني ... 50 مفتاح الفلاح لابن عطاء الله
33 الكبريت الأحم للشعراني ... 51 المجموعة الدمرداشية
34 لطائف المنن للشعراني ... 52 بلغة المريد للبكري
35 مطلع خصوص الكلم للقيصري ... 53 مجموعة الأحزاب طبع استانبول
36 إحياء علوم الدين للغزالي ... 54 رسالة لأحمد عبدالمنعم الحلواني
37 مشكاة الأنوار للغزالي ... 55 منحة الأصحاب
38 قوت القلوب لأبي طالب المكي ... 56 الهبات المقتبسة لمحمد عثمان
39 جامع الأصول في الأولياء للكمشخانلي ... كتب مؤلفة عن الصوفية
57 ابن الفارض والحب الإلهي للدكتور محمد حلمي
40 إيقاظ الهمم بشرح الحكم لابن عجيبة ... 58 الصوفية في الإسلام لنيكلسون
41 الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ... 59 في التصوف الإسلامي لنيكلسون
42 جواهر المعاني لعلي بن حرازم ... 60الإنسان الكامل للدكتور بدوي
43رماح حزب الرحيم لعمربن سعيد ... 61شطحات الصوفية للدكتور بدوي
44 الإبريز للدباغ ... 62شهيدةالعشق الإلهي للدكتور بدوي
45 تائية ابن عامر البصري ... 63التصوف الإسلامي لزكي مبارك(216/186)
46النفحات الأقدسية لمحمد بهاء الدين البيطار ... 64التصوف في الإسلام للدكتور فروخ
47 القول الفريد لمحمد دمرداش ... 65مشتهى الخارف الجاني للشنقيطي
48 معرفة الحقائق لمحمد دمرداش
كتب التاريخ والتراجم والطبقات
66 وفيات الأعيان لابن خلكان ... كتب فلسفة
84 الفسلفة الشرقية لغلاب
67 نفح الطيب للمقري ... 85 الفلسفة في الشرق لبول ماسون
68 ميزان الاعتدال للذهبي ... 86 المدخل لجوتييه
69 لسان الميزان لابن حجر ... 87 عقيدة الشيعة لرونلدسن
70 طبقات الشافعية للسبكي ... 88 العقيدة والشريعة لجولد زيهر
71 عجائب الآثار للجبرتي ... 89 مذاهب التفسير لجولد زيهر
72 حضارة العرب لغستاف لوبون ... 90 الفكر اليهودي جمع دكتور هرمس
73 تاريخ العرب العام لسيديو ... 91 التراث اليوناني للدكتور بدوي
74تاريخ العرب العام لفيلب حتى ... مراجع عامة
75 مصر لأدولف إرمان ... 92 مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة
76 المصريون المحدثون للمستشرق لين ... 93 الكليات لأبي البقاء
77الحرب الصليبية الأولى لحسن حبشي ... 94 التعريفات للجرجاني
78فجر الإسلام لأحمد أمين
79لواقح الأنوار "الطبقات" للشعراني
80 الرسالة للقشيري
81 طبقات الصوفية للسلمي
82 الكواكب الدرية للمناوي
83 طبقات الشاذلية للكوهني
ملحوظة: لم نذكر تواريخ طبع هذه الكتب ولا أسماء مؤلفيها كاملة، إذ ذكرنا ذلك في متن الكتاب
نفسه.
فهرس
صفحة ... الموضوع ... صفحة ... الموضوع
3 ... المقدمة ... 37 ... رب الصوفية وجود وعدم
14 ... شكوى ومعذرة ... 39 ... تجسد الإله الصوفي في المرأة
15 ... ضحية للصوفية ... 40 ... الإله الصوفي شئ مادي
16 ... إباحة الأم والأخت في الصوفية ... 42 ... لماذا عبد ابن عربي المرأة؟
16 ... التجلي في صور النساء ... 43 ... فقر الإله الصوفي
17 ... واجب شيخ الصوفية ... 43 ... إله الجيلي
18 ... لماذا أكتب للشيخ؟ ... 44 ... زعمه أنه الرب الأعظم(216/187)
19 ... دين الصوفية ... 46 ... رب الصوفية متناقض في ذاته
19 ... زعمهم أن القرآن شرك ... 48 ... إله الغزالي
20 ... زعمهم أن الدين شريعة وحقيقة ... 48 ... الغزالي يدين بوحدة الوجود
21 ... وسيلة المعرفة الصوفية ... 49 ... تعظيمه للحلاج
24 ... إله ابن الفارض ... 50 ... رأي المستشرقين في الغزالي
25 ... زعمه أنه هو الله ... 51 ... خطر وحدة الوجود على الإسلام
26 ... الصحو والمحو عند الصوفية ... 52 ... دندنة الغزالي بوحدة الوجود
29 ... ابن الفارض هو المعبود الأكبر ... 54 ... طعنه على توحيد المسلمين
30 ... عبادة الأنوثة وسببها ... 57 ... أصنام صغيرة
31 ... مجون ابن الفارض ... 65 ... رأي المستشرقين في التوحيد
32 ... كل أنثى ذات إلهية ... 68 ... صوفي يهتك عرض دابة
32 ... العشاق هم الذات الإلهية ... 70 ... إيمان الصوفية بكتبهم
33 ... سجود الملائكة لابن الفارض ... 70 ... زعمهم أنها أسرار ورموز
34 ... إله ابن عربي ... 73 ... أطوار الوجود الصوفية
34 ... تصويبه لعبادة الأصنام ... 74 ... الحقيقة المحمدية
38،35 ... ربوبية كل شئ ... 75 ... زعمهم أن محمداً هو الله والرد عليهم
35 ... الرب إنسان كبير ... 81 ... محمد يتصرف في أقطار الأرض
36 ... صور العالم هي الله سبحانه ... 82 ... أشرف صفات الرسول
صفحة ... الموضوع ... صفحة ... الموضوع
84 ... آراء المستشرقين في الحقيقة المحمدية ... 124 ... القطب وأعوانه وحقيقته
87 ... أكل شئ من نور محمد؟ ... 127 ... خاتم الأولياء وتفضيله على كل الرسل
89 ... أكان محمد يعرف القرآن قبل نزوله؟ ... 129 ... ادعاء كل شيخ أنه الخاتم
93 ... وحدة الأديان ... 130 ... لماذا فضل خاتم الأولياء؟
94 ... نفيهم تعذيب الكفار ... 131 ... الديوان الباطني
95 ... الحكم بنجاة فرعون ... 133 ... عدد أجساد القطب الكبير
96 ... كل الأديان الباطلة حق ... 133 ... تقاتل الأقطاب(216/188)
96 ... الحكم بنجاة إبليس ... 133 ... للأقطاب التصرف في كل العوالم
97 ... وحدة الأديان عند ابن الفارض ... 136 ... دعوى الزهد وأصله
99 ... عبادة الشيوخ وكراماتهم ... 141 ... الذكر الصوفي
101 ... آراء المستشرقين في التوسل ... 143 ... الذكر الصوفي بدعة يهودية
102 ... صوفي يخطب الجمعة عارياً ... 144 ... كيفية الذكر وصيغه
104 ... هتك العورة دين صوفي ... 145 ... لا يجوز الذكر ببعض أسماء الله
105 ... تطور الصوفيين إلى وحوش ... 146 ... ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم
106 ... جريمة قوم لوط كرامة صوفية ... 147 ... عبادة الصوفية
107 ... رمة تتصرف في الوجود ... 148 ... التيجاني يفضل ورده على القرآن
108 ... التنكر للعقل وللشرع ... 148 ... دعاوى الصوفية وأدعيتهم
109 ... الولي يعصى ويشرب الخمر ... 152 ... امرأة فرعون ورابعة
111 ... صوفي يدبر الأمر ... 155 ... أنماط من أدعية غير المسلمين
112 ... الكلاب أولياء صوفية ... 158 ... أدعية صوفية
114 ... طعن المستشرقين على المصريين بسبب الصوفية ... 160 ... وصف الجبرتي للموالد
117 ... الصوفية يقولون للشئ كن، فيكون ... 163 ... دعوة الصوفية الأخلاقية
120 ... سماع الجمادات والطواف بالملكوت ... 163 ... العقيدة هي الفيصل
121 ... صوفي يضمن الجنة لمن يطعمه ... 165 ... أدعية يهودية
122 ... الملكوت في بطن صوفي ... 167 ... ما رب الصوفية مرة أخرى؟
123 ... الدسوقي يملك الجنة والنار ... 169 ... أخلاق الصوفية سلبية
124 ... السرقة كرامة صوفية ... 170 ... الغزالي وسقوط بيت المقدس
صفحة ... الموضوع ... صفحة ... الموضوع
171 ... لم يكافح الصوفية في سبيل الله ... 177 ... مزاعم كاذبة
173 ... صور الوجود هي الإله الصوفي ... 178 ... مرحى بالمحاجة
174 ... خلاصة دين الصوفية ... 179 ... دعوة حب إلى الضحايا
175 ... خلف الصوفية كسلفهم ... 181 ... خطبة الصوفية بين يدي فاروق(216/189)
176 ... فرار الصوفية من النقد ... 182 ... خاتمة(216/190)
هذه هي الصوفية
في حضرموت
جمعها
الشيخ: علي بابكر
قدَّمَ له
الشيخ: علوي بن عبد القادر السقاف
الشيخ: أبو بكر بن هدار الهدار
الشيخ: صالح بن بخيت مولى الدويلة
مقدمة الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله القائل: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " والقائل: " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّّوا عليها بالنواجذ " وعلى آله الطاهرين وأصحابه أجمعين. وبعد
فقد أطلعني الأخ الشيخ علي بابكر – وفقه الله على رسالة مختصرة عن صوفية حضرموت وهالني ما نقله عن كتبهم بالجزء والصفحة من قصص وروايات يأباها الله ورسوله والمؤمنون الموحدون، وما فيها من نسبة خصائص الربوبية للمخلوق، ومن ذلك:
نفخ الروح في الجمادات ! والله عز وجل يقول: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} سورة الإسراء آية 85.
إحياء الموتى ! والله عز وجل يقول: {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي ويميت الموتى وأنه على كل شيء قدير} سورة الحج آية 6.
القول للشيء كن فيكون ! والله عز وجل يقول عن نفسه: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} سورة يس آية 82.
ادعاء علم الغيب ! والله عز وجل يقول: {عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} سورة الجن آية 26 – 27. قال: {من رسول} ولم يقل من ولي أو صالح.
شفاء المرضى ! والله عز وجل يقول عن لسان إبراهيم الخليل عليه السلام: {وإذا مرضت فهو يشفين} سورة الشعراء آية 80.
ضمان الجنة للمريد ! ومحو سيئاته من اللوح المحفوظ ! ونحو ذلك.(217/1)
كل هذا وغيره من قصص وروايات أخرى – لا يسندها نقل ولا يقبلها عقل – نقلها الشيخ في رسالته هذه، وهي كفر بواح لا يشك في ذلك مسلم موحد، لا يجوز اعتقادها ولا روايتها إلا على سبيل التهكم أو الرد عليها. وما هذا الأمر الذي وصل إليه الناس هناك إلا بسبب الهوى والجهل والبعد عن الكتاب والسنة. وإن كنت أختلف مع المؤلف فيما كرر مراراً من أن كل هذا دافعه المادة البحتة أو أنها دعايات للتسويق ولتنشيط السياحة الدينية لجذب أكبر عدد ممكن من الزوار – على حد تعبيره – ولعل أصحابها بريئون من نسبتها إليهم، فقد كُذب على الرسل والأنبياء من قبل. وعلى أحفادهم وأتباعهم التبرؤ منها ونفي نسبتها إليهم وعدم روايتها على سبيل التصديق، وأقل حقوق الآباء على الأبناء أن ينفوا عنهم الكفر ويبرئوهم منه وهذا من برِّهم، فليس من الفخر بشيء أن يكون جد المرء يدَّعي إحياء الموتى أو علم الغيب أو أنه يقول للشيء كن فيكون، والعياذ بالله.
وإني أدعو أبناء السادة في حضرموت وغير حضرموت إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه جدهم محمد بن عبد الله، على نهج سلفهم الصالح أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
علوي بن عبد القادر السقاف
غرة صفر من عام 1424 ه
البريد الإلكتروني: AASAGGAF@HOTMAIL.COM
مقدمة الشيخ أبي بكر بن هدار الهدار
الحمد لله رب العالمين ونصلي ونسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين، أما بعد
فقد اطلعت على رسالة الشيخ علي بابكر الموسومة (هذه هي الصوفية في حضرموت ) فألفيتها جيدةً في بابها، نافعة في محتواها، فقد عَرَّت هؤلاء المتصوفة مما يدَّعون به من كرامة، وكشفت عوارهم وبينت ضلالاتهم، ونبرأ إلى الله من ذلك.(217/2)
وإن كنت أتفق مع الشيخ علي بابكر فيما حكاه عن أحوال هؤلاء الضُّلال فإني أختلف معه في السبب الذي أدى بهم إلى هذه الحال.
فلعل الجهل المتراكم أعواماً مديدة وسنين متطاولة أدى بهم إلى هذه الحال، أضِفْ إلى ذلك قِلّة العلماء الربانيين أصحاب العقيدة الصحيحة.
ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يردنا وإياهم إلى الحق وأن يلهمنا رشدنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه
أبو بكر بن هدار الهدار بن أحمد الهدار
حضرموت – عينات
جمادى الأولى 1424 ه
مقدمة الشيخ صالح بن بخيت بن سالم مولى الدويلة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} وعلمنا الحكمة والقرآن، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وألبسنا لباس التقوى خير لباس. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من مخلوقاته، خير الناس للناس، سراج وهاج ونور ونبراس، ورحمة وإيناس. صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد:
فإن بلاء التصوف قد عمَّ وطمَ، وشرّق وغرّب في الأمم حتى لا يكاد يخلو منه سهل ولا أكم، وهذا وإن كان نذير شؤم ومؤشر انحراف، فإنه عند أهل الجهل والغفلة معيار تصحيح واعتراف، وليس المقامُ مقام بيان فساد هذا الميزان. وحسبي ما جاء في القرآن: {وأن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} النساء: 116، وقوله سبحانه: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} يوسف 103.(217/3)
كما أنني لا أعني بهذا البلاء تصوف الموالد والحضرات، فهو أحقر وأظهر من التصدي لكشف زيفه وبيان بطلانه وانقطاعه عن دين الله وهَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تصوف السلوك والرياضة والأخلاق [قال أبو بكر الكتاني: " التصوف خُلق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في التصوف ". مدارج السالكين 1/ 499]، فهو مشترك بين أمم الأرض، مطلوب عند عقلاء العالم، والناس فيه بين مقصر ومشمَّر، سار فيه الموفقون المهتدون على درب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه، وزكّاه وحلاه: {وإنك لعلى خلقٌ عظيم} القلم:4، وامتطى غيرهم سبلاً ومذاهب فأساءوا وأحسنوا، وأصابوا وأخطئوا {قل كلٌ يعمل على شاكلته} الإسراء: 84.
ولا أعني صوفية الزهد، فأهل الزهد أكرم وأتقى وأنقى، جاعوا واحتفوا، وتخلوا واختفوا " إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يُؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع " [رواه البخاري في صحيحه في عدة مواضع رقم 6453، 2886، 2887]، يعدون الكرامة إنذارً وتخويفاً، والحفاوة استدراجاً، والثناء بلاءً وفتنة، فإن أُوتوا فمن سوء الفهم تارة، ومن غلبة الطبع أو الحال الأخرى، فكل من أحبهم فإن الحق أحب إليه منهم، يؤخذ من قولهم ويُترك، ولا يدّعون لأنفسهم العصمة ولا تُدعى لهم إلا من مُخرِّف أو مُحرِّف.
إنما أعني صوفية البلاء والعناء، الذين يتسترون بما سبق من مظاهر، ويضمرون خلاف الظاهر {ولتعرفنهم في لحن القول} محمد: 30، {لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون} آل عمران: 71.
صوفية الوثنية وركام الديانات الشركية..
صوفية الحلول والاحاد، والجرأة والإلحاد..
صوفية الدجل والخرافة والخلل..(217/4)
عمدوا إلى أديان الناس وعقولهم فطلبوا إلغائها واجتهدوا في طمس معالمها، ثم تنافسوا بعد ذلك إدارة الكون، وإعادة التشريع وبناء المشاهد وصرف الناس إليها. منافسة تبلغ حد الجنون أو تجاوزه، لدرجة ادعاء بعضهم القدرة على تغيير ما في اللوح المحفوظ، وآخر القدرة على إطفاء النار وإغلاق الجحيم، والثالث منادمة رب العالمين ومزاحمته على عرشه العظيم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، في أقوال وأفعال لا يمكن صدورها عن رجل عاقل فضلاً عن مسلم عالم أو فاضل.
وعن داود بن صبيح قال: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: يا أبا سعيد إن ببلدنا قوماً من هؤلاء الصوفية ؟ فقال: لا تقرب من هؤلاء، فإنا قد رأينا من هؤلاء قوماً أخرجهم الأمر إلى الجنون، وبعضهم إلى الزندقة. [المنتقى من تلبيس إبليس للإمام ابن الجوزي – علي حسن بن عبد الحميد ص 280]
وما يزيد الطين بله والمرض علة، نسبة أقوالهم الباطلة وأفعالهم العاطلة إلى من لهم سَبْق إلى الدين أو فضيلة اختصهم بها الله رب العالمين، كنسبة هذا العبث والتخليط للأئمة من أهل البيت. وكل ذلك لترويج الباطل وزخرفته، وأهل الحق من أهل البيت كغيرهم من طالبيه وقاصديه على منهج خير القرون متبعين مقتدين لا مبتدعين ولا مخترعين، أحرص الناس على السنة، وأكثرهم عناية بها، وهم أولى بها وأهلها، فمن دارهم خرجت، وعلى أيديهم برزت، ثم هم بعد ذلك كغيرهم في غير ما اختصهم الله به، فيهم العالم والجاهل، والراشد والضال، والمهتدي والمنحرف، بل المسلم والكافر (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) ونسبهم أدنى للتكليف من التشريف، وتقصيرهم ي نشر السنة والذبِّ عنها يجلب لهم الذم والتأفيف.(217/5)
أما الكرامات وهي مدار هذه الرسالة اللطيفة فهي كغيرها من أبواب العقائد التي انقسم فيها الخلق إلى غالً ومُجحف، ومُشَّرَّق ومُغَرَّب، ومُُثْبت ومُنكَر(وكلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ ) والحق دائماً بين الغالي فيه والجافي عنه، إلا أن النقص دخل على أهل التصوف في هذا الباب من جهات منها:
أولها: مباهاتهم بها وادعاءاتهم فيها، والأصل في أهل العلم والدين الخوف واحتقار النفس، كما هو غالب على حال السلف الصالح رحمهم الله كما قال عمر رضي الله عنه: " والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه " [رواه البخاري في صحيحه رقم 3692]
أما هؤلاء فلا تكاد تصدق أن المتكلم بها من أهل الإسلام والاستسلام، والإجلال والاحترام لله رب العالمين، وتأمل: عن أبي يزيد البسطامي قال: وددت أن قد قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم. فسأله رجل ولم ذاك يا أبا يزيد ؟ قال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق. [ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس، انظر المنتقى النفيس ص 457]
ثانيها: لعبهم وعبثهم فيها، حتى عادت في كثير من الأحيان خاضعة للتشهي والتذوق، وكأن أحدهم في مطعم أو نُزُل يطلب ما يشاء مستخدماً لا مستجدياً، قال النوري: كنت بالرقة فجاءني المريدون الذين كانوا بها وقالوا: نخرج نصطاد السمك، فقالوا: يا أبا الحسين هات من عبادتك واجتهادك وما أنت عليه من الاجتهاد سمكة يكون فيها ثلاثة أرطال لا تزيد ولا تنقص. فقلت لمولاي: إن لم تخرج إليَّ الساعة سمكة فيها ما قد ذكروا لأرمِيَنَّ بنفسي في الفرات، فخرجت سمكة فوزنتها فإذا فيها ثلاثة أرطال لا زيادة ولا نقصان. [المصدر السابق ص 466](217/6)
وإنما دخل عليهم هذا من جهة جهلهم بالحكمة من الكرامات [أو نفيهم لها كما هي عقيدة الأشاعرة] ، وأن المقصود بها إنما هو نصرة الدين وإقامة السنة وتأييد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لا العبث والتشهي وفرد العضلات وتخويف العامة وكسب الجاه وترويج السياحة الدينية....
ثالثها: سرقة الكرامات، ولك أن تطالع التراث الصوفي في عصور وأماكن مختلفة لترى كيف تدور كراماتهم حول قضايا متشابهة تختلف فيها الأسماء والأماكن وتتفق فيها الأحداث والوقائع، فالحادثتان المتقدمتان تراهما عند صوفية حضرموت أو السودان أو مصر أو المغرب... أو عند الجميع. [انظر أمثلة على ذلك في كتاب أولياء الله بين المفهوم الصوفي والمنهج السلفي – للشيخ عبد الرحمن دمشقية ص 157]
رابعها: انتحال الكرامات وتوهمها، (فمن العباد من يرى ضوءاً أو نوراً في السماء، فإذا كان في رمضان قال: رأيت ليلة القدر، وإن كان في غيره قال: قد فُتحت لي أبواب السماء.
وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه فيظن ذلك كرامة وربما كان اختباراً، وربما كان من خِدَع إبليس، والعاقل لا يساكن شيئاً من هذا ولو كان كرامة ) [ المنتقى النفيس ص 517]، وكل هذا نِتاج العناية الزائدة التي أولاها هؤلاء الصوفية بالكرامات فجعلوا غاية المريد منهم طلب الكرامة، وكانت وما زالت عناية الصالحين بطلب الاستقامة لا بطلب الكرامة.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: " وقد لبّس إبليس على قوم من المتأخرين فوضعوا حكايات في كرامات الأولياء ليشيدوا بزعمهم أمر القوم، والحق لا يحتاج إلى تشييد بباطل فكشف الله تعالى أمرهم بعلماء النقل. اه [المنتقى النفيس ص 517]، بل تمادوا في ذلك فادّعوا ما لا يصلح إلا لله تعالى، من معرفة الغيب والاطلاع على اللوح المحفوظ وقراءته سطراً سطراً، وتسيير الكون والتصرف في أفلاكه، أو ارتكبوا المحرمات وجعلوها كرامات.(217/7)
وقال ابن الجوزي رحمه الله أيضاً: وعن عبد العزيز البغدادي قال: كنت انظر في حكايات الصوفية فصعدت يوماً إلى السطح فسمعت قائلاً يقول: {وهو يتولى الصالحين} فالتفت فلم أرى شيئاً، فطرحت نفسي من السطح فوقفت في الهواء. قلت: هذا كذب محال، لا يشك فيه عاقل، فلو قدّرنا صحته فإن طرح نفسِه من السطح حرام، وظنه أن الله يتولى من فعَلَ المنهي عنه باطل، فقد قال تعالى: {ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة} فكيف يكون صالحاً وهو يخالف ربه ؟ وعلى تقدير ذلك من أخبره أنه منهم ؟؟ وقد اندس في الصوفية أقوام تشبّهوا بهم وشطحوا في الكرامات وادعائها واظهروا للعوام مخاريق صادوا بها قلوبهم. [المصدر السابق ص 527]
خامسها: جعلها شرطاً أو دليلاً على الولاية، والتوصل بذلك إلى تعظيم أصحابها في القلوب وتمرير أو تبرير أو تقرير ما يقولونه ويفعلونه. قال ابن تيمية رحمه الله: وكثير من الناس من يخلط في هذا الموضع فيظن شخصاً أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص ويخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وجعله الفاروق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن تبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص، أولاً: إلى البدعة والضلال، وآخراً: إلى الكفر والنفاق، ويكون له نصيب من قول الله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلاناً خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا}.....(217/8)
وقال رحمه الله: وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، بنى أمره على أنه ولي لله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله، كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل الله منه ما خالف الكتاب والسنة فكيف إذا لم يكن كذلك ؟
وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً أن قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل: أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحياناً، أو يملأ إبريقاً من الهواء، أو ينطق بعض الأوقات من الغيب، أو يختفي أحياناً عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سُرِقَ لهم أو بحال غائب لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور، ما يدل على أن صاحبها وليٌ لله، بل لقد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يُغتر به حتى يُنظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونَهْيهِ.
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يُظَن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يُعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويُعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة... اه [الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ويا له من كنز ) ص 163 – 169 باختصار](217/9)
وقد نقلته بطوله لنفاسته وكفايته، فإن المحظور في كثير من الأحيان ليس فيما يُحكى من الكرامات، وإن كانت مليئة بالمنكرات، لكن المحظور هو فيما يُبنى عليها من التشريعات والاستغاثات والزيارات والمقامات والتجمعات والمنامات والحكايات.. وهم يهولون بها ويشغلون الناس بعجائبها للتوصل إلى ترويج شركياتهم وبدعهم (فاحذروهم )
وقد عمد الشيخ علي بابكر وفقه الله في هذه الرسالة إلى مجموعة من المخاريق والخرافات والدعاوى والمنكرات المنسوبة أو المسروقة – كما مر معنا – أو المذكورة بأسانيد مجهولة، فأبرزها ولسان حاله فيما اعتقد قول ابن الجوزي رحمه الله (فإن كان ذلك صحيحاً عنهم توجب الرد عليهم، إذ لا محاباة في الحق، وإن لم يصح عنهم حذرنا من مثل هذا القول، وذلك المذهب من أي شخص صدر... والله يعلم أننا لم نقصد ببيان الغلط إلا تنزيه الشريعة والغيرة عليها من الدخل، وما علينا من القائل والفاعل، وإنما نؤدي بذلك أمانة العلم، وما زال العلماء يبين كل واحد منهم غلط صاحبه قصداً لبيان الحق لا لإظهار عيب الغالط، ولا اعتبار بقول جاهل يقول: كيف يرد على فلان الزاهد... لأن الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة لا إلى الأشخاص، وقد يكون الرجل من الأولياء وأهل الجنة وله غلطات فلا تمنع منزلته بيان زلله ... اه ) [المنتقى النفيس].(217/10)
وليس إقناع كثير ممن تشربت قلوبهم هذه الضلالة ضروري عند المؤلف – في ظني – وإنما قصد كشف زيفهم وتعرية باطلهم لأهل الفطر السليمة والعقول المستقيمة ممن غره كلام بعضهم وزخارف قولهم. أما هم فكما حكى ابن الجوزي أيضاً عن شيخهم القشيري قوله: " وحجج الصوفية أظهر من حجج كل أحد، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب، لأن الناس إما أصحاب نقل وأثر، وإما أرباب عقل وفكر، وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة.. " [المصدر السابق] فهم بلا عقل ولا نقل، فكيف يُرجى رشاد من كشف عن حاله بسيئ مقاله، كفى الله الشريعة شر هذه الطائفة.
" فمن أحب النجاة غداً، والمصاحبة لأئمة الهدى، والسلامة من طريق الردى، فعليه بكتاب الله، فليعمل بما فيه، وليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فلينظر ما كانوا عليه، فلا يعدوه بقول ولا فعل، وليجعل عبادته واجتهاده على سننهم، وسلوكه في طريقهم، وهمته في اللحاق بهم، فإن طريقهم هو الصراط المستقيم الذي علمنا الله سبحانه سؤاله، وجعل صلاتنا موقوفة على الدعاء به فقال سبحانه: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم * ولا الضالين} آمين.(217/11)
فمن شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم فقد مرق من الدين، وخرج من جملة المسلمين، ومن عَلِمَ ذلك وصدق به ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، وعلم أن الله تعالى قد أمرنا باتباع نبيه بقوله سبحانه: {واتبعوه لعلكم تهتدون} الأعراف: 158 وغير ذلك من الآيات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " وقوله صلى الله عليه وسلم: " خير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها " فما باله يلتفت عن طريقه يميناً وشمالاً، وينصرف عنها حالاً فحالآ، ويطلب الوصول إلى الله سبحانه من سواها، ويبتغي رضاه فيما عداها ؟ أتراه يجد أهدى منها سبيلاً ويتبع خيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً ؟ كلا لن يجد سوى سبيل الله سبحانه إلا سبيل الشيطان، ولن يصل من غيرها إلا إلى سخط الرحمن، قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام: 153، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطاً مستقيماً فقال: " هذا سبيل الله " وخط خطوطاً فقال: " هذه سُبل الشيطان وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه من أجابهم إليها قذفوه في النار " [رواه أحمد والنسائي]، أو كما جاء في الخبر، فأخبر أن ما سوى سبيل الله هي سُبُل الشيطان، ومن سلكها قُذِفَ به في النار، وسبيل الله التي مضى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه والسابقون الأولون، واتبعهم فيها التابعون بإحسان إلى يوم الدين، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم، فمن سلكها سَعُد، ومن تركها بَِعُد.(217/12)
وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأخلاقه وسيرته وما كان عليه في عبادته، وأحواله مشهور بين أهل العلم، ظاهر لمن أحب الاقتداء به واتباعه وسلوك منهجه، والحق واضح لمن أراد الله هدايته وسلامته و{من يهد الله فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشدا} الأعراف: 178 [رسالة في ذم ما عليه أهل التصوف للإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ص 18 – 20] وقد استكتب المؤلف – وفقه الله – الفقير هذه المقدمة على قلة البضاعة حباً لأهل البيت، وغيرة عليهم أن يروج الباطل والبدع والخرافة باسمهم، وفصلاً بين الأديان والأقوال والأنساب والأحساب.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنَضِل، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على الرحمة المهداة، المنة المسجاة محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
صالح بن بخيت بن سالم مولى الدويلة.
26 / / 1424 ه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبل المجرمين} [الأنعام: 55] والقائل: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} [التوبة: 34]
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " رواه أبو داود في سننه، وهو حديث صحيح والقائل: " دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " فقال حذيفة وهو رواي هذا الحديث: من هم يا رسول الله، صفهم لنا ؟ قال: " قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " رواه مسلم.
وبعد: فهذه رسالة مختصرة فيها بيان شيء من عقائد الصوفية في حضرموت أخذناها من كتبهم ومصادرهم.
وفي هذه المقدمة أذكر لك أخي القارئ بعض الأمثلة على ما عند الصوفية من عقائد وأفكار.(217/13)
المثال الأول: جاء في كتاب تذكير الناس بكلام أحمد بن حسن العطاس الذي جمعه: أبو بكر العطاس بن عبد الله بن علوي الحبشي سنة 1393ه، ما نصه: وحكى سيدي رضي الله عنه (1) عن الحبيب عبد الله بن عمر بن يحي أنه لما وصل إلى مليبار دخل على الحبيب علوي بن سهل، فرأى في بيته تصاوير طيور وديكة وغيرها.
فقال: يا مولانا إن حدكم صلى الله عليه وسلم يقول: " يكلف الله صاحب التصاوير يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح "
فقال له الحبيب علوي: عاد شيء غير هذا ؟ (2)
فقال: لا
قال: فنفخ الحبيب علوي تلك التصاوير، فإذا الديكة تصرخ والطيور تغرد.
فسلم له الحبيب عبد الله بن عمر له حاله. اه. [تذكير الناس بكلام أحمد العطاس ص 155]
سبحان الله العظيم !! ذكرتني هذه القصة بالنمرود الذي حاج نبي الله إبراهيم عليه السلام وادعى أنه يحي ويميت {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحي هذه الله بعد
موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم} [البقرة 258 – 260]
__________
(1) - أي أحمد بن حسن العطاس
(2) - أي عندك شيء غير هذا الكلام(217/14)
تأمل معي أخي القارئ هذه القصة، عندما دخل الرجل على الولي المزعوم ورأى عنده المنكر معلقاً في بيته، فأنكر عليه وذكره بالحديث: " من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ " ولاحظ قوله: " وليس بنافخ ".
وقد ورد أحاديث كثيرة في ذم التصاوير مثل حديث " أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون " وحديث " لعن الله المصورين " وفي الحديث القدسي " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة " أو كما قال.
وذات مرة دخل النبي صلى الله عليه وسلم على حجرة عائشة فرأى عندها تصاوير في نمرقة، فوقف على الباب ولم يدخل، قالت عائشة: فرأيت الغضب والكراهية في وجهه، فقلت: أتوب إلى الله يا رسول الله ماذا أذنبت ؟ قال: " ما بال هذه النمرقة ؟ " قلت وسادة أتيت بها لك لتوسدها وترقد عليها، فقال يا عائشة : " إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم " ثم قال: " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلباً أو صورة " قالت عائشة: فمزقت التصاوير. [رواه البخاري]
فكان الواجب على هذا الحبيب لما نُصح وذُكر بالحديث أن يستجيب لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ويزيل هذه الصور إن كان من الصالحين {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} [الأنفال: 24]
ولكنه رد بسوء أدب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عاد شيء غير هذا ؟
هل هذه من أخلاق الصحابة ؟
هل هذا من أخلاق المؤمنين ؟
إنهم لا يتأدبون مع أحاديث نبيهم.
ثم بعد ذلك نفخ في تلك التصاوير، فإذا الديكة تصرخ الطيور تغرد.
فأقول أولاً: ألا لعنة الله على الكاذبين.
ولاشك عندي أن هذه القصة مكذوبة، لأن القوم معروفون بالكذب ولا يتورعون، وإن صحت هذه القصة فهذا الولي المزعوم ساحر، وسحر عين الناصح وخيل له أن الديكة تصرخ والطيور تغرد.(217/15)
ولا يغرنك أقوال أتباعهم إن هذا من باب كرامات الصالحين.
وكيف يكون صالحاً وهو الآن عاص مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليقه للتصاوير.
فإذا كان عاصياً ومخالفاً لأمر محمد صلى الله عليه وسلم، ومرتكباً لنهي شرعي كيف يكرمه الله بإحياء الموتى !!!
لاشك أن هذه القصة من أقوال الكاذبين أو من أفعال الساحرين.
ثم قال في نهاية القصة: " فسلم الحبيب عبد الله له حاله "
هذا الذي يريدونه، هم فساق وأصحاب معاصِ ويتظاهرون بالولاية، ويريدون من الناس ألا ينكروا عليهم وأن يسلموا لهم الأحوال الشيطانية، ويتذرعون بأن أفعالهم من باب كرامات الصالحين.
والمعروف من سيرتهم أن الصلاح في واد وهم في واد، والصلاح ليس مجرد دعوى يدعيها الإنسان، يدعي أنه من الصالحين وأعماله وسيرته تخالف ذلك.
ثم أن الكرامات ليست كالسحر بيد الساحر كلما أراد إظهاره أظهره، وإنما هي شيء من عند الله يكرم بها أولياء لا قصد لهم فيه، ولا تحدي ولا قدرة ولا علم.
المثال الثاني: في كتاب الجواهر في مناقب الشيخ أبي بكر(1) تاج الأكابر، طبعة دار الفكر الحديث بالقاهرة ص 28 الذي جمعه عبد الله بن أحمد الهدار سنة 1391ه، وهو الحفيد الرابع للمترجم له.
__________
(1) - يُكثر الصوفية من كتابة المناقب والكرامات لمشايخهم، والفائدة من ذلك أنه يقوي اعتقاد العامة في هؤلاء المشايخ، فتكثر الزيارات لقبورهم، وتكثر القرابين التي تُقرب لأصحاب المشاهد، والمستفيد الأول من هذه القرابين هم السدنة، وغالباً ما يكون هؤلاء السدنة من أحفاد المترجم له أو من أقاربهم، فيتقاسمون هذه القرابين بينهم، وأحياناً يحصل اختلافات في تقسيمها، فيتنازعون ويتلاعنون ويتعاركون ويتحاكمون إلى غيرهم في ذلك، كما حصل قريباً بين سدنة مشهد........(217/16)
تكلم المؤلف المذكور عن صاحب الترجمة الشيخ أبي بكر بن سالم وذكر اسمه وتاريخ ميلاده، وذكر مشايخه، ثم ذكر ثناء العلماء المعاصرين له ثم ذكر فصلاَ بعنوان: ثناء العلماء عليه قبل ميلاده كشفاً
حيث يقول تحت هذا العنوان
ثناء العلماء عليه قبل ميلاده كشفاً
إن ممن أثنى عليه قبل وجوده السيد الولي المكاشف العارف بالله أحمد بن علوي المجذوب بن عبد الرحمن السقاف القاطن بمريمة والمقبور بتريم، وقد كان يأتي حافة عينات قبل عمارتها بالجهة الغربية وهي أشجار سلم شائكة وأحجار كثيرة ظاهرة ومطمورة ويقف فيها ويقول يولد لنا مولود، ويكون كبير القدر ويسكنها ويعين
مساجدها ومحل صلاته كما في فيض الأسرار. وفي الزهر الباسم في ربا الجنات لمؤلفه العلامة المحقق الشيخ عبد الله بن أبي بكر قدري باشعيب، قال فيه: إن السيد أحمد بن علوي المذكور يقول: هذا مسجده ويصلي فيه ويسكن هذا المكان ويشير إلى مواضع منه وهذه بيوته ومساكنه، فبنى المسجد والبيوت في المواضع المشار إليها، وفي مجموعة السيد العلامة الكبير الإمام علي بن محمد الحبشي جاء ملخصاً قال: أن مقدمة تربة المصف بقسم الإمام العارف بالله صاحب الكشف الجلي الخارق الحبيب محمد بن أحمد جمل الليل يشير إلى عينات، وصاحب الترجمة قائلاً سيكون هاهنا ويشير إلى عينات أولادنا ومزارات وقباب وهذا كله قبل ميلاد المترجم له رضي الله عنهم أجمعين.
وقال شيخ الحقيقة وإمام الطريقة سلطان كل الأولياء في وقته الحبيب أبو بكر بن عبد الله العيدروس صاحب عدن:
بدر السعادة قد قرب طلوعه وسوف يظهر
إذا بدا كل الشهب تطيعه ولو تأخر
غصن زكا أصله مع فروعه وزهره أثمر
وأراد به صاحب الترجمة، وقال بعضهم غيره من جهة الكشف الرباني. وقال الشيخ أبو بكر تحدثاً بالنعمة وتأييداً لكشف هؤلاء الأئمة قصيدة له نفع الله به إقراراً واعترافاً:
قد نار في الكونين نور بدري وقد ذكر فضلي قبيل ذكري(217/17)
[الجواهر في مناقب الشيخ أبي بكر بن سالم تاج الأكابر ص 27]
الله أكبر يا عباد الله، أبو بكر بن سالم المولود سنة 919 ه بتريم أثنى عليه العلماء قبل ولادته، وما هي أعمال أبي بكر بن سالم الخالدة ؟ هل جاهد الروم والفرس وكسر شوكتهم ؟ هل أقام الخلافة الإسلامية ؟ هل انشق له البحر كما انشق لموسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل ؟
وهل حصل هذا الكلام لمن هو أفضل منه من أمثال الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيره من أئمة الهدى أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وصلاح الدين الأيوبي ؟
ثم هؤلاء الذين أثنوا عليه قبل ولادته، هل أوحي إليهم من السماء بهذا ؟
الجواب: لا وألف لا، لأن الوحي انقطع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم الأنبياء والرسل فلا نبي بعده.
إذاً كيف علموا بهذا ؟
هل هم يعلمون الغيب ؟
قال تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} [النمل: 65] وقال عز وجل:{وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] وقال سبحانه: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك، أن أتبع ما يوحى إلى، قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} [الأنعام: 50] وقال سبحانه: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف: 18]
وروى الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: " مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله "(217/18)
تأمل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: " ولا يعلم ما في غد إلا الله "، وإذا كان رسول البشرية الصادق الأمين يقول لا يعلم ما في غد إلا الله فكيف يدعي عبد الله الهدار أن هناك من أثنى على أبي بكر بن سالم قبل ولادته وقبل خروجه من بطن أمه. (1)
والله الذي لا إله إلا هو لولا أن هذا الدجل مكتوب أمام عيني لما صدقت أن عاقلاً يتفوه به فضلاً عن أن يكتبه في كتاب ويوزعه على الناس.
قال أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير المحيط عند تفسير قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}: حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى الصوف أشياء من ادعاء المغيبات والاطلاع على علم عواقب أتباعهم وأنهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها، ويخبرون بذلك على رؤوس المنابر، ولا ينكر ذلك أحد، هذا مع خلوهم عن العلوم، ويوهمون أنهم يعلمون الغيب، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: " ومن زعم أن محمداً يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} ".
وقد كثرت هذه الدعاوى والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ، عجزوا عن مدارك العقول والنقل وأعياهم طلاب العلم:
فارتموا يدعون أمراً عظيماً لم يكن للخليل ولا للكليم
بينما المرء منهم في انسفال أبصر اللوح وما به من رقوم
فجنى العلم منه غضاً طرياً ودرى ما يكون قبل الهجوم
إن عقلي لفي عقال إذا ما أنا صدقت بافتراء عظيم اه
[تفسير البحر المحيط 4 / 534]
__________
(1) - قال الشاعر الجاهلي:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي(217/19)
المثال الثالث: ذكر صاحب المشرع الروي(1) [2/21] أن الشيخ عبد الله باعباد سأل علوي بن الفقيه المقدم عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال: " ظهر لي ثلاث: أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء كن فيكون، وأعرف ما سيكون " فقال عبد الله باعباد: نرجو فيك أكثر من هذا " (2)
يا للهول يا أمة الإسلام !! اسمعوا ماذا يقول علوي بن الفقيه يحي ؟!! يحي ويميت بإذن الله، ويقول للشيء كن فيكون ويعرف ما سيكون !!!
أما الأولى: فيكون نمروداً آخر (3) وما أكثر النماريد في حضرموت، ويلحق بالنمرود الأول الذي نفخ في الديكة والطيور، وقد تقدم الكلام عليه.
وأما الثانية: فهذا قد نازع رب العالمين في خصائصه، قال تعالى: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} [يس: 81 – 83]
فلا شك ولا ريب أن هذا قول ساقط وبطلانه واضح، بل هو فضيحة كبيرة للقوم تبين ضلالهم، فلا يحتاج إلى رد ولا مناقشة، ولكن حكم قائل هذا الكلام أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وأما الثالثة: وهي قوله (ويعرف ما سيكون ) فهذه تقدم الكلام عليها عند الكلام على زعمهم أن العلماء اثنوا على أبي بكر بن سالم قبل ولادته.
وبعد أخي القارئ هذه الأمثلة الثلاثة تكفيك لبيان ضلال القوم وأنهم على طريقة خلاف طريقة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) - كتاب المشرع الروي في فضائل آل باعلوي، كتاب مليء بالخرافات، فلو أن طالب علم متمكناً تفرغ له وقرأه وأخرج ما فيه من خرافات وفندها بأسلوب علمي لكان في ذلك خير عظيم.
(2) - نقلاً من كتاب زيارة هود عليه السلام للشيخ أحمد المعلم.
(3) - إن ثبت هذا الكلام عنه وصح أنه هو قائله فهو نمرود وإلا فلا نظلمه.(217/20)
وللتوسع في معرفة ما عند القوم اقرأ هذه الرسالة المختصرة التي تكشف القوم على حقيقتهم وتبين حيلهم الشيطانية وأساليبهم الماكرة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
كتبه
علي بابكر
الرياض - ت: 055291959
فاكس: 4140434
ص ب 4612
الرمز البريدي 1141
تمهيد
مرت بحضرموت فترات تشتد فيها حاجة الناس، حيث أن الناس يعتمدون على الأمطار – بعد الله عز وجل – اعتماداً كلياً ولا يوجد أنهار كثيرة، ويجدون صعوبة في استخراج المياه من الأرض.
وكان الناس يكدح الواحد منهم من بعد صلاة الفجر حتى غروب الشمس لكي يؤمّن قوت يومه له ولأولاده، وفي مثل هذا الحال نجد أن الصوفية يسلكون طرقاً لكي يؤمنوا لأنفسهم رزقاً حسناً، واستمع إلى هذه القصة التي ذكرها صاحب كتاب الجواهر في مناقب أبي بكر بن سالم:
" جاءت عجوز إلى صاحب الترجمة (أي الشيخ أبي بكر بن سالم ) بشيء يسير من الطعام نحو حفنتين أو ثلاث، ولم يكن من الطعام الجيد كالبر، بل من الكتب، فتلقاها تحت بيته أحد المتصلين به، فأخبرته بما معها مسرورة به، فانتهرها وقال لها: تأتي له القوافل من الجمال الموقرة بالطعام، أو ما هذه القطة، فسمع صاحب الترجمة، فخرج إليها واستقبلها ببشاشة وكرم أخلاق وترحيب وشكرها على ما تحمله من الطعام، واستلمه في كمّه مسرورا فخوراً ودعا لها، وسارت العجوز من عنده مجبورة الخاطر" اه [الجواهر في مناقب الشيخ أب بكر بن سالم تاج الأكابر - ص 67]
ومثل هذه الحكايات كثيرة في كتبهم، ومنها أن فلاناً أهدى للشيخ قطيعاً من الغنم ونحو هذه الحكايات.
ما المقصود منها ؟
المقصود تعويد العامة والنساء والأعراب على دفع القرابين لهم، إما على المشائخ الأحياء أو الأموات، ويوجد لجان متخصصة من السدنة لاستلام هذه القرابين عن الشيخ والشيخ يتقبلها.
فالمسألة إذا مادية بحتة وأكل أموال الناس بالباطل. (1)
فصل
__________
(1) - ومنهم من يريد الشهرة والمدح والثناء وأنه من أولياء الله.(217/21)
نبدأ الكلام عن صوفية مدينة عينات.
معلوم أن مدينة تريم هي المدينة المقدسة الأولى عند صوفية حضرموت وهي تعتبر عندهم رابع الحرمين الشريفين، والسياحة الدينية نشيطة في تريم، وصوفية تريم يجدون دخلاً جيداً بسبب كثرة الزار ونشاط السياحة الدينية، فأراد صوفية عينات أن ينشطوا السياحة الدينية في بلدتهم فعملوا مقبرة كبيرة بها سبع قباب، قبة للشيخ أبي بكر بن سالم الذي لقبوه بتاج الأكابر، وبقية القبب لأولاده.
ومن المعلوم أن الناس لا يزورون بلدة ويكررون الزيارة له إلا إذا كانت هذه البلدة مقدسة، ومن يزورها يكون له ثواب. فمثلاً مكة شرفها الله، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أحب البقاع إلى الله، وفيها بيت الله، والصلاة فيها بمائة ألف صلاة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: " أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " لأجل هذا صار الناس يزورونها ويترددون عليها.
وكذلك المدينة النبوية، الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، وكذلك فيها مسجد قباء، وصلاة ركعتين فيه ورد أن فيها فضلاً.
وكذلك المسجد الأقصى مسرى الرسول النبي صلى الله عليه وسلم، الصلاة فيه بخمسمائة صلاة.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المساجد الثلاثة هي التي يجوز شد الرحال إليها، أما غيرها فلا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى "
وكما أن زائر المسجد النبوي بعد صلاته ركعتين يقصد القبر النبوي للسلام عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أراد صوفية عينات أن الناس يقصدون مسجد أبي بكر بن سالم وقبره فألفوا كتاباً بعنوان:
الجواهر
في
مناقب الشيخ أبي بكر بن سالم تاج الأكابر
ولاحظ أن المؤلف هو حفيد للشيخ أبي بكر بن سالم، لأن الأحفاد هم أولى الناس بالقرابين والصدقات التي تقرب للشيخ، فماذا قالوا في هذا الكتاب ؟(217/22)
قال صاحب الجواهر [ص 206]: وعن بعض آل علوي الناسكين، قال: " رأيت كأني قصدت مكة المشرفة للحج، فلما دخلت الحرم الشريف لم أجد البيت الشريف زاده الله شرفاً في محله، فنمت لذلك، فرأيت رجلاً من آل باعلوي رضي الله عنهم، فسألته ؟ فقال: سر معي وأنا أدلك عليه، فسرت خلفه حتى دخلنا عينات، وإذا خيمة عظيمة عند بيوت الشيخ أبي بكر نفع الله به وأسمع صوته داخلها، فقال هذا البيت المعظم تحول إلى هنا، ثم انتبهت " اه
تأمل هذه القصة، عن بعض الناسكين من آل باعلوي (يعني مجهول )، قال (رأيت كأني قصدت مكة ) يعني أنها رؤية منامية، فهل هو صادق في رؤياه أو كاذب ؟
لابد أن نتأكد، لأن هناك من يكذب في الرؤيا ويدعي أنه رأى وهو لم يرَ ، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تحلم بحلم لم يره كُلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل " [رواه البخاري]، قال النووي رحمه الله: (تحلم ) أي قال أنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا وهو كاذب. اه [رياض الصالحين – كتاب الأمور المنهي عنها – باب تحريم الكذب]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أفرى الفري أن يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا " [رواه البخاري].
قال النووي رحمه الله: معناه يقول رأيت فيما لم يره. [المصدر السابق]
فهذا الرجل رأى أنه قصد مكة فلم يجد البيت الشريف في مكانه (فنام لذلك ) وهو في المنام، ورأى أنه نام في المنام، ثم في النومة الثانية رأى رجلاً من آل باعلوي فسأله ؟ فقال سر معي وأخذه من مكة وذهب به إلى عينات، قال: ( حتى دخلنا عينات وإذا بخيمة عظيمة عند بيوت الشيخ أبي بكر نفع الله له وأسمع صوته داخلها، فقال: هذا البيت المعظم تحول إلى هنا ).(217/23)
إذا المقصود من هذه الحكاية تعظيم عينات وتقديسها في قلوب العامة حتى يحرصوا على زيارتها والتردد إليها، وهو ما يسمى اليوم تنشيط السياحة الدينية، التي هي سبب من أسباب زيادة الدخل.
قال صاحب الجواهر [ص 108]: ويحدثنا باشعيب قدري نقلاً عن خط السيد محمد بن عبد الله فدعق بن عبد الرحمن بن حسين بن سالم بن عبد الله ما مثاله سمعت سيدنا وبركتنا الشيخ الحامد وسمعت السيد العارف بالله عبد الرحمن بن حسين يقولان: إن سيدنا وشيخنا فخر الدين القطب الرباني والغوث وبحر العلوم والمعارف الشيخ أبا بكر بن سالم نفعنا الله به يقول: " إن مسجدي هذا من الجنة " اه.
المقصود من هذا الكلام تقديس البقاع العيناتية وجذب الزوار، فأسندوا إلى الشيخ أبي بكر أنه قال: " إن مسجدي هذا من الجنة "، والعجيب أن أكرم الخلق على الله وخاتم الأنبياء والمرسبين، والذي مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام لم يقل إن مسجدي كله من الجنة، بل قال: " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " [رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن زيد المازني]، وكان بيته عليه الصلاة والسلام لاصقاً بجدار المسجد من الجهة الغربية، فهو جزء محدد بين بيته وبين منبره، وليس المسجد كله.
فأين عقولكم يا صوفية عينات ؟ هل تريدون أن تجعلوا مسجدكم أفضل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟
ويذكرني فعلهم هذا بأفعال الشركات والتجار الذين يبالغون في مدح سلعهم ومنتجاتهم ويكذبون في أوصافها حتى يبيعوا أكثر ويربحوا أكثر.
وصدق الله حيث يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} [ التوبة: 34]
قال صاحب الجواهر [ص 225]: " ومنها كرامته الشهيرة لابنه الجامع للعِلمين سيدنا الإمام الحسين، وذلك أنه شاوره في بناء مسجد وطلب منه أن يختار له المحل ليبني فيه، وقال له: اخرج وما تجد فيه نوراً ممتداً من الأرض للسماء فابن فيه.(217/24)
فخرج ووجد نوراً في الأرض بالغاً عنان السماء في نخر(1) عينات في الجهة القبلية، فبناه وسمي من ذلك الحين مسجد النور، وهو مسجد الجبانة يصلى فيه على أموات آل عينات من ذكر وأنثى، قال الإمام الكاشف الحبيب علي بن سالم الأدعج رضي الله عنه، إنه مسجد القوم وكثيراً ما يجتمع فيه أهل البرزخ، وقد اجتمع بهم في اليقظة (2) وأمامهم رسول الله والشيخ أبو بكر بن سالم في عدة وقايع جرت له، كما يحدثنا بها موضحاً في كتابه فيض الله العلي المخطوط، وقد قام بترميمه وإصلاح المندثر منه الحبيب الإمام العارف بالله المكاشف شيخنا أحمد بن محسن الهدار". اه
ولا يغرنك أخي القارئ هذا الكلام، والمقصود منه هو تقديس البقاع العيناتية لجذب أكبر عدد من الزوار، وبهذا تنشط السياحة الدينية.
وعقد صاحب الجواهر فصلاً بعنوان:
كثيب (3) الشيخ أبي بكر بعينات
وقال فيه: اسم الكثيب عرف من عهد صاحب الترجمة، أطلق عليه الاسم ونوَّه به الشعراء... وقد أشاد به الشعراء وهو ترياق مجرب ودواء ناجع للأمراض المستحكمة المعدية وجرب وشوهد ، وتجربته أكبر برهان:
إذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً
تضرب له أكباد الإبل في وقاية الأمراض رزقنا الله حسن الاعتقاد والظن الجميل والنية الصادقة. (4)
قال الشيخ عمر بن علي بن إسماعيل باقشير:
ترابها طب الجراح منها المسك فاح
من شمّ هاتيك الرياح غنم واستراح
مرّغ بها الخد يا صاح إن رُمت النجاح
وزر قببها بترتيب يا مولى الكثيب
__________
(1) - انتبه هذا الأدعج اجتمع بهم في اليقظة وليس في المنام.
(2) - الكثيب في القاموس هو التل المستطيل المحدودب من الرمل.
(3) - النخر في حضرموت هو الشق في الجبل. (الناشر )
(4) - مثل قول الرافضة عن تربة قبر الحسين رضي الله عنه التي يدّعون أنها تشفي الأمراض.(الناشر )(217/25)
وقد فاضت الأمة إليه والموامي والطوامي من كل مصاب بعلة الجُذام، وحُبست تلك العلة حبساً عاجلاً. وهذا واضح من الصبح لذي عينين، لا يكابر فيه مكابر، وشهد له الأوائل والأواخر. وهو سهم صائب في دفع الأعداء، وقضية الإمام الحسين شهيرة فقد ضرب الكثيب بعصاه، وثارت ريح بإذن الله، وذرّتها في عين إمام صنعاء المسمى سيل الميل، حين برز العسكر إلى حضرموت وبلغ الحسين ذلك، وتعذر خروج ما بعينه من الرمل فعدل عن الرحلة. ذكر هذا الإمام الحبيب أحمد بن الحسن العطاس.
وفي تثبيت الفؤاد عن الحبيب عبد الله بن علوي الحداد، قال تلميذه: اشتكى أهل شبام من السلطان عيسى بن عمر الكثيري، فقال لهم: ما معنا له إلا كثيب عينات الأحمر، وبعد أيام قلائل ورد عينات وبات عند المنصب في ذلك الوقت الحبيب علي بن أحمد، وحين تناول العشاء غص غصة، أي شرق ومات في الحين، ونعوذ بالله من الجنايات.
وإلى الآن وهذا الكثيب يُقصد من كل صوب وحدب، معروف يحتوي على دقيق الرمل، يوضع منه على العلة للاستشفاء " اه.
أخي القارئ، كل هذا الكلام عن الكثيب وهذه الأبيات وهذه الحكايات، المقصود منها تشويق قلوب العامة وجذبهم لزيارة عينات، كي تنشط السياحة الدينية في هذه المدينة الصغيرة وتتحسن الحركة التجارية ويرتفع دخل أهلها، وبخاصة السدنة، سدنة البيت المعظم، أعني فخر الوجود أبي بكر بن سالم.
وأنت تعلم أخي القارئ كم تنفق الحكومات على الدعايات والإعلانات التجارية لتنشط السياحة الدينية والسياحة الترفيهية، فمثلاً مصر تستفيد كثيراً من الذين يزورون آثار الفراعنة والأهرامات وغيرها.
ومن الآثار التي اخترعها القوم لجذب الناس إلى زيارة عينات، هو أول مسجد عرفته عينات، ذكر صاحب الجواهر فصلاً [ص 26] بعنوان:
أول مسجد عرفته عينات
" إن أقدم مسجد عرفته عينات الجديدة مسجد جد الشيخ أبي بكر بن سالم، ومن عمود نسبه الإمام الأكبر الأظهر الأشهر سيدنا محمد بن علي مولى الدويلة.(217/26)
وهو أول مسجد أسس فيها على التقوى، وما بناه إلا لكثرة ترداده وتعريجه إليه، وهناك أخواله آل بالليث وللدعوة إلى الله ونفع العباد، والمسجد فوق سوق عينات، ووسعه الشيخ الموفق عوض بن أحمد باحنان، ولم يزل معموراً، ولم تهدم قبلته الأصلية، وقد اشتعلت ناراً لما هموا بهدمها، وتعرف اليوم باستجابة الدعاء، والتبرك والصلاة فيها " اه
الله أكبر لم تهدم قبلته الأصلية أي الجدار الأمامي الذي في المسجد، واشتعل الجدار ناراً لما هموا بهدمه.
وهنا سؤال، هل مسجدكم هذا وجداره الأمامي أفضل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجداره الأمامي ؟
المسجد النبوي هُدم جداره الأمامي وأزيل ووسِّع، ولم يعترض الجدار ولم يشتعل ناراً ولم ينفجر في وجوه العمال.
ولكن كما ذكرت إنما هي قصص وأكاذيب يختلقونها لجذب أكبر عدد من الزوار إلى مدينتهم المقدسة.
ثم قال: (وتعرف اليوم باستجابة الدعاء )، تعالوا أيها الزوار وشاهدوا هذه الأماكن المقدسة والآثار العجيبة على ذلك التي تحترق في وجه من أراد إزالتها، وزيادة على ذلك دعاؤكم مستجاب، فتعالوا واغتنموا الثواب، وشرفونا تجدون ما يسركم.
فصل
ما تقدم من النقول من كتاب الجواهر هي قصص التقديس البقعة العيناتية، وهناك قصص وأخبار وحكايات فيها تقديس وتشويق لصاحب البقعة العيناتية فخر الوجود الشيخ أبي بكر بن سالم، وهذا أبلغ في جذب الزوار.
من هذه الحكايات ما ذكر في المقدمة أن العلماء أثنوا على الشيخ أبي بكر بن سالم قبل ولادته.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ص 31]:(217/27)
وفي مجموعة العلامة الكبير المحقق الحبيب الشيخ علي بن محمد الحبشي، جمع السيد الفاضل محمد بن عمر مولى خيلة (1) قال: إن الشيخ أبا بكر وأخاه عقيلاً تكلما في بطن أمهما الشريفة طلحة بنت عقيل بن أحمد ابن أبي السكران، فقال الشيخ لأخيه ما معناه: إن أردت الخروج قبلي فاخرج والظهور في المستقبل سيكون لي، وإلا فاخرج قبلك ولك ذلك، فاختار أخوه الخروج وارتضى به، وكان الظهور لصاحب الترجمة نفع الله بهم. اه
المعروف عند المسلمين أن المسيح عيسى ابن مريم أحد أولي العزم من الرسل كانت آيته أنه تكلم وهو في المهد بعد خروجه من بطن أمه، قال تعالى:{فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً} [مريم 27 – 31]
فالمسيح عليه السلام لم يتكلم إلا بعد ظهوره إلى الدنيا وبعد خروجه من بطن أمه، وهؤلاء بلغوا بمشائخهم مرتبة أعلى من مراتب الرسل وزعموا أن شيخهم تكلم مع أخيه وخيّره – قبل خروجهما إلى الدنيا – وقال له: إن شئت أن تخرج قبلي فاخرج ولي الظهور في المستقبل، وإلا فأخرج أنا قبلك ولك الظهور، فكان أخوه مغفلاً ومستعجلاً، وطلب الخروج قبل أخيه ففاته الظهور.
فأقول كل هذه الحكايات والخيالات ما هي إلا مجرد دعايات للتسويق، لجذب أكبر عدد من الزوار، لتنشيط السياحة الدينية، فالله المستعان على ما يصفون.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ص 34]:
__________
(1) - مولى: أي صاحب، وخيلة اسم قرية.(217/28)
وكان هذا الإمام في أيام طفولته وعهد دراسته وقبل شهرته العلمية والعالمية مقيماً في قرية اللسك، ويصلي في مسجد الشيخ الإمام أحمد بن محمد باعيسى المقبور بتريم، وفي كفالة أبيه، وقضيته مع إمام المسجد آية من آيات الله الباهرة، وفراسة بنور الله والكشف الغيبي والجلي، نرويها بنصها وفصها حرفياً من مجموعة كلام
الإمام المكاشف الحبيب علي بن عبد الرحمن المشهور، قال نفع الله به:
" إن الشيخ أبا بكر بن سالم كان في صغره جالساً بمكانه بالرقية عند مسجد باعيسى، وكان في ذلك المسجد معلم ومعه طرف من العلم أو الفقه (1)، وغالب صلاة الشيخ أبي بكر بن سالم في ذلك المسجد، فتقدم ذات يوم من الأيام فصلى بالناس، فشق الأمر على المعلم، وكان من تلامذة الشيخ شهاب الدين، فسار إلى تريم، إلى عند شيخه المذكور، وسأله عن صفة من صفات الإمامة، فقال الشيخ شهاب الدين يقدم في الصلاة الأفقه ثم الأقرأ إلى آخر ما ذكروه، فرجع المعلم، فلما دخل وقت الصلاة وتقدم الشيخ أبو بكر، فقال له المعلم: لست أحق بالصلاة، بل الأحق بالصلاة الأفقه، فقال الشيخ أبو بكر: من الذي قال لك بذلك ؟ فقال: الشيخ شهاب الدين، فغضب الشيخ أبو بكر فقال: شف أمك في النار خله يندرها (2)، فبهت المعلم وتحير وسار إلى تريم إلى عند الشيخ شهاب الدين وأخبره بما جرى بينه وبين الشيخ أبي بكر بن سالم وقوله: شف أمك في النار، فقال له: أنت ما قلت لي إنه الشيخ أبو بكر بن سالم وإلا باقولك خله (3) يصلي بكم، وهل قال لك الشيخ أبو بكر: شف أمك في النار خله يندرها ؟ قال له: نعم. فأطرق شهاب الدين ساعة، ثم قال: شفها خرجت من النار، ففرح المعلم وقال أعظم فائدة خروج والدتي من النار، فرجع إلى القرية وإلى مسجده، فكاشفه الشيخ أبو بكر في ذلك الوقت، وقال: شفته خرّجها من النار، وكان
__________
(1) - أي قليل العلم والفقه.
(2) - أي انظر أمك في النار، قل له يخرجها من النار
(3) - أي وإلا سأقول لك اتركه يصلي بكم.(217/29)
الشيخ أبو بكر في ذلك الوقت لا يسمى بالشيخ أبا بكر، بل أبا بكر فقط، أو كما قال " اه
يا أخواني أنا لست أدري كيف يؤلفون هذه القصص ويخترعونها، والظاهر والله أعلم أن الشياطين توحي بها إليهم، قال تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121]
انظر إلى حكاية: وليد صغير يجترئ المعلم ويتقدم للصلاة بالناس في حضرة المعلم، ثم يذهب المعلم ويستفتي الشيخ شهاب الدين، ثم يعود ويغضب الوليد على المعلم ويقول له: شف أمك في النار خله يندرها، ومتى كان الأطفال يتعرفون على أهل النار؟ وما هو الذنب الذي ارتكبته أمه حتى تكون من أهل النار ؟ فيرجع المعلم إلى شهاب الدين في تريم فيخبره بكلام الوليد فيصدقه شهاب الدين ويخرجها من النار.
هذه ليست نار رب العالمين، هذه تشبه نار الدجال، لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال معه جنة ومعه نار فمن أطاعه أدخله جنته ومن عصاه أدخله النار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جنة الدجال نار، وناره جنة. فهذه النار التي أخرج منها دجال تريم (1) أم المعلم، هذه ناره إما نار رب العالمين، فقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [الزمر: 19]، ولكن كما ذكرت لك أخي القارئ كل هذه القصص لتقديس صاحب البقعة العيناتية وتشويق الناس لزيارة عينات.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ص 76]:
" كان رضي الله عنه مضيافاً كريماً اتفق أهل عصره على أنه أنداهم وأوسعهم براً، قد فتح بابه بمصراعيه للإكرام وإطعام الطعام بذبح الجمل والجملين لزائريه، ويتصدق في اليوم والليلة بألف قرص " اه
__________
(1) - إن صحت هذه القصة عن شهاب الدين فهو دجال وإلا فلا نظلمه(217/30)
انظر أخي القارئ يتصدق في اليوم والليلة بألف قرص، وهذا الكلام متى ؟ قبل خمسمائة سنة تقريباً، وفي قرية صغيرة مثل عينات، قد يكون سلطانها لا يتجاوزون خمسمائة شخص، ومن أين لأبي بكر بن سالم قيمة ألف قرص كل يوم وليلة وأنتم تقولون أنه رجل زاهد عابد ترك الدنيا وتفرغ للعبادة، وأين هذا المخبز الذي سيخبز كل يوم وليلة ألف قرص، والغالب أنه لا يوجد خبازون في قرية مثل عينات وإنما كل أسرة يعجنون ويخبزون في بيتهم.
ولكن المراد من هذا الكلام تحبيب صاحب البقعة العيناتية للناس حتى يزوروا قبره وأطلاله.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ص 131]:
روى جماعة أنه لما زار ضريح نبي الله هود في سنة إحدى وتسعين في القرن العاشر اجتمع معه خلق لا يحصون ولا يعدون من جميع النواحي والأقطار (1) كل ذلك رغبة في الحضور معه والنظر إليه (2) فلما ركع على حصاة المحضار وطلع إلى بئر التسليم ازدحم عليه الخلق وأكبوا على قدميه يقبلونها ويتمسحون بها، وكلما دحق دحقة شلوها (3) إلى أن عظم اللغط وكادوا يقتتلون على ذلك، فلما رأى ذلك منهم بكى بكاء شديداً وجعل يتلو {إن هو إلا عبد أنعمنا عليه} وجعل يكررها " اه
الله أكبر !! ازدحم الخلق على أبي بكر بن سالم وأكبوا على قدميه يقبلونها ويتمسحون بها، وكلما خطا خطوة حملوها...... الخ
رسول الله أشرف الخلق، سيد ولد آدم عندما حج وقبّل الحجر الأسود لم يكب الخلق على قدميه يقبلونها ويتمسحون بها.
__________
(1) - ما يدريك لعلهم جاءوا من بلاد الصين والهند والسند وبلاد ما بين النهر وغيرها.
(2) - لا أدري لماذا ينظرون إليه.
(3) - أي كلما خطا خطوة حملوها.(217/31)
فالقوم معروفون بالكذب، ومرادهم من هذه الأخبار تقديس صاحب البقعة العيناتية في قلوب الناس وتشويقهم لزيارة عينات، وإذا ارتسمت هذه القصة في أذهانهم سيكبون ويتمرغون على ضريح أبي بكر بن سالم ويتمسحون به، وسيتصدقون بالغالي والرخيص لهذا الولي المعظم، والمستفيد الأول والأخير من هذه الصدقات هم السدنة المروجون لهذه القصص.
ومنها ما قال صاحب الجواهر [ص 202]:
قال – أي أبو بكر بن سالم: إن من زارنا (1)، أو سمع بذكرنا في مجلس، أو نظرنا أو نظر ناظرنا فأنا ضمينه غداً بالجنة، وأن يتخلص من ذنوبه كالمولود من بطن أمه، ولو كانت ذنوبه تملأ السموات والأرض، فلا عاد يبقى من ذنوبه مثقال ذرة، يدل لذلك حديث جدي رسول الله وقوفك بين يدي ولي الله كحلب شاة أو كشيح بيضة إلى آخره (2)، ثم قال رضي الله عنه: وإن من زارنا ينال ذلك من الصالحين الطالبين. وقلت في ذلك شعراً:
فيا زائري أبشر بسولك والمنى وترقى مراقي العز في كل حضرة
بزورتنا تعلو على كل فائق وتحظى بجنات المعارف ونفحة
__________
(1) - لاحظ أخي القارئ تركيزهم على الزيارة، المراد تشجيع الناس لزيارة ضريحه ومشهده، وبذلك يرتفع دخل السدنة من النذور والقرابين والصدقات.
(2) - لا أدري لماذا لم يكمل الحديث. [هذه الرواية التي لم يحفظها العالم بالسرائر – كما يقولون – وسنذكرها فيما بعد (الناشر)](217/32)
ومما يؤيد صحة هذه الرواية ما نقله السيد العارف بالله أحمد بن زين الحبشي في شرح العينية عن شيخه العارف بالله عبد الله بن علوي الحداد عن ترجمة السيد الولي العارف بالله الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن عيديد علوي قال: أدركت سيدنا الشيخ أبا بكر بن سالم صاحب عينات وكان يقول لمن حضره: انظروا إليّ فإني قد نظرت الشيخ أبا بكر بن سالم، وناظري وناظر ناظره في الجنة، وكذلك نقل السيد العارف بالله محمد بن زين بن سميط عن السيد المذكور بلفظه والشيخ أبو بكر يقول ناظري وناظر ناظري في الجنة، قال الشيخ عبد الله قدري باشعيب: رأيت السيد العلامة محمد بن عنقاء اليمني نفع الله به، قال ذلك وزاد عليه فقال في مدح الشيخ نفع الله به آمين والمسلمين أجمعين شعراً:
وشفعه الرحمن في أهل عصره شفاعة مسموع مطاع مفضل
وفيمن رآه أو رأى من رآه أو رأى من رآه فهو أفضل مؤمل
وقد قاله لي في منام رأيته حباني فيه كل خير مسهل " اه
انظروا يا عباد الله إلى هذا الكلام، وكيف وصل بهم الحرص على الدنيا والطمع في المال إلى أن يقولوا مثل هذا الكلام، وإذا كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الكلام، أن من رآه في الجنة بل ومن رأى من رآه في الجنة، وكيف يكون كل من رآه صلى الله عليه وسلم في الجنة وقد رآه أبو جهل وأبو لهب، ورأس المنافقين عبد الله بن أبي وغيرهم، فهل يكون هؤلاء في الجنة ؟!!!
ثم أن هذا الشاعر الغوي يزعم أن الرحمن شفعه في أهل عصره، وما أدراهم أن الرحمن شفعه في أهل عصره ؟ هل نزل عليهم الوحي بذلك ؟ ولكن صدق القائل صلى الله عليه وسلم: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت "، ولكن كما ذكرت لك، المسألة مسألة دعاية وإعلان وترويج وترغيب لزيارة صاحب البقعة العيناتيه.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ص 227]:
كراماته التي كاشف بها بعض المتصلين
وظهر لهم منه كشفاً(217/33)
فمنها ما في الزهر الباسم عن الشريف عمر بن محمد بن علي باهارون علوي قال عن الثقات (1): " كانت امرأة بالقبلة تسمع بكراماته فقالت وهي في جربة لها: أود أن انظر الشيخ أبا بكر بن سالم، فما تمت كلامها إلا وهي به يقول لها: أنت تريدين تنظرين الشيخ، أنا أبو بكر بن سالم فغاب عنها، ثم أنها خرجت لزيارته (2)، فما وصلت إليه قالت: هو ذلك الرجل جاءني في جربتي، فقال لها: أنا ذلك، وكان بين بلدها وعينات مسيرة نصف شهر، ولم يدخل الشيخ تلك الجهة " اه
لماذا تمنت هذه المرأة أن تنظر للشيخ أبي بكر بن سالم ؟
هل تريد أن تخطبه لنفسها، وما تم كلامها إلا والشيخ عندها، قطع مسيرة نصف شهر قبل أن تتم كلامها (ألا لعنة الله على الكاذبين ).
وهل يجوز لأبي بكر بن سالم أن ينظر إليها وهي امرأة أجنبية ؟
الجواب لا يجوز، قال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون} [النور: 30].
ومنها ما قال صاحب الجواهر [ص 326]:
" ومن كراماته المتعلقة بزوجاته أن بعض زوجاته أظنها من آل أحمد القبيلة المعروفة، وكان له منها طفل، فحصل منه ليلة من التلويث ما يحصل للصبيان ولم يكن عندهم سراج، فسألته أن يأتي منابر لتبصر بها ما تصنع، وكررت عليه، فأخرج لها إصبعه وأضاء لها ضوء السراج حتى فرغت عن الغرض " اه.
__________
(1) - من هم هؤلاء الثقات ؟ الجواب: مجهولون
(2) - لاحظ أخي القارئ كيف يركزون على مسألة الزيارة في قصصهم التي يخترعونها، والمقصود التشجيع على زيارة قبره وتنشيط السياحة الدينية(217/34)
وهذه القصة كغيرها، المراد منها تقديس صاحب البقعة العيناتية أبي بكر بن سالم لجذب الزوار إلى ضريحه ومرقده بعينات. قال الشوكاني رحمه الله: وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، ويخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجهٍ لا يفطن له من كان من المغفلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات، لذلك الميت ويبثونها في الناس، ويكون ذكرها في مجالسهم وعند اجتماعهم بالناس فتشيع وتستفيض، ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع إليها في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً وأجراً كبيراً، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر.
فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل وهولوا بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب، لينالوا من الحطام من أموال الطغام الأغتام (1).
وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية، تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغاً عظيماً، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتات أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية " اه [شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص 16 – 18].
فصل
__________
(1) - الأغتم: من لا يفهم ولا يفصح مراده(217/35)
وبعد هذه الأخبار والحكايات والأساطير في فضل عينات وفي فضل صاحب عينات، لم يكتف أصحاب عينات بذلك، لأن من الناس لا يأتي إلى عينات إلا إذا كان له مصلحة دنيوية مثل شفاء المرضى ونحو ذلك. فألف أصحاب عينات مجموعة من القصص تبين أن الشيخ كان يشفي المرضى، وأن عينات فيها ما يشفي المرض.
قال صاحب الجواهر [ص 109]:
ومنها ما أخبر به بعض الصالحين، قال: " مرض صاحب لي وأشرف على الموت، فقصدت سيدي الشيخ واستغثت به، فقال أبشر فإنه يعافى من ذلك المرض، وإني رأيت ورقة خضراء ووجدته صحيحاً نفعنا الله به " اه
قال صاحب الجواهر [ص 109]:
قال سمعت سيدنا العارف بالله الشيخ الحسن يقول: " أنه في وقت البرد أدفأ ما يكون في المسجد، وسمعت أحداً من السادة يقول إنه وقع به رمد واشتد به فخرج إلى المسجد المحدد وجلس فسكن ما به وأصبح معافى "اه.
كل هذا الكلام لجذب الناس وترغيبهم في زيارة عينات تلك المدينة المقدسة التي مسجدها من الجنة ويكون دافئاً وقت البرد وبه يشفى من به رمد.
وقال صاحب الجواهر عن كثيب عينات [ص 117]:
وهو ترياق مجرب ودواء ناجع للأمراض المستحكمة المعدية، وجرب وشوهد، وتجربته أكبر برهان، تضرب له أكباد الإبل في وقاية الأمراض رزقنا الله حسن الاعتقاد والظن الحسن الجميل والنية الصادقة، قال الشيخ عمر بن إسماعيل باقشير:
ترابها طب الجراح منها المسك فاح
من شمّ هاتيك الرياح غنم واستراح
مرّغ بها الخد يا صاح إن رُمت النجاح
وزر(1) قببها بترتيب يا مولى الكثيب
والكثيب هو الكومة من الرمل، وهذا الكثيب موجود بعينات، وتأمل كيف يبالغون في وصف هذا الكثيب " أنه
ترياق مجرب، ودواء ناجع للأمراض المستحكمة والمعدية، وجرب وشوهد.... ثم قال: تضرب له أكباد الإبل " هذا هو غرضهم ومقصودهم، حث الناس على السفر إلى عينات والتبرك بآثارها التي من الجنة على زعمهم.
قال صاحب الجواهر [ص 213]:
__________
(1) - لاحظ أخي القارئ تركيزهم على زيارة عينات(217/36)
حوالة الشيخ أبي بكر على تلميذه الإمام عبد الرحمن الجفري بتريس
جاء في كنوز السعادة الأبدية من أنفاس الإمام الأكبر والكبريت الأحمر الحبيب علي بن محمد الحبشي، جمع الإمام الكامل محسن بن عبد الله بن محسن السقاف بتصحيح الحبيب القدوة التقي أبي بكر العطاس بن عبد الله الحبشي قال نقلاً عن مناقب الحبيب العارف بالله عبد الرحمن بن محمد الجفري صاحب تريس تلميذ الشيخ أبي بكر، وخلاصتها: " أن رجلاً غريباً مرض مرضاً أعيا الأطباء، وقال بعض الصالحين مرضك هذا لا يشفى إلا بأكل الحلال الصرف (1)، وقال له لا يوجد إلا بحضرموت، فخرج وسأل عن المشهور فيها، فقيل له الشيخ أبو بكر بن سالم صاحب عينات، فسار إليه وشكى له، فحوّله على تلميذه الحبيب العارف بالله عبد الرحمن بن محمد الجفري، فسار إليه لتريس، وصادفه يسني (2) في زرع له، وظنه خادم الحبيب، ولما دخل وقت الصلاة قام الغريب يصلي والحبيب في سناوته وخرج وقت الصلاة (3)، ثم قال الحبيب له: وما تريد من عبد الرحمن الجفري، فأخبره بمقصوده وحوالة الشيخ أبي بكر عليه، فقال له الحبيب عبد الرحمن الجفري: حوالة الشيخ أبي بكر مقبولة، أدخل إلى هذا القضب (4) واملأ بطنك منه، ففيه دواءك وشفاؤك إن شاء الله. فأكل الغريب منه حتى شبع، فأمره الحبيب أن يتمشى ساعة بعد الأكل، فامتثل لأمره وتحركت بطنه، فخرج منها كل داء ومرض، وجاء إلى الحبيب يحمد الله يشكره على العافية. فأمره بالطلوع إلى بيته وأضافه وأكرمه، ولما همّ بالخروج
__________
(1) - الصرف أي الخالص.
(2) - أي ينزح ماء من بئر للزرع
(3) - تأمل كيف يتبجحون بهذا الكلام، أنه بقي يسقي الزرع حتى خرج وقت الصلاة، وقد ذكر أهل العلم أن تأخير الصلاة عن وقتها كبيرة من كبائر الذنوب، قال تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} وتأمل في آخر القصة ما هو عذره حتى أخّر الصلاة عن وقتها
(4) - قال في القاموس: القضب: كل شجرة طالت وبسطت قضبانها وأغصانها والقت(217/37)
أهدى إلى الحبيب شيئاً من الدنانير (1)
فقال له الحبيب أنت أحوج منا إليها، ولم يقبلها، فكلّف عليه الرجل في أخذها، فمسح الحبيب عيني الرجل فرأى الجبل الذي تجاهه قد صار ذهباً أحمر، فقال له الحبيب ماذا ترى ؟ فأخبره بما شاهده، فقال له الحبيب: نحن بحمد الله في غنى ولا نسني إلا لستر الحال وطلب الحلال، قال الغريب: إنه وقع ببالي شيء من مرور وقت الفريضة عليك وأنت تسني، فدخل به الحبيب إلى خلوات، فوجد في كل واحدة منها صورة الحبيب عبد الرحمن يصلي فاعتذر إليه الغريب (2) وشكره على حسن صنيعه وتوجه إلى أرضه في عافية " اه
__________
(1) - دائماً في قصصهم يدندنون حول هذا الكلام (فأهدى الشيخ شيئاً من الدنانير ) (فأعطى الشيخ خروفاً ) (فدعا الشيخ إلى وليمة )، وهكذا يريدون أن يعوّدوا الناس على تقديم العطايا لهم، وقد أخبرت أن أحدهم لقي شيخاً من الصوفية في مدينة جدة، فدعاه إلى طعام العشاء فاعتذر الصوفي، وقال أريد حقي ناشفاً، فأعطاه مائة ريال، فأخذها مسروراً ودعا لمن أعطاه إياها، فإذا القوم مرتزقة أصحاب مادة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر " وقال: " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم " أو كما قال. فهم يسألون الناس ولكن بحيل وبطرق غير مباشرة
(2) - انظر أخي القارئ إلى الدجل والخرافات، يترك الصلاة حتى يخرج وقتها، فلما أنكر عليه الغريب يريه خلوات، وفي كل خلوة منهن صورة الحبيب يصلي، وما الفائدة إذا كانت الصورة تصلي والأصل لا يصلي. الله سبحانه فرض الصلاة على الأصل ولم يفرضها على الصورة، ولا أدري هل هي صورة فتوغرافية أو تصوير فيديو أو نسخة استنسخت منه.
وبناء عليه كلما رأينا عاصياً لا يصلي وأنكرنا عليه سيقول أن صورتي تصلي في الخلوات، فالظاهر أن القوم فجار ومن قطاع الصلاة، ولكن يروجون مثل هذه القصص حتى لا تستنكر العامة من معاصيهم.(217/38)
المراد من هذه القصة جذب أكبر عدد ممكن من الزوار، لأنه إذا كان تلميذ أبي بكر بن سالم يستطيع أن يشفي المريض الذي أعيا الأطباء مرضه، فإن تلاميذ تلاميذ الشيخ أبي بكر بن سالم موجودون بعينات، وسدنة ضريح أبي بكر بن سالم موجودون، وضريح أبي بكر بن سالم موجود في أرض عينات المقدسة، وما على المريض إلا أن يتوجه إلى عينات ويحضر معه ما تيسر من الدنانير – كما فعل الغريب – ويعطيه للسدنة ويتوسل بالشيخ أبي بكر بن سالم (1) أو يستشفي برمل كثيب عينات وسيجد الشفاء العاجل.
قال صاحب الجواهر [ص 26]:
وخرار المذكورة تدعى مقبرة باليث في الجهة النجدية من ساحة النخر وفيها قبر والدة الإمام العظيم سيدنا محمد بن علي مولى الدويلة واسمها سعيدة بنت سعيد باليث وقبرها اليوم غير معروف، والمقبرة لا تزال في وقتنا هذا معروفة وفيها قبر حِسْن بكسر الحاء المهملة وسكون السين وبعدها نون. ويتحدث الناس قديماً وحديثاً أن من له مولودٌ لم يظهر نموه كأمثاله يوضع عند قبرها وحده ويترك ثم يعاد لأخذه من عند ذلك القبر، فإما أن ينمو نمواً مطرداً معهوداً أو يموت قريباً. وهذا معروف مجرب لا يختلف في ذلك اثنان. اه
عجيب أمر هذه العجوز، فإنها لا تعرف أنصاف الحلول، إما أن يُشفى المولود وإما أن يُقضى عليه ويُؤخذ عمره !!!
والله المستعان على ما يصفون.
فصل
لم يكتف أصحاب عينات بما تقدم من الخيالات والخزعبلات، والظاهر أن التنافس كان قوياً بينهم وبين أصحاب تريم، كل منهم يحاول أن يجذب أكبر عدد ممكن من الزوار.
__________
(1) - وهذا لا يجوز شرعاً ولكن هذا هو مرادهم.(217/39)
وهناك من الناس من ليس عنده مريض، ولكن لم يرزقه الله ولداً ولا تحمل امرأته أو عنده أناث وهو يريد الذكور، فألف أصحاب عينات بعض القصص التي تفيد أن الفخر أبا بكر بن سالم كان سبباً في حصول الأولاد لبعض الناس، وكل من لم يرزق بأولاد فما عليه إلا أن يقدم إلى عينات وعليه أن يجلب معه قرباناً للشيخ (كخروف سمين أو دنانير ) ويقف عند قبر الشيخ ويتوسل به (1) ويعطي القربان للسدنة وسيجد مطلوبه.
قال صاحب الجواهر [ص 223]:
ومنها ما أخبر به بعض مشائخ المهرة (2) قال جئت أنا وجماعة لزيارة سيدي الشيخ أبي بكر، فوجدناه بقرية قسم، فلما انقض المجلس خرجنا ثم دعاني الخادم للغداء وقد غاب واحد من أصحابنا، فطلعوا على سيدي الشيخ، وبعد أن أكلنا طلع صاحبنا، فقال: يا سيدي إني جئت والباب مقلود (3) فقال الغدا والخير يحصل، فقال ما عاد أريد غداء إلا حاجة أخرى، قال قل ما شئت، قال معي زوجة لها عشرين سنة لم تحبل عقيم أريدها تحمل لي بولد ذكر، فقال الشيخ: كان كذلك تحمل وستأتي بذكر، فلما وصلنا ظََهَرَ حملها ذلك الشهر، وأتت له بولد ذكر " اه
يوجد من نساء البادية من لا يحملن، وكذلك بعض نساء القرى والمدن لا يحملن، إذا سمعن بمثل هذه القصة يتوافدن إلى عينات ويزرن الشيخ لطلب الولد، والشيخ لا يعطي الولد مجاناً، لابد من قرابين تقدم للشيخ، والذي يستلم القرابين هم السدنة، فهم المستفيدون من هذا الكلام، لذلك يروجون مثل هذه القصص والكرامات.
قال صاحب الجواهر [ص 114]:
__________
(1) - معلوم أن هذا محرم شرعاَ ولكن هذا مرادهم.
(2) - المهرة: اسم بلد على حدود عمان
(3) - أي مغلق(217/40)
وواقعة الفنجان تكررت ثلاث مرات في هذه الدار، الأولى: لما دخل عليه الشيخ عبد الرحيم البصري المكي وعند الفنجان من القهوة، كاشفه بما في خاطره، ومد الفنجان من يده من النافذة إلى مكة المكرمة من داره وناوله زوجته، وقال يا عبد الرحيم أصلحنا بينك وبين زوجتك المكية، وستجيء لك بولد إن شاء الله ويكون عالم مكة ومفتيها، وسماه عمر، قال الشيخ عبد الرحيم فعدت فوجدت كلامه حقاً وصدقاً وألقى الله المحبة بيني
وبين زوجتي وأخبرتني بدخول الشيخ عليها ومناولته لها فنجان القهوة وشغفها به بعد ذلك، ثم قدر الله له الولد الذكر، وكان عالم مكة ومفتيها وهو صاحب الحاشية على تحفة المحتاج، وتم ما قاله الشيخ أبي بكر رضي الله عنه ونفعنا به، آمين.
الثانية: أن السيد عبد الرحمن بن أحمد البيض تلميذ الشيخ أبي بكر دخل عليه في داره ومعه رجل اسمه عثمان خطيب ومعه فنجان قهوة، فقال يا سيد عبد الرحمن همك كثرة البنات بلا ذكر، يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، فقال: نعم سيدي خرجنا لنظرك ولذلك، فقال: البنات مسعدات دين ودنيا، وبشراك بولد يختم القرآن، ثم غيره، اشرب القهوة بنيتها وناوله الفنجان، وأنت يا عثمان همك كثرة العولة، أصلحناك وذريتك وتتسع دنياهم وأنت مجمل جبا بالقهوة، وناوله الفنجان الثاني وقال: اشرب بنيتها.
فوالله ما نقص حرف من لفظ الشيخ وطلعت الشحر وحضرت أعراس بناته على سادة ذوي تجارة واسعة، ثم بعد أيام حضرت ختم ولده الموعود بختمة، وبسكوت الشيخ أنه يموت.(217/41)
والثالثة: أنه دخل عليه في داره، فقام له الفخر وعظمه وأقبل عليه، وقال له أنت الشيخ المكي صاحب مكة، مدرس الحرم الشريف، فقال هل عندك أحد من الأولاد فقال: لا، إلا أن زوجتي هذا شهر وضعها، فأحضرت القهوة وكان فنجان سيدنا الشيخ أبي بكر فنجاناً أحمر فأخذه بيده إلى النافذة، فقال يا شيخ بكري أشرفنا على زوجتك بمكة وهي متعسرة الولادة لها ثلاثة أيام أعطيناهم الفنجان وقلنا لهم اسقوها، فأخذت لشفة منه، وقد ولدت غلاماً مباركاً وقلنا لهم سموه فلاناً، وبقي الفنجان عندهم وأنت تجده عند أهلك إن شاء الله ويخبرونك بالقصة وسيكون الابن عالم مكة إن شاء الله، فكان كما قال وحققه الله ذو الجلال ولله الحمد. اه
من الذي يرزق الأولاد أهو رب العالمين أم أنه الشيخ أبو بكر بن سالم ؟ قال تعالى: {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير} [الشورى: 45 – 50]، ولكن كما ذكرت لك المقصود من هذا الدجل كله ومن هذه القصص جذب الزوار وتنشيط السياحة الدينية في مدينة عينات.
تجارة القبور والكرامات
إنه مشروع ناجح (1) ويدر رزقاً كثيراً على أصحابه، ولا يكلف كثيراً، إنما هو بناء قبة على قبر الشيخ وتزيينها وزخرفتها وكتابة أوراق في كراماته، لكي يعتقد الناس فيه ويكثر الزوار وأصحاب الحوائج.
وهذا ما فعله أصحاب عينات مع فخر الوجود أبي بكر بن سالم، وقد حثوا الناس على زيارته ورتبوا عليها الثواب الجزيل.
قال صاحب الجواهر [ص 201]:
يحدثنا أهل المناقب أن زيارته تكون نقداً أي يداً بيد، ويروى أن زيارته دهليز الزيارة لنبي الله هود عليه السلام جمعاً وانفراداً، ويقال إنه يقول: خذه لي ما تستاهل هكذا يقول الحبيب الإمام أحمد بن محمد المحضار، وقد بشر زائريه وقال:
فيا زائري أبشر بسولك والمنى وترقى مراقي العز في كل حضرة
__________
(1) - هو ناجح في الدنيا ولكنه خاسر في الآخرة(217/42)
بزورتنا تعلو على كل فائق وتحظى بجنات المعارف ونفحة. اه
وتقدم أنهم نقلوا عن الفخر أنه قال: " من زارنا فأنا ضمينه غداً بالجنة "
قال صاحب الجواهر في وصف الفخر [ص 148]:
السيد الأكبر طراز النور الأخضر الكبريت الأحمر الكعبة المطهرة الغراء، فهو بالحج إليه من غيره أحرى، الذي ما شرب شارب من صبابة كأسه ولا ظهر إلا بإظهاره بعد إندراسه، وظفرت بالمطلب الذي كنت أحاوله فغنمت الكنز الأعجب فطالما كنت أزاوله فهو شمس الوجود وعين الشهود الشريف الشيخ أبو بكر بن سالم. اه
وإسلاماه يا عباد الله، انظروا إلى أي حد وصل بهم حب المال، وكيف يقول عنه: " الكعبة المطهرة فهو بالحج (1) إليه أحرى من غيره "، هل الحج إلى أبي بكر بن سالم أحرى من الحج إلى مكة ومن منى وعرفات ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم.. هل زيارة أبي بكر بن سالم أحرى من زيارة المسجد النبوي ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم...
قال صاحب الجواهر [ص 177]:
وهل كعبة الحج إلا إذا بدا محياه في دار يُزان بها الربع
وهل محرمٌ إلا إذا حج بيته ملب إلى عينات يزعجه النجع
وهل عرفات غير عرفان قدره وهل مشعر إلا ذراه لمن يدعو
وهل حجرُ إلا أناملُ كفه حقيق أن يجري بموقفه الدمع.اه
انظروا يا عباد الله كيف يزهدون في زيارة المشاعر المقدسة التي قدسها رب العالمين وأجمعت الأمة كلها على قداستها، ويُرَغِبون الناس في زيارة البقعة العيناتية وصاحب البقعة العيناتية، إنه حب الدرهم والدينار، طغى على عقولهم وقلوبهم، ولا يبعد القول أن صنيعهم هذا يشبه صنيع أبرهة عندما أراد أن يصرف الناس عن الكعبة المشرفة إلى كعبته التي بناها في صنعاء.
قال صاحب الجواهر [ص 12]:
__________
(1) - إذا أنكرت على أتباعهم سيعتذرون ويقولون (الحج لغة القصد ) وهذا المراد أن قصده للزيارة أولى من غيره، وليس مقصودنا مناسك الحج، فيرد عليهم ولكن العامة الذين يقرءون هذا الكلام ويسمعونه لا يعرفون من كلمة (الحج ) إلا المناسك المعروفة.(217/43)
وفيه يقول الأمير محمد بن جعفر الكثيري:
إن جئت عينات فحي ثراها واستنشق العرفان من رباها
والصق جبينك بالتراب مقبلاً شكراً لمن أولاك لثم ثراها
بلد أقام بها الكمال وحبذا بلد غدا الغوث العظيم حماها
واستقبل الشيخ المعظم خاشعاً في ذل نفس كي تنال مناها
فصل
ولما كان كثير من الناس يتأثر كثيراً بالشعر نظم أصحاب عينات عشرات القصائد في مدح أبي بكر بن سالم، ليجذبوا الزوار إليهم وتنتعش الحركة الاقتصادية، والمستفيد الأول هم سدنة الضريح، ضريح فخر الوجود وعين الشهود أبي بكر بن سالم، وأذكر منها بعض الأبيات.
قال صاحب الجواهر [ص 199]:
هنيئاً لمن أضحى يقبل نعله ويجعله تاجاً يصون عن الدوس
وقال صاحب الجواهر [ص 149]:
يا طالب الحاجات دونك بابه والزمه تظفر بالذي تسعى له
ما راع أمر هائل إلا غدا في كل حين رافعاً أهوى له
كم من بلاء أوهنت أثقاله فأماط فيها بالرجا أثقاله
كم ألبس المسلوب ثوباً معلماً فغدا أميناً لم يخف ما هاله
وقال صاحب الجواهر [ص 176]:
هو العروة الوثقى إذا كنت واثقاً هو الدافع الضراء هو الخير والنفع
هو المجتبى لولاه ما كان في الورى من الخلق لا وتر يكون ولا شفع
هو الذروة العليا هو الدرة التي بها تم للرسل النظام ولا نزع (1)
هو الآية الكبرى هو النقطة التي يدور بها الإعطاء للخلق والنفع
هو المظهر الأعلى هو الفيصل الذي أتى بالهدى والدين لما أتى يدعو
هو المركز الأعلى هو المرجع الذي لأفلاك كل الرسل حقاً له الرجع
أقام لهذا السر في كل مدة إمام له قلب وغوث له سمع
خليفة سر لا زال مؤيداً ممداً لهذا الكون كيما ترى السبع
وهذا زمان غوثنا فيه سيد إمام وقطب للفقير له ودع
هو الوارث الأسرار ذلك ابن سالم أبو بكر العالي له الخفض والرفع
حباه إله العرش أسنى وظيفة هو العرش والكرسي هو الفرق والجمع
__________
(1) - معنى هذا الكلام أنه رسول، ما دام أن أبا بكر بن سالم هو الدرة التي تمّ للرسل النظام، ومعناه أنه سُلِك به مسلكهم.(217/44)
هو اللوح للأسرار في كل عالم هو القلم الجاري يقيناً فلا بدع
هو المانح السراء هو الكاشف الردى هو الدافع الضراء حقاً له الرفع
وقال صاحب الجواهر [ص 178]:
ولولاه ما كان لحجيج معرفاً ولا مشعر يسعى إليه ولا سلع
ولولاه ما غيث ولا مزن وابل ولا نبت في الوادي ولم يخصب الزرع
ولولاه ما كان المحصب من منى به الأمن لما بالحجيج له دفع
ولولاه ما كانت مساجدنا التي بجمعتنا فيها يقوم بها الجمع
ولولاه ما كانت بقلب مراحم على بعضنا والزجر حيناً كذا الردع
ولولاه ما كانت قضاة وشرعة وحكام عدل للبغاة لهم صقع
ولو شئت أن أثبت عنايات فضله لأعيا جميع الخلق من شرحها التسع
أيا غوث هذا الوقت إن عبيدكم يروم إجازات يكون بها النفع
على بابك العالي عليّ فكن له بدنيا وأخرى حصنه لك إذ يدعو
إلى أن قال:
ومن لا أسميها لأنك عالم بما في ضمير العبد لما بكم يدعو
وألبسهم ثوب شفاء وعزة فإنك حرز أيها الحصن والدرع
وزيّن لنا الأوطان يا حامي الحمى بناصر دين الله واحميه يا سبع
وقال صاحب الجواهر [ص 182]:
لقد فاز من أمسى مريداً ببابه وفاز به برٌ كما فاز طالح
فما هو إلا رحمة من إلهنا وما هو إلا الفضل للذنب صافح
أنارت به الأفاق شرقاً ومغرباً أنارت به الأبصار ثم الجوانح
وما هو إلا البحر عذب فراته وكوثره حلو وما هو مالح
وقال صاحب الجواهر [ص 188]:
هم (1) عمدتي ووسيلتي عند الأصائل والبواكر
هم عدتي هم نجدتي وهموا عياذي في المحاضر
فبهم إليك تشفعي أن تقض حاجات الضمائر
وبقطب حضرتك التي هو حاكم فيها وآمر
هو فردها هو غوثها هو سر هاتيك السرائر
الوارث الحبر الذي ظهرت به منك المظاهر
أعني ابن سالم من سما ابن الجهابذة الأزاهر
ابن الشموس الأوليا ابن الدراري الزواهر
بحر الشريعة والهدى كنز الهداية والذخائر
لا غرو أن حاز العلا فلأنه نجل لباقر
ابن الحسين وجعفر ابن الغطاريف الأطاهر
__________
(1) - يقصد بعض آل البيت وأمهات المؤمنين(217/45)
ابن النبي المصطفى مجلي الصدا عن كل خاطر
ابن الوصي المرتضى مفني العداة لهم وكاسر
آباؤه أهل الكسا أبداً بهم بالله فاخر
ابن الشيوخ ذوي النهى من كل حبر ثم ماهر
شيخ تقمص بالهدى قطب به العرفان دائر
منجي الفقير من الردى من كل فاقرة وفاقر
أسق الفؤاد بقطرة من سحب حضرتك المواطر
أبذرت بذراً مثمراً يا خير ساق خير باذر
شمس المعارف والسنا نور النواظر والبصاير
وسِعَ الخلائق بالرضا من كل بدوي وحاضر
ذا رحمة برزت لنا من فيض فضل منك باهر
أحيا المنازل والربى فسحابه بالفضل ماطر
ولسان كلٍّ بالثنا ولفضله بلسان شاكر
هذا الإمام بلا مرا ولشرع دين الله ناصر
روض المعارف والندى زهر السنا برباه ناضر
عينات قالت مرحبا عين أتى بالله ناظر
فيها المساجد كلها وكذا المشاعر والمآثر
فيها النبي محمد فيها الصحابة والأكابر
وكذاك بغداد بها وكذلك لبنان والمفاخر(1)
فيها جميع الأولياء فيها الأوائل والأواخر
فيها جميع العلوم وما تشاء فاذهب إليها ثم سافر(2)
فيها المثاني والثنا وكذاك غيب الله ظاهر
فيها المحصب من منى فيها التقا من سفح حاجر
فيها ممد الكائنات بها التجلي والبشائر
يا سيدي يا عدتي أرمق عبيدك بالمحاجر
ابن السحاب الملتجى بذوى الجناب والسرائر
عجل له كل المنى والأمن من كيد وغادر
ادفع عداه فإنهم آذوه بغياً وأنت ناصر
حاشا يضام عبيدكم ابن الأكابر والكواسر
احم الحمى ففقيركم طلب الحمى إذ أنت قادر
كم ذا أذود بغاتهم عن كل سوء كم أصابر
كم ذا أدافع بالتي كم ذا لهم عاف وغافر
لكن غرة سوحكم كوني عُبيدك في العشائر
__________
(1) - واعجباً لكم، النبي صلى الله عليه وسلم في عينات ؟!! وكذلك بغداد ولبنان في عينات ؟!! ألا لعنة الله على الكاذبين.
(2) - تأمل أخي القارئ ، هذا هو مرادهم، تنشيط السياحة الدينية في عينات، حيث قال فيها العلوم وما تشاء فاذهب إليها ثم سافر.(217/46)
ولقد تكرر منهم إذ أنت أعلم بالسرائر(1)
وقال صاحب الجواهر [ص 195]:
يا بن سالم همة علوية يبلغ بها كل الأنام مناها
يا بن الرسول غناك يا أبا حامد عبد ببابك لا يريد سواها
أنت الحليم وليس حاجة عبدكم تخفى عليكم فاعجلوا بقضاها
أنت المراد بل العماد بل المنى بل أنت كل الكل يا مولاها
قل يا عُبيدي لا تخاف وإنما أنت الأخص بسرها وحباها
وذكر صاحب الجواهر [ص 198]:
أنت ابن سالم من سمت أوصافه وعليه من حلل الجمال بهاء
أنت الإمام الفخر أكرم سيد ساد الورى وعنت له الفصحاء
صدر الشريعة كنز كل عناية بحر الحقيقة سيد العطاء
منهاج إرشاد العلوم وروضها بدر له بسما الكمال سناء
حاوي المعاني والبيان بمنطق فيه لكلِّ العارفين شفاء
قطب تسلطن بالجمال على الورى ملك عليه مهابة وصفاء
نسل النبوة من سلالة هاشم مولى له بين الأنام علاء
ماذا عسى أثني عليك فضيلة عجز القريظ وفاتني الإحصاء
يا سيد أرضي وجيد زمانه وعليه من نور الإله قضاء
إني عبيدك لم أزل طول المدى فاكشف فإني مسني الضراء
ويرد لي في الدهر نظم صفائكم ويطيب لي الإنشاد والإنشاء
قلدت جيدي طول كل نوالكم فلذا شدوت كأنني الورقاء
فامنن عليّ بنظرة يا سيدي ليكون منكم للسقام دواء
وأمدني بعناية وسعادة ما بعدها أبداً يكون شقاء
قل يا علي (2) الشر بما قد رمته قد زالت الضراء والبأساء
وكذلك أصحابي الجميع فقم بهم ومن المقاصد نلهم ما شاء
وذكر صاحب الجواهر [ص 199]:
إذا كنت بالتحقيق معكم فإنني ظفرت بكل السؤل يومي مع أمسي
وكنت صحيحاً بعدما كنت اعرجا وأصبحت في خير وأمن وفي أنسي
لعل إلهي أن يطهر بيته قليبي من الشيطان والغي والرجس
ويلبسني ثوب السلامة والشفا ويشفي فؤادي والقليب مع النفس
وذلك بشيخي واحد الدهر قطبه غياث جميع الخلق والمنصب القدسي
__________
(1) - كذب عدو الله، الذي يعلم السرائر هو رب العالمين {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.
(2) - أي ناظم هذه القصيدة، واسمه علي بن علي السمهودي(217/47)
أبو بكر الحامي بنور جبينه ظلام ضلال قد أتى ناشر النفس
عليك بباب لابن سالم إنه لمنجي من الأمراض والصد والنكس
وجز تربة كحلاً لعينك إنه شفاء من الأسقام والضر والعكس
محياه أضحى في الوجود كأنه سراج كبدر للأنام وكالشمس
هنيئاً لمن أضحى يقبل نعله ويجعله تاجاً يصون عن الدوس
ويلثم أعتاباً يحج لبابها سُراة رجال الغيب كل بها يرسي
لقد أصبحت عينات عينين للدنا مخلقة بالطيب والمسك والورس
ولم لا وقد أضحت عروسا بسيد تجلى بها فالبدر من نورها مكسي
أيا مركز الأقطاب يا قبلةالورى أقلني عثاري يا عمادي ويا ترسي
ولم لا وأنت السر سر نبينا خليفته في الوحش والجن والأنس
تجمعت الأقطاب فيك جميعهم فأولهم معروف وآخرهم مرسي (1)
ورثت علوماً من علوم محمد تجُل عن الإفشاء والظن والحدس
وقمت مقاماً يعجز الخلق كلهم وخضت بحاراً لم ترم بلة ......
كرعت كؤوس الحب من قبل خلقنا وألبست تاج الملك حقاً بلا لبس
أيا شيخ أشياخ الوجود بأسره لعرب وروم والأعاجم والفرس
أغث عبد رقٍ لم يحل عن ولائكم وحكم بناء بالصلاح على أس
وعامله بالألطاف والحلم والندى مع الأهل يا مولاي والفرع والجلس
ومن كان منا بالقرابة دانيا وأصحابنا الأحياء ومن حل في الرمس .اه
__________
(1) - يقصد معروف الكرخي، ولعله في قوله مرسي يقصد وليهم مرسي أبو العباس (الناشر )(217/48)
هذا كله من الغلو الذي حذَّر الله منه ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} [المائدة: 77]، قال العلماء: الغلو هو مجاوزة الحد في مدح الشيء أو ذمه، وضابطه تعدي ما أمر الله به، والغلو كثير في النصارى، فإنهم غلوا في عيسى عليه السلام فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً مع الله، يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا فيهم العصمة، فاتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقاً أو باطلاً، قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31]. فالغلو في الإنسان سبب لعبادته، ولهذا حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من مجاوزة الحد في مدحه والغلو فيه فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله فقولوا: عبد الله ورسوله " [رواه البخاري عن عمر]. والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.
وقبل النصارى قوم نوح عليه السلام فإنهم كفروا لما غلوا في الصالحين قال تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً} [نوح: 24]، قال ابن عباس هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبِدتْ.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان ع موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كانوا أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.(217/49)
فصل
وبعد هذا الكلام سأذكر لك أخي القارئ بعض الكرامات التي مؤلف كتاب الجواهر في مناقب الشيخ أبي بكر تاج الأكابر، ثم أختم بعدها بذكر وجه التشابه بين غلاة الصوفية وبين الهندوس عبدة الأصنام.
ذكر صاحب الجواهر فصلاً في تعريف الشيخ عند الصوفية بعنوان (بيان الشيخ لغة واصطلاحاً ) [ص 36] ومما جاء فيه:
وسئل الشيخ أحمد بن الجعد متى يكون الشيخ شيخاً ؟
قال: لا يكون الشيخ شيخاً حتى يمحو سيئات مريده (1) من اللوح المحفوظ. قال الشيخ سعيد بن عيسى العمودي: وكيف غفل حتى كتبت. اه
من كتاب ظهور الحقائق لمؤلفه السيد عبد الله بن علوي العطاس ملخصاً. اه
الله أكبر يا صوفية حضرموت !! حتى اللوح المحفوظ لم يسلم من خرافاتكم ودجلكم حتى صرتم تعبثون به كما تشاءون وتمسحون منه سيئات من تشاءون ؟؟ إذا لا يسمى اللوح المحفوظ، وكيف يكون محفوظاً وأنتم تعبثون به ؟؟ فقد صار لوحاً مكشوفاً، الأول يدعي أن الشيخ هو الذي يمحو سيئات مريده منه، والآخر يزعم أن الشيخ يمنع أن تكتب سيئات مريده أصلاُ، فهو يقظ مراقب للوح المحفوظ وليس غافلاً عنه.
__________
(1) - المريد عند الصوفية: هو الذي يلازم الشيخ ويأخذ عنه الطريقة(217/50)
وذكر صاحب الجواهر فصلاً بعنوان (طلبه للعلم الشريف ) [ص 43]، ومما قال فيه: وأخذ عن علامة الإسلام الفقيه عمر بن عبد الله بامخرمة بسيئون، ولم يشتهر أن أحداً قرأ عليه كتاباً إلا سيدنا الفخر أبا بكر بن سالم، فقد قرأ رسالة الإمام القشيري عليه، لأنه لا يمكّن أحداً يقرا عليه إلا من علم منه النجاح والفلاح وتفرس فيه، وفي مسجد عبد الملك بسيئون جرت لهما هذه الطريقة الغريبة والكرامة الخارقة، فقد جرى ذكر كرامات الأولياء فطلب الشيخ أبو بكر تصويرها في المجلس، فصورها له هذا الإمام في جمع حاشد من الناس وضع نواة في المسجد قبل تجصيصه، وأمر بماء يغمره، فظهرت نخلة بكر بها وليفها وسعفها، وبدأ الطلع في النخلة وأبر في المجلس، وبان الثمر، وكان رطبا ًجنياً، فقال الشيخ عمر: قم وهات ما يناسب مع الرطب، فقام الفخر إلى البركة الشرقية النجدية وأتى بسمكة وأكل كل الحاضرين من ذلك الرطب والسمك. قال العلامة الحبيب أحمد بن الحبيب الحسن العطاس، إن البركة تعرف اليوم ببركة الشيخ أبي بكر يستشفى بها من الرمد، وأثر النخلة تعرف، هكذا سمعنا من السلف والخلف. اه(217/51)
وقال صاحب الجواهر [ص 77]: ومرة طلع إليه أولاده الكبار الشيخ أحمد والشيخ الحامد والشيخ عمر المحضار، وكان ذلك مع وصول ركاب نذور جاءته من القبلة هن وحمولهن عددهن سبعون جملاً، وكان الشيخ يذبح منهن لغداء الزوار كل يوم واحداً أو إثنين، فلما استقر بهم المجلس أرادوا أن يطلبوا منه شيئاً من الركاب يحرثون عليها، فاطلع نفع الله به على السرائر وأقبل عليهم بوجهه الكريم وناطقهم ابتداء قبل أن يتكلموا وقال لهم طلعتم لأجل هذه الركاب، خذوا إلي تبغون (1) منهن، وعزة ربي وجلاله، إني عقرت الكون لكم خليت دمه يقرقر، ولكن اذهنوا لغيرها (2) أنا قد سلبت جميع الأولياء ما عاد بقيت شريفة بنت صاحب خيلة عاد معها حال كبير، وأنا دخلنا عليها بزواج وأخذنا الحال الذي كانت متصعبة عليه والآن قد مهدناها لكم وخليناها دنان بإذن الله. اه
وقال صاحب الجواهر [ص 78]: وفي الزهر الباسم قال أخبر السيد السالك الولي الناسك شيخ بن علي بن هارون، قال جئت لزيارة سيدي الشيخ فلما طلعت الدار رأيت كثرة الزوار والأخدام يدخلون على من يخدم لنفقة الضيفان في المطبخ من النساء ويحيوا (3) هذا الحال وغالبهم عوام وشبان، ثم أذن لي فدخلت على سيدي الشيخ فحيث وقع نظري عليه قال ابتداء يا شيخ إنّا ننظر على قلوب أصحابنا ونحفظها فلا عاد يقع في شيء مما وقع في الخاطر، فتعجبت من اطلاعه على ذلك الخاطر. اه
إذا كان رب العالمين أرشد نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرشد الصحابة وهم أفضل القرون وصفوة الخلق بعد الأنبياء: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون} [النور:30]
وقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو ؟ قال: الحمو الموت " [رواه البخاري ومسلم]
__________
(1) - أي الذي تريدون
(2) - أي افطنوا ولا تعودا لمثلها
(3) - أي يصافحوا النساء(217/52)
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " [رواه البخاري]، ولكن هؤلاء القوم فساق وفي نفس الوقت يتظاهرون ويتفاخرون بالدين فاضطروا إلى أن يصبغوا فسقهم بالصبغة الشرعية فأتوا بالطامات. و
ذكر صاحب الجواهر [ص 91]: فصلاً بعنوان (قصيدته الفخرية ) ثم ذكر هذه القصيدة ونسبها لأبي بكر بن سالم وهي:
صفت لي حميا خلي واسقيت من صافيها
اقبل وثني يملي على الذي يعليها
من ذا شربها مثلي أنا قبل لا يصفيها
أنا قبل قبل القبلي وبديت على هاليها
أنا أعطيت كل الفضل تكّرم علي واليها
أنا المجتبى بين أهلي وشفعت في عاصيها
أنا أعزل أنادي ولي أنا شيخها وقاضيها
أنا حتف أهل الوصل تكّرم عليّ باريها
أنا حتف أهل العدل ونار الجحيم أطفيها
من كان ينكر فعلي يجرب وأنا حاميها
أنا بازها والشهب أنا للمثاني أقريها
وعين الحقيقة عيني وأشرب من كاسيها
وفخر الوجود الفخري أبو بكر لي يحميها
وراقت حميا قربي وإني لها ساقيها
وأفلت شموس الكل وها شمسنا ضاحيها
أنا عرشها والكرسي وأنا للسماء بانيها
شف أهل الكسا بالفضل وجبريل لي راويها
فهذه رسالة تبني بنص القرآن واتليها. اه
الله أعلم هل قال أبو بكر بن سالم هذه القصيدة أم نسبوها إليه ؟
على كل حال فهي قصيدة تدل على ضلال قائلها وكفره، وكيف يزعم أنه هو الذي بنى السماء ؟!!!
هل ترضى أخي القارئ أن تقوم بعمل تعمله وتتقنه، ثم بعد الفراغ منه يأتي شخص آخر ويزعم أنه هو الذي عمله وأتقنه، ألا يغضبك هذا ويؤذيك ؟
فكيف بهذا الكذاب المفتري الذي بلغ القمة في الكذب، كيف يزعم أنه هو الذي بني السماء، والله عز وجل يقول: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} [لنازعات: 27]. وقال عز وجل: {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها} [ق: 6]. وقال سبحانه: {والسماء وما بناها} [الشمس: 5]. وقال سبحانه: {الله الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء} [البقرة: 22].(217/53)
ولا أدري ماذا يريد بقولها (وأنا عرشها )، هل يريد عرش الرحمن ؟ وهل يرجع الضمير على عز وجل بلفظ التأنيث ؟ لا أستبعد هذا وقد خطب بعض غلاة الصوفية رب العالمين بلفظ التأنيث – والعياذ بالله -.
وكيف يزعم أنه هو العرش والله سبحانه أخبر في مواضع من كتابه أنه استوى على العرش كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] فهل استوى الرحمن على أبي بكر بن سالم ؟؟؟
سبحانك هذا بهتان عظيم.
وكيف يزعم أنه الكرسي والله عز وجل يقول: {وسع كرسيه السموات والأرض} [البقرة: 55] .
ألا لعنة الله على الكاذبين.
قال صاحب الجواهر [ص 107]:
منشآته الكبرى
للشيخ أبي بكر بن سالم منشآت كبرى في عينات وأجلها نفعاً ووقعاً وأجراً وأثراً وذكراً مسجده الشريف الجامع روح البلاد الذي تعقد فيه الجماعات والمجتمعات والدروس العلمية وتقرأ الأحزاب القرآنية والدعوات والأوراد والأذكار على الدوام، وقد أشار على موقعه الأئمة العارفون قبل أن يظهر ويكون كما جاء في أوائل الترجمة. وقام الفخر بتجديده وأمر المعلم ببنائه وتشييده، فشرع فيه وأشاده صرح مبانيه وقام بتصميمه وتنظيمه وحصل ذهول مع المعلم (1) وبني على غير المراد (2) فوجد ما لا يريد وكانت بيده عصا فضرب الجدار وارتعد وزال عن موضعه، وسار حتى بلغ المحل المقصود الذي يحبه صاحب الترجمة (3) وأشار على الجدار بالاستقرار بقدرة العزيز القهار. قال الشيخ عبد الله بن أبي بكر قدري باشعيب:
فأنت قد أوميت يا سيدي إلى جدار كي يزول فزال
أعطاكم التصريف فيما يشاء حياً وميتاً ربنا ذو الجلال. اه
__________
(1) - أي المهندس أو المقاول الذي أشرف على البناء
(2) - لماذا لم يطلع أبو بكر بن سالم هنا على سريرته ويعلم أنه لم يفهم المراد كما زعمتم فيما تقدم أنه يعلم ما في السرائر.
(3) - يعني أبا بكر بن سالم(217/54)
نحن نعلم أن اله على كل شيء قدير، ولكن القوم ليسوا ثقات ومعروفون بالكذب، فكيف نصدقهم بهذه الخيالات التي يزعمون أنها كرامات وهم مخالفون لشريعة الله في الأصول فضلاً عن الفروع، ورحم الله الشاعر حيث قال:
لي حيلة فيمن ينم وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
وهل صوفية حضرموت أفضل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في فضائل عائشة رضي الله عنها: ومن خصائصها أن الله سبحانه برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل الله في عذرها وبراءتها وحياً يُتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنها من الطيبات، ووعدها المغفرة والرزق الكريم، وأخبر سبحانه أن ما قيل فيها شراً لها لا عائباً لها، ولا خافضاً من شأنها، بل رفعها الله بذلك، وأعلى قدرها وأعظم شأنها، وصار لها ذكراً بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء، فيالها من منقبة ما أجلّها.(217/55)
وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها حيث قالت: " ولشأني في نفسي أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها".فهذه صديقة الأمة وأم المؤمنين وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة، وأن قاذفيها ظالمون لها، مفترون عليها، قد بلغ أذاهم إلى أبويها وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها، فما ظنك بمن صام يوم أو يومين، أو شهراً أو شهرين، وقام ليلة أو ليليتين، فظهر عليه شيء من الأحوال، ولاحظوا بعين استحقاق الكرامات والمكاشفات والمخاطبات والمنازلات وإجابة الدعوات، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم، ويُغتنم صالح دعائهم، وأنهم يجب على الناس احترامهم، وتعظيمهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، فيُتَمَسح بأثوابهم، ويُقَبل ثرى أعتابهم، وأنهم بالمكانة التي يُنتقم لهم لأجلها ممن تنقصهم في الحال، وأن يُؤخذ ممن أساء الأدب عليهم من غير إمهال، وأن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم.
ولو كان هذا من وراء كفاية لهان، ولكن من وراء تخلف، وهذه الحماقات والرعونات نتائج الجهل الصميم والعقل غير المستقيم. فأن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه، غافل عن جرمه وذنوبه مغتر بإمهال الله تعالى له عن أخذه بما هو فيه من الكِبَر والإزراء على من لعله عند الله عز وجل خير منه.
نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيماً وهو عند الله حقير. [إجلاء الأفهام في الصلاة على سيد الأنام – ص 181]
قال صاحب الجواهر [ص 231]:
كراماته نفع الله بها في وقائع شتى
منها وساطته في التزوج بالجنية(217/56)
فمنها ما وقع لعوض بامزروع وذلك أنه كان يلقم بقرة له تحت بيته بالجانب القبلي من بلدة الواسطة، فذكر لسيدنا الشيخ أن بنتاً صغيرة من الجن تأتي إليه تسامره، فعرض عليه التزوج بها فأجاب فتزوجها بتوسط الشيخ أبي بكر، وهو صحيح عند كثير من علماء الشافعية وغيرهم منهم البارزي والجمال والرملي وأفتى به ابن عبسين وغيرهم ومنعه آخرون، فحين بلغت الجنية أمره الشيخ أن يطلقها خشية الحبل ففعل رضي الله عنه.اه
وذكر صاحب الجواهر [ص 229]: فصلاً بعنوان (ومن كشفه الخارق الذي أكرمه الله به ):
وذكر فيه أن أبا بكر بن سالم قال ليوسف بن عابد الحسني (صاحب فاس ) يا يوسف أنا أبو الأرواح وقد نظرتك في صلب أبيك وحضرت ولادتك. اه
وقال صاحب الجواهر [ص 228]: ومنها ما في نبذة الشيخ أحمد باوزير: قيل أن جماعة أتوا لزيارة الشيخ، فقال بعضهم لبعض في الطريق نختبر الشيخ، نريد غدانا من صيد البحر والرطب وذلك في غير أوان الخريف، فدخلوا عليه وباسطهم ثم قال لخادمه: اذهب بالجماعة للمنزل الفلاني في بيته فإن غداهم فيه، فقاموا إلى المنزل فوجدوا طلبهم من صيد البحر المقلي والرطب، فحاروا وعجبوا وأكلوا حتى صدروا، فأخذ الخادم المفتاح لحفظ ما بقي فرجع ولم يجد شيئاً. انتهى ملخصاً.
القهوة لما نويت له
جاءت الروايات عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ماء زمزم لما شُرب له "، ولازال العلماء يعلمون أتباعهم بهذا عند شرب زمزم ويحثونهم على النية الحسنة عند شربها، وكان أحد العلماء إذا شرب ماء زمزم يشربه بنية ألا يعطش يوم القيامة.
وأما صوفية حضرموت فاخترعوا للأمة شيئاً جديداً وزعموا أ، القهوة لما شُربت له.
قال في الجواهر [ص 220 – 221]: وكان سيدنا الشيخ ممن أثنى على القهوة وشربها، وكان يشرب منها لوحده رطلاً بعد صلاة الصبح إلى الشروق.......... وكان يقول: (القهوة لما نويَت له ) ويأمر زائريه بشربها على نية نجاح مقاصدهم. اه(217/57)
وقال صاحب تذكير الناس [ص 118]: وكان سيدي (1) رضي الله عنه يقول: إن قهوة البن بدون سكر ترفع وخم البطن وتُعين على السهر، وكان له منها كل يوم وقت انتباهه من نوم القيلولة نحو خمسة عشر فنجاناً، ومثلها وقت استيقاظه من النوم آخر الليل، وإذا نزل ضيفاً عند أحد فلا يرقد حتى تقرب له أدوات القهوة.
وذكر رضي الله عنه عن شيخه الحبيب أبي بكر بن عبد الله العطاس أنه قال: كان السيد أحمد علي بحر القديمي يجتمع مع رسول الله يقظة، فقال ك يا رسول الله أريد أن أسمع منك حديثاً بلا واسطة. فقال ك صلى الله عليه وسلم أحدثك بثلاثة أحاديث: الأول، ما زال ريح قهوة البن في فم الإنسان تستغفر له الملائكة، الثاني، من اتخذ سبحة ليذكر الله بها كتب من الذاكرين الله كثيراً، إن ذكر بها أو لم يذكر، الثالث، من وقف بين يدي ولي لله حي أو ميت فكأنما عبد الله في زوايا الأرض حتى يتقطع إرباً أرباً. (2)
__________
(1) - يعني أحمد بن حسن العطاس
(2) - كيف يقول هذا الكذاب أنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد مات وفارق الحياة ؟ قال تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} ثم بعد ذلك يكذب على الرسول صلى اله عليه وسلم ويأتي بكلام ساقط لا يليق بمقام النبوة وينسبه للرسول صلى الله عليه وسلم، أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "، ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أكمل الدين وبلّغ البلاغ المبين فلا نحتاج إلى أن نبحث عن أحاديث أخرى.
وقوله في الحديث المزعوم (من اتخذ سبحة ليذكر الله بها كتب من الذاكرين الله كثيراً إن ذكر بها أم لم يذكر ) لا شك في بطلان هذا الكلام لأنه قد ذهب بعض أهل العلم إلى أن التسبيح بالسبحة بدعة لم يكن معروف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة فيها لم تثبت، وإنما السنة التسبيح بالأصابع كما في حديث عبد الله بن عمرو (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه ) وفي حديث آخر قال: " واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات " أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ثم كيف يُكتب من الذاكرين الله كثيراً إن ذكر بها أم لم يذكر، هل يكتب من الذاكرين الله كثيراً لمجرد شراء السبحة وهو لم يذكر الله بها ؟!!! فلا أسهل من أن يشتري الإنسان سبحة بريال ويعبث بها بيده – كما هو حال بعض الناس اليوم – ويكتب من الذاكرين الله كثيراً.
ولا أستبعد أن يكون الكذاب الذي وضع الحديث بائعاً للسبح، يستوردها من الهند إلى حضرموت، ويريد أن يروج بضاعته مثل هذا الحديث المكذوب.
[الرواية التي لم يستطع أن يكملها أبو بكر بن سالم مذكورة عند الرفاعية حيث يروي بهاء الدين الرفاعي وابن عمه أبو الهدى الصيادي عن الشيخ محمد البجلي أنه قال: " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال: وقوفك بين يدي ولي الله كحلب شاة أو شواء بيضة خير لك من أن تعبد الله حتى تتقطع إرباً إرباً "
قلت: حياً أو ميتاً ؟ قال: " حياً وميتاً "
(بوارق الحقائق للرواس ص 223، وقلادة الجواهر في سيرة الرفاعي وأتباعه الأكابر ص430)
ولقد صدق الشيخ علي بابكر بقوله أنهم يحاولون جذب السذج لقبور أوليائهم، فوقوف المريد لحظات أمام الولي خير له من عبادة الله الدهر كله – الناشر](217/58)
قال سيدي رضي الله عنه: وكان الحبيب أبو بكر بن عبد الله العطاس يقول: إن المكان الذي يُترك خالياً يسكنون فيه الجن، والمكان الذي تفعل به القهوة لا يسكنونه الجن ولا يقربونه.
وكان سيدي رضي الله عنه إذا أكمل ورد الليل وأحضرت القهوة بين يديه يقول (الفاتحة ) لمشائخ القهوة البنية ومن شربها بنيَّة من صالحي الصوفية أن يتغشاهم الله بالرحمة والمغفرة، وأن الله بجاههم عليه يبلغنا كل أُمنِية ويحفظنا من كل أذية، ويسهل أرزاقنا الحسية والمعنوية وجيع البلدان الإسلامية ويصلح العمل والنية والعافية والذرية بجاه نبينا محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم. (1)
وقال صاحب تذكير الناس [ص 52]:
وذكر الشيخ خليل في فتاويه أن نبي الله سليمان عليه السلام لما مر بعد أبين شكوا إليه وخم الجهة، فأمر بطبخ البن وشرب القهوة. اه
ما صحة هذه الرواية عن سليمان عليه السلام ومن رواها ؟ ثم أن المعروف أن القهوة لم تُعرف إلا في العصور المتأخرة.
ولا أدري لماذا هذا التقديس كله للقهوة، مع أن الأطباء ذكروا أن لها أضراراً كثيرة ويحذرون من الإكثار من شربها، والقوم يدندنون حول القهوة بل ذكر صاحب الجواهر [ص 128] فصلاُ بعنوان:
الكرامات المختصة بالقهوة
__________
(1) - تنبيه: سؤال الله عز وجل بجاه نبيه صلى الله عليه وسلم أو بجاه غيره من الأولياء بدعة محدثة(217/59)
له بخصوص قهوة البن خمس كرامات خارقة، الأولى: قد ذكرت في موضوع رحلاته وملخصها أن ولي عبد الوهاب بن ولي الله الهندي قال جاء الشيخ أبو بكر إلى مكة يعني بالباطن واجتمع به وأخرج له كوزاً ملآن قهوة حارة. انتهى ملخصاً من الزهر الباسم، ثانيهما: أنه دخل السيد عبد الرحيم على الشيخ الكبير أبي بكتر بن سالم نفع الله به مستشفعاً بسره في التأليف بينه وبين زوجته المكية بالغة الجمال والكمال والمال، نافوا (1) الجميع هي وأهلها عن عبد الرحيم لفقره وقاموا عليه ولازموه في الطلاق فهرب فلما رآه سيدنا الشيخ أبو بكر بن سالم قال أتحب المكية يا عبد الرحيم، فقال: نعم ومتيم صب بها وقصدي نظركم ودعوة بإصلاح أمري معها عل صبري، وبيد الشيخ فنجان قهوة كبير أخضر وعنده روشن مفتوح فقال جبا بالقهوة وهبابها وأخرج يده ورجعت خلية (2) بمحضر الجم الغفير، فقال أصلحنا شأنك يا عبد الرحيم بالشفاعة هي لما نويت له، فزوده الشيخ ورجع إلى مكة فلما علم أصهاره بدخوله مع القافلة خرجوا وتلقوه بغاية الفرح والسرور وقصدوا به دارهم وأدخلوا زوجته عليه فوجدها بأعظم مما عنده لها من الحب والمودة، وقالت عجبت مع غيبتك وقت كذا بيوم كذا لم أشعر إلا برجل صفته كذا ناولني هذا الفنجان ملآن قهوة وغاب عني، لم أدر من أين مدخله ومخرجه، فبهت وشربته فأملأ الله قلبي وأهلي حبك من ذلك الوقت، فإذا هو ذلك الفنجان بنفسه ووصف الوقت والشيخ بكمال وصفه.اه من نبذة متعلقة بمناقب صاحب الترجمة للشيخ أحمد بن عبد الرحمن باوزير وأبقيناها بنصها. ثالثهما: ما في النبذة المذكورة للشيخ المذكور نقلاً مما وجد بخط والده الشيخ عبد الرحمن بن محمد با وزير قال: بينما سيدنا الشيخ نفع الله به جالساً بحضرته الشريفة وهي جامعة زوار من كل جهة إذ دخل عليهم رجل في صورة درويش فقام له الشيخ وعظمه وأقبل عليه
__________
(1) - كذا هي في الأصل ولعل الصواب (نفر)
(2) - أي رجعت يده خالية،ليس بها الفنجان(217/60)
بكليته وقال له الشيخ: أأنت الشيخ البكري صاحب مكة مدرس الحرمين الشريفين فقال نعم هل عندك أحد من الأولاد، فقال لا إلا أن زوجتي هذا شهر وضعها فجاءت القهوة وكان لسيدنا الشيخ فنجان قهوة أحمر فأخذ بيده الكريمة الفنجان وأخرجه من الخلفة(1) وردها ولا بها فنجان ثم قال يا شيخ بكري أشرفنا على زوجتك بمكة فوجدناها بالولادة متعسرة لها ثلاثة أيام أعطيناهم الفجان القهوة وقلنا لهم اسقوها فحين أخذت نشفة (2) ولدت غلاماً مباركاً وقلنا لهم سموه فلاناً وبقي الفنجان عندهم وأنت تجده عند أمك إن شاء الله يخبرونك بالقصة وابنك هذا يكون عالم مكة فكان كما كان نفعنا الله به قال الراوي وقد رأيت الفنجان بعينه اه (من النبذة بلا تصحيح العبارة أمانة للنقل ).
رابعها: قال في الزهر الباسم ما أخبر به بعض من زاره من جهة الشام قال لما جلست عند سيدي الشيخ خطر لي أن أطلبه الدعاء في رضا زوجة لي هنا ولي مدة طويلة مفارق لها ومعي منها هوى شديد فبدأني الشيخ في الحال قبل أن أسأله وقال ما عاد يقع لك من أهلك إلا الرضا ولو أردناهم أحضرناهم لك في هذا المجلس ولكنا نعطيهم هذا الفنجان يشربونه وبيده فنجان قهوة ثم سرت إلى بلدي فلما وصلت لم أر منهم إلا الرضا فسألتهم هل دخل عليكم أحد في يوم كذا فقالوا رجل صفته كذا وكذا وبيده فنجان قهوة فناولنيه فشربته وذكرت صفة الشيخ أبي بكر رضي الله عنه والساعة التي كنت فيها قال العبد الفقير إلى الله عبد الله بن أبي بكر باشعيب قلت وقد اشتملت هذه الحكاية خمسة كرامات الأولى اطلاعه على خاطر الرجل الثانية صرف حالة الزوجة من حالة الغيظ إلى حالة الرضا والثالثة تصرفه المؤذن به قوله رضي الله عنه لو أردناهم أحضرناهم الرابعة طي بعد المسافة البعيدة في ذلك ومناولته لها الفنجان الخامسة التجري.
__________
(1) - أي النافذة
(2) - كذا هي في الأصل ولعل الصواب (رشفه )(217/61)
وخامسها: ما نقل من كتاب الإفتاء بحلية الأبرار عن السيد الفاضل الولي الإمام عبد الرحمن بن أحمد البيض علوي أحد تلاميذ سيدي الشيخ الخواص أنه خرج لزيارة شيخه الشيخ أبي بكر بن سالم ومعه رجل اسمه عثمان خطيب فدخلا عليه ومعه فنجان قهوة فقال في نفع الله به يا سيدي عبد الرحمن همّك كثرة البنات بلا ذكر يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور، فقال نعم سيدي خرجنا لنظرك ولذلك فقال البنات مسعدات دين ودنيا وبشراك بولد يختم القرآن ثم غيره اشرب القهوة بنيتها وناوله الفنجان الثاني وأنت عثمان همّك كثرة العولة أصلحناك وذريتك وتتسع دنياهم وأنت جبا بالقهوة وناوله الفنجان الثاني وقال اشرب بنيتها فوالله ما نقص حرف من لفظ الشيخ وطلعت الشحر وحضرت أعراس بناته على سادة ذوي تجارة واسعة ثم بعد أيام حضرت ختم ولده الموعود وسكوت الشيخ عنه فعرفت أنه يموت.
فصل
قال بعض أهل العلم: والمقصود من هذا معرفة أن من يدّعي علم شيءٍ من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المُخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل الحسن والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة ونحو هذا من علوم الجاهلية.
ونعني بالجاهلية: كل مَن ليس مِن أتباع الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فإن هذه علوم قوم ليس بهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهناً وعرافاً أو معناهما، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد.(217/62)
وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة. ولا ريب أن من ادعى الولاية واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمرٌ يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها بخلاف من يدّعي أنه ولي لله ويقول للناس: اعلموا إني أعلم المغيبات، فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسباباً محرمة كاذبة في الغالب. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان " فيكذبون معها مائة كذبة " فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يّدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه، لأن في دعواه الولاية تزكية للنفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} [النجم: 33].
فكيف يأتون للناس يقولون: اعرفوا إنا أولياء، وإنا نعلم الغيب.
وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق، واقتناص الدنيا بهذه الأمور، وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء. أفكان من عندهم هذه الدعاوى والشطحات شيء ؟ لا والله. بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق، وكان عمر يُسمَع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في وِرْدِهِ بالليل فيمرض منها ليالي يعوده الناس، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفاً من النار، ثم يقوم إلى صلاته.
ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والذاريات والطور، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء والأصفياء لا أهل الدعوى والكذب، ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدّعي ولياً ؟(217/63)
ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبّسوا بها على خفافيش البصر. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
وجه التشابه بين الهندوس عبدة الأصنام
وبين غلاة الصوفية في حضرموت
أجرت مجلة الأسرة (العدد 122 – رجب 1423 ه ) لقاء مع شخص اسمه محمد شان، وكان هندوسياً ومن أسرة مقدسة في تلك الديانة ثم انتقل إلى البوذية ومنها إلى النصرانية التي أصبح فيها قسيساً، ولأنه يبحث عن الحق كان لابد أن يصل إلى لإسلام، وكان معه هذا الحوار:
ماذا كانت ديانتك قبل الإسلام، وكيف كانت حياتك ؟
أنتمي إلى عائلة مقدسة في الديانة الهندوسية بسيريلانكا، يتمتع أفراد أسرتي بثراء فاحش، كما أنهم يتعالون على بقية الناس، وأتذكر وأنا صغير لم أتجاوز العاشرة من العمر أني لعبت مع أحد الصبية الصغار، عندما رآه والدي ضربه ضرباً مبرحاً لأنه تجاوز الفروقات الطبقية التي لا تسمح لمثله أن يقترب فضلاً أن يلعب مع من هو في طبقتي.
كيف كانت ممارستكم الدينية الهندوسية ؟
كان لي معلم يتولى الإشراف على دراستي الدينية، وهذا المعلم الرئيسي رجل يمارس ما يسمى ب (السحر الأسود ) مثل المشي على الجمر أو على كسر الزجاج حافياً دون ألم، وكذلك إدخال المسامير في اللسان والخد دون خروج دم أو إحساس بالألم.
هل تعلمت هذه الحركات ومارستها بنفسك ؟
نعم كنت أمارسها أمام الناس من الطبقات الدنيا، وكانوا يعتقدون أني أتقن هذه الحركات لأني أنحدر من تلك العائلة المقدسة.
ما هو تفسير قدرتكم على أداء هذه الحركات العجيبة ؟
كنا نستعين بشياطين الجن الذين كانوا يقدمون لنا أشياء تكرس في نفوس أبناء الطبقات الدنيا قداستنا، إضافة إلى ذلك فقد كان الناس يسألونني عن أمور غيبية، وكان الجن يحضرون المعلومات بل ويتحدثون على لساني، لأنهم يتلبسون بي أحياناً استغلالاً للجهلة لصرفهم عن الحق.(217/64)
هل كنت تحس بدخول الجن إلى جسدك، وماذا كانت مشاعرك نحو هذا الأمر ؟
بدأت الشكوك تساورني عندما كان عمري قريباً من الخامسة عشرة، وكان من دوافع تلك الشكوك كثرة الآلهة عندنا، حيث يوجد في منزلنا قرابة مائة وخمسين إلهاً، كل واحد منهم يختص بجزء من شؤون الحياة، فأحدهم إلى المطر، وثنٍ للقوة، وثالث للحكمة، ورابع للحب وخامس للرزق.... ألخ، وكان أحدهم في العقيدة الهندوسية لا يغني عن الآخر، لذلك تساءلت: هل هذه آلهة حقيقة ؟ إضافة إلى ذلك كان معلمونا ينهروننا عندما نسألهم بعض الأسئلة حول بعض الأمور التي لا تنسجم مع العقل والمنطق السليم.
ولكن نقطة التحول كانت عندما كان معلمي الرئيسي في إحدى المرات يقوم بسحر أسود، وأبلغه الجن أن يغادر ذلك المكان قبل الساعة الرابعة عصراً، ولكنه كان سكيراً فشرب الخمر ونسي مغادرة ونام، وبعدما أفاق فقد القدرة على الكلام، قمت بزيارته بعدها، فأبلغني أن شياطين الجن هم من فعل به ذلك وحذرني منهم.
كم كان عمرك حينها ؟
كنت أبلغ من العمر 24 عاماً تقريباً.
ماذا حدث بعدها ؟
علمت أن الهندوسية ديانة باطلة، تقوم على استغلال الفقراء لدفع أموال ضخمة للأسر المقدسة، كما تقوم على الخداع الشيطاني والسحر لإقناع هؤلاء الناس بأننا نستحق التقديس ودفع الأموال. اه.
بهذه المقابلة يظهر وجه التشابه بين غلاة الصوفية والهندوس وهي كالتالي:
1- تقديس بعض الأسر للتعالي على الآخرين، وهو ما يسمى بالتمييز العنصري.
2- استغلال العامة والفقراء وأكل أموالهم بالباطل.
3- ادّعاء علم الغيب.
4- استخدام السحر والحيل الشيطانية ولاستعانة بالجن، وهذا واقع من بعض صوفية حضرموت، إذ كانوا يفعلون بعض الأمور السحرية ويزعمون أنها كرامات.
الخاتمة(217/65)
عرفت أخي القارئ أن الدافع الأكبر لصوفية حضرموت – فيما سبق – هو أكل أموال الناس بالباطل، وأما في هذا العصر وبعد أن تحسنت أحوال الناس المالية خاصة بعد تقدم الصناعات واستغنى الناس، فإن الدافع الكبر لهم هو الكِبر والعناد يظن أنه إذا اعترف بالحق وترك الباطل أن هذا فيه تحقيراً لآبائه ومكانتهم.
ولكن ولله الحمد ترى اليوم كثيراً من أبناء الصوفية من عرف الطريق المستقيم ومشى عليه وبنبذ تلك الخرافات والدجل والشعوذة.
فنحن ندعو العقلاء من أبناء الصوفية أن يرجعوا إلى رشدهم وألا تأخذهم حمية الجاهلية، فإن الآباء والأجداد لن ينفعوكم يوم القيامة: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 – 37]
وقد يقول قائل إني جالست دعاة الصوفية ولم أسمع منهم هذه الخرافات ؟؟ فأقول إنهم لا يصرحون بذكر هذه الخرافات (التي يزعمون أنها كرامات ) في بعض الأوقات إذا عرفوا أن الناس لا يقبلون منهم هذه الخرافات، ولكن اسألوهم عنها واقرءوا عليهم بعض ما في كتابي هذا فسيظهرون لكم على حقيقتهم، وسينكشف لكم الغطاء.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملاحظة للقارئ الكريم :
ما اقتبسه الشيخ علي بابكر من كتب الصوفية تم نقله بأخطائهم الإملائية واللغوية كما هي. (الناشر )(217/66)
هذه هي الصوفية
في حضرموت
جمعها
الشيخ : علي بابكر
قدَّمَ له
الشيخ : علوي بن عبد القادر السقاف
الشيخ : أبو بكر بن هدار الهدار
الشيخ : صالح بن بخيت مولى الدويلة
مقدمة الشيخ علوي بن عبد القادر السقاف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا وسيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله القائل : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " والقائل : " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بما عرفتم من سنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عَضُّّوا عليها بالنواجذ " وعلى آله الطاهرين وأصحابه أجمعين. وبعد
فقد أطلعني الأخ الشيخ علي بابكر – وفقه الله على رسالة مختصرة عن صوفية حضرموت وهالني ما نقله عن كتبهم بالجزء والصفحة من قصص وروايات يأباها الله ورسوله والمؤمنون الموحدون ، وما فيها من نسبة خصائص الربوبية للمخلوق ، ومن ذلك :
نفخ الروح في الجمادات ! والله عز وجل يقول : { قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } سورة الإسراء آية 85 .
إحياء الموتى ! والله عز وجل يقول : { ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي ويميت الموتى وأنه على كل شيء قدير } سورة الحج آية 6 .
القول للشيء كن فيكون ! والله عز وجل يقول عن نفسه : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } سورة يس آية 82 .
ادعاء علم الغيب ! والله عز وجل يقول : { عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } سورة الجن آية 26 – 27 . قال : { من رسول } ولم يقل من ولي أو صالح.
شفاء المرضى ! والله عز وجل يقول عن لسان إبراهيم الخليل عليه السلام : { وإذا مرضت فهو يشفين } سورة الشعراء آية 80 .
ضمان الجنة للمريد ! ومحو سيئاته من اللوح المحفوظ ! ونحو ذلك.(218/1)
كل هذا وغيره من قصص وروايات أخرى – لا يسندها نقل ولا يقبلها عقل – نقلها الشيخ في رسالته هذه ، وهي كفر بواح لا يشك في ذلك مسلم موحد ، لا يجوز اعتقادها ولا روايتها إلا على سبيل التهكم أو الرد عليها . وما هذا الأمر الذي وصل إليه الناس هناك إلا بسبب الهوى والجهل والبعد عن الكتاب والسنة . وإن كنت أختلف مع المؤلف فيما كرر مراراً من أن كل هذا دافعه المادة البحتة أو أنها دعايات للتسويق ولتنشيط السياحة الدينية لجذب أكبر عدد ممكن من الزوار – على حد تعبيره – ولعل أصحابها بريئون من نسبتها إليهم ، فقد كُذب على الرسل والأنبياء من قبل. وعلى أحفادهم وأتباعهم التبرؤ منها ونفي نسبتها إليهم وعدم روايتها على سبيل التصديق ، وأقل حقوق الآباء على الأبناء أن ينفوا عنهم الكفر ويبرئوهم منه وهذا من برِّهم ، فليس من الفخر بشيء أن يكون جد المرء يدَّعي إحياء الموتى أو علم الغيب أو أنه يقول للشيء كن فيكون ، والعياذ بالله.
وإني أدعو أبناء السادة في حضرموت وغير حضرموت إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه جدهم محمد بن عبد الله ، على نهج سلفهم الصالح أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
علوي بن عبد القادر السقاف
غرة صفر من عام 1424 هـ
البريد الإلكتروني : AASAGGAF@HOTMAIL.COM
مقدمة الشيخ أبي بكر بن هدار الهدار
الحمد لله رب العالمين ونصلي ونسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين ، أما بعد
فقد اطلعت على رسالة الشيخ علي بابكر الموسومة ( هذه هي الصوفية في حضرموت ) فألفيتها جيدةً في بابها ، نافعة في محتواها ، فقد عَرَّت هؤلاء المتصوفة مما يدَّعون به من كرامة ، وكشفت عوارهم وبينت ضلالاتهم ، ونبرأ إلى الله من ذلك.(218/2)
وإن كنت أتفق مع الشيخ علي بابكر فيما حكاه عن أحوال هؤلاء الضُّلال فإني أختلف معه في السبب الذي أدى بهم إلى هذه الحال.
فلعل الجهل المتراكم أعواماً مديدة وسنين متطاولة أدى بهم إلى هذه الحال ، أضِفْ إلى ذلك قِلّة العلماء الربانيين أصحاب العقيدة الصحيحة.
ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يردنا وإياهم إلى الحق وأن يلهمنا رشدنا ، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه
أبو بكر بن هدار الهدار بن أحمد الهدار
حضرموت – عينات
جمادى الأولى 1424 هـ
مقدمة الشيخ صالح بن بخيت بن سالم مولى الدويلة
الحمد لله الذي هدانا للإسلام { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } وعلمنا الحكمة والقرآن ، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس ، وألبسنا لباس التقوى خير لباس. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من مخلوقاته ، خير الناس للناس ، سراج وهاج ونور ونبراس ، ورحمة وإيناس. صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين ، وبعد :
فإن بلاء التصوف قد عمَّ وطمَ ، وشرّق وغرّب في الأمم حتى لا يكاد يخلو منه سهل ولا أكم ، وهذا وإن كان نذير شؤم ومؤشر انحراف ، فإنه عند أهل الجهل والغفلة معيار تصحيح واعتراف ، وليس المقامُ مقام بيان فساد هذا الميزان. وحسبي ما جاء في القرآن : { وأن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } النساء : 116 ، وقوله سبحانه : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } يوسف 103.(218/3)
كما أنني لا أعني بهذا البلاء تصوف الموالد والحضرات ، فهو أحقر وأظهر من التصدي لكشف زيفه وبيان بطلانه وانقطاعه عن دين الله وهَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تصوف السلوك والرياضة والأخلاق [ قال أبو بكر الكتاني : " التصوف خُلق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في التصوف ". مدارج السالكين 1/ 499 ] ، فهو مشترك بين أمم الأرض ، مطلوب عند عقلاء العالم ، والناس فيه بين مقصر ومشمَّر ، سار فيه الموفقون المهتدون على درب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، الذي أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه ، وزكّاه وحلاه : { وإنك لعلى خلقٌ عظيم } القلم :4 ، وامتطى غيرهم سبلاً ومذاهب فأساءوا وأحسنوا ، وأصابوا وأخطئوا { قل كلٌ يعمل على شاكلته } الإسراء : 84 .
ولا أعني صوفية الزهد ، فأهل الزهد أكرم وأتقى وأنقى ، جاعوا واحتفوا ، وتخلوا واختفوا " إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يُؤذن له ، وإن شفع لم يُشَفَّع " [ رواه البخاري في صحيحه في عدة مواضع رقم 6453 ، 2886 ، 2887 ] ، يعدون الكرامة إنذارً وتخويفاً ، والحفاوة استدراجاً ، والثناء بلاءً وفتنة ، فإن أُوتوا فمن سوء الفهم تارة ، ومن غلبة الطبع أو الحال الأخرى ، فكل من أحبهم فإن الحق أحب إليه منهم ، يؤخذ من قولهم ويُترك ، ولا يدّعون لأنفسهم العصمة ولا تُدعى لهم إلا من مُخرِّف أو مُحرِّف.
إنما أعني صوفية البلاء والعناء ، الذين يتسترون بما سبق من مظاهر ، ويضمرون خلاف الظاهر { ولتعرفنهم في لحن القول } محمد : 30 ، { لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } آل عمران : 71.
صوفية الوثنية وركام الديانات الشركية ..
صوفية الحلول والاتحاد ، والجرأة والإلحاد ..
صوفية الدجل والخرافة والخلل ..(218/4)
عمدوا إلى أديان الناس وعقولهم فطلبوا إلغائها واجتهدوا في طمس معالمها ، ثم تنافسوا بعد ذلك إدارة الكون ، وإعادة التشريع وبناء المشاهد وصرف الناس إليها. منافسة تبلغ حد الجنون أو تجاوزه ، لدرجة ادعاء بعضهم القدرة على تغيير ما في اللوح المحفوظ ، وآخر القدرة على إطفاء النار وإغلاق الجحيم ، والثالث منادمة رب العالمين ومزاحمته على عرشه العظيم ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ، في أقوال وأفعال لا يمكن صدورها عن رجل عاقل فضلاً عن مسلم عالم أو فاضل.
وعن داود بن صبيح قال : قلت لعبد الرحمن بن مهدي : يا أبا سعيد إن ببلدنا قوماً من هؤلاء الصوفية ؟ فقال : لا تقرب من هؤلاء ، فإنا قد رأينا من هؤلاء قوماً أخرجهم الأمر إلى الجنون ، وبعضهم إلى الزندقة. [ المنتقى من تلبيس إبليس للإمام ابن الجوزي – علي حسن بن عبد الحميد ص 280 ]
وما يزيد الطين بله والمرض علة ، نسبة أقوالهم الباطلة وأفعالهم العاطلة إلى من لهم سَبْق إلى الدين أو فضيلة اختصهم بها الله رب العالمين ، كنسبة هذا العبث والتخليط للأئمة من أهل البيت. وكل ذلك لترويج الباطل وزخرفته ، وأهل الحق من أهل البيت كغيرهم من طالبيه وقاصديه على منهج خير القرون متبعين مقتدين لا مبتدعين ولا مخترعين ، أحرص الناس على السنة ، وأكثرهم عناية بها ، وهم أولى بها وأهلها ، فمن دارهم خرجت ، وعلى أيديهم برزت ، ثم هم بعد ذلك كغيرهم في غير ما اختصهم الله به ، فيهم العالم والجاهل ، والراشد والضال ، والمهتدي والمنحرف ، بل المسلم والكافر ( ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) ونسبهم أدنى للتكليف من التشريف ، وتقصيرهم ي نشر السنة والذبِّ عنها يجلب لهم الذم والتأفيف.(218/5)
أما الكرامات وهي مدار هذه الرسالة اللطيفة فهي كغيرها من أبواب العقائد التي انقسم فيها الخلق إلى غالً ومُجحف ، ومُشَّرَّق ومُغَرَّب ، ومُُثْبت ومُنكَر( وكلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ ) والحق دائماً بين الغالي فيه والجافي عنه ، إلا أن النقص دخل على أهل التصوف في هذا الباب من جهات منها :
أولها : مباهاتهم بها وادعاءاتهم فيها ، والأصل في أهل العلم والدين الخوف واحتقار النفس ، كما هو غالب على حال السلف الصالح رحمهم الله كما قال عمر رضي الله عنه : " والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه " [ رواه البخاري في صحيحه رقم 3692 ]
أما هؤلاء فلا تكاد تصدق أن المتكلم بها من أهل الإسلام والاستسلام ، والإجلال والاحترام لله رب العالمين ، وتأمل : عن أبي يزيد البسطامي قال : وددت أن قد قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على جهنم . فسأله رجل ولم ذاك يا أبا يزيد ؟ قال : إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد فأكون رحمة للخلق. [ ذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس ، انظر المنتقى النفيس ص 457 ]
ثانيها : لعبهم وعبثهم فيها ، حتى عادت في كثير من الأحيان خاضعة للتشهي والتذوق ، وكأن أحدهم في مطعم أو نُزُل يطلب ما يشاء مستخدماً لا مستجدياً ، قال النوري : كنت بالرقة فجاءني المريدون الذين كانوا بها وقالوا : نخرج نصطاد السمك ، فقالوا : يا أبا الحسين هات من عبادتك واجتهادك وما أنت عليه من الاجتهاد سمكة يكون فيها ثلاثة أرطال لا تزيد ولا تنقص. فقلت لمولاي : إن لم تخرج إليَّ الساعة سمكة فيها ما قد ذكروا لأرمِيَنَّ بنفسي في الفرات ، فخرجت سمكة فوزنتها فإذا فيها ثلاثة أرطال لا زيادة ولا نقصان. [ المصدر السابق ص 466 ](218/6)
وإنما دخل عليهم هذا من جهة جهلهم بالحكمة من الكرامات [ أو نفيهم لها كما هي عقيدة الأشاعرة ] ، وأن المقصود بها إنما هو نصرة الدين وإقامة السنة وتأييد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، لا العبث والتشهي وفرد العضلات وتخويف العامة وكسب الجاه وترويج السياحة الدينية ....
ثالثها : سرقة الكرامات ، ولك أن تطالع التراث الصوفي في عصور وأماكن مختلفة لترى كيف تدور كراماتهم حول قضايا متشابهة تختلف فيها الأسماء والأماكن وتتفق فيها الأحداث والوقائع ، فالحادثتان المتقدمتان تراهما عند صوفية حضرموت أو السودان أو مصر أو المغرب ... أو عند الجميع . [ انظر أمثلة على ذلك في كتاب أولياء الله بين المفهوم الصوفي والمنهج السلفي – للشيخ عبد الرحمن دمشقية ص 157 ]
رابعها: انتحال الكرامات وتوهمها ، ( فمن العباد من يرى ضوءاً أو نوراً في السماء ، فإذا كان في رمضان قال : رأيت ليلة القدر ، وإن كان في غيره قال : قد فُتحت لي أبواب السماء.
وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه فيظن ذلك كرامة وربما كان اختباراً ، وربما كان من خِدَع إبليس ، والعاقل لا يساكن شيئاً من هذا ولو كان كرامة ) [ المنتقى النفيس ص 517 ] ، وكل هذا نِتاج العناية الزائدة التي أولاها هؤلاء الصوفية بالكرامات فجعلوا غاية المريد منهم طلب الكرامة ، وكانت وما زالت عناية الصالحين بطلب الاستقامة لا بطلب الكرامة.
وقال ابن الجوزي رحمه الله : " وقد لبّس إبليس على قوم من المتأخرين فوضعوا حكايات في كرامات الأولياء ليشيدوا بزعمهم أمر القوم ، والحق لا يحتاج إلى تشييد بباطل فكشف الله تعالى أمرهم بعلماء النقل. اهـ [ المنتقى النفيس ص 517 ] ، بل تمادوا في ذلك فادّعوا ما لا يصلح إلا لله تعالى ، من معرفة الغيب والاطلاع على اللوح المحفوظ وقراءته سطراً سطراً ، وتسيير الكون والتصرف في أفلاكه ، أو ارتكبوا المحرمات وجعلوها كرامات .(218/7)
وقال ابن الجوزي رحمه الله أيضاً : وعن عبد العزيز البغدادي قال : كنت انظر في حكايات الصوفية فصعدت يوماً إلى السطح فسمعت قائلاً يقول : { وهو يتولى الصالحين } فالتفت فلم أرى شيئاً ، فطرحت نفسي من السطح فوقفت في الهواء . قلت : هذا كذب محال ، لا يشك فيه عاقل ، فلو قدّرنا صحته فإن طرح نفسِه من السطح حرام ، وظنه أن الله يتولى من فعَلَ المنهي عنه باطل ، فقد قال تعالى : { ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكيف يكون صالحاً وهو يخالف ربه ؟ وعلى تقدير ذلك من أخبره أنه منهم ؟؟ وقد اندس في الصوفية أقوام تشبّهوا بهم وشطحوا في الكرامات وادعائها واظهروا للعوام مخاريق صادوا بها قلوبهم. [ المصدر السابق ص 527 ]
خامسها: جعلها شرطاً أو دليلاً على الولاية ، والتوصل بذلك إلى تعظيم أصحابها في القلوب وتمرير أو تبرير أو تقرير ما يقولونه ويفعلونه. قال ابن تيمية رحمه الله : وكثير من الناس من يخلط في هذا الموضع فيظن شخصاً أنه ولي لله ، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله ، وإن خالف الكتاب والسنة ، فيوافق ذلك الشخص ويخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، والذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وجعله الفاروق بين أوليائه وأعدائه ، وبين أهل الجنة وأهل النار ، وبين السعداء والأشقياء ، فمن تبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين ، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين ، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص ، أولاً : إلى البدعة والضلال ، وآخراً : إلى الكفر والنفاق ، ويكون له نصيب من قول الله تعالى : { ويوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلاناً خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } .....(218/8)
وقال رحمه الله : وكل من خالف شيئاً مما جاء به الرسول مقلداً في ذلك لمن يظن أنه ولي لله ، بنى أمره على أنه ولي لله ، وأن ولي الله لا يخالف في شيء ، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله ، كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل الله منه ما خالف الكتاب والسنة فكيف إذا لم يكن كذلك ؟
وتجد كثيراً من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً أن قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل : أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها ، أو يمشي على الماء أحياناً ، أو يملأ إبريقاً من الهواء ، أو ينطق بعض الأوقات من الغيب ، أو يختفي أحياناً عن أعين الناس ، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته ، أو يخبر الناس بما سُرِقَ لهم أو بحال غائب لهم أو مريض ، أو نحو ذلك من الأمور ، ما يدل على أن صاحبها وليٌ لله ، بل لقد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يُغتر به حتى يُنظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونَهْيهِ.
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور ، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان صاحبها ولياً لله فقد يكون عدواً لله ، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين ، فلا يجوز أن يُظَن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله ، بل يُعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ، ويُعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة ... اهـ [ الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ( ويا له من كنز ) ص 163 – 169 باختصار ](218/9)
وقد نقلته بطوله لنفاسته وكفايته ، فإن المحظور في كثير من الأحيان ليس فيما يُحكى من الكرامات ، وإن كانت مليئة بالمنكرات ، لكن المحظور هو فيما يُبنى عليها من التشريعات والاستغاثات والزيارات والمقامات والتجمعات والمنامات والحكايات .. وهم يهولون بها ويشغلون الناس بعجائبها للتوصل إلى ترويج شركياتهم وبدعهم ( فاحذروهم )
وقد عمد الشيخ علي بابكر وفقه الله في هذه الرسالة إلى مجموعة من المخاريق والخرافات والدعاوى والمنكرات المنسوبة أو المسروقة – كما مر معنا – أو المذكورة بأسانيد مجهولة ، فأبرزها ولسان حاله فيما اعتقد قول ابن الجوزي رحمه الله ( فإن كان ذلك صحيحاً عنهم توجب الرد عليهم ، إذ لا محاباة في الحق ، وإن لم يصح عنهم حذرنا من مثل هذا القول ، وذلك المذهب من أي شخص صدر ... والله يعلم أننا لم نقصد ببيان الغلط إلا تنزيه الشريعة والغيرة عليها من الدخل ، وما علينا من القائل والفاعل ، وإنما نؤدي بذلك أمانة العلم ، وما زال العلماء يبين كل واحد منهم غلط صاحبه قصداً لبيان الحق لا لإظهار عيب الغالط ، ولا اعتبار بقول جاهل يقول : كيف يرد على فلان الزاهد ... لأن الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة لا إلى الأشخاص ، وقد يكون الرجل من الأولياء وأهل الجنة وله غلطات فلا تمنع منزلته بيان زلله ... اهـ ) [ المنتقى النفيس ] .(218/10)
وليس إقناع كثير ممن تشربت قلوبهم هذه الضلالة ضروري عند المؤلف – في ظني – وإنما قصد كشف زيفهم وتعرية باطلهم لأهل الفطر السليمة والعقول المستقيمة ممن غره كلام بعضهم وزخارف قولهم. أما هم فكما حكى ابن الجوزي أيضاً عن شيخهم القشيري قوله : " وحجج الصوفية أظهر من حجج كل أحد ، وقواعد مذهبهم أقوى من قواعد كل مذهب ، لأن الناس إما أصحاب نقل وأثر ، وإما أرباب عقل وفكر ، وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة .. " [ المصدر السابق ] فهم بلا عقل ولا نقل ، فكيف يُرجى رشاد من كشف عن حاله بسيئ مقاله ، كفى الله الشريعة شر هذه الطائفة.
" فمن أحب النجاة غداً ، والمصاحبة لأئمة الهدى ، والسلامة من طريق الردى ، فعليه بكتاب الله ، فليعمل بما فيه ، وليتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ، فلينظر ما كانوا عليه ، فلا يعدوه بقول ولا فعل ، وليجعل عبادته واجتهاده على سننهم ، وسلوكه في طريقهم ، وهمته في اللحاق بهم ، فإن طريقهم هو الصراط المستقيم الذي علمنا الله سبحانه سؤاله ، وجعل صلاتنا موقوفة على الدعاء به فقال سبحانه : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم * ولا الضالين } آمين.(218/11)
فمن شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الصراط المستقيم فقد مرق من الدين ، وخرج من جملة المسلمين ، ومن عَلِمَ ذلك وصدق به ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ، وعلم أن الله تعالى قد أمرنا باتباع نبيه بقوله سبحانه : { واتبعوه لعلكم تهتدون } الأعراف : 158 وغير ذلك من الآيات ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " وقوله صلى الله عليه وسلم : " خير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها " فما باله يلتفت عن طريقه يميناً وشمالاً ، وينصرف عنها حالاً فحالآ ، ويطلب الوصول إلى الله سبحانه من سواها ، ويبتغي رضاه فيما عداها ؟ أتراه يجد أهدى منها سبيلاً ويتبع خيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً ؟ كلا لن يجد سوى سبيل الله سبحانه إلا سبيل الشيطان ، ولن يصل من غيرها إلا إلى سخط الرحمن ، قال الله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } الأنعام : 153، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطاً مستقيماً فقال : " هذا سبيل الله " وخط خطوطاً فقال : " هذه سُبل الشيطان وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه من أجابهم إليها قذفوه في النار " [ رواه أحمد والنسائي ] ، أو كما جاء في الخبر ، فأخبر أن ما سوى سبيل الله هي سُبُل الشيطان ، ومن سلكها قُذِفَ به في النار ، وسبيل الله التي مضى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياؤه والسابقون الأولون ، واتبعهم فيها التابعون بإحسان إلى يوم الدين ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ، فمن سلكها سَعُد ، ومن تركها بَِعُد.(218/12)
وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأخلاقه وسيرته وما كان عليه في عبادته ، وأحواله مشهور بين أهل العلم ، ظاهر لمن أحب الاقتداء به واتباعه وسلوك منهجه ، والحق واضح لمن أراد الله هدايته وسلامته و{ من يهد الله فهو المهتد ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشدا } الأعراف : 178 [ رسالة في ذم ما عليه أهل التصوف للإمام عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ص 18 – 20 ] وقد استكتب المؤلف – وفقه الله – الفقير هذه المقدمة على قلة البضاعة حباً لأهل البيت ، وغيرة عليهم أن يروج الباطل والبدع والخرافة باسمهم ، وفصلاً بين الأديان والأقوال والأنساب والأحساب.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، ولا تجعله ملتبساً علينا فنَضِل ، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على الرحمة المهداة ، المنة المسجاة محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
صالح بن بخيت بن سالم مولى الدويلة.
26 / / 1424 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل : { وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبل المجرمين } [ الأنعام : 55 ] والقائل : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } [ التوبة : 34 ]
والصلاة والسلام على رسول الله القائل : " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " رواه أبو داود في سننه ، وهو حديث صحيح والقائل : " دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " فقال حذيفة وهو رواي هذا الحديث : من هم يا رسول الله ، صفهم لنا ؟ قال : " قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " رواه مسلم .
وبعد : فهذه رسالة مختصرة فيها بيان شيء من عقائد الصوفية في حضرموت أخذناها من كتبهم ومصادرهم.
وفي هذه المقدمة أذكر لك أخي القارئ بعض الأمثلة على ما عند الصوفية من عقائد وأفكار.(218/13)
المثال الأول : جاء في كتاب تذكير الناس بكلام أحمد بن حسن العطاس الذي جمعه : أبو بكر العطاس بن عبد الله بن علوي الحبشي سنة 1393هـ ، ما نصه : وحكى سيدي رضي الله عنه (1) عن الحبيب عبد الله بن عمر بن يحي أنه لما وصل إلى مليبار دخل على الحبيب علوي بن سهل ، فرأى في بيته تصاوير طيور وديكة وغيرها .
فقال : يا مولانا إن حدكم صلى الله عليه وسلم يقول : " يكلف الله صاحب التصاوير يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح "
فقال له الحبيب علوي : عاد شيء غير هذا ؟ (2)
فقال : لا
قال : فنفخ الحبيب علوي تلك التصاوير ، فإذا الديكة تصرخ والطيور تغرد.
فسلم له الحبيب عبد الله بن عمر له حاله. اهـ. [ تذكير الناس بكلام أحمد العطاس ص 155 ]
سبحان الله العظيم !! ذكرتني هذه القصة بالنمرود الذي حاج نبي الله إبراهيم عليه السلام وادعى أنه يحي ويميت { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحي هذه الله بعد
موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم } [ البقرة 258 – 260 ]
__________
(1) - أي أحمد بن حسن العطاس
(2) - أي عندك شيء غير هذا الكلام(218/14)
تأمل معي أخي القارئ هذه القصة ، عندما دخل الرجل على الولي المزعوم ورأى عنده المنكر معلقاً في بيته ، فأنكر عليه وذكره بالحديث : " من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ " ولاحظ قوله : " وليس بنافخ " .
وقد ورد أحاديث كثيرة في ذم التصاوير مثل حديث " أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون " وحديث " لعن الله المصورين " وفي الحديث القدسي " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا حبة ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة " أو كما قال.
وذات مرة دخل النبي صلى الله عليه وسلم على حجرة عائشة فرأى عندها تصاوير في نمرقة ، فوقف على الباب ولم يدخل ، قالت عائشة : فرأيت الغضب والكراهية في وجهه ، فقلت : أتوب إلى الله يا رسول الله ماذا أذنبت ؟ قال : " ما بال هذه النمرقة ؟ " قلت وسادة أتيت بها لك لتوسدها وترقد عليها ، فقال يا عائشة : " إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم أحيوا ما خلقتم " ثم قال : " إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلباً أو صورة " قالت عائشة : فمزقت التصاوير. [ رواه البخاري ]
فكان الواجب على هذا الحبيب لما نُصح وذُكر بالحديث أن يستجيب لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ويزيل هذه الصور إن كان من الصالحين { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } [ الأنفال : 24]
ولكنه رد بسوء أدب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : عاد شيء غير هذا ؟
هل هذه من أخلاق الصحابة ؟
هل هذا من أخلاق المؤمنين ؟
إنهم لا يتأدبون مع أحاديث نبيهم.
ثم بعد ذلك نفخ في تلك التصاوير ، فإذا الديكة تصرخ الطيور تغرد.
فأقول أولاً : ألا لعنة الله على الكاذبين.(218/15)
ولاشك عندي أن هذه القصة مكذوبة ، لأن القوم معروفون بالكذب ولا يتورعون ، وإن صحت هذه القصة فهذا الولي المزعوم ساحر ، وسحر عين الناصح وخيل له أن الديكة تصرخ والطيور تغرد.
ولا يغرنك أقوال أتباعهم إن هذا من باب كرامات الصالحين.
وكيف يكون صالحاً وهو الآن عاص مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليقه للتصاوير.
فإذا كان عاصياً ومخالفاً لأمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ومرتكباً لنهي شرعي كيف يكرمه الله بإحياء الموتى !!!
لاشك أن هذه القصة من أقوال الكاذبين أو من أفعال الساحرين.
ثم قال في نهاية القصة : " فسلم الحبيب عبد الله له حاله "
هذا الذي يريدونه ، هم فساق وأصحاب معاصِ ويتظاهرون بالولاية ، ويريدون من الناس ألا ينكروا عليهم وأن يسلموا لهم الأحوال الشيطانية ، ويتذرعون بأن أفعالهم من باب كرامات الصالحين.
والمعروف من سيرتهم أن الصلاح في واد وهم في واد ، والصلاح ليس مجرد دعوى يدعيها الإنسان ، يدعي أنه من الصالحين وأعماله وسيرته تخالف ذلك.
ثم أن الكرامات ليست كالسحر بيد الساحر كلما أراد إظهاره أظهره ، وإنما هي شيء من عند الله يكرم بها أولياء لا قصد لهم فيه ، ولا تحدي ولا قدرة ولا علم.(218/16)
المثال الثاني : في كتاب الجواهر في مناقب الشيخ أبي بكر(1) تاج الأكابر ، طبعة دار الفكر الحديث بالقاهرة ص 28 الذي جمعه عبد الله بن أحمد الهدار سنة 1391هـ ، وهو الحفيد الرابع للمترجم له .
تكلم المؤلف المذكور عن صاحب الترجمة الشيخ أبي بكر بن سالم وذكر اسمه وتاريخ ميلاده ، وذكر مشايخه ، ثم ذكر ثناء العلماء المعاصرين له ثم ذكر فصلاَ بعنوان : ثناء العلماء عليه قبل ميلاده كشفاً
حيث يقول تحت هذا العنوان
ثناء العلماء عليه قبل ميلاده كشفاً
إن ممن أثنى عليه قبل وجوده السيد الولي المكاشف العارف بالله أحمد بن علوي المجذوب بن عبد الرحمن السقاف القاطن بمريمة والمقبور بتريم ، وقد كان يأتي حافة عينات قبل عمارتها بالجهة الغربية وهي أشجار سلم شائكة وأحجار كثيرة ظاهرة ومطمورة ويقف فيها ويقول يولد لنا مولود ، ويكون كبير القدر ويسكنها ويعين
__________
(1) - يُكثر الصوفية من كتابة المناقب والكرامات لمشايخهم ، والفائدة من ذلك أنه يقوي اعتقاد العامة في هؤلاء المشايخ ، فتكثر الزيارات لقبورهم ، وتكثر القرابين التي تُقرب لأصحاب المشاهد ، والمستفيد الأول من هذه القرابين هم السدنة ، وغالباً ما يكون هؤلاء السدنة من أحفاد المترجم له أو من أقاربهم ، فيتقاسمون هذه القرابين بينهم ، وأحياناً يحصل اختلافات في تقسيمها ، فيتنازعون ويتلاعنون ويتعاركون ويتحاكمون إلى غيرهم في ذلك ، كما حصل قريباً بين سدنة مشهد ........(218/17)
مساجدها ومحل صلاته كما في فيض الأسرار. وفي الزهر الباسم في ربا الجنات لمؤلفه العلامة المحقق الشيخ عبد الله بن أبي بكر قدري باشعيب ، قال فيه : إن السيد أحمد بن علوي المذكور يقول : هذا مسجده ويصلي فيه ويسكن هذا المكان ويشير إلى مواضع منه وهذه بيوته ومساكنه ، فبنى المسجد والبيوت في المواضع المشار إليها ، وفي مجموعة السيد العلامة الكبير الإمام علي بن محمد الحبشي جاء ملخصاً قال : أن مقدمة تربة المصف بقسم الإمام العارف بالله صاحب الكشف الجلي الخارق الحبيب محمد بن أحمد جمل الليل يشير إلى عينات ، وصاحب الترجمة قائلاً سيكون هاهنا ويشير إلى عينات أولادنا ومزارات وقباب وهذا كله قبل ميلاد المترجم له رضي الله عنهم أجمعين.
وقال شيخ الحقيقة وإمام الطريقة سلطان كل الأولياء في وقته الحبيب أبو بكر بن عبد الله العيدروس صاحب عدن:
بدر السعادة قد قرب طلوعه وسوف يظهر
إذا بدا كل الشهب تطيعه ولو تأخر
غصن زكا أصله مع فروعه وزهره أثمر
وأراد به صاحب الترجمة ، وقال بعضهم غيره من جهة الكشف الرباني . وقال الشيخ أبو بكر تحدثاً بالنعمة وتأييداً لكشف هؤلاء الأئمة قصيدة له نفع الله به إقراراً واعترافاً:
قد نار في الكونين نور بدري وقد ذكر فضلي قبيل ذكري
[ الجواهر في مناقب الشيخ أبي بكر بن سالم تاج الأكابر ص 27 ]
الله أكبر يا عباد الله ، أبو بكر بن سالم المولود سنة 919 هـ بتريم أثنى عليه العلماء قبل ولادته ، وما هي أعمال أبي بكر بن سالم الخالدة ؟ هل جاهد الروم والفرس وكسر شوكتهم ؟ هل أقام الخلافة الإسلامية ؟ هل انشق له البحر كما انشق لموسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل ؟
وهل حصل هذا الكلام لمن هو أفضل منه من أمثال الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيره من أئمة الهدى أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وصلاح الدين الأيوبي ؟
ثم هؤلاء الذين أثنوا عليه قبل ولادته ، هل أوحي إليهم من السماء بهذا ؟(218/18)
الجواب : لا وألف لا ، لأن الوحي انقطع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو خاتم الأنبياء والرسل فلا نبي بعده.
إذاً كيف علموا بهذا ؟
هل هم يعلمون الغيب ؟
قال تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } [ النمل : 65 ] وقال عز وجل :{ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ] وقال سبحانه : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ، أن أتبع ما يوحى إلى ، قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون } [ الأنعام : 50 ] وقال سبحانه : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } [ الأعراف : 18 ]
وروى الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : " مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله "
تأمل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " ولا يعلم ما في غد إلا الله " ، وإذا كان رسول البشرية الصادق الأمين يقول لا يعلم ما في غد إلا الله فكيف يدعي عبد الله الهدار أن هناك من أثنى على أبي بكر بن سالم قبل ولادته وقبل خروجه من بطن أمه. (1)
والله الذي لا إله إلا هو لولا أن هذا الدجل مكتوب أمام عيني لما صدقت أن عاقلاً يتفوه به فضلاً عن أن يكتبه في كتاب ويوزعه على الناس.
__________
(1) - قال الشاعر الجاهلي :
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي(218/19)
قال أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير المحيط عند تفسير قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } : حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى ، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى الصوف أشياء من ادعاء المغيبات والاطلاع على علم عواقب أتباعهم وأنهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها ، ويخبرون بذلك على رؤوس المنابر ، ولا ينكر ذلك أحد ، هذا مع خلوهم عن العلوم ، ويوهمون أنهم يعلمون الغيب ، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها : " ومن زعم أن محمداً يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ".
وقد كثرت هذه الدعاوى والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ ، عجزوا عن مدارك العقول والنقل وأعياهم طلاب العلم:
فارتموا يدعون أمراً عظيماً لم يكن للخليل ولا للكليم
بينما المرء منهم في انسفال أبصر اللوح وما به من رقوم
فجنى العلم منه غضاً طرياً ودرى ما يكون قبل الهجوم
إن عقلي لفي عقال إذا ما أنا صدقت بافتراء عظيم اهـ
[تفسير البحر المحيط 4 / 534 ]
المثال الثالث : ذكر صاحب المشرع الروي(1) [ 2/21] أن الشيخ عبد الله باعباد سأل علوي بن الفقيه المقدم عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال : " ظهر لي ثلاث : أحيي وأميت بإذن الله ، وأقول للشيء كن فيكون ، وأعرف ما سيكون " فقال عبد الله باعباد : نرجو فيك أكثر من هذا " (2)
يا للهول يا أمة الإسلام !! اسمعوا ماذا يقول علوي بن الفقيه يحي ؟!! يحي ويميت بإذن الله ، ويقول للشيء كن فيكون ويعرف ما سيكون !!!
__________
(1) - كتاب المشرع الروي في فضائل آل باعلوي ، كتاب مليء بالخرافات ، فلو أن طالب علم متمكناً تفرغ له وقرأه وأخرج ما فيه من خرافات وفندها بأسلوب علمي لكان في ذلك خير عظيم.
(2) - نقلاً من كتاب زيارة هود عليه السلام للشيخ أحمد المعلم.(218/20)
أما الأولى : فيكون نمروداً آخر (1) وما أكثر النماريد في حضرموت ، ويلحق بالنمرود الأول الذي نفخ في الديكة والطيور ، وقد تقدم الكلام عليه.
وأما الثانية : فهذا قد نازع رب العالمين في خصائصه ، قال تعالى : { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} [ يس : 81 – 83 ]
فلا شك ولا ريب أن هذا قول ساقط وبطلانه واضح ، بل هو فضيحة كبيرة للقوم تبين ضلالهم ، فلا يحتاج إلى رد ولا مناقشة ، ولكن حكم قائل هذا الكلام أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وأما الثالثة : وهي قوله ( ويعرف ما سيكون ) فهذه تقدم الكلام عليها عند الكلام على زعمهم أن العلماء اثنوا على أبي بكر بن سالم قبل ولادته.
وبعد أخي القارئ هذه الأمثلة الثلاثة تكفيك لبيان ضلال القوم وأنهم على طريقة خلاف طريقة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وللتوسع في معرفة ما عند القوم اقرأ هذه الرسالة المختصرة التي تكشف القوم على حقيقتهم وتبين حيلهم الشيطانية وأساليبهم الماكرة ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
كتبه
علي بابكر
الرياض - ت : 055291959
فاكس : 4140434
ص ب 4612
الرمز البريدي 1141
تمهيد
مرت بحضرموت فترات تشتد فيها حاجة الناس ، حيث أن الناس يعتمدون على الأمطار – بعد الله عز وجل – اعتماداً كلياً ولا يوجد أنهار كثيرة ، ويجدون صعوبة في استخراج المياه من الأرض.
وكان الناس يكدح الواحد منهم من بعد صلاة الفجر حتى غروب الشمس لكي يؤمّن قوت يومه له ولأولاده ، وفي مثل هذا الحال نجد أن الصوفية يسلكون طرقاً لكي يؤمنوا لأنفسهم رزقاً حسناً ، واستمع إلى هذه القصة التي ذكرها صاحب كتاب الجواهر في مناقب أبي بكر بن سالم:
__________
(1) - إن ثبت هذا الكلام عنه وصح أنه هو قائله فهو نمرود وإلا فلا نظلمه.(218/21)
" جاءت عجوز إلى صاحب الترجمة ( أي الشيخ أبي بكر بن سالم ) بشيء يسير من الطعام نحو حفنتين أو ثلاث ، ولم يكن من الطعام الجيد كالبر ، بل من الكتب ، فتلقاها تحت بيته أحد المتصلين به ، فأخبرته بما معها مسرورة به ، فانتهرها وقال لها : تأتي له القوافل من الجمال الموقرة بالطعام ، أو ما هذه القطة ، فسمع صاحب الترجمة ، فخرج إليها واستقبلها ببشاشة وكرم أخلاق وترحيب وشكرها على ما تحمله من الطعام ، واستلمه في كمّه مسرورا فخوراً ودعا لها ، وسارت العجوز من عنده مجبورة الخاطر" اهـ [ الجواهر في مناقب الشيخ أب بكر بن سالم تاج الأكابر - ص 67 ]
ومثل هذه الحكايات كثيرة في كتبهم ، ومنها أن فلاناً أهدى للشيخ قطيعاً من الغنم ونحو هذه الحكايات.
ما المقصود منها ؟
المقصود تعويد العامة والنساء والأعراب على دفع القرابين لهم ، إما على المشائخ الأحياء أو الأموات ، ويوجد لجان متخصصة من السدنة لاستلام هذه القرابين عن الشيخ والشيخ يتقبلها.
فالمسألة إذا مادية بحتة وأكل أموال الناس بالباطل. (1)
فصل
نبدأ الكلام عن صوفية مدينة عينات.
معلوم أن مدينة تريم هي المدينة المقدسة الأولى عند صوفية حضرموت وهي تعتبر عندهم رابع الحرمين الشريفين ، والسياحة الدينية نشيطة في تريم ، وصوفية تريم يجدون دخلاً جيداً بسبب كثرة الزار ونشاط السياحة الدينية ، فأراد صوفية عينات أن ينشطوا السياحة الدينية في بلدتهم فعملوا مقبرة كبيرة بها سبع قباب ، قبة للشيخ أبي بكر بن سالم الذي لقبوه بتاج الأكابر ، وبقية القبب لأولاده.
__________
(1) - ومنهم من يريد الشهرة والمدح والثناء وأنه من أولياء الله.(218/22)
ومن المعلوم أن الناس لا يزورون بلدة ويكررون الزيارة له إلا إذا كانت هذه البلدة مقدسة ، ومن يزورها يكون له ثواب . فمثلاً مكة شرفها الله ، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أحب البقاع إلى الله ، وفيها بيت الله ، والصلاة فيها بمائة ألف صلاة ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : " أن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما " لأجل هذا صار الناس يزورونها ويترددون عليها.
وكذلك المدينة النبوية ، الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة ، وكذلك فيها مسجد قباء ، وصلاة ركعتين فيه ورد أن فيها فضلاً.
وكذلك المسجد الأقصى مسرى الرسول النبي صلى الله عليه وسلم ، الصلاة فيه بخمسمائة صلاة.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المساجد الثلاثة هي التي يجوز شد الرحال إليها ، أما غيرها فلا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى "
وكما أن زائر المسجد النبوي بعد صلاته ركعتين يقصد القبر النبوي للسلام عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، أراد صوفية عينات أن الناس يقصدون مسجد أبي بكر بن سالم وقبره فألفوا كتاباً بعنوان:
الجواهر
في
مناقب الشيخ أبي بكر بن سالم تاج الأكابر
ولاحظ أن المؤلف هو حفيد للشيخ أبي بكر بن سالم ، لأن الأحفاد هم أولى الناس بالقرابين والصدقات التي تقرب للشيخ ، فماذا قالوا في هذا الكتاب ؟
قال صاحب الجواهر [ ص 206 ] : وعن بعض آل علوي الناسكين ، قال : " رأيت كأني قصدت مكة المشرفة للحج ، فلما دخلت الحرم الشريف لم أجد البيت الشريف زاده الله شرفاً في محله ، فنمت لذلك ، فرأيت رجلاً من آل باعلوي رضي الله عنهم ، فسألته ؟ فقال : سر معي وأنا أدلك عليه ، فسرت خلفه حتى دخلنا عينات ، وإذا خيمة عظيمة عند بيوت الشيخ أبي بكر نفع الله به وأسمع صوته داخلها ، فقال هذا البيت المعظم تحول إلى هنا ، ثم انتبهت " اهـ(218/23)
تأمل هذه القصة ، عن بعض الناسكين من آل باعلوي ( يعني مجهول ) ، قال ( رأيت كأني قصدت مكة ) يعني أنها رؤية منامية ، فهل هو صادق في رؤياه أو كاذب ؟
لابد أن نتأكد ، لأن هناك من يكذب في الرؤيا ويدعي أنه رأى وهو لم يرَ ، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تحلم بحلم لم يره كُلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل " [ رواه البخاري ] ، قال النووي رحمه الله : ( تحلم ) أي قال أنه حلم في نومه ورأى كذا وكذا وهو كاذب . اهـ [ رياض الصالحين – كتاب الأمور المنهي عنها – باب تحريم الكذب ] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أفرى الفري أن يُريَ الرجل عينيه ما لم تريا " [ رواه البخاري ] .
قال النووي رحمه الله : معناه يقول رأيت فيما لم يره . [ المصدر السابق ]
فهذا الرجل رأى أنه قصد مكة فلم يجد البيت الشريف في مكانه ( فنام لذلك ) وهو في المنام ، ورأى أنه نام في المنام ، ثم في النومة الثانية رأى رجلاً من آل باعلوي فسأله ؟ فقال سر معي وأخذه من مكة وذهب به إلى عينات ، قال : ( حتى دخلنا عينات وإذا بخيمة عظيمة عند بيوت الشيخ أبي بكر نفع الله له وأسمع صوته داخلها ، فقال : هذا البيت المعظم تحول إلى هنا ) .
إذا المقصود من هذه الحكاية تعظيم عينات وتقديسها في قلوب العامة حتى يحرصوا على زيارتها والتردد إليها ، وهو ما يسمى اليوم تنشيط السياحة الدينية ، التي هي سبب من أسباب زيادة الدخل.(218/24)
قال صاحب الجواهر [ص 108 ] : ويحدثنا باشعيب قدري نقلاً عن خط السيد محمد بن عبد الله فدعق بن عبد الرحمن بن حسين بن سالم بن عبد الله ما مثاله سمعت سيدنا وبركتنا الشيخ الحامد وسمعت السيد العارف بالله عبد الرحمن بن حسين يقولان : إن سيدنا وشيخنا فخر الدين القطب الرباني والغوث وبحر العلوم والمعارف الشيخ أبا بكر بن سالم نفعنا الله به يقول : " إن مسجدي هذا من الجنة " اهـ.
المقصود من هذا الكلام تقديس البقاع العيناتية وجذب الزوار ، فأسندوا إلى الشيخ أبي بكر أنه قال : " إن مسجدي هذا من الجنة " ، والعجيب أن أكرم الخلق على الله وخاتم الأنبياء والمرسبين ، والذي مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام لم يقل إن مسجدي كله من الجنة ، بل قال : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " [ رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن زيد المازني ] ، وكان بيته عليه الصلاة والسلام لاصقاً بجدار المسجد من الجهة الغربية ، فهو جزء محدد بين بيته وبين منبره ، وليس المسجد كله.
فأين عقولكم يا صوفية عينات ؟ هل تريدون أن تجعلوا مسجدكم أفضل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟
ويذكرني فعلهم هذا بأفعال الشركات والتجار الذين يبالغون في مدح سلعهم ومنتجاتهم ويكذبون في أوصافها حتى يبيعوا أكثر ويربحوا أكثر.
وصدق الله حيث يقول : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } [ التوبة : 34 ]
قال صاحب الجواهر [ ص 225 ] : " ومنها كرامته الشهيرة لابنه الجامع للعِلمين سيدنا الإمام الحسين ، وذلك أنه شاوره في بناء مسجد وطلب منه أن يختار له المحل ليبني فيه ، وقال له : اخرج وما تجد فيه نوراً ممتداً من الأرض للسماء فابن فيه.(218/25)
فخرج ووجد نوراً في الأرض بالغاً عنان السماء في نخر(1) عينات في الجهة القبلية ، فبناه وسمي من ذلك الحين مسجد النور ، وهو مسجد الجبانة يصلى فيه على أموات آل عينات من ذكر وأنثى ، قال الإمام الكاشف الحبيب علي بن سالم الأدعج رضي الله عنه ، إنه مسجد القوم وكثيراً ما يجتمع فيه أهل البرزخ ، وقد اجتمع بهم في اليقظة (2) وأمامهم رسول الله والشيخ أبو بكر بن سالم في عدة وقايع جرت له ، كما يحدثنا بها موضحاً في كتابه فيض الله العلي المخطوط ، وقد قام بترميمه وإصلاح المندثر منه الحبيب الإمام العارف بالله المكاشف شيخنا أحمد بن محسن الهدار". اهـ
ولا يغرنك أخي القارئ هذا الكلام ، والمقصود منه هو تقديس البقاع العيناتية لجذب أكبر عدد من الزوار ، وبهذا تنشط السياحة الدينية.
وعقد صاحب الجواهر فصلاً بعنوان:
كثيب (3) الشيخ أبي بكر بعينات
وقال فيه : اسم الكثيب عرف من عهد صاحب الترجمة ، أطلق عليه الاسم ونوَّه به الشعراء ... وقد أشاد به الشعراء وهو ترياق مجرب ودواء ناجع للأمراض المستحكمة المعدية وجرب وشوهد ، وتجربته أكبر برهان:
إذا استطال الشيء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً
تضرب له أكباد الإبل في وقاية الأمراض رزقنا الله حسن الاعتقاد والظن الجميل والنية الصادقة . (4)
قال الشيخ عمر بن علي بن إسماعيل باقشير:
ترابها طب الجراح منها المسك فاح
من شمّ هاتيك الرياح غنم واستراح
مرّغ بها الخد يا صاح إن رُمت النجاح
وزر قببها بترتيب يا مولى الكثيب
__________
(1) - انتبه هذا الأدعج اجتمع بهم في اليقظة وليس في المنام.
(2) - الكثيب في القاموس هو التل المستطيل المحدودب من الرمل .
(3) - النخر في حضرموت هو الشق في الجبل. ( الناشر )
(4) - مثل قول الرافضة عن تربة قبر الحسين رضي الله عنه التي يدّعون أنها تشفي الأمراض.( الناشر )(218/26)
وقد فاضت الأمة إليه والموامي والطوامي من كل مصاب بعلة الجُذام ، وحُبست تلك العلة حبساً عاجلاً. وهذا واضح من الصبح لذي عينين ، لا يكابر فيه مكابر ، وشهد له الأوائل والأواخر. وهو سهم صائب في دفع الأعداء ، وقضية الإمام الحسين شهيرة فقد ضرب الكثيب بعصاه ، وثارت ريح بإذن الله ، وذرّتها في عين إمام صنعاء المسمى سيل الميل ، حين برز العسكر إلى حضرموت وبلغ الحسين ذلك ، وتعذر خروج ما بعينه من الرمل فعدل عن الرحلة. ذكر هذا الإمام الحبيب أحمد بن الحسن العطاس.
وفي تثبيت الفؤاد عن الحبيب عبد الله بن علوي الحداد ، قال تلميذه : اشتكى أهل شبام من السلطان عيسى بن عمر الكثيري ، فقال لهم : ما معنا له إلا كثيب عينات الأحمر ، وبعد أيام قلائل ورد عينات وبات عند المنصب في ذلك الوقت الحبيب علي بن أحمد ، وحين تناول العشاء غص غصة ، أي شرق ومات في الحين ، ونعوذ بالله من الجنايات.
وإلى الآن وهذا الكثيب يُقصد من كل صوب وحدب ، معروف يحتوي على دقيق الرمل ، يوضع منه على العلة للاستشفاء " اهـ.
أخي القارئ ، كل هذا الكلام عن الكثيب وهذه الأبيات وهذه الحكايات ، المقصود منها تشويق قلوب العامة وجذبهم لزيارة عينات ، كي تنشط السياحة الدينية في هذه المدينة الصغيرة وتتحسن الحركة التجارية ويرتفع دخل أهلها ، وبخاصة السدنة ، سدنة البيت المعظم ، أعني فخر الوجود أبي بكر بن سالم.
وأنت تعلم أخي القارئ كم تنفق الحكومات على الدعايات والإعلانات التجارية لتنشط السياحة الدينية والسياحة الترفيهية ، فمثلاً مصر تستفيد كثيراً من الذين يزورون آثار الفراعنة والأهرامات وغيرها.
ومن الآثار التي اخترعها القوم لجذب الناس إلى زيارة عينات ، هو أول مسجد عرفته عينات ، ذكر صاحب الجواهر فصلاً [ ص 26 ] بعنوان :
أول مسجد عرفته عينات(218/27)
" إن أقدم مسجد عرفته عينات الجديدة مسجد جد الشيخ أبي بكر بن سالم ، ومن عمود نسبه الإمام الأكبر الأظهر الأشهر سيدنا محمد بن علي مولى الدويلة .
وهو أول مسجد أسس فيها على التقوى ، وما بناه إلا لكثرة ترداده وتعريجه إليه ، وهناك أخواله آل بالليث وللدعوة إلى الله ونفع العباد، والمسجد فوق سوق عينات ، ووسعه الشيخ الموفق عوض بن أحمد باحنان ، ولم يزل معموراً ، ولم تهدم قبلته الأصلية ، وقد اشتعلت ناراً لما هموا بهدمها ، وتعرف اليوم باستجابة الدعاء ، والتبرك والصلاة فيها " اهـ
الله أكبر لم تهدم قبلته الأصلية أي الجدار الأمامي الذي في المسجد ، واشتعل الجدار ناراً لما هموا بهدمه.
وهنا سؤال ، هل مسجدكم هذا وجداره الأمامي أفضل من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجداره الأمامي ؟
المسجد النبوي هُدم جداره الأمامي وأزيل ووسِّع ، ولم يعترض الجدار ولم يشتعل ناراً ولم ينفجر في وجوه العمال.
ولكن كما ذكرت إنما هي قصص وأكاذيب يختلقونها لجذب أكبر عدد من الزوار إلى مدينتهم المقدسة.
ثم قال : ( وتعرف اليوم باستجابة الدعاء ) ، تعالوا أيها الزوار وشاهدوا هذه الأماكن المقدسة والآثار العجيبة على ذلك التي تحترق في وجه من أراد إزالتها ، وزيادة على ذلك دعاؤكم مستجاب ، فتعالوا واغتنموا الثواب ، وشرفونا تجدون ما يسركم.
فصل
ما تقدم من النقول من كتاب الجواهر هي قصص التقديس البقعة العيناتية، وهناك قصص وأخبار وحكايات فيها تقديس وتشويق لصاحب البقعة العيناتية فخر الوجود الشيخ أبي بكر بن سالم ، وهذا أبلغ في جذب الزوار.
من هذه الحكايات ما ذكر في المقدمة أن العلماء أثنوا على الشيخ أبي بكر بن سالم قبل ولادته.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ ص 31 ] :(218/28)
وفي مجموعة العلامة الكبير المحقق الحبيب الشيخ علي بن محمد الحبشي ، جمع السيد الفاضل محمد بن عمر مولى خيلة (1) قال : إن الشيخ أبا بكر وأخاه عقيلاً تكلما في بطن أمهما الشريفة طلحة بنت عقيل بن أحمد ابن أبي السكران ، فقال الشيخ لأخيه ما معناه : إن أردت الخروج قبلي فاخرج والظهور في المستقبل سيكون لي ، وإلا فاخرج قبلك ولك ذلك ، فاختار أخوه الخروج وارتضى به ، وكان الظهور لصاحب الترجمة نفع الله بهم. اهـ
المعروف عند المسلمين أن المسيح عيسى ابن مريم أحد أولي العزم من الرسل كانت آيته أنه تكلم وهو في المهد بعد خروجه من بطن أمه، قال تعالى :{ فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً } [ مريم 27 – 31 ]
فالمسيح عليه السلام لم يتكلم إلا بعد ظهوره إلى الدنيا وبعد خروجه من بطن أمه ، وهؤلاء بلغوا بمشائخهم مرتبة أعلى من مراتب الرسل وزعموا أن شيخهم تكلم مع أخيه وخيّره – قبل خروجهما إلى الدنيا – وقال له : إن شئت أن تخرج قبلي فاخرج ولي الظهور في المستقبل ، وإلا فأخرج أنا قبلك ولك الظهور ، فكان أخوه مغفلاً ومستعجلاً ، وطلب الخروج قبل أخيه ففاته الظهور.
فأقول كل هذه الحكايات والخيالات ما هي إلا مجرد دعايات للتسويق ، لجذب أكبر عدد من الزوار ، لتنشيط السياحة الدينية ، فالله المستعان على ما يصفون.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ ص 34 ] :
__________
(1) - مولى : أي صاحب ، وخيلة اسم قرية.(218/29)
وكان هذا الإمام في أيام طفولته وعهد دراسته وقبل شهرته العلمية والعالمية مقيماً في قرية اللسك ، ويصلي في مسجد الشيخ الإمام أحمد بن محمد باعيسى المقبور بتريم ، وفي كفالة أبيه ، وقضيته مع إمام المسجد آية من آيات الله الباهرة ، وفراسة بنور الله والكشف الغيبي والجلي ، نرويها بنصها وفصها حرفياً من مجموعة كلام
الإمام المكاشف الحبيب علي بن عبد الرحمن المشهور ، قال نفع الله به :
" إن الشيخ أبا بكر بن سالم كان في صغره جالساً بمكانه بالرقية عند مسجد باعيسى ، وكان في ذلك المسجد معلم ومعه طرف من العلم أو الفقه (1) ، وغالب صلاة الشيخ أبي بكر بن سالم في ذلك المسجد ، فتقدم ذات يوم من الأيام فصلى بالناس ، فشق الأمر على المعلم ، وكان من تلامذة الشيخ شهاب الدين ، فسار إلى تريم ، إلى عند شيخه المذكور، وسأله عن صفة من صفات الإمامة ، فقال الشيخ شهاب الدين يقدم في الصلاة الأفقه ثم الأقرأ إلى آخر ما ذكروه ، فرجع المعلم ، فلما دخل وقت الصلاة وتقدم الشيخ أبو بكر ، فقال له المعلم : لست أحق بالصلاة ، بل الأحق بالصلاة الأفقه ، فقال الشيخ أبو بكر : من الذي قال لك بذلك ؟ فقال : الشيخ شهاب الدين ، فغضب الشيخ أبو بكر فقال : شف أمك في النار خله يندرها (2) ، فبهت المعلم وتحير وسار إلى تريم إلى عند الشيخ شهاب الدين وأخبره بما جرى بينه وبين الشيخ أبي بكر بن سالم وقوله : شف أمك في النار ، فقال له : أنت ما قلت لي إنه الشيخ أبو بكر بن سالم وإلا باقولك خله (3) يصلي بكم ، وهل قال لك الشيخ أبو بكر : شف أمك في النار خله يندرها ؟ قال له : نعم. فأطرق شهاب الدين ساعة ، ثم قال : شفها خرجت من النار، ففرح المعلم وقال أعظم فائدة خروج والدتي من النار ، فرجع إلى القرية وإلى مسجده ، فكاشفه الشيخ أبو بكر في ذلك
__________
(1) - أي قليل العلم والفقه .
(2) - أي انظر أمك في النار ، قل له يخرجها من النار
(3) - أي وإلا سأقول لك اتركه يصلي بكم.(218/30)
الوقت ، وقال : شفته خرّجها من النار، وكان الشيخ أبو بكر في ذلك الوقت لا يسمى بالشيخ أبا بكر ، بل أبا بكر فقط ، أو كما قال " اهـ
يا أخواني أنا لست أدري كيف يؤلفون هذه القصص ويخترعونها ، والظاهر والله أعلم أن الشياطين توحي بها إليهم ، قال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ]
انظر إلى حكاية : وليد صغير يجترئ المعلم ويتقدم للصلاة بالناس في حضرة المعلم ، ثم يذهب المعلم ويستفتي الشيخ شهاب الدين ، ثم يعود ويغضب الوليد على المعلم ويقول له : شف أمك في النار خله يندرها ، ومتى كان الأطفال يتعرفون على أهل النار؟ وما هو الذنب الذي ارتكبته أمه حتى تكون من أهل النار ؟ فيرجع المعلم إلى شهاب الدين في تريم فيخبره بكلام الوليد فيصدقه شهاب الدين ويخرجها من النار.
هذه ليست نار رب العالمين ، هذه تشبه نار الدجال ، لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال معه جنة ومعه نار فمن أطاعه أدخله جنته ومن عصاه أدخله النار ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جنة الدجال نار، وناره جنة . فهذه النار التي أخرج منها دجال تريم (1) أم المعلم ، هذه ناره إما نار رب العالمين ، فقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار } [ الزمر : 19 ] ، ولكن كما ذكرت لك أخي القارئ كل هذه القصص لتقديس صاحب البقعة العيناتية وتشويق الناس لزيارة عينات.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ ص 76 ] :
" كان رضي الله عنه مضيافاً كريماً اتفق أهل عصره على أنه أنداهم وأوسعهم براً ، قد فتح بابه بمصراعيه للإكرام وإطعام الطعام بذبح الجمل والجملين لزائريه ، ويتصدق في اليوم والليلة بألف قرص " اهـ
__________
(1) - إن صحت هذه القصة عن شهاب الدين فهو دجال وإلا فلا نظلمه(218/31)
انظر أخي القارئ يتصدق في اليوم والليلة بألف قرص ، وهذا الكلام متى ؟ قبل خمسمائة سنة تقريباً ، وفي قرية صغيرة مثل عينات ، قد يكون سلطانها لا يتجاوزون خمسمائة شخص ، ومن أين لأبي بكر بن سالم قيمة ألف قرص كل يوم وليلة وأنتم تقولون أنه رجل زاهد عابد ترك الدنيا وتفرغ للعبادة ، وأين هذا المخبز الذي سيخبز كل يوم وليلة ألف قرص ، والغالب أنه لا يوجد خبازون في قرية مثل عينات وإنما كل أسرة يعجنون ويخبزون في بيتهم.
ولكن المراد من هذا الكلام تحبيب صاحب البقعة العيناتية للناس حتى يزوروا قبره وأطلاله.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ ص 131 ] :
روى جماعة أنه لما زار ضريح نبي الله هود في سنة إحدى وتسعين في القرن العاشر اجتمع معه خلق لا يحصون ولا يعدون من جميع النواحي والأقطار (1) كل ذلك رغبة في الحضور معه والنظر إليه (2) فلما ركع على حصاة المحضار وطلع إلى بئر التسليم ازدحم عليه الخلق وأكبوا على قدميه يقبلونها ويتمسحون بها ، وكلما دحق دحقة شلوها (3) إلى أن عظم اللغط وكادوا يقتتلون على ذلك ، فلما رأى ذلك منهم بكى بكاء شديداً وجعل يتلو { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } وجعل يكررها " اهـ
الله أكبر !! ازدحم الخلق على أبي بكر بن سالم وأكبوا على قدميه يقبلونها ويتمسحون بها ، وكلما خطا خطوة حملوها ...... الخ
رسول الله أشرف الخلق ، سيد ولد آدم عندما حج وقبّل الحجر الأسود لم يكب الخلق على قدميه يقبلونها ويتمسحون بها.
__________
(1) - ما يدريك لعلهم جاءوا من بلاد الصين والهند والسند وبلاد ما بين النهر وغيرها.
(2) - لا أدري لماذا ينظرون إليه.
(3) - أي كلما خطا خطوة حملوها.(218/32)
فالقوم معروفون بالكذب ، ومرادهم من هذه الأخبار تقديس صاحب البقعة العيناتية في قلوب الناس وتشويقهم لزيارة عينات ، وإذا ارتسمت هذه القصة في أذهانهم سيكبون ويتمرغون على ضريح أبي بكر بن سالم ويتمسحون به ، وسيتصدقون بالغالي والرخيص لهذا الولي المعظم ، والمستفيد الأول والأخير من هذه الصدقات هم السدنة المروجون لهذه القصص.
ومنها ما قال صاحب الجواهر [ ص 202 ] :
قال – أي أبو بكر بن سالم : إن من زارنا (1) ، أو سمع بذكرنا في مجلس ، أو نظرنا أو نظر ناظرنا فأنا ضمينه غداً بالجنة ، وأن يتخلص من ذنوبه كالمولود من بطن أمه ، ولو كانت ذنوبه تملأ السموات والأرض ، فلا عاد يبقى من ذنوبه مثقال ذرة ، يدل لذلك حديث جدي رسول الله وقوفك بين يدي ولي الله كحلب شاة أو كشيح بيضة إلى آخره (2) ، ثم قال رضي الله عنه : وإن من زارنا ينال ذلك من الصالحين الطالبين. وقلت في ذلك شعراً :
فيا زائري أبشر بسولك والمنى وترقى مراقي العز في كل حضرة
بزورتنا تعلو على كل فائق وتحظى بجنات المعارف ونفحة
__________
(1) - لاحظ أخي القارئ تركيزهم على الزيارة ، المراد تشجيع الناس لزيارة ضريحه ومشهده ، وبذلك يرتفع دخل السدنة من النذور والقرابين والصدقات.
(2) - لا أدري لماذا لم يكمل الحديث. [ هذه الرواية التي لم يحفظها العالم بالسرائر – كما يقولون – وسنذكرها فيما بعد ( الناشر)](218/33)
ومما يؤيد صحة هذه الرواية ما نقله السيد العارف بالله أحمد بن زين الحبشي في شرح العينية عن شيخه العارف بالله عبد الله بن علوي الحداد عن ترجمة السيد الولي العارف بالله الإمام عبد الرحمن بن أحمد بن عيديد علوي قال : أدركت سيدنا الشيخ أبا بكر بن سالم صاحب عينات وكان يقول لمن حضره : انظروا إليّ فإني قد نظرت الشيخ أبا بكر بن سالم ، وناظري وناظر ناظره في الجنة ، وكذلك نقل السيد العارف بالله محمد بن زين بن سميط عن السيد المذكور بلفظه والشيخ أبو بكر يقول ناظري وناظر ناظري في الجنة ، قال الشيخ عبد الله قدري باشعيب : رأيت السيد العلامة محمد بن عنقاء اليمني نفع الله به ، قال ذلك وزاد عليه فقال في مدح الشيخ نفع الله به آمين والمسلمين أجمعين شعراً :
وشفعه الرحمن في أهل عصره شفاعة مسموع مطاع مفضل
وفيمن رآه أو رأى من رآه أو رأى من رآه فهو أفضل مؤمل
وقد قاله لي في منام رأيته حباني فيه كل خير مسهل " اهـ
انظروا يا عباد الله إلى هذا الكلام ، وكيف وصل بهم الحرص على الدنيا والطمع في المال إلى أن يقولوا مثل هذا الكلام ، وإذا كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا الكلام ، أن من رآه في الجنة بل ومن رأى من رآه في الجنة ، وكيف يكون كل من رآه صلى الله عليه وسلم في الجنة وقد رآه أبو جهل وأبو لهب ، ورأس المنافقين عبد الله بن أبي وغيرهم ، فهل يكون هؤلاء في الجنة ؟!!!
ثم أن هذا الشاعر الغوي يزعم أن الرحمن شفعه في أهل عصره ، وما أدراهم أن الرحمن شفعه في أهل عصره ؟ هل نزل عليهم الوحي بذلك ؟ ولكن صدق القائل صلى الله عليه وسلم : " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " ، ولكن كما ذكرت لك ، المسألة مسألة دعاية وإعلان وترويج وترغيب لزيارة صاحب البقعة العيناتيه.
ومنها ما قاله صاحب الجواهر [ ص 227 ] :
كراماته التي كاشف بها بعض المتصلين
وظهر لهم منه كشفاً(218/34)
فمنها ما في الزهر الباسم عن الشريف عمر بن محمد بن علي باهارون علوي قال عن الثقات (1) : " كانت امرأة بالقبلة تسمع بكراماته فقالت وهي في جربة لها : أود أن انظر الشيخ أبا بكر بن سالم ، فما تمت كلامها إلا وهي به يقول لها : أنت تريدين تنظرين الشيخ ، أنا أبو بكر بن سالم فغاب عنها ، ثم أنها خرجت لزيارته (2) ، فما وصلت إليه قالت : هو ذلك الرجل جاءني في جربتي ، فقال لها : أنا ذلك ، وكان بين بلدها وعينات مسيرة نصف شهر، ولم يدخل الشيخ تلك الجهة " اهـ
لماذا تمنت هذه المرأة أن تنظر للشيخ أبي بكر بن سالم ؟
هل تريد أن تخطبه لنفسها ، وما تم كلامها إلا والشيخ عندها ، قطع مسيرة نصف شهر قبل أن تتم كلامها ( ألا لعنة الله على الكاذبين ).
وهل يجوز لأبي بكر بن سالم أن ينظر إليها وهي امرأة أجنبية ؟
الجواب لا يجوز ، قال تعالى : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون } [ النور : 30 ].
ومنها ما قال صاحب الجواهر [ ص 326 ] :
" ومن كراماته المتعلقة بزوجاته أن بعض زوجاته أظنها من آل أحمد القبيلة المعروفة ، وكان له منها طفل ، فحصل منه ليلة من التلويث ما يحصل للصبيان ولم يكن عندهم سراج ، فسألته أن يأتي منابر لتبصر بها ما تصنع ، وكررت عليه ، فأخرج لها إصبعه وأضاء لها ضوء السراج حتى فرغت عن الغرض " اهـ.
__________
(1) - من هم هؤلاء الثقات ؟ الجواب : مجهولون
(2) - لاحظ أخي القارئ كيف يركزون على مسألة الزيارة في قصصهم التي يخترعونها ، والمقصود التشجيع على زيارة قبره وتنشيط السياحة الدينية(218/35)
وهذه القصة كغيرها ، المراد منها تقديس صاحب البقعة العيناتية أبي بكر بن سالم لجذب الزوار إلى ضريحه ومرقده بعينات. قال الشوكاني رحمه الله : وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر ، ويخادعون من يأتي إليه من الزائرين ، يهولون عليهم الأمر ، ويصنعون أموراً من أنفسهم ، وينسبونها إلى الميت على وجهٍ لا يفطن له من كان من المغفلين ، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات ، لذلك الميت ويبثونها في الناس ، ويكون ذكرها في مجالسهم وعند اجتماعهم بالناس فتشيع وتستفيض ، ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات ، ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب ، فيرويها كما سمعها ، ويتحدث بها في مجالسه ، فيقع إليها في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي ، وينذرون على ذلك الميت بكرائم أموالهم ، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم ، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً وأجراً كبيراً ، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة ، وطاعة نافعة ، وحسنة متقبلة ، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر.
فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل وهولوا بتلك التهاويل ، وكذبوا تلك الأكاذيب ، لينالوا من الحطام من أموال الطغام الأغتام (1) .
وبهذه الذريعة الملعونة ، والوسيلة الإبليسية ، تكاثرت الأوقاف على القبور ، وبلغت مبلغاً عظيماً ، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتات أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين ، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء ، وكلها من النذر في معصية " اهـ [ شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص 16 – 18 ].
فصل
__________
(1) - الأغتم : من لا يفهم ولا يفصح مراده(218/36)
وبعد هذه الأخبار والحكايات والأساطير في فضل عينات وفي فضل صاحب عينات ، لم يكتف أصحاب عينات بذلك ، لأن من الناس لا يأتي إلى عينات إلا إذا كان له مصلحة دنيوية مثل شفاء المرضى ونحو ذلك. فألف أصحاب عينات مجموعة من القصص تبين أن الشيخ كان يشفي المرضى ، وأن عينات فيها ما يشفي المرض.
قال صاحب الجواهر [ ص 109 ] :
ومنها ما أخبر به بعض الصالحين ، قال : " مرض صاحب لي وأشرف على الموت ، فقصدت سيدي الشيخ واستغثت به ، فقال أبشر فإنه يعافى من ذلك المرض ، وإني رأيت ورقة خضراء ووجدته صحيحاً نفعنا الله به " اهـ
قال صاحب الجواهر [ ص 109 ] :
قال سمعت سيدنا العارف بالله الشيخ الحسن يقول : " أنه في وقت البرد أدفأ ما يكون في المسجد ، وسمعت أحداً من السادة يقول إنه وقع به رمد واشتد به فخرج إلى المسجد المحدد وجلس فسكن ما به وأصبح معافى "اهـ.
كل هذا الكلام لجذب الناس وترغيبهم في زيارة عينات تلك المدينة المقدسة التي مسجدها من الجنة ويكون دافئاً وقت البرد وبه يشفى من به رمد.
وقال صاحب الجواهر عن كثيب عينات [ ص 117 ] :
وهو ترياق مجرب ودواء ناجع للأمراض المستحكمة المعدية ، وجرب وشوهد ، وتجربته أكبر برهان ، تضرب له أكباد الإبل في وقاية الأمراض رزقنا الله حسن الاعتقاد والظن الحسن الجميل والنية الصادقة ، قال الشيخ عمر بن إسماعيل باقشير:
ترابها طب الجراح منها المسك فاح
من شمّ هاتيك الرياح غنم واستراح
مرّغ بها الخد يا صاح إن رُمت النجاح
وزر(1) قببها بترتيب يا مولى الكثيب
والكثيب هو الكومة من الرمل ، وهذا الكثيب موجود بعينات ، وتأمل كيف يبالغون في وصف هذا الكثيب " أنه
ترياق مجرب ، ودواء ناجع للأمراض المستحكمة والمعدية ، وجرب وشوهد .... ثم قال : تضرب له أكباد الإبل " هذا هو غرضهم ومقصودهم ، حث الناس على السفر إلى عينات والتبرك بآثارها التي من الجنة على زعمهم.
__________
(1) - لاحظ أخي القارئ تركيزهم على زيارة عينات(218/37)
قال صاحب الجواهر [ ص 213 ] :
حوالة الشيخ أبي بكر على تلميذه الإمام عبد الرحمن الجفري بتريس
جاء في كنوز السعادة الأبدية من أنفاس الإمام الأكبر والكبريت الأحمر الحبيب علي بن محمد الحبشي ، جمع الإمام الكامل محسن بن عبد الله بن محسن السقاف بتصحيح الحبيب القدوة التقي أبي بكر العطاس بن عبد الله الحبشي قال نقلاً عن مناقب الحبيب العارف بالله عبد الرحمن بن محمد الجفري صاحب تريس تلميذ الشيخ أبي بكر ، وخلاصتها : " أن رجلاً غريباً مرض مرضاً أعيا الأطباء ، وقال بعض الصالحين مرضك هذا لا يشفى إلا بأكل الحلال الصرف (1) ، وقال له لا يوجد إلا بحضرموت ، فخرج وسأل عن المشهور فيها ، فقيل له الشيخ أبو بكر بن سالم صاحب عينات ، فسار إليه وشكى له ، فحوّله على تلميذه الحبيب العارف بالله عبد الرحمن بن محمد الجفري ، فسار إليه لتريس ، وصادفه يسني (2) في زرع له ، وظنه خادم الحبيب ، ولما دخل وقت الصلاة قام الغريب يصلي والحبيب في سناوته وخرج وقت الصلاة (3) ، ثم قال الحبيب له : وما تريد من عبد الرحمن الجفري ، فأخبره بمقصوده وحوالة الشيخ أبي بكر عليه ، فقال له الحبيب عبد الرحمن الجفري : حوالة الشيخ أبي بكر مقبولة ، أدخل إلى هذا القضب (4) واملأ بطنك منه ، ففيه دواءك وشفاؤك إن شاء الله . فأكل الغريب منه حتى شبع ، فأمره الحبيب أن يتمشى ساعة بعد الأكل ، فامتثل لأمره وتحركت بطنه ، فخرج منها كل داء ومرض ، وجاء إلى الحبيب يحمد الله يشكره على
__________
(1) - الصرف أي الخالص.
(2) - أي ينزح ماء من بئر للزرع
(3) - تأمل كيف يتبجحون بهذا الكلام ، أنه بقي يسقي الزرع حتى خرج وقت الصلاة ، وقد ذكر أهل العلم أن تأخير الصلاة عن وقتها كبيرة من كبائر الذنوب ، قال تعالى : { فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون } وتأمل في آخر القصة ما هو عذره حتى أخّر الصلاة عن وقتها
(4) - قال في القاموس : القضب : كل شجرة طالت وبسطت قضبانها وأغصانها والقت(218/38)
العافية. فأمره بالطلوع إلى بيته وأضافه وأكرمه ، ولما همّ بالخروج أهدى إلى الحبيب شيئاً من الدنانير (1)
فقال له الحبيب أنت أحوج منا إليها ، ولم يقبلها ، فكلّف عليه الرجل في أخذها ، فمسح الحبيب عيني الرجل فرأى الجبل الذي تجاهه قد صار ذهباً أحمر ، فقال له الحبيب ماذا ترى ؟ فأخبره بما شاهده ، فقال له الحبيب : نحن بحمد الله في غنى ولا نسني إلا لستر الحال وطلب الحلال ، قال الغريب : إنه وقع ببالي شيء من مرور وقت الفريضة عليك وأنت تسني ، فدخل به الحبيب إلى خلوات ، فوجد في كل واحدة منها صورة الحبيب عبد الرحمن يصلي فاعتذر إليه الغريب (2)
__________
(1) - دائماً في قصصهم يدندنون حول هذا الكلام ( فأهدى الشيخ شيئاً من الدنانير ) ( فأعطى الشيخ خروفاً ) ( فدعا الشيخ إلى وليمة ) ، وهكذا يريدون أن يعوّدوا الناس على تقديم العطايا لهم ، وقد أخبرت أن أحدهم لقي شيخاً من الصوفية في مدينة جدة ، فدعاه إلى طعام العشاء فاعتذر الصوفي ، وقال أريد حقي ناشفاً ، فأعطاه مائة ريال ، فأخذها مسروراً ودعا لمن أعطاه إياها ، فإذا القوم مرتزقة أصحاب مادة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر " وقال : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم " أو كما قال. فهم يسألون الناس ولكن بحيل وبطرق غير مباشرة
(2) - انظر أخي القارئ إلى الدجل والخرافات ، يترك الصلاة حتى يخرج وقتها ، فلما أنكر عليه الغريب يريه خلوات ، وفي كل خلوة منهن صورة الحبيب يصلي ، وما الفائدة إذا كانت الصورة تصلي والأصل لا يصلي. الله سبحانه فرض الصلاة على الأصل ولم يفرضها على الصورة ، ولا أدري هل هي صورة فتوغرافية أو تصوير فيديو أو نسخة استنسخت منه.
وبناء عليه كلما رأينا عاصياً لا يصلي وأنكرنا عليه سيقول أن صورتي تصلي في الخلوات ، فالظاهر أن القوم فجار ومن قطاع الصلاة ، ولكن يروجون مثل هذه القصص حتى لا تستنكر العامة من معاصيهم .(218/39)
وشكره على حسن صنيعه وتوجه إلى أرضه في عافية " اهـ
المراد من هذه القصة جذب أكبر عدد ممكن من الزوار ، لأنه إذا كان تلميذ أبي بكر بن سالم يستطيع أن يشفي المريض الذي أعيا الأطباء مرضه ، فإن تلاميذ تلاميذ الشيخ أبي بكر بن سالم موجودون بعينات ، وسدنة ضريح أبي بكر بن سالم موجودون ، وضريح أبي بكر بن سالم موجود في أرض عينات المقدسة ، وما على المريض إلا أن يتوجه إلى عينات ويحضر معه ما تيسر من الدنانير – كما فعل الغريب – ويعطيه للسدنة ويتوسل بالشيخ أبي بكر بن سالم (1) أو يستشفي برمل كثيب عينات وسيجد الشفاء العاجل.
قال صاحب الجواهر [ ص 26 ] :
وخرار المذكورة تدعى مقبرة باليث في الجهة النجدية من ساحة النخر وفيها قبر والدة الإمام العظيم سيدنا محمد بن علي مولى الدويلة واسمها سعيدة بنت سعيد باليث وقبرها اليوم غير معروف ، والمقبرة لا تزال في وقتنا هذا معروفة وفيها قبر حِسْن بكسر الحاء المهملة وسكون السين وبعدها نون. ويتحدث الناس قديماً وحديثاً أن من له مولودٌ لم يظهر نموه كأمثاله يوضع عند قبرها وحده ويترك ثم يعاد لأخذه من عند ذلك القبر ، فإما أن ينمو نمواً مطرداً معهوداً أو يموت قريباً. وهذا معروف مجرب لا يختلف في ذلك اثنان. اهـ
عجيب أمر هذه العجوز ، فإنها لا تعرف أنصاف الحلول ، إما أن يُشفى المولود وإما أن يُقضى عليه ويُؤخذ عمره !!!
والله المستعان على ما يصفون.
فصل
لم يكتف أصحاب عينات بما تقدم من الخيالات والخزعبلات ، والظاهر أن التنافس كان قوياً بينهم وبين أصحاب تريم ، كل منهم يحاول أن يجذب أكبر عدد ممكن من الزوار.
__________
(1) - وهذا لا يجوز شرعاً ولكن هذا هو مرادهم.(218/40)
وهناك من الناس من ليس عنده مريض ، ولكن لم يرزقه الله ولداً ولا تحمل امرأته أو عنده أناث وهو يريد الذكور ، فألف أصحاب عينات بعض القصص التي تفيد أن الفخر أبا بكر بن سالم كان سبباً في حصول الأولاد لبعض الناس ، وكل من لم يُرزق بأولاد فما عليه إلا أن يقدم إلى عينات وعليه أن يجلب معه قرباناً للشيخ ( كخروف سمين أو دنانير ) ويقف عند قبر الشيخ ويتوسل به (1) ويعطي القربان للسدنة وسيجد مطلوبه.
قال صاحب الجواهر [ ص 223 ] :
ومنها ما أخبر به بعض مشائخ المهرة (2) قال جئت أنا وجماعة لزيارة سيدي الشيخ أبي بكر ، فوجدناه بقرية قسم ، فلما انقض المجلس خرجنا ثم دعاني الخادم للغداء وقد غاب واحد من أصحابنا ، فطلعوا على سيدي الشيخ ، وبعد أن أكلنا طلع صاحبنا ، فقال : يا سيدي إني جئت والباب مقلود (3) فقال الغدا والخير يحصل ، فقال ما عاد أريد غداء إلا حاجة أخرى ، قال قل ما شئت ، قال معي زوجة لها عشرين سنة لم تحبل عقيم أريدها تحمل لي بولد ذكر ، فقال الشيخ : كان كذلك تحمل وستأتي بذكر ، فلما وصلنا ظََهَرَ حملها ذلك الشهر ، وأتت له بولد ذكر " اهـ
يوجد من نساء البادية من لا يحملن ، وكذلك بعض نساء القرى والمدن لا يحملن ، إذا سمعن بمثل هذه القصة يتوافدن إلى عينات ويزرن الشيخ لطلب الولد ، والشيخ لا يعطي الولد مجاناً ، لابد من قرابين تقدم للشيخ ، والذي يستلم القرابين هم السدنة ، فهم المستفيدون من هذا الكلام ، لذلك يروجون مثل هذه القصص والكرامات.
قال صاحب الجواهر [ ص 114 ] :
__________
(1) - معلوم أن هذا محرم شرعاَ ولكن هذا مرادهم.
(2) - المهرة : اسم بلد على حدود عمان
(3) - أي مغلق(218/41)
وواقعة الفنجان تكررت ثلاث مرات في هذه الدار ، الأولى : لما دخل عليه الشيخ عبد الرحيم البصري المكي وعند الفنجان من القهوة ، كاشفه بما في خاطره ، ومد الفنجان من يده من النافذة إلى مكة المكرمة من داره وناوله زوجته ، وقال يا عبد الرحيم أصلحنا بينك وبين زوجتك المكية ، وستجيء لك بولد إن شاء الله ويكون عالم مكة ومفتيها ، وسماه عمر ، قال الشيخ عبد الرحيم فعدت فوجدت كلامه حقاً وصدقاً وألقى الله المحبة بيني
وبين زوجتي وأخبرتني بدخول الشيخ عليها ومناولته لها فنجان القهوة وشغفها به بعد ذلك ، ثم قدر الله له الولد الذكر ، وكان عالم مكة ومفتيها وهو صاحب الحاشية على تحفة المحتاج ، وتم ما قاله الشيخ أبي بكر رضي الله عنه ونفعنا به ، آمين.
الثانية : أن السيد عبد الرحمن بن أحمد البيض تلميذ الشيخ أبي بكر دخل عليه في داره ومعه رجل اسمه عثمان خطيب ومعه فنجان قهوة ، فقال يا سيد عبد الرحمن همك كثرة البنات بلا ذكر ، يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ، فقال : نعم سيدي خرجنا لنظرك ولذلك ، فقال : البنات مسعدات دين ودنيا ، وبشراك بولد يختم القرآن ، ثم غيره ، اشرب القهوة بنيتها وناوله الفنجان ، وأنت يا عثمان همك كثرة العولة ، أصلحناك وذريتك وتتسع دنياهم وأنت مجمل جبا بالقهوة ، وناوله الفنجان الثاني وقال : اشرب بنيتها.
فوالله ما نقص حرف من لفظ الشيخ وطلعت الشحر وحضرت أعراس بناته على سادة ذوي تجارة واسعة ، ثم بعد أيام حضرت ختم ولده الموعود بختمة ، وبسكوت الشيخ أنه يموت.(218/42)
والثالثة: أنه دخل عليه في داره ، فقام له الفخر وعظمه وأقبل عليه ، وقال له أنت الشيخ المكي صاحب مكة ، مدرس الحرم الشريف ، فقال هل عندك أحد من الأولاد فقال : لا ، إلا أن زوجتي هذا شهر وضعها ، فأحضرت القهوة وكان فنجان سيدنا الشيخ أبي بكر فنجاناً أحمر فأخذه بيده إلى النافذة ، فقال يا شيخ بكري أشرفنا على زوجتك بمكة وهي متعسرة الولادة لها ثلاثة أيام أعطيناهم الفنجان وقلنا لهم اسقوها ، فأخذت لشفة منه ، وقد ولدت غلاماً مباركاً وقلنا لهم سموه فلاناً ، وبقي الفنجان عندهم وأنت تجده عند أهلك إن شاء الله ويخبرونك بالقصة وسيكون الابن عالم مكة إن شاء الله ، فكان كما قال وحققه الله ذو الجلال ولله الحمد. اهـ
من الذي يرزق الأولاد أهو رب العالمين أم أنه الشيخ أبو بكر بن سالم ؟ قال تعالى : { يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير } [ الشورى : 45 – 50 ] ، ولكن كما ذكرت لك المقصود من هذا الدجل كله ومن هذه القصص جذب الزوار وتنشيط السياحة الدينية في مدينة عينات.
تجارة القبور والكرامات
إنه مشروع ناجح (1) ويدر رزقاً كثيراً على أصحابه ، ولا يكلف كثيراً ، إنما هو بناء قبة على قبر الشيخ وتزيينها وزخرفتها وكتابة أوراق في كراماته ، لكي يعتقد الناس فيه ويكثر الزوار وأصحاب الحوائج.
وهذا ما فعله أصحاب عينات مع فخر الوجود أبي بكر بن سالم ، وقد حثوا الناس على زيارته ورتبوا عليها الثواب الجزيل.
قال صاحب الجواهر [ ص 201 ] :
يحدثنا أهل المناقب أن زيارته تكون نقداً أي يداً بيد ، ويروى أن زيارته دهليز الزيارة لنبي الله هود عليه السلام جمعاً وانفراداً ، ويقال إنه يقول : خذه لي ما تستاهل هكذا يقول الحبيب الإمام أحمد بن محمد المحضار ، وقد بشر زائريه وقال :
فيا زائري أبشر بسولك والمنى وترقى مراقي العز في كل حضرة
__________
(1) - هو ناجح في الدنيا ولكنه خاسر في الآخرة(218/43)
بزورتنا تعلو على كل فائق وتحظى بجنات المعارف ونفحة. اهـ
وتقدم أنهم نقلوا عن الفخر أنه قال : " من زارنا فأنا ضمينه غداً بالجنة "
قال صاحب الجواهر في وصف الفخر [ ص 148 ] :
السيد الأكبر طراز النور الأخضر الكبريت الأحمر الكعبة المطهرة الغراء ، فهو بالحج إليه من غيره أحرى ، الذي ما شرب شارب من صبابة كأسه ولا ظهر إلا بإظهاره بعد إندراسه ، وظفرت بالمطلب الذي كنت أحاوله فغنمت الكنز الأعجب فطالما كنت أزاوله فهو شمس الوجود وعين الشهود الشريف الشيخ أبو بكر بن سالم . اهـ
وإسلاماه يا عباد الله ، انظروا إلى أي حد وصل بهم حب المال ، وكيف يقول عنه : " الكعبة المطهرة فهو بالحج (1) إليه أحرى من غيره " ، هل الحج إلى أبي بكر بن سالم أحرى من الحج إلى مكة ومن منى وعرفات ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم .. هل زيارة أبي بكر بن سالم أحرى من زيارة المسجد النبوي ؟
سبحانك هذا بهتان عظيم ...
قال صاحب الجواهر [ ص 177 ] :
وهل كعبة الحج إلا إذا بدا محياه في دار يُزان بها الربع
وهل محرمٌ إلا إذا حج بيته ملب إلى عينات يزعجه النجع
وهل عرفات غير عرفان قدره وهل مشعر إلا ذراه لمن يدعو
وهل حجرُ إلا أناملُ كفه حقيق أن يجري بموقفه الدمع .اهـ
انظروا يا عباد الله كيف يزهدون في زيارة المشاعر المقدسة التي قدسها رب العالمين وأجمعت الأمة كلها على قداستها ، ويُرَغِبون الناس في زيارة البقعة العيناتية وصاحب البقعة العيناتية ، إنه حب الدرهم والدينار ، طغى على عقولهم وقلوبهم ، ولا يبعد القول أن صنيعهم هذا يشبه صنيع أبرهة عندما أراد أن يصرف الناس عن الكعبة المشرفة إلى كعبته التي بناها في صنعاء.
__________
(1) - إذا أنكرت على أتباعهم سيعتذرون ويقولون ( الحج لغة القصد ) وهذا المراد أن قصده للزيارة أولى من غيره ، وليس مقصودنا مناسك الحج ، فيرد عليهم ولكن العامة الذين يقرءون هذا الكلام ويسمعونه لا يعرفون من كلمة ( الحج ) إلا المناسك المعروفة.(218/44)
قال صاحب الجواهر [ ص 12] :
وفيه يقول الأمير محمد بن جعفر الكثيري :
إن جئت عينات فحي ثراها واستنشق العرفان من رباها
والصق جبينك بالتراب مقبلاً شكراً لمن أولاك لثم ثراها
بلد أقام بها الكمال وحبذا بلد غدا الغوث العظيم حماها
واستقبل الشيخ المعظم خاشعاً في ذل نفس كي تنال مناها
فصل
ولما كان كثير من الناس يتأثر كثيراً بالشعر نظم أصحاب عينات عشرات القصائد في مدح أبي بكر بن سالم ، ليجذبوا الزوار إليهم وتنتعش الحركة الاقتصادية ، والمستفيد الأول هم سدنة الضريح ، ضريح فخر الوجود وعين الشهود أبي بكر بن سالم ، وأذكر منها بعض الأبيات.
قال صاحب الجواهر [ ص 199 ] :
هنيئاً لمن أضحى يقبل نعله ويجعله تاجاً يصون عن الدوس
وقال صاحب الجواهر [ ص 149 ] :
يا طالب الحاجات دونك بابه والزمه تظفر بالذي تسعى له
ما راع أمر هائل إلا غدا في كل حين رافعاً أهوى له
كم من بلاء أوهنت أثقاله فأماط فيها بالرجا أثقاله
كم ألبس المسلوب ثوباً معلماً فغدا أميناً لم يخف ما هاله
وقال صاحب الجواهر [ ص 176 ] :
هو العروة الوثقى إذا كنت واثقاً هو الدافع الضراء هو الخير والنفع
هو المجتبى لولاه ما كان في الورى من الخلق لا وتر يكون ولا شفع
هو الذروة العليا هو الدرة التي بها تم للرسل النظام ولا نزع (1)
هو الآية الكبرى هو النقطة التي يدور بها الإعطاء للخلق والنفع
هو المظهر الأعلى هو الفيصل الذي أتى بالهدى والدين لما أتى يدعو
هو المركز الأعلى هو المرجع الذي لأفلاك كل الرسل حقاً له الرجع
أقام لهذا السر في كل مدة إمام له قلب وغوث له سمع
خليفة سر لا زال مؤيداً ممداً لهذا الكون كيما ترى السبع
وهذا زمان غوثنا فيه سيد إمام وقطب للفقير له ودع
هو الوارث الأسرار ذلك ابن سالم أبو بكر العالي له الخفض والرفع
__________
(1) - معنى هذا الكلام أنه رسول ، ما دام أن أبا بكر بن سالم هو الدرة التي تمّ للرسل النظام ، ومعناه أنه سُلِك به مسلكهم.(218/45)
حباه إله العرش أسنى وظيفة هو العرش والكرسي هو الفرق والجمع
هو اللوح للأسرار في كل عالم هو القلم الجاري يقيناً فلا بدع
هو المانح السراء هو الكاشف الردى هو الدافع الضراء حقاً له الرفع
وقال صاحب الجواهر [ ص 178 ] :
ولولاه ما كان لحجيج معرفاً ولا مشعر يسعى إليه ولا سلع
ولولاه ما غيث ولا مزن وابل ولا نبت في الوادي ولم يخصب الزرع
ولولاه ما كان المحصب من منى به الأمن لما بالحجيج له دفع
ولولاه ما كانت مساجدنا التي بجمعتنا فيها يقوم بها الجمع
ولولاه ما كانت بقلب مراحم على بعضنا والزجر حيناً كذا الردع
ولولاه ما كانت قضاة وشرعة وحكام عدل للبغاة لهم صقع
ولو شئت أن أثبت عنايات فضله لأعيا جميع الخلق من شرحها التسع
أيا غوث هذا الوقت إن عبيدكم يروم إجازات يكون بها النفع
على بابك العالي عليّ فكن له بدنيا وأخرى حصنه لك إذ يدعو
إلى أن قال :
ومن لا أسميها لأنك عالم بما في ضمير العبد لما بكم يدعو
وألبسهم ثوب شفاء وعزة فإنك حرز أيها الحصن والدرع
وزيّن لنا الأوطان يا حامي الحمى بناصر دين الله واحميه يا سبع
وقال صاحب الجواهر [ ص 182 ] :
لقد فاز من أمسى مريداً ببابه وفاز به برٌ كما فاز طالح
فما هو إلا رحمة من إلهنا وما هو إلا الفضل للذنب صافح
أنارت به الأفاق شرقاً ومغرباً أنارت به الأبصار ثم الجوانح
وما هو إلا البحر عذب فراته وكوثره حلو وما هو مالح
وقال صاحب الجواهر [ ص 188 ] :
هم (1) عمدتي ووسيلتي عند الأصائل والبواكر
هم عدتي هم نجدتي وهموا عياذي في المحاضر
فبهم إليك تشفعي أن تقض حاجات الضمائر
وبقطب حضرتك التي هو حاكم فيها وآمر
هو فردها هو غوثها هو سر هاتيك السرائر
الوارث الحبر الذي ظهرت به منك المظاهر
أعني ابن سالم من سما ابن الجهابذة الأزاهر
ابن الشموس الأوليا ابن الدراري الزواهر
بحر الشريعة والهدى كنز الهداية والذخائر
لا غرو أن حاز العلا فلأنه نجل لباقر
__________
(1) - يقصد بعض آل البيت وأمهات المؤمنين(218/46)
ابن الحسين وجعفر ابن الغطاريف الأطاهر
ابن النبي المصطفى مجلي الصدا عن كل خاطر
ابن الوصي المرتضى مفني العداة لهم وكاسر
آباؤه أهل الكسا أبداً بهم بالله فاخر
ابن الشيوخ ذوي النهى من كل حبر ثم ماهر
شيخ تقمص بالهدى قطب به العرفان دائر
منجي الفقير من الردى من كل فاقرة وفاقر
أسق الفؤاد بقطرة من سحب حضرتك المواطر
أبذرت بذراً مثمراً يا خير ساق خير باذر
شمس المعارف والسنا نور النواظر والبصاير
وسِعَ الخلائق بالرضا من كل بدوي وحاضر
ذا رحمة برزت لنا من فيض فضل منك باهر
أحيا المنازل والربى فسحابه بالفضل ماطر
ولسان كلٍّ بالثنا ولفضله بلسان شاكر
هذا الإمام بلا مرا ولشرع دين الله ناصر
روض المعارف والندى زهر السنا برباه ناضر
عينات قالت مرحبا عين أتى بالله ناظر
فيها المساجد كلها وكذا المشاعر والمآثر
فيها النبي محمد فيها الصحابة والأكابر
وكذاك بغداد بها وكذلك لبنان والمفاخر(1)
فيها جميع الأولياء فيها الأوائل والأواخر
فيها جميع العلوم وما تشاء فاذهب إليها ثم سافر(2)
فيها المثاني والثنا وكذاك غيب الله ظاهر
فيها المحصب من منى فيها التقا من سفح حاجر
فيها ممد الكائنات بها التجلي والبشائر
يا سيدي يا عدتي أرمق عبيدك بالمحاجر
ابن السحاب الملتجى بذوى الجناب والسرائر
عجل له كل المنى والأمن من كيد وغادر
ادفع عداه فإنهم آذوه بغياً وأنت ناصر
حاشا يضام عبيدكم ابن الأكابر والكواسر
احم الحمى ففقيركم طلب الحمى إذ أنت قادر
كم ذا أذود بغاتهم عن كل سوء كم أصابر
كم ذا أدافع بالتي كم ذا لهم عاف وغافر
لكن غرة سوحكم كوني عُبيدك في العشائر
__________
(1) - واعجباً لكم ، النبي صلى الله عليه وسلم في عينات ؟!! وكذلك بغداد ولبنان في عينات ؟!! ألا لعنة الله على الكاذبين.
(2) - تأمل أخي القارئ ، هذا هو مرادهم ، تنشيط السياحة الدينية في عينات ، حيث قال فيها العلوم وما تشاء فاذهب إليها ثم سافر.(218/47)
ولقد تكرر منهم إذ أنت أعلم بالسرائر(1)
وقال صاحب الجواهر [ ص 195 ] :
يا بن سالم همة علوية يبلغ بها كل الأنام مناها
يا بن الرسول غناك يا أبا حامد عبد ببابك لا يريد سواها
أنت الحليم وليس حاجة عبدكم تخفى عليكم فاعجلوا بقضاها
أنت المراد بل العماد بل المنى بل أنت كل الكل يا مولاها
قل يا عُبيدي لا تخاف وإنما أنت الأخص بسرها وحباها
وذكر صاحب الجواهر [ ص 198 ] :
أنت ابن سالم من سمت أوصافه وعليه من حلل الجمال بهاء
أنت الإمام الفخر أكرم سيد ساد الورى وعنت له الفصحاء
صدر الشريعة كنز كل عناية بحر الحقيقة سيد العطاء
منهاج إرشاد العلوم وروضها بدر له بسما الكمال سناء
حاوي المعاني والبيان بمنطق فيه لكلِّ العارفين شفاء
قطب تسلطن بالجمال على الورى ملك عليه مهابة وصفاء
نسل النبوة من سلالة هاشم مولى له بين الأنام علاء
ماذا عسى أثني عليك فضيلة عجز القريظ وفاتني الإحصاء
يا سيد أرضي وجيد زمانه وعليه من نور الإله قضاء
إني عبيدك لم أزل طول المدى فاكشف فإني مسني الضراء
ويرد لي في الدهر نظم صفائكم ويطيب لي الإنشاد والإنشاء
قلدت جيدي طول كل نوالكم فلذا شدوت كأنني الورقاء
فامنن عليّ بنظرة يا سيدي ليكون منكم للسقام دواء
وأمدني بعناية وسعادة ما بعدها أبداً يكون شقاء
قل يا علي (2) الشر بما قد رمته قد زالت الضراء والبأساء
وكذلك أصحابي الجميع فقم بهم ومن المقاصد نلهم ما شاء
وذكر صاحب الجواهر [ ص 199 ] :
إذا كنت بالتحقيق معكم فإنني ظفرت بكل السؤل يومي مع أمسي
وكنت صحيحاً بعدما كنت اعرجا وأصبحت في خير وأمن وفي أنسي
لعل إلهي أن يطهر بيته قليبي من الشيطان والغي والرجس
ويلبسني ثوب السلامة والشفا ويشفي فؤادي والقليب مع النفس
__________
(1) - كذب عدو الله ، الذي يعلم السرائر هو رب العالمين { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}.
(2) - أي ناظم هذه القصيدة ، واسمه علي بن علي السمهودي(218/48)
وذلك بشيخي واحد الدهر قطبه غياث جميع الخلق والمنصب القدسي
أبو بكر الحامي بنور جبينه ظلام ضلال قد أتى ناشر النفس
عليك بباب لابن سالم إنه لمنجي من الأمراض والصد والنكس
وجز تربة كحلاً لعينك إنه شفاء من الأسقام والضر والعكس
محياه أضحى في الوجود كأنه سراج كبدر للأنام وكالشمس
هنيئاً لمن أضحى يَُقبِل نعله ويجعله تاجاً يصون عن الدوس
ويلثم أعتاباً يحج لبابها سُراة رجال الغيب كل بها يرسي
لقد أصبحت عينات عينين للدنا مخلقة بالطيب والمسك والورس
ولم لا وقد أضحت عروسا بسيد تجلى بها فالبدر من نورها مكسي
أيا مركز الأقطاب يا قبلةالورى أقلني عثاري يا عمادي ويا ترسي
ولم لا وأنت السر سر نبينا خليفته في الوحش والجن والأنس
تجمعت الأقطاب فيك جميعهم فأولهم معروف وآخرهم مرسي (1)
ورثت علوماً من علوم محمد تجُل عن الإفشاء والظن والحدس
وقمت مقاماً يعجز الخلق كلهم وخضت بحاراً لم ترم بلة ......
كرعت كؤوس الحب من قبل خلقنا وألبست تاج الملك حقاً بلا لبس
أيا شيخ أشياخ الوجود بأسره لعرب وروم والأعاجم والفرس
أغث عبد رقٍ لم يحل عن ولائكم وحكم بناء بالصلاح على أس
وعامله بالألطاف والحلم والندى مع الأهل يا مولاي والفرع والجلس
ومن كان منا بالقرابة دانيا وأصحابنا الأحياء ومن حل في الرمس .اهـ
__________
(1) - يقصد معروف الكرخي ، ولعله في قوله مرسي يقصد وليهم مرسي أبو العباس ( الناشر )(218/49)
هذا كله من الغلو الذي حذَّر الله منه ورسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } [ المائدة : 77 ] ، قال العلماء : الغلو هو مجاوزة الحد في مدح الشيء أو ذمه ، وضابطه تعدي ما أمر الله به ، والغلو كثير في النصارى ، فإنهم غلوا في عيسى عليه السلام فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً مع الله ، يعبدونه كما يعبدون الله ، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه ، فادعوا فيهم العصمة ، فاتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقاً أو باطلاً ، قال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } [ التوبة : 31 ]. فالغلو في الإنسان سبب لعبادته ، ولهذا حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من مجاوزة الحد في مدحه والغلو فيه فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد الله فقولوا : عبد الله ورسوله " [ رواه البخاري عن عمر ] . والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه.
وقبل النصارى قوم نوح عليه السلام فإنهم كفروا لما غلوا في الصالحين قال تعالى : { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } [ نوح : 24 ] ، قال ابن عباس هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبِِدتْ .(218/50)
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان ع موسى عن محمد بن قيس : أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوماً صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كانوا أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم . فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس ، فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
فصل
وبعد هذا الكلام سأذكر لك أخي القارئ بعض الكرامات التي مؤلف كتاب الجواهر في مناقب الشيخ أبي بكر تاج الأكابر ، ثم أختم بعدها بذكر وجه التشابه بين غلاة الصوفية وبين الهندوس عبدة الأصنام.
ذكر صاحب الجواهر فصلاً في تعريف الشيخ عند الصوفية بعنوان ( بيان الشيخ لغة واصطلاحاً ) [ ص 36 ] ومما جاء فيه :
وسئل الشيخ أحمد بن الجعد متى يكون الشيخ شيخاً ؟
قال : لا يكون الشيخ شيخاً حتى يمحو سيئات مريده (1) من اللوح المحفوظ. قال الشيخ سعيد بن عيسى العمودي : وكيف غفل حتى كتبت. اهـ
من كتاب ظهور الحقائق لمؤلفه السيد عبد الله بن علوي العطاس ملخصاً. اهـ
الله أكبر يا صوفية حضرموت !! حتى اللوح المحفوظ لم يسلم من خرافاتكم ودجلكم حتى صرتم تعبثون به كما تشاءون وتمسحون منه سيئات من تشاءون ؟؟ إذا لا يسمى اللوح المحفوظ ، وكيف يكون محفوظاً وأنتم تعبثون به ؟؟ فقد صار لوحاً مكشوفاً ، الأول يدعي أن الشيخ هو الذي يمحو سيئات مريده منه ، والآخر يزعم أن الشيخ يمنع أن تكتب سيئات مريده أصلاُ ، فهو يقظ مراقب للوح المحفوظ وليس غافلاً عنه.
__________
(1) - المريد عند الصوفية : هو الذي يلازم الشيخ ويأخذ عنه الطريقة(218/51)
وذكر صاحب الجواهر فصلاً بعنوان ( طلبه للعلم الشريف ) [ ص 43 ] ، ومما قال فيه : وأخذ عن علامة الإسلام الفقيه عمر بن عبد الله بامخرمة بسيئون ، ولم يشتهر أن أحداً قرأ عليه كتاباً إلا سيدنا الفخر أبا بكر بن سالم ، فقد قرأ رسالة الإمام القشيري عليه ، لأنه لا يمكّن أحداً يقرا عليه إلا من علم منه النجاح والفلاح وتفرس فيه ، وفي مسجد عبد الملك بسيئون جرت لهما هذه الطريقة الغريبة والكرامة الخارقة ، فقد جرى ذكر كرامات الأولياء فطلب الشيخ أبو بكر تصويرها في المجلس ، فصورها له هذا الإمام في جمع حاشد من الناس وضع نواة في المسجد قبل تجصيصه ، وأمر بماء يغمره ، فظهرت نخلة بكر بها وليفها وسعفها ، وبدأ الطلع في النخلة وأبر في المجلس ، وبان الثمر ، وكان رطبا ًجنياً ، فقال الشيخ عمر : قم وهات ما يناسب مع الرطب ، فقام الفخر إلى البركة الشرقية النجدية وأتى بسمكة وأكل كل الحاضرين من ذلك الرطب والسمك. قال العلامة الحبيب أحمد بن الحبيب الحسن العطاس ، إن البركة تعرف اليوم ببركة الشيخ أبي بكر يستشفى بها من الرمد ، وأثر النخلة تعرف ، هكذا سمعنا من السلف والخلف. اهـ(218/52)
وقال صاحب الجواهر [ ص 77 ] : ومرة طلع إليه أولاده الكبار الشيخ أحمد والشيخ الحامد والشيخ عمر المحضار ، وكان ذلك مع وصول ركاب نذور جاءته من القبلة هن وحمولهن عددهن سبعون جملاً ، وكان الشيخ يذبح منهن لغداء الزوار كل يوم واحداً أو إثنين ، فلما استقر بهم المجلس أرادوا أن يطلبوا منه شيئاً من الركاب يحرثون عليها ، فاطلع نفع الله به على السرائر وأقبل عليهم بوجهه الكريم وناطقهم ابتداء قبل أن يتكلموا وقال لهم طلعتم لأجل هذه الركاب ، خذوا إلي تبغون (1) منهن ، وعزة ربي وجلاله ، إني عقرت الكون لكم خليت دمه يقرقر ، ولكن اذهنوا لغيرها (2) أنا قد سلبت جميع الأولياء ما عاد بقيت شريفة بنت صاحب خيلة عاد معها حال كبير ، وأنا دخلنا عليها بزواج وأخذنا الحال الذي كانت متصعبة عليه والآن قد مهدناها لكم وخليناها دنان بإذن الله. اهـ
وقال صاحب الجواهر [ ص 78 ] : وفي الزهر الباسم قال أخبر السيد السالك الولي الناسك شيخ بن علي بن هارون ، قال جئت لزيارة سيدي الشيخ فلما طلعت الدار رأيت كثرة الزوار والأخدام يدخلون على من يخدم لنفقة الضيفان في المطبخ من النساء ويحيوا (3) هذا الحال وغالبهم عوام وشبان ، ثم أذن لي فدخلت على سيدي الشيخ فحيث وقع نظري عليه قال ابتداء يا شيخ إنّا ننظر على قلوب أصحابنا ونحفظها فلا عاد يقع في شيء مما وقع في الخاطر ، فتعجبت من اطلاعه على ذلك الخاطر. اهـ
إذا كان رب العالمين أرشد نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرشد الصحابة وهم أفضل القرون وصفوة الخلق بعد الأنبياء : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون } [ النور :30 ]
وقال صلى الله عليه وسلم : " إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت " [ رواه البخاري ومسلم ]
__________
(1) - أي الذي تريدون
(2) - أي افطنوا ولا تعودا لمثلها
(3) - أي يصافحوا النساء(218/53)
وقال صلى الله عليه وسلم : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " [ رواه البخاري ] ، ولكن هؤلاء القوم فساق وفي نفس الوقت يتظاهرون ويتفاخرون بالدين فاضطروا إلى أن يصبغوا فسقهم بالصبغة الشرعية فأتوا بالطامات. و
ذكر صاحب الجواهر [ ص 91 ] : فصلاً بعنوان ( قصيدته الفخرية ) ثم ذكر هذه القصيدة ونسبها لأبي بكر بن سالم وهي :
صفت لي حميا خلي واسقيت من صافيها
اقبل وثني يملي على الذي يعليها
من ذا شربها مثلي أنا قبل لا يصفيها
أنا قبل قبل القبلي وبديت على هاليها
أنا أعطيت كل الفضل تكّرم علي واليها
أنا المجتبى بين أهلي وشفعت في عاصيها
أنا أعزل أنادي ولي أنا شيخها وقاضيها
أنا حتف أهل الوصل تكّرم عليّ باريها
أنا حتف أهل العدل ونار الجحيم أطفيها
من كان ينكر فعلي يجرب وأنا حاميها
أنا بازها والشهب أنا للمثاني أقريها
وعين الحقيقة عيني وأشرب من كاسيها
وفخر الوجود الفخري أبو بكر لي يحميها
وراقت حميا قربي وإني لها ساقيها
وأفلت شموس الكل وها شمسنا ضاحيها
أنا عرشها والكرسي وأنا للسماء بانيها
شف أهل الكسا بالفضل وجبريل لي راويها
فهذه رسالة تبني بنص القرآن واتليها. اهـ
الله أعلم هل قال أبو بكر بن سالم هذه القصيدة أم نسبوها إليه ؟
على كل حال فهي قصيدة تدل على ضلال قائلها وكفره ، وكيف يزعم أنه هو الذي بنى السماء ؟!!!
هل ترضى أخي القارئ أن تقوم بعمل تعمله وتتقنه ، ثم بعد الفراغ منه يأتي شخص آخر ويزعم أنه هو الذي عمله وأتقنه ، ألا يغضبك هذا ويؤذيك ؟(218/54)
فكيف بهذا الكذاب المفتري الذي بلغ القمة في الكذب ، كيف يزعم أنه هو الذي بني السماء ، والله عز وجل يقول : { والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون } [ لنازعات : 27] . وقال عز وجل : { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها } [ ق : 6 ] . وقال سبحانه : { والسماء وما بناها } [ الشمس : 5 ] . وقال سبحانه : { الله الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء } [ البقرة : 22 ] .
ولا أدري ماذا يريد بقولها ( وأنا عرشها ) ، هل يريد عرش الرحمن ؟ وهل يرجع الضمير على عز وجل بلفظ التأنيث ؟ لا أستبعد هذا وقد خطب بعض غلاة الصوفية رب العالمين بلفظ التأنيث – والعياذ بالله -.
وكيف يزعم أنه هو العرش والله سبحانه أخبر في مواضع من كتابه أنه استوى على العرش كقوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] فهل استوى الرحمن على أبي بكر بن سالم ؟؟؟
سبحانك هذا بهتان عظيم.
وكيف يزعم أنه الكرسي والله عز وجل يقول : { وسع كرسيه السموات والأرض } [ البقرة : 55 ] .
ألا لعنة الله على الكاذبين.
قال صاحب الجواهر [ ص 107 ] :
منشآته الكبرى(218/55)
للشيخ أبي بكر بن سالم منشآت كبرى في عينات وأجلها نفعاً ووقعاً وأجراً وأثراً وذكراً مسجده الشريف الجامع روح البلاد الذي تعقد فيه الجماعات والمجتمعات والدروس العلمية وتقرأ الأحزاب القرآنية والدعوات والأوراد والأذكار على الدوام ، وقد أشار على موقعه الأئمة العارفون قبل أن يظهر ويكون كما جاء في أوائل الترجمة. وقام الفخر بتجديده وأمر المعلم ببنائه وتشييده ، فشرع فيه وأشاده صرح مبانيه وقام بتصميمه وتنظيمه وحصل ذهول مع المعلم (1) وبني على غير المراد (2) فوجد ما لا يريد وكانت بيده عصا فضرب الجدار وارتعد وزال عن موضعه ، وسار حتى بلغ المحل المقصود الذي يحبه صاحب الترجمة (3) وأشار على الجدار بالاستقرار بقدرة العزيز القهار. قال الشيخ عبد الله بن أبي بكر قدري باشعيب :
فأنت قد أوميت يا سيدي إلى جدار كي يزول فزال
أعطاكم التصريف فيما يشاء حياً وميتاً ربنا ذو الجلال. اهـ
نحن نعلم أن اله على كل شيء قدير ، ولكن القوم ليسوا ثقات ومعروفون بالكذب ، فكيف نصدقهم بهذه الخيالات التي يزعمون أنها كرامات وهم مخالفون لشريعة الله في الأصول فضلاً عن الفروع ، ورحم الله الشاعر حيث قال:
لي حيلة فيمن ينم وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة
وهل صوفية حضرموت أفضل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!!
__________
(1) - أي المهندس أو المقاول الذي أشرف على البناء
(2) - لماذا لم يطلع أبو بكر بن سالم هنا على سريرته ويعلم أنه لم يفهم المراد كما زعمتم فيما تقدم أنه يعلم ما في السرائر.
(3) - يعني أبا بكر بن سالم(218/56)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في فضائل عائشة رضي الله عنها : ومن خصائصها أن الله سبحانه برأها مما رماها به أهل الإفك ، وأنزل الله في عذرها وبراءتها وحياً يُتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة ، وشهد لها بأنها من الطيبات ، ووعدها المغفرة والرزق الكريم ، وأخبر سبحانه أن ما قيل فيها شراً لها لا عائباً لها ، ولا خافضاً من شأنها ، بل رفعها الله بذلك ، وأعلى قدرها وأعظم شأنها ، وصار لها ذكراً بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء ، فيالها من منقبة ما أجلّها.
وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها حيث قالت : " ولشأني في نفسي أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يُتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها".فهذه صديقة الأمة وأم المؤمنين وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة ، وأن قاذفيها ظالمون لها ، مفترون عليها ، قد بلغ أذاهم إلى أبويها وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها ، فما ظنك بمن صام يوم أو يومين ، أو شهراً أو شهرين ، وقام ليلة أو ليليتين ، فظهر عليه شيء من الأحوال ، ولاحظوا بعين استحقاق الكرامات والمكاشفات والمخاطبات والمنازلات وإجابة الدعوات ، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم ، ويُغتنم صالح دعائهم ، وأنهم يجب على الناس احترامهم ، وتعظيمهم ، وتعزيرهم ، وتوقيرهم ، فيُتَمَسح بأثوابهم ، ويُقَبّل ثرى أعتابهم ، وأنهم بالمكانة التي يُنتقم لهم لأجلها ممن تنقصهم في الحال ، وأن يُؤخذ ممن أساء الأدب عليهم من غير إمهال ، وأن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم.(218/57)
ولو كان هذا من وراء كفاية لهان ، ولكن من وراء تخلف ، وهذه الحماقات والرعونات نتائج الجهل الصميم والعقل غير المستقيم. فأن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه ، غافل عن جرمه وذنوبه مغتر بإمهال الله تعالى له عن أخذه بما هو فيه من الكِبَر والإزراء على من لعله عند الله عز وجل خير منه.
نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة ، وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيماً وهو عند الله حقير. [ إجلاء الأفهام في الصلاة على سيد الأنام – ص 181 ]
قال صاحب الجواهر [ ص 231 ] :
كراماته نفع الله بها في وقائع شتى
منها وساطته في التزوج بالجنية
فمنها ما وقع لعوض بامزروع وذلك أنه كان يلقم بقرة له تحت بيته بالجانب القبلي من بلدة الواسطة ، فذكر لسيدنا الشيخ أن بنتاً صغيرة من الجن تأتي إليه تسامره ، فعرض عليه التزوج بها فأجاب فتزوجها بتوسط الشيخ أبي بكر ، وهو صحيح عند كثير من علماء الشافعية وغيرهم منهم البارزي والجمال والرملي وأفتى به ابن عبسين وغيرهم ومنعه آخرون ، فحين بلغت الجنية أمره الشيخ أن يطلقها خشية الحبل ففعل رضي الله عنه.اهـ
وذكر صاحب الجواهر [ ص 229 ] : فصلاً بعنوان ( ومن كشفه الخارق الذي أكرمه الله به ) :
وذكر فيه أن أبا بكر بن سالم قال ليوسف بن عابد الحسني ( صاحب فاس ) يا يوسف أنا أبو الأرواح وقد نظرتك في صلب أبيك وحضرت ولادتك. اهـ
وقال صاحب الجواهر [ ص 228 ] : ومنها ما في نبذة الشيخ أحمد باوزير : قيل أن جماعة أتوا لزيارة الشيخ ، فقال بعضهم لبعض في الطريق نختبر الشيخ ، نريد غدانا من صيد البحر والرطب وذلك في غير أوان الخريف ، فدخلوا عليه وباسطهم ثم قال لخادمه : اذهب بالجماعة للمنزل الفلاني في بيته فإن غداهم فيه ، فقاموا إلى المنزل فوجدوا طلبهم من صيد البحر المقلي والرطب ، فحاروا وعجبوا وأكلوا حتى صدروا ، فأخذ الخادم المفتاح لحفظ ما بقي فرجع ولم يجد شيئاً. انتهى ملخصاً.(218/58)
القهوة لما نويت له
جاءت الروايات عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ماء زمزم لما شُرب له " ، ولازال العلماء يعلمون أتباعهم بهذا عند شرب زمزم ويحثونهم على النية الحسنة عند شربها ، وكان أحد العلماء إذا شرب ماء زمزم يشربه بنية ألا يعطش يوم القيامة.
وأما صوفية حضرموت فاخترعوا للأمة شيئاً جديداً وزعموا أ، القهوة لما شُربت له.
قال في الجواهر [ ص 220 – 221 ] : وكان سيدنا الشيخ ممن أثنى على القهوة وشربها ، وكان يشرب منها لوحده رطلاً بعد صلاة الصبح إلى الشروق .......... وكان يقول : ( القهوة لما نُويَت له ) ويأمر زائريه بشربها على نية نجاح مقاصدهم. اهـ
وقال صاحب تذكير الناس [ ص 118 ] : وكان سيدي (1) رضي الله عنه يقول : إن قهوة البن بدون سكر ترفع وخم البطن وتُعين على السهر ، وكان له منها كل يوم وقت انتباهه من نوم القيلولة نحو خمسة عشر فنجاناً ، ومثلها وقت استيقاظه من النوم آخر الليل ، وإذا نزل ضيفاً عند أحد فلا يرقد حتى تقرب له أدوات القهوة.
__________
(1) - يعني أحمد بن حسن العطاس(218/59)
وذكر رضي الله عنه عن شيخه الحبيب أبي بكر بن عبد الله العطاس أنه قال : كان السيد أحمد علي بحر القديمي يجتمع مع رسول الله يقظة ، فقال ك يا رسول الله أريد أن أسمع منك حديثاً بلا واسطة . فقال ك صلى الله عليه وسلم أحدثك بثلاثة أحاديث : الأول ، ما زال ريح قهوة البن في فم الإنسان تستغفر له الملائكة ، الثاني ، من اتخذ سبحة ليذكر الله بها كتب من الذاكرين الله كثيراً ، إن ذكر بها أو لم يذكر ، الثالث، من وقف بين يدي ولي لله حي أو ميت فكأنما عبد الله في زوايا الأرض حتى يتقطع إرباً أرباً. (1)
__________
(1) - كيف يقول هذا الكذاب أنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة ، والرسول صلى الله عليه وسلم قد مات وفارق الحياة ؟ قال تعالى: { إنك ميت وإنهم ميتون } ثم بعد ذلك يكذب على الرسول صلى اله عليه وسلم ويأتي بكلام ساقط لا يليق بمقام النبوة وينسبه للرسول صلى الله عليه وسلم ، أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " ، ثم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أكمل الدين وبلّغ البلاغ المبين فلا نحتاج إلى أن نبحث عن أحاديث أخرى.
وقوله في الحديث المزعوم ( من اتخذ سبحة ليذكر الله بها كتب من الذاكرين الله كثيراً إن ذكر بها أم لم يذكر ) لا شك في بطلان هذا الكلام لأنه قد ذهب بعض أهل العلم إلى أن التسبيح بالسبحة بدعة لم يكن معروف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، والآثار الواردة فيها لم تثبت ، وإنما السنة التسبيح بالأصابع كما في حديث عبد الله بن عمرو ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيمينه ) وفي حديث آخر قال : " واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات " أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ثم كيف يُكتب من الذاكرين الله كثيراً إن ذكر بها أم لم يذكر ، هل يكتب من الذاكرين الله كثيراً لمجرد شراء السبحة وهو لم يذكر الله بها ؟!!! فلا أسهل من أن يشتري الإنسان سبحة بريال ويعبث بها بيده – كما هو حال بعض الناس اليوم – ويكتب من الذاكرين الله كثيراً.
ولا أستبعد أن يكون الكذاب الذي وضع الحديث بائعاً للسبح ، يستوردها من الهند إلى حضرموت ، ويريد أن يروج بضاعته مثل هذا الحديث المكذوب.
[ الرواية التي لم يستطع أن يكملها أبو بكر بن سالم مذكورة عند الرفاعية حيث يروي بهاء الدين الرفاعي وابن عمه أبو الهدى الصيادي عن الشيخ محمد البجلي أنه قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت : يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : وقوفك بين يدي ولي الله كحلب شاة أو شواء بيضة خير لك من أن تعبد الله حتى تتقطع إرباً إرباً "
قلت : حياً أو ميتاً ؟ قال : " حياً وميتاً "
( بوارق الحقائق للرواس ص 223 ، وقلادة الجواهر في سيرة الرفاعي وأتباعه الأكابر ص430)
ولقد صدق الشيخ علي بابكر بقوله أنهم يحاولون جذب السذج لقبور أوليائهم ، فوقوف المريد لحظات أمام الولي خير له من عبادة الله الدهر كله – الناشر ](218/60)
قال سيدي رضي الله عنه : وكان الحبيب أبو بكر بن عبد الله العطاس يقول : إن المكان الذي يُترك خالياً يسكنون فيه الجن ، والمكان الذي تفعل به القهوة لا يسكنونه الجن ولا يقربونه.
وكان سيدي رضي الله عنه إذا أكمل ورد الليل وأحضرت القهوة بين يديه يقول ( الفاتحة ) لمشائخ القهوة البنية ومن شربها بِنِيَّة من صالحي الصوفية أن يتغشاهم الله بالرحمة والمغفرة ، وأن الله بجاههم عليه يبلغنا كل أُمنِية ويحفظنا من كل أذية ، ويسهل أرزاقنا الحسية والمعنوية وجيع البلدان الإسلامية ويصلح العمل والنية والعافية والذرية بجاه نبينا محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم. (1)
وقال صاحب تذكير الناس [ ص 52 ] :
وذكر الشيخ خليل في فتاويه أن نبي الله سليمان عليه السلام لما مر بعد أبين شكوا إليه وخم الجهة ، فأمر بطبخ البن وشرب القهوة. اهـ
ما صحة هذه الرواية عن سليمان عليه السلام ومن رواها ؟ ثم أن المعروف أن القهوة لم تُعرف إلا في العصور المتأخرة.
ولا أدري لماذا هذا التقديس كله للقهوة ، مع أن الأطباء ذكروا أن لها أضراراً كثيرة ويحذرون من الإكثار من شربها ، والقوم يدندنون حول القهوة بل ذكر صاحب الجواهر [ ص 128 ] فصلاُ بعنوان:
الكرامات المختصة بالقهوة
__________
(1) - تنبيه : سؤال الله عز وجل بجاه نبيه صلى الله عليه وسلم أو بجاه غيره من الأولياء بدعة محدثة(218/61)
له بخصوص قهوة البن خمس كرامات خارقة ، الأولى : قد ذكرت في موضوع رحلاته وملخصها أن ولي عبد الوهاب بن ولي الله الهندي قال جاء الشيخ أبو بكر إلى مكة يعني بالباطن واجتمع به وأخرج له كوزاً ملآن قهوة حارة . انتهى ملخصاً من الزهر الباسم ، ثانيهما : أنه دخل السيد عبد الرحيم على الشيخ الكبير أبي بكتر بن سالم نفع الله به مستشفعاً بسره في التأليف بينه وبين زوجته المكية بالغة الجمال والكمال والمال ، نافوا (1) الجميع هي وأهلها عن عبد الرحيم لفقره وقاموا عليه ولازموه في الطلاق فهرب فلما رآه سيدنا الشيخ أبو بكر بن سالم قال أتحب المكية يا عبد الرحيم ، فقال : نعم ومتيم صب بها وقصدي نظركم ودعوة بإصلاح أمري معها عل صبري ، وبيد الشيخ فنجان قهوة كبير أخضر وعنده روشن مفتوح فقال جبا بالقهوة وهبابها وأخرج يده ورجعت خلية (2) بمحضر الجم الغفير ، فقال أصلحنا شأنك يا عبد الرحيم بالشفاعة هي لما نويت له ، فزوده الشيخ ورجع إلى مكة فلما علم أصهاره بدخوله مع القافلة خرجوا وتلقوه بغاية الفرح والسرور وقصدوا به دارهم وأدخلوا زوجته عليه فوجدها بأعظم مما عنده لها من الحب والمودة ، وقالت عجبت مع غيبتك وقت كذا بيوم كذا لم أشعر إلا برجل صفته كذا ناولني هذا الفنجان ملآن قهوة وغاب عني ، لم أدر من أين مدخله ومخرجه ، فبهت وشربته فأملأ الله قلبي وأهلي حبك من ذلك الوقت ، فإذا هو ذلك الفنجان بنفسه ووصف الوقت والشيخ بكمال وصفه.اهـ من نبذة متعلقة بمناقب صاحب الترجمة للشيخ أحمد بن عبد الرحمن باوزير وأبقيناها بنصها. ثالثهما: ما في النبذة المذكورة للشيخ المذكور نقلاً مما وجد بخط والده الشيخ عبد الرحمن بن محمد با وزير قال : بينما سيدنا الشيخ نفع الله به جالساً بحضرته الشريفة وهي جامعة زوار من كل جهة إذ دخل عليهم رجل في صورة درويش فقام له الشيخ
__________
(1) - كذا هي في الأصل ولعل الصواب ( نفر)
(2) - أي رجعت يده خالية ،ليس بها الفنجان(218/62)
وعظمه وأقبل عليه بكليته وقال له الشيخ : أأنت الشيخ البكري صاحب مكة مدرس الحرمين الشريفين فقال نعم هل عندك أحد من الأولاد ، فقال لا إلا أن زوجتي هذا شهر وضعها فجاءت القهوة وكان لسيدنا الشيخ فنجان قهوة أحمر فأخذ بيده الكريمة الفنجان وأخرجه من الخلفة(1) وردها ولا بها فنجان ثم قال يا شيخ بكري أشرفنا على زوجتك بمكة فوجدناها بالولادة متعسرة لها ثلاثة أيام أعطيناهم الفجان القهوة وقلنا لهم اسقوها فحين أخذت نشفة (2) ولدت غلاماً مباركاً وقلنا لهم سموه فلاناً وبقي الفنجان عندهم وأنت تجده عند أمك إن شاء الله يخبرونك بالقصة وابنك هذا يكون عالم مكة فكان كما كان نفعنا الله به قال الراوي وقد رأيت الفنجان بعينه اهـ ( من النبذة بلا تصحيح العبارة أمانة للنقل ).
رابعها : قال في الزهر الباسم ما أخبر به بعض من زاره من جهة الشام قال لما جلست عند سيدي الشيخ خطر لي أن أطلبه الدعاء في رضا زوجة لي هنا ولي مدة طويلة مفارق لها ومعي منها هوى شديد فبدأني الشيخ في الحال قبل أن أسأله وقال ما عاد يقع لك من أهلك إلا الرضا ولو أردناهم أحضرناهم لك في هذا المجلس ولكنا نعطيهم هذا الفنجان يشربونه وبيده فنجان قهوة ثم سرت إلى بلدي فلما وصلت لم أر منهم إلا الرضا فسألتهم هل دخل عليكم أحد في يوم كذا فقالوا رجل صفته كذا وكذا وبيده فنجان قهوة فناولنيه فشربته وذكرت صفة الشيخ أبي بكر رضي الله عنه والساعة التي كنت فيها قال العبد الفقير إلى الله عبد الله بن أبي بكر باشعيب قلت وقد اشتملت هذه الحكاية خمسة كرامات الأولى اطلاعه على خاطر الرجل الثانية صرف حالة الزوجة من حالة الغيظ إلى حالة الرضا والثالثة تصرفه المؤذن به قوله رضي الله عنه لو أردناهم أحضرناهم الرابعة طي بعد المسافة البعيدة في ذلك ومناولته لها الفنجان الخامسة التجري.
__________
(1) - أي النافذة
(2) - كذا هي في الأصل ولعل الصواب ( رشفه )(218/63)
وخامسها: ما نقل من كتاب الإفتاء بحلية الأبرار عن السيد الفاضل الولي الإمام عبد الرحمن بن أحمد البيض علوي أحد تلاميذ سيدي الشيخ الخواص أنه خرج لزيارة شيخه الشيخ أبي بكر بن سالم ومعه رجل اسمه عثمان خطيب فدخلا عليه ومعه فنجان قهوة فقال في نفع الله به يا سيدي عبد الرحمن همّك كثرة البنات بلا ذكر يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ، فقال نعم سيدي خرجنا لنظرك ولذلك فقال البنات مسعدات دين ودنيا وبشراك بولد يختم القرآن ثم غيره اشرب القهوة بنيتها وناوله الفنجان الثاني وأنت عثمان همّك كثرة العولة أصلحناك وذريتك وتتسع دنياهم وأنت جبا بالقهوة وناوله الفنجان الثاني وقال اشرب بنيتها فوالله ما نقص حرف من لفظ الشيخ وطلعت الشحر وحضرت أعراس بناته على سادة ذوي تجارة واسعة ثم بعد أيام حضرت ختم ولده الموعود وسكوت الشيخ عنه فعرفت أنه يموت.
فصل
قال بعض أهل العلم : والمقصود من هذا معرفة أن من يدّعي علم شيءٍ من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن ، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به ، وذلك أن إصابة المُخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف ، ومنه ما هو من الشياطين ، ويكون بالفأل الحسن والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة ونحو هذا من علوم الجاهلية.
ونعني بالجاهلية : كل مَن ليس مِن أتباع الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فإن هذه علوم قوم ليس بهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهناً وعرافاً أو معناهما ، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد.(218/64)
وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة. ولا ريب أن من ادعى الولاية واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات ، فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن ، إذ الكرامة أمرٌ يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي ، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها ، ولا قدرة له عليها بخلاف من يدّعي أنه ولي لله ويقول للناس : اعلموا إني أعلم المغيبات ، فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسباباً محرمة كاذبة في الغالب. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان " فيكذبون معها مائة كذبة " فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يّدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه ، لأن في دعواه الولاية تزكية للنفس المنهي عنها بقوله تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } [ النجم : 33 ] .
فكيف يأتون للناس يقولون : اعرفوا إنّا أولياء ، وإنّا نعلم الغيب.
وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق ، واقتناص الدنيا بهذه الأمور ، وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء. أفكان من عندهم هذه الدعاوى والشطحات شيء ؟ لا والله. بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق ، وكان عمر يُسمَع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته ، وكان يمر بالآية في وِرْدِهِ بالليل فيمرض منها ليالي يعوده الناس ، وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفاً من النار، ثم يقوم إلى صلاته.
ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والذاريات والطور ، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء والأصفياء لا أهل الدعوى والكذب ، ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب ، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر ، فكيف يكون المدّعي ولياً ؟(218/65)
ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ، ولبّسوا بها على خفافيش البصر. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
وجه التشابه بين الهندوس عبدة الأصنام
وبين غلاة الصوفية في حضرموت
أجرت مجلة الأسرة ( العدد 122 – رجب 1423 هـ ) لقاء مع شخص اسمه محمد شان ، وكان هندوسياً ومن أسرة مقدسة في تلك الديانة ثم انتقل إلى البوذية ومنها إلى النصرانية التي أصبح فيها قسيساً ، ولأنه يبحث عن الحق كان لابد أن يصل إلى لإسلام ، وكان معه هذا الحوار:
ماذا كانت ديانتك قبل الإسلام ، وكيف كانت حياتك ؟
أنتمي إلى عائلة مقدسة في الديانة الهندوسية بسيريلانكا ، يتمتع أفراد أسرتي بثراء فاحش ، كما أنهم يتعالون على بقية الناس ، وأتذكر وأنا صغير لم أتجاوز العاشرة من العمر أني لعبت مع أحد الصبية الصغار ، عندما رآه والدي ضربه ضرباً مبرحاً لأنه تجاوز الفروقات الطبقية التي لا تسمح لمثله أن يقترب فضلاً أن يلعب مع من هو في طبقتي.
كيف كانت ممارستكم الدينية الهندوسية ؟
كان لي معلم يتولى الإشراف على دراستي الدينية ، وهذا المعلم الرئيسي رجل يمارس ما يسمى بـ ( السحر الأسود ) مثل المشي على الجمر أو على كسر الزجاج حافياً دون ألم ، وكذلك إدخال المسامير في اللسان والخد دون خروج دم أو إحساس بالألم.
هل تعلمت هذه الحركات ومارستها بنفسك ؟
نعم كنت أمارسها أمام الناس من الطبقات الدنيا ، وكانوا يعتقدون أني أتقن هذه الحركات لأني أنحدر من تلك العائلة المقدسة.
ما هو تفسير قدرتكم على أداء هذه الحركات العجيبة ؟
كنا نستعين بشياطين الجن الذين كانوا يقدمون لنا أشياء تكرس في نفوس أبناء الطبقات الدنيا قداستنا ، إضافة إلى ذلك فقد كان الناس يسألونني عن أمور غيبية ، وكان الجن يحضرون المعلومات بل ويتحدثون على لساني ، لأنهم يتلبسون بي أحياناً استغلالاً للجهلة لصرفهم عن الحق.(218/66)
هل كنت تحس بدخول الجن إلى جسدك ، وماذا كانت مشاعرك نحو هذا الأمر ؟
بدأت الشكوك تساورني عندما كان عمري قريباً من الخامسة عشرة ، وكان من دوافع تلك الشكوك كثرة الآلهة عندنا ، حيث يوجد في منزلنا قرابة مائة وخمسين إلهاً ، كل واحد منهم يختص بجزء من شؤون الحياة ، فأحدهم إلى المطر ، وثنٍ للقوة ، وثالث للحكمة ، ورابع للحب وخامس للرزق .... ألخ ، وكان أحدهم في العقيدة الهندوسية لا يغني عن الآخر ، لذلك تساءلت : هل هذه آلهة حقيقة ؟ إضافة إلى ذلك كان معلمونا ينهروننا عندما نسألهم بعض الأسئلة حول بعض الأمور التي لا تنسجم مع العقل والمنطق السليم.
ولكن نقطة التحول كانت عندما كان معلمي الرئيسي في إحدى المرات يقوم بسحر أسود ، وأبلغه الجن أن يغادر ذلك المكان قبل الساعة الرابعة عصراً ، ولكنه كان سكيراً فشرب الخمر ونسي مغادرة ونام ، وبعدما أفاق فقد القدرة على الكلام ، قمت بزيارته بعدها ، فأبلغني أن شياطين الجن هم من فعل به ذلك وحذرني منهم.
كم كان عمرك حينها ؟
كنت أبلغ من العمر 24 عاماً تقريباً.
ماذا حدث بعدها ؟
علمت أن الهندوسية ديانة باطلة ، تقوم على استغلال الفقراء لدفع أموال ضخمة للأسر المقدسة ، كما تقوم على الخداع الشيطاني والسحر لإقناع هؤلاء الناس بأننا نستحق التقديس ودفع الأموال. اهـ.
بهذه المقابلة يظهر وجه التشابه بين غلاة الصوفية والهندوس وهي كالتالي:
1- تقديس بعض الأسر للتعالي على الآخرين ، وهو ما يسمى بالتمييز العنصري.
2- استغلال العامة والفقراء وأكل أموالهم بالباطل.
3- ادّعاء علم الغيب.
4- استخدام السحر والحيل الشيطانية ولاستعانة بالجن ، وهذا واقع من بعض صوفية حضرموت ، إذ كانوا يفعلون بعض الأمور السحرية ويزعمون أنها كرامات.
الخاتمة(218/67)
عرفت أخي القارئ أن الدافع الأكبر لصوفية حضرموت – فيما سبق – هو أكل أموال الناس بالباطل ، وأما في هذا العصر وبعد أن تحسنت أحوال الناس المالية خاصة بعد تقدم الصناعات واستغنى الناس ، فإن الدافع الكبر لهم هو الكِبر والعناد يظن أنه إذا اعترف بالحق وترك الباطل أن هذا فيه تحقيراً لآبائه ومكانتهم.
ولكن ولله الحمد ترى اليوم كثيراً من أبناء الصوفية من عرف الطريق المستقيم ومشى عليه وبنبذ تلك الخرافات والدجل والشعوذة .
فنحن ندعو العقلاء من أبناء الصوفية أن يرجعوا إلى رشدهم وألا تأخذهم حمية الجاهلية ، فإن الآباء والأجداد لن ينفعوكم يوم القيامة : يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34 – 37 ]
وقد يقول قائل إني جالست دعاة الصوفية ولم أسمع منهم هذه الخرافات ؟؟ فأقول إنهم لا يصرحون بذكر هذه الخرافات ( التي يزعمون أنها كرامات ) في بعض الأوقات إذا عرفوا أن الناس لا يقبلون منهم هذه الخرافات ، ولكن اسألوهم عنها واقرءوا عليهم بعض ما في كتابي هذا فسيظهرون لكم على حقيقتهم ، وسينكشف لكم الغطاء.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ملاحظة للقارئ الكريم :
ما اقتبسه الشيخ علي بابكر من كتب الصوفية تم نقله بأخطائهم الإملائية واللغوية كما هي. ( الناشر )(218/68)
وجوب الاعتدال
في محبة الرسول والصحب والآل
تأليف
أبي عبد الله /يحي بن محمد بن القاسم الديلمي
راجعه وقدم له
فضيلة الشيخ العلامة / محمد بن عبد الله الإمام
جميع حقوق الطبع محفوظة
مقدمة فضيلة الشيخ العلامة /محمد بن عبد الله الإمام حفظه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فقد اطلعت على كتاب أخينا الفاضل /يحي بن محمد بن القاسم الديلمي حفظه الله تعالى الذي عنوانه :
(وجوب الاعتدال في محبة الرسول والصحب والآل) فوجدت المؤلف قد حرص على بيان الطريق السوي في التعامل مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآله وصحبه مدعما ذلك بالأدلة الدالة على ذلك من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف ومن تبعهم بإحسان ومتجنبا للاستدلال بما لا يقبل في ميدان الاحتجاج , وهو بهذا قد سلك أهدى طريق يسير عليه من يؤلف أو يرد لينفع أمة الإسلام بتأليفاته , وردوده . وقد أبان في هذا الكتاب منهج أهل السنة والجماعة في محبتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم , وللصحابة , والآل , وهو محق في ذلك . وموفق أهل السنة وسط بين الفرق والأحزاب فلم يغلوا ولم يجفوا , كغيرهم من الفرق الذين أفرطوا وفرطوا في حق من ذكرنا , والفرق في غلوها وجفائها للرسول , والصحابة , والآل على تفاوت , فكلما كان الغلو من فرقة في جهة كانت واقعة أيضا في الجفاء من جهة أخرى . وأشهر الفرق وأعظمهن غلوا وجفاء في الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي صحابته وأهل بيته هما فرقتان :
الأولى : الخوارج فقد كفرت أمير المؤمنين عليا ومن معه ومعاوية ومن معه .(219/1)
الثانية : الروافض فقد كفرت أغلب الصحابة وغالت في أهل بيت النبوة إلى حد ادعاء النبوة فيهم والعصمة للأئمة منهم . وبالرغم من حصول هذا في حق الآل والصحب , إلا أن الصحابة لم يكفروا هاتين الفرقتين , ولكن بدعوهما ونابذوهما بالحجة والبرهان والسيف والسنان . وهذا من العدل الذي قامت به السماوات والأرض .
ولا يخفاك أن التعرض لآل بيت النبوة أو الصحابة بالتنقص والازدراء والطعن والتشويه محاربة للإسلام ولمن جاء به وهو محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال تعالى : { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ٌقل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } التوبة .
فالمنافقون عندما طعنوا في الصحابة جعل الله ذلك طعنا فيه وفي آياته ورسوله . فالطعن فيهم علامة النفاق والزندقة , والغلو فيهم علامة الضلال والإلحاد أعاذنا الله من ذلك كله .
فجزى الله أخانا يحي خيرا على ما قام به من نصرة الدين ومحاربة المفسدين , وجزى الله خيرا الجزاء من قراء هذا الكتاب أو دل عليه . محمد بن عبد الله الإمام
المقدمة
إن الحمد لله , نحمده تعالى , ونستعينه , ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن الإله إلا الله وحده لاشريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
أما بعد :(219/2)
فقد ثبت عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله إن هذه موعظة مودع .فما تعهد إلينا ؟ قال : "قد تركتكم على البيضاء, ليلها كنهارها, ولا يزيغ عتها بعدي إلا هالك . من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا , فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ(1)"
لذلك , فإن محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم ما يتقرب به المرء إلى الله تعالى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحب الخلق إلى الله عز وجل , ومن لوازم محبة الله , محبة رسوله وطاعته , ومن لوازم محبة رسوله محبة صحابته وأهل بيته . فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحبهم ويوصي المسلمين بمحبتهم واحترامهم وحفظ حقوقهم وقد عمل بوصيته التابعون ومن بعدهم من العلماء والمؤمنين ؛ فمحبة الصحابة وأهل البيت واجبة على كل مسلم .
وإنافي زمن كثر فيه المدعون لمحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , حتى صار الناس على ثلاثة أقسام :
مفرط ومفرط ووسط , وكذلك أهل البيت قد جفاهم كثير من الناس وغلا فيهم آخرون وتوسط فيهم قلة قليلة من المسلمين .
أما الصحابة رضي الله عنهم فقد ترك عبد الله ابن سبأ اليهودي للشيعة عصارة فكره وزبالة رأيه وقبح حقده فتراهم يكفرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسبونهم ليلا ونهارا ويدعون حب القرابة فجمعوا بين نقيضين .
لهذا كان الهدف من تأليف هذا الكتاب هو التعرف على وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , وصحابته , وأهل بيته .محبة شرعية لاغلو فيها ولاجفاء .
إذ أنه لا سعادة للمسلم إلا بمتابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي هي سبب محبة الله للعبد .
__________
(1) - رواه ابن ماجة رقم 44 وهو في صحيح ابن ماجة 1/13-14 برقم 14 .(219/3)
قال ابن القيم فليس الشأن في أن تحب الله , بل الشأن في أن يحبك الله , ولا يحبك الله إلا إذا تابعت خليله صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرا وباطنا , وصدقته خبرا وأطعته أمرا , وأحببت دعوته , وآثرته (1)"
فقد فطر الإنسان : على محبة الوالد والولد والمال والزوج وغير ذلك من المحبة الجبلية , التي ذكر الله في كتابه الكريم والرسول صلى الله عليه و على آله وسلم في سنته المطهرة .
ومهما تكن المحبة فلا يجوز شرعا أن تكون محبة غير الله كمحبته أو أكثر ولا يجوز أن يحب مخلوق من المخلوقات كمحبة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو أكثر , ولا يكون المحب محبا إلا إذا أطاع محبوبه .
وطاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم متابعته كما قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } سورة آل عمران آية 31
قال ابن رجب رحمه الله : إن الإ نسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأوامر والنوا هي وغيرها فيحب ما أمر به ويكره ما نهي عنه.
فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه , أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ويكره ما يكره الله ورسوله ويرضى بما يرضي الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله , وأن يعمل بجوا رحه بمقتضى هذا الحب والبغض .
قال أبو يعقوب النهرجوري : كل من ادعى محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة , وكل محب ليس يخاف الله فهو مغرور (2).أهـ .
فالذين يعرضون عن اتباع سنة رسول الله ليس لديهم محبة كاملة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأن المحبة لا تكون إلا بالا تباع والاستقامة على الدين قال تعالى { وأن هذا صرا طي مستقيما فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }
__________
(1) - مدرج السالكين 3/37
(2) - جامع العلوم والحكم 2/ 396,397 ,399.(219/4)
فالمتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو المتبع له والمتبع للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم هوا لمحب له , لا العكس . فمن أو جب الواجبات طاعة الله تعالى بمحبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم , وطاعة الرسول بمحبة صحابته وأهل بيته .
ففي هذا البحث سأذكر إن شاء الله أدلة وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته الكرام وأهل بيته الأخيار , وبعض ما يتعلق به وقد جعلت هذا البحث خمسة فصول :
الفصل الأول : وجوب محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والثاني : وجوب محبة الصحابة
والثالث تحريم سب الصحابة
والرابع : وجوب محبة أهل البيت
والخامس وجوب التوسط في محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -وصحابته وقرابته أهل بيته .
فالله أسال أن ينفع بهذا الكتاب وأن يجعله في ميزان حسناتي , والحمد لله ري العالمين .
كتبه
يحي بن محمد ين القاسم الديلمي أبوعبد الله
تعريف المحبة لغة واصطلاحا
المحبة لغة : نقيض البغض قال الخليل بن أحمد الفراهيدي : " أحببته نقيض أبغضته(1) "
وقال الراغب : حببت فلانا يقال في الأصل بمعنى أحببت حبه قلبه نحوا شغفته وكبد ته وفأدته . وأحببت فلانا جعلت قلبي معرضا لحبه (2)"
واصطلاحا :
إرادة ما تراه أو تظنه خيرا , وهي على ثلاثة أوجه :
محبة لذة , كمحبة الرجل زوجته , ومنه : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا } سورة الإنسان آية : 8 .
ومحبة للنفع , كمحبة شيء ينتفع به , ومنه { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب } سورة الصف آية : 13 .
ومحبة للفضل , كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض ؛ لأجل العلم (3).
قال ابن القيم رحمه الله : لاتحد المحبة بحد أو ضح منها ولا توصف المحبة يوصف أظهر من المحبة (4)"
__________
(1) - معجم العين 3/31
(2) - المفردات ص 150
(3) - المفردات في غريب القرآن للراغب مادة (حب) ص 214بتحقيق صفوان دا وودي .
(4) - المدارج 3/9(219/5)
وسئل ريم عن المحبة فقال : الموافقة في جميع الأحوال وأنشد :
ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة * وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا
وقال بعضهم :
إن هواك الذي يقلبني * صيرني سامعا مطيعا
أخذت قلبي وغمض عيني * سلبتني النوم والهجوعا
فذر فؤادي وخذ رقادي * فقال لا بل هما جميعا .(1).
الفصل الأول : وجوب محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
لاشك أن من أحب الله محبة صحيحة أحب رسوله ًًًصلى الله عليه وآله وسلم , الذي هو سبب هدايتنا وخير الناس نفسا ونسبا وبيتا , وسيد المؤمنين وإمام المتقين وخاتم الأنبياء والمرسلين , صاحب الأسماء الحميدة المتعددة والمنزلة الرفيعة , أكرم الأولين والآخرين على الله .
أعطي جوامع الكلم ومفاتيح الأرض ونصر بالرعب . لا يتمثل الشيطان بصورته , فضله ربه بالإسراء والمعراج وحرم عليه وعلى آله الصدقة , وأكرمه بالخلق العظيم والصدق والشيمة وقول الحق وسائر الصفات الحميدة ًًً, صلى الله عليه وآله وسلم
أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة , وصاحب لواء الحمد والكوثر والوسيلة والفضيلة والمقام المحمود والشفاعة العظمى يوم القيامة , من يتجلى له ربه قبل كل نبي , وأول من يؤذن له بالسجود واجتياز الصراط , أقرب الناس إلى الله مجلسا إذا اجتمعوا , وقائد الغر المحجلين وسائق الخلق إلى جنة الله رب العالمين .
فدلالة القرآن والسنة المطهرة على وجوب محبة الرسول ًًًصلى الله عليه وآله وسلم واضحة جلية .
فقد جعل الله محبته أعظم من محبة كل مخلوق , قال الله عز وجل : { قل إن كان آبائكم وأبنا ئكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومسا كن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } سورة التوبة آية 24
__________
(1) - كما في جامع العلوم والحكم جـ2 صـ 397(219/6)
قال القرطبي رحمه الله :" وفي الآيه وجوب على حب الله ورسوله ولاخلاف في ذلك بين الأمة , وإن ذلك مقدم على كل محبوب أهـ (1).
وقال القاضي عياض رحمه الله :" فكفى بهذا حضا وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها وا استحقاقه لها صلى الله عليه وآله وسلم إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأو عدهم بقوله تعالى : { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله 0 أهـ (2).
وقال الجزائري في تفسير هذه الآية فرضية محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله , ومحبة سائر محاب الله تعالى وكره سائر مكاره الله تعالى من العقائد والأحوال والأعمال والذوات والصفات ...(3)
وقد وصف الله عز وجل المؤمنين في كتابه الكريم بقوله : { والذين آمنوا أشد حبا لله } قال بعض المفسرين لأن الله أحبهم أولا ثم أحبوه ومن شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم فمن لوازم محبة الله تعالى أن نحب رسوله ومن لم يحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن محبا لله .قال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } سورة الأحزاب آية 6
وجاء في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ًًًصلى الله عليه وآله وسلم قال :" فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (4)"
وعنه أيضا رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين(5) "
__________
(1) - التفسير 8/95-96 .
(2) - الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 2/ 18
(3) - أيسر التفاسير 2/353 .
(4) - رواه البخاري 1/58 رقم 14 .
(5) - رواه البخاري 1/58رقم 15 ومسلم 2/14 رقم 44(219/7)
قال ابن بطال رحمه الله ومعنى الحديث من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين ؛ لأنه به صلى الله عليه وعلى آله وسلم استنقذنا من النار وهدانا من الضلال (1).
وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله لم يرد به حب الطبع , بل أراد حب الاختيار , لأن حب الإنسان نفسه طبع , ولاسبيل إلى قلبه , فمعناه : لاتصدق بي حتى تفدي في طاعتي نفسك وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلا كك أهـ (2). وروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" ثلاث من كن فبه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار(3) "
فمحبة الله عز وجل تتضمن محبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والدليل على ذلك قوله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } وقال تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } القصص 50 .
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "من أشد أمتي لي حبا ناس يكون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله (4)"
__________
(1) - نقلا عن شرح النووي على مسلم 2/14
(2) - شرح السنة 1/51 .
(3) - رواه البخاري 1/98 رقم 21 ومسلم 2/13 رقم 43 واللفظ للبخاري .
(4) - رواه أحمد 5/56 , 170 وأورده الألباني في الصحيحة برقم 1418 .(219/8)
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم لإيراني , ولأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله(1) " وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال لي يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين لي قلبه(2)"
ودليل صدق محبة الله اتباع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يتبع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اتباعا صحيحا إلامن أخلص وصدق في محبته لله ورسوله 0
قال ابن بطال : والقاضي عياض وغيرهما رحمة الله عليهم : المحبة ثلاثة أقسام محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد , ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد , ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصناف المحبة في محبته(3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده ،بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين (4) ).
فالواجب على المسلم أن يكون الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب إليه من نفسه بتحقيق لوازم المحبة من طاعة وإيثار وتسليم ورضا ولا يكفي مجرد التلفظ بها .
قال العلامة الألباني رحمه الله : أفلم يأني للذين يزعمون حبه في أحاديثهم وأناشيدهم أن يرجعوا إلى التمسك بالحب الصادق الموصل إلى الله تعالى(5) .
من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - الدالة على محبتهم للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم
لقد عظم الصحابة رضي الله عنهم رسول الله ًًصلى الله عليه وعلى آله وسلم تعظيما يليق به , وذلك التعظيم ناتج عن شدة محبتهم له ومحبتهم ناتجة عن معرفتهم بمنزلته .
__________
(1) - رواه مسلم 15/97 رقم 2364 عن أبي هريرة .
(2) - رواه أحمد 5/267 وهو في الصحيحة برقم 1095
(3) - نقلا عن شرح صحيح مسلم للنووي 2/14
(4) - الفتاوى 10/ 48.
(5) - الصحيحة 3/87 .(219/9)
*ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جلس على المنبر فقال إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده , فاختار ما عنده 0 فبكى أبو بكر وقال نفديك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا له وقال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يحدث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عبد خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده , فاختار ما عنده وهو يقول نفديك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو المخير وأبو بكر هو أعلمنا به(1).
*وعند وفاة الصديق رضي الله عنه قال أي يوم هذا قالوا يوم الاثنين قال فإن أنا مت من ليلتي فلا تنتظروا بي الغد فإن أحب الأيام والليالي إلي أقربها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (2).
*وقال عمر رضي الله عنه : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلامن نفسي فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال صلى الله عليه وآله وسلم : " الآن يا عمر(3)"
__________
(1) - رواه البخاري 7/287 رقم 3904
(2) - رواه أحمد 1/173 وصححه أحمد شاكر برقم 45
(3) - رواه 11/523 رقم6632(219/10)
وقد حرص عمر رضي الله عنه عند وفاته أن يدفن بجوار محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم لحديث عمرو بن ميمون أن *عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يا عبد الله بن عمر ! انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل : يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبه , فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قا عدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذنك أن يدفن مع صاحبه فقالت كنت أريده لنفسي ولأوثر نه به اليوم على نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء قال ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين فقال الحمد لله ما كان من شيء أهم إلي من ذلك .فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين (1)"0
*وقال أنس رضي الله عنه : ما رأيت يوما قط كان أحسن ولا أضوء من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم(2)" .
* وعنه أيضا رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال متى الساعة ؟ قال وما أعددت للساعة ؟ قال حب الله ورسوله قال فإنك مع من أحببت 0 قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنك مع من أحببت قال أنس فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم(3) "
__________
(1) - رواه البخاري 7/60-61 رقم 3700
(2) - رواه أحمد 3/240, 278 والدارمي 1/41 والبغوي في شرح السنة 4/50 رقم 3834 وصححه شعيب 0
(3) - رواه البخاري 10/677رقم 6171 *1667 و 6169و مسلم 16/53 رقم 2639 واللفظ له .(219/11)
*وعن ابن شماسة المهري قال حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت . فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول : يأبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكذا ؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكذا ؟ فأقبل بوجهه فقال : إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إني كنت على أطباق(1) ثلاث لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مني ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو بقيت على تلك الحال لدخلت النار فلما جعل الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت أبسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه قال فقبضت يدي .قال : "مالك يا عمرو؟ " قال قلت أردت أن أشترط .قال : "تشترط ماذا ؟" قلت : أن يغفر لي . قال : " أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله وأن الهجرة تهدم ما قبلها وأن الحج يهدم ما قبله ؟؟؟"وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت . لأني لم أكن أملأ عيني منه ...(2)"
*وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا رسول الله ! كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المرء مع من أحب (3)"
__________
(1) - أي على أحوال ثلاث لقوله تعالى لتركبن طبقا عن طبق
(2) - رواه مسلم 2/17-19 رقم 12.
(3) - رواه البخاري10/682 رقم6169 و مسلم 16/ 154 رقم 2640واللفظ للبخاري(219/12)
وهذا ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يقول : " كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي : " سل فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود (1)"
*وهذا معاذ رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله وعليه وسلم إلى اليمن خرج معه يوصيه فلما فر ع قال :- يامعاذ إنك عسى أن لاتلقاني بعد عامي هذا أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري فبكى معاذ جشعاً لفراق الرسول صلى الله وعليه وسلم ...(2)".
*ولما سئل زيد بن الدثتة رضي الله عنه حينما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه : أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك ؟ قال : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي 0فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا (3)"
قال شيخ الإسلام :فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب , وهو موافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض (4).
صور من أفعال الصحابة رضي الله عنهم الدالة على محبتهم للرسول صل الله عليه وآله وسلم
أخي المسلم الكريم قد عرفت شدة محبة الصحابة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أقوالهم وإليك بعض الصور الدالة على محبتهم له من أفعالهم :
__________
(1) - رواه مسلم 4/173 رقم 489 وهو في صحيح أبي داود للألباني 1/245 .
(2) - رواه أحمد (5/235) وصححه شيخنا في الصحيح المسند (2/202-203) والألباني في الصحيحة (2497)
(3) - انظر إن شئت البداية والنهاية 4/655 وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3/326 في أمر خبيب
(4) - مقتطفات من كتاب العبودية لشيخ الإسلام ص 39.(219/13)
الصورة الأولى : بكاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه خوفا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم روى الإمام أحمد في المسند بسنده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه قال : " قال أبو بكر ...فارتحلنا والقوم يطلبونا فلم يدركنا إلا سراقة بن ما لك بن جعشم على فرس له فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال لا تحزن إن الله معنا حتى إذا دمنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قال قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال لم تبكي قلت أما والله ! ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك قال فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال " اللهم اكفناه بما شئت فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد...(1)"
الصورة الثانية : قال أبو هريرة رضي الله عنه بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ قال : " بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر ؟ فقالوا لعمر .فذكرت غيرته , فوليت مدبرا " فبكى عمر وقال أعليك أغار يا رسول الله (2)!.
__________
(1) - رواه أحمد 1 /155 وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر برقم 3
(2) - رواه البخاري 7/50 رقم 3680 .(219/14)
الصور الثالثة : أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"قال فبات الناس يدو كون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال " أين علي بن أبي طالب " فقيل هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال: "فأرسلوا إليه" فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال علي : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال : " انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوا الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم (1)" فطاعة الإمام علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعلته يشهد له بأنه يحب الله ورسوله .
__________
(1) - رواه البخاري 7/605 رقم الحديث 4210 , 4209,3711 ,3702 وأخرجه مسلم 15/144 رقم الحديث 2406 , 2405, 2407).(219/15)
الصورة الرابعة : عن أبي كثير قال : حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال : ما خلق الله عز وجل مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني , فقلت وما علمت بذلك يا أبا هريرة ؟ قال إن أمي كانت مشركة وإني كنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى علي . فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أكره , فأتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا أبكي فقلت : يا رسول الله ! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فكانت تأبى علي وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره فادع الله عز وجل أن يهدي أم أبي هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " اللهم اهد أم أبي هريرة " فخرجت أعدو لأبشرها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما أتيت الباب إذا هو مجاف وسمعت خضخضة الماء وسمعت خشخشة رجل فقالت : يا أبا هريرة ! ََكما أنت . ثم فتحت الباب وقد لبست درعها وعجلت عن خمارها فقالت : إني أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله .
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن , فقلت :يا رسول الله ! أبشر , فقد استجاب الله دعاءك , وقد هدى أم أبي هريرة وقلت : يا رسول الله ! ادع الله لي أن يحببني وأمي إلى عباد الله المؤمنين , ويحببهم إلينا فقال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" اللهم حبب عبيدك هذا إلى عبادك المؤمنين " فما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني (1)" .
__________
(1) - رواه مسلم / رقم 2491 وأحمد 2/320 والبغوي في شرح السنة 13/307 ..(219/16)
الصورة الخامسة : لما حرم الخمر قال أنس بن مالك رضي الله عنه ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه فضيخ ,فإني لقائم أسقي أباطلحة وفلانا إذ جاء رجل فقال وهل بلغكم الخبر ؟ فقالوا : وما ذاك قال :حرمت الخمر ة قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس قال :فما سألوا عنها ولارجعوا بعد خبر الرجل (1)"
الصورة السادسة : لما حرم الله أكل لحوم الحمر الأهلية قال أنس بن مالك رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاءه جاء فقال أكلت الحمر ثم جاءه جاء فقال أفنيت الخمر فأمر مناديا فنادى في الناس إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس فأكفئت القدور وإنها لتفور باللحم (2)"
الصورة السابعة : لما أنزل الله أمره في القرآن بتحويل القبلة , توجه الصحابة نحو الكعبة وهم في الصلاة ؛
قال البراء بن عازب رضي الله عنه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا , وكان يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها } فوجه نحو الكعبة ,وصلى معه رجل العصر ثم خرج فمر على قوم من الأنصار فقال هو يشهد أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه قد وجه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر (3)"
__________
(1) - روه البخاري 8/ 352 رقم 4617و 1464 و مسلم 13/126 رقم 1980
(2) - رواه البخاري 9/815 رقم .5528 .
(3) - رواه البخاري 13/288رقم 7252(219/17)
الصورة الثامنة : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاتما من ذهب في يد رجل , نزعه فطرحه وقال : " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده " فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خذ خاتمك انتفع به قال : لا , والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (1)"
الصورة التاسعة : لما أنزل الله أية لحجاب قالت عائشة رضي الله عنها يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله
{ وليضربن بخمرهن على جيوبهن } شققن مرطهن فاختمرن بها (2)" وقالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت { يدنين عليهن من جلابيبهم } خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكيسة(3) "
الصورة العاشرة : فرح أهل المدينة بقدوم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال البراء بن عازب رضي الله عنهما أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانوا يقرئون الناس فقدم بلال وسعد وعما بن ياسر وعمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم0(4)"
من علا مات محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
اعلم أن لمحبة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم علامات وهذه العلامات برهان على صدق المحب له فالمحبة اعتقاد وفعل قال تعالى: { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } , فما على المؤمن إلا أن يسعى إلى فعل ما يرفع منزلته عند الله ويزيد في إيمانه وتقواه , وهذه بعض علامات محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
__________
(1) - رواه مسلم 4/56 رقم (2090 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) - رواه البخاري 8/ 626 رقم 4758 وأبو داود برقم 4102
(3) - رواه أبو داود برقم 4/61رقم 4101وهو في صحيح أبي داود للألباني .
(4) - روه البخاري 7/330 رقم 3925(219/18)
1- طاعته واتباعه ظاهرا وباطنا وامتثال أمره واجتناب نهيه والاقتداء به والتحاكم إليه والتسليم له
قال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } سورة آل عمران وقال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } سورة الحشر وقال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } سورة النساء .
وقال تعالى { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر } سورة الأحزاب .
قال القاضي عياض رحمه الله : " اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر مواقفه ؛ وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا , فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من تظهر علامة ذلك عليه , وأولها الاقتداء به واستعمال سنته, واتباع أقواله وأفعاله , وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وشاهد ذلك قوله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (1)"
وقال العيني : " واعلم أن محبة الرسول عليه السلام إرادة طاعته , وترك مخالفته , وهي من واجبات الإسلام (2)" .
فليس حب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالاحتفالات بمولده ويوم الإسراء والمعرج به ويوم هجرته وإلقاء القصائد في مدحه . وإنما بمتابعته وطاعته والتمسك بدينه ونشر شريعته . وكلما كانت المحبة أشد كانت الطاعة أتم وأفضل .
__________
(1) - الشفا2/24
(2) - عمدة القاري 1/144(219/19)
وقال العلامة الألباني رحمه الله : وليس ذلك إلا بإخلاص الاتباع له صلى الله عليه وعلى آله وسلم دون سواه من البشر , لأن الله تعالى جعل ذلك وحده دليلا على حبه عز وجل فقال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } أفلم يأن للذين يزعمون حبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أحاديثهم وأنا شيدهم , أن يرجعوا إلى التمسك بهذا الحب الصادق الموصل إلى حب الله ولا يكونوا كالذي قال فيه الشاعر :
تعصي الإله وأنت تزعم حبه * هذا لعمرك في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحب مطيع (1).
2- تمني رؤيته ولقائه :
فلما سمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة , إليهم فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه , حتى يردهم حر الظهيرة , فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم , فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه , فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب , فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب , هذا جدكم الذي تنتظرون .فثار المسلمون إلى السلاح , فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بظهر الحرة , فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول ...)- وكان يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو ينقل اللبن التي صنع لبناء المسجد بعد وصوله المدينة -:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجرة (2)"
__________
(1) - كما في نظم الفرائد مما في سلسلتي الألباني من فوائد 2/41
(2) - رواه البخاري 7/302-304 رقم 3906(219/20)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وإنك لأحب إلي من أهلي ومالي وأحب إلي من ولدي وإني أكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت إنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية { ومن يطع الرسول فألئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين (1) }
ولقد كان الأشعريون يتمنون رؤيته صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند قدومهم المدينة حتى أنهم كانوا يرتجزون ويقولون :
غدا نلقى الأحبة * محمدا وصحبه
3- محبة من أحب وبغض من أبغض
فقد كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحب علي وفاطمة , والحسن , والحسين , وسائر أهل البيت النبوي المبارك , وجميع الصحابة رضي الله عنهم . فكان علي رضي الله عنه أحب رجال بني هاشم إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
لحديث بريدة رضي الله عنه قال كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "فاطمة ومن الرجال علي قال إبراهيم بن سعيد الجوهري بعد أن روى الحديث : " يعني من أهل بيته (2)".
وقال زيد بن جحش : قال : علي والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلي ( أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق . (3)"
__________
(1) - رواه الطبراني في الصغير 1/26 وهو في الصحيح المسند من أسباب النزول لشيخنا الو ادعي رحمه الله ص 80 .
(2) - رواه الترمذي 1/370 وصححه شيخنا الو ادعي في صعقة الزلزال 2/193)
(3) - رواه مسلم في كتاب الإيمان 2/57 برقم 78 وأحمد 1/84وفي الفضائل948 و النسائي في الكبرى 7/312 رقم 8097 )(219/21)
قال أهل العلم المراد بقوله : صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يحبه إلا مؤمن أي الحب الشرعي أما حب الرفض المزعوم وغيرهم من أهل الأهواء فلا عبرة به بل هو وبال على أصحابه فقد زعم النصارى حب المسيح ابن مريم عليه السلام فمحبة علي رضي الله عنه علامة على إيمان المحب له إن كانت محبة شرعية وعداوته أمارة على النفاق أعاذنا الله من النفاق وأهله .
أما الحسن والحسين رضي الله عنهما فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر أنه كان يحبهما ويحب من يحبهما ويدعو الله أن يحبهما ويدعو لمن يحبهما : لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع حتى أتى خباء فاطمة فقال أثم لكع أثم لكع يعني حسنا فظننا أنه إنما تحبسه أمه لأن تغسله وتلبسه ثيابا فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه(1)"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو حامل الحسن بن علي وهو يقول " اللهم إني أحبه فأحبه(2) "
وروى الإمام أحمد بإسناده عن عطاء أن رجلا أخبره أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يضم حسنا وحسينا يقول اللهم إني أحبهما فأحبهما(3)"
__________
(1) - رواه البخاري 4/426 رقم الحديث 2122 ومسلم 15/156 رقم 242 واللفظ له
(2) - رواه البخاري 7/119 رقم 3749عن البراء ومسلم 15/ 157 رقم 2422
(3) - المسند5/369 وقال شعيب إسناده صحيح برقم 23133 وجاء عند أحمد أيضا 2/446 من حديث أبي هريرة قال شعيب قوي 9759 وأخرجه الترمذي 10/285 برقم 3871 , وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح 4/64)(219/22)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني : يعني حسنا وحسينا(1)"
وعن عبد الله- يعني ابن مسعود - قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما فإذا قضى الصلاة وضعهما في حجره وقال :"من أحبني فليحب هذين(2)"
وعن زهير الأرقم قال: بينما الحسن يخطب بعد ما قتل علي رضي الله عنه إذ قام رجل من الأزد طوال فقال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واضعه في حبوته يقول" من أحبني فليحبه" وليبلغ الشاهد الغائب ولولا عزمة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما حدثتكم(3)"
وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم اللهم أنتم من أحب الناس إلي قالها ثلاث مرات(4) "
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار , ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار (5)"
__________
(1) - رواه أحمد2/288 وقال شعيب إسناده قوي برقم 7876 وهو في كتاب الفضائل لأحمد 2/967 رقم1359 وأخرجه الحاكم 3/166 وصححه ووافقه الذهبي ورواه النسائي في الكبرى 5/49 رقم 8168 والطبراني في الكبير 3/48 رقم 2647 وابن ماجة 1/51 رقم 143
(2) - رواه أبو يعلى 8/434 وحسنه حسين سليم أسد وأخرجه ابن حبان 7/188 رقم 2233موارد والطبراني في الكبير 3/47 رقم 2644والنسائي في الكبرى 5/50 رقم 8170 وحسنه شيخنا الو ادعي في الجامع الصحيح 4/61)
(3) - رواه أحمد 5/ 366وصحح إسناده شعيب برقم 23106 وشيخنا الو ادعي في صعقة الزلزال 2/202)
(4) - رواه البخاري 7/143 رقم 3785 عن أنس
(5) - رواه البخاري 7/140 رقم 3779 عن أبي هريرة(219/23)
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله (1)"وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار (2)"
وأما بغض من أبغضه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيجب بغض الكفار والمشركين والملحدين ويدخل معهم في البغض الدعاة إلى البدع والمخالفين لهدي سيد المرسلين . قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.. } سورة المجادلة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فإن الرسول لا يأمر إلا بما يحبه الله ولا ينهى إلا عما يبغضه الله , ولا يفعل إلا ما يحبه الله ولا يخبر إلا بما يحب الله التصديق به, فمن كان محبا لله لزم أن يتبع الرسول , فيصدقه فيما أخبر,ويطيعه فيما أمر , ويتأسى به فيما فعل , ومن فعل هذا, فقد فعل ما يحبه الله فيحبه الله (3)"
4- حب القرآن الكريم والسنة المطهرة والنصح لهما
إن مواقف الصحابة الكرام رضي الله عنهم لتؤكد حرصهم الشديد على محبتهم للقرآن والسنة من خلال جمعهم للقرآن وعنايتهم به , ونشر هم الكتاب والسنة والدعوة إليهما والدفاع عنهما . فقد ضرب بهم المثل في طاعتهم للنبي وفي ولائهم وبرائهم وسائر أعمالهم رضي الله عنهم .
__________
(1) - رواه البخاري 7/142 رقم 3783 عن البراء
(2) - رواه البخاري 7/142 رقم 3784
(3) - مقتطفات من كتاب العبودية ص 37- 38(219/24)
قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم من سره أن يحب الله فليقرأ في المصحف(1) .
وقالت عائشة وهي تصف خلق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فإن خلق نبي الله كان القرآن (2)"
قال القاضي عياض وحبه للقرآن تلا وته والعمل به وتفهمه ...قال سهل بن عبد الله علامة حب الله تلاوة القرآن وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحب السنة (3) ".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : " إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بقل هو الله أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : " سلوه لأي شيء يصنع ذلك فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبروه أن الله يحبه (4)"
وقد أحسن من قال : إن كنت تزعم حبي * فلم جفوت كلامي
أما تأملت ما فيـ* ـه من لطيف خطابي
فمن هجر القرآن كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خصمه يوم القيامة قال تعالى : { وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا }
5- الإكثار من ذكره صلى الله عليه وعلى آله وسلم
إن المحب لا يستطيع أن ينسى محبوبه لأن قلبه مولع به فلا يرتاح إلا إذا عبر اللسان عما في القلب فلا أشهى له من ذكر أوصاف المحبوب ولا أحب إليه من لقائه .
__________
(1) - الحديث حسنه الشيخ سليم الهلالي في كتابه حلاوة الإيمان وعزاه إلى الحلية لأبي نعيم 7/209 وابن عدي في الكامل 2/855من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
(2) - رواه مسلم 5/23 رقم 746
(3) - الشفا2/28 .
(4) - رواه البخاري 13/31 رقم 7375 ومسلم 6/83رقم 813(219/25)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : " كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه ؛ يضاعف حبه له , وزاد شوقه إليه , واستولى على جميع قلبه . وإذا أعرض عن ذكره وإحضاره وإحضار محاسنه بقلبه ؛ نقص حبه من قلبه ؛ ولا شيء أقر لعين العبد المحب من رؤية محبوبه , ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه , وإذا قوي هذا في قلبه ؛ جرى لسانه بمدحه بحسب زيادة الحب ونقصانه (1)".
وقال أيضا رحمه الله : فمن أحب شيئا أكثر من ذكره بقلبه ولسانه ...وكما أن الذكر من نتائج الحب فالحب أيضا من نتائج الذكر , فكل منهما يثمر الآخر , وزرع المحبة إنما يسقى بماء الذكر وأفضل الذكر ما صدر عن المحبة (2)" أهـ .
ولا يكون الإكثار من ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأمور مبتدعة كطريقة الصوفية والشيعة ومن تبعهم الذين أكثروا من البدع والحظرات التي تشتمل على الألفاظ الشركية , وتضرب لها الدفوف في المساجد والمجالس والشوارع .
وقد جاءت الأدلة المتكاثرة التي تحث المسلم على كثرة ذكر الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصلاة عليه , والدعاء له بسكينة وخشوع وشوق ومحبة , لا ما يفعله أشباه المجانين من رفع الأصوات بأذكار مبتدعة وهز رؤوس ورقص .
وما أحسن قول الصرصري : من لم يصل عليه إذ ذكر اسمه * فهو البخيل وزده وصف جبان
وإذا الفتى في العمر صلى مرة * في سائر الأقطار والبلدان
صلى عليه الله عشرا فليزد * عبد ولا يجنح إلى النقصان
وقال آخر : ألا يا محب المصطفى زد صبابة * وضمخ لسان الذكر منك بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنما * علامة حب الله حب حبيبه
6- محاربة البدع والأهواء وأهلهما
__________
(1) - جلاء الأفهام ص 616 تعليق مشهور بن حسن
(2) - روضة المحبين ص(219/26)
فإن المسلم الغيور على دينه الحريص عليه إذا رأى من يحرف الدين أو يتعبد الله بالبدع أو يدعو الناس إليها , قام بمحاربة البدع ومن جاء بها والتحذير منها وممن جاء بها , امتثالا لقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1)" وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ..." فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي...(2)"
قال القاضي عياض رحمه الله في الشفاء : ومحبته نصرة سنته والذب عن شريعته وماله دونه وإذا تحقق ما ذكر تبين أن حقيقة الإيمان لايتم إلابذالك ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل 0 ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن 0 أهـ
الفصل الثاني : وجوب محبة الصحابة - رضي الله عنهم -
بعد أن عرفنا ما أوجب الله علينا من المحبة لرسولنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم نتعرف في هذا الفصل على وجوب محبة صحابة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومنزلتهم الرفيعة الذين آووه ونصروه وبذلوا الغالي والنفيس من أجل هذا الدين العظيم . فهم وزراء النبي وحملة رسالته فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب عليه أن يحب أصحابه إذ أن محبته الصحيحة لا تتم إلا بمحبتهم رضي الله عنهم فمكانتهم عالية في قلوب المؤمنين وأهل الفضل والدين .
والصحابي هو : من لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام .
__________
(1) - رواه مسلم / وأبو داود رقم 1140 وابن ماجة رقم 1275 وأحمد 3/10 , 20, 49 , 52 ,53 , عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) - سبق تخريجه(219/27)
فخرج بذلك من ارتد عن الإسلام من الأعراب والمنافقين ومات على الردة قال تعالى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [سورة التوبة آية 101. ففي الآية وفي تعريف أهل العلم للصحابي رد على الرافضة الذين يكفرون الصحابة.لأن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم , فحملها على الصحابة تبديل للدين .
وقد تقدم بيان محبة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم , وهذه بعض الأدلة الدالة على مكانة الصحابة عند الله وعند رسوله ومنزلتهم الرفيعة التي توجب علينا محبتهم و تعظيمهم واحترامهم والترضي عنهم والوقوف في نحر من أبغضهم أو استنقصهم . لعل الله يهدي بها من تدنست فطرتهم بالرفض الذين يعيبون علينا حبنا للصحابة رضي الله عنهم فأقول :
كيف لا أحب من شهد الله لهم بالإيمان وحببه إليهم فقال : { وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ } سورة الحجرات آية :7 .(219/28)
وقال تعالى : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ } سورة الأنفال لآية : 62-65 .
وقال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } سورة آل عمران آية : 121-126 .
وقال تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } سورة الأنفال آية :12 .(219/29)
وقال تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سورة الأنفال آية : 17 .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } سورة الأنفال آية : 74 .
وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } سورة الفتح آية 4 .
وقال تعالى : { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } سورة التحريم آية : 8 .
كيف لا تجب محبة من وصفوا بالشدة والغلظة على الكفار وبالرحمة للمؤمنين ووصفوا بالأعمال الصالحة ,
وأغاظ الله بهم الكفرة المجرمين .
قال تعالى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } سورة الفتح آية : 29 .(219/30)
كيف لا تجب محبة من زكاهم الله ووصفهم بالصد ق وسلامة الصدور ونصرة الله ورسوله وجعلهم أهل فضل وفلاح , فقال { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } سورة الحشر آية : 8-10وقال تعالى { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } سورة الزمر آية : 33.
وكيف لا تجب محبة من رضي الله عنهم قال تعالى { : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } سورة التوبة آية : 100
وقال تعالى : { رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشيي ربه } سورة البينة
وقال تعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبا } سورة الفتح آية : 18 .(219/31)
وكيف لا تجب محبتهم وقد بذلوا أنفسهم وأموالهم وكل غالي ونفيس من أجل نصر دين الله رب العالمين
قال العلا مة ابن القيم رحمه الله "...حكم الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أنفسهم وأموالهم : فقالوا : هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بماشئت وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت البحر لخضناه, نقاتل بين يديك وعن شمالك .(1)0
وكيف لا تجب محبة أهل الوسطية والعدل قال الله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا... } البقرة 143
فهم داخلون في هذه الآية دخولا أوليا .
قال ابن القيم رحمه الله : ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارا عدولا , هذا حقيقة الوسط ,فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونياتهم , وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة , والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم , فهم شهداؤه , ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم (2).
وكيف لا تجب محبة من وصفهم الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالخيرية فقال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } آل عمران 110
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى : وهذا اللفظ وإن كان عاما فالمراد به الخاص وقيل هو وارد في الصحابة (3) .
وقال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4)"
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمراد أصحابه ).
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنتم خير أهل الأرض (5)"
وكيف لا تجب محبة من اصطفاهم الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم
__________
(1) - روضة المحبين ص 277
(2) - إعلام الموقعين4/133
(3) - الكفاية ص 94 .
(4) - رواه البخاري7/3رقم 3651 ومسلم 16/70 رقم 2533
(5) - رواه البخاري 7/562 رقم 4154(219/32)
قال تعال : { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } سورة النمل آية :59 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : قال طائفة من السلف : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } سورة فاطر آية : 32-35 . فأمة محمد الذين أوتوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم : اليهود والنصارى , وقد أخبر الله أنهم الذين اصطفى . وتواتر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم خير القرون الذين بعث فيهم , ثم الذين يلونهم , ثم الذين يلونهم , ومحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله (1).أهـ
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : "إن الله نظر إلى قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته , ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد , فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه (2)"
__________
(1) - منهاج السنة النبوية 1/35 .
(2) - رواه أحمد 1/379 وفي الفضائل 541 والطبراني 8582 و8583 و8593 و والبغوي في شرح السنة 1/214-215 1057
وقال شعيب في تحقيق شرح الطحاوية 2/696 سنده حسن(219/33)
وكيف لا تجب محبة من أحبهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بحبهم ودعا لهم وأوصى بهم خيرا وأخبر أن الله قد غفر لهم .فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "اللهم أنتم من أحب الناس إلي قالها ثلاث مرات(1) "
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار , ولولا الهجرة لكنت امرءأ من الأنصار (2)"
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله (3)"
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار (4)"
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله واليوم الآخر (5)" .
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يوصي بالأتصار : " أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي , وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم , وتجاوزوا عن مسيئهم (6)"
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم يا بن الخطاب وما يدريك لعل الله اطلع على أهل العصابة من أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم (7)"
__________
(1) - رواه البخاري 7/143 رقم 3785 عن أنس .
(2) - رواه البخاري 7/140 رقم 3779 عن أبي هريرة .
(3) - رواه البخاري 7/142 رقم 3783 عن البراء وأحمد 2/ 527 عن أبي هريرة .
(4) - رواه البخاري 7/142 رقم 3784 .
(5) - رواه الترمذي 10/ 407 تحفة وابن أبي شيبة في مصنفه 12/163 وهو في الجامع الصحيح لشيخنا الو ادعي رحمه الله 4/10, 11
(6) - رواه البخاري 7/152 رقم 3799 عن أنس .
(7) - رواه البزار في كشف الأستار 3/255 وغيره وحسنه شيخنا الو ادعي في الجامع 4/20(219/34)
وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني , والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحبني , والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحب من صاحب من صاحبني (1)" .
وكيف لا أحب من أخبر الله تعالى بتوبته عليهم ومغفرته لهم فقال : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } التوبة آية : 117.
قال الجصاص :...فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بوطن ضمائرهم وطهارتهم لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والسابين لهم إلى غير ما نسهبم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم (2) أهـ .
وما ذكرت من الأدلة على وجوب محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا غيضا من فيض فلم أقصد الاستيعاب وإنما الشاهد منها على وجوب محبتهم رضي الله عنهم .
جميع الصحابةرضي الله عنهم مبشرون بالجنة
قال تعالى { : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
__________
(1) - رواه ابن أبي عاصم في السنة 2/630 وهو في الجامع الصحيح لشيخنا الو ادعي 4/7 رحمه الله تعالى .
(2) - أحكام القرآن للجصاص 3/160 .(219/35)
وقال تعالى : { لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ أعد الله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } التوبة 88-89
وقال تعالى { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير } سورة ٌ الحديد آية : 10 ]
وقال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } سورة التوبة آية :20-21
أمهات المؤمنين رضي الله عنهن في الجنة
قال تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } الأحزاب
وممن ذكرن في السنة :
خديجة رضي الله عنها في الجنة :لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال أتى جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني , وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب (1)"
عائشة رضي الله عنها في الجنة: قالت قلت يا رسول الله ممن أزواجك في الجنة ؟ قال أما أنك منهن قالت فخيل لي أن ذلك أنه لم يتزوج بكرا غيري (2)".
__________
(1) - رواه البخاري 7/167 رقم الحديث 3820 ومسلم 15/162 برقم 2432 .
(2) - رواه الحاكم 4/13 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي(219/36)
حفصة رضي الله عنها في الجنة : لحديث قيس بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلق حفصة تطليقة فأتاها خالاها قدامة وعثمان أبناء مظعون , فقالت والله ما طلقني عن شبع فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل فتجلببت فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاني جبريل عليه السلام فقال:راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة (1)"
زينب بنت جحش رضي الله عنها في الجنة:لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا "قالت فكانت أطولنا يدا زينب ؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق (2)"
أولاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الجنة :قال تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم }
فلما مات إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " إن له مرضعا في الجنه(3)"
وعن عمرو بن سعيد.."إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي وإن له لظئرين تكملا ن رضاعته في الجنة(4)"
قال الحافظ رحمه الله : والمعنى تكمل رضاعه لأنه لما مات كان ابن ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا على اختلاف الروايتين(5).
وقال النووي : فترضعانه بقية السنتين فإنه تمام الرضاعة يتضمن القرآن قال صاحب التحرير وهذا الإتمام لإرضاع إبراهيم رضي الله عنه يكون عقب موته فيدخل الجنة متصلا بموته فيتم فيها رضاعه كرامة له ولأبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم .أ.هـ(6) .
__________
(1) - رواه الطبراني في الكبير 18/365 برقم 934 والحاكم 4/15 وأورده الهيثمي في المجمع 9/245 وقال رجله رجال الصحيح .
(2) - رواه مسلم 16/8 والحاكم 4/25
(3) - رواه البخاري 10/706 رقم الحديث 61955 وأحمد 4/300,302.عن البراء بن عازب رضي الله عنه .
(4) - رواه مسلم 15/161 رقم الحديث 2316.
(5) - الفتح 10/708
(6) - شرح النووي على مسلم 15/62(219/37)
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاطمة رضي الله عنها عند موته :" أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنه أو نساء المؤمنين فضحكت (1) "
وعن حذ يفة بن اليمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلم علي لم ينزل قبلها فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنه(2)"
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنه(3)"
__________
(1) - ( رواه البخاري 6/779 رقم الحديث 3623- 3624 .عائشة رضي الله عنها
(2) - ( رواه الحاكم 3/151 وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه الترمذي 10/284 رقم 3870 تحفة وأحمد 5/391وصحح إسناده شعيب برقم 23329 وابن أبي شيبة في مصنفه برقم 12321 وحسنه شيخنا الو ادعي في الجامع الصحيح 4/129)
(3) - رواه احمد 3/3 وقال شعيب إسناده صحيح 10999برقم وأخرج الحديث أيضا الحاكم 3/167 وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه الترمذي 5/
614برقم 3768 وقال حسن صحيح وأبو يعلى 2/395 وقال الألباني في الصحيحة 1/423 برقم 796 حسن صحيح وقد ورد هذا الحديثعن عدة من الصحابة)(219/38)
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال سألتني أمي منذ متى عهدك بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال فقلت لها منذ كذا وكذا قال فنالت مني وسبتني قال فقلت لها دعيني فإني آتي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأصلي معه المغرب ثم لا أدعه حتى يستغفر لي قال فأتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فصليت معه المغرب فصلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم العشاء ثم انفتل فتبعته فعرض له عارض ناجاه ثم ذهب فتبعته فسمع صوتي فقال من هذا فقلت حذيفة قال مالك فحدثته بالأمر فقال غفر الله لك ولأمك ثم قال أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل ؟ قال قلت بلى قال فهو ملك من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة فاستأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنهم(1) "
الصحابة العشرة في الجنة :
لحديث سعيد بن زيد رضي الله عنه قال : أشهد على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما سمعت أذناي ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعلي في الجنة وعثمان في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن في الجنة وسعد في الجنة وتاسع المؤمنين في الجنة " لوشئت أن أسميه لسميته . قال فضج أهل المسجد يناشدونه : يا صاحب رسول الله : من التاسع ؟ قال ناشدتموني بالله , والله العظيم أنا تاسع المؤمنين , ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العاشر . ثم أتبع ذلك يمينا , قال : والله لمشهد شهده رجل يغبر فيه وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أفضل من عمل أحدكم ولو عمر عمر نوح عليه السلام(2)
__________
(1) - (رواه الترمذي 5/619برقم 3781 والحاكم مختصرا 3/151 وابن حبان 7/181 برقم 2229 موارد وفي الإحسان برقم 6921 وحسنه مصطفى العدوي ص258 ) .
(2) - رواه أحمد 1/187,193 وأبو داود 4649 و4650 والترمذي 3511 والطيالسي 2521.(219/39)
"
وقد جمعهم بعض الشعراء في بيتين من الشعر فقال :
للمصفى خير صحب نص أنهم * في جنة الخلد نصاً زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير مع * أبي عبيدة والسعدين والخلفاء
أهل بيعة العقبة في الجنة :
دليل ذلك حديث جابر رضي الله عنه قال : مكث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم , عكاظ ومجنة , وفي المواسم يقول :" من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟" فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره , حتى أن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون : احذر غلام قريش لا يفتنك . ويمضي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع .حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه , فيخرج الجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه, حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام . ثم أتمروا جميعا فقلنا : حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يطوف ويطرد من جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة , فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا . فقلنا يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال تتابعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل , والنفقة في العسر واليسر , وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم , وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة " فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة(1)"
أهل بدر والحديبية في الجنة :
قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لن يلج النار أحد شهد بدر والحديبية(2) "
أهل بيعة الرضوان في الجنة :
__________
(1) - رواه أحمد 3/322,323 ,339 وغيره
(2) - رواه البزار في كشف الأستار 3/278 وصححه الشيخ في الجامع 4/287(219/40)
قال تعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبا } سورة الفتح آية : 18 .
وقال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد (1)"
وجوب اتباع الصحابة والاقتداء بهم رضي الله عنهم بإحسان
تقدم ذكر بعض ما أعد الله للصحابة من الجنة والرضوان والفضل العظيم وفي ذلك دليل على إمامتهم في الدين ووجوب الاقتداء بهم . قال الإمام الشوكاني رحمه الله : ( ومعنى الاقتداء بالصحابة العمل بالشريعة التي تلقوها عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخذوها عنه , فمن اقتدى بواحد منهم فيما يرويه منها عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد اهتدى ورشد ودخل الشريعة من الباب الذي يدخل إليها منه . وليس المراد الاقتداء به في رأيه فإنهم رضي الله عنهم لا رأي لهم يخالف ما بلغهم من الشريعة قط (2) ) .
ولقد افتدى التابعون ومن بعدهم بالصحابة رضي الله عنهم لاقتدائهم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأحبوهم ووقروهم ورفعوا شأنهم كما فرض الله ورسوله على المسلمين , دون غلو أو جفاء ؛ ومن لم يقتد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعل ما يوجب له السخط والعذاب من الله تعالى .
قال رب العزة في كتابه الكريم : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } سورة النساء آية : 115]
قال الإمام الشوكاني رحمه الله في قوله تعالى : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } أي غير طريقهم وهوعلى ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه (3).)
__________
(1) - رواه البخاري في المغازي 8/325 ومسلم 16/48رقم 2496)
(2) - قطر الولي ص 336 .
(3) - فتح القدير 1/115(219/41)
وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات أولئك لهم عذاب عظيم } سورة آل عمران آية :105]وقال تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } سورة الأنعام آية 159]وقال تعالى { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق } سورة البقرة آية : 137]
وقال تعالى : { واتبع سبيل من أناب إلي } [سورة لقمان آية : 15]
وقال تعالى : { ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } [سورة آل عمران آية :101]
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [ سورة التوبة آية :119]
وقال تعالى : { هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } [سورة الجمعة آية :2]
وقال تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [سورة السجدة آية: 24]
وقد استدل الإمام ابن القيم رحمه الله بهذه الآيات على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم :
*ففال عن آية النساء : والآية قرنت بين مشاقة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين في استحقاق الإضلال وصلي جهنم .
* وقال عن آية البقرة : فالآية جعلت إيمان الصحابة ميزان للتفريق بين الهداية والشقاق والحق والباطل . ووجه الدلالة : أن اتباع الصحابة في الإيمان هو مناط الهداية , والعاصم من الشقاق والضلال , وهو يشمل اتباعهم في اعتقادهم وأقوالهم وأعمالهم , وطلب الهداية والإيمان أعظم الفرائض , واحتناب الشقاق والضلال من كليات الواجبات , فدل على أن اتباع الصحابة من أوجب الواجبات .
*وقال عن آية آل عمران : الصحابة رضوان الله عليهم معتصمون بالله فهم مهتدون , فاتباعهم واجب .
*وقال عن آية لقمان : وكل من الصحابة منيب إلى الله ؛ فيجب اتباع سبيله , وأقواله واعتقاداته من أكبر سبيله .(219/42)
*وقال عن آية التوبة : ولا ريب أنهم أئمة الصادقين , وكل صادق بعدهم فبهم يأتم في صدقه , بل حقيقة صدقه اتباعه لهم وكونه معهم .
*وقال عن آية الجمعة :فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث مربيا ومعلما للكتاب وللسنة , وهذا من أعظم مقاصد الرسالة والنبوة , والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما علم جيل الصحابة , ومن بعدهم تلقى العلم عن طريقهم , وقد علم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه الكتاب بنصوصه ومعانيه , وقواعده وضوابطه , كما علمهم السنة أتم تعليم وأكمله , ولم يشاركهم أحد في التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن ثم فلا يماثلهم أحد في كمال علمهم وفهمهم ؛ لأن من تلقى عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعلم على يديه ليس كمثل من تلقى عن غيره , إذ لا يمكن لأحد أن يماثل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في البيان والتعليم .
*وقال عن آية السجدة : فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم ).(1)أهـ .
ووجه الدلالة : أن أولى الناس بالاتباع هو أتمهم علما وأكملهم فهما , والصحابة هم أكمل الناس علما , وأتمهم فهما , فينبغي اتباعهم وتقديمهم .
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر (2)"
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين 4/130-
(2) - رواه أحمد 5/382 وحسنه شعيب برقم 23245 والترمذي رقم 3662 وأورده الألباني في صحيح الترمذي 3/200 رقم 3924 وأخرجه الطبراني في الأوسط 4/140 برقم 3816 والحاكم 3/75 وصححه ووافقه الذهبي واتلحميدي في المسند 1/431 برقم 454 وصححه الألباني في السنة لابن أبي عاصم 2/545رقم 1148 وأخرجه الطحاوي في شرح المشكل 3/259 برقم 1233 عن حذيفة رضي الله عنه .(219/43)
قال الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار : معناه عندنا – والله أعلم – أن يمتثلوا ما هما عليه , وأن يحذوا حذوهما فيما يكون منهما في أمر الدين وأن لا يخرجوا عنه إلى غيره .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطيبا فقال : من أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد(1) "
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ( من كان متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا , وأعمقها علما , وأقلها تكلفا , وأقومها هديا , وأحسنها حالا . قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم...(2)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتكلم عن مرض القلب : ( ووصف الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلفاءه بضدهما (يعني الجهل والغي ) فقال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي(3)" ).
وقال أبو حاتم بن حيان رحمه الله تعالى : إن الله عز وجل نزه أقدار صحابة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ثلب قادح , وصان أقدارهم عن وقيعة منتقص , وجعلهم كالنجوم يقتدى بهم ..من شهد التنزيل وصحب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالثلب غير حلال , والقدح فيهم ضد الإيمان , والتنقص لأحدهم نفس النفاق , لأتهم خير الناس قرنا بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ...(4)
__________
(1) - رواه الترمذي وصححه برقم 2165 وأحمد 1/18 , 26 والطبراني في الأوسط برقم 2950 والحميدي في المسند برقم 23وأبو يعلى برقم 141و142 و143 والبغوي في شرح السنة برقم 2253
(2) - رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/119 وروى أبو نعيم في الحلية 1/305-306 نحوه
(3) - إغاثة االلهفان 1/21 وقد تقدم تخريج الحديث.
(4) - المجروحين 1/33-34 .(219/44)
وقال الشعبي عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول(1).
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى : فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه , فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاما وقدوة فحفظوا عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ما بلغهم عن الله عز وجل وما سن وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدب , ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده , بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومشاهدتهم منه تفسيرا الكتاب وتأويله وتلقيهم منه واستنباطهم عنه , فشرفهم الله عز وجل بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة , فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز وسماهم عدول الأمة (2).أهـ.
الفصل الثالث : تحريم سب صحابة رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أو استنقاصهم - رضي الله عنهم -
إن الناظر في أحوال أولئك المفتونين ببغض الصحابة السابين لهم يجد أن دينهم محصور في التعصب المذموم والغلو .
والواجب على كل مسلم الاعتدال وترك الفحش قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } سورة النحل آية : 90
__________
(1) - إعلام الموقعين 4/152
(2) - مقدمة الجرح والتعديل 1/7-8 .(219/45)
فلا يجوز سب المسلم ولا السخرية منه قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } سورة الحجرات آية : 11
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (1) " وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه (2)"
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر الا ارتد عليه إن لم يكن صاحبه كذلك (3)" وفي الصحيحين "...لعن المسلم كقتله (4) وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن العبد إذا لعن شيئا ؛ صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبوابها دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها , ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن كان أهلا لذلك وإلا رجعت إلى قائلها (5)" وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا (6)"
__________
(1) - رواه البخاري 10/5569رقم 6044 ومسلم 2/46 رقم 46
(2) - رواه البخاري 1/73 رقم 10عن عبد الله بن عمرو ومسلم 2/11 رقم 41 عن جابر دون لفظ والمهاجر ....
(3) - رواه البخاري10/569رقم 6045
(4) - رواه البخاري 11/659 رقم 6652 عن ثابت بن الضحاك و مسلم 2/103 رقم110
(5) - رواه أحمد 1/408 والبيهقي في الشعب وأورده الألباني في الصحيحة برقم 1269
(6) - رواه البخاري11/440 6516 وأحمد 6/108(219/46)
وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "...فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعرضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا (1)"
فإذا كان الإسلام حرم سب المسلم واستنقاصه والاستهزاء به فمن باب أولى تحريم سب صحابة رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؛كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة ففضلهم معلوم عند الله ورسوله وعند المؤمنين
قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (2)" وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي جاء أمتي ما توعد (3)"
وكان ابن عمر يقول لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمر (4)"
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدكم ساعة خير من عمل أحدكم أربعين سنة(5)"
اللعنة على من سب الصحابة رضي الله عنهم :
__________
(1) - رواه البخاري10/5568 رقم 6043 واللفظ له ومسلم 11/139 رقم 1679
(2) - رواه البخاري 2/423 رقم 3673 ومسلم 16/750 رقم 2540 عن أبي سعيد الخدري .
(3) - رواه مسلم 16/97رقم (2531)
(4) - رواه أحمد في الفضائل 1/60و قال شيخنا هذا اثر صحيح كما في تحقيقه الرسلة الوازعة
(5) - رواه أحمد في الفضائل 20رقم وابن ماجة برقم 162 ابن أبي عاصم في السنة 1006 وهو في صحيح ابن ماجة لللألباني 1/32(219/47)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (1)" . وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تسبوا أصحابي لعن الله من سب أصحابي (2)" .
بعض أقوال أهل العلم فيمن يبغض الصحابة أو يشتمهم :
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : من يبغض أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكان في قلبه عليهم غل فليس له الحق في فيئ المسلمين , ثم فراء قوله سبحانه وتعالى { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } إلى قوله { والذين جاؤوا من بعدهم... } الآية .
وقال أيضا :إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يمكنهم ذلك , فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء , (كان له أصحاب سوء) ولو كان رجلا صالحا كان أصحابه صالحين (3).
وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقرأ مالك هذه الآية : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } إلى قوله : { ليغيظ بهم الكفار } تم قال :من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي عليه السلام فقد أصابته الآية (4) ).
وقال الإمام أحمد رحمه الله : لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساوئهم , ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص , فمن فعل ذلك فقد وجب (على السلطان) تأديبه وعقوبته , ليس له أن يعفوا عنه , بل يعاقبه ويستتيبه . فإن تاب قبل منه , وإن ثبت أعاد عليه العقوبة , وخلده في الحبس حتى يموت أو يرجع (5).
__________
(1) - رواه الطبراني في الكبير وحسنه الأباني في الصحيحة برقم برقم 2340 والجامع الصغير 2/909 (5111).
(2) - انظر صحيح الجامع الصغير للألباني 4987 .
(3) - تقلا عن الصارم المسلول 3/1088-1089 .
(4) - شرح السنة للبغوي 1/229 .
(5) - نقلا عن الصارم المسلول على شاتم الرسول 3/1056 .(219/48)
وقال أيضا إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر الأدلة على فضل الصحابة رضي الله عنهم : وهذه الأحاديث مستفيضة ومتواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرونهم على من بعدهم من القرون والقدح فيهم قدح في القرآن والسنة (2)أ.هـ.
وقال أيضا : فمن سبهم فقد زاد على بغضهم ؛ فيجب أن يكون منافقا لا يؤمن بالله واليوم الآخر(3) .
فمن أضل ممن يكون في قلبه مرض على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين بل قد فضلتهم اليهود والنصارى بخصلة قيل لليهود من خير أهل ملتكم قالوا أصحاب موسى وقيل للنصارى من خير أهل ملتكم قالوا أصحاب عيسى وقيل للرافضة من شر أهل ملتكم قالوا أصحاب محمد !! لم يستثنوا منهم إلا قليلا وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة (4)"
و نقل القاضي عياض في الشفاء قول أيوب السختياني : " ومن انتقص أحدا منهم فهو مبتدع مخالف للسنة وللسلف الصالح , وأخاف أن لا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعا , ويكون قلبه سليما "
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله : لولم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه , لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال , وقتل الآباء والأولاد , والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع بعدم التهم , وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين (5)" .
__________
(1) - المرجع السابق .
(2) - الفتاوى 4/430
(3) - الصارم المسلول على شاتم الرسول 3/1092 .
(4) - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز بتحقيق شعيب 2/696-697 وأصله عند شيخ الإسلام في المنهاج 1/27
(5) - الكفاية في علم الراية ص 66-67(219/49)
وقال أبو زرعة الرازي رحمه الله إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول حق والقرآن حق وما جاء به حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة (1)"
وقال الإمام النووي رحمه الله : " واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات سواء من لا بس الفتنة منهم وغيرهم لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون ...قال القاضي وسب أحدهم من المعاصي الكبائر ومذهب الجمهور أنه يعزر ولا يقتل وقال بعض المالكية يقتل (2)"
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ... } : فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم , ولا سيما سيد الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخيرهم وأفضلهم الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر رضي الله عنه فإن الطائفة المخذلة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذا بالله من ذلك وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة . فأين هؤلاء من القرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم . وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله "
وقال الشوكاني : " وجانب الصحبة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجوا منها سالما (3)"
وقال الإمام الطحاوي وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل , ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل (4)"
__________
(1) - رواه المرجع السابق ص970
(2) - شرح مسلم 16/93 للنووي .
(3) - إرشاد الفحول 70
(4) - الطحاوية 58 بتعليق الألباني(219/50)
فكم من طعان في الصحابة يدعي محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وطاعته وهو لم يتبعه لا في الأمر ولا في النهي
فلا يضر الصحابة رضي الله عنهم بغض أعداء السنة من المتكبرين والمنحرفين والسحرة والمشعوذين و الدجالين الروافض أعداء الدين , الذين يأخذون دينهم من الزنادقة كعبد الله ابن سبأ فيكذبون بالحق ويصدقون بالباطل , وإلا كيف يسبون صحابة رسولهم الذين لازموه في الشدة والرخاء ووالوا من والاه وعادوا من عاداه , وحملوا إلينا هذا الدين وبذلوا أنفسهم رخيصة من أجله .
ألا يجب عليهم أن ينزلوا الناس منازلهم التي أنزلهم الله إياها , وأن يعطوا كل ذي حق حقه الذي يستحقه من المحبة والتولي كما أراد الله ورسوله , ألا يستحيون من أنفسهم عند أن ينتسبوا إلى الإسلام وهم أعداؤه وأعداء أهله ,وأساس بنيانه .
قال ابن الصلاح رحمه الله :...ثم إن الأمة مجمعة على تعديل الصحابة , ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع , إحسانا للظن بهم ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة (1) .
فمن لم يصدق الله في محبته للصحابة رضي الله عنهم فقد رضي أن يكون خصما لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ببغضه أصحابه الكرام ومن اتصف بالرفض أو النصب فقد اتصف بخصلة ذميمة وفعل معصية عظيمة وخرج عن سبيل المؤمنين وسلك طريق المنحرفين الضالين , فمذهب أهل السنة والجماعة حب الصحابة والآل خلافا لمذهب الخوارج وأهل الرفض والضلال . ولم يقف القوم عند سبهم وشتمهم الصحابة الكرام بل تعدى إلى ما هو أضل وأظلم وهو التكفيركما سيأتي ذلك في الفصل الخامس إن شاء الله .
وجوب تولي الصحابة - رضي الله عنهم - وعدم الخوض فيما شجر بينهم
__________
(1) - مقدمة ابن الصلاح ص 147 .(219/51)
عرف الناس أهل السنة والجماعة بسلامة صدورهم وطهارة ألسنتهم على صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحملة شريعته وخير الناس بعده وقد تقدم في هذا الفصل الكلام على تحريم النيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكني أحببت هنا أن أبين أيضا عقيدة أهل السنة فيما شجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم حتى يفهم المبطلون الحق فيتبعونه أو تقام عليهم الحجة فلا يبقى لهم عذر عند الله يوم القيامة .
قال الله تعالى { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون }
فالله تعبدنا بمحبتهم وتوليهم والترضي عنهم والاقتداء بهم والسير على نهجهم .
فقد روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ذكر أصحابي فأمسكوا...(1)"
قال قتادة بن دعامة السدوسي : أحق من صدقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه (2)"
وقال الإمام أحمد ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلهم أجمعين والكف عن الذي شجر بينهم , فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو واحدا فهو مبتدع رافضي حبهم سنة , والدعاء لهم قربة , والاقتداء بهم وسيلة , والأخذ بآرائهم فضيلة(3).
ونقل الإمام الطحاوي رحمه الله عقيدة الإمام أبي حنيفة وأصحابه قولهم : (...ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم , ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم , وبغير الخير يذكرهم ,
ولا نذكرهم إلا يخير , وحبهم دين وإيمان وإحسان , وبغضهم كفر ونفاق وطغيان(4).
__________
(1) - رواه الطبراني في الكبير 2/96رقم 1427و10/243 رقم 10448 وحكم الشيخ الألباني رحمه الله بصحته في الصحيحة1/75-80 رقم34 .
(2) - مسند أحمد 3/134 .
(3) - السنة ص419
(4) - الطحاوية بشرح ابن أبي العز ص 528 تحقيق الألباني .(219/52)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم . ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين إما مصيبن لهم أجران , أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطأهم وما كان لهم سيئات , وقد سبق لهم من الله الحسنى فإن الله يغفرها لهم : إما بتوبة , أو بحسنات ماحية , أو مصائب مكفرة أو غير ذلك ...(1)"
وقال ابن أبي زيد القيرواني : وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم , ثم الذين يلونهم , وأفضل الصحابة , الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر , ثم عمر , ثم عثمان , ثم علي رضي الله عنهم أجمعين , وأن لا يذكر أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم حسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب (2) أهـ .
وقال القرطبي رحمه الله : في تفسير قوله تعالى { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ,إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل , وهم كلهم لنا أئمة وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم ولا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة ونهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن سبهم , وأن الله قد غفر لهم وأخبر بالرضا عنهم . وسئل بعضهم عنها أيضا - أي عن الفتنة التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما- فقال تلك دماء طهر الله منها يدي , فلا أخضب بها لساني .يعني بالتحرز من الوقوع في خطأ , والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه . قال فورك ومن أصحابنا من قال : إن سبيل ما جرت بين الصحابة من النازعات كسبيل ما جرى بين اخوة يوسف , ثم إنهم لم يخرجوا بذلك من الولاية والنبوة ؛ فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة .
__________
(1) - الفتاوى 3/406-407
(2) - التمر الداني في تقريب المعاني ص 22-23 .(219/53)
وقال المحاسبي فأما الدماء فقد أشكل علينا القول فيها باختلافهم . وقد سئل الحسن البصري عن قتالهم فقال قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وغبنا وعلموا وجهلنا واجتمعوا فاتبعنا . واختلفوا فوقفنا .قال المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا , ونتبع ما اجتمعوا عليه , ونقف عند ما اختلفوا فيه ولا نتبنى رأيا منا , ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله عز وجل , إذا كانوا غير متهمين في الدين ونسأل الله التوفيق(1) أهـ
وقال أبو إسماعيل الصابوني " ...فمن أحبهم وتولاهم , ودعا لهم , ورعى حقوقهم وعرف فضلهم فاز في الفائزين ومن أبغضهم وسبهم ونسب إليهم ما تنسب إليه الروافض والخوارج- لعنهم الله- فقد هلك في الهالكين...ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبا لهم ونقصا فيهم , ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم .(2)"
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه ( أسنى المطالب في صلة الأقارب) : يلزم المسلم أن يتأدب مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأهل بيته بالترضي عنهم , ومعرفة فضلهم وحقهم , والإمساك عما شجر بينهم , مع نزاهة كل منهم عن ارتكابه شيئا يعتقد حرمته , بل كل منهم مجتهد , فهم مجتهدون مثابون , المحق منهم بعشرة أجور , والمخطئ بأجر واحد والعقاب واللوم والنقص مرفوع عن جميعهم ؛ فتفطن لذلك , وإلا زلت قدمك , وحق هلاكك وندمك (3).
ليس من عقيدة أهل البيت سب الصحابة - رضي الله عنهم -
__________
(1) - أحكام القرآن 16/321-322
(2) - عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص 93 بتحقيق بدر البدر كما في كتاب وسطية أهل السنة بين الفرق ص421
(3) - نقلا عن الشرف المؤبد لآل محمد ص 215- 216 .(219/54)
لقد خفي على كثير من الناس رأي أهل البيت في الصحابة رضي الله عنهم حتى ظن بعضهم أن مذهب أهل البيت هو بغض الصحابة وسبهم والأمر خلاف ذلك فلا يلتفت إلى المزاعم الباطلة المنسوبة إلى أهل البيت من الرفض ولا يجوز أن يبغضوا بسبب ما ينسب إليهم جميعا زورا وبهتانا .وقد أحببت بيان عقيدة أهل بيت النبوة في هذه المسألة من أقوال كبار أئمة أهل البيت والعلماء ومن كتب أئمة الشيعة أنفسهم , حتى تتضح عقيدة أهل البيت الصحيحة في الصحابة رضي الله عنهم , ويعلم الرافضة أنهم ضلوا الطريق السوي , :
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : وضع عمر على سريره , فتكنفه الناس ينعون ويصلون قبل أن يرفع – وأنا فيهم- فلم يرعني إلا رجل أخذ منكبي , فإذا علي بن أبي طالب , فترحم على عمر وقال : ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك . وايم الله ! إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك , وحسبت أني كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول ذهبت أنا وأبو بكر وعمر , ودخلت أنا وأبو بكر وعمر , وخرجت أنا وأبو بكر وعمر(1) " .
وعن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال قلت لأبي- يعني عليا رضي الله عنه- : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟ قال أبو بكر قلت ثم من ؟ قال : ثم عمر , وخشيت أن يقول عثمان قلت : ثم أنت , قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين (2)" وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال عائشة فقلت من الرجال فقال أبوها قلت ثم من ؟ قال ثم عمر بن الخطاب فعد رجالا (3)
__________
(1) - رواه البخاري 7/51 رقم 3686 .ومسلم 15/129 رقم 2389 .
(2) - رواه البخاري 7/24 رقم 3671 .
(3) - رواه البخاري 8/93 رقم 4358 , 3662 ومسلم 15/125 رقم 2384 .(219/55)
قال علامة اليمن الإمام /محمد بن إبراهيم الوزير الهاشمي رحمه الله تعالى :...ومن أحسن ما صنف في هذا كتاب الدارقطني في( ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة على الصحابة) وذكر الحافظ العلامة ابن تيمية : أن الذي روى ما يناقض ذلك (يهودي) أظهر الإسلام لتقبل أكاذيبه , ثم وضع تلك الأكاذيب وبثها في الناس .
فيا غوثاه ممن يقبل مجاهيل الرواة في انتقاص خير أمة بنص كتاب الله وخير القرون بنص رسول الله فحسبنا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله . ولعل كتاب الدار قطني هذا من أنفس المصنفات , فإنه لا يجتمع حب الأصحاب والآل , إلا في قلوب عقلاء الرجال (1).
__________
(1) - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 1/182.(219/56)
وقال أبو السائب القاضي (1) كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان (2) وكان يلبس الصوف , ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر , ويوجه في كل سنة بعشرين ألف دينار إلى مدينة السلام (3) يفرق على سائر ولد الصحابة , وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة , فقال ياغلام اضرب عنقه , فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا , فقال معاذ الله , هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } سورة النور آية : 26 .
فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خبيث , فهو كافر , فاضربوا عنقه , فضربوا عنقه وأنا حاضر (4).(5) أهـ .
__________
(1) - هو القاضي أبو السائب عتبة بن عبيد الله الهمداني (...-351هـ) عني بفهم القرآن وكتب الحديث والفقه ترجمته في تاريخ بغداد ****
(2) - هو الأمير الحسن بن زيد بن محد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد ين الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ظهر سنة (250) وكثر جيشه واستولى على طبرستان وتلك الناحية , واستفحل أمره , وهزم جيوش الخلفاء , ثم استولى على الري وامتدت حياته حتى توفي سنة(270هـ) في طبرستان انظر تاريخ الطبري 9/271-276...
(3) - مدينة السلام هي بغداد يقال إن سبب تسميتها أن دجلة يقال لها وادي السلام ...معجم البلدان 7/419 .
(4) - رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد...)7/1268.
(5) - نقلا عن الصارم المسلول على شتم الرسول- صلى الله عليه وسلم - 3/1052-1053 .بتحقيق محمد الحلواني ومحمد شودري(219/57)
وكتب الشيعة أنفسهم شاهدة بذلك : فقد روى المجلسي عن الطوسي رواية موثوقة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لأصحابه : " أوصيكم في أصحاب رسول الله ًًصلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تسبوهم فإنهم أصحاب نبيكم , وهم أصحابه الذين لم يبتدعوا في الدين شيئا , ولم يوقروا صاحب بدعة , نعم أوصاني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هؤلاء (1)" أهـ
وقال فقيه أهل البيت وابن عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال , وبذلوا النفوس دونه في كل حال , وصفهم الله في كتابه فقال: { رحماء بينهم } الآية : قاموا بمعالم الدين , وناصحوا الاجتهاد للمسلمين , حتى تهذبت طرقه ؛ وقوية أسبابه , وظهرت آلاء الله , واستقر دينه, ووضحت أعلامه , وأذل بهم الشرك , وأزال رؤوسه ومحا دعائمه وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى(2)0 "
وروى الإمام المؤيد(3) بالله أحمد بن الحسين الهاروني عن جميع آبائه من أئمة الآل تحريم سب الصحابة "
__________
(1) - حياة القلوب للمجلسي 2/621 والمجلسي هو الملا محمد بقر بن محمد تقي المجلسي ولد سنة 1037 ومات سنة 1110هـ كما في كتاب الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير ص 40-41
(2) - مروج الذهب 3/52-53ط دار الأندلس كما في المصدر السابق
(3) - والمؤيد هو أحمد بن الحسين بن هارون الأقطع , من أبناء زيد بن الحسن العلوي الطالبي القرشي أبو الحسن إمام زيدي , من أهل طبرستان . مولده بها في آمل سنة 332ووفاته سنة 411 هـ الأعلام 1/116 وذكر أن له ترجمة في أعيان الشيعة 8/305 والدر الفريد 37 وإتحاف المسترشدين 48(219/58)
وقال المنصور بالله عبد الله بن حمزة في رسالته في جواب المسألة التهامية –بعد أن ذكر تحريم سب الصحابة – ما لفظه: " وهذا ما يقضي به علم آبائنا إلى علي عليه السلام " ثم قال فيها ما لفظه : " وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء سب الصحابة رضي الله عنهم والبراءة منهم , فيتبرأ من محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حيث لا يعلم :
فإن كنت لا أرمي وترمي كنانتي * تصيب جانحات النبل كشحي ومنكبي0
وقال الإمام يحي بن الحسين بن القاسم في" الإيضاح" " ...وعرف أقوال أئمة العلم الهداة علم من ذلك بالضرورة التي لا تنتفي بشك ولا بشبهة : لإجماع أئمة الزيدية على تحريم سب الصحابة ؛ لتواتر ذلك عنهم , والعلم به , فما خالف ما علم ضرورة لا يعمل به...(1)"
وللإمام يحي بن حمزة بن الحسين رحمه الله رسالة بعنوان ( الرسالة الوازعة للمعتدين عن سب صحابة سيد المرسلين ) .
وقد نقل الإمام الشوكاني رحمه الله : إجماع أهل البيت على تحريم سب الصحابة في رسالته (إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ).
نصيحة الإمام الشوكاني
قال العلامة/محمد بن علي الشوكاني اليماني رحمه الله تعالى في نصيحته ونداه للروافض :
" فيا من أفسد دينه بذم خير القدوة ! اقتديت بالكتاب العزيز كذلك في هذه الدعوى ؟ من كان له في معرفة القرآن أدنى تدبر ؛ فإنه مصرح بأن الله جل جلاله قد رضي عنهم , ومشحون بمناقبهم , ومحاسن أفعالهم , ومرشد إلى الدعاء لهم 0
__________
(1) - أهـ بتصرف واختصار من كتاب (إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البت في صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ) للإمام الشوكاني رحمه الله تخريج الشيخ مشهور بن حسن حفظه الله0(219/59)
وإن قلت اقتديت بسنة رسول الله المطهرة؛ قام في وجه دعواك الباطلة العاطلة ما في كتب السنة الصحيحة من مؤلفات أهل البيت وغيرهم ؛ من النصوص الصريحة بالنهي عن سبهم وعن أذية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك , وأنهم خير القرون , وأنهم من أهل الجنة , وأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مات وهو راض عنهم , وما في طي تلك الدفاتر الحديثية من ذكر مناقبهم الجمة ؛ كجهادهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبيعهم نفوسهم وأموالهم من الله , ومفارقتهم للأهل والأوطان والأحباب والأخدان ؛ طلبا للدين وفرارا من مساكنة الجاحدين , وكم يعد العاد من هذه المناقب التي لا يتسع لها إلا سجلات, ومن نظر في كتب السير والحديث ؛ عرف من ذلك ما لا يحيط به الحصر0
وإن قلت أيها الساب لخيرة هذه الأمة من الأصحاب : إنك اقتديت بأئمة أهل البيت في هذه القضية الفظيعة ؛ فقد حكينا لك في هذه الرسالة إجماعهم على خلاف ما أنت عليه من تلك الطرق 0
وإن قلت إنك اقتديت بعلماء الحديث ,أو علماء المذاهب الأربعة, أو سائر المذاهب ؛ فلتأت بواحد يقول بمثل مقالتك ! فهذه كتبهم قد ملأت الأرض , وأتباعهم على ظهر البسيطة أحياء , وقد اتفقت كلمة متقدميهم ومتأخريهم على أن من سب الصحابة مبتدع , وذهب بعضهم إلى فسقه , وبعضهم إلى كفره ؛ كما حكى ذلك جماعة من علمائهم ؛ منهم ابن حجر الهيتمي فإنه ذكر في كتابه (الصواعق المحرقة) أن كثيرا من الأئمة كفروا من سب الصحابة . وإن قلت أيها الساب : اقتديت بفرقة من غلاة الإمامية ؛ فنقول صدقت؛ فإن فيهم فرقة مخذولة تصرح بسب أكابر الصحابة, وقد أجمع على تضليلهم جميع علماء الإسلام من أهل البيت وغيرهم , وهم الرافضة , الذين رويت الأحاديث في ذمهم(1) .
__________
(1) - إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ص65-73 تقديم وتعليق وتخريج مشهور بن حسن(219/60)
لا كرامة لمن يسب الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان الساب من أهل بيت النبوة
اعلم أخي الكريم أن الإسلام دين صاف لا يقبل الغش ولا المغشوش , فمن كان مفتونا في دينه ببغضه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يعظم وإن انتسب إلى بيت النبوة لقوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم }
وقال الشاعر : لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه * فلا تترك التقوى اتكالا على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس * وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب
قال بعض السلف : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل العين , ودواء العين ترك مسها (1)"
قال أبو العرب : من لم يحب الصحابة فليس بثقة ولا كرامة (2)"0
فالذين طمس الله على بصائرهم وختم على قلوبهم , رأوا أن الحق هو بغض الصحابة والوقيعة في أعراضهم , وظنوا أن دينهم الفخر بأنسابهم وهؤلاء شوهوا بأهل البيت حتى ظن جهال المسلمين أن كل الهاشميين على هذا الاعوجاج المشين والانحراف العقدي العظيم , ويقال لهؤلاء الجهلة أو المروجين لهذه الدعاية من النواصب ما قال الشاعر :
وهبك قلت إن الصبح ليل * أيعمي الناظرون عن الضياء
اقرؤوا عن الأعلام من الهاشميين وانظروا إلى المستقيمين على منهج السلف منهم .فلا يحكم على الكل بحكم من شذ وخرج عن المنهج القويم .
وقد بينت فيما سبق أن مذهب أهل البيت هو تولي جميع الصحابة رضي الله عنهم , لا سبهم فمن شذ منهم فلا عبرة به ولا بمذهبه , قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى }
__________
(1) - الزاد 4/109
(2) - توجيه القاري إلى القواعد والفوائد الأصولية والحديثية والاسنادية في فتح الباري ص 192 جمع حافظ ثناء الله الزا هديي(219/61)
ومن أعجب ما رأيت وسمعت أن بعض الفساق والسحرة وقطاع الصلاة من الشيعة الذين ينتسبون إلى أهل بيت النبوة يخوضون فيما حصل بين الصحابة من خلاف بحق وبباطل ثم يقومون بسبهم وشتمهم بحجة الانتصار للبعض منهم 0 ويدعون أنه مذهب أهل البيت.والحقيقة أن قولهم خزي عليهم في الدنيا والآخرة فلو كان لهم عقول لكانوا أحق من غيرهم بمحبة جدهم وصحابته الذين فدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم فمثل هؤلاء لا يحبون ولا يحترمون ولا يعظمون حتى يعودوا إلى كتاب ربهم وسنة جدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكم من مغفل يظن أن صاحب النسب الشريف يتجاوز عنه وينتفع به يوم القامة . وهذا الظن في غير محله , قال تعالى : { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم }
وقال الشاعر : أيا مدعي سلمى انتسابا * لست منها ولا قلامة ظفر
فالحق أن الانتفاع يكون قبل كل شيء بالعمل الصالح فلربما كان صاحب النسب الرفيع في معاصيه أشد وزرا من غيره .
قال الله تعالى: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } الأحزاب30
وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } سورة المؤمنون آية 101 وقال تعالى { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } سورة هود آية : 45-46(219/62)
وقال تعالى { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [سورة البقرة آية :124]
وقال تعالى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } سورة التحريم آية : 10-11
وقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين أنزل الله { وأنذر عشيرتك الأقربين } قال يا معشر قريش – أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا . يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا . يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا . ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا أغني عنك من الله شيئا . ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا (1)" .
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه (2)"
وقد أحسن من قال : لسنا وإن أحسابنا كرمت * يوما على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا * تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إن آل أبي (يعني فلانا) ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين(3) "
__________
(1) - رواه البخاري 8/643 رقم 4771 ومسلم 3/69 رقم 206 .
(2) - رواه مسلم 17/18 رقم 2699 عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) - رواه البخاري 10/513 رقم 5990 ومسلم 3/74 رقم 215 .(219/63)
وقال الشيخ بن عثيمين رحمه الله عن أهل البيت :000فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام فأبو لهب عم الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال بل يجب أن نكرهه لكفره ولإيذائه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكذلك أبو طالب يجب علينا أن نكرهه لكفره لكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام من الحمايات والذب عنه . أ.هـ(1).
فمن عادى الصحابة صار عدوا لله ورسوله ومن يدعي محبة الله ورسوله وهو يبغض الصحابة فهو كاذب في دعواه لأن الله ورسوله أمرا بحب المؤمنين وبغض الكافرين .
قال الشيخ سليمان بن سمحان: فعاد الذي عادى لدين محمد * ووال الذي والاه من كل مهتد
وأحبب لحب الله من كان مؤمنا * وأبغض لبغض الله أهل التمرد
وما الدين إلا الحب والبغض والولا * كذاك البرا من كل غاو ومعتد
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله شعرا اختصرت منه ما يلي
قالوا فلانا عظموا حقه * فإنه من عترة المصطفى
فقلت للقربى من الحق ما * لا يعتريه عند مثلي خفا
لكن فلان تربت كفه * للسنة الغراء أبدى الجفى
وصار في الرفض له مذهب * كأنه من دينه ما شفا
لا تنفع القربى أبنا أبى * دين أبيه عند أهل الوفا
بعض الآثار المترتبة على سب الصحابة :
يترتب على سب الصحابة رضوان الله عليهم آثار كثيرة منها :
1- أن في سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيبا للقرآن الكريم , وإنكارا لما تضمنته الآيات القرآنية من تزكيتهم والثناء عليهم , وهذا يؤول إلى الشك في القرآن الكريم , والطعن في ثبوته وحفظه , لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول , ولذا فإن الرافضة لما كفروا جمهور الصحابة , أتبعوا ذلك بدعوى تحريف القرآن وتبديله
2- أن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى , أو العبث في تلك النصوص الكثيرة التي تقرر الثناء الحسن على الصحابة وتز كيتهم
__________
(1) - شرح العقيدة الواسطية 2/274-275(219/64)
يقول الشيخ/محمد العربي بن التباني المغربي في كتابه (إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة) : " كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى , وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة , وبرضاه عنهم , ورضاهم عنه , بزعمه أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام . فعقيدة هذه الطائفة [أي الروافض] في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين : إما نسبة الجهل إليه تعالى , أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم , وتقدس ربنا وتعالى عن ذلك علوا كبيرا , وكلاهما مصيبة كبرى . وذلك لأنه تعالى علم بأنهم سيكفرون , فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبثا . والعبث في حقه تعالى محال ..وإن كان تعالى غير عالم بأنهم سيكفرون , ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم بالحسنىفهو جهل , والجهل عليه تعالى محال . ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح )أهـ .
3- من سب الصحابة رضي الله عنهم ورماهم بالكفر أو الفسق , فقد تنقص الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآذاه ؛لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم , ومن المعلوم أن تنقص الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كفر وخروج عن الملة
4- أن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم اتهام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه لم ينجح في دعوته , ولم يحقق البلاغ المبين .
5- أن سب الصحابة رضي الله عنهم والطعن في دينهم , هو طعن في الدين وإبطال للشريعة , وهدم لأصله , لعدم توافر النقل المأمون له.(219/65)
وذكر الشيخ/محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر : هدم لأساس الدين , لأن أساسه القرآن والحديث فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والأحاديث ...فهؤلاء [الرافضة] أشد على الدين من اليهود والنصارى , وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه , فإنها توجب إبطال الدين والشك فيه , وتجوز كتمان ما عورض به القرآن , وتجوز تغيير القرآن...: أهـ .
6-أن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم تضليل الأمة المحمدية , ويتضمن أن هذه الأمة شر الأمم , وأن سابقي هذه الأمة شرارها .
7- أن سب الصحابة رضي الله عنهم فيه إنكار لما قام الإجماع عليه قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم , ومصادمة للنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في بيان علو مقامهم وعظيم شأنهم (1)أهـ .
الفصل الرابع : وجوب محبة أهل البيت
بعد أن عرفنا مما تقدم وجوب محبة أصحاب رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي الله عنهم نتعرف على وجوب محبة أهل بيت النبوة وقبل هذا أذكر تعريف أهل البيت لغة واصطلاحا :
تعريف أهل البيت لغة واصطلاحا :
أهل البيت في اللغة : قال الخليل بن أ حمد الفراهيدي : أهل الرجل زوجته وأخص الناس به والتأهل التزوج وأهل البيت سكا نه وأهل الإسلام من يدين به(2).
وعند ابن فارس آل الرجل أهل بيته لأنه إليه مآلهم وإليهم مآله وهذا معنى قولهم يا آل فلان(3).
__________
(1) - نقلا عن كتاب تمام المنة فيمن ورد لعنه في السنة ص52-54 .
(2) - معجم العين 4 /89
(3) - معجم مقاييس اللغة العربية 1/160(219/66)
وعند الرا غب الأصفهاني أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب وتعورف في أسرة النبي- عليه الصلاة والسلام- مطلقا إذا قيل أهل البيت لقوله عز وجل { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } سورة الأحزاب آية : 33... قيل هو في الأصل اسم شخص ويصغر أويلا ويستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما بقرابة قريبة أو بموالاة قال عز وجل { وآل إبراهيم وآل عمران } سورة آل عمران آية : 33
وقال : { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } سورة الزخرف آية : 46
قيل وآل النبي عليه الصلاة والسلام أقاربه(1).
وعند الفيروز ابادي : أهل الأمر ولاته وللبيت سكانه وللمذهب من يدين به وللرجل زوجته كأهليته وللنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله عنه أو نساؤه والرجال الذ ين هم آله ولكل نبي أمته(2). (3)وفي الاصطلاح :
اختلف أهل العلم في تعريف آل النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على أربعة أقوال :
القول الأول : أنهم الذين حرمت عليهم الصدقة .
الثاني : انهم ذريته صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
الثالث : أن آل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتباعه إلى يوم القيا مة .
الرابع : أن المراد بالآل الأتقياء من أمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
الترجيح
الذي يظهر أن الراجح والله أعلم هو : القول الأول ويدخل فيه القول الثاني جمعا بين الأدلة الصحيحة وهذا واضح لمن نظر في الأدلة وصحتها.
بعض الأسباب الموجبة لمحبة أهل البيت
1- أن الله أذهب الرجس عنهم وطهرهم : قال تعالى : { إنمايريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }
__________
(1) - المفردات 29- 30
(2) - القاموس المحيط 3/331
(3) - انظر( جلاء الأفهام ص 324 , السنن الكبرى للبيهقي 2/37- 38 , وشرح مسلم للنووي 4/106, والمجموع 3/466 وروح المعاني 22/14(219/67)
قالت عا ئشة رضي الله عنها خرج ا لنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أ سو د فجاء الحسن بن على فأ دخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال { إنما يريدالله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (1) }
قال ابن حجر الهيتمي : هذه الآية منبع فضائل أهل البيت النبوي لاشتمالها على غرر من مآثرهم والاعتناء بشأنهم حيث ابتدأت بـ[إنما] المفيدة لحصر إرادته تعالى فىأمرهم على إذهاب الرجس الذي هو الإثم والشك فيما يجب الإيمان به عنهم وتطهيرهم من سائر الأخلاق والأحوال المذمومة . وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلمجلل الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ثم قال:" اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "(2)".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في الفتاوى : ولمابين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته وأعظمهم اختصاصا به وهم علي وفاطمة رضي الله عنهما وسيدا شباب أهل الجنة جمع لهم بين أ ن قضى لهم بالتطهير وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان من ذلك ما دلنا على أن ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله يسبغها عليهم ورحمة من الله وفضل.
فقد فضل الله أهل بيت رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الآية بأمرهم بما هم أهله مما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم وذلك بطاعته واتباع رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
__________
(1) - رواه مسلم 15/157 رقم 2423 .
(2) - الصواعق المحرقة على أهل البدع والزندقة ص 223 .(219/68)
2- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بهم خيرا : فقد قام صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال :" أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم الثقلين أو لهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتا ب الله واستمسكوا به" فحث على كتا ب الله ورغب فيه ثم قال "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليهم الصدقة بعده قال : ومنهم ؟ قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال كل هؤلاء حرم الصدقة قال نعم (1)"
قال شيخ الإسلام في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم" أذكر كم الله في أهل بيتي": وتذكير الأمة بهم يقتضي أن يذ كر ما تقدم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم والامتناع عن ظلمهم .(2)أ.هـ
وقال محمد صديق حسن خان : (حفظ رتبتهم في الإسلام وتعظيمهم وحبهم في الدين وصون عظيم عزهم في الأمة وتقديمهم على غيرهم في المجلس والكلام والخطاب والمشي والقعود والقيام وبذل الأموال لهم ونصرتهم في مقابلة أعدائهم والتمسك بهم إن كانوا أهل علم وتقوى(3) أهـ .
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأ هل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض جميعا (4)"
__________
(1) - رواه مسلم 155/146 رقم 2408 عن زيد بن أرقم رضي الله عنه .
(2) - منهاج السنة 7/318
(3) - الدين الخالص 3/509 .
(4) - رواه أحمد 5/181-182 عن زيد بن ثابت رضي الله عنه وصححه مصطفى بن العدوي في الصحيح المسند من فضائل الصحابة ص 248 .(219/69)
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما (1)"
وقال الطيبي في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " إني تارك فيكم ": إشارة إلى أنهما بمنزلة التوأمين الخليفين عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه يوصي الأمة بحسن المخالقة معهما وإيثار حقهما على أنفسهم كما يوصي الأب المشفق الناس في حق أولاده ويعضده مافي حديث زيد بن أرقم عند مسلم " أذكركم الله في أهل بيتي " كما يقول الأب المشفق الله الله في حق أولادي(2) أهـ.
وعن عبد المطلب بن ربيعة قال : دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا رسول الله إنا لنخرج فنرى قريشا تتحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورد عرق بين عينيه ثم قال : " والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي (3)"
3- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر المسلمين أن يصلوا عليهم : قال تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } سورة الأحزاب آية : 56 .
__________
(1) - رواه الترمذي 5/622 رقم 3788 وهو في الصحيحة 4/356- 357
(2) - تحفة الأحوذي 10/290
(3) - رواه أحمد 1/207 وحسنه العدوي في الصحيح المسند من فضائل الصحابة ص 445 .(219/70)
قال الإمام السخاوي رحمه الله : في هذه الآية دليل على أن الأمر بالصلاة على أهل بيته وبقية آله مراد من هذه الآية وإلا لم يسألوا عن الصلاة أهل بيته وآله عقب نزولها ولم يجابوا بما ذكر فلما أجيبوا به دل على أن الصلاة عليهم من جملة المأمور به وأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقامهم في ذلك مقام نفسه لأن القصد من الصلاة عليه مزيد تعظيمه ومنه تعظيمهم . ورحم الله الشافعي حيث قال :
يا أهل بيت رسول الله حبكم * فرض من الله في القرآن أنزله
كفا كم من عظيم القدر أنكم * من لم يصل عليكم لاصلاة له(1).
و قال عبد الرحمن بن أبي ليلى : لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج علينا فقلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك قال :" قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.(2) "
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" قولوا اللهم صلي على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد(3)"
__________
(1) - القول البديع ص144
(2) - رواه (البخاري 11/182-183 رقم 6357 ومسلم 4/107- 108 رقم 406
(3) - رواه البخاري 6/503 رقم 3369 ومسلم 4/109رقم 407(219/71)
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد أمرنا الله أن نسلم عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك فسكت الرسول حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم . وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم . في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم (1)"
قال شيخ الإسلام : فهذه الصلاة لجميع آل محمد لا تختص بصالحيهم بل تتناول كل من دخل في آل محمد كما أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يتناول كل من دخل في الإيمان والإسلام ولا يلزم من الدعاء للمؤمنين عموما ولأهل البيت عموما أن يكون كل منهم برا تقيا بل الدعاء لهم طلبا لإحسان الله تعالى إليهم وتفضله عليهم وفضل الله سبحانه وإحسانه يطلب لكل أحد لكن يقال أن هذا حق لآل محمد أمر الله به وذلك سبب رحمة الله تعالى لهم بهذا النسب فهم مخصصون بأحكام لهم وعليهم وهذه الأحكام تثبت للواحد منهم وإن لم يكن رجلا صالحا بل كان عاصيا(2).
وقال الإمام الشوكاني : وينبغي أن يضم إلى ذلك الآ ل لورود الصلاة عليهم في السنة متصلة بالصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أحاديث كثيرة منها ما هو مقيد بالصلاة ومنها ما هو مطلق . أ.هـ(3) .
4- كان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأول : يوصي المسلمين أن يحفظوا حقوقهم :
__________
(1) - رواه مسلم 4/105–107 رقم الحديث 405 وأبو داود 1/256 رقم980 والترمذي 5/335 رقم 3220والنسائي في السن 3/52 رقم 1284
(2) - منهاج السنه 4/598 – 599 , 600
(3) - الفتح الرباني ص527- 528 ,529 ,530(219/72)
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي...(1) فقد قال أبو بكر رضي الله عنه: " ارقبوا محمدا في أهل بيته .والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي (2) .
وعن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال صلى أبو بكر العصر ثم خرج يمشي فرأى الحسن يلعب مع الصبيان فحمله على عاتقه وقال : بأبي شبيه بالنبي * لا شبيه بعلي , وعلي يضحك(3).
قال الحافظ ابن حجر : قوله بأبي فيه حذف تقديره أفديه بأبي وفي الحديث فضل أبي بكر ومحبته لقرابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
-5 وكان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ا لثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديد المحبة لأهل بيت النبوة :
فحين خطب أم كلثوم رضي الله عنها فرح بمصاهرة علي رضي الله عنه وأتى المها جرين فقال ألاتهنوني فقالوا بمن يا أمير المؤمنين فقال بأم كلثوم بنت علي وابنة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: " كل سبب ونسب ينقطع يوم القيا مة إلا نسبي وسببي (4)"
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا قحط الناس استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنانتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون(5).
__________
(1) - سبق تخريجه .
(2) - رواه البخاري 7/121رقم3751 , 3712
(3) - رواه البخاري 6/699 رقم3542
(4) - رواه أحمد 4/332 والحاكم 3/58 والبيهقي 7/64 والطبراني في الكبير 2/27) وغيرهم عن عدة من الصحابة وصححه الألباني بمجموع طرقه في الصحيحة 5/64) وشعيب في تحقيقه المسند برقم 18930 دون (( إنه ينقطع يوم القيامة الأنساب والأسباب إلا نسبي وسببي )) فهو حسن بشوا هده 0
(5) - رواه البخاري 2/628 رقم 1010و7/16 رقم 3710.(219/73)
قال الحافظ واختيار عمر رضي الله عنه للعباس رضي الله عنه للتوسل بدعائه إنما هو لقرابته من رسول الله ًصلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وفي (اقتضاء الصراط ) لشيخ الإسلام أن عمر رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء كتب الناس على قدر أنسابهم فبداء بأقربهم نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الشيخ : وا نظروا إلى عمر بن الخطاب حين وضع الديوان وقالوا له يبدأ أمير المؤمنين بنفسه فقال : لا ولكن ضعوا عمر حيث وضعه الله فبدأ بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم من يليهم حتى جاء ت نوبته في بني عدي وهم متأخر ون عن أثر بطون قريش(1).
وقال عمر للعباس والله لإسلامك أحب إلي من إسلام الخطاب(2) .
5- أنهم ينتسبون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مطولا وفيه لما نز لت هذه الآية : { فقل تعا لوا ندع أبناءنا وأبناءكم } دعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليا و فاطمة وحسنا وحسينا فقال : " اللهم هؤلاء أهلي(3)"
وعن جابر رضي الله عنه قال : قدم على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم العاقب والطيب فدعا هما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلا عناه الغداة قال فغدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن ولحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيئا وأقرا بالخراج فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والذي بعثني بالحق لو قالا:لا, لأمطر عليهم الوادي نارا فقال جابر فيهم نزلت { ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } قال جابر: { و أنفسنا وأنفسكم } رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلي بن أبي طالب { وأبناءنا } الحسن والحسين { ونساءنا } فاطمة (4)" .
__________
(1) - اقتضاء الصراط 1/446 , 453
(2) - الطبقات 4/22, .3
(3) - رواه مسلم 15/ 143 رقم 2404 0
(4) - رواه الحاكم2/593-594) وصححه وذكره ابن كثير في تفسيره 1/325- 326)(219/74)
وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للحسن بن علي رضي الله عنهما : " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين (1)"وعن أبي برزة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين عليهما السلام عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال صدق الله { إنما أموا لكم وأولادكم فتنة } سورة التغابن آية :15 فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما (2)" قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله فعلم أن المراد من الآية أن أولاد فاطمة وذريتهم يسمون أبناءه وينتسبون إليه نسبة صحيحة نافعة في الدنيا والآخرة.(3)"
7- أن المهدي المنتظر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : "المهدي من عترتي من ولد فاطمة(4) "وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "المهدي منا أهل البيت (5)"
__________
(1) - ( رواه البخاري 6/780 رقم الحديث 3629)
(2) - ( رواه االترمذي 5/616 –617 رقم الحديث 3774وصححه ا لأ لباني في صحيح الترمذي وأخرجه أبو داود 3/322 رقم الحديث 1105 عون المعبود)
(3) - الصواعق المحرقة على أهل البدع والزندقة ص 238)
(4) - رواه أبو داود رقم 4284 وهو في صحيح أبي داود للألباني 3/808رقم 3603 .
(5) - رواه أبو داود 4/106 رقم 4290 والحاكم 4/557 وابن ماجة بقم 4086 وهو في صحيح ابن ماجة للألباني 2/389 برقم 3301 .(219/75)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ويملك سبع سنين(1)"
وعنه أيضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله علبه وآله وسلم : " لاتقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلما وعدوانا قال ثم يخرج رجل من عترتي أومن أهل بيتي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا(2)"
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة (3)" .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله "ويكون ظهوره من بلاد المشرق لا من سرداب سامراء , كما يزعمه جهلة الرافضة : من أنه موجود فيه الآن وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان فإن هذا نوع من الهذيان , وقسط كبير من الخذلان , شديد من الشيطان , إذ لا دليل على ذلك , ولا برهان , لا من كتاب, ولا من سنة , ولا معقول صحيح , ولا استحسان ...ولكنهم طائفة مخذولة وفرقة مرذولة(4) " وعلى كل فالمهدي الذي جاءت الأحاديث بذكره هو مهدي السنة لا مهدي الخرافة .
8- أن أهل البيت أشرف الناس نسبا :لحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم (5)"
__________
(1) - رواه أبو داود 4/106 رقم 4290 والحاكم 4/ 557 وحسن إسناده الألباني في الجامع الصحيح .
(2) - رواه احمد 3/36وأبو يعلى 2/274 وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح 4/164.
(3) - رواه ابن ماجة برقم 4086 وهو في صحيح ابن ماجة 2/389 .
(4) - النهاية في الملاحم 1/55والبدية والنهاية 5/251:
(5) - رواه مسلم في كتاب الفضائل 15/29 رقم الحديث 2276 وأحمد 4/ 107 والترمذي 10/74 رقم الحديث 3684 تحفة الأحوذي ..(219/76)
قال النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث :استدل به أصحابنا على أن غير قريش من العرب ليس بكفئ لهم ولاغير بني هاشم كفئ لهم إلا بني المطلب فإنهم وبنو هاشم شيء واحد كما صرح به في الحديث الصحيح والله أعلم.أ.هـ .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبريل عليه السلام قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجل أفضل من محمد , وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم (1)"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ولاريب أن لآل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم حقا على الأمة لايشاركهم فيه غيرهم ويستحقون منا زيادة المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر بطون قريش كما أن قريشا يستحقون من المحبة والمولاة مالا يستحقه غير قريش من القبائل كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة مالا يستحقها سائر أجناس بني آدم ...هذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم وفضل قريش على سائر العرب وفضل بني هاشم على سائر قريش وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره.(2)أ.هـ .
وفي حديث أبى سفيان حين سأله هرقل عن نسب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال : كيف نسبه فيكم ؟ فقال أبو سفيان : هو فينا ذو نسب . وقول هرقل لأبي سفيان:وسألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب.فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها (3)"
__________
(1) - رواه ابن أبي عاصم في السنة رقم 1494 واللالكائي 1402 والبيهقي في دلائل النبوة 1/16 .
(2) - منهاج السنة 4/599
(3) - رواه البخاري في كتاب الوحي 1/42 رقم الحديث 7(219/77)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قيل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : من أكرم الناس قال:"أكرمهم أتقاهم " قالوا يا نبي الله ليس عن هذا نسألك قال: " فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" قالوا ليس عن هذا نسألك قال : " أفعن معادن العرب تسألونني" قالوا نعم قال : " فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا (1)"
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث عن معادن العرب : أي أ صو لهم التي ينتسبون إليها ويتفاخرون بها وإنما جعلت معا دن لما فيها من الاستعداد المتفاوت وشبههم بالمعادن لكونهم أوعية الشرف كما أن المعدن أوعية للجواهر...أ.هـ .
قلت : وقد جمع أهل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين الشرفين شرف علو النسب في الجاهلية وشرف التفقه في الدين في الإسلام , فهم معادن الشرف والفضائل وخيرة القبائل من قبل ومن بعد .
فقد جاء عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : بلغ ًالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض ما يقول الناس قال فصعد المنبر فقال : " من أنا قالوا أنت رسول الله فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقه وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نسبا(2) "
__________
(1) - رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء 6/511 رقم الحديث 3374) ( ومسلم في كتاب البر والصلة 16/152 رقم الحديث 2638 وهذا لفظ البخاري
(2) - رواه أحمد 1/210 وحسنه شعيب برقم 1788 ورواه الترمذي في المناقب 5/544 رقم 3607 وقال حديث حسن والبيهقي في الدلائل 1/167- 168(219/78)
قال ابن حجر الهيتمي بعد أن ذكر جملة من الأحاديث الدالة على فضل الانتساب إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : علم مما ذكر في هذه الأحاديث عظيم نفع الا نتساب إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولاينا فيه مافي أحا ديث أخر من حثه لأهل بيته على خشية الله واتقائه وطاعته وأن القرب إليه يوم القيامة إنما هو بالتقوى.(1)أ.هـ
ومما يدل على شرف نسب أهل البيت قول ابن القيم وهو يبين أسباب قبول التأويل الفاسد في السبب الثالث : "...أن يعزو المتأول تأويله إلى جليل القدر نبيل الذكر من العقلاء أو من آل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو من حصل له من الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الجهال فإنه من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم حتى إنهم ليقدموا كلامه على كلام الله ورسوله ويقولون هو أعلم بالله منا وبهذا الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حين أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم ...(2)" أ.هـ .
وقال ابن عثيمين رحمه الله : "وآل محمد أشرف الناس نسبا , ولشرفهم لا يعطون من الزكاة , لا احتقارا لهم , بل إكراما لهم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمه العباس حين سأله الزكاة: " إنما هي أوساخ الناس" , وهم أكمل وأشرف أن يتلقوا أوساخ الناس(3)" .
وقال بعضهم : نسب كأن عليه من شمس الضحى * نورا ومن فلق الصباح عمودا
ما فيه إلا سيد من سيد * حاز المكارم والنهى والجودا
9- أن الله نزه أهل ا لبيت عن أكل الصدقة , وجعل لهم حقا في الخمس والفيء عوضا عن الصدقة , ومنع أن يكونوا عمالا على الزكاة :
__________
(1) - (الصواعق المحرقة1/90 )
(2) - الصواعق المرسلة .
(3) - الشرح الممتع 6/254.(219/79)
لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " كخ كخ ليطرحها ثم قال أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة (1)"
وعنه أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : " والله إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة الساقطة على فراشي ثم أرفعها لا آ كلها أخشى أن تكون صدقه فألقيها (2)".
قال العلماء : لما كانت الصدقة أوساخ نزه منصبه الشريف عن ذلك وانجر إلى آله بسببه, وأيضا فالصدقة تعطى على سبيل الترحم المبني على ذلك الآخذ فأبدلوا عنها الغنيمة المأخوذة بطريق العز والشرف المبني على عز الآخذ وذل المأخوذ منه .
أما دليل جعل حقا في الخمس والفيء لأهل البيت عوضا عن الصدقة :قفول الله عز وجل: { واعلموا أنماغنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ... } ( سورة الأنفال آية :41 ) فلا يسع أحدا الخروج عن قسمة الله تعالى التي نص عليها ,قال تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (سورة الحشر آية : 7 )
قال الإمام القرطبي رحمه الله وسهم ذوي القربى واجب إخراجه وإيصاله إليهم على كل من ولي شيئا من أمور المسلمين إلى يوم القيامة فلو منعوا ولم يقدروا على إيصالهم إلى حقوقهم وجب سد خلاتهم والقيام بحاجاتهم على أهل القدرة من المسلمين لاعلى وجه الصدقة بل على وجه القيام بالحقوق الواجبة في الأموال (3)".
__________
(1) - رواه (البخاري 3/451 رقم الحديث 1491 ومسلم 7/154رقم 1069وهذا لفظ البخاري
(2) - رواه البخاري 5/107رقم 2432ومسلم 7/155 رقم 1070.
(3) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3/125(219/80)
وقال الإمام الشنقيطي رحمه الله أما ذوي القربى فهم بنو هاشم وبنو المطلب على أظهر الأقوال دليلا وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور ومجاهد وقتادة وابن جريج ومسلم بن خالد (1) " .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهذا والله أعلم من التطهير الذي شرعه الله لهم , فإن الصدقة أوساخ الناس , فطهرهم الله من الأوساخ , وعوضهم بما يقيتهم من خمس المغانم , ومن الفيء الذي جعل منه رزق آل محمد , حيث قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه أحمد وغيره : " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لاشريك له , وجعل رزقي تحت ظل رمحي , وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ...(2)".
وقال الإمام بن القيم رحمه الله : "وكان يعطي سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب دون إخوانهم من بني عبد شمس وبني نوفل (3) "
وفي الحديث حجة للشافعي ومن وافقه أن سهم ذوي القربى لبني هاشم والمطلب خاصة دون بقية قرابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قريش قاله الحافظ(4).
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمحمية رضي الله عنه : " أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا" أي أد عن الفضل بن عباس وربيعة بن الحارث صداق زوجتيهما لأنهما من ذوي القربى . وعن علي بن أبي طالب رصي الله عنه قال : كانت لي شارفة أي - ناقة مسنة- من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ...(5)" .
__________
(1) - أضواء البيان 3/361 .
(2) - كما في جامع المسائل 4/78 .
(3) -( زاد المعاد 2/104)
(4) - كما في عون المعبود 8/141 ) .
(5) - رواه مسلم7/156-157 رقم الحديث 2072 وأبو داود 2 /57 رقم2986 كما في صحيح أبي داود للألباني .(219/81)
وعن يزيد بن هرمز أن نجدة الحر وري حين حج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى ويقول لمن تراه قال ابن عباس :"لقربى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله (1)" .
وقد رد الإمام ابن حزم رحمه الله على من زعم عدم استحقاق ذوي القربى للخمس بقوله : "هذه أقوال في غاية الفساد لأنها خلاف القرآن نصا وخلاف السنن الثابتة (2)" .
وأما منعهم أن يكونوا عمالا على الزكاة : ففي ذلك تنزيها لهم لما في هذا العمل من نفع وتهمة لذلك جعلهم قدوة للناس فأعطاهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم السقاية لما فيه من بذل وتضحية .
__________
(1) - رواه أبو داود رقم 2982كما في صحيح أبي داود وهو في صحيح النسائي برقم 4133
(2) - المحلى 7/330(219/82)
ففي تبويب صحيح مسلم (باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الصدقة ) ثم روى الإمام مسلم بإسناده إلى عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال : اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا والله لوبعثناهذين الغلامين- قالا لي وللفضل بن عباس- إلى رسول الله فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدي الناس وأصابا مما يصيب الناس قال : فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما فذكرا له ذلك فقال علي بن أبي طالب لاتفعلا فوالله ما هو بفاعل. فانتحاه ربيعة بن الحارث فقال والله ما تصنع هذا إلانفاسة منك علينا فوالله لقد نلت صهر رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فما نفسناه عليك قال :علي أرسلوهما فانطلقا واضطجع علي قال : فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الظهر سبقناه إلى الحجرة فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال:" أخرجا ماتصرران "ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال فتواكلنا الكلام ثم تكلم أحدنا فقال يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض الصدقات فنؤدي كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون قال فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه قال وجعلت زينب تلمح علينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه قال ثم قال : "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ادعوا إلي محمية" وكان على الخمس و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب قال فجاءه فقال لمحمية "أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن العباس "فأنكحه وقال لنوفل بن الحارث :" أنكح هذا الغلام ابنتك لي" فأنكحني وقال لمحمية "اصدق عنهما من الخمس كذا وكذا (1) "
__________
(1) - رواه مسلم 7/156 رقم 1072(219/83)
قال الإمام النووي رحمه الله : قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعبد المطلب بن ربيعة والفضل بن العباس وقد سألاه العمل على الصدقه بنصيب العامل : " إن الصدقة لاتنبغي لآل محمد" دليل على أنها محرمة سواء كانت بسبب العمل
أو بسبب الفقر والمسكنة وغيرها من الأسباب الثمانية . وقال ابن خزيمة رحمه الله فقوله : صلى الله عليه وعلى آله وسلم في إجابته إياهما " إن هذه الصدقة" أي التي سألتماني استعمالكما عليها إنما هي أ وساخ الناس ولاتحل لمحمد ولا لآل محمد .
وقال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ... } سورة التوبة آية:60 )
أما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك ولا يجوز أن يكون من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة لمافي صحيح مسلم عن المطلب- وذكر الحديث(1) .أ.هـ.
وقال الشيخ سليم الهلالي لا يحق استعمال آل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على جمع الصدقات لحديث العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث رضي الله عنهما(2).أ.هـ
10- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - دعا لسلالة أهل البيت بالبركة فقال : " اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد (3)"
11- أن الله جعل القرشيين يختصون بما لا يختص به غيرهم :
*من ذلك : أن الله أمر محمدا أن يسأل الناس المودة في قرابته
قال تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " ( سورة الشورى : آية : 23 )
__________
(1) - التفسير 2/332
(2) - المناهي الشرعية 2/84
(3) - رواه مسلم 4/105 رقم 405 .(219/84)
عن ابن عباس رضي الله عنهما { إلا المودة في القربى } قال : فقال سعيد بن جبير: قربى محمد فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لم يكن بطن من قريش إلا وله فيه قرابة" فنزلت عليه وفيه إلا أن تصلوا قرابة بيني وبينكم(1)"
قال ابن حجر الهيتمي : ومع ذ لك فهذا كله لا ينافي ما مر من تخصيص القربى بالآل لأن من ذهب إليه كابن جبير اقتصر على أخص أفراد القربى وبين أن حفظهم آكد من حفظ بقية تلك الأفراد ويستفاد من الاقتصار على طلب مودته صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحفظه بالأولى لأنه إذا طلب حفظهم لأجله فحفظه هو أولى بذلك وأحرى (2).أ.هـ
وذكر العلامة المباركفوري عند قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم" فانظروا كيف تخلفوني فيهما" قول الطيبي لعل السر في هذه التوصية وا قتران العترة بالقرآن أن إيجاب محبتهم لائح في معنى قوله تعالى :( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى(3) فإنه تعالى جعل شكر إنعامه وإحسانه بالقرآن منوطا بمحبتهم على سبيل الحصر فكأنه يوصي الأمة بقيام الشكر.."
وقال الشاعر : رأيت ولائي لآل طه فريضة * على رغم أهل البعد يورثني القربى
فما طلب المبعوث أجرا على الهدى * بتبليغه إلا المودة في القربى
ومعلوم أن الخلاف حاصل بين أهل العلم هل الآية عامة تشمل القرشيين أم هي خاصة بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقرب الناس إليه والذي يظهر أنها تشمل القرشيين وإن كان أهل البيت أخص بالقرابة منهم .
*ومنه أن الولاية العظمى على المسلمين للقرشيين إلى قيام الساعة.
__________
(1) - رواه ( البخاري 6/635 رقم الحديث 3497 )
(2) - الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزنقة ص 169
(3) - تحفة الأحوذي 10/197 .(219/85)
قال الإمام الترمذي رحمه الله ( باب ما جاء أن الخلفاء من قريش إلى أن تقوم الساعة ) ثم ذكر بإسناده إلى عبد الله بن أبي الهذيل يقول كان ناس من ربيعة عند عمرو بن العاص فقال رجل من بكر بن وائل لتنتهين قريش أو ليجعلن الله هذا الأمر في جمهور من العرب غيرهم فقال عمرو بن العاص كذبت سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول :" قريش ولاة الناس في الخيروالشرإلى يوم القيامة (1)"
وروى البخاري بإسناده قال :كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث أنه سيكون ملك من قحطان فغضب معاوية فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أمابعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأولئك جهالكم فإياكم والأماني التي تضل أهلها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول " إن هذا الأمر في قريش لايعاد يهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين(2)"
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان(3)"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع كافرهم(4)"
__________
(1) - رواه أحمد 4/203 وقال شعيب إسناده صحيح 17808 والترمذي 4/436 رقم 2227 وابن أبي عاصم في السنة 2/745 رقم 1143وصحح إسناده الألباني في الصحيحة 3/146 برقم1155 وصححه شيخنا الوادعي في الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين 4/157)
(2) - رواه البخاري 6/652رقم الحديث 3500 )
(3) - رواه البخاري 6/652 رقم 3501 ومسلم في كتاب الإمارة باب ( الناس تبع لقريش والخلافة في قريش )12/169 رقم الحديث 1820
(4) - رواه البخاري 6/643رقم 3495 ومسلم 12/168 رقم 1818واللفظ للبخاري )(219/86)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " الناس تبع لقريش في الخير والشر(1) " وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إثناعشر أميرا فقال كلمة لم أنسها فقال أبي أنه قال كلهم من قريش(2)" وفي رواية لمسلم لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي: ما قال؟ قال :كلهم من قريش " وفي رواية إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يقع فيهم اثني عشر خليفة قال ثم تكلم بكلام خفي علي قال قلت لأبي ما قال؟ قال : كلهم من قريش " وفي رواية لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا ثم تكلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكلمة خفيفة علي فسألت أبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال" كلهم من قريش " وفي رواية لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة قال
ثم تكلم بشيء لم أفهمه فقلت لأبي ما قال ؟ قال : كلهم من قريش " وفي رواية لا يزال هذا الدين عزيزا متبعا إلى إثنى عشر خليفة فقال كلمة صمنيها الناس .فقلت لأبي ما قال ؟ قال : كلهم من قريش " وفي رواية لا يزال الدين
قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم أثنى عشر خليفة كلهم من قريش(3)" وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " إن لي على قريش حقا وإن لقريش عليكم حقا ما حكموا فعدلوا وأتمنوا فأدوا واسترحموا فرحموا (4)"
__________
(1) - رواه مسلم 12/169 رقم 1819 وأحمد 3/383 )
(2) - رواه (البخاري 13/260 رقم 7223 ومسلم 12/169 رقم1821 واللفظ للبخاري )
(3) - رواه مسلم2 1/ 169-171 رقم 1821)
(4) - رواه أحمد 2/270 وصحح إسناده شعيب برقم 7653 وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 11/57 رقم 19902 وابن حبان 10/442 رقم 4581وصححه شيخنا الوادعي في صعقة الزلزال 2/239(219/87)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولاريب أنه قد ثبت اختصاص قريش بحكم شرعي وهو كون الإمامة فيهم دون غيرهم(1).
*ومنه : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصف قريشا بقوة الرأي.
لحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" إن للقرشي مثلي قوة الرجل من غير قريش " فقيل للزهري ما عنى بذلك قال : نبل الرأي (2)" .
*ومنه : أن قريشا تقدم على غيرها من الناس :
لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " قدموا قريشا ولا تقدموها(3) " وفي رواية "ولا تقدموا عليها"
*ومنه : أن قريشا أفصح العرب
فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : فأمر عثمان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف وقال لهم إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن فاكتبوها بلسان قريش فإن القرآن نزل بلسانهم ففعلوا(4)"
*ومنه : أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعا لقريش بالعزة والإنعام
__________
(1) - منهاج السنة 4/600
(2) - 0رواه أحمد 4/81 وأبو يعلى 13/397 رقم 7400 وقال حسين سليم إسناده صحيح وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 11/55 رقم 19893 وابن حبان 14/161 رقم 6265 وقال شعيب إسناده صحيح والبغوي في شرح السنة 14/62 رقم 3850والبزار في مسنده 8/329 رقم 3402وابن أبي عاصم قي السنة 2/1000وصححه شيخنا الو ادعي في الجامع الصحيح 4/156 )
(3) - رواه البيهقي في شعب الإيمان 2 /228 الحديث صححه الألباني في الإرواء 2/295 رواه البيهقي في شعب الإيمان 2 /228 الحديث صححه الألباني في الإرواء 2/295
(4) - رواه البخاري في فضائل القرآن 9/10 رقم الحديث 4984) قال مجاهد : نزل القرآن بلسان قريش وبه كلامهم .تفسير ابن أبي حاتم تحقيق أسعد الطيب 9/281819 .(219/88)
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " اللهم أذقت أول قريش نكالا فأذق آخرهم نوالا(1) "
قال العلامة عبد الرحمن المباركفوري : " اللهم أذقت أول قريش " أي يوم بدر والأحزاب" نكالا " بفتح النون أي عذابا بالقتل والقهر وقيل بالقحط والغلاء "فأذق أخرهم نوالا " أي إنعاما وعطاء وفتحا من عند ك وقال في اللمعات لعل المراد بالنكال ما أصاب أوائلهم بكفرهم وإنكارهم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الخزي والعذاب والقتل وبالنوال ما حصل لآخرهم من العزة والملك والخلافة والإمارة مالا يحيط في وصفه البيان (2) .
*ومنه : أن أفضل نساء أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم القرشيات
فقد جاء في الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول " نساء قريش خير نساء ركبن الإبل أحناه على الطفل وأرعاه على الزوج في ذات يده " يقول أبو هريرة على إثر ذلك ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا ق(3) " .
قال الإمام النووي: فيه فضيلة نساء قريش وفضل هذه الخصال وهي الحنوة على الأولاد والشفقة عليهم وحسن تربيتهم والقيام عليهم إذا كانوا يتامى ونحو ذلك ؛ مراعاة حق الزوج في ماله وحفظه والأمانة فيه وحسن تدبيره في النفقة وغيرها وصيانته ونحو ذ لك 0 معنى ركبن الإبل نساء العرب ولهذا قال أبو هريرة في الحديث لم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط والمقصود أن نساء قريش خير نساء العرب وقد علم أن العرب خير من غيرهم في الجملة0 أ.هـ .
وقال الحافظ قوله ركبن الإبل إشارة إلى العرب لأنهم الذين يكثر منهم ركوب الإبل فقد عرف أن العرب خير من
__________
(1) - رواه الترمذي 10/408 رقم 3908 وأحمد 1/242 وقال شعيب إسناده حسن وأخرجه ابن أبي شيبة 7/546 في الفضائل وحسنه شيخنا الو ادعي في الجامع 4/405.
(2) - تحفة الأحوذي 10/2
(3) - رواه البخاري 6/583 رقم الحديث 3434 ومسلم 16/65 رقم 2527)(219/89)
غيرهم مطلقا في الجملة فيستفاد منه تفضيلهن مطلقا على نساء غيرهن مطلقا (1).أ.هـ.
ومن المعلوم أن كل هاشمية قرشية لا العكس .
*ومنه :أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دعا على من أهان قريشا
لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " من يرد هوان قريش أهانه الله(2) " وعن سعيد بن المسيب عن عمرو بن عثمان قال : قال أبي : يا بني إن وليت من أمر الناس شيئا فأكرم قريشا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " من أهان قريشا أهانه الله(3) "
وصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للقرابة
عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزلت: { وأنذر عشيرتك الأقربين } سورة الشعراء : آية 241 قام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الصفا فقال : " يا فاطمة بنت محمد ! يا صفية بنت عبد المطلب ! يابني عبد المطلب ! لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم (4)"
__________
(1) - الفتح 9/155 عند شرح حديث رقم 5082 )
(2) - رواه الترمذي 5/671 رقم 3905 وأحمد 1/183 وحسنه شعيب برقم 1587 ورواه الحاكم 4/74 وأبو يعلى 2/113 رقم 775
والطبراني في الأوسط 4/61 رقم 3609 والبغوي في شرح السنة 14/61 رقم 3849 وابن أبي عاصم في شرح السنة 2/997 رقم 3849
(3) - رواه ( رواه أحمد 1/64 والحاكم 4/74 وابن حبان 14/166 برقم 6269 وصححه الألباني في الصحيحة3/72 برقم 1178 )
(4) - رواه مسلم 3/69 رقم 205(219/90)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين أنزل عليه : { وأنذر عشيرتك الأقربين } يا معشر قريش ! اشتروا أنفسكم من الله . لا أغني عنكم من الله شيئا . يابني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئا . يا عباس بن عبد المطلب ! لا أغني عنك من الله شيئا . يا صفية عمة رسول الله ! لا أغني عنك من الله شيئا .يا فاطمة بنت رسول الله ! سليني من مالي بما شئت . لا أغني عنك من الله شيئا (1)." وعنه أيضا رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية : { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قريشا فاجتمعوا . فعم وخص . فقال يابني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار , يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار .يا بني عبد شمس ! أنقذوا أنفسكم من النار . يا بني هاشم ! أنقذوا أنفسكم من النار .يا بني عبد المطلب ! أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة ! أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم برحما سأبله إببلا لها (2)."
فالحديث دليل صحيح صريح على أن أقارب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تنفعهم قرابتهم بدون عمل صالح كما قال تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فمن كان تقيا ومن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو نور على نور فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم له الشفاعة الخاصة والعامة .
من علامات محبة أهل البيت
__________
(1) - رواه البخاري 8/643 رقم 4771 ومسلم 3/69 رقم 206 واللفظ له .
(2) - رواه مسلم 3/67-68 رقم 204(219/91)
لا يخفى أن حب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أعظم واجبات الدين , فمن أحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم اتبعه وأطاعه في أمره ونهيه وقد تقدم الكلام على أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمحبة أهل البيت وقد يقول قائل ومن الذي لا يحب أهل بيت النبوة أو يتعمد أن يعصي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ؟
والجواب : أنه قد وجد في صفوف المسلمين من يأخذ من الدين ما يشاء ويترك ما يشاء فلا يعمل بالدين كله وقد وجد أيضا من يتصف بصفات الجاهلية في باب الطعن في الأنساب . لذلك أقول هناك علامات تدل على محبة أهل بيت النبوة منها : الصلاة عليهم مع الصلاة على الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإجلالهم , وتعظيمهم , واحترامهم , وتقديمهم على غيرهم , وأداء بحقوقهم المشروعة , وعدم الطعن فيمن انتسب إليهم بدون بينة صحية أو برهان واضح (1)0 فكم من مدع محبة أهل البيت وليس عنده أثر ما يدعيه , والله المستعان .
بعض كلام العلماء في وجوب محبة أهل بيت النبوة
__________
(1) - وقد بينت ولله الحمد ما يجب على المسلمين لأهل بيت النبوه في كتابي : (شذا الأزهار في بيان خصائص آل بيت النبي الأطهار) .(219/92)
قال الإمام/ الآجري رحمه الله : واجب على كل مؤمن ومؤمنة محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنو هاشم علي بن أبي طالب وولده وذريته وفاطمة وولدها وذريتها والحسن والحسين وأولادهما وذريتهما وجعفر الطيار وولده وذريته وحمزة وولده وذريته والعباس وولده وذريته رضي الله عنهم هؤلاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واجب على المسلمين محبتهم وإكرامهم واحتمالهم وحسن مداراتهم والصبر عليهم والدعاء لهم فمن أحسن من أولادهم وذرياتهم فقد تخلق بأخلاق سلفه الكرام الأخيار الأبرار ومن تخلق منهم بمالايحسن من الأخلاق دعي له بالصلاح والصيانة والسلامة وعاشره أهل العقل والأدب بأحسن المعاشرة ...(1)إهـ
وقال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى : ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعظيم أهل بيته وتعظيم أولاد المهاجرين والأنصار وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : " قدموا قريشا ولا تقدموا عليها" وما ذلك إلا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم (2)"
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى وهو يحكي علامات محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومنها محبته لمن أحب النبي- صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هو بسببه من أهل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار وعداوة من عاداهم وبغض من أبغضهم وسبهم فمن أحب شيئا أحب من يحب .(3)إهـ
__________
(1) - الشريعة 3/3صلى الله عليه وعلى آله وسلم
(2) - شعب الإيمان 2 /228 الحديث صححه الألباني في الإرواء 2/295
(3) - الشفاء2/26(219/93)
وقال عمر بن عبد العزيز لعبد الله بن حسن بن الحسين إذا كان لك حاجة فاكتب لي بها فإني أستحيي من الله أن يراك على باب داري ما على ظهر الأرض أهل بيت أحب إلي منكم ولأنتم أحب إلي من أهل بيتي .وقال لفاطمة بنت علي رضي الله عنه : يا ابنة علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحب إلي منكم ولأنتم أحب إلي من أهلي(1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وقال أيضا . . . بل يجب أيضا مودتهم وموالاتهم فإنه قد ثبت أن الله يحبهم ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه فإن الحب في الله والبغض في الله واجب وهو أوثق عرى الإيمان .
وقال أيضا ولاريب أن لآل محمد حقا على الأمة لايشاركهم فيه غيرهم ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر بطون قريش كما أن قريشا يستحقون من المحبة مالا يستحقه غير قريش من القبائل ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واجبة...بل هي مما أوجب الله به في سائر العبادات . . ."(2) إهـ
وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عن حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم “ أذكركم الله في أهل بيتي...” وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها هذا مع ما علم من خصوصيتهم بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبأنهم جزء منه فإنهم أصوله التي نشأ عنها وفروعه التي نشئوا عنه كما قال : " فاطمة بضعة مني "
__________
(1) - رواه بن سعد في الطبقات الكبرى 5/333- 334
(2) - انظر العقيدة الواسطية والفتاوى 3/406 ومنهاج السنة 7/104 ,102(219/94)
وقال أيضا في قوله تعالى { قل إن كان آباءكم ..... } وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله ولاخلاف في ذلك بين الأمة, وأن ذلك مقدم على كل محبوب(1). أهـ
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على ظهر الأرض فخرا وحسبا ونسبا ولاسيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين .(2)إهـ
وقال علامة اليمن الكبير محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى : أمر بمحبتهم واختصهم للمباهلة بهم وتلا آية التطهير بسببهم وبشر محبيهم أن يكونوا معه في درجته يوم القيامة وأنذر محا ربيهم وبشر مسا لميهم بالسلامة وشرع الصلاة عليهم معه في كل صلاة وقرنهم في حديث الثقلين بكتاب الله ووصى فيهم وأكد الوصاة بقوله الله الله خرجه مسلم فيما رواه وزاد االترمذي وسواه بشراه لذوي قرباه إنهما لن يفترقا حتى يلقياه 0 وما أهب الله سبحانه لهم أرواح الذكر المحمود في جميع الوجود بذكرهم في الصلوات الإلهية ومع الصلوات النبوية فلازم ذكرهم الصلوات الخمس والصلاة على خير من طلعت عليه الشمس كان ذلك إعلانا ممن له الخلق والأمر وعلامات ممن لا يقدر لجلالة قدر أنه أراد أن يهب ذكرهم مهب الجنوب والقبول أن لا ينسى فيهم عظيم حق الرسول لاسيما وقد سبق في علمه سبحانه أن الأشراف لا يزالون محسدين وأن الاختلاف والمعاداة فتنة هذه الأمة إلى يوم الدين (3).إهـ
__________
(1) - المفهم 6/304 ,303 ) والجامع لأحكام القرآن 8/61.
(2) - التفسير 4/113
(3) - العواصم والقوا صم في الذب عن سنة أبي القاسم 1/177- 179(219/95)
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى : بعد أن ذكر جملة من الأحاديث الدالة على فضل أهل البيت : وفي هذه الأحاديث الحث الأكيد على مودتهم ومزيد الإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم وتأدية حقوقهم الواجبة والمندوبة كيف وهم أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية كما كان سلفهم. . . (1) إهـ
وقال الشيخ عبد العزيز الناصر الرشيد رحمه الله تعالى :إن أهل السنة والجماعة يحبون أهل بيت الرسو ل صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ويتولونهم ويحترمونهم ويكرمونهم لقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاحترامهم ومحبتهم والبر بهم من توقير ه واحترامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وامتثالا لما جاء به الكتاب والسنة من الحث على ذلك.(2) إهـ
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى : أهل البيت هم آل النبي ًًًًًصلى الله عليه وعلى آله وسلم الذين حرمت عليهم الصدقة وهم آل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس وبنو الحارث بن عبد المطلب وأزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وبناته من أهل بيته كما قال تعالى: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } فأهل السنة يحبونهم ويحترمونهم ويكرمونهم لأن ذلك من احترام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإكرامه ولأن الله ورسوله قد أمرا بذلك قال تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } وجاءت نصوص من السنة بذلك منها ما ذكره الشيخ- يعني ابن تيمية- وذلك إن كانوا متبعين للسنة مستقيمين على الملة كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وبنيه أما من خالف السنة ولم يستقم على الدين فإنه لاتجوز محبته ولو كان من أهل البيت (3)0 أ.هـ .
__________
(1) - الصواعق المحرقة ص342
(2) - النبيهات السنية ص 290
(3) - شرح العقيدة الواسطية للفوزان ص187- 188* .الشيعة الإمامية الاثني عشرية في ميزان الإسلام ص 132(219/96)
وقال العلامة محمد خليل هراس رحمه الله : فأهل السنة والجماعة يحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛لحرمتهم وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما يحبونهم لإسلامهم وسبقهم وحسن بلائهم في نصر دين الله فلايتم إيمان أحد حتى يحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أولا : لأنهم من أوليائه وأهل طاعته الذين تجب محبتهم وموالاتهم فيه
وثانيا : لمكانتهم من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واتصال نسبهم به(1) .إهـ
وقال الدكتور سليمان السحيمي حفظه الله تعالى : لاشك أن لأهل بيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منزلة رفيعة ودرجة عالية من الاحترام والتقدير عند أهل السنة والجماعة حيث يرعون حقوق آل البيت التي شرعها الله لهم فيحبونهم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي قالها يوم غدير خم “ أذكركم الله في أهل بيتي “ فهم أسعد الناس بالأخذ بهذه ا لوصية وتطبيقها فيتبرؤن من طريقة الروافض الذين غلوا في بعض أهل البيت غلوا مفرطا وطريقة النواصب الذين يؤذونهم ويبغضونهم فأهل السنة متفقون على وجوب محبة أهل البيت وتحريم إيذائهم أو الإساءة إليهم بقول أو فعل.(2) إهـ
تصحيح مفهوم خاطئ
__________
(1) - شرح العقيدة الواسطية ص 247
(2) - العقيدة في أهل البيت ص 59(219/97)
لقد شاع وذاع بين كثير من الناس أن مذهب أهل البيت هو التشيع المقيت والرفض الخبيث , فولدت هذه الإشاعات بغض الهاشميين في نفوس الناس .وهذا فهم خاطئ وسقيم فيه استنقاص أهل البيت وتشويههم وكأنهم دعاة بدع وخرافات .والواقع يثبت خلاف هذا ؛ فأهل البيت انتشروا في شتى بقاع الدنيا , وتفرقوا في المذاهب ولم يدخل مذهب التشيع والرفض إلا قلة قليلة منهم والذي يتعرف على العلماء من أهل السنة والجماعة يعرف أن منهم هاشميون يدافعون عن الدين ويحاربون البدع والمبتدعين , والضلالات والمضلين , ومن تعرف أيضا على مراكز أهل السنة التي يدرس فيها العلم الشرعي في اليمن ؛ علم أن فيها مشائخ ودعاة إلى الله , وطلبت علم هاشميون نشروا العلم , وهدى الله على أيديهم أناس كثير ولله الحمد .
فأهل البيت ليس لهم مذهب معين فقد سأل أبو جحيفة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه هل عندكم شيء ما ليس في القرآن – وقال مرة ما ليس عند الناس – فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن – إلا فهما يعطى رجل في كتابه- وما في الصحيفة . قلت وما في الصحيفة ؟ قال : العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم يكافر(1) .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى عن أهل البيت :...وقد تفرقوا في البسيطة , وسكنوا الأقاليم المتباعدة , وتمذهب كل واحد منهم بمذهب أهل بلده , ...(2)
وقد أحسن الأستاذ / حسن بن يحي الذاري حيث قال :
الرفض مرفوض مدى الأيام * بقرار أشجع فارس مقدام
سل حكم زيد فيه تلق شجاعة * تصم الروافض بالضلال الطامي
زيد إمام الآل درة تاجهم * كان الخبير بنحلة الأقوام
وجميع آل البيت ساروا خلفه * فلهم مواقف قادة أعلام
جعلتهم رمزا لنصرة دينه * في عزة ومهابة وتسامي
فهموا يرون الرفض سلعة خاسر * يبغي اختراق معالم الإسلام
__________
(1) - رواه البخاري 12/303 رقم 6903 وأحمد 1/79
(2) - نيل الأوطار 1/479 بتحقيق عبد المنعم إبراهيم .(219/98)
فالآل والأصحاب شمس هداية * سطعت ببرهان الدى المتنامي
من منبع الأنوار أعذب مورد * نهلوا فكانوا قدوة لأنام
عاشوا مع القرآن أكمل منهج * رسم الهدى وأقام خير نظام
وبسنة المختار كان سلوكهم * مشكاة نور بالهدى البسام
وقد قبل هذه الدعاية المفتراة , الجهلة وروجها المغرضون , والنواصب الماكرين ؛ الذين ينطبق عليهم قول القائل :
وقل للعيون العمي للشمس أعين * سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح نفوسا أطفأ الله نورها * بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
الفصل الخامس: تحريم الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحب- رضي الله عنهم - والآل
الغلو هو : مجاوزة الحد بأن يزاد الشيء في حمده أو ذمه بما لا يستحق ونحو ذلك(1)".
فقد أمر الله بالاستقامة على الدين على طريقة سيد الأنبياء والمرسلين غير طريق الضلال والمنحرفين
فقال تعالى { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } سورة هود آية : 112
وأرشدنا إلى طلب الهداية التامة بقوله { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } سورة الفاتحة
وحذرنا من تعدي الحدود فقال : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } سورة البقرة آية : 229 وقال تعالى : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } سورة الطلاق آية :1
ونهى عن الغلو في الدين فقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل } سورة المائدة آية : 77
__________
(1) - الاقتضاء 1/293(219/99)
وقال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "...وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين(1) "
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله (2)"
وقال لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(3) "
فأهل السنة والجماعة وسط بين الفرق لا إفراط ولا تفريط كما قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } , فلم يفرطوا كما أفرطت النصارى في عيسى عليه السلام الذين قالوا إنه ابن الله , ولم يفرطوا كما فرطت اليهود الذين قتلوا أنبياء هم بغير حق .فهم كما
أو كما فرطت الشيعة في الصحابة والقرابة بل هم وسط في كل المجالات , مهما لامهم أهل الجهل والبدع
وقد أحسن القائل : إذا ما تولينا صحابة أحمد * يقولون نصب وهو شر النواصب
إذا كان معنى النصب هذا فإنني * الا فاشهدوا يا قمنا ألف ناصبي
وذكر الكسا أصحابه وبنيهم * خيار البرايا الأكرمين الأطايب
إذا ما ذكرناهم يقولون رافضي * ألا إن هذا الرفض أسنى المطالب
فآل النبي حقا هم المقتفون لا * أسير هوى مستهتر في المعايب
أحاط به الخذلان من كل وجهة * وراصده الشيطان من كل جانب
فلا نقتدي إلا بصالحهم وإن * سكتنا عن الغمر المناوي المحارب
كذا قولنا في الصحب وهو توسط * وفي طرفيه الشر فاعرفه صاحبي
وقال آخر : شهدت بأن الله لارب غيره * وأشهد أن البعث حق وأخلص
وأن عرى الإيمان قول مبين * وفعل ذكي قد يزيد وينقص
وأن أبا بكر خليفة ربه * وكان أبو حفص على الخير يحرص
وأشهد ربي أن عثمان فاضل * وأن عليا فضله متخصص
__________
(1) - رواه أحمد 1/2155, 347 وابن خزيمة 4/867 /2868 والنسائي 5/268 الحج والحاكم 1/446 وابن ابي عاصم 98 وقال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط 1/293 صحيح على شرط مسلم
(2) - رواه البخاري 6/591 رقم 3445
(3) - رواه البخاري 6/612رقم 3453 ومسلم 5/10 رقم 229(219/100)
أئمة قوم يهتدى بهداهم * لحى الله من إياهم يتنقص
صور من الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله عنهم - والآل
الصورة الأولى الغلو في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
زعم عباد القبور من الصوفية أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ينفع ويضر ويعطي ويمنع ويعلم الغيب فوصفوه بصفات الربوبية والألوهية , فقد اعتقدوا أنه يجوز التوجه إلى الرسول بالدعاء والاستغاثة به , وأن الكون خلق من أجله, وأن جميع العلوم جزء من علمه حتى علم اللوح والقلم , وقالوا بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول مخلوق , وأن الكون خلق من نوره , واعتقد بعضهم أنه يمد يده لتقبل وهو في قبره , وقالوا بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحضر معهم احتفال مولده ويسامحهم على معاصيهم(1) , كما هو ظاهر في أقوالهم منها :
قول الشيخ يوسف بن علي إن امرأة هاشمية كانت تسكن المدينة , وبعض الخدم يظلمونها فشكت إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأجابها من الروضة : أما لك في أسوة فاصبري كما صبرت أو نحو ذلك , فقالت هذه المرأة بعد ما سمعت هذا الصوت ذهب عني كل هم وغم , ومات الخدم الثلاثة الذين كانوا يظلمونني (2) .
__________
(1) - انظر تفاصيل الكلام في كتاب مظاهر الانحرافات العقدية جـ 1لـ إدريس محمود إدريس .
(2) - كما في كشف الأستار عما تحمله بعض الدعوات من الأخطار , لمحمد العريني ص 31 .(219/101)
ويعتقد الصوفية في الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أيضا عقائد شتى فمنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يصل إلى مرتبتهم وحالهم , وأنه كان جاهلا بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي : ( خظنا بحرا وقف الأنبياء بساحله) ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش ...وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده(1) " .أي من أهل مذهبه , وسأذكر بعضا من أقوالهم الشعرية , التي تدل على غلوهم وانحرافهم في ملحق الأشعار من هذا الكتاب .
والواجب على كل مسلم تعظيم رسول الله وفق ما أمر الشرع به ومضى عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف الصالح لا كما تفعل الصوفية والرافضة عندنا في اليمن يمدحون الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مناسبات الإسراء والمعراج والمولد والزاج والموت بأناشيد مبتدعة وبأصوات جماعية وفردية وغابا ما يظهرون بدعهم بواسطة المكبرات الحديثة .أعاذنا الله من البدع والزيغ وأهلهما.
الصورة الثانية الغلو في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و- رضي الله عنهم -
لقد جمع الشيعة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين الغلو والجفاء :
فمن مظاهر غلوهم أنهم جعلوا ولاية الإمام علي رضي الله عنه أفضل أركان الإسلام ومقامه أرفع من مقام الملائكة والأنبياء والرسل وأوردوا روايات مزورة تحث على الغلو وأحاديث مكذوبة يحكمون فيها بالثواب والعقاب والجنة لمن شاءوا وكيف شاءوا وكأن من نسبوا الروايات إليه قد نزل عليهم وحي من الله .
فقد روى الكليني عن أبي جعفر أنه قال : بني الإسلام على خمسة أشياء على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية . قال زرارة فقلت وأي شيء من ذلك أفضل فقال الولاية ".
__________
(1) - نقلا عن كتاب الفكر الصوفي ص 58 .(219/102)
وقال الخميني في دروسه التي كان يلقيها في النجف بعنوان (ولاية الفقيه) : (وثبوت الولاية والحاكمية للإمام علي (ع ) لا تعني تجرده عن منزلته التي هي له عند الله , ولا نجعله مثل من عداه من الحكام . فإن للإمام مقاما محمودا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب , ولا نبي مرسل .وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنوار فجعلهم الله بعرشه محدقين وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله . وقد قال جبريل –كما ورد في روايات المعراج- : لو دنوت أنملة لاحترقت , وقد ورد عنهم (ع) إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل . ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة عليها السلام )(1) .أهـ .
ومن الغلو ما يفعله الشيعة أيضا من احتفالات سنوية يوم العاشر من شهر محرم
__________
(1) - الحكومة الإسلامية ص 47-48 ط دار عمان للنشر والتوزيع(219/103)
الذي جعلوه يوم حزن , ونياحة ولطم الخدود وشق الجيوب , فالمواكب الحسينية تسير في الشوارع وفيها الناس تضرب الظهور بالسلاسل والرؤوس والأجسام بالسيوف والخناجر . كل ذلك تعبيرا عن محبتهم للحسين وحزنهم الشديد على قتله , فقد رتبوا على فعلهم هذا الأجر والثواب . فقد روى الطوسي بسنده عن الرضا (عليه السلام ) أنه قال : من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة , ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عز وجل يوم القيامة , يوم فرحه وسروره وقرت بنا في الجنان عينه...(1)"وبسنده أيضا عن أبي عمارة الكوفي قال سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول : من دمعت عينه دمعة لدم سفك لنا أو حق لنا انتقصناه ؛ بوأه الله تعالى بها في الجنة حقبا(2) ". بل زعم الرفض أن السماء بكت وأمطرت دما وترابا أحمرا كما بكت الملائكة والجن وسائر المخلوقات لقتل الحسين رضي الله عنه (3). وقد سأل رجل كبير في السن الدكتور موسى المسوي(4) وهما يشاهدان القوم والدماء تسيل على جباههم وجنوبهم ما بال هؤلاء الناس وقد أنزلوا بأنفسهم هذه المصائب والآلام ؟ قال قلت : كأنك لا تسمع ما يقولون , إنهم يقولن (واحسيناه) أي لحزنهم على الحسين .قال ثم سألني الشيخ من جديد أليس الحسين الآن في { مقعد صدق عند مليك مقتدر } قلت : نعم ثم سألني مرة أخرى : أليس الحسين الآن في هذه اللحظة في الجنة التي { عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين } قلت نعم ثم سألني : أليس في الجنة { حور عين كأمثال اللؤلؤ
__________
(1) - أمالي الطوسي 149 وانظر بحار الأنوار 44/284 نقلا عن العقيد في أهل البيت ...ص 450
(2) - أمالي الظوسي 197 .وانظر أماالي المفيد 112والبحار 44/279 كما في المرجع السابق .
(3) - ا،ظر البحار 44/285-286
(4) - وهو من علمائهم الذين تراجعوا كثير من المنكرات والبدع المخترعة في الدين , وله مؤلفات ينتقد الشيعة فيها ويدعوهم إلى الحق .(219/104)
المكنون } قلت نعم (1) ) .وحتى إلى عهد قريب كانت السفارات البريطانية في طهران تمول المواكب الحسينية التي كانت تظهر بذلك المظهر البشع في الشوارع والأزقة ...وقد قيل إن ياسين الهاشمي رئيس الوزراء العراقي في عهد الاحتلال الانجليزي للعراق عندما زار لندن للتفاوض مع الإنجليز لإنهاء عهد الانتداب , قال له : الإنجليزي :نحن في العراق لمساعدة الشعب العراقي كي ينهض بالسعادة وينعم بالخروج من الهمجية . ولقد أثار هذا الكلام ياسين الهاشمي فخرج من غرفة المفاوضات غاضبا , غير أن الإنجليز اعتذروا منه بلباقة ثم طلبوا منه بكل احترام أن يشاهد فيلما وثائقيا عن العراق , فإذا به فيلم عن المواكب الحسينية في شوارع النجف وكربلاء والكاظمية , تصور مشاهد مروعة ومقززة عن ضرب القامات والسلاسل , وكأن الإنجليز قد أرادوا أن يقولوا له هل ان شعبا مثقفا له من المدنية حظ يعمل بنفسه هكذا؟ (2) .
وهذا الفعل ليس من الإسلام في شيء وإنما إحياء لعادات الجاهلية ومخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم القائل :"ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية (3)"
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت (4)"
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم :" أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة , وقال :النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب (5)"
__________
(1) - الشيعة والتصحيح ص 100-101
(2) - المصدر السابق
(3) - رواه البخاري 1294
(4) - رواه مسلم 934 وأحمد 5/342 , 343 .
(5) - رواه مسلم 934(219/105)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنهما يحدث للناس بدعتين : بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء , من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاء المراثي , وما يفضي إلى ذلك من سب السلف ولعنهم , وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب , حتى يسب السابقون الأولون , وتقرأ أخبار مصرعه رضي الله عنه التي كثير منها كذب , وكان قصد من يسن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة , فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين , بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة , من أعظم ما حرم الله ورسوله(1)
فالواجب على المسلم إذا أصيب بمصيبة أن يصبر ويسترجع كما قال تعالى : { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون } البقرة
وقال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون , اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها, إلا آجره الله في مصيبته وأخلفه خيرا منها (2)"
ومن الغلو احتفال الشيعة السنوي بيوم الغدير في الثامن عشر من شهر ذي الحجة :
ومن صوره أن الروافض عندنا في اليمن يخرجون في هذا اليوم إلى جوار جبل ثم يقومون برماية الجبل بأنواع من الأسلحة النارية ويدعون أنه أبو بكر وعمر ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم , الذين ظلموا عليا رضي الله عنه في زعمهم , ويحصل في هذا الحفل سب ولعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .وقد أخبرت أن بعضهم إذا رجع من الاحتفال قام بتعذيب شاة حمراء ونتف صوفها وكأنها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها , ثم يخيم الحزن عليهم .
__________
(1) - منهاج السنة2/322-323 .
(2) - رواه مسلم 918 ومالك 43 وأحمد 6/309 وأبو داود 3119 0(219/106)
وقد أرادوا بهذا الفعل تثبيت بغض الصحابة في قلوب أتباعهم , والتشكيك في شرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم . فهم يدعون أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم علي رضي الله عنه , وأن ولايته كانت في الثاني عشر من شهر ذي الحجة .
وقد ذكر في البداية والنهاية وتاريخ الإسلام وشذرات الذهب وغيرها من كتب التاريخ : أن أول من أحدث بدعة الغدير هو : معز الدولة أحمد بن بويه , وكان رافضيا.
ففي العاشر من محرم سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة أمر معز الدولة ابن بويه قبحه الله أن تغلق الأسواق وأن يلبس النساء المسوح من الشعر, وأن يخرجن إلى الأسواق حاسرات وجوههن ناشرات شعورهن يلطمن وجوههن ينحن على الحسين بن علي بن أبي طالب.
وفي العاشر من ذي الحجة أمر معز الدولة ابن بوبويه بإظهار الزينة وأن تفتح الأسواق في الليل وأن تضرب الدياب والبوقات وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء وعند الشرط فرحا بعيد الغدير: غدير خم, فكان وقتا عجيبا مشهورا وبدعة شنيعة ظاهرة" أهـ. وذكر القاضي إسماعيل الأكوع في (هجر العلم ومعاقله في اليمن) إن أول من احتفل بشعار الغدير برفع الأعلام والألوية في اليمن هو الإمام المهدي أحمد بن الحسن بن الإمام القاسم .في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة 1073هـ
ومن مظاهر الغلو عند الشيعة السجود على التربة الحسيينية
قال الدكتور موسى الموسوي: قلما يوجد بيت للشيعة لا توجد فيه التر بة التي تسجد عليها الشيعة في صلواتها وهي من تراب كربلاء المدينة التي استشهد الحسين فيها ورفاته الطاهرة مدفونة فيها ...هناك ملايين الشيعة في شرق الأرض وغربها تلتزم بالسجود على ترية كربلاء ومساجدهم مليئة بها , ويعملون بالتقية عندما يقيمون الصلاة في مساجد الفرق الإسلامية الأخرى حيث يجففونها ولا يظهرونها خوفا من اعتراض غيرهم عليها(1) .
__________
(1) - المصدر السابق(219/107)
وأما جفاهم الصحابة فقد عادوهم بالسب والشتم والاحتقار والاستهزاء والسخرية والاتهامات التي لم تصدر حتى من اليهود والنصارى ضد الصحابة مثلما صدرت من الرافضة الدين أنكروا عدالتهم , وطعنوا في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ,
و عثمان وطلحة وسعيد ابن أبي وقاص وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة ابن الجراح وعائشة أم المؤمنين وحفصة بنت عمر ومعاوية ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهم رضي الله عنهم(1) 0
فمن مظاهر الجفاء : تشكيكهم في روايات السنة المطهرة ؛ فقد طعن خصوم الإسلام وأعوانهم الرفض في أبي هريرة , والغاية من هذه الطعونات : إزالة ثقة المسلمين عن الصحابة المكثرين من رواية الأحاديث حتى يضعف الدين في القلوب ويقبلوا بدعهم الهدامة وآرائهم الفاسدة ودينهم المخترع .
ولننظر إلى توثيق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للصحابي الجليل أبا هريرة رضي الله عنه : فعندما قال للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث . أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من نفسه (2)"
بل لقد اعتقدوا وقالوا بردة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد موته صلى الله عليه وعلى آله وسلم عدا نفر منهم وهذه العقيدة الخبيثة ظاهرة في كتبهم وما تفوح به أفواه الجريئين منهم أكثر :
فقد جاء في كتاب (روضة الكافي ): عن أبي جعفر قال : ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا ثلاثة هم المقداد وسلمان وأبوذر .وأكد هذا المعتقد الخبيث صاحب كتاب تفسير الصافي وأورد فيه روايات كثيرة يستدل بها على أن الصحابة ارتدوا إلا القليل .
__________
(1) - انظر تفصيل ذلك في كتاب (أوجز الخطاب في بيان موقف الشيعة من الأصحاب) لأبي محمد الحسيني
(2) - رواه البخاري 1/255 رقم 99,6570 .(219/108)
وفيه أيضا قوله : سألت أبا جعفر عن الشيخين فقال فارقا الدنيا ولم يتوبا ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .!!
وفيه أيضا : تسألني عن أبي بكر وعمر فلعمري لقد نافقا وردا على الله كلامه وهزئا برسوله وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (1) !!! وقال التشتري الرافضي وهو من علماء الشيعة : كما جاء موسى للهداية وهدى خلقا كثيرا من بني إسرائيل وغيرهم فارتدوا في أيام حياته ولم يبق فيهم أحد على إيمانه سوى هارون (ع ) , كذلك جاء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهدى خلقا كثيرا لكنهم بعد وفاته ارتدوا على أعقابهم (2) .وقد نسب الشيعة روايات زورا وبهتانا : إلى الإمام علي ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وغيرهم رضي الله عنهم يستدلون بها على كفر الصحابة (3).
وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال إنهم أجهل الناس بالمعقول والمنقول (4)".وقال الشعبي رحمه الله عن الرفض : لو كانوا من الطيور لكانوا رخما ولو كانوا من الدواب لكانوا حمرا (5)".
__________
(1) - روضة الكافي للكليني ص 202و ص 20و ص 107
(2) - احقاق الحق للشتري ص 316 كما في أوجز الخطاب في بيان موقف الشيعة من الأصحاب ص 14-15
(3) - انظر روضة الكافي للكليني ص 115و تفسير العيااشي 1/199 وأخبار معرفة الرجال ص 6 , 8 , 11 وانظر علم اليقين للكاشاني 3/763-744 وتفسير الصافي له 1/148, 305 وقرة العيون له ص 426 والبرهان للبحرني 1/319 وبحار الأنوار للمجلسي 6/749 وحياة القلوب له
2/837 والدرجات الرفيعة للشيرازي ص 223 وحق اليقين لعبد الله شبر1/218-219 .أهـ من المصدر السابق .
(4) - منهاج السنة النبوية 7/34
(5) - أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة 2/549 وابسعد في الطبقات 6/248 , وصحح سنه شيخنا الو ادعي رحمه الله كما في حاشية كتاب الصحيح المسند من فضائل أهل البيت ص 68(219/109)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : وأما طوائف الرفض وجهلهم وقلة عقلهم , ودعاويهم أن الصحابة كفروا إلا سبعة عشر صحابيا , وسموهم , فهو من الهذيان بلا دليل إلا مجرد الرأي الفاسد عن ذهن بارد , وهوى متبع , وهو أقل من أن يرد , والبرهان على خلافه أظهر وأشهر . مما علم من امتثالهم أوامره بعده عليه الصلاة والسلام , وفتحهم الأقاليم والآفاق , وتبليغهم عنه الكتاب والسنة , وهدايتهم الناس إلى طريق الجنة , ومواظبتهم على الصلوات والزكوات وأنواع القربات , في سائر الأوقات , مع الشجاعة والبراعة , والكرم ولإيثار , والأخلاق الجميلة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة,ولا يكون أحد بعدهم مثلهم في ذلك , فرضي الله عنهم أجمعين ولعن من يتهم الصادقين ويصدق الكاذبين آمين يا رب العالمين (1).
وقد شارك الشيعة الرفض في غلوهم في الصحابة الكرام رضي الله عنهم , الخوارج الذين هم أول من ابتدع في الدين , فمواقفهم مع الإمام عي بن أبي طالب رضي الله عنه وخروجهم عنه وقتالهم له معروفة ؛
حتى أن شاعر هم عمرو بن حطان مدح عبد الرحمن بن ملجم عليه لعنة الله قاتل علي فقال :
ياضربة من تقي ما أراد بها * إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه * أوفى البرية عند الله ميزانا
ولم يقفوا عند الخروج عن ولاية الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه وإنما كفروا بعض الصحابة من ذلك قول قائلهم :
أبرأ إلى الله من عمرو وشيعته * ومن علي ومن أصحاب صفين
ومن معاوية الطاغي وشيعته * لا بارك الله في القوم الملاعين
الصورة الثالثة الغلو في أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - الباعث الحثيث ص 177- 178 .(219/110)
قد غلا ابن العربي المتصوف وزعم أن الله أسقط عن أهل البيت وسامحهم في جميع ما يأتون قال وما يصيبنا من ظلم ظالمهم فكما يصيبنا من القدر المطلق ...(1)" وادعت الإمامية العصمة لأئمتهم وأنهم يعلمون الغيب وقالوا بتفضيلهم على الملائكة والأنبياء . قال المجلسي اعلم أن الإمامية رضي الله عنهم على عصمة الأئمة ...من الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها , فلا يقع منهم ذنب أصلا لا عمدا ولا نسيانا , ولا لخطأ في التأويل ولا للإسهاء من الله سبحانه وتعالى ...(2)" أهـ
أما ادعائهم أن أئمتهم يعلمون الغيب فقد أثبتوا ذلك في كتبهم منها أن الكليني أفرد بابا في كتابه الكافي 1/203 فقال : ( باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء ...) ثم ساق تحته بعض الروايات منها ما رواه عن سيف التمار قال : " كنا مع أبي عبدالله عليه السلام جماعة من الشيعة في الحجر فقال علينا عين فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدا فقلنا : ليس علينا عين , فقال ورب الكعبة ورب البنية –ثلاث مرات- لو كنت بين موسى والخضر ؛ لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ؛ لأن موسى والخضر أعطيا علم ما كان , ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة , وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وراثة (3)"
وقال بعض غلاة الرفض : دخول النار في حب الوصي * وفي تفضيل أولاد النبي
أحب إلي من جنات عدن * أخلدها بتيم أو عدي
من ثمار الحب في الله
- أنه سبب وجود حلاوة الإيمان .
- أن المتحابين في الله على منابر من نور يوم القيامة .
- أن الإنسان يحشر مع من أحب يوم القيامة .
أن الله ورسوله يحبا المتحابين في الله
ملحق الأشعار
مدح الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
__________
(1) - العلم الشامخ صـ 216 .
(2) - بحار الأنوار 25/209 كما في حاشية كتاب وسطية أهل السنة بين الفرق ص 412
(3) - الكافي 1/204 بتصرف من وسطية أهل السنة ص414(219/111)
قال الشاعر :با صفوة الرسل الكرام ومن به * هدي الأنام محجة بيضاء
صلى عليك الله ماخفق الحشا * حبا وأخلصت النفوس وفاء
وقال آخر : منحت حبي لخير الناس قاطبة * برغم من أنفه لا زال في الفرغم
يكفيك عن كل مدح مدح خالقه * واقرأ بربك مبدا سورة القلم
شهم تشيد به الدنيا برمتها * على المنابر من عرب ومن عجم
أحيا بك الله أرواحا قد اندثرت * في تربة الوهم بين الكأس والصنم
نفضت عنها غبار الذل فاتقدت * وأبدعت وروت ما قلت للأمم
ربيت جيلا أبيا مؤمنا يقضا * حسو شريعتك الغراء في نهم
أقبلت بالحق يجتث الضلال فلا * يلقى عدوك إلا علقم الندم
بيت من الطين بالقرآن تعمره * تبا لقصر منيف بات في نغم
طعامك التمر والخبز الشعير وما * عيناك تعدو إلى اللذات والنعم
تبيت والجوع يلقى فيك بغيته * إن بات غيرك عبد الشحم والتخم
لما أتتك { قم الليل } استجبت لها * العين تغفو وأما القلب لم ينم
تمسي تناجي الذي أولاك نعمته * حتى تغلغلت الأورام في القدم
أزيز صدرك في جوف الظلام سرى * ودمع عينيك مثل الهاطل العمم
الليل تسهره بالوحي تعمره * وشيبتك بهود آية { استقم }
تسير وفق مراد الله في ثقة * ترعاك عين إله حافظ حكم
فوضت أمرك للديان مصطبرا * بصدق نفس وعزم غير منثلم
بنيت بالصبر مجدا لا يماثله * مجد وغيرك عن نهج الرشاد عم
لن تهتدي أمة في غير منهجه * مهما ارتضت من بديع الرأي والنظم
إن كان غيري له من حبكم نسب * فلي أنا نسب الإيمان والرحم(1)
بعض ما قيل في مدح الصحابة - رضي الله عنهم -ووجوب الاقتداء بهم
قال قيس بن صرمة: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى حبيبا مؤاتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه * فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه * وأصبح مسرورا بطيبة راضيا
بذلنا له الأموال من أجل مالنا * وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
__________
(1) - اختصرتها من السراج المنير للزهراني ص 95(219/112)
نعادي الذي عادى من الناس كلهم * جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره * وأن رسول الله أصبح هاديا
وقال الإمام أبو بكر بن أبي داود :
وقل إن خير الناس بعد محمد * وزيره قدما ثم عثمان أرجح
ورابعهم خير البرية بعدهم * علي حليف الخير بالخير منجح
وإنهم الرهط لا ريب فيهم * على نجب الفردوس في الخلد تسرح
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة * وعامر فهر والزبير الممدح
وسبطي رسول الله وابن خديجة * وفاطمة ذات النقا أمدح
وعائشة أم المؤمنين وخالنا * معاوية أكرم به ثم أمنح
وأنصاره والمهاجرون ديارهم * بنصرتهم عن كبة النار زحزحوا
ثم قال : وقل خير في مدح الصحابة كلهم * ولاتك طعانا تعيب وتجرح
فقد نطق الوحي المبين بفضلهم * وفي المدح أي للصحابة تمدح
عليك كتاب الله لا تتعده * ففيه هدى للزيغ ماح وقامع
وما سنه فينا النبي محمد * فقد خاب عاصيه وفاز المتابع
فخير الأمور السالفات على الهدى * وشر الأمور المحدثات البدائع
وقال آخر : والاقتداء بهم في الدين مفترض * فاقتد بهم واتبع الآثار والسور
وقال آخر : ونشهد أن الله خص رسوله * بأصحابه الأبرار فضلا وأيدا
فهم خير خلق الله بعد انبيائه * بهم يقتدى في الدين كل من اقتدى
ثم قال : فكلهم أثنى الإله عليهم * وأثنى رسول الله أيضا وأكدا
فلا تك عبدا رافضيا فتعتدي * فويل وويل في الورى لمن اعتدى .
وقال بعضهم : يا باغي الإحسان يطلب ربه * ليفوز منه بغاية الآمال
انظر إلى هدي الصحابة والذي * كانوا عليه في الزمان الخالي
واسلك طريق القوم أين تيمموا * خذ يمنة ما الدرب ذات شمال
تالله ما اختاروا لأنفسهم سوى * سبل الهدى في القول والأفعال
درجوا على نهج الرسول وهديه * وبه اقتدوا في سائر الأحوال
نعم الرفيق لطالب يبغي الهدى * فمآله في الحشر خير مأل
القانتين المخبتين لربهم * الناطقين بأصدق الأقوال
التاركين لكل فعل سيء * والعاملين بأحسن الأعمال(219/113)
أهواؤهم تبع لدين نبيهم * وسواهم بالضد في ذي الحال
ما شابهم في دينهم نقص ولا * في قولهم شطح الجهول الغالي
عملوا بما علموا ولم يتكلفوا * فلذاك ما شابوا الهدى بضلال
وسواهم بالضد في أحوالهم * تركوا الهدى ودعوا إلى الإضلال
فهم الأدلة للحيارى من يسر * بهداهم لم يخش من إضلال
وهم النجوم هداية وإضاءة * وعلو منزلة وبعد منال
يمشون بين الناس هونا نطقهم * بالحق لا بجهالة الجهالي
حلما وعلما مع تقى وتواضع * ونصيحة مع رتبة الإفضال
يحيون ليلهم بطاعة ربهم * بتلاوة وتضرع وسؤال
وعيونهم تجري بفيض دموعهم * مثل انهمال الوابل الهطال
في الليل رهبان وعند جهادهم * لعدوهم من أشجع الأبطال
وإذا بدا علم الرهان رأيتهم * يسابقون بصالح الأعمال
بوجوههم أثر السجود لربهم * وبها أشعة نوره المتلالي
ولقد أبان لك الكتاب صفاتهم * في سورة الفتح المبين العالي
وبرابع السبع الطوال صفاتهم * قوم يحبهم ذووا لإذلال
وبراءة والحشر فيها وصفهم * وبهل أتى وبسورة الأنفال
بعض ما قيل في وجوب الكف عما شجر بينهم - رضي الله عنهم -
قال الشاعر : المرء إن كان عاقلا ورعا * اشغله عن عيوبه ورعه
كما السقيم المريض يشغله * عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال أحمد بن مشرف الأحسائي :
وواجب ذكر كل من صحابته * بالخير والكف عما بينهم شجرا
فلا تخض في حروب بينهم وقعت * عن اجتهاد وكن إن خضت معتذر
وقال أبو محمدالقحطاني :
قل خير قول في صحابة أحمد * وامدح جميع الآل والنسوان
دع ما جرى بين الصحابة في الوغى * بسيوفهم يوم التقى الجمعاني
قتيلهم منهم وقاتلهم لهم * وكلاهما في الحشر مرحومان
والله يوم الحشر ينزع كل ما * تحوي صدورهم من الأضغان .
فكلهم في محكم القرآن * أثنى عليهم خالق الأكوان
وقال الشيخ حافظ حكيمي رحمه الله :
في الفتح والحديد والقتال * وغيرها بأكمل الخصال
كذاك في التوراة والإنجيل * صفاتهم معلومة التفصيل
وذكرهم في سنة المختار * قد سار سير الشمس في الأقطار(219/114)
ثم السكوت واجب عما جرى * بينهموا من فعل ما قد قدرا
فكلهم مجتهد مثاب * وخطؤهم يغفره الوهاب
بعض ما قيل في أهل بيت النبوة
قال حسان بن ثابت : فمازال في الإسلام من آل هاشم * دعائم عز لا ترام ومفخر
هم جبل الإسلام والناس حوله * رضام إلى طود يروق ويقهر
هم أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر
بهاليل منهم جعفر وابن أخته * علي ومنهم أحمد المتخير
وحمزة والعباس منهم , ومنهم * عقيل وماء العود من حيث يعصر
وقلت : اقرؤوا في الكتاب قولا نفيسا * ومزايا لعترة هاشمية
غفل المبطلون عنها وقالوا * دعك من حب أسرة رافضية
قلت خبتم فقد نصبتم عداء * لشريف وسنة نبوية
فضل آل النبي أضحى جليا * بخصال تحار منها البرية
و قال الشاعر : هم القوم فاقو العالمين مناقبا * محا سنهم تجلى وآثارهم تروى
موالاتهم فرض وحبهم هدى * وطاعتهم ود وودهم تقوى
وقال آخر : فلا تعدل بأهل البيت خلقا * فأهل البيت هم أهل السياده
فبغضهم من الإ نسان خسر * حقيقي وحبهم عباده
وقال آخر : أحب النبي المصطفى وابن عمه * عليا وسبطيه وفاطمة الزهرا
هموا أهل بيت أذهب الرجس عنهم * وأطلعهم أفق الهدى أنجما زهرا
مولاتهم فرض على كل مسلم * وحبهموا أسنى الذخائر للأخرى
وقال آخر : لقدحاز آل المصطفى أشرف الفخر * بنسبتهم للطاهر الطيب الذكر
محبتهم فرض على كل مؤمن * أشار إليه الله في محكم الذكر
ومن يدعي من غيرهم نسبة لهم * فذلك ملعون أتى أقبح الو زر
بعض ما قيل من الشعر في ذم الرافضة
قال هارون بن سعيد العجلي : ألم تر أن الرافضين تفرقوا * فكلهم في جعفر قال منكرا
فطائفة قالت إمام ومنهم * طوائف سمته النبي المطهرا
ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم * برئت إلى الرحمن ممن تجعفرا
برئت إلى الرحمن من كل رافض * بصير بباب الكفر في الدين أعورا
إذا كف أهل الحق عن بدعة مضى * عليها وإن يمضوا على الحق قصرا
ولو قال إن الفيل ضب لصدقوا * ولو قال زنجي تحول أحمرا(219/115)
وأخلف من بول البعير فإنه * إذا هو للإقبال وجه أدبرا
فقبح أقوام رموه بفرية * كما قال في عيسى الفرى من تنصرا (1) 0
وقال عبد الله بن المبارك : إني امرء ليس في ديني لغامزه * لين ولست على الإسلام طعانا
فلا أسب أبا بكر ولا عمرا * ولن أسب معاذ الله عثمانا
ولا الزبير حواري الرسول ولا * أهدي لطلحة شتما عز أو هانا
ولا أقول علي في السحاب إذا * قد قلت والله ظلما ثم عدوانا
و سئل بعض الشعراء أن يصف الرافضة فقال :
وسائل صف لنا ما الرفض قلت له * الرفض داء عظيم يشبه الكلبا
وصاحب الرفض كلب لا علاج له * فاختر له السوط إن واتى أو الهربا
ولا تكلف جدالا لا متاع له * إذا تكون لسب الأولياسببا
ولا ترج اهتداء لا مكان له * لأنه طافح في حمقه غضبا
واللعن والطعن في الأعراض ديدنه * لأن قلب البعيد الغمر قد قلبا .أهـ مختصرا
وقال عباد بن بشار رحمه الله:حتى متى عبرات العين تنحدر * والقلب من زفرات الشوق يستعر
والنفس طائرة والعين ساهرة * كيف الرقاد لمن يعتاده السهر
يا أيها الناس إني ناصح لكم * كونوا على حذر قد ينفع الحذر
إني أخاف عليكم أن يحل بكم * من ربكم غير ما فوقها غير
ما للروافض أضحت بين أظهركم * تسير آمنة ينزو بها البطر
تؤذي وتشتم أصحاب النبي وهم * كانوا الذين بهم يستنزل المطر
مهاجرون لهم فضل بهجرتهم * وآخرون هم آووا وهم نصروا
كيف القرار على من قد تنقصهم * ظلما وليس لهم في الناس منتصر
إنا إلى الله من ذل أراه بكم * ولا مرد لأمر ساقه القدر
حتى رأيت رجالا لا خلاق لهم * من الروافض قد ضلوا وما شعروا
إني أحاذر أن ترضوا مقالتهم * أو لا فهل لكم عذر فتعتذروا
رأى الروافض شتم المهتدين فما * بعد الشتيمة للأبرار ينتظر
لا تقبلوا أبدا عذرا لشاتمهم * إن الشتيمة أمر ليس يغتفر
ليس الإله براض عنهم أبدا * ولا الرسول ولا يرصى به البشر
الناقضون عرى الإسلام ليس لهم * عند الحقائق إيراد ولا صدر
__________
(1) - تأويل مختلف الحديث ص 68(219/116)
والمنكرون لأهل الفضل فضلهم * والمفترون عليهم كلما ذكروا
قد كان عن ذا لهم شغل بأنفسهم * لو أنهم نظروا فيما به أمروا
لكن لشقوتهم والحين يصرعهم * قالوا ببدعتهم قولا بهم كفروا
قالوا وقلنا وخير القول أصدقه * والحق أبلج والبهتان منشمر
وفي علي وما جاء الثقات به * من قوله عبر لو أغنت العبر
قال الأمير علي فوق منبره * والراسخون به في العلم قد حضروا
خير البرية من بعد النبي أبو * بكر وأفضلهم من بعده عمر
والفضل بعد إلى الرحمن يجعله * فيما أحب فإن الله مقتدر
هذا مقال علي ليس ينكره * إلا الخليع وإلا الماجن الأشر
فارضوا مقالته أو لا فموعدكم * نار توقد لا تبقي ولا تذر
وإن ذكرت لعثمان فضائله * فلن يكون من الدنيا لها خطر
وما جهلت عليا في قرابته * وفي منازل يعشوا دونها البصر
إن المنازل أضحت بين أربعة * هم الأئمة والأعلام والغرر
أهل الجنان كما قال الرسول لهم * وعدا عليه فلا خلف ولا عذر
وفي الزبير حواري النبي إذا * عدت مآثره زلفى ومفتخر
واذكر لطلحة ماا قد كنت ذاكره * حسن البلاء وعند الله مدكر
إن الروافض تبدي من عداوتها * أمرا تقصر عنه الروم والخزر
ليست عداوتها فينا بضائرة * لا بل لها وعليها الشين والضرر
لا يستطيع شفا نفس فيشفيها * من الروافض إلا الحية الذكر
ما زال يضربها بالذل خالقها * حتى تطاير عن أفحاصها الشعر
داو الروافض بالإذلال إن لها * داء الجنون إذا هاجت بها المرر
كل الروافض حمر لا قلوب لها * صم وعمي فلا سمع ولا بصر
ضلوا السبيل أضل الله سعيهم * بئس العصابة إن قلوا وإن كثروا
شين الحجيج فلا تقوى ولا ورع * إن الروافض فيها الداء والدبر
لا يقبلون لذي نصح نصيحته * فيها الحمير وفيها الإبل والبقر
***
والقوم في ظلمهم سود فلا طلعت * مع الأنام لهم شمس ولا قمر
لا يأمنون وكل الناس قد أمنوا * ولا أمان لهم ما أورق الشجر
لا بارك الله فيهم لا ولا بقيت * منهم بحضرتنا أنثى ولا ذكر . أهـ(219/117)
وقال أبو محمد القحطاني الأندلسي :
إن الروافض شر من وطئ الحصى * من كل إنس ناطق أو جان
لا تركنن إلى الروافض إنهم * شتموا الصحابة دون ما برهان
لعنوا كما بغضوا صحابة أحمد * وودادهم فرض على الإنسان
حب الصحابة والقرابة سنة * ألقى بها ربي إذا أحياني
احذر عقاب الله وارج ثوابه * حتى تكون كمن له قلبان
وقال الفقيه أحمد حسين بركات وهو من الزيدية :
تعالوا إلينا إخوة الرفض إن تكن * لكم شرعة الإنصاف دينا كديننا
مدحنا عليا فوق ما تمدحونه * وسبيتموا أصحاب أحمد دوننا
وقلتم بأن الحق ما تدعونه * ألا لعن الرحمن منا أضلنا (1).
بعض ما قيل من الغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال النبهاني : سيدي أنا البتول أعني * أنت أدرى بما حواه الضمير
وقال البوصيري في البردة يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به * سواك عند حدوث الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي * لاذ الكريم تجلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها * ومن علومك علم اللوح والقلم
وقال الحبشي : يا ملاذ الكل يا أهل الندى * يا كريم الأصل يا رب الحور
يا غياث الخلق يا ذا الفضل والـ*ـــــجود والإحسان في بحر وبر
يا لجا اللاجين يا خير نبي * ورسول جاء حقا بالسور
يا رسول الله غوثا عاجلا * يدفع البلواء عنا واضرر
قد لجأنا نحو بابك سيدي * ووقفنا ننتظر منك الخبر
فالآن ليس سوى قبر حللت به * منجي الطريد وملجا كل معتصم
وقد حططنا لديه الرحل همتنا * على مدى نهلة من مورد الكرم
هذا عطاؤك فاغمرنا بمنهله * فقد مددنا أكف الفقر والعدم
وإن رمتنا الخطايا وسط مهلكة * فأنت ملجأ خلق الله كلهم
هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له * إلا جنابك يا سؤلي ويا أملي
ضيف ضعيف غريب قد أناخ بكم * ويستجير بكم يا سادة العرب
يا مكرمي الضيف يا عون الزمان ويا * غوث الفقير ومرمى القصد في الطلب
هذا مقام الذي ضاقت مذاهبه * وأنتم في الرجا من أعظم النسب
__________
(1) - نشر العرف ص 56(219/118)
وقال البرعي في ديوانه :يا صاحب القبر المنير بيثرب * أنا من ذنوبي في أشد وثاقي
ناداك من برع أسير ذنوبه * أفلا تمن عليه بالإطلاقي
أثقلت ظهري بالكبائر سالكا * سبل المهالك صحبة الفساق
ونقضت عهدا قد تقادم عهده * يا وافيا بالعهد والميثاق
فاعطف على عبد الرحيم برحمة * وافسح له عن ضيق كل خناق
وقال آخر : يا رسول الإله إني ضعيف * فاشفني أنت مقصد للشفائي
يا رسول الإله إن لم تغثني * فإلى من ترى يكون النجاتي
وقال أبو الهدى الصيادي الرفاعي :(ولما حج – يعني أحمد الرفاعي- وقف تجاه الحجرة الشريفة وأنشد :
في حالة البعد روحي كنت أرسلها * تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه نوبة الأشباح قد ظهرت * فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي (1).
وقرب الانتهاء من احتفال الصوفية بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم , يقولون :
هذا لحبيب مح الأحباب قد حضرا * وسامح الكل فيما قد مضى وجرى
كلمة شكر
الحمد لله على توفيقه وإعانته , وبعد :
فإني أتقدم بجزيل الشكر وعظيم الامتنان إلى فضيلة شيخنا العلامة/محمد بن عبد الله الإمام الذي كرمني بتفضله على مراجعة كتابي هذا والتقديم له .
كما أشكر الأخ الفاضل أبا العباس/ أحمد بن أحمد شملان الذي راجع معي الكتاب.
هذا وأسأل الله أن يجزل المثوبة للجميع والحمد لله رب العالمين .
دعاء
اللهم إنا نسألك حبك , وحب من يحبك وحب عمل يبلغنا حبك .
اللهم ثبتنا على الإسلام , وأمتنا على محبة وطاعة محمد عليه الصلاة والسلام .
اللهم اجعلنا ممن أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته
واتبع منهجه وطريقته
__________
(1) - قال : فخرجت إليه يده الشريفة من القبر حتى قبلها والناس ينظروه ) انظر شواهد الحق ص 363 كما في خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء ص 164
وشواهد الحق ص 2-3 كما في كتاب خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء ص 181 وقلادة الجواهر ...ص 67-68نقلا عن خصائص المصطفى ...ص 192(219/119)
اللهم احشرنا يوم القيامة في زمرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحب- رضي الله عنهم - والآل خير الأنام .
الخاتمة
الحمد لله الذي وفقنا لتعلم دينه , ونشره وتعليمه , وأسأله الثبات حتى الممات ,
ففي هذا الكتاب بينت وجوب الاعتدال في محبة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم , وصحابته الأخيار , وقرابته الأطهار , ومن خلال قراءة الأدلة يتضح للقارئ العزيز أهمية الاعتدال في أداء حقوقهم وأضرار الغلو فيهم , فخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم , فمن أراد الله والدار الآخرة فليقف مع الأدلة الشرعية ويدع آراء المنحرفين الزائغين والضالين المضلين , الذين يطعنون في الدين لمصالح مذهبية أو سياسية أو جهل . إذ أنه ليس من الدين , أن يسوى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم برب العالمين مطلقا , ولا يسلب ما خصه الله به أو يوصف بأوصاف لا تليق به ؛ ولا من الدين أن يسب أو يكفر صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حملة العلم المجتهدين . ولا من الدين أن تجحد حقوق أهل البيت أو ينصب لهم العداء وقد رفعهم الله وخصهم وفضلهم ما لم يخص أو يفضل أحد من الناس أجمعين . فالذي أوجب محبة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة رضي الله عنهم هو الله أكرم الأكرمين .
وفي الختام أقول :جزى الله خيرا من وجد استدراكا فوافانا به فله منا الشكر ومن الله الأجر والجزاء , وأسأل الله أن ينفعني بهذا الكتاب وأن يأجر قارئه وناشره والدال عليه , والحمد لله الموفق إلى كل خير .
كتبه
يحي بن محمد بن القاسم الديلمي أبو عبد الله .
محتويات الكتاب
الموضوع الصفحة
المقدمة..................................................................................................
تعريف المحبة.........................................................................................(219/120)
الفصل الأول : وجوب محبة النبي......................................................................
من أقوال الصحابة الدالة على محبتهم للرسول........................................................
صور من أفعال الصحابة الدالة على محبتهم للرسول................................................
من علامات حب النبي.........................................................................................
الفصل الثاني : وجوب محبة الصحابة الكرام...........................................................
الصحابة في الجنة....................................................................................................
وجوب اتباع الصحابة والاقتداء بهم ..........................................................................
الفصل الثالث تحريم سب أصحاب محمد...............................................................
الأدلة على تحريم بغض وسب الصحابة الكرام رضي الله عنهم ............................................
بعض أقوال أهل العلم فيمن يبغض الصحابة أو يسبهم ........................................................
وجوب تولي الصحابة وعدم الخوض فيما شجر بينهم......................................................
ليس من عقيدة أهل البيت سب الصحابة......................................................................
نصيحة الإمام الشوكاني.............................................................................................
لا كرامة لمن يسب الصحابة ولو كان من أهل بيت النبوة...............................................
الفصل الرابع وجوب محبة أهل البيت .....................................................................(219/121)
تعريف أهل البيت لغة واصطلاحا ................................................................................
بعض الأسباب الموجبة لمحبة أهل البيت ........................................................................
وصية رسول الله للقرابة........................................................................................
من علامات محبة أهل البيت .......................................................................................
بعض كلام أهل العلم عن وجوب محبتهم.........................................................................
تصحيح مفهوم خاطىء..............................................................................................
الفصل الخامس تحريم الغلو في رسول الله وصحابته وقرابته .............................
من ثمار الحب في الله ...............................................................................................
ملحق الأشعار ........................................................................................................
كلمة شكر .............................................................................................................
دعاء ...................................................................................................................
الخاتمة .............................................................................................
محتويات الكتاب ……………………………………………………..(219/122)
وصف لذكر الطريقة القادرية الصوفية في العراق - بقلم بول إيدل Paul Eedle
يصف الكاتب ذكر الصوفية قائلاً : يبدأ الذكر بقرع بطيء على الطبول والدفوف. وعندها يبدأ القائد بترديد كلمات مثل " الله حي " مرات ومرات.
بينما يقف الصوفية الذين يسمُون أنفسهم بالدراويش في دائرة كبيرة مرددين كلماتهم على قرع الطبول . مع رمي أنفسهم في انحناءة كبيرة للأمام ثم للخلف.
وكثير منهم يدع شعره يطول وينمو والذي يتطاير حول رؤوسهم وهم ينحنون للأمام والخلف . ويقف الشيخ في وسط الحلقة وهو يتمايل بنعومة وأحياناً يغلق عينيه ويرفع يديه في الدعاء.
( وسيرى الأخوة أمثلة على ذلك فيما بعد بإذن الله )
بينما قرع الطبول والدفوف يعلو أسرع وأسرع والتراتيل ترتفع أعلى وأعلى يدخل الدراويش في مرحلة النشوة - وهو ما يسمونه مرحلة الفناء بالصوفية - .
ويقول الكاتب : قبل عشرون عاماً ذهبت لحلقة ذكر في الصحراء السورية وكدت أن أولّي هارباً منها حيث كان هنالك حوالى الأربعة والعشرون رجلاً تكدسوا في غرفة صغيرة ، وقرع الطبول والتراتيل تتردد عالياً ، حيث تهيأ لي بأن تسكت نبضات قلبي.
في تلك المرة استطعت أن أرى رجل من الشرطة المحلية يغرز سفود في بطنه ، ولكن لابد أن أعترف بأنني أغلقت عينيّ عندما قام قائد الذكر بتمديد شاب من المريدين على وجهه نحو الأرض ويضع نصل سكين على رقبته من الخلف ثم يضغط عليها بركبته.(220/1)
وبالرغم من أنه في هذه الأيام يبدو أن الذكر أقل تأثيراً في النفس من السابق ، فهو أكثر إثارة للدهشة لأنني لم أهرب ، ويبدو لي أن الرجال الذين يغرزون السكاكين في أجسادهم ليسوا في حالة فناء .
إذ طلب مني آكل الأمواس أن ألمس حافة الموسى بعد أن أعطاني إياه قبل أن يبدأ بأكله ، والرجل الذي غرز في رأسه خنجراً وهو يطرقه كان يتبع تعليمات زملائه لأي اتجاه ينظر إليه ليواجه الكاميرا.
صورة للكاتب وهو يقول بعد أن سحب السكين من رأس المريد خرج مقبضها في يده وبقي النصل في رأس المريد :
ويقول الكاتب : وفي حالة حضور شيخ كل طرق الصوفية القادرية الكسنزانية وقبل بدء الذكر يقف المريدين في صفوف بالمئات وربما وصل عددهم إلى ثلاثة آلاف شخص أو أكثر ليقبلوا قدميه.
وفي هذا اليوم وهو عيد الأضحى عند المسلمين ، جاءت جموع الدراويش من كل أرجاء العراق ليُحَيّوا الشيخ ، وكان أهم ضيوف الشيخ هو نائبه في روسيا ، وهو شيشاني اسمه آدم شاملو دينييف والذي طور نظرية مذهبه الديني " آدم – الله – الإنسانية ".
الموضوع على هذا الرابط لمن يريد أن يتأكد منه :
http://www.outtherenews.com/about/s...html/dhikr.html
وهذه صورة لصوفي من الكسنزانية يشارك في دراسة عن التئام الجروح في الأردن :
وهي مصداق على ما وصفه الصحفي في مقاله ..!!
ولا يظن أحد أنها كرامة لبني صوفان ..!!
بل أن سحرة الهند وأفريقيا وجزر فيجي يفعلون نفس الشيء وهم لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه ..!!(220/2)
وقوع الشرك في الأمة
لفضيلة الشيخ : فوزي سعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ به تعالي من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاتهِ ولا تموتُن إلا وأنتم مسلمون)(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلُون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً *يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) أما بعد:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد :
** موضوع قديم :ـ منذ نشأة الشيعة وأبنتها الصوفية (خرجت من تحت عباءتها) .. كانت الكتب والرسائل التي صُنفت في هذه المسألة تكاد لا تحصي .. وسيظل الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف إلى يوم القيامة . (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) الأنبياء(18) .. ومهما اجتهد الباحث في الجانبين فلن يأتي بجديد ومن ثم لا يحتاج إلى تفصيل طويل . . . واستدلالات كثيرة وإنما أشارات سريعة مع الإحالة للكتب . . ومن ذلك ما صنفه (علوي المالكي) في الحجاز (والجفري تلميذ على مائدته) وكذلك ما رد به علماء الحجاز عليه في مصنفات عديدة وأنتهي أمره تقريباً إلا عند من قل علمه وزلت قدمه في الصوفية دون أن يعرف حقيقة ما بعث الله به رسوله من تحقيق التوحيد واجتناب الشرك ومن أراد التفصيل فليرجع إلى هذه المصادر (سنذكرها عند الختام) . .(221/1)
ومن المعلوم أنه لا تثريب على المخالف في المسائل الخلافية . . وهى المسائل التي أختلف فيها السلف . . أما مسائل الإجماع والاعتقاد فلا يمكن السكوت على مخالفها لأنها حق وباطل ولابد من النكير عليه بشدة ودحض الباطل وأهله وبيان الحق للناس (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ. .) آل عمران(187)..
** أساسيات لابد من معرفتها معرفة جيدة :ـ
1-معنى (لا إله إلا الله) . . أي لا يستحق العبادة إلا الله لأنه وحده الذي له صفات الكمال . . ونعوت الجلال التي بها يستحق أن يُحب غاية الحب ويُعظم بغاية التعظيم . فله غاية الحب بغاية الخضوع ومع ذلك فمن المسلمين اليوم من قلبه عاكف على غير الله أكثر من عكوفه على الله تعالى .. منهم من يحب المال ويخضع له أكثر من حبه وخضوعه لله ومنهم من يحب الجنس الآخر (المرأة مع الرجل والعكس) . ومنهم من يُحب سلطانه ووظيفته وجاهه وسمعته ويخضع لهذا أكثر من خضوعه لله .. ومنهم من يحب الموتى (أرباب الأضرحة من الأولياء أو المشايخ) ويخضع لهم ويذبح لهم ويرجوهم لحاجته وضرورته ثم لا يجعل لله إلا قليلاً من ذلك .. ومنهم من يتحاكم إلى القوانين الوضعية التي تحل ما حرم الله وتحرم ما أحل الله .. وإذا ذكرناه بخطورة ذلك التحليل والتحريم من البشر وتركه لما أحل وحرم الله عز وجل .. يتولى معرضاً يلوى رأسه مستكبراً ويصد عن الحق صدوداً . ولا يكتفي بذلك إنما يُغطى جريمته قائلاً :ـ (أنتم متشددون… إرهابيون …رجعيون .. الخ) ما هو معروف على السنة الناس وفى وسائل الأعلام التي دخلت كل بيت .. ومن العجب العجاب أن جميع هؤلاء ممن يقولون (لا إله إلا الله) ويحسبون أنهم طالما قالوها .. فهم موحدون لله ومن أهل الجنة وذلك بتأويل خاطئ للحديث الصحيح من قال (لا إله إلا الله) دخل الجنة وهم في ذلك كله مُتبعون لأئمة الضلال من الصوفية والمرجئة الذين أشاعوا هذا المُعتقد الباطل في جميع جهال الأمة يتوارثونه جيلا(221/2)