هذا ولا يكتفي شيخ الإسلام في تأييد الأشاعرة ومن في مثل بدعتهم لتصديهم لما هو شر منهم كالمعتزلة، ويؤيدهم عندما يتصدون لما هو شر من بدعتهم فيقول: "ولا ريب أن المعتزلة خير من الرافضة ومن الخوارج، فإن المعتزلة تقر بخلافة الخلفاء الأربعة، وكلهم يتولون أبا بكر وعمر وعثمان، وكذلك المعروف عنهم أنهم يتولون علياً، ومنهم من يفضله على أبي بكر وعمر، ولكن حكي عن بعض متقدميهم أنه قال: فسق يوم الجمل إحدى الطائفتين، ولا أعلم عينها. وقالوا إنه قال: لو شهد علي والزبير لم أقبل شهادتهما لفسق أحدهما لا بعينه، ولو شهد علي مع آخر ففي قبول شهادته قولان، وهذا القول شاذ فيهم، والذي عليه عامتهم تعظيم علي.
ومن المشهور عندهم ذم معاوية وأبي موسى وعمرو بن العاص لأجل علي، ومنهم يكفر هؤلاء ويفسقهم، بخلاف طلحة والزبير" (الفتاوى 13/97).
68- كلام شيخ الإسلام رحمه الله في عبدالله بن سعيد بن كلاب.
وذلك في تصديه للرد على معطلة الصفات:(207/96)
"وكان ممن انتدب للرد عليهم أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب، وكان له فضل وعلم ودين. ومن قال: إنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين كما يذكره طائفة في مثالبه، ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك فهذا كذب عليه. وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم، فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى. وقد ذكر مثل ذلك عنهم الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الجهمية، وصار ينقل هذا من ليس من المعتزلة من السالمية، ويذكره أهل الحديث والفقهاء الذين ينفرون عنه لبدعته في القرآن، ويستعينون بمثل هذا الكلام (انظر أيضاً ذم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لقصار النظر من أهل الحديث، والفقهاء الذين استمعوا إلى وشاية المغرضين من نفاة الصفات في ابن كلاب وكانوا عوناً لأعداء السنة على رجل هو أقرب إلى السنة وقائم بحرب بدعة هي أعظم من بدعته) الذي هو من افتراء الجهمية والمعتزلة عليه. ولا يعلم هؤلاء أن الذين ذموه بمثل هذا هم شر منه، وهو خير وأقرب إلى السنة منهم" (الفتاوى 5/555).
فانظر كيف مدح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موقف عبدالله بن كلاب من المعتزلة ونفاة الصفات، وإن كان هو نفسه صاحب بدعة ولكنها لا تصل حد بدعة الجهمية ومعطلة الصفات الذين يقولون: إن الله لا يرى، ولا له علم، ولا قدرة وإنه ليس فوق العرش رب، ولا على السموات إله، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى ربه إلى غير ذلك من أقوال الجهمية النفاة.
وما أشبه الليلة بالبارحة فإن العلمانيين واللادينيين بدؤوا بشن الغارة على الدعاة المصلحين، ووصفوهم بصفات خسيسة وافتروا الكذب عليهم بأنه يريدون شراً بأمتهم وأنهم متآمرون، وأنهم.. وأنهم... وأخذ هذه المقالات نفسها هؤلاء الذين ظنوا فيهم بدعة وشراً وكانوا بذلك عوناً للعلمانيين واللادينيين على إخوانهم المسلمين.
الباب الرابع(207/97)
69- ما وقع بين أهل السنة والجماعة من الذم والعيب مما لا يجوز العمل به ولا التعويل عليه.
لا يجوز التعويل على ما خرج من القدح من عالم في صاحبه حسداً أو بغياً، أو تأويلاً أخطأ فيه، وذلك فيمن ثبت علمه وإمامته وعدالته.
وقد يقع القدح من بعض العلماء في بعض، ويرمي أحدهم أخاه بالبدعة أو الفسق أو رقة الدين أو الجهل ونحو ذلك، ويكون لذلك دوافع غير الانتصار للدين والغيرة على حرمات الله، والرغبة في حماية جانب الشريعة، وإنما دوافعهم في ذلك البغي والحسد والظلم، وقد كان هذا في الأمم السابقة، ويكون في هذه الأمة كما قال تعالى فيمن سبقنا: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم} (البقرة 213)، ولذلك وضع أصحاب الحديث أصلاً عظيماً من أصول الجرح وهو عدم قبول قدح الأقران بعضهم في بعض.
والأقران هم المتعاصرون من العلماء والمتنافسون في العلم والشهرة والفضل.
وقد وقع كثير من هذا بين أصحاب الحديث أنفسهم، قال الإمام الذهبي رحمه الله:
"كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو مذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" (ميزان الإعتدال 1/111).
وقد أورد هذا في ترجمته للحافظ أبي نعيم الأصفهاني والذي تكلم فيه الإمام ابن منده كلاماً فظيعاً قال عنه الذهبي:
"كلام ابن منده في أبي نعيم فظيع لا أحب حكايته ولا أقبل قول كل منهما في الآخر، بل هما عندي مقبولان" (ميزان الإعتدال 1/111).
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما كان بين الحافظ النسائي صاحب السنن رحمه الله، وأحمد بن صالح أبي جعفر المصري الذي قال عنه الذهبي:
"هو الحافظ الثبت أحد الأعلام"
ولذلك قال الذهبي: "آذى النسائي نفسه بكلامه فيه" (ميزان الإعتدال 1/103).(207/98)
وللأسف فإن قدح الأقران بعضهم في بعض قد يفضي كذلك إلى التكفير والسعي في استحلال الدم. يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة ابن منده:
"ربما آل الأمر بالمعروف بصاحبه إلى الغضب والحدَّة، فيقع في الهجران المحرم، وربما أفضى إلى التكفير والسعي في الدم، وقد كان أبو عبدالله (أي ابن منده) وافر الجاه والحرمة إلى الغاية ببلده، وشغب على أحمد بن عبدالله الحافظ (يعني أبا نعيم الحافظ) بحيث أن أحمد اختفى" (سير أعلام النبلاء 17/41).
وهذه الكلمات التي أطلقها الحافظ ابن منده في أبي نعيم ظلت تلاحقه، بل إن ذكر اسمه قد كان كافياً في قتل من يذكره.
وقد عقد الإمام ابن عبدالبر رحمه الله في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) باباً عظيماً بعنوان "باب قول العلماء بعضهم في بعض" وضع فيه رحمه الله قاعدة عظيمة بعد سياق الأدلة الكثيرة والأخبار المستفيضة حيث يقول: هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك..
وهذه القاعدة التي وضعها هي:
"إن من صحت عدالته، وثبتت في العلم أمانته، وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينه عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والاتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه" (جامع بيان العلم وفضله 3/152).
وقال أيضاً:
"لا يقبل فيمن صحت عدالته، وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون، وكان خيره غالباً وشره أقل، فهذا لا يقبل فيه قول القائل لا برهان له، وهذا هو الحديث الذي لا يصح غيره إن شاء الله" (جامع بيان العلم وفضله 2/162).
وأما الأدلة التي ساقها ابن عبدالبر رحمه الله على هذه القاعدة النفيسة فهي كما يلي:(207/99)
1- حديث الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين والذي نفس محمد بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم أفشوا السلام بينكم] (قال شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: أخرجه الترمذي (2/83) وأحمد (1/165،167) ورجاله ثقات غير مولى الزبير، فلم أعرفه (الإرواء 3/238) (صحيح الجامع 1/3361) وللحديث شواهد في الصحيح وغيره).
2- الآثار الواردة عن ابن عباس رضي الله عنهما ومالك بن دينار وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب وجلة من التابعين أن بين العلماء حسداً هو أشد الحسد.
فعن ابن عباس قال: "استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايراً من التيوس في زُرُبِهَا" (جامع بيان العلم 2/151).
والتغاير من الغيرة: أي أحدهم يغار من الآخر إذا مدح أو رأى أنه أفضل منه. (ليتني علمت هذا الحديث في أول الطلب، إذن لاستطعنا أن نفهم أحداثاً كثيرة كانت تحصل بين العلماء الذين أخذنا عنهم العلم، وكانت تنقطع قلوبنا لأجلها، وما كنا ندري أن هذا بسبب الغيرة، والحسد!!)
وعن مالك بن دينار قال:
"يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسداً من التيوس، تنصب لهم الشاة الضارب فينب (قال في لسان العرب: نب التيس ينب نبا، ونبيبا، ونباباً ونبيب: صاخ عند الهياج. أ.هـ) هذا من ههنا وهذا من ههنا"!!!
وعن عبدالعزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يقول:(207/100)
"العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يَزْهُ عليه، حتى كان هذا الزمان فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه، حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه ولا يذاكر من هو مثله، ويزهو على من هو دونه فهلك الناس" (جامع بيان العلم وفضله 2/151).
ثم أورد الإمام ابن عبدالبر نقولاً مستفيضة مما حدث بين الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء وأهل الحديث من كلام بعضهم لبعض، وقدح بعضهم في بعض مما لا يجوز أن يقبل منهم، ولا أن يقلدوا فيه ولا أن يتخذ أصلاً في الدين ونحن ننقل هنا المقدار الذي تتضح به الصورة وتتأكد به القاعدة الآنفة ونستغفر الله للجميع.
وتعليل ما صدر عن هؤلاء الأخيار بعضهم في بعض أنه ربما صدر منهم حال الغضب، ومنه ما حمل عليه الحسد، ومنه ما صدر على جهة التأويل مما لا يلزم فيه ما قاله القائل، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً والحال أنه لا يلزم تقليدهم في شيء من ذلك دون برهان ولا حجة توجبه. (جامع بيان العلم وفضله 3/152).
70- أ-بعض ما جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم من تكذيب بعضهم بعضاً مما لا يجوز أخذ أقوالهم فيه:
1- قال ابن عبدالبر:
"قيل لعروة بن الزبير: إن ابن عباس يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بمكة بعد أن بعث ثلاثة عشرة سنة، فقال: كذب إنما أخذه من قول الشاعر:
قال أبو عمر والشاعر هو أبو قيس بن أنس الأنصاري حيث قال:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة …يذكر لو يلقي صديقاً مواتياً
(جامع بيان العلم وفضله 2/155).
2- وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه سئل عن قول الله عز وجل {وشاهد ومشهود}، فأجاب فيها فقيل إن ابن عمر وابن الزبير قالا كذا وكذا خلاف قوله. فقال: كذبا!! (جامع بيان العلم وفضله 2/155).(207/101)
3- وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "كذب المغيرة بن شعبة" (جامع بيان العلم وفضله 2/154).
4- وعن عبادة بن الصامت أنه قال كذب أبو محمد يعني في وجوب الوتر.. قال ابن عبدالبر: وأبو محمد هذا اسمع مسعود بن أوس الأنصاري وهو بدري وتكذيب عبادة بن الصامت له من رواية مالك وغيره في قصة الوتر (جامع بيان العلم وفضله 2/154).
5- قول السيدة عائشة رضي الله عنها في أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري.
قال ابن عبدالبر:
"وروى علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال قالت عائشة:
"ما علم أنس بن مالك أبو سعيد الخدري بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانا غلامين صغيرين" (جامع بيان العلم وفضله 2/154).
6- قول عمران بن الحصين رضي الله عنه في سمرة بن جندب رضي الله عنه قال ابن عبدالبر:
"حديث سمرة أنه قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان يعني في الصلاة عند قراءته، فبلغ ذلك عمران بن الحصين، فقال: كذب سمرة، فكتبوا إلى أبي بن كعب فكتب أن قد صدق سمرة وهذا الحديث مشهور جداً" (جامع بيان العلم وفضله 2/154).
7- قول ابن عمر رضي الله عنهما في أبي هريرة:
"ومثله قول المروزي، حدثنا اسحق بن راهويه وأحمد بن عمرو قالا حدثنا جرير عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت،عن طاوس قال:كنت جالساً عند ابن عمر فأتاه رجل فقال إن أبا هريرة يقول إن الوتر ليس بحتم فخذوا منه ودعوا فقال ابن عمر كذب أبو هريرة جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن صلاة الليل؟ فقال: [مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فواحدة] (جامع بيان العلم وفضله 2/155).
8- قول عائشة رضي الله عنها في ابن عمر، قال ابن عبدالبر:
"وكذَّبت عائشةُ ابن عمر في عدد عُمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (جامع بيان العلم وفضله 2/156)، وفي أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" (جامع بيان العلم وفضله 2/155).
قلت وهذا ثابت في الصحيح عنها رضي الله عنها.(207/102)
وقال ابن عبدالبر في ختام هذا الفصل:
"وقد كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة العلماء عند الغضب كلام هو أكثر من هذا ولكن أهل الفهم والعلم والميز لا يلتفتون إلى ذلك لأنهم بشر يغضبون ويرضون والقول في الرضا غير القول في الغضب."
71- ب- ما جاء عن التابعين والأئمة من قدح بعضهم في بعض مما لا يجوز تقليدهم واتباعهم فيه:
1- طعن سعيد بن المسيب وعكرمة في بعضهما:
قال ابن عبدالبر:
"قال المروزي: وحدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن رجل نذر نذراً لا ينبغي له من المعاصي، فأمره أن يوفي بنذره، فسأل الرجل عكرمة، فأمره أن يكفر عن يمينه، ولا يوفي بنذره فرجع الرجل إلى سعيد بن المسيب فأخبره بقول عكرمة، فقال ابن المسيب: لينتهين عكرمة أو ليوجعن الأمراء ظهره، فرجع إلى عكرمة فأخبره، فقال عكرمة أما إذ بلغتني فبلغه، أما هو فقد ضربت الأمراء وأوقفوه في تبان من شعر، وسله عن نذرك أطاعةٌ هو لله أم معصية؟ فإن قال: هو طاعة لله فقد كذب على الله لأنه لا تكون معصية الله طاعة، وإن قال هو معصية فقد أمرك بمعصية الله.
قال المروزي فلهذا كان بين سعيد بن المسيب وبين عكرمة ما كان حتى قال فيه ما حكى عنه أنه قال لغلامه (بُرد): لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس" (جامع بيان العلم وفضله 2/156).
قلت: ومعلوم أن عكرمة رحمه الله من خيار أصحاب ابن عباس وهو ثقة مأمون، وكذلك الحال في شأن سعيد بن المسيب ولا يجوز أخذ قول هذين الإمامين بعضهما في بعض.
2- طعن مالك بن أنس رحمه الله في ابن اسحق، وابن إسحاق في مالك بن أنس:
قال أبو عمر ابن عبدالبر:
"وكذلك كان كلام مالك في محمد بن إسحاق لشيء بلغه عنه تكلم به في نسبه وعلمه، قال أبو عمر:(207/103)
"والكلام ما رويناه من وجوه عن عبدالله بن إدريس أنه قال: قدم علينا محمد بن إسحق فذكرنا له شيئاً عن مالك فقال: هاتوا علم مالك فأنا بيطاره، قال ابن إدريس: فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال: ذلك دجال الدجاجلة، ونحن أخرجناه من المدينة، قال ابن إدريس وما كنت سمعت بجمع دجال قبلها على ذلك الجمع!! وكان ابن إسحق يقول فيه: إنه مولى لبني تيم قريش وقال فيه ابن شهاب أيضاً فكذب مالك ابن اسحاق لأنه كان أعلم بنسب نفسه، وإنما هم حلفاء لبني تيم في الجاهلية وقد ذكرنا ذلك وأوضحناه في صدر كتاب التمييز وربما كان تكذيب مالك لابن اسحاق في تشيعه، وما نسب إليه من القول بالقدر وأما الصدق والحفظ فكان صدوقاً حافظاً أثنى عليه ابن شهاب، ووثقه شعبة والثوري وابن عيينة وجماعة جلة.
وقد روى عن مالك أنه قيل له من أين قلت في محمد بن إسحاق أنه كذب فقال سمعت هشام بن عروة يقوله.
وهذا تقليد لا برهان عليه وقيل لهشام بن عروة من أين قلت ذلك؟ قال: هو يروي عن امرأتي والله ما رآها قط!!
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله عند ذكره هذه الحكاية قد يمكن أن إسحاق كان يراها أو يسمع منها من وراء حجاب من حيث لم يعلم هشام" (جامع بيان العلم وفضله 2/156).
قلت: فانظر كيف ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى إسقاط ما قاله مالك في ابن إسحاق، وشهد بما يوجبه الإنصاف لكل من الرجلين وكيف حملوا مقالة مالك في ابن اسحاق على الخصومة، ودفع السيئة بالسيئة ولم يحملوا ذلك على أنه حق يجوز الأخذ به.
3- ما كان بين الأعمش وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى:
قال ابن عبدالبر:(207/104)
"حدثنا أحمد بن عبدالله، حدثنا مسلمة بن القاسم، حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا محمد بن أحمد بن فيروز، حدثنا علي بن خشرم، قال: سمعت الفضل بن موسى يقول دخلت مع أبي حنيفة على الأعمش نعوده فقال أبو حنيفة: يا أبا محمد لولا التثقيل عليك لزدت في عيادتك أو قال: لعدتك أكثر مما أعودك، فقال له الأعمش والله إنك علي لثقيل وأنت في بيتك فكيف إذا دخلت علي؟! قال الفضل: فلما خرجنا من عنده قال أبو حنيفة إن الأعمش لم يصم رمضان قط، ولم يغتسل من جنابة!! فقلت للفضل: ما يعني بذلك؟ قال: كان يرى الماء من الماء ويتسحر على حديث حذيفة" (جامع بيان العلم وفضله 2/157).
قلت: معنى قوله يرى الماء من الماء: أي: لا يوجب الغسل من الجنابة إلا بالإنزال، وليس عند التقاء الختانين كما هو الصحيح، ومعنى يتسحر على حديث حذيفة أي: يرى جواز الأكل والشرب إلى ظهور النور.
4- قدح الإمام مالك رحمه الله في أتباع أبي حنيفة:
قال أبو عمر بن عبدالبر:
"حدثنا أحمد بن محمد، قال حدثنا أحمد بن الفضل، قال حدثنا محمد بن جرير، قال: حدثنا يونس بن عبدالأعلى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: كنا عند مالك وذكر عنده أهل العراق فقال: أنزلوهم منكم منزلة أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد} (العنكبوت:46) الآية
وروينا عن محمد بن الحسن أنه دخل على مالك بن أنس يوماً، فسمعه يقول هذه المقالة التي حكاها عنه ابن وهب في أهل العراق، ثم رفع رأسه فنظر فكأنه استحيا وقال: يا أبا عبدالله أكره أن تكون غيبة كذلك أدركت أصحابنا يقولون.
وقال سعيد بن منصور كنت عند مالك بن أنس فأقبل قوم من أهل العراق فقال: {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} (الحج:72) (جامع بيان العلم وفضله 2/157).
5- قدح ابن المبارك في أبي حنيفة رحمه الله:
قال ابن عبدالبر:(207/105)
"وذكر أبو يعقوب يوسف بن أحمد المكي قال حدثنا جعفر بن إدريس المقري قال: حدثنا محمد بن أبي يحيى قال حدثنا محمد بن سهل قال: سمعت ليث بن طلحة يقول: سمعت سلمة بن سليمان يقول: قلت لابن المبارك وضعت من رأي أبي حنيفة ولم تضع من رأي مالك قال: لم أره علماً" (جامع بيان العلم وفضله 2/157-158).
وعقب عبدالبر على ذلك قائلاً:
"وهذا مما لا يسمع من قولهم، ولا يلتفت إليه ولا يعرج عليه" (جامع بيان العلم وفضله 2/157-158).
6- قدح قتادة، ويحيى بن أبي كثير كل منهما في الآخر:
قال ابن عبدالبر:
"وروى أبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، قال سمعت جبير بن دينار، قال: سمعت يحيى بن أبي كثير قال: لا يزال أهل البصرة بشر ما أبقى الله فيهم قتادة.
قال: وسمعت قتادة يقول: متى كان العلم في السمَّاكين؟ يعرض بيحيى بن أبي كثير كان أهل بيته سماكين" (جامع بيان العلم وفضله 2/157).
7- طعن الإمام مالك رحمه الله في أتباع الإمام الأوزاعي وأتباع أبي حنيفة:
قال ابن عبدالبر:
"حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر، قال: حدثنا ابن أبي دليم، قال حدثنا ابن وضاح، قال: حدثنا محمد بن يحيى المصري، قال: سمعت عبدالله بن وهب يقول: سئل مالك عن مسألة فأجاب فيها فقال له السائل أن أهل الشام يخالفونك فيها فيقولون كذا وكذا، فقال: ومتى كان هذا الشأن بالشام؟! إنما هذا الشأن وقف على أهل المدينة والكوفة.
وهذا خلاف ما تقدم من قوله في أهل الكوفة وأهل العراق، وخلاف المعروف عنه من تفضيله للأوزاعي، وخلاف قوله في أبي حنيفة المذكور في الباب قبل هذا، لأن شأن المسائل بالكوفة مدارة على أبي حنيفة وأصحابه، والثوري.
قال عبدالله بن غانم قلت لمالك: إنا لم نكن نرى الصفرة ولا الكدرة شيئاً، ولا نرى ذلك إلا في الدم العبيط، فقال مالك: وهل الصفرة إلا دم؟! ثم قال إن هذا البلد إنما كان العمل فيه بالنبوة، وإن غيرهم إنما العمل فيهم بأمر الملوك.(207/106)
وهذا من قوله أيضاً خلاف ما تقدم، وقد كان أهل العراق يضيفون إلى أهل المدينة أن العمل عندهم بأمر الأمراء مثل هشام بن إسماعيل المخزومي وغيره" (جامع بيان العلم وفضله 2/158).
قال أبو عمر بن عبدالبر معقباً: "وهذا كله تحامل من بعضهم على بعض".
8- طعن ابن القاسم وابن وهب كل منهما في صاحبه:
قال ابن عبدالبر:
"حدثنا عبدالرحمن بن يحيى، قال: حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، قال: حدثنا عبيدالله بن يحيى، عن أبيه يحيى بن يحيى، قال: كنت آتي ابن القاسم فيقول لي: من أين؟ فأقول: من عند ابن وهب، فيقول: الله، الله، اتق الله فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل.
قال ثم آتي ابن وهب فيقول لي من أين؟ فأقول: من عند ابن القاسم فيقول: اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي" (جامع بيان العلم وفضله 2/159).
9- قدح ابن معين رحمه الله في الإمام الشافعي ومجموعة من خيار الأئمة والرواة الثقاة رحمهم الله:
قال ابن عبدالبر:
"وقد كان ابن معين عفا الله عنه يطلق في أعراض الثقاة الأئمة لسانه بأشياء أنكرت عليه منها قوله: عبدالملك بن مروان أبخر الفم وكان رجل سوء.
ومنها قوله كان أبو عثمان النهدي شرطياً، ومنها قوله في الزهري أنه ولي الخراج لبعض بني أمية، وأنه فقد مرة مالاً فاتهم غلاماً له فضربه فمات من ضربه، وذكر كلاماً خشناً في قتله على ذلك غلامه تركت ذكره لأنه لا يليق بمثله.
ومنها قوله في الأوزاعي: أنه من الجند ولا كرامة. وقال حديث الأوزاعي عن الزهري، ويحيى بن أبي كثير ليس بثبت.
ومنها قوله في طاوس أنه كان شيعياً ذكر ذلك كله الأزدي محمد بن الحسين الموصلي الحافظ في الأخبار التي في آخر كتابه في الضعفاء عن الغلابي عن أبي معين: وقد رواه مفترقاً جماعة عن ابن معين منهم عباس الدوري وغيره.(207/107)
ومما نقم على ابن معين وعيب به أيضاً قوله في الشافعي: أنه ليس بثقة، وقيل لأحمد بن حنبل: إنه يحيى بن معين يتكلم في الشافعي! فقال أحمد ومن أين يعرف يحيى الشافعي؟ هو لا يعرف الشافعي!! ولا يقول مثل ما يقول الشافعي أو نحو هذا ومن جهل شيئاً عاداه.
قال أبو عمر:
صدق أحمد بن حنبل رحمه الله أن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي. وقد حكى عن ابن معين أنه سئل عن مسألة من التيمم فلم يعرفها" (جامع بيان العلم وفضله 2/160).
وقد حاول بعضهم نفي طعن ابن معين في الإمام الشافعي فعقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً:
"وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك حتى نهاه أحمد بن حنبل وقال له لم تر عيناك قط مثل الشافعي" (جامع بيان العلم وفضله 2/160).
10- قدح مجموعة من الأئمة والعلماء في الإمام مالك رحمه الله:
قال ابن عبدالبر:
"وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة، كرهت ذكره، وهو مشهور عنه، قاله إنكاراً منه لقول مالك في حديث [البيعان بالخيار]، وكان إبراهيم بن سعد يتكلم فيه ويدعو عليه.
وتكلم في مالك أيضاً فيما ذكره الساجي في كتاب العلل عبدالعزيز بن أبي سلمة، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم، وابن اسحق، وابن أبي يحيى، وابن أبي الزناد، وعابوا أشياء من مذهبه، وتكلم فيه غيرهم لتركه الرواية عن سعد بن إبراهيم، وروايته عن داود بن الحصين، وثور بن زيد.
وتحامل عليه الشافعي، وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه حسداً لموضع إمامته، وعابه قوم في إنكار المسح على الخفين في الحضر والسفر، وفي كلامه في علي وعثمان، وفي فتياه بإتيان النساء في الأعجاز، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبوه بذلك إلى ما لا يحسن ذكره" (جامع بيان العلم وفضله 2/161).
ثم عقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً:(207/108)
"وقد برأ الله عز وجل مالكاً عما قالوا وكان إن شاء الله عند الله وجيهاً، وما مثل من تكلم في مالك والشافعي ونظرائهما من الأئمة إلا كما قال الأعشى:
كناطح يوماً صخرة ليوهيها ……فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
أو كما قال الحسين بن حميد:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
(جامع بيان العلم وفضله 2/161).
11- حماد بن أبي سليمان يقدح في عطاء، وطاوس ومجاهد:
قال ابن عبدالبر:
"وحدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل بن العباس الخفاف، قال: حدثنا محمد بن جرير بن يزيد، قال:حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا جرير بن عبدالحميد عن مغيرة قال: قدم علينا حماد بن أبي سليمان من مكة فأتيناه لنسلم عليه فقال لنا: احمدوا الله يا أهل الكوفة فإني لقيت عطاءً وطاوساً ومجاهداً فلصبيانكم وصبيان صبيانكم أعلم منهم"! (جامع بيان العلم وفضله 2/153).
وهذا القدح من حماد في عطاء وطاوس ومجاهد لا شك أنه تعد وظلم وجعله صبيان الكوفة أفضل من هؤلاء الأجلة من التابعين، لا شك أنه مخالف للعدل والإنصاف ولذلك قال المغيرة: هذا القول من حماد بغي منه. بل إن الإمام أبا حنيفة وهو من أعلم الناس بحماد يفضل عطاء على حماد. ويفضل كذلك عطاء بن أبي رباح ويقول: ما رأيت أفضل من عطاء بن أبي رباح ولا أكذب من جابر الجعفي. (جامع بيان العلم وفضله 2/153).
12- قدح الإمام الزهري رحمه الله في عطاء وطاوس ومجاهد:
قال ابن عبدالبر:
"وحدثنا عبدالوارث بن سفيان، قال حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري، قال: ما رأيت قوماً أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة ولا رأيت قوماً أشبه بالنصارى من السبئية" (قال أحمد بن يونس: يعنى بالسبئية: الرافضة).
وقال ابن عبدالبر بعد ذلك:(207/109)
وهذا ابن شهاب قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام ما استثنى منهم أحداً وفيهم من جلة العلماء من لا خفاء بجلالته في الدين.
وأظن ذلك والله أعلم لما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء" (وأما ما روي عنهم في الصرف، فهو قولهم بجواز الدرهم بالدرهمين، وقد نقل عنهم كذلك إباحة زواج المتعة، ومن أجل ذلك قال عنهم الزهري "إنهم ينقضون عرى الإسلام!!" ولا شك أن هذا حكم جائر لأن ما ذهبوا إليه من القول بالمتعة، والصرف إنما كان إجتهاداً، ومثله يغفر لمن كان مثلهم في العلم والإجتهاد).
13- طعن الشعبي وإبراهيم النخعي كل منهما في الآخر:
قال ابن عبد البر:
"وذكر الحسن بن علي الخولاني، قال حدثنا نعيم بن حماد، قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، قال كنت عند الشعبي فذكروا إبراهيم، فقال ذاك رجل يختلف إلينا ليلاً ويحدث الناس نهاراً، فأتيت إبراهيم فأخبرته فقال: ذلك يحدث عن مسروق والله ما سمع منه شيئاً قط!!
وحدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال: حدثني زكريا بن يحيى قال: حدثنا قاسم بن محمد بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال: ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال: ذاك الأعور الذي يستفتيني بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئاً".!!
وعقب ابن عبدالبر على ذلك قائلاً:
"معاذ الله أن يكون الشعبي كذاباً، بل هو إمام جليل والنخعي مثله جلالة وعلماً وديناً".
وفي ختام هذا الباب نورد القاعدة الجامعة التي صاغها ابن عبدالبر رحمه الله حيث يقول:
"فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الاثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض فإن فعل ذلك ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً.(207/110)
وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة وفي الشعبي والنخعي وأهل الحجاز وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة. وفي مالك والشافعي وسائر من ذكرنا في هذا الباب ما ذكرنا عن بعضهم في بعض فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده عندما شرطنا في أن لا يقبل فيمن صحت عدالته وعلمت بالعلم عنايته وسلم من الكبائر ولزم المروءة والتعاون وكان خيره غالباً وشره أقل فهذا لا يقبل فيه قول قائل لا برهان له به فهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله" (جامع بيان العلم وفضله 2/162،163).
وقال الإمام الثوري رحمه الله:
"عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والغضب والشهوات دون أي يعي بفضائلهم حرم التوفيق ودخل في الغيبة، وحاد عن الطريق، جعلنا الله وإياك ممن يسمع القول فيتبع أحسنه" (جامع بيان العلم وفضله 2/162،163).
وقال ابن عبد البر:
"وحدثنا عبدالله بن محمد بن يوسف، قال حدثنا ابن دحمون قال سمعت محمد بن بكر بن داسة يقول سمعت أبا داود سليمان بن الأشعث السجستاني يقول رحم الله مالكاً كان إماماً. ورحم الله الشافعي كان إماماً. ورحم الله أبا حنيفة كان إماماً" (جامع بيان العلم وفضله 2/162،163).
72- خلاصة ما ورد في هذه الرسالة:
أولاً: أهل السنة والجماعة لا شك أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة المتمسكون بكتاب الله سبحانه وتعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإجماع هذه الأمة المرحومة خير أمة أخرجت للناس وجماعتها وهم حراس الدين، الظاهرون على الحق إلى قيام الساعة.
ثانياً: كل ما خالف الكتاب والسنة والإجماع فهو بدعة وما لم يخالف الكتاب ولا السنة ولا الإجماع فليس ببدعة.
ثالثاً: البدع التي ظهرت في المسلمين كثيرة أصولها القديمة خمس هي: الخروج، والرفض، والتجهم، والإرجاء والقدر.(207/111)
وقد ظهرت بعد ذلك البدع المركبة، وأعظم البدع المركبة التصوف الذي جمع الزندقة والقول بوحدة الوجود، والجبر، وادعاء علم الغيب وسائر البدع العملية من السماع، والعبادات المخترعة، وأسوأ أنواع الإرجاء.
وظهر في هذا العصر بدعة (اللادينية) والتي تسمى (العلمانية) وهي الفصل بين أمور الآخرة والدنيا، وجعل الدين عقيدة قلبية فقط، والحكم بغير شريعة الله.
رابعاً: اتبع أهل السنة والجماعة السياسة الحكيمة في القضاء على البدع، وتقليل شرها ما أمكن ذلك.
فمن خلفاء الإسلام الراشدين من قاتلهم، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة الذين أقروا بالصلاة وسائر فروض الإسلام وأنكروا فرض الزكاة، وكما قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج لما أظهروا بدعتهم، وقاتلوا المسلمين وكفروهم، وكذلك حرق رضي الله عنه من ادعوا فيه الألوهية وقالوا له أنت هو!! أنت الله!!
فقال قولته المشهورة:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قَمْبرَا
ومن بعده قتل خلفاء بني أمية الخوارج وكثيراً من الزنادقة، ومدعي النبوة، وأهل التأويل الباطل كالجعد بن درهم، وجهم بن صفوان...
وقتل خلفاء بني العباس كثيراً من رؤوس البدع والزندقة، والوضاعين، كالحلاج وغيره.
وقام علماء أهل السنة بما أوجب الله عليهم من البيان وإيضاح المحجة، والرد على كل البدع: عقائديةً وعمليةً.
وكذلك أمروا باعتزال رؤوس البدع والضلالات لحصر شر بدعتهم، وإماتتها....
وتركوا الصلاة عليهم أحياناً زجراً لأتباعهم وكان لهم مواقف وضوابط في قبول شهادتهم ورواياتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا مع نظر أهل السنة والجماعة الثاقب في إعلاء منار الدين ونصرة رسالة رسول رب العالمين..
وبالجملة فقد كان موقف أهل السنة والجماعة مع البدع والمبتدعة هادفاً إلى نصر الدين وإيضاح الحق، وعدم إلباس الصراط المستقيم بصراط الذين غضب الله عليهم والضالين...(207/112)
خامساً: كثيراً ما يصدر كلام فيه خشونة وجرح من بعض العلماء الثقات في أقرانهم من العلماء الثقات كذلك، ويكون ذلك مرجعه أحياناً إلى الحسد، أو سرعة الغضب، أو التعجل في الحكم، ومثل هذا الكلام يُطوَى ولا يروى ونَقْلُنا هنا للفصل الخاص بذلك مما ذكره ابن عبدالبر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) إنما هو لتأصيل هذه القاعدة وهي أن قدح الأفراد والثقات بعضهم لبعض يجب رده وتركه.. ولا يجوز التعويل عليه.. وجعله قاعدة عامة في جواز الوقيعة في أهل العلم، أو التأسي بمن وقع ذلك منهم، أو جرح من أردنا جرحه لأن من أخذ كلام عالمٍ ثقةٍ في عالمٍ ثقةٍ فإنه لن يسلم له أحد في نهاية المطاف.
وهذا يؤدي حتماً إلى الزيغ والضلال.
سادساً: نشأ في المسلمين اليوم من لا يفرق بين السنة والبدعة، ولا يعرف المصالح الشرعية، فجعل البدعة اللغوية التي لم تخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً كالبدعة الشرعية، ولم يفرق بين بدعة صغرى وبدعة كبرى، ووضع أصولاً من أصول الضلال زعمها أصولاً للسنة والجماعة، وهي أصول للفرقة والخلاف:
1) كإدخالهم القضايا الخلافية العملية في مسمى السنة.
2) وتضليلهم وتبديعهم من لا يأخذ باختيارهم واجتهادهم.
3) وجعل كل من خالفهم في المسائل العملية خارجاً عن منهج أهل السنة والجماعة وداخلاً في مسمى الفرق...
4) وحملهم أخطاء المجموع على الجميع.
5) وعقدهم الولاء والبراء على المسائل الخلافية العملية.
6) وسعيهم الحثيث لاستخراج عيب لكل عامل للإسلام، واجتهادهم في الوقوف على زَلَّة له من أجل هدمه، وقطعه عن أمته وحرمان المسلمين من جهاده وعلمه وعمله.
7) وتنشئتهم صغار الطلبة على الطعن في علماء الإسلام، وفتح عيونهم أول ما تفتح على مثالب السابقين والمعاصرين...(207/113)
فترى الطالب يَعْلَمُ عن أخطاء ابن حجر، والنووي، وابن حزم، وابن الجوزي، وابن عبدالسلام، ورشيد رضا، وسائر علماء المسلمين، أضعاف.. أضعاف ما يعرف عن إحسانهم وعلمهم، وجهادهم، ودعوتهم.
وهذه جميعها من أصول أهل الخلاف والبدعة، وليست من أصول السنة والجماعة.
ومن أجل إظهار منهج أهل السنة والجماعة على الحقيقة كان جمع هذه الرسالة.
والحمد لله أستغفره وأتوب إليه وأسأله قبول هذا العمل، وأن يجعله له خالصاً. اللهم ما كان فيه من صواب فمنك وحدك لا شريك لك، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان.. اللهم إني أعوذ بك أن أضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أظلِم أو أظلَم أو أجهَل أو يُجهَل علي...
ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
**************
***********
******(207/114)
موقف ابن عابدين الفقيه
من الصّوفية والتصوّف
Mawqif Ibn Abideen Min al-Sufiyya wa’t-Tassawwuf
***
دراسة تحليلية وانتقادية حول مضمون رسالة
»سلِّ الحُسام الهندي في نُصرة مولانا خالد النقشبندي«
لمؤلّفها: الشيخ محمد أمين المعروف بابن عابدين
***
كتبه:
فريد الدين بن صلاح بن عبد الله بن محمد الهاشمي
Feriduddin AYDIN
البريد الألكتروني للشيخ فريد الدين
ferid@maktoob.com
أسطنبول – 1993م. الطبعة النانية -2003م.
Süleymaniye Vakf? ?lmî ara?t?rmalar Merkezi Yay?nlar?
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد،
فهذه دراسةٌ تحليليّةٌ حول مضمون رسالة سلِّ الحُسامِ الهندي في نصرة مولانا خالد النّقشبندي، لمؤلّفها: الشيخ محمد أمين المعروف بابن عابدين.(1) فقمتُ بهذه الدّراسةِ بناءً على طلبٍ من العالم الفاضل الفقيه الكامل الدكتور الشيخ عبد العزيز أبي محمد سلجوق بَايِنْدِرْ، رئيسِ هيئة الفتوى بدار الإفْتاءِ الشَّريفةِ بمدينة إسطنبول.
__________
(1) ابن عابدين: محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين الدمشقي (1784-1836). فقيه الدّيار الشّاميةِ وإمام الحنفيةِ في عصرهِ. مولده ووفاته في دمشق. له (ردّ المحتار على درّ المختار)، خمس مجلّدات، يُعرَف بحاشية ابن عابدين. و(رفع الأنظار عما أورده الحلبيّ على الدر المختار)، و(العقود الدّرية في تنقيح الفتاوي الحامدية)، جزْآن؛ و(نسمات الأسحار على شرح المنار)، أصول؛ وحاشية على المطوّل، في البلاغة؛ والرّحيق المختوم في الفرائض؛ وحواشي على تفسير البيضاوي، التزم فيها أن لا يذكر شيئًا ذكره المفسّرون؛ ومجموع رسائل، مجلّدان؛ وهي 32 رسالة، وعقود الّلآلي (الأعلام-خير الدين الزركلي)(208/1)
فطالعتُ هذه الرسالةَ بإلْمَامٍ واهتمامٍ. فهي تتضمّنُ مقالةً ردِّيَّةً كَتَبَهَا الفقيه محمد أمين المعروف بابن عابدين؛ ردَّ فيها على تُهَمٍ قُصِدَ بِها الشّيخ خالدٌ البغداديُّ النقشبنديُّ. (1778-1826م.). فنقلتُ مقاطِعَ هامّةً من هذه الرّسالةِ وأتْبَعْتُ كُلَّ فقرةٍ بملاحظاتٍ مناسبةٍ، ثم اختتمتُ كلامي بالحُكمِ النّهائِيِّ في مضمون هذه الرسالةِ على سبيل الإجمال وفي ضوء الكتاب والسّنةِ.
أسأل الله تعالى أن يجعلها لوجهه الكريمِ، وأن يُرشِدَ بِهَا كُلَّ مَنْ يبحث عن الحقيقة وهو يهدي السّبيل.
فأقول مستعينًا بالله تعالى؛ قال ابنُ عابدين: »فَأَلَّفَ بَعْضُهُمْ رِسَالَةً...إلخ.«. (ص/2). ولم يذكر اسم المؤلّفِ في البداية على سبيل الاحتقار، ثم قال مشيرًا إلى الشيخ خالد البغداديِّ: »الإمام الشهير، والعارف الكبير...إلخ.«. وبالغ في تعظيمه إلى أن قال: »وهو الإمام الأوحدُ، والْعَلَمُ المفردُ، والهمامُ الماجدُ، حضرة سيّدي الشيخ خالد...إلخ.«. وأضاف إلى ذلك ما لا يستسيغُهُ الفقهاءُ ولا يستحسنه العلماءُ ممّا يُزَعْزِعُ ثقة المسلم المثقّف أن يجعله في عداد الفضلاءِ العدول.(208/2)
قال: »وَاشْتَهَرَ به الطّريقةُ النّقشبنديّةُ الواضحةُ الجليّةُ...إلخ.« (ص/3)، فإظهر بمثل هذا الإمتداح انحيازه إلى طائفةٍ من الفِرَقِ الْباطنيةِ (وهي النقشبنديةُ) فأظهَرَ بذلِكَ أنّه غيرُ مُحَايِدٍ على أقلِّ تَقْديرٍ. بل هو متعصّبٌ لأهل الطُّرُقِ الصُّوفيّةِ ومخالفٌ لموقف علماء الإسلامِ من الباطنيةِ وأباطيلهم. وفضلاً عن هذا، فقد أطنب ابن عابدين بمدائح متواصلة لهذا الشيخ تعظيمًا وتوقيرًا له؛ ولم يقف عند هذا الحدِّ، بل ازْدَادَ مجاملةً، فتصنّع بمدح سلطان زمانه تَزلُّفًا إليه دونما قرينةٍ، وتكلّفَ في مداهنته له بعباراتٍ خلاَّبةٍ، وخطاباتٍ برّاقةٍ تَمَلَّقَ فيهَا من غير مناسبةٍ كقوله: »أدام الله طلعته السّعيدة في أفق الزّمان كوكبًا منيرًا، وخلّد ذَا لآراء السّديدة في باهي مملكته عضدًا ووزيرًا...إلخ.« فخالف بهذه اللّهجة المتصنّعة الموقِفَ المستنكفَ المتأنّفَ لعلماء الإسلام من أهل السّلطةِ والمناصِبِ. ثمّ تابع ابن عابدين كلامَهُ بأسلوب العوامّ يذبُّ عن هذا الشَّيخ إلى أن استدلَّ بشهادةِ مفتي دمشق السّيّد حسين أفندي، وَأسهب في مدحه باستعاراتٍ وتعبيراتٍ مجازيةٍ استعرض فيها بلاغتَهُ وباعَهُ الطّويلَ في العلوم العربية وآدابها وقواعدها على غرار ملالي(1) الأكرادِ، حتّى غدا كأنّه امتدح نفسَهُ بمدح غيره، وكفى بذلك ملامة أن يقال: »إنَّ هذا قد أثنى على نفسه. «لأنه ما ادّعى أحدٌ علمًا أو قصد ذلك بطريقة ماّ إلاَّ رُمِيَ بالجهل. ثمّ قال ابن عابدين: »فبادرتُ إلى التّوجّهِ والإقبال على الطّاعةِ والامتثال لسؤالهِ (أي المفتي)، بلا إهمالٍ ولا إمهال، فجمعتُ هذه الأوراق...« إلى أن قال: »شَهِدَتْ بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهِ المحتَرَمَةِ (الضمير راجع إلى الشيخ خالد)، عامّةُ أهل البلادِ من
__________
(1) مَلاَليِ: جمعُ مَلاَّ، وهي صفةٌ تُطْلَقُ علىَ رجال الدينِ في اللغة الكردية والفارسيةِ بمعنى الشّيخ في اللغة العربية.(208/3)
النّاس... منهم مفتي الأنام في دمشق الشَّام، السّيد حسين أفندي...إلخ.« وتفنّن ابن عابدين بعد ذلك في صياغة مدح هذا المفتي، ثمّ انتقل إلى سرد ما هو بصدده، فقال: »اعْلَمْ أنّي أُريد أن أكشفَ لك الغطا، وأنبِّهَكَ على بعضِ ما وقع في تلك الرسالة من الْخَطَا، لأَلاَّ تَزِلَّ بِكَ الْخُطىَ (بضمّ الخاء المعجمة، وهي جَمعُ خُطْوَةٍ)،
كُلُّ هَذِهِ الصِّيَغُ المسجَّعَةُ تدلّ على اهتمام ابن عابدين بالقشرِ وليس باللُّبِّ. إذْ نشاهد من خلال كلامه أنّه مفتتنٌ بزخارف القول ليسحر بها العقول وهو منهمك في الدّفاع عن خالد البغداديّ لسببٍ غيرِ شديدٍ، إذ ينقل من كلامِ الشخص الّذي نال من خالد، فَعَادَ يُهَاجَمُهُ بقولِهِ:
قال ذلك الزاعم المزاعم: (كلاهما اسم فاعل من أصل واحد، والموالاة دلالةٌ على التّشْديد). ومن جملة ما نقل ابنُ عابدين من كلام هذا الشخصِ الّذي لَمْ يُسَمِّهِ في البداية، يفيد: أنّ الشيخَ خالدًا يقوم بتسخير الجنِّ، ويستعين بالأرواح الأرضية الخبيثة، ويدّعي علمَ الغيبِ عن إخْبار الجانِّ له، ويدّعي أنّه قَتَلَ وَرَبَطَ كثيرًا من العفاريت والجانِّ، كلّ ذلك بإقراره مع أنّه يدّعي الولايةَ والإرشَادَ في الوقتِ نَفْسِهِ.
ثمّ يستطردُ هذا الشخصُ قائلاً: »فلمّا كان السُّؤَالُ متعلِّقًا برجُلٍ مُشَخَّصٍ مُعَيَّنٍ مذكورٍ باسمه، اقتضى التوقّف والتفحّص عن أحواله ليتحقّق عندي جميعُ ما في السّؤال...«
فيدلّ كلامُ (هذا الشخص المجهولِ) الّذي استرسلَ فيه أنّه قد فَحَصَ وفتّشَ الأمرَ وَبَحَثَ، حتّى شهدتْ جماعةٌ بكلِّ ما قد سَجّله من أمر هذا الشيخِ، وذكر أسماء بعض المعروفين من هؤلاء الشهود، وهم: الشيخ إسماعيل النقشبندي، والشيخ أحمد علي آغازاده الكردي، والشريف أفندي الدياربكري.(208/4)
كما أنّه بعد وصفِهِ أتباعَ الشيخ خالد بـ (الفرقة الخالدية الضَّالة المضلّة)، أضاف قائِلاً: »بِأنّه لم يُنْكِرْ ولم يَكْتُمْ أحدٌ من هؤُلاءِ ما نُقِلَ عن شيخهم؛ بل أقرّوا بِأنَّ الشيخَ خالدًا نفسهُ يفتخر بما يظهر منه من هذه الأمورِ ويعدُّهُ من جُملَةِ خوارِقِهِ وعلامةِ ولايتِهِ«.
ثمّ لخّصَ هذا الشخص مقالته فقال: »فَثَبَتَ عندي صدقُ ما في السؤالِ (...)، فبادرتُ إلى الجواب (...) ومن كتم علمًا أُلجِمَ بلجَامٍ من النار. فأجبتُ متوكّلاً على الله التوّاب قائلاً بِأنّه ساحرٌ بِالإجماعِ. أي باتّفاق المحقّقين من علماءِ المذاهب الأربعةِ«.
قال ابن عابدين: هذا تصّ كلامِهِ. (ص/5)
***
بعد هذه النقولات، بدأ ابن عابدين بمعاتبة هذا الرجلِ ورميه بالتعسُّفِ والمجانبةِ عن طريق الإنصافِ من جهةٍ، كما وقف بجانب الشيخ خالد موقف المدافع المتحمّسِ المفتدي من جهةٍ أخرى.
ومن الغريب أن ابن عابدين الفقيه يعبّر عن فائِقِ إعجابِهِ بالشيخ خالد الصّوفيِّ بقوله:
»فإنّ الّذي شاهدناه من حالتِهِ البديعةِ (...) إحْيَاؤُهُ بُقَعَ الْمَسَاجِدِ والخَلَوَاتِ بإقامة الأذْكَارِ والأورادِ والصّلواتِ...إلخ.« كأنّ إحياء المساجد مقصورةٌ على صلوات الصوفيةِ وأورادِهِم وأذكارهم الّتي أكثرها مستحدثاتٌ وبِدَعٌ وحفلاَتٌ سرِّيَّةٌ وحلقاتٌ شيطانيةٌ وشطحاتٌ وخرافاتٌ إسرائيليةٌ وضجيجٌ ومبالغاتٌ وهذياناتٌ مستورثةٌ من البوذيةِ والمانويةِ والشامانيةِ وغيرها من الأديان الوثنيةِ ومن التيارات الفلسفيةِ. كلّها مخالفةٌ لأذكار رسول الله صلى اله عليه وسلم، وَمُنَافِيَةٌ لِمَجَالِسِهِ وأحوالهِ ومناسكهِ ونوافله الطيِّبةِ الشّريفةِ الثابتةِ في سنّتِهِ النّبوية الطاهرةِ البيضاءِ. ثمّ يدّعي ابن عابدين: أنّ هذا الشيخَ كان له بعض مريدين قد طردهم فتطاولوا عليهِ بالفريةِ. (س/6)(208/5)
أمّا مسألةُ الطردِ عند النقشبنديةِ، فليس أمرًا بسيطًا كما هو شائعٌ بين الناس. إذ أنّ الطردَ عند العامّةِ هو الإبعاد المحض. أي إذا طردتَ شخصًا من مكانٍ تكون قد أبْعَدْتَهُ من تلك الساحة بخلافِ ما قد اصطلحتْه الصوفيّةُ. أمّا عندهم، فالمريدُ إذا طرده الشيخُ أصبح مطرودًا ومبعودًا من باب اللهِ أيضًا، ومن باب رسوله... وهو شقيٌّ من أهل النار بعد ذلك على التأبيد. ويحرم عليه الجنّةُ وإن قضى جميعَ حيَاتهِ ساجدًا لله تائبًا إليهِ ومستغْفرًا؛ فلا ينفعه عملٌ صالحٌ حتىَّ يرضى عنه شيخُهُ (!) وهذَا أشبه ما يكون بقرارات بابا (الزعيم الروحيّ للمذهب الكاثوليكي) المعروفةِ بالأفوروز Aphorose ضدّ العصاة المسيحيّينَ
هذا، وليس من الأمور الخفية ما قد جرتْ من مشاحناتٍ مريرةٍ وصراعٍ متواصلٍ بين مشايخ الطرق الصوفيةِ في المنطقة الشرقية من تركيا بسبب اتّهام بعضهم البعض الآخر بأنّه مطرودٌ من قِبَلِ شيخه وأنّه لا يجوز الإنابة إليه. وكمثال على ذلك: فإنّ أسرة الشيخ محمد الكُفرويّ ألْصَقَتْ هذه التُّهمةَ بالشيخ صبغة الله الحيزانيّ، فأفضى ذلك إلى عداءٍ شديدٍ بين هاتين الأسرتين حتّى كانت جماعاتٌ من مريدي الشيخ محمد الكُفرويّ تقصد من مدينة آغري A?R? وتصل إلى ضواحي مدينة بدليس B?TL?S (1)
__________
(1) بدليس: ولايةٌ من المدنِ الواقعةِ في شرقي تركيا. وهي على مقربةٍ من بحيرةِ وَانْ Wan. عدد سكانها: 300843 حسب إحصائيّاتِ عام 1985م. يختلف أهلُ المدينةِ بين أكثريةٍ من الأكرادِ وقلّةٍ من الأتراك. إلاّ أنّ جميعَ العشائرِ القاطنةِ بضواحيها أكرادٌ ما عدا قبيلتين عربيتين، وهما: قبيلة شَيْبُو والقبيلةُ الْبَدرِيَّةُ. وما زال أبناء هاتين القبيلتين يتكلّمون باللغةِ العربيةِ، إلاّ أنّ لَهْجَتَهُمَا قد تأثّرت باللغةِ الكرديةِ إلى حدٍّ بعيدٍ، كما أنهم يجهلون القراءةَ والكتابةَ بالعربيةِ.
أمّا المسافةُ بين مدينتي بَدْلِيسْ وآغْريِ، فتُقَدّرُ بثلاثمائة كم. لقد كان لِمشَايخِ الطرق الصوفية تأثيرًا كبيرًا على سُكّانِ هذهِ المنطقةِ إلى السنين الأخيرة. وكان الصراع قائمًا بين أتباعهم بسبب المنافسة في طلب الشهرة والرياسة. إلاَّ أنّ هذا التأثيرَ بدأ في التردّي منذ أن انتشرت النزعة القومية بين صفوف الجيل الصاعد للأكراد. كما قد اضطرّ كثيرٌ من هؤلاء الشيوخ بعد الأحداث الدامية الأخيرةِ أن يرحلوا إلى مناطقَ أخرى من الجهة الغربية للبلاد.(208/6)
بشقّ الأنفس، حيث بها ضريح الشيخ صبغة الله وخليفته الشيخ عبد الرحمن التاغي المعروف بين معارضيه بالشيخ الطاغي، كانوا يقومون بمثل هذا السفر الذي يكلّفهم، لِمُجَرَّدِ أن يبصقوا على قبورهم وأن يصبّوا على أرواحِ المدفونين في هذهِ المقبرةِ جامَ غضبهم بأنواع السّبِّ والشّتمِ واللّعنِ! وما زالت هذه العداوةُ قائمةً بين الأسرتين منذُ مائةٍ وخمسينَ عامًا. كلُّ ذلك أسفر عن ادّعاء الكُفروِيّينَ: أنّ الشيخَ صبغةَ اللهِ الحيزانيَّ اغتصب منصبَ الخلافةِ في الطريقة النقشبندية، وادّعى وراثةَ عبد الله الهكّاريّ من غير استحقاق، بينما كان هو في الحقيقة خليفةَ خليفتِهِ (الشيخ طه) الذي طرده من الطريقة، وأعلن أنّه دعيٌّ منتحلٌ كذَّابٌ. ومعنى ذلك: أنّ الشيخ صبغةَ اللهِ الحيزانيَّ نازع الشيخ الكفرويَّ على منصبه في الطريقة وعلى رتبته في السلسلة النقشبندية بهذا الإدّعاء. تلك السلسلة التي يزعمون أنها متّصلة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم(!)
ويعود الخلاف بين هذين الخصمين إلى أنّ كلاهما كانا خليفتي الشيخ طه الهكّاري، والقصّة طويلة لا محلّ لها من الإعراب.
هكذا فإنّ مفهوم الطّردِ عند ابن عابدين العلاّمة الفقيه (!) لا يختلف عن مفهومه عند الباطنيةِ. ونستنتج من هذا: أنّ مَن كان قد طرده الشيخُ خالدٌ، فإنّه كان مطرودًا عند الله في اعتقاد ابن عابدين...(208/7)
إنّ مسألةَ الطردِ عند المقشبنديّينَ، تتّضح بكلِّ ما فيها من دجلٍ وتضليلٍ عَبْرَ كلماتِ خالِدِ البغداديِّ بالذّات، في رسالةٍ بَعَثَهَا إلى مريديه في إسطنبول، يحذِّرُهُمْ فيها مخالطةَ رَجُلٍ طَرَدَهُ من طريقتِهِ،(1) وَيُهَدِّدُهُم أنّه سوفَ يقطعُ هِمَّتَهُ منهم، أي أنّه لن يَمُدَّهم بكراماتِهِ في الدنيا ولا بشفاعَتِهِ عند اللهِ يومَ القيامةِ إنْ خالَطوهُ واتَّبَعوُهُ، كما يخبِرُهُم بأنّ ذلك الرجلَ مطرودٌ. وأمّا مفهوم الهمّةِ عند النقشبنديّين فإنّه مُعْتَقَدٌ هامٌّ جداًّ في طريقتهم، وقد ذكروا منها ما لا يُحصى من حكايات عريبةٍ من طيِّ الأرضِ لهم، ومشيِهم على البحر، وطيرانِهم على أجنهة السُحُبِ وأمثالِ ذلك على سبيل الاستشهاد بكراماتهم... ومعنى الهمّةِ عندهم: أنّ الشيخ يمدُّ مريدَهُ متى أصابته نازلةٌ فناداه، يقطع مسافاتٍ شاسعةً فيحضر عند مريدِهِ ويُنقِذُهُ مماّ حلّ به من البلاءِ.
وهذا مقطعٌ من نصِّ كلامِ خالد البغداديِّ في صدد همّتِهِ، ورد ذلك في رسالةِ ابن عابدين.
يقول البغداديُّ:
»فألآنَ أُخْبِرُكُمْ بِأَنّي وَجَميِعَ رِجَالِ السِّلسِلَةِ تَبَرَّأْنَا مِنْ عَبْدِ الْوَهَّاب، فَهُوَ مَطروُدٌ عَنِ الطَّريِقَةِ، فَكُلُّ مَنْ تَصَادَقَ مَعَهُ لأَجْلِ الطَّريِقَةِ فَلْيَتْرُكْ مُصَادَقَتَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ، وَإلاَّ فَهُوَ بَريءٌ مِنْ إِمْدَادِ هَذَا الْفَقيِرِ، وإمْدَادِ السَّادَاتِ الكِرَامِ، ولاَ أرّضىَ أنْ يُكَاتِبَنيِ وَلاَ أنْ يَسْتَمِدَّ هِمَّتيِ بَعْدَ وُصوُلِ هَذَا الْمَكتوُبِ إِلَيْهِ...«(2)
__________
(1) هو عبد الوهّاب السوسي، موصوعِ هذه العُجالةِ.
(2) عبد المجيد بن محمد بن محمد بن عبد الله الخاني، الحدائق الوردية في حقائق أجلاّءِ النقشبندية، ص/232(208/8)
نعم، فإنّ ابن عابدين العلاّمة الفقيه (!) أيضًا كان يعتقد بهذه الخذعبلات. ولعل هذا هو من الأسباب التي دفع ابنَ عابدين إلى هذا الميدان حتّى اصبح جنديًّا يدافع عن قلعة الصوفية.
يستطرد ابن عابدين قائلاً:
»فَعَلِمْنَا أنّ ما ذَكَرَ (أي هذا الرّجلُ المطرودُ) كذبٌ وافتراءٌ. ويستبعد ابن عابدين بهذا الرّأي الجازم أن يكون الشيخ خالد قد قال شيئًا ممّا نُسِبَ إليه (أنّه يقوم بتسخير الجنِّ، ويستعين بالأرواح الأرضية الخبيثة، ويدّعي علمَ الغيبِ عن إخْبار الجانِّ له، ويدّعي أنّه قتل وربط كثيرًا من العفاريت والجانِّ...). إذ أنّه لو لم يكن يخشى الله لخشي العباد أن ينحطّ قدره على الأقل«. (ص/6)
كان هذا لفظ ابن عابدين بالذّات!
ثمّ أشار إلى »هذه الإدّعاءات الباطلهِ« على حدّ وصفه إيّاها: »فإنّه ممّا تأنفه الأسماع وتمجحه الطباع«
وبالاختصار يقول ابن عابدين: إنّ الشيخ إسماعيل المذكور لم يقل كما أخبر عنه كاتب الرسالةِ، وإنّما أفاد أنّه كان يسمع أصواتًا خفيّةً، ولم ير أحدًا أثناء الذكر والحلقة التي يسمّونها: التّوجُّه. (ص/7)
فأنا تذكّرتُ هنا أمرًا بهذه المناسبة، وهي أنّ مشايخ الطريقة النقشبندية بالمنطقة الشرقية في تركيا كانوا يقيمون طقوسًا غريبةً لا يعرفها المسلمون ولا يعترفون بها، ومن جملة هذه الطقوس أنّهم كانوا يعقدون حلقةً خاصّةً تختلف عن حفلة (ختم خواجكان)، ويسمونها التوجُّه. ومن الغريب أن مشايخ هذه الطريقة بالمنطقة الغربية لا يعرفون عن هذه العادة شيئًا، رغم ما يدّعون أنّهم يتّصلون بتلك السلسلة المزعومة، ورغم اتّحادهم معهم في الطريقة والمشرب والمُعتقد. وهذا من الحجج التي تدلّ على عدم استقرارهم وبطلان دعواهم التي لا تقوم على أساس من الحقّ.(208/9)
ثم يسجّل ابن عابدين نصَّ رسالةٍ كتبها الشيخ إسماعيل المذكور، يتبرّأ فيها كاتبها عمّا أُسنِدَ إليه، كما يعتزّ بشيخه خالد النقشبنديّ، ويمتدحه مدحًا طويلاً، ثمّ يتبرّأ من كلّ مَنْ يتوهّم السحر أو الكفرَ أو الفسقَ أو البدعة في حقّ شيخه. كذلك يتبرّأ خاصّةً من كاتب الرسالة التي طعن بها في شيخه، وسمّاه هنا، بعد أن امتنع من ذلك عبر حديثه، فقال: »لاسيّما من المنكر المطرود الذي اسمه عبد الوهّاب...«. (ص/8)
لقد كنتُ في قلقٍ منذ بدأت أتصفّح رسالة (سلّ الحسام الهندي)، هذه التي تَنَاوَلْتُهَا، وَاتَّخَذْتُهَا موضوعًا لِبَحثي ودراستي حول الطريقة النقشبندية، كنتُ في قلقٍ لأتعرّفَ على اسم هذا الشخص الذي سلّ ابن عابدين الْحُسَامَ عليه لينتقمَ منه عن خالد البغداديّ، ولكنّه لم يذكره ألاَّ بالضمائر استخفافًا به، حتّى وصلتُ إلى هذا المقطع من الكتاب، فوجدتُ اسمَهُ مذكورًا في رسالةٍ أُخْرىَ منقولةٍ ضمنَ سطورِ ابن عابدين. وهذا يعني أنّ ابنَ عابدين، بلغ منه الغضبُ على هذا الشخص حتّى جعله يكره أن يذكر اسمه في كتابٍ لم يدوّنه إلاّ ليملأه باللّعن عليه. وبذا عرفنا أنّ ذلك الشخص الّذي اصبح غرضًا لسيف ابن عابدين اسمه (عبد الوهّاب السوسي).
ويدّعي الشيخ إسماعيل (على حدّ قولِهِ): أنّ عبد الوهّاب، هذا الطاعن في خالد البغدادي: »قد بنى فضولَهُ على خبرِ قصّةِ الشيخ إسماعيل بالذّات عليه (أي على عبد الوهّاب السوسي)، فيكون عبد الوهّاب قد تصرّف فيما نُقِلَ إليهِ. فزاد عليه أو حرّفهُ بألاستعانةِ بأحد الأشخاص المطرودين من باب الشيخ خالد، حيث كان هذا الشخص مع الشيخ إسماعيل في حجرةٍ مغلّة البابِ، فسمع أصوات الأجنّةِ تذكر اللهَ. فلمّا قصّ هذا الخبر على عبد الوهّاب استغلّ هذه القصّة فزاد فيه ما زاد.«(208/10)
ثمّ عثرتُ على اسم هذا الرجل في رسالة أخرى مدوّنةٍ باللغة التركيةِ ألّفها شخصيةٌ من كبار الأعلام في تركيا اسمه قَسِيم كُفْرَويِ، يتطرّق فيها إلى نفس النزاع، فيقول: »إنّ عبد الوهّاب السوسي كان من خلفاء خالد البغداديّ. فكلّفه شيخه خالدٌ بنشر دعوته في إسطنبول. ولماّ بلغه أن عبد الوهّاب يأمر الناس بالرابطة لنفسه، طرده من طريقته بعد أن جرت بينهما مشاجرات ومساجلات...«. كذلكَ وردت هذه القصّةُ في عددٍ أخرى من الرسائل والكُتُبِ للنقشبنديّينَ وغيرهم. فمن أراد المزيد من المعلومات حول هذه القصّةِ، يكفيه مراجعة (الحدائق الوردية في حقائق أجلاّء النقشبنديةِ) لِعبد المجيد الخاني.(1)
أمّا (الرابطة): فهي صلاة في الديانة النقشبنديةِ مأخوذةٌ من معتقدات مجوس الهند، ويغلب أنها مقتَبَسَةٌ من كتاب السطرايات للراهب الهندي المعروف باسم (باتانجالي Patanjali). تنشب أحيانًا بسبب هذه البدعة فتن بين المسلمين والنقشبنديين في تركيا.
أودّ هنا أن أشير بالمناسبةِ إلى أنّه ظهر لي أثناء مطالعةِ رسالة (سلّ الحسام الهندي) لابن عابدين، أنّ المؤلّفَ كان متأثرًا إلى حدودٍ بعيدةٍ بظروف عصره والبيئة التي نشأ فيها. وتشهد على ذلك كلماته المسجّعةُ وما يبدو من خلالها من تكلُّفٍ وتصنُّعٍ وتشدُّقٍ. كلّ ذلك ليُظهِرَ به مهارتَهُ في تنسيق العبارات واتقانَهُ في التعبير بسحر الكلمات.
__________
(1) Kas?m Kufral?, Nak?ibendîli?in Kurulu? ve yay?l???, s. 185. Türkiyat Enstitüsü No.337(208/11)
لقد كان عصرُ ابن عابدين مرحلةً خطيرةً انتشرتْ فيها الفتنُ وعمَّ فيها الفسادُ، وساد الاضطراب على الحياة الاجتماعية في جميع أرجاء المعمورة، خاصّةً العالم الإسلامي شهد انهيارًا بالغًا في الأخلاق والسلوك، فأدّي ذلك إلى ضياع الرُّشْدِ وغياب القِيَمِ الساميةِ والفصائل، حتّى احتلّتْ مكانها بِدَعُ الصوفيةِ وخرافاتُ السحرةِ والمشعوذين. نشاهد موقفَ ابن عابدين الغافلَ عن أحداثِ وتطوّرات عصرِهِ في كلّ كلمة من عباراته. ونجده في سُباَتِهِ العميق كَجَهَلَةِ زمانه لا يفطَنُ إلى شيءٍ بدتْ أماراتُهُ، بل استخدم عِلْمَهُ ومعرفته واستهلك وقته في الرّدّ على شخصٍ هاجم شيخًا من شيوخ الصوفية وهو في غنىً عن ذلك، بينما كان عليه أن يستخدم علمه في إيقاظ المسلمين وإثارة مشاعرهم للوقوف أمام التيارات الهدّامة والفلسفات الماكرة من التصوّف والفرمسونية وأشكال غريبة من الزندقة والكفريات التي أماتت الحميّةَ والغيرةَ الإيمانيةَ في قلب الرجل المسلم وجعلتْ العالمَ الإسلاميَّ فريسةً للأمم الكافرةِ بمدّةٍ قليلةٍ بعد موت ابن عابدين، فانهارت دولة المسلمين، فسقطوا بأيدي أعداءهم، وزحف الغربُ على الوطن الإسلاميّ بكامله فاستعمره، وترك فيها من خبائثه يوم غادره. ثمّ بنوا على أنقاض هذه الدولة العظيمة دويلاتٍ قَزَمَةً وفرّقوا بذلك صفوف المسلمين وشتّتوا شملهم وجعلوهم شيعًا وأحزابًا، كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون.
ولكن لم يستطع شيوخ الصوفية المدرّعون بدفاع ابن عابدين وأمثالِهِ أن يُنْقِذوا المسلمين من هذه البلايا على الرغم من تعظيم ابن عابدين لهم وما يعتقد فيهم من البركة والكرامة والتصرّفات المعنوّية.(208/12)
ثمّ سجّل ابن عابدين في رسالته (ص/8)، مقطعًا آخر من كلام عبد الوهّاب السوسي، جاء فيه بالاختصار: أنّ عبد الوهّاب استشعر أنه سيصبح هدفًا للأغراضِ على استشهاده بمن هو عدوٌّ لنفسِ الشخص الذي يعاديه، فعابه ابن عابدين بمثل هذا الاستشهاد وبحججٍ أخرى يدلّ كلامه على سعة علمه وكمال معرفته بطرق الاستدلالِ، على الرغم من غفلته عن واقع عصره. إلاّ أنّه نقل شيئًا من كلام ابن حجر الهيتمي الذي تدلّ ألفاظه على انتصاره للصوفية وتساهُلِهِ مع الباطنيةِ على طريقة ابن عابدين، ممّا يسبّب ذلك عدم الثقة برأيهما. ويُستَغرَبُ من مثلهما هذا الموقف.
ثمّ ينهال ابن عابدين على هذا الطاعن في الشيخ خالد بالتكذيب المتواصل، مستدلاًّ بآياتٍ كريماتٍ عدّةٍ، ويرميه بالحسدِ والافتراء والزور، كما يحاول إبراءَ ساحة الشيخ خالد من الكفر والزّندقةِ بدلائلَ منقولةٍ من كُتُبِ الرّجالِ كابن حجر الهيتمي وابن شحنة... ويعزّزها بطائفةٍ من الأخبار والأشعار.
ثمّ بعد كلّ هذه المقدّمات والتعليلات، والحُكْمٍ على عبد الوهّاب، والإجابةِ على سؤالٍ مفروض بأنّ »القاعدةَ الّتي عليها التّعويل بين أهل التفريع والتأصيل: أنّ الجرح مقدّمٌ على التعديل«.
سلك ابنُ عابدين نفسُهُ خلاف هذه القاعدةِ بحجة:»أنَّ هذه في غير مَن اشتهرت عدالته وظهرت ديانته، وفي غير مَن عُلِمَ أنّ التّكلُّمَ فيه ناشئٌ عن عداوةٍ... إلخ«. (ص/12)
ثمّ انتقل ابنُ عابدين بعد ذلك إلى شرح أمورٍ متعلّقةٍ بموضوع الطعن فقال: »ولنشرح لك هذا المقالَ تتميمًا للمرام في أربعةِ فصولٍ«. (ض/14)
»الفصل الأوّل: في بيان حقيقة الكرامة«
»الفصل الثاني: في بيان حقيقة الجنّ والفرق بينهم وبين الشياطين، وجواز رؤيتهم والاجتماع بهم«
»الفصل الثالث: في بيان السحر وأقسامه وأحكامه...«
»الفصل الرابع: في بيان دعوى علم الغيب إلى آخره...إلخ«(208/13)
وربما يكون ابنُ عابدين قد أصاب في توضيحاته الّتي أوردها ضمن الفصول الثلاثة الأولى، وقد بذل جهدًا بالغًا في الكشف عن أسرار مفهوم الكرامةِ والسحرِ والاستدراج وأمثالها من الخوارق. ولله درّه في شرح مسائلها وبيان الفوارق الموجودةِ بينها. ونقل ما يتعلّق بها من آياتٍ وأخبارٍ وآراءٍ للعلماءِ. كذلكَ حسنُ ترتيبه لهذه الفصولِ وتبويبه لكلّ مسألةٍ على حدةٍ، وأسلوب استدلاله. كلّ ذلكَ جدير بالتقدير مما يدلّ على معرفته الواسعةِ وباعه الطويل في مختلف العلومِ. ومع هذا المستوى الرفيع والعقل الراجح والحرص المتزايد في استنباط الحقائق فقد انثنى ابنُ عابدين عن منهج العلماء المحقّقين عندما تدخّل في دعوى علم الغيب. فعلى الرغم من وجود النصوص القاطعةِ في كتاب الله بأنّه وحده تعالى منفرد بعلم الغيبِ » وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُو«.(الأنعام59). » قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُون«.(الأنعام/50). »قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون«.(الأعراف/188).
فقد أغضى ابنُ عابدين عن كلّ هذه البراهين القاطعةِ وتكلّف في تأويل الآية الكريمة: » فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ«. (الجن/26-27)، وتمسّك بالقيل والقال بُغْيَةَ أن يُشْمِلَ هذه الآيةَ على غير الرّسلِ من البشر من أولئك الّذين يحظون الشهرةَ بِالْتِفَافِ الرَّعَاعِ حولهم، وبإطلاقِ بعض الناسِ صفةَ الولايةِ عليهم وإن لم يدعوها لأنفسهم.(208/14)
ثم أنهى ابن عابدين رسالته هذه »بخاتمة مشتملة على نبذة يسيرة« وليست بيسيرة في الحقيقةِ وذلك »عن بعض العلماء الأعلامِ من معاصري هذا الإمام الذين شهدوا له بالفضل التامّ وبأنّه من العلماءِ العاملين والأولياء الكرام« على حدّ قوله وطبقا لذوقه السقيم وعقله المتخلّف القديم، فلا يستحق أن نهتمّ به لبساطة إطلاقه وخلطه ومراوغته ومجازفته...
أمّا بعد هذه الدراسة السريعة لرسالة ابن عابدين المسماة »سلّ الحُسام الهندي...«، فأقول مستعينًا بالله سبحانه على سبيل الإيجاز: أنّ في هذه الدراسة أمورًا بجب الوقوف عليها بامعانٍ وتحليلها في ضوء الكتاب والسنة:
أوّلها: أنّ ابن عابدين –غفر الله لنا وله- قد دوّن هذه العجالةَ ردّا على شخصٍ اسمُهُ عبد الوهّاب، ولم نعثر على شيءٍ من آثارِهِ إلاَ ما ذكرناه. وتَجِبُ الإشارةُ هنا إلى أنّ عبد الوهّاب هذا الرجل المستهدف ليس هو محمد بن عبد الوهّاب (1703-1792م.) الزعيم النجدي الذي تُنسَبُ إليه الطائفة الوهّابيةُ، تفاديًا للاشتباه.
وثاني هذه الأمور: هو أنه ثبت لي من خلال عباراته أن ابنَ عابدين غاضبٌ أشدّ الغضب على هذا الشخصِ بسبب تطاوله على الشيخ خالد البغداديِّ، وكأنّه يرى نفسَهُ مُكَلَّفًا بالدفاع عن هذا الشيخ خاصّةً وأكثر من أي فردٍ آخر من جمهور الناس المتهافتين حول هذا الشيخ! فاستغربتُ هذا الموقفَ منه، وودِدْتُ لو عرفتُ السببَ المعقول لهذه المحاولة، كما تمنّيتُ لو عرفتُ نسبتَهُ إلى هذا الشيخ وقرابتَه التي دفعتْهُ إلى هذا الميدان حتّى أخذ على عاتقه أن يقوم بمثل هذه المهمة وأن يتّخذ من هذا الأسلوب الحماسي في الدفاع عنه(!) وقد انتابني الاستغرابُ أيضًا بأشدّ ما يكون، عندما تصفّحتُ أواخرَ كتابِهِ وقرأتُ الفصل الرابعَ من مقالتِهِ إذ يقول للقارئِ بأسلوبه المسجّعِ على سبيل التّنبيه:(208/15)
»قد ظهر لكَ وبانَ، ممّا قرّرناه في هذا الشأن، أنّ مَن كان من أهل العلم والعرفان، وأخبر عن أمرٍ حَدَثَ أو سيحدثُ في الزمان، ممّا أطلعه عليه الملك المنّان، لا يحلّ لمسلمٍ ذي دينٍ وإيمان، أنّ يتّهمهُ بأنّ ذلك عن إخبار الجانِّ، وبأنّه ساحر وشيطان، وأن يحكم عليه بالكفر والزندقةِ والإلحادِ بمجرّدِ داءِ الحسدِ والافتراءِ والعنادِ؛ فإنّ سهامَهُ ترجع إليهِ، ودعاويهِ تعودُ عليهِ، ويظهر منه خبث العقيدةِ، وأنّ آراءه غيرُ سديدةٍ، ويخشى عليه سرعة الانتقامِ وسوء الختام والعياذ بالله«.(ص/45-46)
نعم هكذا ابن عابدين الفقيه الموقَّر بين جماهير الأحناف بل وعند كثير من علماء أهل السّنةِ! قد انحطّ إلى هذا الدرك الّذي يأسف عليه كلّ ذي علمٍ بالحلال والحرام، وكلّ ومطّلعٍ على العقيدة في الإسلام. فنسأل الله تعالى أن يكون قد ندم وتاب عن هذه الفضيحةِ بعد أن سجّل هذه التُّرَّهات. ولعلّ بعض الأقلام المسمومة قد جرت على حسابه والله أعلم بالخفايا.
أمّا الشيخ خالد البغداديُّ هذا الّذي اختلفت الأقلامُ بين طاعن فيه ومدافع عنه، فقد أوردتُ ترجمته في الفصل الرابع ضمن كتاب ألّفتُهُ تحت عنوان (الطريقة النقشبندية بين ماضيها وحاضرها)؛ ولكنّني أرى أن أذكر هنا أيضًا نبذةً من أحوال هذا الشخص الخطير الّذي جاءَ بنظرةٍ روحانية جديدةٍ أشغل بها عقول ملايين الناسِ في عبادة اللهِ منذ قرنين. فحدث بذلك تغيّرُ جذريُّ في عقائد المنتسبين إليه، وانتشرت بدعته خاصّةً بين الأتراك والأكراد على الساحة التركية.(208/16)
خالد البغداديُّ رجل من أكراد العراق ينتمي إلى العشيرة الميكائيلية القاطنة بضواحي مدينة السليمانية. وُلِدَ البغداديُّ عام 1778 للميلاد، ونشأ في المنطقة نفسها. درس على جماعة من الملالي الّذين جرت العادةُ على تسميتهم بالعُلماءِ وهم في الحقيقة لم يكونوا من العلماءِ. إذ لا شكّ أنّ العلم هَجَرَ أرض المسلمين منذ قرونٍ وحلَّتْ بهم حقبةٌ مظلمةٌ بعد القرن الثالث من الهجرة النبوية عليه السلام ودامت إلى هذه الأونة. بهذا طبعًا لا يجوز إطلاقُ صفة العلمِ على البغداديِّ أيضًا ولا على أحدٍ من الملالي وشيوخ الصوفيةِ. إذ أنّهم طبقة من أهل الرهبنةِ والجهل والعمى، لا حظَّ لهم من العلوم والمعارف والثقافةِ المعتَرَفِ بها في العالَمِ المتحضِّرِ؛ بل كانوا ولا يزالون يدرسون ركامًا من الكتب ذات الورق الأصفر التي حشاها نفر من شيوخ العجم بعباراتهم المعقّدةِ، كتبوها في عصور الظلامِ مثل كتاب العزِّيِّ في الصرفِ وكتاب الإظهار والنتائج وحلّ المعاقد والفوائد الضيائيةِ في النحوِ. وعدد أخر من كتبهم مدوّنةٌ باللغة الكرديةِ مثل كتاب الظروفِ والتركيبِ في النحو العربيِّ. كلُّ هذه الكتب خالية من القيمة العلمية لا فائدة فيها، عباراتها غامضةٌ ومعقّدةٌ، لم ينجح مؤلِّفوها في الأسلوب والتبويب. فضلاً عما حشدوا فيها من شروحٍ وحواشي مطوّلةٍ زادتها غموضًا فحوّلتها إلى ألغازٍ أعيتْ مَنْ تناولها من الطلبة والمدرّسينَ، فأشغلتهم عن الانفتاح الّذي يشهده العالَمُ المتحضِّر وعن الصحو الّذي بفضله قطع جماهير المثقّفين شوطًا بعيدًا في مضمار العلوم والفنون. كما أنّ هذه الكتب غير معروفة في البلاد العربية. والطّامّة الكبرى أن التلاميذ كانوا يحفظون هذه الكتبَ طوال مدة لا تقلّ عن خمسة عشر عامًا. ثم تعود عليهم بالخسران والندم حين يتخرّجونَ وهم غيرُ ذي كفاءةٍ لأيّ عملٍ. لذا منهم مّن يمارس الشعوذةَ، ومنهم مّن يصبح ذيلاً للصوفيةِ طلبًا(208/17)
لرغيفٍ يُشبِعُ به بطنَه.
كان خالد البغداديُّ من أبناء هذه البيئة المتخلِّفَةِ. ولكنّه كان لَبِقًا نشيطًا جريئًا متلوّنًا يتقلّبُ مع الظروفِ بصبرٍ وينسجمُ مع كل مَنْ يرجو منه المصلحةَ ويستغلُّ الفرصة في حينها. ساعدته هذه الطبيعة حتى استطاع أن يحقق جميع أهدافه ويصبح رجلاً مرموقًا يتهافت عليه الآلافُ، وإن كانوا من الأوغاد والرعاعِ. ذلك أن مِنْ واقع الحياة الاجتماعية أن الإنسانَ متى حظي من الشهرة واحتفل به الناسُ وخاصّةً إذا كانوا صادقين في ولاءهم له، هانت عليه صعاب الأمورِ ودانت له الرقاب. هذا ما حصل للبغداديّ حتى طارت شهرته إلى الآفاق. فلم يحتمل لأحد، حتّى للعلماء أن يدققوا النظر في دعوته الجديدة، عَمَّا إذا تُوَافِقُ أصولَ الدّيِنِ أم هي بدعةٌ أو سلسلةٌ من معتقداتِ الديانة البوذية والهندوكيةِ!
كان خالدٌ ماهرًا في استمالة قلوب الناسِ والتحكّم في رقابهم. نَجَحَ بذلك في جمعِ نُخْبَةٍ من رجالاتِ الأكرادِ تحت زعامته، ونفذ إلى قرارة نفوسهم بسحره حتّى غدوا عبيدًا يعكفون على أعتابه وهو يسيطر على نفوسهم وعقولهم بعد أن عوّدهم على صلاة الرابطةِ وهي شطرٌ هامٌّ من طقوسهم، ومبدأٌ أساسيٌّ تقوم عليه هذه الطريقةُ الصوفيةُ اقتبستها من الديانة البوذيةِ. يكمُنُ سرُّ الطريقة النقشبندية في هذا المبدأ الخطير الّذي يجعل من المريد عبدًا ذليلاً أمام شيخه، مُتَفَانيًا فيه، يطيعه في كلِّ ما يأمره، ولو كان محرَّمًا بنصِّ الكتابِ والسُّنَّةِ!(208/18)
لعب خالدٌ دوره في نشر طريقته على جميعِ أرجاء المملكةِ العثمانيةِ بجهود أنصارِهِ من ملالي الأكرادِ وعلى رأسهم: عبد الرحمن الكرديّ الْعَقْريّ، وعبد الفتاح الكرديّ العقريّ، ومصطفى الكُلْعَنْبَريّ، والملا عباس الكوكيّ، والملا هداية الله الأربليّ، وملاّ عثمان الكرديّ الطويليّ، وخالد الكرديّ، وعبد القادر الديملانيّ، ومحمّد المجذوب العماديّ، ومحمّد الفراقيّ الكرديّ، ومحمد بن عبد الله الخاني، وإسماعيل الأنارانيّ... لقد حاول هؤلاء ومئاتٌ آخرونَ من ملالي الأكراد والأتراك بكل ما في طاقتهم، وبذلوا أقصى جهودهم في نشر دعوة هذا الرجل إلى الآفاق دون أن يتأمّلوا هل أنه على حقٍّ أم على باطل، حتّى أصبحت حكومة الدولة العثمانيةِ تتهيّبُه وتعترف بمركزه وتحسب له حسابها. فكانت من نتائج هذا التحفّظ أن اتَّبَعَتْ الدولةُ سياسةً خاصّةً سايرته بها واستغلّتْه في حرب الوهّابيّةِ. إذ وافقتْ هذه السياسةُ أهدافَ الدّولةِ وأهدافَ خالدٍ في الوقتِ ذاتِهِ. لأنّ الدّولةَ كانت في حاجةٍ إلى موافقة الرعيّةِ في هذه الحربِ، فحصّلتْها بتأييدِ خالدٍ.(208/19)
إنّ الصوفيةَ عامّةً والنقشبنديةَ خاصّةً يكرهونَ أهل التوحيدِ، ويرمونهم بإساءة الأدبِ إلى ذَاتِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وإلى الشخصيات المعروفين بينهم بالأولياءِ، كما أنّ أهل التوحيدِ (بما فيهم الوهّابية)، يكرهون سائر القبوريينَ. ولمّا كانت معتقدات معظم الأتراك والأكراد مشوبةً بالوثنيةِ، نالتْ دعوةُ خالدٍ البغداديّ رغبةً عظيمةً بين الطّائفتين، وانتشرت الطريقة النقشبنديةُ على كامل الساحة العثمانية في فترة أقل من ثلاثة أعوام. وصلت دعوة هذه النحلة إلى أقصى بقاعِ شبه جزيرة البلقان غربًا، وإلى تخوم دولة الروس في جبال قوقاز شرقًا، واجتاحتْ منطقةَ كُرْدِسْتَان والأناضول بتمامها في حياة خالد البغداديِّ. كانت هذه التطوّرات في الحقيقة انتصارًا عظيمًا للوثنية الجديدة على أرض الإسلام. وما زال هذا الخطرُ المتنكِّرُ في لباسِ الزُّهدِ والتَّقوى يهدّد الدين الحنيف على هذه الساحة، كما أنّ القلّة من المؤمنين الحنفاءَ من أبناء الْقَوْمَيْنِ التركيِّ والكرديِّ يعانونَ اضطهادًا شديدًا في هذه الآونة الأخيرةِ من جرَّاء التحالُفِ العلمانيِّ-النقشبنديّ.(208/20)
مات خالدٌ عام 1826 للميلاد وهو نَادِمٌ على ما جاء به من البدع، وألفاظه شاهدة على هذه الندامة إذ يردّد الآية الكريمة {يَا حَسْررَتىَ عَلىَ مَا فَرَّطْتُ فيِ جَنْبِ اللهِ...}(1) قُبيلَ أن يلفظ أنفاسَه الأخيرةَ. ولعلّ مَن يقول معترضًا أن كلَّ مؤمن يحظى من الصحوة الإيمانيةِ ، لا بدّ وأن يُكثر من الاستغفارِ وأن يُظهِرَ الندامةَ وهو على الرمق الأخير. هذا كلام صحيح لا شكّ فيه. ولكنه لا يصلح أن يُحتَجَّ به لإبراء ساحةِ خالد. لأنّه بالذّات يعترف في وصيته بسلبياتٍ صدرت منه على سبيل الإيجاز وهو مضطرٌّ للاختصارِ آنئذٍ حتمًا في تلك الظروف الخطيرة التي حلّت به إذ كان قد أصابه الطاعون، والله سبحانه أعلم به أنه لو كان على كمال الصحّةِ لربما اعترف بأضعافِ ذلك. وهذه كلماته الأخيرة: »لا تزيدوا التكايا عما في عهدي. ومن أراد الإحداث فليعمّر جامع العدّاس«.(2) فقولوا بالله، أيُّ شيخٍ من شيوخ الطرق الصوفيةِ أوصى حتّى الآن بمثل هذا الأمر، ونهى أصحابه عن أن يزيدوا في عدد التكايا؟! هذا أمرٌ لا يستقيم مع المنطق السليم. إذ أنّ النهيّ عن إقامة التكايا معناه النهي عن ممارسة طقوس الصوفيةِ. وهذا قد صدر عن خالد البغدادي بصراحةٍ بالغةٍ من خلال كلماته المنقولة آنفًا. والله تعالى غنيٌّ عن عذابه وعذابنا، كما نَتَمَنَّى أن يشملنا جميعًا غُفْرَانُهُ، إلاَّ أنَّ تأثيرَ هذا الرجل لا يزال يوجّه ملايين الناس في ازدياد التكايا، وإسرَارِهِمْ على بِدَعِهِ، فضلاً عن الاضطهاد الذي يمارسه أنصارُ طريقتِهِ ضد المؤمنين الحنفاءِ في تركيا اليوم.
__________
(1) سورة الزمر/56.
(2) راجع ترجمته بالتفصيل في كتاب "علماء دمشق وأعيانها في قرن الثالث عشر الهجري للمؤلّفَين: محمّد مطيع الحافظ ونزار أباظه، الجزء الأول ص/ 311. دار الفكر-دمشق.(208/21)
وعلى ضوء ما أوردتُ في هذه العجالة من معلومات هامّةٍ أريد أن أختتم كلامي بنبذة من الوصايا للقرّاءِ الكرام، وخاصّةً منهم القائمينَ بإرشاد الناسِ أن يلتزموا جانب الحيطةَ في ثلاثة أمور:
أوّلها، أن يتمسّكوا بمذهب السلف الصالح في التعامل مع كتاب الله العزيز. وأمّا مذهبُ السلف، فهو تركُ التأويل، وعدمُ المبالغة في التفسير، والتفويضُ إلى الله تبارك وتعالى في المتشابهات بلا تعطيل. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْويِلَهُ إلاَّ اللهُْ...}. إنّ الاقتحام في هذا الأمر عدول عن جادّة الصوابِ، كما لا يخفى تمييع أهل التأويل للعقيدة الحنيفةِ ممّا أسفر ذلكَ عن مُعتَقَدَاتٍ باطلةٍ افتتنتْ بها الناسُ وتغذَّت بها النفوس المريضةُ، وقامت على أساسها فِرَقٌ بَاطنيةٌ وأحزابٌ شريرةٌ ضربت الإسلامَ من الدَّاخلِ. ولا يزال المسلمون في شتاتٍ واختلافٍ وتناحُرٍ من جرّائها.
أمّا ثانيها، أن يحذّروا المسلمين من مخالطة الصوفيةِ الّذينَ يظهرون للناسِ في لباس الزهدِ والتّقوىَ، وهم في الحقيقة زائغون عن المنهج الّذي رسمه الله لعباده بأن لا يسلكوا غيره في العبادةِ له تعالى. ولكنّهم أَبَوْا إلاَّ أنْ يخالفوا هذا المنهج، فاختلقوا من تلقاءِ أنفسهم أشكالاً غريبةً من المناسك والتعبّدِ وربما اقتبسوها من طقوس المشركين واليهود والنصارى أسوةً بعبدة الأوثانِ، وتقرُّبًا إلى اللهِ بما يُسخِطُهُ، ورهبانيةً ابتدعوها ما كتب الله عليهم، وما أنزل الله بها من سلطان.(208/22)
إلاَّ أنّ الأمرَ لا ينبغي أن يكونَ مجرّدَ تحذيرٍ من منطلقِ الحقدِ عليهم والبغض لهم، لأنّ ذلك يثيرهم، فلا يجدي بما هو المطلوب. إذ ليس من المعقول أن يُرجى هدايةُ من يُكرَهُ على الطاعةِ ولو كانت الدعوة إلى الحقِّ الّذي لا مريةَ فيهِ. لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم. (البقرة/256). وقد يكون التشدّد في الدعوة سببًا لتطوُّر الخلافِ بين أصناف الناسِ. إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين.(القصص/56). ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين.(النحل/125). لأنّ التشدّدَ في الدعوةِ ربما يؤدّي إلى تفاقم الفتنةِ والشغبِ، والفتنة نائمةٌ يحرم إيقاظها.(208/23)
هذا فإنّ مِنْ طبيعةِ عوامّ الناسِ، أنّهم يغترّون دائمًا بظواهر الأمور ويعتمدون على الشكل، لعجزهم عن الإطلاعِ على المقصود به. خاصّةً فإنّ الطبقة العامّية في تركيا معروفة بإفراطها في التقليد. هذه الخصلة أوقعت كثيرًا منهم في الزندقة والبِدعِ باتباعهم شيوخَ الصوفيةِ والمنتحلين. فمتى وجد أحدهم شيخًا مُعمَّمًا وعليه لباس المتنسّكين علقت به نفسه، خاصّةً إذا وجد حولَهُ جماعةً ركن إليه وافتتن به. هذا التقليد الأعمى هو الّذي حمل الناس في هذا البلدِ منذ القديم على اتباعِ شيوخ الصوفيةِ والمبالغة في تعظيمهم وتوقيرهم. حتّى عدّوهم من أولياء الله رجمًا بالغيب، ووصفوهم بما ليس فيم من خصالٍ جليلةٍ، واعتقدوا فيهم ما يستحيل عليهم. وقد بلغ تعلّقهم بمثل هؤلاءِ حتّى إذا تصدّى لهم أحدٌ وأنكر علهم ما يعتقدون في شيخهم من علم الغيبِ والخوارق على أنها من كراماته، تعرّضَ لسخطهم، وربما ناله خطرهم. وقد يشجّعهم موقف شيخهم منهم. لأنّ شيوخ الصوفيةِ يسكتونَ على كل ما يعتقد فيهم أنصارهم مما حرّمه الله، أو ما يستحيل عليهم عقلاً. وربما يثيرونهم على المناوئين.(208/24)
وليس من القليل ما وجدنا من هذا القبيل، خاصّةً وأنّ المناطقَ التي يسكنها المسلمون من غير العربِ، فإنّ هؤلاءِ الأشخاصَ المستغلّينَ هم أكثر حظًّا في إضلالِ الناسِ وأقدرُ على ذلك في تلك المناطق. كما لا يخفى أنّ الصوفيةَ لا أثر لهم يستحقّ الذكرَ في المناطق العربيةِ. أمّا بقيةُ المسلمين من الأكرادِ والأتراك والشراكسةِ وغيرهم من الأقلّيات العجميةِ، فإنّ العامّةَ منهم تشعر نقصًا بالغًا في نفسِها أمامهم. إذ ينشأُ هذا الشعور من جهلِها بالأمورِ الدقيقةِ في الدين من جهةٍ، كما أنّ الدّياناتِ القديمةَ التي كانت هذه الشعوبُ تعتنقُها في ما سبق، لَها آثارٌ ظلّتْ في نفوسِ البعضِ منهم، ثم تفاقمت وشاعت مع الزمان بعد أن أُجْرِيَتْ عليها تعديلاتٌ وتمّ عرضُها باسمِ الإسلامِ من جهةٍ أخرى. وما دامتْ اللغَةُ العربيةُ هو المفتاح الوحيد الذي لا يمكن الوصولُ إلى الإسلامِ إلاَّ بِها، فإنه لابدّ لهذه الشعوبِ أن تهتمّ بهذ اللغةِ لِتُقِيمَ صلَتَها مع الإسلامِ من جدبد وبصورةٍ صحيحةٍ. وإلاَّ فلا يكاد المجتمع يتخلَّصُ من الإضطراب والفوضى السائد على المعتقدات والأفكار في هذا البلد.(208/25)
كذلك، فإنَّ للشيعةِ أثرٌ كبيرٌ على معتقدات الأكراد السنّيين القاطنينَ في شرق البلاد (المنطقة الواقعةِ على الحدود الإيرانية التُّركيةِ)، وذلك بحكم الجوار. ولهذا الأثرِ ملامح ظاهرةٌ على الحياة الدينية للأكراد. كاعتقادهم بالأئمّةِ الاثنى عشر على غرار الشيعةِ. ويشهد على ذلك ما تتضمّنُهُ رسالةُ (نوبهار) للشيخ أحمد الخاني التي قد ألّفها باللغة الكردية (وأخيرًا قد تمّ تصحيحُها وتنقيتُها من آثار المعتقدات الدخيلةِ)؛ وكاعتقادهم بما يُنسَبُ إلى شيوح الطُرُقِ الصوفيةِ من علم الغيبِ والتصرُّفِ في القدرِ. لذا يتواضعونَ لهم تواضعَ العبد الرقيق لسيِّدِهِ على غرار أهل الرفضِ لآياتهم، بل يبلُغُ هذا التّواضُعُ منهم أحيانًا إلى تذلُّلِ الكلبِ لِصاحِبِهِ. وقد أصبحتْ هذه العادةُ شائعةً بين الجماعات الصوفيةِ كما يشهد على هذه الحقيقةِ ما نقلَهُ ابنُ عابِدين في رسالتِهِ (سَلُّ الحُسامِ الهندي...) من كلامِ الشيخ خالد البغداديِّ المعروفِ بين أتباعِهِ بِـ (ذي الجناحين)، أنّهُ يقول:»أنا مِن كِلاَبِ السَّادَاتِ« (ص/37)(208/26)
أمّا شيوخ الطرق الصوفيةِ في الحقيقةِ ليسوا على علمٍ تامٍّ بِلُبِّ العقيدةِ الإسلاميَّةِ والتوحيد الخالِصِ لأسباب كثيرةٍ تعود إلى الظروف الاجتماعيةِ التي تحيط بهم والبيئة التي يتربَّونَ فيها والمناهج التعليمية الوعرة المتطرّفةِ التي تُطَبَّقُ في مدارسِهم. لذا لا يكادُ أحدٌ منهم يُتقِنُ لُغَةَ الضَّادِ نُطْقًا وكِتابةً، بل يقتصرونُ على حفظِ قواعِدِ الصَّرفِ والنحوِ، ويضرِبونَ مثالاً شيطانِيًّا في العِنَادِ بهذه المحاولَةِ دونَ أن يتذوّقوا حلاوةَ هذه اللغةِ، ولا أن يفطنوا إلى أنّها أداةٌ للتعبيرِ عن كُلِّ ما يُقصَدُ به مِنْ سلبٍ وإيجابٍ. لذا فإنَّ معرفتَهم متفاوتةٌ فيها، بل قليلةٌ غالِبًا، حيث لا يكادُ أحدٌ منهم يكتُبُ وينطِقُ بالعربيةِ حتّى بأدنى ما يدور في خلدِهِ ويدبُّ في ذهنِهِ من أمورٍ بسيطةٍ؛ إلاَّ مَنْ كانَ منهم من أبناءِ أسرةٍ عربيةٍ. كذلكَ إنّهم جهلةٌ بواقع العصرِ والتطوُّراتِ الخطيرةِ بما يعانونَ من الفقر العلميِّ والفكريِّ؛ يأخذُ بعضُهم من البعضِ الآخرِ دونَ معرفةٍ، وينقُلُ منهُ دونَ رويَّةٍ، يقلِّدونَ صناديدَهم بلا وعيٍ، ويعبدونَ الله على غيرِ بصيرةٍ، وإنّما يقتصرُ همُّهُمْ على جمعِ الناسِ حولَهم بطُرُقٍ شَتّىَ وأساليبَ ماكِرَةٍ، وقد تدعمهم الحكوماتُ والسُّلُطاتُ لإبعادِ الناسِ عن الحياةِ السِّياسِيَّةِ حتّى تخلُوَ لَها الجوُّ، وتصفُوَ لَها الأمورُ لِيَتَهَنّىَ رِجالُ السِّياسَةِ والطائِفَةُ الحاكِمَةُ بِما شَاءَتْ لَهم أنفُسُهم.(208/27)
كذلك، فإنَّ شيوخَ الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ هم في غفلتِهِمْ يعمهمن، وبأباطيلهم يشتغلونَ. لا يهمّهم ما يحلُّ بالمسلمينَ من عدوانِ أهلِ الكفرِ، وما يتعرَّضونَ له اليومَ في مختلفِ انحاءِ العالَمِ على أيدي اليهودِ والنصارى والمجوسِ من تشريدٍ، وقهرٍ، وظلمٍ، واضطهادٍ، وقتلٍ، وقمعٍ، وإبادةٍ... أمّا الشيوخ، فإنّهم لا يكادونَ يتقلَّبونَ في حياةٍ موهومةٍ غافلينَ عن كُلِّ ما يجريِ حولَهم من صِراعٍ، وحروبٍ، وتطوُّراتٍ، واكتِشافاتٍ، وأحداثٍ غَريبَةٍ، وانقِلاَبَاتٍ خطيرةٍ، يتأثَّرُ بِها المسلمونَ؛ بل إنّهم زيادةً على هذه الغفلَةِ يتقوّلونَ على اللهِ بِتأويلِ آياتِهِ وحملِها على غيرِ ما أرادَهُ اللهُ، وإنْ كانَ القليلُ منهم يتعمّدونَ التَّلبيسَ والتّدليسَ في ذلِكَ. كما أن أكثرِيَّةَ المعاصرينَ منهم أيضًا غافلون عمّا وقع فيه أسلافُهم من الضّلالةِ على جهلٍ، لعجزِهم عن دركِ الحقيقةِ، وهذا هو السبَبِ الأساسيّ لافتنان الأخلافِ بساداتهم الأوّلينَ وكبراءهم الذينَ أضَلّوا السَّبيلَ، وأفسدوا عليهم الفهمَ الصَّحيحَ. ذلك أنّ إفراطَهُمْ في تعظيم شيوخم هو المصيبةُ الكبرى لِهؤلاء الأخلافِ. لأنّ شدّةَ اعتقادَهم في أسلافِهم وصلَ بهم إلى درجةٍ من اليقينِ المؤكَّد في كمالِهم حتّى آمنوا بِأنّه يستحيل عليهم الوقوع في الخطأ اطلاقًا. ولهذا يقدِّسونَ شيوخَهم، وينقادونَ إليهم في كُلِّ ما قد وَرَدَ عنهم من أراجيفِ عَبَدَةِ الأوثانِ، وقد يزيدونَ عليها ما تهوي إليهِ نفوسُهم مِنْ كُلِّ بدعَةٍ وهرطَقَةٍ. فَيَتَنَاقَلُهَا جيِلٌ عن جيلٍ. كما أنَّ غالِبَ الناسِ مِمَّنْ هُوَ أعمىَ قلبًا منهم، مُغْتَرّونَ بهم اليومَ. وقد دأبوا لأنفُسِهم أورادًا وأذكارًا ومناسِكَ، أخذوا جُزئِياتِها من الإسلامِ، فركّبوا منها أشكالاً غريبةً، وسَمّوها بأسماءَ مزيجةٍ بالفارسيةِ، مثل: »خَتمِ خواجكان، و هُوشْ دَردَم، و سَفَرْ دَرْ وَطَنْ، و(208/28)
خَلْوَتْ دَرْ أنْجُمَنْ، و يَادْكَردْ، و بَازْكَشْتْ و نِكَاه دَاشتْ، و يَادْ دَاشْت...« وغير ذلك. وقد اختلقوا صِيَغًا غريبةً من الدعاءِ والمديحِ يُرَدِّدونَها ويؤَلِّهونَ بِها غير اللهِ، ويبالِغونَ بِها في مدائِحِ ساداتِهم كقولِهم: »قطب العارفين، وغوث الواصلين، وإمام المتّقين، وتاج الكاملين، ونور السماوات والأرضين...«! وعندما يذكرونَ اسمًا من أسماءِ ساداتِهم، يُعَظِّمونَهُ بِدُعاءٍ غريِبٍ. يبدو من هذا الدّعاءِ أنّهم لا يرونه في حاجةٍ إلى رحمة الله، بل يرونه عنيًّا عنها، فيقولونَ: »قَدّسَ اللهُ سِرَّهُ العزيز« أو »قَدَّسَ الله أسرارَهُ، وأفاضَ علينا بِرَّهُ وَبَرَكَتَهُ وَأنوارَهُ...« إلى غير ذلك مِن شِرْكِيَّاتٍ، وخزعبلاتٍ وإسرائيلِيّاتٍ مخالفةٍ لأسلوبِ دُعاءِ المسلمينَ. إذ لا يستنكِفُ المسلِمُ أن يطلُبَ من الله الرحمةَ سواءٌ كانَ لِنَفسِهِ أو لِغيرِهِ من المؤمنينَ ولو كانَ نبيًّا.
في الحقيقةِ إنّهم يواجهونَ ردًّا عنيفًا ودِفاعًا شديدًا من علماء المسلمينَ في كُلِّ عصرٍ، ولا يبرحونَ في ضيقٍ وحرجٍ لما اقترفوا من الجناياتِ على الإسلامِ بأنواع المُفْتَرَيَاتِ، ويزعمونَ أنَ المسلمينَ لا يعتقدونَ بالشفاعةِ والتّوسُّلِ وكراماتِ الأولياءِ، لأنَّ الصوفيةَ يَعُدّوُنَ صَنَاديدَهم فحسب من الأولياءِ دون غيرِهم، رجمًا بالغيبِ، بينما المسلمونَ لا يعترفونَ بهم. ومِنْ خُرافِيَّاتِهِمُ التي لا حصر لها: أن الولايةَ متسلسلةٌ عند بعضهم في سُلاَلاَتٍ معيّنةٍ من مشائخ الطُّرُقِ؛ فهي عائلاتٌ مقدّسَةٌ عندهم.(208/29)
ولهذه الأسبابِ كُلِّها يجب الاحتياطُ في معاملة الصوفيةِ، وإرشادٍهم إلى الحقِّ، ومجادلتهم بالّتي هي أحسن؛ لأنّهم أشدّ الناسِ تعصُّبًا وتعنّتًا وحمقًا واغترارً. فإنَّ إقناعَ الأحمقِ والمغترِّ والمكابِرِ مِنْ أشَدِّ الأمورِ تعقيدًا. وقد قال تعالى بشمولٍ وعموم: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ...(الأعراف/146).
هذا، ومن خصائص شيوخَ النقشبندية أنّ أكثرهم يرفضونَ الحوارَ، لذا يستحيل تبادل الرأي والمناقشةِ معهم؛ ذلك لفرط عنادهم، ولإعجابهم بعقيدتهم، واغترارهم بمن أفسدوا عليهم سُبُلَ الهدى وَأَلْبَسُوا عليهم الحقَّ بالباطلِ، واعتزازهم بمن حولَهم من الأنصارِ والمؤيِّدينَ؛ خَاصَّةً فإنَّ الأمرَ يتأكّدُ حذرًا وحيطةً مع الشيوخ الذينَ يتمتّعونَ بكثرةِ رجالِهم، الجَهَلَةِ من المريدين الذينَ هم رهن إشارتهم، ليفتدوا بأموالِهم وأنفسهم في سبيلِ أدنى غرضٍ من أغراض الشيخِ. إنَّ هذا الرصيدَ من القوَّةِ العمياءِ مع العقليةِ الحمقاءِ، هو الذي جعل رجالَ السياسةِ يسايرونهم في هذه البلادِ، ليستغلّوا تأييدَهم في كلّ موسمٍ للإنتخاباتِ. ولله درّ مَن قال:
إذا كانَ الزمانُ زَمَانَ حُمقٍ * فإنّ العقلَ حِرمانٌ وشُؤْمٌ.
فَكُنْ حُمْقيِ مَعَ الحُمْقىَ فإِنّيِ * أرىَ الدُّنيا بدولَتِهِم تَدوُمُ.(208/30)
وممّا يجبُ معرِفَتُها على النّاهِضِ لمُقَارَعَتِهِمْ أن يعلمَ: إنّ دينَ التصوُّفِ يأمر بأشياءَ كثيرةٍ قد أمرَ بِها الإسلامُ قبلَ هذا الدّينِ المستحدَثِ؛ كالزُّهدِ، والتّقوىَ، والعِفَّةِ، والقناعَةِ، والحِلمِ، وصفاءِ السَّريرَةِ، والاستقامةِ والكَرَمِ، والإيثارِ، ومحبَةِ اللهِ ومحبَّةِ رَسولِهِ والصالِحِنَ، وملاَزَمَةِ ذكر اللهِ، والمواظبةِ على النوافِلِ، والشَفَقَةِ على خَلقِ اللهِ، والصَّبرِ، والتَّوَكُّلِ على اللهِ، إلى غيرِ ذلِكَ من الخصالِ الحميدةِ، والأعمالِ الصَّالِحَةِ، والسُّلوُكِ الرَّفيعِ. فليتأكّد المناهضُ لهم بأنّهم يتوارونَ بهذه الأعمالِ والخصالِ في ظاهرهم، ويدافعونَ بِها عن أباطيلِهم.(208/31)
أمَّا في الواقِعِ فإنَّ هذه الأمورَ كلَّها جُزئِياتٌ من صميم الإسلامِ، وليس لها ادنى صلة بدين التصوُّفِ ولا بالطُّرُقِ الصوفيةِ التي هي في الحقيقةِ مُنظَّماتٌ مشبوهةٌ مُختَلِفَةٌ ذاتُ عَقَائِدَ مَزيجَةٍ بين تعاليم الإسلامِ والأديانِ الوثنيةِ. ذلكَ، أنّ الصوفيةَ قد أقتبسوا مفاهيمَ كثيرةًً من الإسلامِ فاستغلّوها، وتقمّصوا بها عن حظِّ نفسِ، ثمَّ أضافوا إليها ما ليسَ من الإسلامِ في شيءٍ، واختلقوا طقوسًا ومفاهيمَ ومُعتَقَدَاتٍ ما أنزل الله بها من سلطانٍ. كحلقاتِ الّذكرِ، وحَفَلاتٍ سرِّيةٍ (بالسمِ التوجُّهِ والصحبةِ)، ومناسِكَ دَجَلِيَّةٍ مُقَلَّدَةٍ من مناهلِ الشرك والوثنيةِ، (كَرَابِطَةِ الشَّيخِ، وعَدِّ الأذكارِ بالحَصىَ)، واستِعرَاضاتٍ غريبةٍ (كالسّماعِ، والرقصِ، والحركاتِ الموزونَةِ جماعةً وَفُرَادىَ، والعزفِ على آلاتِ الموسيقى، والترنُّماتِ المطربةِ، وطعن الأسياخِ في الجسمِ، وابتلاعِ الموادِّ القاطعةِ، كالزجاجِ وقِطَعِ الأمواسِ، ومَسِّ النَّارِ)... ولهم أحوالٌ، وأقوالٌ، وأطوارٌ، وَبِدَعٌ مثيرَةٌ كالوثبِ، والقفزِ، والشطحاتِ، ودعوى علم الغيبِ واعتقادِ ذلك في المتنسِّكينَ والمتزمّتينَ من أولياءهم، وقولهم بالمكاشفاتِ، والاتحادِ والحلوليةِ...(208/32)
كلُّ ذلكَ مأخوذةٌ من الزرادشتيةِ، والهندوكيةِ، والمانويةِ والغنوصيةِ وأمثالِها من الأديانِ المحرَّفةِ والعقائد الوثنيةِ، والفلسفةِ اليونانيةِ... خاصَّةً فإنَّ لِكُلٍّ من اليهوديةِ والمسيحيةِ تأثيرٌ كبيرٌ على دين التصوُّفِ؛ وبذلكَ قد مزّج الصوفيةُ ضروبًا شتّى من الأباطيلِ بتعاليم الإسلامِ. خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، ولكنهم لم يعترفوا بذنوبهم وما اقترفوا من جناياتٍ على الإسلامِ، بل أصرّوا دائمًا بأنّهم على الحقِّ وغيرهم على الباطل، قصدوا بذلِك أهلَ التوحيد الخالِصِ ومَن نهاهم عن الشركِ من أئمّةِ المسلمينَ، واعتمدوا على تأويل المتشابهاتِ من الآياتِ كما أشارت لهم أنفسهم، كتأويلهم لقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. زعموا »أن في ذلكَ اشارةً إلى التوسُّلِ بالأولياءِ والاستمداد من روحانيّتم والتشفُّعِ بهم« (المائدة/35)، كذلك تأويلهم لقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. زعموا أنّ في هذه الآيةِ الكريمةِ اشارةً إلى اتخاذِ شيخٍ من الصوفيةِ والقيامِ برابطتِهِ، وهي شكلٌ من أشكالِ العبادةِ عندهم.
هكذا تجرّأوا على تأويل الآياتِ من كتاب اللهِ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا الله، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الألْبَابِ. فركّبوا منها دينًا سمّوه التصوّفَ، ورتّبوا منها طرقًا متباينةً، فسقوا بها الناسَ السّمَّ في العسلِ.(208/33)
هذا وليس من السهلِ لأحدٍ أنْ ينتبِهَ إلى هذه الحِيَلِ المتمثِّلَةِ في التصوُّفِ، ولا أن يكافحَ هذا الخطر الذي يتربّصُ بالمسلمينَ ليَجرِفَهم إلى جهنّمَ وهم يصلّونَ ويصومونَ ويتنفّلونَ ويتبتّلونَ ويذكرونَ اللهَ!!! إلاَّ إذا كان الله قد أقدَرَهُ على ذلكَ وألهَمَهُ رُشْدَهُ، وهداهُ إلى الحقِّ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
فريد صلاح الهاشمي
Feriduddin AYDIN
ferid@maktoob.com
الطبعة النانية -2003م.(208/34)
سلسلة نفائس أئمة الدعوة الإصلاحية 1
نبذة نفيسة
عن حقيقة دعوة الإمام المصلح
محمد بن عبدالوهاب
للعلامة المحدث
إسحاق ابن الشيخ الإمام عبدالرحمن بن حسن
اعتنى بإخراجها
أحمد بن عبدالعزيز بن محمد التويجري
المقدمة
…الحمد لله الذي أمر بالعدل في جميع الأمور، ونهى عن الجور والظلم فقال تعالى: } كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ { [النساء: 135]، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي حث على اتباع كتاب اللّه، والتمسك بسنته، وحذر من البدع والضلالات، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
…أما بعد: فقد جرت سنة اللّه في خلقه، أنه ما أتى رسول أو مصلح يدعو إلى توحيد اللّه، وإفراده بالعبادة، والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، إلا وقد قابله الجاهلون المقلدون، والرؤساء المترفون، بالصد والتكذيب والاستهزاء والسب الشنيع، فلا يستجيب لدعوة ذلك الرسول أو ذلك المصلح إلا القليل، حتى ورد أن الرسول يبعث ومعه الرجل والرجلان (1)، وقد قال تعالى: } وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ { [يوسف: 103].
__________
(1) انظر: «صحيح البخاري» (ح3410)، و«صحيح مسلم» (ح220).(209/1)
…ومن أولئك المصلحين الحريصين على نشر التوحيد، وإقامة شرائع اللّه، وإخراج الناس من ظلمات الشرك والبدع إلى نور التوحيد، شيخ الإسلام والمسلمين الإمام المصلح محمد بن عبدالوهاب -رحمه اللّه وأجزل له الأجر والثواب- فقد قام بالدعوة خير قيام، وجاهد في اللّه حق جهاده، فكان جزاؤه أن يشكر وأن يدعى له بالخير، ولكن ما كان من أكثر المدعوين إلا الإعراض والاستكبار والاستهزاء، ولم يكتفوا بذلك حتى قاموا عليه بالحرب باللسان والحسام، وأشاعوا عنه الدعايات الضالة والأكاذيب الملفقة، ونسجوا حوله الشبهات الواهية، والأقاويل الساقطة، كقولهم: إنه لا يحب الرسول -- صلى الله عليه وسلم --، ويمنع من زيارة قبره، ويكفر المسلمين الذين يفعلون ذلك، ونحو ذلك من الأكاذيب والافتراءات والبهتان العظيم.
…وكتب في ذلك المأجورون تنفيراً للناس من الشيخ الجليل، وصداً عن سلوك طريقه المستقيم، فراجت هذه الفكرة السيئة عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كثير من البلدان، فإنهم رأووا كتباً بتوقيع الشيخ الفلاني أو العلامة الفلاني، وظن الجهال أنهم لا يكذبون وأنهم لم يكتبوا إلا ما حققوه، وليس الأمر كذلك، بل ما كتبوه في ذم الشيخ كله كذب مختلق، لا نصيب له من الصحة، ولا سند له من الواقع، إنما دفعهم إلى الكتابة التقرب إلى هؤلاء أو أولئك، أو الإبقاء على الرياسة لدى العوام وجمع الحطام من أشباه الأنعام، وما راقبوا اللّه -- عز وجل -- فيما كتبوا، ولم يمنعهم الحياء من أن يختلقوا ما اختلقوا ويفتروا ما كذبوا، وأكثرهم كتب ما يسمع، ولم يقرأ كتب الشيخ وأولاده وأحفاده وأئمة الدعوة السلفية، حتى يعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال.(209/2)
…وبناءً على النصيحة للمسلمين، وحباً في شريعة سيد المرسلين وصيانة لتوحيد رب العالمين، ودفاعاً عن شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه اللّه- أخرجت هذه الرسالة للعلامة المحدث إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب، سائلاً رب العرش العظيم أن ينتفع بهذا الكتاب عباده المؤمنين، وأن يجعله أداة إنقاذ من ظلمات الجهالة، وأن ينور بصائر وأبصار القارئين ليعرفوا حقيقة دعوة الإمام المصلح محمد بن عبدالوهاب، ولا تروج عليهم دعاية أهل الضلال، واللّه من وراء القصد، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العظيم، وصلى اللّه على محمد سيد الأنام وعلى آله وأصحابه الكرام وسلم تسليماً كثيراً.
كتب ذلك
أحمد بن عبدالعزيز بن محمد التويجري
ترجمة الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن
ابن حسن بن محمد بن عبدالوهاب آل الشيخ
(1276هـ-1319هـ)
…الشيخ المحدث إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد ابن عبدالوهاب.
…وُلد في مدينة الرياض عام 1276هـ، ونشأ بها نشأة صالحة في بيت علم وصلاح وتقى، فشرع في طلب العلم وأخذ يقرأ على أخيه الشيخ عبداللطيف، والشيخ حمد بن عتيق، وابن الشيخ عبداللّه بن عبداللطيف، والشيخ الفقيه محمد بن محمود، والشيخ الخطيب الواعظ عبداللّه بن حسين المخضوب، والشيخ عبدالعزيز بن صالح بن مرشد، فأدرك إدراكاً تاماً في العلوم الشرعية.(209/3)
…فلمَّا هاجت الفتن واستولى آل رشيد على الرياض، ارتحل آل سعود إلى الكويت، ولم تطب له الإقامة في نجد، فرحل إلى الهند عام 1309هـ، وأكمل دراسته هناك، وأخذ عن المحدث الكبير الشيخ نذير حسين، وأجازه وأخذ عنه الحديث المسلسل بالأولية عن مشايخه، ثم ارتحل إلى مدينة (بهوبال) بالهند، فقرأ فيها على الشيخ حسين بن محسن الأنصاري، والشيخ العلامة سلامة اللّه، وأجازاه في مروياتهما، كما أخذ عن الشيخ محمد بشير، فصار من كبار علماء وقته في الأصول والفروع وعلوم العربية، وأرسل من الهند إلى الرياض قصيدة مؤثرة صارت تُنشد في المجامع والبيوت في الرياض، يتذكر فيها عهوده الخالية وبلاده المحكومة، ويترحَّم على أسلافه الماضين، كما سافر إلى مصر لطلب العلم، وقرأ على علماء الأزهر مدة طويلة، واجتمع بابن أخيه أحمد بن عبداللطيف، ورغبه في الخروج معه إلى نجد، ولكنه امتنع.
…ونحن نورد هنا رحلته في طلب العلم إلى الهند ومن لاقاه من رجال الحديث، والكتب التي قرأها، نورد ذلك من كلامه الذي نقله الشيخ سليمان بن حمدان، مع مقدمة ترجمته له فقال:
…هو الشيخ العالم، العلامة، العمدة، الفهامة، المحدث، الرحلة، الفقيه، النبيه، الفاضل، سلالة الأماثل، شيخ مشايخنا الأمجاد وملحق الأحفاد بالأجداد. وُلد سنة أربع أو خمس أو ست وسبعين ومائتين وألف، فلما ترعرع وبلغ سن التمييز أدخله والده الكتاب، فقرأ القرآن حتى ختمه ثم حفظه عن ظهر قلب، ثم شرع في حفظ بعض المختصرات في الحديث والفقه والتوحيد، ولازم والده وأقبل على التعليم حتى برع، ثم سافر بعد وفاة والده إلى هندستان لطلب الحديث في رجب سنة تسع وثلاثمائة وألف، وجدت ذلك بخطه على بعض كتبه.(209/4)
…وقال أيضاً: وفي قدومي بلد (بنبى) حضرت مجالس تحتوي على الأدب والغزل وشيء من فنون اللغة، وأنا إذ ذاك متوجه إلى لقاء علماء الحديث الأفاضل، ومشتاق إلى مجالسة الفحول الأماثل، ثم أورد له أبياتاً بهذا المعنى على رَويِّ الباء عددها ثلاث عشرة بيتاً.
…ثم قال: ثم منَّ اللّه بملاقاتهم، فأولهم السيد نذير حسين، المقيم ببلدة دهلي، قرأت عليه شرح نخبة الفكر بالتأمل والتأني، ثم شرعت في قراءة الصحيحين وقرأت أطرافاً من الكتب الستة والمشكاة وغيرها، وحصل لي من السماع والإجازة والقراءة.
…قال الشيخ سليمان المذكور: كانت إجازته له في شهر رجب سنة تسع وثلاثمائة وألف، قال فيها:
…قرأ عليّ من الصحاح الستة، وموطأ الإمام مالك، وبلوغ المرام، ومشكاة المصابيح، وتفسير الجلالين، وشرح نخبة الفكر؛ فعليه أن يشتغل بإثراء هذه الكتب وتدريسها لأنه أهلها وأحق بالشروط المعتبرة وعليها ختم المجيز.
…وكانت مدة إقامته عند السيد نذير حسين تسعة أشهر، وفي أثنائها ورد على الشيخ سؤال عن الوليمة من جانب الأب: هل تسن أو تباح أو تكره؟
…قال المترجم: فسألني عن ذلك، فأجبت بأن الأولى أن تكون من جانب الزوج، للحديث المعروف.
…واتفق أن الشيخ حسين بن محسن الأنصاري قدم تلك الأيام إلى دهلي، فسأله: هل لإباحتها من جهة الأب مستند؟ قال: فأجابني بجواب شاف من جملته حديث رواه الحافظ الآجري في إنكاح النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فاطمة بعلي -رضي اللّه عنهما- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بلالاً -- رضي الله عنه -- بقصعة من أربعة أمداد أو خمسة، وبذبح جزورٍ لوليمتها، فأتيته بذلك فطعن في رأسها ثم أدخل الناس رفقة رفقة يأكلون منها حتى فرغوا وبقيت فيها فضلة فبرّك فيها وأمر بحملها إلى أزواجه، وقال: «كلن وأطعمن من شئتن» انتهى.(209/5)
…قال: ثم ارتحلت في رمضان سنة تسع وثلاثمائة وألف إلى بهوبال، فقرأت فيها على الشيخ حسين بن محسن الأنصاري وحصل لي منه الإقبال والقبول، وقرأت عليه في الفروع والأصول وحصل لي من القراءة والإجازة.
…قال الشيخ سليمان المذكور: أجازه أولاً إجازة مختصرة لما أراد الرجوع إلى وطنه؛ لأنه كان على ظهرٍ يسير، ثم التمس منه بمعرفة بعض الأصحاب الإجازة العامة الشاملة، فأجابه إلى ذلك، وذكر في إجازته العامة الأخيرة أنه وفد إليّ في بلدة بهوبال وأخذ من علم الحديث بحظٍ وافر، وقال: قد أجزت الولد العلامة إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن ابن الإمام محمد بن عبدالوهاب -متَّع اللّه بحياته- إجازة شاملة كاملة في كل ما تجوز لي روايته وتنفع درايته من علم التفسير والتأويل والسنة، سيما الأمهات الست وزوائدها ومستخرجاتها وسائر المسانيد والمعاجم، وما في معنى ذلك مما اشتملت عليه أثبات المشايخ الأجلاء كثبت الشيخ إبراهيم بن حسن الكردي المسمى بالأمم، وثبت الشيخ صالح الفلاني المغربي، وكثبت العلامة المحدث الأثري عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن الكزبري الدمشقي، وثبت الحافظ عبداللّه بن سالم البصري ثم المكي المسمى بالإمداد، وثبت الشوكاني، وثبت محمد عابد المسمى حصر الشارد.
…أجزته بما ذكر بشرطه المعتبر، وهو على أحد التفاسير إن روى المستجيز من حفظه، فلا بد من إتقان ما رواه بضبط رواياته وإعرابه، وإن روى من كتاب، فلا بد أن يكون مقابلاً مصوناً عن التغيير والتبديل لا فرق في ذلك بين الأمهات الست وغيرها.
…وقال في آخرها: وافق الفراغ من تحريرها ضحى يوم الجمعة لسبع عشر خلون من شهر شعبان أحد شهور سنة ألف وثلاثمائة وخمس عشرة قاله بلسانه وحرره ببنانه حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي السعدي اليماني، نزيل بهوبال في الحال، وعليها ختم المجيز الذاتي.(209/6)
…قال المترجم: حضرت عند المولوي سلامة اللّه المدرس في بهوبال، وسمعت منه شيئاً في بعض كتب المعقولات وسنن ابن ماجه وغيرها، وحصل لي منه الإجازة.
…قال: وأما الحديث المسلسل، فإني أرويه من طريق حسين، وهو أخذ قراءة وسماعاً وإجازة عن محمد بن ناصر الحسيني الحازمي، والقاضي أحمد بن أحمد بن محمد بن علي الشوكاني، وحسن بن عبدالباري الأهدل وغيرهم، وأخذته أيضاً من طريق علماء الهند عن المولوي وحيد الزمان القاضي في حيدر آباد الدكن، اتفقت به في دهلي وقرأت عليه أوائل الصحيحين، ورأيت بخط صاحب الترجمة على حاشية بلوغ المرام ما نصه:
…قدمت بلد (ثملي شهر) وافداً على الشيخ العالم العامل، المحدث محمد الهاشمي الجعفري القاضي الزينبي خامس جمادى الثانية سنة عشر بعد الثلاثمائة وألف، فأول حديث سمعته منه الحديث المسلسل بالأولية قرأه عليَّ على عادة المحدثين الأطهار، وقرأت عليه هذا السند يعني المذكور في مقدمة نسخة بلوغ المرام المطبوع في الهند المتصل إلى الحافظ ابن حجر، ورأيت على هامش الكتاب المذكور ما نصه:
…وقد وهبته -يعني كتاب بلوغ المرام- العالم الفاضل سلالة الكرام وبقية العظام الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب النجدي على سبيل المناولة، وقد قرأ عليّ من أوله، فأجزته أن يرويه عني مع جميع مروياتي إذا صح وثبت عنده، فإنه أهل ذلك، ولم
أشترط عليه شرطاً إلا الدعاء بحسن الخاتمة، وكان ذلك حين اجتماعي به في وطن (ثملي شهر) في جمادى الآخر سنة عشر وثلاثمائة وألف بعد الهجرة، وصلى اللّه على محمد وآله وسلم، وكتبه محمد المدعو عبدالعزيز الهاشمي الجعفري بخطه، وعليه ختمه.
…ثم إن المترجَم، لمَّا عاد إلى وطنه، اشتغل بالتدريس والإفادة، وقُصِدَ من أطراف نجد للأخذ عنه، فنفع اللّه به، وأقام على ذلك مدة إلى أن وافاه الأجل المقدّر.
…قال شيخنا عبداللّه بن عبدالعزيز العنقري عفا اللّه عنه:(209/7)
…توفي الشيخ إسحاق في اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف، وازدحم الناس على نعشه وكان الجمع كبيراً، وتأسف الناس لفقده -رحمه اللّه-.
…وله من الولد عبدالرحمن وبنت، ورئي بمرائي، وله تصانيف انتهى.
…قلت: من تصانيفه: الجوابات السمعيات في الرد على الأسئلة الروافيات أجاب بها على أسئلة سألها عبداللّه بن أحمد الرواف القصيمي.اهـ.
…ثم إن المترجَم عاد إلى الرياض، وذلك في حكم آل رشيد فجلس للتدريس وتصدى للإفتاء، فنفع اللّه بعلمه، فكان من تلاميذه الشيخ إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ، والشيخ عبداللّه العنقري، والشيخ عبداللّه بن فيصل، والشيخ فالح بن صغيّر، والشيخ سالم الحناكي، والشيخ عبداللّه السياري، والشيخ عبدالعزيز بن عتيق، والشيخ عبدالرحمن بن داود، والشيخ فوزان السابق، والشيخ صالح ابن عثمان القاضي، قرأ عليه في مكة المكرمة.
…وألف المترجَم رداً على (أمين بن حنش العراقي)، وألَّف: الجوابات المسمعية على الأسئلة الروافية.
…توفي المترجم في اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب عام 1319هـ في مدينة الرياض -رحمه اللّه تعالى-. وبكاه أهل العلم وأسفوا عليه، ورثاه كثير من عارفي فضله، فقيلت فيه قصائد مدح وثناء ورثاء، فمن الثناء قصيدة الشيخ سليمان بن سحمان، قال فيها:
فَتَى أَلْمعِي لَوْذَعِي مُهَذَبٌ ... سُلاَلُة أَنْجَابٍ كِرَامٍ ذَوِي مَجْدٍ
…وقد رثاه الشيخ فوزان بن عبداللّه السابق بقصيدة، منها:
عَلَى الْحَبْرِ بَحْرُ الْعِلْمِ بَدْرُ الْمَدَارِسِ
وَشَمْسُ الْهُدَى فَلْيَبْكِ أَهْلُ التَّدَارُسِ
فَلا نَعِمَتْ عَيْنٌ تُشِحُ بِمَائِهَا
وَقَلْبٌ مِنْ الأَشْجَاِن لَيْسَ بِبَائِسِ
…وهي مقطوعة جيدة.(209/8)
…وخلَّف ابنه الشيخ عبدالرحمن بن إسحاق، وهو من طلاب العلم المدركين، وقام نائباً لرئيس الأمر بالمعروف بالرياض، وطال عمره حتى تجاوز المائة، وهو بتمام قواه البدنية والعقلية، وقد توفي عام 1407هـ -رحمه اللّه تعالى- ولعبد الرحمن أبناء وأحفاد، فرحم اللّه الشيخ إسحاق وبارك في عقبه (1).
* * *
(2)
…الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون } لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ { [الأنبياء: 23] أحمده سبحانه، حمد عبدٍ، نزه ربه عما يقول الظالمون، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وسبحان اللّه رب العرش عما يصفون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق المأمون، صلى اللّه عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين هم بهديه متمسكون؛ وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) هذه الترجمة منقولة من كتاب علماء نجد خلال ثمانية قرون لصاحب الفضيلة الشيخ عبداللّه البسام (1/557).
(2) هذه الرسالة موجودة في «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (1/514).(209/9)
…أما بعد: فإنه ابتلى بعض من استحوذ عليه الشيطان، بعداوة شيخ الإسلام الشيخ/ محمد بن عبدالوهاب -رحمه اللّه تعالى- ومسبته، وتحذير الناس عنه، وعن مصنفاته، لأجل ما قام بقلوبهم من الغلو في أهل القبور، وما نشؤوا عليه من البدع، التي امتلأت بها الصدور؛ فأردت أن أذكر طرفاً من أخباره، وأحواله، ليعلم الناظر فيه، حقيقة أمره، فلا يروج عليه الباطل، ولا يغتر بحائد عن الحق مائل، مستنده ما ينقله أعداؤه، الذين اشتهرت عداوتهم له في وقته، وبالغوا في مسبته، والتأليب عليه، وتهمته، وكثيراً ما يضعون من مقداره، ويغيضون ما رفع اللّه من مناره؛ منابذة للحق الأبلج، وزيغاً عن سواء المنهج (1).
…والذي يقضي به العجب: قلة إنصافهم، وفرط جورهم، واعتسافهم، وذلك أنهم لا يجدون زلة من المنتسبين إليه، ولا عثرة إلا نسبوها إليه، وجعلوا عارها راجعاً عليه، وهذا من تمام كرامته، وعظم قدره، وإمامته؛ وقد عرف من جهالهم، واشتهر من أعمالهم: أنه ما دعا إلى اللّه أحد، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، في أي قطر من الأقطار، إلا سموه وهابياً، وكتبوا فيه الرسائل إلى البلدان، بكل قول هائل، يحتوي على الزور والبهتان.
__________
(1) ما زال أعداء هذه الدعوة يحاربونها ويصفونها بأبشع الأوصاف ويألبون عليها ويقومون ضدها بالتحريش والكذب والسب ولم يكلفوا أنفسهم معرفة حقيقة هذه الدعوة الإصلاحية التي هي دعوة الإسلام، على ما كان عليه محمد بن عبداللّه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وصحابته الكرام وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، ولا شك أن هذه العداوة تؤلم كل مسلم وتجرحه جرحاً عميقاً لما يُعلم من حقيقة هذه الدعوة الإصلاحية وثمارها التي يلمسها كل مسلم منصف في جميع أنحاء العالم.(209/10)
…ومن أراد الإنصاف، وخشي مولاه وخاف: نظر في مصنفات هذا الشيخ، التي هي الآن موجودة عند أتباعه، فإنها أشهر من نار على علم، وأبين من نبراس على ظلم (1)، وسأذكر لك بعض ما وقفت عليه من كلامه، خوفاً أن تخوض من مسبته في مهامه، فأقول:
…قد عرف واشتهر، واستفاض من تقارير الشيخ، ومراسلاته، ومصنفاته، المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره، ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه: على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين، أهل الفقه، والفتوى، في باب معرفة اللّه، وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله، التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم -- بالقبول والتسليم، يثبتونها، ويؤمنون بها، ويمرونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
…وقد درج على هذا: مَن بعدهم من التابعين، من أهل العلم، والإيمان، من سلف الأمة؛ كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبداللّه، وسليمان بن يسار؛ وكمجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وأمثالهم؛ كعلي بن الحسين، وعمر بن عبدالعزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب؛ وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والبخاري، ومسلم؛ ونظرائهم من أهل الفقه والأثر؛ لم يخالف هذا الشيخ (2) ما قالوه، ولم يخرج عما دعوا إليه واعتقدوه.
__________
(1) وهي ولله الحمد والمنة مطبوعة ومتوفرة في كل مكان.
(2) أي شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب.(209/11)
…وأما توحيد العبادة، والإلهية، فقد حققه غاية التحقيق، ووضح فيه المنهج والطريق؛ وقال: إن حقيقة ما عليه أهل الزمان، وما جعلوه هو غاية الإسلام والإيمان، من طلب الحوائج من الأموات، وسؤالهم في المهمات، وحج قبورهم، للعكوف عندها، والصلوات؛ هو بعينه فعل الجاهلية الأولى، من دعاء اللات، والعزى، ومناة؛ لأن اللات، كما ورد في الأحاديث (1): رجل يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره، يرجون شفاعته في مجاوريه، والتقرب به إلى اللّه في زائريه، ولم يقولوا: إنه يدبر الأمر ويرزق، ولا أنه يحيى ويميت ويخلق، كما نطق بذلك الكتاب، فكان مما لا شك فيه ولا ارتياب.
…قال اللّه تعالى: } قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ { [يونس: 31] قال العماد ابن كثير (2) -رحمه اللّه- أي: أفلا تتقون الشرك في العبادة، لأنهم لا يطلبون إلا الشفاعة والقرب، كما قال تعالى: } وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا
عِندَ اللَّهِ { [يونس: 18] وقال تعالى: } وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى { [الزمر: 3].
__________
(1) انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير (8/611): تفسير سورة النجم.
(2) انظر: تفسير ابن كثير (2/431).(209/12)
…قال الشيخ -رحمه اللّه- يوضح ذلك، أن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وهي أصل الإيمان باللّه وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل، لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار؛ بإجماع المسلمين؛ ومدلوله: وجوب عبادة اللّه وحده لا شريك له، والبراءة من عبادة ما سواه، كائناً من كان؛ وهذا: هو الحكمة التي خلقت لها الجن والإنس، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب، وهي: تضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم؛ وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل اللّه ديناً سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين.
…قال -رحمه اللّه-: وقد جمع ذلك في سورة الإخلاص، أي: العلم، والعمل، والإقرار، وقد اكتفى بعض أهل زماننا، بالإقرار وحده، وجعلوه غاية التوحيد، وصرفوا العبادة التي هي مدلول: لا إله إلا اللّه، للمقبورين، وجعلوها من باب التعظيم للأموات، وأن تاركها قد هضمهم حقهم، وأبغضهم، وعقهم؛ ولم يعرفوا، أن دين الإسلام، هو الاستسلام لله وحده، والخضوع له وحده، وأن لا يعبد بجميع أنواع العبادة سواه.(209/13)
…وقد دل القرآن، على أن من استسلم لله، ولغيره، كان مشركاً؛ قال تعالى: } وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ { [الزمر: 54] وقال تعالى: } وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ { [النحل: 36]، وقال تعالى: } وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ { [الأنبياء: 25] وقال تعالى عن الخليل: } وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { [الزخرف: 26-28] وقال: } قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ { [الممتحنة: 4] وقال تعالى: } وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ { [الزخرف: 45] وذكر عن رسله نوح، وهود، وشعيب، وغيرهم، أنهم قالوا لقومهم: } اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ { [هود: 50، 61، 84].(209/14)
…قال -رحمه اللّه-: والشرك المراد في هذه الآيات، ونحوها، يدخل فيه شرك عباد القبور، وعباد الأنبياء، والملائكة، والصالحين، فإن هذا، هو شرك جاهلية العرب، الذين بعث فيهم، عبداللّه، ورسوله، محمد -- صلى الله عليه وسلم --، فإنهم كانوا يدعونها، ويلتجئون إليها، ويسألونها، على وجه التوسل بجاهها، وشفاعتها، لتقربهم إلى اللّه، كما نبّه تعالى على ذلك، في آيتي يونس، والزمر (1).
__________
(1) وهي قوله تعالى: } وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ { [يونس: 18] وقوله تعالى: } وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى { [الزمر: 3].(209/15)
…قال -رحمه اللّه-: ومعلوم أن المشركين، لم يزعموا أن الأنبياء، والأولياء، والصالحين، شاركوا اللّه في خلق السماوات والأرض، واستقلوا بشيء من التدبير، والتأثير، والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى: } وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ { [الزمر: 38] فهم معترفون بهذا، مقرون به، لا ينازعون فيه، ولذلك: حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر، ولا يمسك الرحمة؛ ولا يخفى ما في التنكير، من العموم، والشمول، المتناول لأقل شيء، وأدناه، من ضر، أو رحمة؛ قال تعالى: } وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ { [يوسف: 106] ذكر فيه السلف، كابن عباس، وغيره، أن إيمانهم هنا، بما أقروا به، من ربوبيته، وملكه؛ وفسر شركهم المذكور، بعبادة غير اللّه.(209/16)
…قال -رحمه اللّه-: فإن قلت: إنهم لم يطلبوا إلا من الأصنام، ونحن ندعو الأنبياء؛ قلت: قد بين القرآن في غير موضع، أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالكواكب، ومنهم من أشرك بالأصنام، وقد رد اللّه عليهم جميعهم، وكفر كل أصنافهم، كما قال تعالى: } وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ { [آل عمران: 80] وقال: } اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ { [التوبة: 31] وقال: } لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ { الآية [النساء: 172] ونحو ذلك في القرآن كثير.(209/17)
…وكما في سورة الأنبياء: } إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ { [الأنبياء: 98] وقول ابن الزبعري: نحن نعبد الملائكة، والأنبياء، وغيرهم فكلنا في حصب جهنم؟! فرد اللّه عليهم بالاستثناء في آخرها: } إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ { [الأنبياء: 101](1)
__________
(1) قال ابن إسحاق: «جلس رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم -- فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلّم رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم -- فعرض له النضر بن الحارث، وكلّمه رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم -- حتى ألجمه ثم تلا عليه وعليهم: } إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ الِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ { إلى قوله: } وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ { ، ثم قام رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم -- وأقبل عبداللّه بن الزبعريّ حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة لعبداللّه بن الزبعريّ: واللّه ما قام النضر بن الحارث لابن عبدالمطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم، أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبداللّه بن الزبعريّ: أما واللّه لو وجدته لخصمته، فسلوا محمداً: أكل من عُبد من دون اللّه في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم، فعجب الوليد من المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبداللّه بن الزبعريّ، ورأوا أنه قد خاصم واحتجّ فذكر ذلك لرسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم -- من قول ابن الزبعريّ فقال رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --: «نعم كل من أحب أن يعبد من دون اللّه فهو مع من عبده، إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرهم بعبادتهم؟» فأنزل اللّه -- عز وجل -- : } إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ { إلى: } خَالِدُونَ { ، أي: عيسى ابن مريم وعزير، ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة اللّه فاتخذهم مَنْ
بَعْدَهُمْ من أهل الضلالة أرباباً من دون اللّه، فأنزل اللّه فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات اللّه: } وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ { » [أخرجه ابن جرير (17/96-97)، وبنحوه عن ابن عباس: أخرجه الطبراني (12/153].(209/18)
وبه يعلم المؤمن: أن عبادة الأنبياء، والصالحين، كعبادة الكواكب، والأصنام، من حيث الشرك، والكفر بعبادة غير اللّه.
…قال -رحمه اللّه-: وهذه العبادات، التي صرفها المشركون لآلهتهم، هي: أفعال العباد الصادرة منهم؛ كالحب، والخضوع، والإنابة، والتوكل والدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، والخوف، والرجاء، والنسك، والتقوى والطواف ببيته رغبة ورجاء، وتعلق القلوب والآمال، بفيضه، ومده، وإحسانه، وكرمه، فهذه الأنواع: أشرف أنواع العبادة وأدلها؛ بل هي: لب سائر الأعمال الإسلامية، وخلاصتها؛ وكل عمل يخلو منها فهو خداج، مردود على صاحبه.
…وإنما أشرك، وكفر من كفر من المشركين، بقصد غير اللّه بهذا، وتأليهه غير اللّه بذلك، قال تعالى: } أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ { [النحل: 17]، وقال تعالى: } أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ { [الأنبياء: 43]، وقال تعالى: } وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ { الآية [الفرقان: 3]، وحكى عن أهل النار، أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع اللّه: } تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ { [الشعراء: 97-98] ومعلوم: أنهم ما ساووهم به، في الخلق، والتدبير، والتأثير، وإنما كانت التسوية، في الحب، والخضوع، والتعظيم، والدعاء ونحو ذلك من العبادات.
…قال -رحمه اللّه-: فجنس هؤلاء المشركين، وأمثالهم، ممن يعبد الأولياء، والصالحين، نحكم: بأنهم مشركون؛ ونرى كفرهم، إذا قامت عليهم الحجة الرسالية؛ وما عدا هذا من الذنوب، التي هي دونه في المرتبة والمفسدة، لا نكفر بها.(209/19)
…ولا نحكم على أحد من أهل القبلة، الذين باينوا لعباد الأوثان والأصنام والقبور، بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه؛ وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة، ونحوهم ممن كفرهم السلف: لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى، من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى اللّه مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين.
…قال -رحمه اللّه-: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها: لا يكون به المكلف مسلماً؛ بل هو حجة على ابن آدم، خلافاً لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرامية؛ ومجرد التصديق كالجهمية؛ وقد أكذب اللّه المنافقين، فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة، بأنواع من التأكيدات، قال تعالى: } إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ { [المنافقون: 1] فأكدوا بلفظ الشهادة، وإنّ المؤكدة، واللام، وبالجملة الاسمية؛ فأكذبهم، وأكد تكذيبهم، بمثل ما أكدوا به شهادتهم، سواء بسواء؛ وزاد التصريح باللقب الشنيع، والعلم البشع الفظيع.(209/20)
…وبهذا تعلم: أن مسمى الإيمان، لا بد فيه من التصديق والعمل؛ ومن شهد أن لا إله إلا اللّه، وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى، وزكى، وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام؛ قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب ورد بعضاً: } أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ { الآية [البقرة: 85]، وقال تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً { الآية [النساء: 150] وقال تعالى: } وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ { [المؤمنون: 117].
…والكفر نوعان: مطلق، ومقيد؛ فالمطلق، هو: الكفر بجميع ما جاء به الرسول؛ والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول؛ حتى إن بعض العلماء: كفر من أنكر فرعاً مجمعاً عليه، كتوريث الجد، أو الأخت، وإن صلى وصام، فكيف بمن يدعو الصالحين، ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟ وهذا: مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة بل: كفروا ببعض الألفاظ، التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام من جرت على لسانه.(209/21)
…قال -رحمه اللّه-: والصحابة كفروا من منع الزكاة، وقاتلوهم، مع إقرارهم بالشهادتين، والإتيان بالصلاة، والصوم، والحج؛ قال -رحمه اللّه-: وأجمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح، مع أنهم يتكلمون بالشهادتين، ويصلون ويبنون المساجد، في قاهرة مصر، وغيرها؛ وذكر: أن ابن الجوزي، صنف كتاباً في وجوب غزوهم، وقتالهم، سماه: النصر على مصر؛ قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتشبيه عباد القبور، بأنهم يصلون، ويصومون، ويؤمنون بالبعث، مجرد تعمية على العوام، وتلبيس، لينفق شركهم، ليقال بإسلامهم، وإيمانهم، ويأبى اللّه ذلك، ورسوله، والمؤمنون.
…وأما مسائل: القدر، والجبر، والإرجاء، والإمامة، والتشيع، ونحو ذلك، من المقالات، والنحل، فهو (1): أيضاً فيها، على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين؛ ويبرأ إلى اللّه مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة؛ وما قالته المرجئة، والرافضة؛ وما عليه غلاة الشيعة والناصبة؛ ويوالي: جميع أصحاب رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --، ويكف عما شجر بينهم؛ ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأقرب الخلق إلى مغفرة اللّه وإحسانه، لفضائلهم، وسوابقهم، وجهادهم، وما جرى على أيديهم، من فتح القلوب بالعلم النافع، وفتح البلاد، ومحو آثار الشرك، وعبادة
الأوثان، والنيران، والأصنام، والكواكب، ونحو ذلك مما عبده
جهال الأنام.
…ويرى: البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء، لئام؛ ويرى: أن أفضل الأمة بعد نبيها أبوبكر، فعمر، فعثمان، فعلي، رضي اللّه عنهم أجمعين، ويعتقد: أن القرآن -الذي نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، وخاتم النبيين- كلام اللّه، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود. ويبرأ: من رأي الجهمية، القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف، أهل العلم والإيمان.
__________
(1) أي الإمام المصلح محمد بن عبدالوهاب.(209/22)
…ويبرأ: من رأي الكلابية، أتباع عبداللّه بن سعيد بن كلاب: القائلين: بأن كلام اللّه، هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما نزل به جبريل -- عليه السلام --، حكاية، أو عبارة عن المعنى النفسي؛ ويقول: هذا من قول الجهمية؛ وأول من قسم هذا التقسيم، هو: ابن كلاب، وأخذ عنه: الأشعري، وغيره، كالقلانسي؛ ويخالف (1) الجهمية في كل ما قالوه، وابتدعوه في دين اللّه، ولا يرى: ما ابتدعته الصوفية، من البدع، والطرائق، المخالفة لهدي رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --، وسنته، في العبادات، والخلوات، والأذكار، المخالفة للشرع.
…ولا يرى: ترك السنن، والأخبار النبوية، لرأي فقيه، ومذهب عالم، خالف ذلك باجتهاده، بل السنة: أجل في صدره وأعظم عنده، من أن تترك لقول أحد، كائناً من كان؛ قال عمر بن عبدالعزيز: لا رأي لأحد مع سنة رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --، نعم عند الضرورة، وعدم الأهلية والمعرفة بالسنن والأخبار، وقواعد الاستنباط، والاستظهار، يصار إلى التقليد، لا مطلقاً، بل فيما يعسر ويخفى. ولا يرى: إيجاب ما قاله المجتهد، إلا بدليل تقوم به الحجة، من الكتاب، والسنة؛ خلافاً لغلاة المقلدين. ويوالي: الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم، وإمامتهم، وأنهم في الفضل، والفضائل، في غاية رتبة، يقصر عنها المتطاول؛ وميله إلى أقوال الإمام أحمد أكثر (2).
__________
(1) أي شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب -رحمه اللّه تعالى-.
(2) أي الإمام محمد بن عبدالوهاب يميل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل دون تعصب وإنما يأخذ ما يوافق الدليل.(209/23)
…ويوالي: كافة أهل الإسلام، وعلمائهم، من أهل الحديث، والفقه، والتفسير، وأهل الزهد والعبادة؛ ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين، من السلف الماضين، برأي مبتدع، أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر؛ ويؤمن: بما نطق به الكتاب، وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه، من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم؛ لا يبيح من ذلك إلاّ ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول -- صلى الله عليه وسلم --، ومن نسب إليه خلاف ذلك، فقد: كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه اللّه ما وعد به أمثاله من المفترين.
…وأبدى -رحمه اللّه-: من التقارير المفيدة، والأبحاث الفريدة، على كلمة الإخلاص، والتوحيد، شهادة: أن لا إله إلا اللّه، ما دل عليه الكتاب المصدق، والإجماع المستنير المحقق، من نفي استحقاق العبادة، والإلهية عما سوى اللّه، وإثبات ذلك لله سبحانه، على وجه الكمال، المنافي لكليات الشرك، وجزئياته، وأن هذا: هو معناها، وضعاً، ومطابقة خلافاً لمن زعم غير ذلك، من المتكلمين، كمن يفسر ذلك؛ بالقدرة على الاختراع، أو أنه سبحانه غني عما سواه، مفتقر إليه من عداه، فإن هذا لازم المعنى، إذ الإله الحق، لا يكون إلا قادراً، غنياً عما سواه؛ وأما كون هذا، هو المعنى المقصود بالوضع، فليس كذلك.(209/24)
…والمتكلمون: خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية، والقدرة، هو الغاية المقصودة، والفناء فيه، هو تحقيق التوحيد؛ وليس الأمر كذلك، بل هذا لا يكفي في أصل الإسلام، إلاّ إذا أضيف إليه، واقترن به، توحيد الإلهية: إفراد اللّه تعالى بالعبادة، والحب، والخضوع، والتعظيم، والإنابة، والتوكل، والخوف، والرجاء، وطاعة اللّه، وطاعة رسوله، هذا أصل الإسلام، وقاعدته؛ والتوحيد الأول، الذي عبروا به عنها، هو: توحيد الربوبية، والقدرة والخلق، والإيجاد، وهو الذي يبنى عليه: توحيد العمل، والإرادة، وهو دليله الأكبر، وأصله الأعظم.
…وكثيراً ما يحتج به سبحانه، على من صرف العمل لغيره، قال تعالى: } وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ { [البقرة: 163] الآيات، وقال: } أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ { إلى آخر الآيات، [النمل: 62-64]، وقال تعالى: } إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ { الآية [الأعراف: 54] ومن نظر في تفاسير السلف، علم هذا.(209/25)
…وقد قرر -رحمه اللّه- على شهادة أن محمداً رسول اللّه -في بيان ما تستلزمه هذه الشهادة، وتستدعيه، وتقتضيه، من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية، من الحب، والتوقير، والنصر، والمتابعة، والطاعة، وتقديم سنته -- صلى الله عليه وسلم -- على كل سنة وقول؛ والوقوف معها حيث وقفت، والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين، وفروعه، باطنه وظاهره، خفيه، وجليه، كليه، وجزئيه- ما ظهر به فضله، وتأكد علمه، ونبله، وأن من نقل عنه ضد ذلك، من دعاة الضلال، فقد فسد قصده، وعقله (1).
…والواقف على مصنفاته، وتقريراته، يعرف: أنه سباق غايات، وصاحب آيات؛ لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث والإفادة آثاره، وأن أعداءه، ومنازعيه، وخصومه، في الفضل، وشانئيه، يصدق عليهم: المثل السائر: بين أهل المحابر، والدفاتر، شعر:
حَسَدُوا الْفَتَى إِذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ ... فَالْقَوْمُ أَعْدَاءٌ لَهُ وَخُصُوْمُ
كَضَرَاِئِرُ الْحَسْنَاء قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... حَسَدَاً وَبَغْيَاً إِنْهُ لَدَمِيْمُ
__________
(1) من ذلك أنهم افتروا على الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه اللّه وأكرم مثواه- أنه يقول عن النبي -- صلى الله عليه وسلم --: إن غاية أمره كالطارش الذي يرسل إلى أناس في أمر فيبلغهم إياه ثم ينصرف.
…ومن كذبهم وظلمهم أن الإمام المصلح يقول عن نبي الهدى -- صلى الله عليه وسلم --: عصاي خير من محمد لأنها ينتفع بها بقتل الحية ونحوها، ومحمد قد مات ولم يبق فيه نفع أصلاً. هكذا قال المفترون الكاذبون وقد كشف شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه هذه الفرية في رسائلهم وكتبهم كما هو مبين في الدرر السنية في الأجوبة النجدية ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية وغيرها من كتب أئمة الدعوة الإصلاحية فجزاهم اللّه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.(209/26)
…وقال -رحمه اللّه-، على قوله تعالى: } وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { [الشورى: 52] فالرسول -- صلى الله عليه وسلم --، جعله اللّه إماماً للناس، وكما أنزل عليه القرآن، أنزل عليه السنة، موافقة له، مبينة له، فكل ما وافق ما جاء به، فهو صراط مستقيم، وما خالفه، فهو: بدعة، وضلال وخيم؛ وقوله: } صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { [الشورى: 23] أي الدال على اللّه، وفيه تشريفه، وتشريف شرعه، بإضافته إلى اللّه، فما أجهل من ابتدع قولاً، مخالفاً لقوله تعالى: } قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ { [آل عمران: 31].
…وله -رحمه اللّه-، ترجمة في: كتاب التوحيد، الذي صنف، بين فيها طاعة الرسول -- صلى الله عليه وسلم --؛ قال: «باب من أطاع العلماء، والأمراء، في تحليل ما حرم اللّه، أو تحريم ما أحل اللّه، فقد اتخذهم أرباباً من دون اللّه» واستدل بحديث عدي (1)؛ وله بحوث في تحقيق شهادة أن محمداً رسول اللّه، بين بعضها الشيخ: حسين بن غنام، في تاريخه (2).
__________
(1) أخرجه الإمام الترمذي في «سننه» (ح3095) حديث عدي بن حاتم: أنه سمع النبي
-- صلى الله عليه وسلم -- يقرأ هذه الآية: } اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ { فقلت له: إنا لسنا نعبدهم قال: «أليس يحرمون ما أحل اللّه فتحرمونه، ويحلون ما حرم اللّه فتحلونه؟» فقلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم».
(2) وتاريخ الشيخ حسين بن غنام مشهور متداول.(209/27)
…وله -رحمه اللّه-، من المناقب، والمآثر، ما لا يخفى على أهل الفضائل، والبصائر؛ ومما اختصه اللّه به، من الكرامة: تسلط أعداء الدين، وخصوم عباد اللّه المؤمنين، على مسبته، والتعرض لبهته، وغيبته، قال الشافعي -رحمه اللّه-: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --، إلا ليزيدهم اللّه بذلك ثواباً، عند انقطاع أعمالهم؛ وأفضل الأمة بعد نبيها: أبوبكر، وعمر؛ وقد ابتليا، من طعن أهل الجهالة، وسفهائهم؛ بما لا يخفى (1).
…وما حكينا عن الشيخ، حكاه: أهل المقالات، عن أهل السنة والجماعة، مجملاً ومفصلاً؛ قال أبوالحسن، الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث، وأهل السنة، الإقرار باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله؛ وما جاؤوا به من عند اللّه؛ وما رواه الثقات، عن رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --، لا يردون من ذلك شيئاً.
…وأن اللّه تعالى: إله واحد، أحد، فرد، صمد، لم يتخذ صاحبة، ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله؛ وأن الجنة حق؛ وأن النار حق؛ وأن الساعة آتية لا ريب فيها؛ وأن اللّه يبعث من في القبور؛ وأن اللّه تعالى على عرشه، كما قال: } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { [طه: 5] وأن له يدين، بلا كيف، كما قال: } لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ { [ص: 75] وكما قال: } بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ { [المائدة: 64] وأن له عينين، بلا كيف، وأن له وجهاً، جل ذكره، كما قال تعالى: } وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ { [الرحمن: 27] وأن أسماء اللّه تعالى، لا يقال إنها غير اللّه، كما قالت المعتزلة، والخوارج.
__________
(1) والمعنى أن الذين يسبون الشيخ لا يضرون إلا أنفسهم والشيخ -رحمه اللّه- لا يزيده ذلك إلا رفعة في الدرجات ومزيداً من الأجر والثواب.(209/28)
…وأقروا: أن لله علماً، كما قال: } أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ { [النساء: 166] وكما قال تعالى: } وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ { [فاطر: 11] وأثبتوا، السمع، والبصر، ولم ينفوا ذلك، كما نفته المعتزلة؛ وأثبتوا لله، القوة، كما قال تعالى: } أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً { [فصلت: 15] وقالوا: إنه لا يكون في الأرض، من خير، ولا شر، إلا ما شاء اللّه؛ وأن الأشياء تكون بمشيئة اللّه تعالى، كما قال: } وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ { [الإنسان: 30] وكما قال المسلمون: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً، قبل أن يفعله اللّه، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم اللّه، وأن يفعل شيئاً علم اللّه أنه لا يفعله.
…وأقروا: أنه لا خالق إلا اللّه، وأن أعمال العباد يخلقها اللّه، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً، وأن اللّه تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف بالمؤمنين، وأصلحهم، وهداهم، ولم يلطف بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم؛ ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن اللّه تعالى يقدر، أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين، كما علم، وخذلهم، وأضلهم، وطبع على قلوبهم، وأن الخير، والشر، بقضاء اللّه وقدره.(209/29)
…ويؤمنون: بقضاء اللّه وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون: أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضراً، إلا ما شاء اللّه، كما قال؛ ويلجئون أمرهم إلى اللّه، ويثبتون الحاجة إلى اللّه، في كل وقت، والفقر إلى اللّه في كل حال، ويقولون: إن كلام اللّه غير مخلوق، والكلام في الوقف، واللفظ، من قال باللفظ، أو الوقف، فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق؛ ويقولون: إن اللّه تعالى يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن اللّه محجوبون، قال تعالى: } كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ { [المطففين: 15] وإن موسى: سأل اللّه سبحانه الرؤية في الدنيا، وإن اللّه تجلى للجبل، فجعله دكاً، فأعلمه بذلك، أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة.
…ولم يكفروا أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا، والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان، مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر؛ والإيمان، عندهم، هو الإيمان باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وما أصابهم لم يكن ليخطئهم؛ والإسلام، هو: أن يشهد أن لا إله إلا اللّه، على ما جاء به الحديث؛ والإسلام عندهم، غير الإيمان؛ ويقرون بأن اللّه مقلب القلوب.(209/30)
…ويقرون: بشفاعة رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر؛ وأن الحوض حق؛ والمحاسبة من اللّه للعباد حق؛ والوقوف بين يدي اللّه حق؛ ويقرون: بأن الإيمان، قول وعمل، يزيد وينقص؛ ولا يقولون: مخلوق، ولا غير مخلوق؛ ويقولون: أسماء اللّه تعالى، هي اللّه؛ ولا يشهدون، على أحد من أهل الكبائر، بالنار، ولا يحكمون بالجنة، لأحد من الموحدين، حتى يكون اللّه هو نزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى اللّه، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون: بأن اللّه يخرج قوماً من الموحدين من النار، على ما جاءت الروايات، عن رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --.
…وينكرون: الجدل، والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار، التي رواها الثقات، عدلاً عن عدل، حتى ينتهى ذلك، إلى رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --، ولا يقولون: كيف؟ ولا: لم؟ (1) لأن ذلك، بدعة؛ ويقولون: إن اللّه تعالى لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض بالشر، وإن كان مريداً له.
…ويعرفون: حق السلف، الذين اختارهم اللّه لصحبة نبيه -- صلى الله عليه وسلم --، ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم، صغيرهم، وكبيرهم؛ ويقدمون: أبا بكر؛ ثم عمر؛ ثم عثمان؛ ثم علياً -- رضي الله عنهم --. ويقرون: أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد نبيهم؛ ويصدقون: بالأحاديث، التي جاءت عن رسول اللّه
-- صلى الله عليه وسلم --: «أن اللّه ينزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من
__________
(1) قال بعض السلف: كلمتان ممنوعتان: كيف في صفات اللّه، ولِمَ في أفعال اللّه.(209/31)
مستغفر ...»(1) كما جاء في الحديث عن رسول اللّه -- صلى الله عليه وسلم --.
…ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال تعالى: } فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ { [النساء: 59] ويرون: اتباع مَنْ سلف من أئمة الدين، وأن لا يبتدع في الدين ما لم يأذن به اللّه، ويقرون: أن اللّه تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: } وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً { [الفجر: 22] وأن اللّه يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال تعالى: } وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ { [ق: 16] ويرون، العيد، والجمعة، والجماعة، خلف كل إمام، برّ، أو فاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر، والسفر.
…ويثبتون: فرض الجهاد، منذ بعث اللّه نبيه -- صلى الله عليه وسلم -- إلى آخر عصابة تقاتل الدجال، وبعد ذلك: يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، ولا يخرج عليهم بالسيف، ولا يقاتلون في الفتنة؛ ويصدقون: بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله؛ ويؤمنون: بمنكر، ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام؛ وأن الدعاء للموتى من المسلمين، والصدقة عنهم بعد موتهم، تصل إليهم؛ ويصدقون: بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر، كافر، كما قال تعالى: } وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ { [البقرة: 102] وأن السحر، كائن موجود في الدنيا.
__________
(1) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/214)، والبخاري في «صحيحه» (1/289)، ومسلم في «صحيحه» (2/175)، وأبوداود (1315)، والترمذي (2/263) وغيرهم.(209/32)
…ويرون: الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، مؤمنهم، وفاجرهم، ويقرون: أن الجنة، والنار، مخلوقتان؛ وأن من مات، مات بأجله، وكذلك من قتل، قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل اللّه، يرزقها عباده، حلالاً، كانت، أو حراماً؛ وأن الشيطان: يوسوس للإنسان، ويشككه، ويخطِّيه؛ وأن الصالحين، قد يجوز أن يخصهم اللّه بآيات تظهر عليهم، وأن السنة، لا تنسخ الآيات؛ وأن الأطفال أمرهم إلى اللّه، إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن اللّه تعالى عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد اللّه.
…ويرون: الصبر على حكم اللّه، والأخذ بأمر اللّه، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة اللّه تعالى في العابدين، والنصيحة لأئمة المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنا، وقول الزور، والمعصية، والفخر، والكبر، والإزراء، على الناس، والعجب، ويرون: مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع، والاستكانة، وحسن المأكل، والمشرب؛ وجملة: ما يأمرون به، ويستعملونه، ويرونه؛ وبكل ما ذكرنا من قولهم: نقول، وإليه نذهب، انتهى (1).
__________
(1) وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب -رحمه اللّه تعالى- يقول بهذا ويعتقده ويدين اللّه به؛ كما هو موضح في كتبه ورسائله المطبوعة المشهورة والتي وصلت إلى الآفاق ونفع اللّه بها المسلمين في كافة أنحاء المعمورة.(209/33)
…وبعض هذا البحث، ذكره شيخنا: عبداللطيف (1)، في التأسيس(2)، وأحببت إبرازه من مظانه، لينكشف للناس حقيقة ما عليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ويزول عنهم الوهم، والإشكال؛ وحسبنا اللّه ونعم الوكيل، وصلى اللّه على أشرف المرسلين، محمد، وآله وصحبه أجمعين.
* * *
محتويات الكتاب
الموضوع…………………………… الصفحة
المقدمة … 5
ترجمة العلامة المحدث إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن … 8
كلام نفيس في الرد على من استحوذ عليه الشيطان بعداوة
شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب … 17
شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب متبع لما كان عليه السلف الصالح
من عقيدة ومنهج … 19
جهود الإمام محمد بن عبدالوهاب في بيان توحيد العبادة والإلهية … 20
رد الإمام محمد بن عبدالوهاب بعض شبه مخالفيه في توحيد العبادة … 23
الإمام محمد بن عبدالوهاب يبين أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة من
غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون المكلف مسلماً حتى
يأتي بمقتضاها … 27
الإمام محمد بن عبدالوهاب في مسائل: القدر والجبر والإرجاء
والإمامة والتشيع على ما كان عليه السلف الصالح … 29
شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب أبدى من التقارير المفيدة والأبحاث
الفريدة على كلمة الإخلاص ما دل عليه الكتاب المصدق والإجماع
المستنير المحقق … 32
الموضوع…………………………… الصفحة
شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب يوافق أهل السنة والجماعة في
كل ما قالوه واعتقدوه جملة وتفصيلاً … 36
الإمام محمد بن عبدالوهاب لا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه … 39
الإمام محمد بن عبدالوهاب يرى الصبر على حكم اللّه، والانتهاء
__________
(1) هو الشيخ العلامة عبداللطيف ابن الإمام عبدالرحمن ابن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، من كبار أئمة الإسلام المحققين وعلماء الدعوة الإصلاحية الراسخين.
(2) هو كتاب للشيخ عبداللطيف سماه: «منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود جرجيس»، وهو مطبوع متداول.(209/34)
عما نهى اللّه عنه وإخلاص العمل لله … 42
* * *(209/35)
نظرات في كتاب
"علموا أولادكم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"
كتبها / الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
اطلعت على كتاب ألفه معالي الدكتور محمد عبده يماني تحت عنوان "علموا أولادكم حب رسول الله"، وطبعه عدة طبعات، وجاء على غلاف الطبعة الثالثة منه ما نصه:
(طُبِعَ بموافقة وزراة الإعلام رقم 1112/ م ج ، وتاريخ 30/3/1405 هـ ).
ولم يذكر معاليه موافقة مراقبة المطبوعات في الإفتاء، مع أن هذا الأمر لازم، يجعل لهذه الجهة بتخطيه لها المطالبة بحقها نحو هذا الإجراء المخالف لنظام المطبوعات.
ونحن مع كل مسلم نتفق مع معالي الدكتور على أن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة على كل مسلم، بل هي من أعظم أصول الإيمان ومسائل العقيدة، وتأتي في الدرجة الثانية بعد محبة الله تعالى، وبغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو بغض شيء مما جاء به ردَّة عن دين الإسلام.
ونتفق كذلك مع معاليه على أن بيان هذا للناس أمر واجب.
ولكن بيانه يكون بالطريقة الشرعية، والأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة، وعلى ضوء العقائد المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، وهذا ما لم يتوفر في كتاب معاليه كما يأتي بيانه، وذلك على النحو التالي:
1- قوله في العنوان:(علموا أولادكم حب رسول الله).
هل المحبة تُعَلَّم تعليماً، أو هي عمل قلبي يُقوَّى ويُنَمَّى ؟ !
كان الأولى بالدكتور أن يقول: بينوا لأولادكم وجوب محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونموها في قلوبهم؛
ببيان صفاته وخصائصه، وما جاء على يديه من هداية الأمة، وإخراجها من الظلمات إلى
النور، وإنقاذها من الخرافات والبدع والشركيات إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة.(210/1)
2- لماذا اقتصر معاليه على محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر محبة الله تعالى التي هي الأصل الذي تتبعه محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟!
لماذا يذكر الفرع ويترك الأصل ؟!
ألم تكن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأتي بعد محبة الله تعالى في الكتاب والسنة؛ كقوله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ } ...إلى قوله تعالى: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ]التوبة:24[وقوله - صلى الله عليه وسلم -: { ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه
مما سواهما... } الحديث ؟ !
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } ]البقرة:165[، { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ]آل عمران:31[. 3- ما علاقة محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بابتداع الاحتفال في اليوم الذي يُقال: إنه اليوم الذي وُلِدَ فيه، وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، حيث ذكر معالي الدكتور ذلك في كتابه، ودعا إليه من صفحة (95) إلى صفحة (103)، وحاول في هذه الصفحات أن يسوغ هذا الاحتفال؛ دون أن يبرز دليلاً صحيحاً واحداً أو استدلالاً صحيحاً على ما قال، سوى أنه عادة أحدثها بعض الناس: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ } ]الزخرف:23[.
ولسنا بصدد مناقشة الشبهات التي ذكرها هنا؛ لأن هذا له موضع آخر، وقد نوقشت
والحمد لله في أكثر من كتاب، وبُيِّن أن الاحتفال بالمولد بدعة محدثة.
ونحن نسأل معالي الدكتور:
هل شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الاحتفال لأمته أو هو شيء محدث بعده ؟
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: { من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد } .(210/2)
وهل فعله صحابته وخلفاؤه الراشدون الذين لا يساويهم أحد في محبته - صلى الله عليه وسلم -؟!
هل كانوا مقصرين في محبته حين لم يفعلوه ؟!
لا ؛ بل إنهم لم يفعلوه؛ لأنه بدعة، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن البدع، وفعل البدعة معصية له - صلى الله عليه وسلم -، يتناقض مع محبته؛ لأن محبته تقتضي متابعته وترك ما نهى عنه.
فيا معالي الدكتور! كيف نعلم أولادنا محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ندعوهم لمخالفته بفعل البدع؟! أليس هذا تناقضاً ؟!
ليتك قلت:علموهم متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانهوهم عن مخالفته، وألزموهم بطاعته؛
كما قال - صلى الله عليه وسلم -: { مُروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في
المضاجع } .
4- ما علاقة تحديد المكان الذي وُلِدَ فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموضوع محبته...حيث شغل الدكتور حيزاً من كتابه في البحث عن تحديده من صفحة (179) إلى (191)، وأتعب فكره وقلمه في ذلك بما لا جدوى من ورائه، ولم نكلف بمعرفته.
هل عيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المكان لأمته ؟ !
هل اعتنى الصحابة والتابعون ومن بعدهم من القرون المفضلة وأئمة الإسلام المعتبرون بتعيين هذا المكان؟!
وماذا يرجع على الأمة من تعيينه؟!
لو كان في ذلك ما يعود على الأمة بخير؛ ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
لم يهتم بشأن بيته الذي كان يسكنه في مكة قبل الهجرة، ولما سُئِل - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة، فقيل له: أتنزل في دارك ؟قال - صلى الله عليه وسلم -: { وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟ } .
ما كان - صلى الله عليه وسلم - يهتم بالأمكنة التي سكنها وعاش فيها؛ فضلاً عن أن يهتم بالمكان الذي ولد فيه، ولم يكن صحابته يفعلون ذلك؛ لأن ذلك يُفْضي إلى أن نتخذ هذه الأمكنة مُتَعَبَّدات ومعتقدات فاسدة.(210/3)
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد البعثة لم يتهم بشأن غار حراء الذي ابتدأ نزول الوحي عليه فيه، لأن الله لم يأمره بذلك.
ولما رأى عمر رضي الله عنه الناس يذهبون إلى الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان؛ قطعها مخافة أن يُفْتَن الناس بها.
فلا تفتحوا للناس باباً مغلقاً، وتذكروا قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ]النور:63[.
ولهذا لا نجد في كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى البقعة التي وُلِدَ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا فائدة من ذلك، وليس في الاعتناء بذلك دلالة على محبته - صلى الله عليه وسلم -، وإنما علامة محبته - صلى الله عليه وسلم - اتباعه، والعمل بسنته، وترك ما نهى عنه؛ كما قال الشاعر الحكيم في ملازمة المحبة
للطاعة:
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المُحِبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ
حشد معالي الدكتور في كتابه هذا أموراً وأشياء كثيرة فيها نظر، وذكر فيه أحاديث
لم يبين درجتها، ولم يوثقها من دواوين السنة المعتبرة.
والواجب عليه - كباحث يحمل أكبر درجة علمية - أن لا يهمل ذلك؛ لأن القراء ينتظرون منه ومن أمثاله أن يقدم لهم بحثاً مستوفياً للجوانب العلمية والمعنوية.
ومما جاء في كتابه:
أ- أبيات (طلع البدر علينا )؛ قال عنها:
(هذا نشيد سمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون شك ولا ريب).
إلى أن قال:(وقد ارتفع هذا النشيد لأول مرة من حناجر المسلمين المهاجرين والأنصار منذ أكثر من أربعة عشر قرناً).
ونقول: ما الذي يجعلك يا معالي الدكتور تجزم بسماع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذا النشيد دون شك أو ريب ؟
وما الذي يجعلك تجزم بنسبته إلى المهاجرين والأنصار؟ أين سندك في هذا؟
أيظن معاليكم أن القراء يقتنعون بمثل هذا الكلام دون تحقيق وتوثيق؟
كلا.
في (ص 111) قال معالي الدكتور:(210/4)
(وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - عن سنته؟ فقال: المعرفة رأس مالي، والحب أساسي، والشوق مركبي... ) إلخ.
ولا ندري من أين جاء الدكتور بهذا الحديث، فهو لم يذكر له سنداً، ولم يعزه إلى كتاب،
ولا تجوز النسبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون تثبت؛ لأن ما يُنْسَب قد يكون مكذوباً على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل تحت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { من كذب عليَّ متعمداً؛ فليتبوا
مقعده من النار } .
6- في الكتاب مبالغات في حقه - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنها، حيث قال عليه الصلاة والسلام:
{ لا تُطْروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله } رواه البخاري وغيره.
ومن هذه المبالغات:
أ- ما جاء في (ص113):
(واجب على كل مؤمن متى ذَكَره أو ذُكِر عنده أن يخضع ويخشع... إلخ ).
ونقول تعقيباً على ذلك: أليس الخضوع والعبادة حق لله؟!
وكذلك الخضوع إذا كان القصد منه الخضوع بالجسم؛ فهو لا يكون إلا لله؛ لأنه سبحانه هو الذي يُرْكَع له ويُسْجَد، وإذا كان المراد به الانقياد لطاعته؛ فالتعبير خطأ؛ لأنه موهم.
والمشروع عند ذكره - صلى الله عليه وسلم - هو الصلاة عليه، لا ما ذكره معالي الدكتور، وإن كان قد نقله عن غيره؛ فهو قد أقره.
ب- جاء في (ص208) قوله:
(ومما تجدر الإشارة إليه أنه - صلى الله عليه وسلم - أول الأنبياء خلقاً، وإن كان آخرهم مبعثاً).
هكذا قال! ولم يذكر له مستنداً ولا دليلا ً!!
وهل هناك أحد من بني آدم يخلق قبل خلق أبيه وأمه بآلاف السنين؟!
أليس نسل آدم كلهم من ماء مهين و { مَاءٍ دَافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ }
]الطارق:6-7[؟!(210/5)
كيف يُخْلَق محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل الأنبياء، ثم يُخْلَق مرة ثانية، ويولد بعدما تزوج أبوه بأمه، وحملت به عن طريق انتقاله ماءً دافقاً من صلب أبيه إلى رحم أمه؛ كما هي سنة الله في بني آدم؟! هل خُلِق مرتين؟!
ويصر الدكتور على هذه المقالة المنكرة، حيث يقول في (ص211):
(ولقد أنكر بعض المحْدَثين (يعني: المعاصرين) من الغيورين على الإسلام أن يكون سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - خُلِق قبل آدم عليه السلام... إلخ ).
ويرد على هذا المنكر برد لا طائل تحته.
ومعنى كلامه أن أكثر المعاصرين موافقون له على هذه المقالة، أما السابقون؛ فلم يستثني منهم أحداً.
وهذا من التلبيس والمجازفة؛ فإن هذا القول لم يقل به أحدٌ يُعْتَدُّ به من الأمة لا قديماً
ولا حديثاً.
وإذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - خُلِق قبل آدم؛ فهو إذن ليس من بني آدم.
وأيضاً؛ لماذا تحتفلون بولادته وهو مخلوق قبل آدم ؟!
هذا تناقض عجيب.
وليت الدكتور بدل أن يقدم للقراء مثل هذه المعلومات الخاطئة قدم لهم معلومات صحيحة
تفيدهم وتنفعهم من الحث على الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، واتِّباعه، وترك ما نهى عنه وحذر من
البدع، فذلك خيرٌ وأبقى.
هذا؛ وسكون لي- إن شاء الله- مع هذا الكتاب جولة أخرى لمناقشته، وليس لي قصد من وراء ذلك إلا بيان الحق والنصيحة.
والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
* * *(210/6)
نواقض الإيمان الاعتقادية
وضوابط التكفير عند السلف
إعداد
د. محمد بن عبد الله بن علي الوهيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وبعد:
فلا يخفى على أهل العلم، أن الانحراف في فهم حقيقة الإيمان، هو أول خلل اعتقادي يظهر قي صفوف الأمة، فبدأ هذا الغلو والانحراف الخوارج، ثم ظهرت المرجئة بعكس قولهم، ولا تزال آثار انحرافاتهم في تلكم القضية تؤثر في كتابات وأبحاث كثير من المنتسبين إلي الإسلام، ولا عاصم من هذه الانحرافات - بإذن الله - إلا بالالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة في فهمهم لمسائل الإيمان والتكفير، وضوابطه على ضوء الكتاب والسنة وفهم الصحابة رضي الله عنهم، فمن هنا تبرز أهمية دراسة مذهبهم في الإيمان، ونواقضه، وضوابطها، يقول الإمام ابن رجب - رحمه الله - مبيناً أهمية هذه المسائل: (وهذه المسائل: أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائل عظيمة جداً، فإن الله - عز وجل - علق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، ثم خلاف المرجئة وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان، وقد صنف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسائل تصانيف متعددة، وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف الإمام أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن أسلم الطوسي، وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف)(1)
__________
(1) جامع العلوم والحكم 29.(211/1)
، لذلك آثرت أن يكون موضوع رسالتي للدكتوراه التركيز على جانب من جوانب الإيمان عند أهل السنة ونواقضه، لتركيز وتعميق الدراسة فيه، واستقصاء الأدلة ووجوه الاستدلال ما أمكن، فوقع اختياري على موضوع ((نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف)) وذلك لأسباب عديدة منها:
1- كثرة الخائضين في هذه المسائل بمعزل عن الضوابط الشرعية أو أكثرها، وخاصة عند حكمهم على الأفراد والمجتمعات، فمن مائل إلى جانب الإرجاء أو إلي جانب التكفير دون النظر إلى ضوابط التكفير وموانعه.
2- ندرة البحوث في هذا الجانب، سواء في مجال ضوابط التفكير بشكل عام، أو النواقض الاعتقادية.
3- أهمية التركيز على النواقض الاعتقادية باعتبارها أصل النواقض - كما سيأتي - فكل ناقض عملي مرجعه إلى فساد في الاعتقاد، إما من جهة الاستحلال أو الرد والإعراض أو الاستخفاف أو الامتناع.. الخ.
4- بيان أهمية النظر إلي ضوابط التكفير عند الكلام عن النواقض، لكي يتضح دقة أهل السنة والجماعة في مواقفهم وأحكامهم.
5- ومن الأسباب - أيضاً - معالجة بعض الانحرافات في هذا الموضوع، وسنشير إلي بعضها في هذا ((التمهيد)).
أما خطة البحث فهي كالتالي:
تتكون من مقدمة وتمهيد، وثلاثة أبواب:
أما المقدمة فتتضمّن أهميّة الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث.
والتمهيد يشتمل على:
1- التعريف بأهل السنة والجماعة.
2- التحذير من أهل الأهواء والبدع.
3- موقف أهل السنة منهم ((إجمالاً)).
4- خطورة الكلام في مثل هذه المسائل بغير علم.
5- أبرز الانحرافات في هذا الباب ((إجمالاً)).
6- وتقويم موجز لأهم المراجع التي بحثت الموضوع.
الباب الأول:
الإيمان عند أهل السنّة ومخالفيهم، وقد اشتمل على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الإيمان عند أهل السنة، عرضت فيه للمسائل التالية:
- تعريفه لغة واصطلاحاً.
- الإيمان اعتقاد وقول وعمل.
- صلة العمل بالإيمان.
- الإيمان والإسلام والعلاقة بينهما.(211/2)
- الإيمان يزيد وينقص.
- مراتب الإيمان.
الفصل الثاني: المعاصي وأثرها على الإيمان عند أهل السنة، وفيه عرضت ل-:
- المعاصي تنقسم إلى كبائر وصغائر.
- الفرق بين الكبائر والصغائر.
- حكم أهل الكبائر عند أهل السنة وأدلتهم.
الفصل الثالث: الإيمان عند الفرق ((إجمالاً))، عرضت فيه لأقوال الوعيدية والمرجئة مع مناقشة أهم أقوالهم وأدلتهم:
أ- الإيمان عند الوعيدية:
- تعريفه - قولهم في الزيادة والنقصان.
- موقفهم من نصوص الوعد والوعيد.
- الفرق بين الكبائر والصغائر عندهم.
- حكم أهل الكبائر عندهم.
ب- الإيمان عند المرجئة:
تعريف:
- الصلة بين الإيمان والعمل عندهم.
- موقفهم من الزيادة والنقصان.
- موقفهم من نصوص الوعد والوعيد.
- الكفر عندهم.
الباب الثاني:
ضوابط التكفير وموانعه عند أهل السنة: ويشتمل على فصلين:
الفصل الأول: ضوابط التكفير: وأهم مباحثه:
- الحكم بالظاهر وأدلة ذلك.
- الاحتياط في تكفير المعين ((ليس كل من قال الكفر أو عمله يكون كافراً)).
- ما تقوم به الحجة.
- عدم التكفير بكل ذنب.
الفصل الثاني: موانع التكفير وأهمها:
(1) الجهل: حالات الجهل، ومتى يكون عذراً؟
- أدلة العذر بالجهل.
- أدلة من لا يعذرون ثم الترجيح.
حكم من لم تبلغهم الدعوة.
(2) الخطأ: المراد به.
- الفرق بينه وبين الجهل.
- متى يكون عذراً في العقائد والأحكام؟
(3) الإكراه:
- المراد به.
- أنواعه، متى يكون عذراً؟
(4) التأويل:
- المراد به.
- متى يكون عذراً؟
(5) التقليد – المراد به في العقائد والأحكام.
- هل يكون عذراً؟
الباب الثالث:
نواقض الإيمان الاعتقادية، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: ما يناقض قول القلب: ويشمل:
1- كفر الجحود والتكذيب.
2- استحلال أمر معلوم تحريمه من الدين بالضرورة.
3- الشك في حكم من أحكام الله عز وجل أو خبر من أخباره.
4- من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -0
5- الجهل، ومتى يكون كفراً.(211/3)
6- الشرك في الربوبية.
7- اعتقاد ألوهية غير الله عز وجل.
الفصل الثاني: ما يناقض عمل القلب، ويشمل:
1- الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به.
2- النفاق الاعتقادي.
3- بغض أو كراهية بعض ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
4- كفر الإباء والاستكبار والامتناع.
- حكم من امتنع عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة.
- الفرق بين امتناع الفرد والطائفة.
5- الشرك الأكبر بعمل القلب كالمحبة والإرادة والقصد.
الفصل الثالث: العلاقة بين النواقض الاعتقادية وغيرها.
- مدى الارتباط بين النواقض الاعتقادية والقولية والعملية ((النواقض الاعتقادية)).
- أصل النواقض ((أمثلة لذلك)).
- فساد الظاهر دليل على فساد الباطن.
- الخاتمة.(211/4)
…ولقد حرصت - بقدر الإمكان - على العناية بصحة الدليل والاستدلال، وعلى توثيق النصوص والاعتماد على المصادر الأصلية، كما حرصت على تخريج الأحاديث، فإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت - في الغالب - بعزوه إليهما، لأن المقصود بيان صحة الحديث، وإن لم يكن في الصحيحين، عزوته إلي مواضعه المختلفة من كتب السنة الأخرى ثم بحثت عن حكم الأئمة عليه بالصحة أو الضعف، وكذلك ترجمت للأعلام غير المشهورين، ثم وضعت فهارس شاملة للبحث: فهرس الأحاديث والأعلام المترجم لهم، ومصادر البحث وفهرس تفصيلي للموضوعات، وأخيراً - بعد شكر الله عز وجل - أشكر كل من كان سبباً في إتمام هذا البحث، وأخص بالشكر كلية أصول الدين متمثلة في عميدها فضيلة الشيخ فالح الصغير، ووكيل الكلية للدراسات العليا، فضيلة الشيخ محمد السعوي ورئيس قسم العقيدة فضيلة الشيخ ناصر العقل، وكذلك أشكر الأستاذ المشرف فضيلة الشيخ عبد الرحمن المحمود الذي كان لعنايته ومتابعته أثر كبير في إتمام هذا البحث، وقد استفدت منه كثيراً وخاصة من سعة اطلاعه ودقة عباراته، كما أشكر المناقشين(1) الفاضلين الدكتور أحمد الحمد، والدكتور عبد العزيز الشهوان اللذان أفاداني بملاحظاتهم القيمة فجزى الله الجميع خيراً، وأسال الله - عز وجل - أن يرزقنا الإخلاص والصواب في أقوالنا وأعمالنا وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد الوهيبي
الرياض ص ب 85542
التمهيد
التعريف بأهل السنة ووجوب اتباع منهجهم:
__________
(1) تمت مناقشة الرسالة في 9/11/1414 ه- وحصل الباحث على درجة الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى.(211/5)
حيث إن هذا الموضوع يبحث ((نواقض الإيمان الاعتقادية، وضوابط التكفير عند السلف))، ويعالج بعض الانحرافات في هذا الباب عند المبتدعة، صار من المناسب التعريف بإيجاز - بأهل السنة، وبيان موقفهم - بشكل مجمل - من أهل الأهواء والبدع)).
السنة في الاصطلاح تأتي بعدة معان(1) ولا يعنينا في هذه المقدمة الموجزة تتبع تلك المعاني، وإنما يعنينا أن نعرف بمصطلح ((السنة)) أو ((أهل السنة)) كدلالة على اتجاه معين في الاعتقاد، يقول الإمام ابن رجب - رحمه الله -: (.... وعن سفيان الثوري قال: ((استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء))(2)
__________
(1) اجتهد بعض الباحثين في تتبع معاني السنة ومرادفاتها، ومن أوسع الدراسات في ذلك ما كتبه الشيخ عبد الرحمن المحمود في ( موقف ابن تيمية من الأشاعرة )) 1/4-38، وما كتبه الشيخ ناصر العقل في رسالة مستقلة بعنوان (( مفهوم أهل السنة والجماعة عند أهل السنة والجماعة ))، وما كتبه د. ناصر القفاري في مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة 1/23- 47، وانظر (( معالم الانطلاقة الكبرى )) لمحمد المصري 43- 60 وغيرها، وإلى هؤلاء رجعت في هذه الفقرة.
(2) رواه اللالكائي في شرح أصول أهل السنة رقم 49.
انظر نصا مقارباً في اللالكائي رقم 51 وأبي نعيم في الحلية 8/104.(211/6)
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفض--يل بن عياض يقول: ((أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من ح-لال))(1)، وذلك لأن اجت-ناب أكل الحرام من أعظم خصال السنة التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه - رضي الله عنهم - ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم: السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العلم تصانيف وسموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا هلكة، وأما السنة الكاملة فهي الطريقة المسالمة من الشبهات والشهوات) (2).
وأهل السنة، هم المتبعون لسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسنة أصحابه رضي الله عنهم، يقول الإمام ابن الجوزي - رحمه الله -:
(.. ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآثار أصحابه، هم أهل السنة، لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث: وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه) (3).
__________
(2) كشف الكربة 11 - 12.
(3) تلبس إبليس لابن الجوزي 16، وانظر الفصل لابن حزم 2/107.(211/7)
إذا أهل السنة يقصد به معينان: الأول: متابعة السنن والآثار الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم - والعناية بها وتمييز صحيحها من سقيمها والتزام موجبها من الأقوال والأعمال في مجال العقيدة والأحكام، الثاني: أخص من المعنى الأول، وهو الذي عناه بعض المصنفين، حيث سموا كتبهم باسم السنة كابن أبي عاصم وأحمد بن حنبل وابنه والخلال وغيرهم، ويعنون بذلك الاعتقاد الصحيح الثابت بالنص والإجماع، وفي كلا المعنيين يتبين لنا أن مذهب أهل السنة امتداد لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضوان الله عليهم، أما التسمية بأهل السنة فنشأت بعد الفتنة عند بداية ظهور الفرق، قال ابن سيرين - رحمه الله -: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) (1)
__________
(1) رواه مسلم في مقدمة صحيحة ص 15.(211/8)
وسئل الإمام مالك - رحمه الله - (من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به لاجهمي ولا قدري ولا رافضي) (1) ثم لما صارت للجهمية شوكة ودولة امتحنوا الناس ودعوهم إلى التجهم بالترغيب والترهيب فآذوا الناس وعذبوهم، بل وقتلوا بعض من لم يقل بقولهم، فسخر الله لأهل السنة الإمام أحمد - رحمه الله - حيث صبر على امتحانهم وابتلائهم، وناظرهم، وفند حججهم، وأعلن السنة وأظهرها ووقف في وجه أهل البدع والكلام، فصار بسبب ذلك يقلب بإمام أهل السنة والجماعة، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (.. وأحمد بن حنبل، وإن كان قد اشتهر بإمام السنة والصبر في المحنة، فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولاً، بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها، وصبر على من امتحنه ليفارقها، وكانت الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة..) (2)
نستنتج مما سبق أن مصطلح أهل السنة اشتهر عند الأئمة المتقدمين: كمصطلح مقابل ((لمصطلح أهل الأهواء والبدع)) من الرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة وغيرهم، فأهل السنة هم الذين بقوا على الأصل الذي كان عليه رسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
أهل السنة والجماعة:
__________
(1) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر 35.
(2) منهاج السنة 2/601 ،602 وانظر نصا مشابهاً في درء التعارض 5/605.(211/9)
ويطلق على أتباع مذهب السلف الصالح في الاعتقاد، أهل السنة والجماعة، وقد وردت أحاديث كثيرة تأمر بلزوم الجماعة وتنهي عن الفرقة والخروج (1)، وقد اختلف العلماء في المقصود بالجماعة على عدة أقوال (2)، أحدها أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، الثاني أنهم الأئمة المجتهدون، الثالث: أنهم الصحابة رضي الله عنهم، الرابع: هم جماعة المسلمين إذا أجمعوا على أمر، الخامس: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير.
__________
(1) في هذا الباب رسالة قيمة جمع للنصوص الواردة في ذلك، وعنوانها (( وجوب لزوم الجماعة وذم التفرق )) د. جمال بن أحمد بادي، انظر ص 15 - 117.
(2) الاعتصام 2/260 -265.(211/10)
وحاصل هذه الأقوال، يرجع إلى معنيين (الأول: أن الجماعة هم الذين اجتمعوا على أمير على مقتضى الشرع، فيجب لزوم هذه الجماعة، ويحرم الخروج عليها وعلى أميرها، الثاني: أن الجماعة ما عليه أهل السنة من الاتباع، وترك الابتداع، وهو المذهب الحق الواجب اتباعه والسير على منهاجه، وهذا معنى تفسير الجماعة بالصحابة، أو أهل العلم والحديث، أو الإجماع، أو السواد الأعظم...)(1)، يقول أبو شامة - رحمه الله -: (حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وان كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيراً، لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى م-ن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم، ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم)(2)،ويقول شيخ الإسلام (وسموا أهل الجماعة،لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين، ((والإجماع)) هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين، وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين..) (3)، ومصطلح ((أهل السنة والجماعة)) يؤدى نفس المعنى الذي يؤديه مصطلح ((أهل السنة)) فعامة استعمالات الأئمة له، مقابل أهل البدع والأهواء، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قوله - تعالى -:
__________
(1) موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/17.
(2) الحوادث والبدع لأبي شامة، 22.
(3) مجموع الفتاوي 3/175، ويقول أيضاً : ( والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال : أهل السنة والجماعة، كما يقال : أهل البدعة والفرقة ....) الاستقامة 1/42.(211/11)
(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (1)(فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة)(2).
وقال سفيان الثوري - رحمه الله -: (إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة وآخر بالمغرب فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة) (3)، وقال عمرو بن قيس الملائي (4): (إذا رأيت الشاب أول ماينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايأس منه، فإن الشاب على أول نشوئة) (5)، إذاً يمكن أن نعتبر مسمى أهل السنة والجماعة بين الفرق، كمسمى المسلمين بين الملل، فالانتساب إليه والتسمي به واستعماله كدلالة على صحة الاعتقاد والمنهج أمر حسن وسائغ باعتباره انتساباً لاسم شرعي وقد استعمله أئمة السلف، ومن أكثر الأئمة استعمالاً لهذا المصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (6)
__________
(1) سورة آل عمران، آية : 106.
(2) رواه اللالكائى 1/72، وابن بطة في الشرح والإبانة 137، ونسبة السيوطي إلى الخطيب في تاريخه وابن أبي حاتم، الدر المنثور 2/63.
(3) رواه اللالكائي في شرح السنة 1/64، وابن الجوزي في تلبيس إبليس 9.
(4) عمرو بن قيس الملائي : روى عن أبي اسحاق السبعي والمنهال بن عمرو وغيرهم وروى عنه الثوري وإسماعيل بن أبي خالد وغيرهم، ثقة متقن عابد، مات في سجستان سنة 146 ه- انظر تهذيب التهذيب 8/92/93 والتقريب 2/77.
(5) رواه ابن بطة في الإبانة 1/205، 206.
(6) انظر على سبيل المثال فهارس بعض كتبه، ففيها عشرات الاستعمال لهذا المصطلح، منهاج السنة 9/409، درء التعارض 11/285، الاستقامة 2/449، فقد ورد (( مصطلح أهل السنة والجماعة )) في هذا الكتب أربعاً وتسعين مرة، وأما مصطلح (( أهل السنة )) فأضعاف ذلك، وانظر نصوصاً أخري في (( معالم الانطلاقة )) 65- 164، وقد استعمله الأئمة قبله كما في هذه النصوص، وقد سمى الإمام اللالكائي كتابه (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ))، وانظر الشريعة للآجري 62، واللالكائي 1/183، والطحاوى كما في شرح الطحاوية - 43، وتلبس إبليس 5 والتمهيد لابن عبد البر 4/242 وتفسير ابن كثير 4/234 وغيرها.(211/12)
.
الأشاعرة والماتريدية ومصطلح أهل السنة والجماعة:
…يكثر استعمال هذا المصطلح بين الأشاعرة والماتريدية، ويعتبر كثير منهم أن مذهب السلف ((أهل السنة والجماعة)) هو ما قاله أبو الحسن الأشعرى وأبو منصور الماتريدي، وبعضهم يعتبر أهل السنة والجماعة ((الأشاعرة والماتريدية))، ويقول الزبيدي (1): (إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية) (2)، ويقول صاحب الروضة البهية: (اعلم أن مدار جميع عقائد أهل السنة والجماعة على كلام قطبين، أحدهما الإمام أبو الحسن الأشعري. والثاني الإمام أبو منصور الماتريدي...) (3)، أما الإيجي فيقول: (.. وأما الفرقة الناجية المستثناة: الذي قال فيهم: ((هم الذي--ن على ما أنا عليه وأصحابي)) فهم الأشاع-رة والسلف من المحدثين وأهل السنة والجماعة)(4)، ويقول حسن أيوب من المعاصرين: (أهل السنة هم أبو الحسن الأشعرى وأبو منصور الماتريدي ومن سلك طريقهما، وكانوا يسيرون على طريقة السلف الصالح في فهم العقائد)(5)،وعامة هؤلاء يذكرون عقائد الأشاعرة والماتريدية على انها مذهب أهل السنة والجماعة،وليس المقصود هنا مناقشة هذا الادعاء الباطل،وإنما أردت ذكر فائدتين في هذا المجال:
__________
(1) هو محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الملقب بمرتضى، ولد بالهند سنة 1145 ه-، ومنشأة في زبيد باليمن، علامة باللغة والحديث له مصنفات كثيرة من أشهرها (( تاج العروس في شرح القاموس )) عشرة مجلدات و(( إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين )) عشر مجلدات، توفي بمصر سنة 1205 ه-، انظر الأعلام 7/70.
(2) إتحاق السادة المتقين 2/6.
(3) الروضة البهية لأبي عذبه 3.
(4) المواقف 429.
(5) تبسيط العقائد الإسلامية 229 ،وانظر التبصير في أصول الدين 153، والتمهيد للنسفي 2،والفرق بين الفرق 323،واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى 15 وغيرهم.(211/13)
الأولى: أن استعمال الأشاعرة والماتريدية ومن تأثربهم لهذا المصطلح،لا يغير شيئا من حقيقة ابتداعهم وانحرافهم عن منهج السلف الصالح في أبواب كثيرة لا
مجال لتفصيلها هنا(1) وسيأتي في الباب الأول مناقشة لمذهبهم في الإيمان حيث ذهبوا في ذلك مذهب المرجئة.
الثانية: إن استعمالهم لهذا المصطلح لا يمنعنا من استعماله والتسمي به باعتباره اسماً شرعياً استعمله أئمة السلف، ولا يعاب من يستعمله أو يذم، إنما يعاب إذا خالف اعتقاد ومذهب السلف الصالح في أي أصل من الأصول.
التحذير من أهل الأهواء والبدع وموقف أهل السنة منهم " إجمالا ":
من الأصول المقررة في مذهب السلف، التحذير من أهل البدع ويتمثل ذلك بذمهم وهجرهم وتحذير الأمة منهم والنهي عن مجالستهم ومصاحبتهم ومجادلتهم، ونحو ذلك، ولهم في ذلك أقوال كثيرة مشتهرة، لعلنا نشير إلى شيء منها، قال الإمام أحمد رحمة الله: (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهم، وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء وترك المراء والجدال...)(2)
__________
(1) انظر - على سبيل المثال - رسالة الشيخ سفر الحوالي " منهج الأشاعرة في العقيدة "
(2) شرح اعتقاد أهل السنة اللالكائي 1/241(211/14)
وك-ان الإمام الحسن البصري - رحمه الله - يق-ول: (لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم)(1) وقال الإمام ابن المبارك - رحمة الله -: (.. وإياك أن تجالس صاحب بدعة)(2) وقال أبو قلابة:(3)(لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوك--م في الضلال-ة أو يلبسوا في الدين بعض ما لبس عليهم) (4)(5)
ولخص الإمام الصابوني مذهب السلف في ذلك فقال: (ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه ولا يحبونهم ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم ولايصحبونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت بالقلوب ضرت وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت..)(6)
__________
(1) رواه الدارمي في سننه رقم 407 وابن بطة في الإبانة ص 444 واللالكائى في شرح أصول أهل السنة رقم 240 وابن عبد البر في جامع بيان العلم 2/96، وابن وضاح ص 47، عن الحسن وابن سيرين.
(2) رواه اللالكائي في شرح أصول السنة رقم 260، والآجري في الشريعة 1/64.
(3) هو عبد الله بن زيد بن عمرو أبو قلابة الجرمي روى عن جمع من الصحابة منهم أنس بن مالك، ومالك بن الحويرث، وسمرة بن جندب وغيرهم، وروى عنه أيوب السخيتاني ويحيى بن أبي كثير وغيرهما، قال عمر بن عبد العزيز : لن تزالوا بخير يا أهل الشام مادام فيكم هذا،
(4) وقال أيوب : كان والله من الفقهاء ذوي الألباب، كان يرسل، توفي بالشام سنة 104 ه- روى له أصحاب الكتب الستة، انظر التهذيب 5/224 - 226، والتقريب 1/417.
(5) رواه اللالكائي رقم 244، وعبد الله بن أحمد في السنة 18، والدارمي رقم 397، والبيهقي في الاعتقاد 238، وابن بطه في الإبانة 2/435 والآجري في الشريعة ص 56، وابن وضاح 48
(6) عقيدة أصحاب الحديث ص 100(211/15)
ثم نقل إجماع السلف على ذلك حيث قال - رحمة الله -: (.. واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخراجهم وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم ومن مصاحبتهم..)(1)، وممن نقل الإجماع على ذلك القاضي أبو يعلى - رحمه الله - حيث قال: (أجمع الصحابة، والتابعون على مقاطعة المبتدعة)(2)
وممن نقل ذلك الإمام البغوي - رحمه الله - حيث قال: (.. وقد مضت الصحابة والتابعون، وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع، ومهاجرتهم...)(3) والمقصود من الهجر، زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، وإظهار السنة وإماتة البدعة، ولكن هناك أسس وضوابط لابد من مراعاتها ويمكن تلخيصها بما يلي:
أن البدع مراتب مختلفة منها ما يوصل صاحبها إلى الكفر، ومنها ما دون ذلك، ومنها البدعة الحقيقية، ومنها الإضافية، فالموقف يختلف بحسب مرتبة البدعة
أن أهل السنة يفرقون بين الداعية للبدعة وغيره، وبين المعلن لها والمسر
ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، وكون صاحبها مجتهداً أو مقلداً (4)
ومن وجهة كونه مصراً عليها أو غير مصر كأن تكون فلتة أو زلة عالم ثم لم يعاودها (5)
أيضا يفرق في الهجر وإظهار العداوة بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، فصارت لهم القوة والدولة وبين الأماكن التي يغلب فيها السنة (فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة كانت مشروعية هجر المبتدع قائمة على أصلها، وإن كانت القوة والكثرة للمبتدعة - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بالهجر ولا يحصل المقصود الشرعي، لم يشرع الهجر وكان مسلك التأليف، خشية زيادة الشر)(6)
__________
(1) عقيدة أصحاب الحديث 112
(2) انظر رسالة " هجر المبتدع " للشيخ بكر أبو زيد ص 32
(3) شرح السنة 1/226 - 227
(4) الاعتصام 1/172، وانظر 146 من الكتاب نفسه
(5) المرجع السابق 1/174
(6) هجر المبتدع 45(211/16)
ذم أهل السنة للمبتدعة والتحذير منهم لم يمنعهم من ذكر ما عند بعضهم من إيجابيات في نصرة الإسلام من جهاد ونحوه أو رد بعضهم على من هو أشد انحرافاً كرد الأشاعرة على المعتزلة ورد المعتزلة على الفلاسفة ونحو ذلك.
كذلك الذم والهجر لا يمنع الاعتراف بما في كلامهم من حق وصواب، ربما لدى بعضهم من زهد وعبادة (1) ولذلك يقبل أهل الحديث والسنة رواية المبتدع غير الداعية إذا توفرت فيه شروط الرواية المعروفة، مع شروط خاصة بذلك - لا مجال لتفصيلها هنا -
أيضاً إذا دعت الضرورة أو الحاجة لمناظرتهم ومجادلتهم - كأن يخشى فتنة العامة أو يطمع برد الشبهة فتشرع المناظرة في هذه الحالة
وأخيراً يجب أن نعلم أن مسألة هجر المبتدع تندرج تحت القاعدة الإسلامية الكبرى " الولاء والبراء " ولذلك فالمبتدع إذا كانت بدعته غير مكفرة لا يعادى من كل وجه كالكافر، وإنما يعادى ويبغض على حسب مامعه من بدعة ويحب ويوالى على حسب ما معه من إيمان
__________
(1) انظر في هذه الفقرة والتي قبلها در التعارض 2/101-103، 8/275 منهاج السنة 2/242، الفرقان بين الحق والباطل 63 - 64، نقض تأسيس الجهمية 2/87، مجموع الفتاوى 13/99 وغيرها كثير(211/17)
وإليك بعض النصوص عن أئمة السلف في بيان بعض الضوابط السابقة، يقول الإمام الآجري في بيان متى يشرع مناظرة المبتدع: (فإن قال قائل: فإن اضطر المرء وقتاً من الأوقات إلى مناظرتهم وإثبات الحجة عليهم ألا يناظرونهم؟ قيل الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء - فيمتحن الناس ويدعوهم إلى مذهبه - تفعل كما مضى في وقت أحمد بن حنبل - رحمه الله - ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء فلم يجد العلماء بدا من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختياراً فأثبت الله - عز وجل - الحق مع أحمد بن حنبل)(1) ويقول الإمام ابن عبد البر: (إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل، وصرف صاحبه عن مذهبه، أو خشي ضلال عام--ة أو نحو هذا)(2)
ويقول الإمام الشاطبي - رحمه الله - مبيناً اختلاف الهجر بحسب البدعة وصاحبها: (... إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد والإبعاد أو الإنكار هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين، أم لا؟ وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا؟ وداعياً إليها أو لا؟ ومستظهراً الأتباع وخارجاً عن الناس أو لا؟ وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا؟ وكل من هذه الأقسام له حكم اجتهادي يخصه، إذا لم يأت في الشرع في البدعة حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه) ثم بين - رحمه الله - اختلاف اجتهاد الأئمة في مواقفهم من المبتدعة بحسب ذلك من الطرد والإبعاد، أو السجن والقتل، أو التجريح والتشهير أو المناظرة والمداراة الخ(3)
__________
(1) الشريعة 62
(2) جامع بيان العلم وفضله 2/95
(3) الاعتصام 1/175 - 177(211/18)
ولشيخ الإسلام في هذا المجال أقوال كثيرة نشير إلى شيء منها، يقول - رحمه الله - مبيناً اختلاف حكم الهجر باختلاف حال الهاجرين: (... وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين.. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه)(1) ويقول - رحمه الله - في بيان الفرق بين الداعية إلى البدعة وغير الداعية: (.. فأما من كان مستتراً بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة، إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولاً أو عملاً، وأما من أظهر لنا خيراً فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم – يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لما جاءوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون، ولهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون راوية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت....)(2)، ويقول – رحمه الله-.. (.. إذا اجتمع في
__________
(1) مجموع الفتاوى 28 /207,206 وانظر 212 من الكتاب نفسه
(2) مجموع الفتاوى 24 / 175، وانظر 35 / 411(211/19)
الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس إلا(1) مستحقاً للثواب فقط وإلا (2) مستحقاً للعقاب فقط....)(3)
ونختم هذه النقولات عن شيخ الإسلام، بنص قيم يبين فيه أن الرجل لا يعتبر مبتدعاً إلا بمخالفته أمراً مجمعاً عليه، أما الخلاف في مسائل الاجتهاد فلا تبديع فيه، يقول: (.. والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء، ما اشتهر عند أهل العلم، بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدع الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة......)(4)
ويقول أيضاً: (من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع....)(5)
__________
(1) في الأصل " لا " وهو خطأ
(2) مجموع الفتاوى 28 / 209
(3) نفسه 35 / 414
(4) نفسه 35 / 414
(5) نفسه 24 / 172، وانظر 4 / 425(211/20)
والخلاصة في هذا المبحث (أن الأصل في الشرع هو هجر المبتدع لكل ليس عامًا في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع، وترك الهجر والإعراض عنه بالكلية، تفريط على أي حال وهجر لهذا الواجب الشرعي المعلوم وجوبه بالنص والإجماع وأن مشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد، وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها، واختلاف مبتدعها واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة...) (1).
خطورة الكلام في مثل هذه المسائل بغير علم:
__________
(1) هجر المبتدع 41، ولبيان مواقف السلف من المبتدعة انظر الاعتصام 1/167 - 177، والإبانة لابن بطة 2/429 - 482، شرح السنة للبغوي 1/210 - 230، شرح أصول الاعتقاد اللالكائي 1/114 - 150 الشريعة للآجري 54 - 66، والاعتقاد للبيهقي 236 - 239، البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي 47 - 53، وانظر نصوصاً لشيخ الإسلام في هذا الأمر في معالم الانطلاقة الكبرى 149 - 164، وانظر تفصيلاً جيداً لأحكام المبتدعة وحالاتهم في كتاب حقيقة البدعة وأحكامها لسعيد بن ناصر الغامدي 2/223 - 374 وهو من أفضل الكتب المعاصرة عن البدعة وأحكامها وانظر، رسالة الشيخ بكر أبو زيد (( هجر المبتدع )) فهي رغم صغر حجمها متميزة في بابها.(211/21)
الكلام في هذه المسائل ينبني عليه أحكام دنيوية وأخروية كثيرة، لا مجال لتفصيلها، ومن هنا حذر أهل العلم من الكلام في ذلك بغير حجج شرعية واضحة، يقول الإمام الشوكاني - رحمه الله - (اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية عن جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)) (1)، ويحذر الشيخ عبد الله بن محمد عبد الوهاب - رحمه الله - من الكلام في هذه المسائل، والحكم على الناس بغير علم فيقول: (وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألاَُ يتكلم في هذه المسألة إلاّ بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام، أو إدخاله فيه من أعظم أمور الدين.. وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا م-ن حكم الكتاب والسنة والإجماع بأنه مسلم) (2)، وعند الكلام عن مسألة ((الاحتياط في تكفير المعين)) سنشير إلى بعض النصوص وكلام أهل العلم في ذلك.
أبرز الانحرافات في هذا الموضوع:
وهذا من أهم الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع، حيث كثر اللبس والانحرافات لدى بعض من يتطرق إلى هذه الموضوعات، ومن أبرز ذلك:
أ- تبني منهج الوعيدية أو من يقابلهم من المرجئة، للجهل بحقيقة هذين المذهبين.
ب- عدم التفريق - أحياناً - بين التكفير بالعموم وتكفير المعين.
ج- - عدم التفريق في الحكم بين من ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو ينكر مادون ذلك.
د- الخلط - أحياناً - بين ما يعتبر كفراً مخرجاً من الملة أو غير مخرج.
__________
(1) السيل الجرار 4/578.
(2) الدرر السنية 8/217.(211/22)
ه- – الانحراف لدى البعض في حد الجهل الذي يعذر صاحبه والذي لا يعذر، ومتى يعذر؟
و- وكذلك، ما الفيصل بين التأويل الذي يكفر صاحبه والذي لا يكفر، وما الحكم في الفرق المؤولة؟
ز- وهل يفرق بين الخطأ في أمور الاعتقاد والخطأ في أمور العمل؟
وكل ذلك يحتاج إلى جهد في التأصيل والاستقصاء وتتبع للأدلة ولكلام الأئمة لإبراز منهج السلف الصالح ودقتهم في مثل هذه المسائل العظام، أسأل الله - عز وجل - أن يكون في هذا البحث بعض الإسهام لإبراز هذا المنهج وتجليته.
أهم المراجع التي بحثت الموضوع:
يمكن تقسيم البحث إلى ثلاثة أقسام: الأول: مفهوم الإيمان عند أهل السنة ومخالفيهم ويشمل حقيقته، وأنه قول وعمل يزيد وينقص، والموقف من أهل المعاصي، والرد على الوعيدية والمرجئة في مفهومهم للإيمان وموقفهم من أهل المعاصي، والبحوث والدراسات في هذا القسم كثيرة ومن أبرزها "الإيمان" للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، ومباحث الإيمان في كتاب " تعظيم قدر الصلاة" للمروزي(1)، "والإيمان" للإمام محمد بن إسحاق بن منده "والإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو من أوسع وأعمق الكتب في هذا الباب، ومن الكتابات المعاصرة كتاب "الإيمان أركانه، حقيقته، نواقضه"، للدكتور محمد نعيم ياسين وهو من الكتابات المتميزة، وقد بحث بعض النواقض العملية والقولية، وكتاب " حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة" لمحمد عبد الهادي المصري إلى غير ذلك من الكتب (2).
__________
(1) انظر تعظيم قدر الصلاة 341-870.
(2) انظر بعضها في مقدمة كتاب الإيمان للحافظ محمد بن يحيى العدني (ت 243) تحقيق حمد حمدي الحربي ص 14.(211/23)
أما القسم الثاني: وهو ضوابط التكفير وموانعه، فلم أطلع إلا على رسالة واحدة تجمع أكثر هذه الضوابط وهي رسالة "ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة" لعبد الله بن محمد القرني، وهو رسالة متميزة في بابها اجتهد الباحث في معالجة إشكالات كثيرة في هذا الجانب، ومن أميز ما في الرسالة – حسب رأيي – الرد المركز على جماعات التكفير والتوقف والمرجئة، أما البحوث والرسائل المستقلة عن بعض الضوابط، فتوجد بعض الرسائل المفردة في ذلك في مسألة "العذر بالجهل" وكذلك في "الإكراه"(1)، أما بقية الضوابط فلم أطلع على دراسات مستقلة عنها، وإنما مباحث قصيرة متفرقة ضمن بعض الكتب أو الدراسات.
والقسم الثالث من البحث حول نواقض الإيمان الاعتقادية، فلم أطلع على أية دراسة أو بحث يجمع أو يحاول جمع هذه النواقض، وإنما تبحث بعض هذه النواقض ضمن النواقض الأخرى، ومن الرسائل المتميزة في النواقض بشكل عام رسالتان: الأولى: رسالة "التكفير والمكفرات" لحسن بن علي العواجي وهي عبارة عن رسالة ماجستير من قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة 1407ه-، ((مطبوعة علي الآلة الكاتبة))وهذه الرسالة وإن كانت في المكفرات بشكل عام إلا أن تركيز الباحث انصب علي النواقض القولية والعملية أما الاعتقادية فلم يبحث منها إلا كفر الجحود والإنكار، والاعتقاد بأن بعض الناس يسعه الخروج على الشريعة، أيضاً بحث بعض الضوابط مثل الجهل والتأويل وعامة ما بحث في الرسالة بذل فيه جهد مناسب على ضوء منهج السلف الصالح وطريقتهم في البحث والاستدلال.
__________
(1) ستأتي الإشارة إلى هذه الكتب حين بحث هذه الضوابط.(211/24)
والرسالة الثانية: ((نواقض الإيمان القولية والعملية)) للشيخ عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، وهي رسالة دكتواره مقدمة لقسم العقيدة بجامعة الإمام وهي خاصة بالنواقض القولية والعملية (1) ورغم ذلك فقد درس الباحث بعض النواقض الاعتقادية مثل الإعراض التام عن دين الله، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة (2) وكذلك بعض الضوابط كالعذر بالجهل والتأويل، وهذه الرسالة تتميز بالدقة والتوثيق والمنهج السليم، وهي - بلا شك - تسد ثغرة في هذا المجال، وهناك كتب ورسائل أخرى (3)في هذا الباب أكثرها يعالج ناقضاً أو أكثر من النواقض القولية والعملية، وقد حرصت على الاستفادة من كافة الجهود في هذا المجال.
الباب الأول
الإيمان عند أهل السنة ومخالفيهم
الفصل الأول: الإيمان عند أهل السنة
الفصل الثاني: المعاصي وأثرها على الإيمان عند أهل السنة
الفصل الثالث: الإيمان عند الفرق "إجمالا"
أولا: تعريف الإيمان لغة واصطلاحا
الإيمان لغة: الإيمان له في لغة العرب استعمالان:
فتارة يتعدى بنفسه فيكون معناه التأمين أي إعطاء الأمان، وآمنته ضد أخفته، وفي الكتاب العزيز (وآمنهم من خوف)(4) فالأمن ضد الخوف
وفي الحديث الشريف: " النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم، أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ماتوعد " (5)
__________
(1) وهي تتكامل مع هذه الرسالة، وقد طبعت في دار الوطن للنشر بالرياض
(2) يمكن أن يكون الإنكار باللسان، ويمكن أن يكون بالقلب
(3) انظر أمثلة لهذه الكتب في رسالة التكفير والمكفرات 1/40-52
(4) سورة قريش، آية 5
(5) رواه مسلم في " فضائل الصحابة " باب بيان أن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم - أمان لأصحابه..." رقم 2531(211/25)
قال ابن الأثير (1)الأمنة في هذا الحديث جمع أمين، وهو الحافظ(2) وقوله - عز وجل -: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وآمنا)(3) قال أبو إسحاق: أراد ذا أمن فهو آمن وأمن وأمين وفي الكتاب العزيز: (وهذا البلد الأمين) (4) أي الآمن يعني مكة
وقوله - عز وجل - (إن المتقين في مقام أمين)(5) أي قد أمنوا فيه الغير واستأمن إليه: دخل في أمانة، وقد أمنه وآمنه وقرئ في سورة براءة: (إنهم لا إيمان لهم)(6) (7) أي أنهم إن أجاروا وأمنوا المسلمين لم يفوا وغدروا، والإيمان هاهنا الإجارة
والأمنة والأمانة نقيض الخيانة
وفي الحديث: " المؤذن مؤتمن "(8)مؤتمن القوم: الذي يثقون فيه ويتخذونه أميناً حافظاً، تقول: اؤتمن الرجل فهو مؤتمن، يعني أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم
__________
(1) ابن الأثير : مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد الشيباني الجزري، ولد سنة 544 ه- في جزيرة ابن عمر - بلدة فوق الموصل - وقد جمع بين علم العربية والقرآن والحديث والفقه، وصنف تصانيف مفيدة من أشهرها " جامع الأصول " " والنهاية في غريب الحديث" توفى في الموصل سنة 606 ه- انظر مقدمة جامع الأصول للشيخ عبد القادر الأرناؤط
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر 1/69 - 71
(3) سورة البقرة، آية 125
(4) سورة التين آية : 3
(5) سورة الدخان، آية 51
(6) سورة التوبة، آية 12
(7) انظر تفسير الطبري (تحقيق شاكر) 14/157
(8) رواه أبو داود في الصلاة "باب ما يجب على المؤذن " رقم 517، والترمذي في الصلاة " باب ما جاء أن الإمام هنا من ..." رقم 207 والإمام أحمد في المسند 2/377، 378، 419، 514 وغيرهم، صححه الإمام الشوكاني في نيل الأوطار 1/334، والشيخ الألباني في الإرواء، وأحمد شاكر في تحقيقه للمسند، وانظر طرقاً أخرى للحديث في سنن الترمذي ( تحقيق شاكر ) 1/450 وإرواء الغليل 1/231 - 235(211/26)
والمؤمن من أسماء الله تعالى. قيل: في صفة الله الذي أمن الخلق من ظلمه وقيل: المؤمن الذي آمن أولياءه عذابه وقيل: المؤمن الذي يصدق عباده ما وعدهم قال ابن الأثير: (في أسماء الله تعالى المؤمن وهو الذي يصدق عباده وعده فهو من الإيمان التصديق، أو يؤمنهم في القيامة عذابه، فهو من الأمان ضد الخوف)(1).
2- وتارة يتعدى بالباء أو الكلام فيكون معناه التصديق.
وفى التنزيل: (وما أنت بمؤمن لنا) (2) أي بمصدق، آمنت بكذا، أي صدقت. والمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر.
والأصل في الإيمان الدخول في صدق الأمانة التي ائتمنه الله عليها، فإذا اعتقد التصديق بقلبه كما صدق بلسانه فقد أدى الأمانة، وهو مؤمن، ومن لم يعتقد التصديق بقلبه فهو غير مؤد للأمانة التي ائتمنه الله عليها، وهو منافق.
قال الزجاج (3): أما قوله عز وج-ل: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها....)(4) والذي عندي فيه أن الأمانة ههنا النية التي يعتقدها الإنسان فيما يظهره باللسان من الإيمان، ويؤديه من جميع الفرائض في الظاهر، لأن الله - عز وجل - ائتمنه عليها ولم يظهر عليها أحداً من خلقه، فمن أضمر التوحيد والتصديق مثل ما أظهر فقد أدى الأمانة، ومن أضمر التكذيب، وهو مصدق باللسان في الظاهر فقد حمل الأمانة ولم يؤدها (5).
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثير 1/69، 71
(2) سورة يوسف، آية 17.
(3) الزجاج : هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج : عالم بالنحو واللغة ولد ببغداد سنة 241ه-، له كتب كثيرة (( معانى القرآن ))، (( وإعراب القرآن )) في ثلاثة أجزاء، توفي ببغداد سنة 311 ه-، تاريخ بغداد 6/89، وفيات الأعيان 1/11 .
(4) سورة الأحزاب، آية : 72.
(5) لسان العرب 13/24.(211/27)
وقوله عز وجل: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) (1)، وقال ثعلب: يصدق الله ويصدق المؤمنين. ومنه قوله - عز وجل -: (قولوا آمنا بالله) (2)، و(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)(3)، ويفهم من الكلام السابق، أن التصديق كما يكون بالقلب واللسان يكون بالجوارح أيضاً، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والفرج يصدق ذلك أو يكذبه))(4).
قال الجوهري (5): (والصديق مثال الفسيق: الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل) (6). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية بعض التنبيهات المهمة حول الفوارق بين التصديق والإيمان من جهة اللغة ومنها:
(أن الإيمان ليس مرادفاً للتصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان ليس فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة، كقوله: طلعت الشمس وغربت، أنه يقال: آمناه، كما يقال: صدقناه: فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل فيما يؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب، ولهذا لم يوجد قط في القرآن الكريم وغيره لفظ، آمن له إلا في هذا النوع) (7).
__________
(1) التوبة، آية : 61.
(2) البقرة، آية : 136.
(3) البقرة، آية : 75 .
(4) رواه البخاري : كتاب الاستئذان (( باب زنا الجوارح دون الفرج )) رقم 6343. ومسلم : كتاب القدر (( باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا )) رقم 2657.
(5) **) إسماعيل بن حماد الجوهري من أئمة اللغة، أشهر كتبه (( الصحاح )) مات في نيسابور سنة 393 ه-. الأعلام 1/313 .
(6) الصحاح مادة صدق.
(7) الإيمان 276، وراجع الإيمان الأوسط 71.(211/28)
(أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب، كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه، أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له، أو مكذب له، بل المعروف في مقابله الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب...) (1).
الإيمان شرعا
ذهب عامة أهل السنة إلى أن الإيمان الشرعي هو اعتقاد وقول وعمل.
قال الإمام محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني:
(والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب، والعمل بالأركان). (2)
وقال الإمام البغوي: (اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان.. وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة).(3)
وقال الحافظ ابن عبد البر: (أجمع أهل الفقة والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية... إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيماناً(4)...) (5).
(قال الإمام الشافعي في ((كتاب الأم)).. وكان الإجماع من الصحابة، والتابعين من بعدهم ممن أدركنا: أن الإيمان قول وعمل ونية لا يجزيء واحد من الثلاثة عن الآخر)(6).
__________
(1) الإيمان 277، وانظر في معنى الإيمان لغة، لسان العرب 13/21 - 27، والقاموس المحيط 4/197، مختار الصحاح 26 النهاية لابن الأثير 1/69، الصحاح للجوهري، والمختار من كنوز السنة، د. محمد عبد الله دراز رحمه الله ص 57.
(2) مسلم بشرح النووي 1/146.
(3) شرح السنة 1/38، 39.
(4) وسيأتي إن شاء الله مناقشة رأيهم هذا.
(5) التمهيد 9/238 وراجع 243 منه.
(6) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 5/886.(211/29)
وروى الإمام اللالكائي(1) عن الإمام البخاري قوله: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص (2).
والنصوص عن الأئمة كثيرة جداً في قولهم: إن الإيمان قول وعمل، نقل كثيراً منها المصنفون في عقيدة أهل السنة من الأئمة المتقدمين كالإمام اللالكائي وابن بطه (3) وابن أبي عاصم وغيرهم.
ولا فرق بين قولهم: إن الإيمان قول وعمل، أو قول وعمل ونية، أوقول وعمل واعتقاد. فكل ذلك من باب اختلاف التنوع، فمن قال من السلف: إن الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.
ومن زاد الاعتقاد رأى لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد بالقلب.
ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد (قول القلب)، وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية (عمل القلب)، فزاد ذلك(4).
__________
(1) الإمام اللالكائي : أبو القاسم، هبة الله بن الحسن بن منصور الطبرى اللالكائي، درس فقه الشافعي على أبي حامد الإسفرائيني، وروى عنه، الخطيب البغدادي وغيره له مصنفات من أشهرها (( شرح أصول اعتقاد أهل السنة )) وهو من أجمع الكتب في عرض أصول أهل السنة والآثار عن السلف في ذلك، توفي سنة 418 ه-، انظر سير أعلام النبلاء 17/419، تاريخ بغداد 14/70.
(2) نفسه، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 1/47.
(3) عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري المعروف بابن بطة، ولد سنة 304 ه- سمع من إسماعيل الوراق، وأبي القاسم الخرقي، وأبو بكر عبد العزيز وغيرهم، صاحب زهد وعبادة وكان أماراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، له مصنفات كثيرة من أشهرها وأعظمها (( الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية )) يعد من كبار الحنابلة، توفي سنة 387 ه- انظر المنهج الأحمد 2/81 - 85 وطبقات الحنابلة 2/144 وتاريخ بغداد 10/3721.
(4) انظر الإيمان لابن تيمية 163، والإيمان الأوسط 47، 48.(211/30)
خلاصة ما سبق من حقيقة الإيمان الشرعي أنها (مركبة من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام.
والعمل قسمان: عمل القلب: وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح. فإذا زالت هذه الأربعة، زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد
الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول، بل ويقرون به سراً وجهراً، ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به) (1).
العلاقة بين المعنى اللغوى والشرعي:
عرفنا أن من معاني الإيمان لغة: التصديق، وأن التصديق يكون بالقلب واللسان والجوارح، وهكذا الإيمان الشرعي، عبارة عن تصديق مخصوص، وهو ما يسمى عند السلف، بقول القلب، وهذا التصديق لا ينفع وحده، بل لابد معه من الانقياد والاستسلام، وهو ما يسمى بعمل القلب ويلزم من ذلك قول اللسان، وعمل الجوارح، وهذه الأجزاء مترابطة، لا غنى لواحدة منها عن الأخرى ومن آمن بالله عز وجل، فقد أمن من عذابه.
ثانيا: الإيمان اعتقاد وقول وعمل
الإيمان أصله في القلب:
قال عز وجل: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم)(2).
وقال تعالى: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم)(3).
وقال أيضاً: (كتب في قلوبهم الإيمان)(4).
وقال أيضاً: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)(5).
__________
(1) الصلاة وحكم تاركها لابن القيم ص 54.
(2) سورة الحجرات، آية : 14
(3) سورة الحشرات آية : 7
(4) سورة المجادلة، آية : 22
(5) سورة النحل، آية : 106(211/31)
وقال - صلى الله عليه وسلم: " يا معشر من آمن بلسان، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه"(1).
إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة في أن إيمان القلب شرط في الإيمان، ولا يصح الإيمان بدونه، وأنه إذا وجد سرى ذلك إلى الجوارح ولابد.
وإيمان القلب ليس مجرد العلم والمعرفة والتصديق بالله عز وجل، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم - بل لابد مع ذلك من الانقياد والاستسلام، والخضوع والإخلاص، مما يدخل تحت عمل القلب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب، ولابد فيه من شيئين:
تصديق القلب وإقراره ومعرفته، ويقال لهذا: قول القلب، قال الجنيد بن محمد(2) " التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب " فلا بد فيه من قول القلب وعمله، ثم قول البدن وعمله، ولا بد فيه من عمل القلب، مثل حب الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها جزءاً من الإيمان ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن ضرورة لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب (3).
__________
(1) رواه أحمد 4/420، 421 وأبو داود في كتاب الأدبة " باب في الغيبة " رقم 488، والترمذي كتاب البر والصلة "" باب ما جاء تعظيم المؤمن رقم 2032 وصححه الألباني في صحيح الجامع 6/308
(2) الجنيد بن محمد البغدادي، شيخ مذهب الصوفية، له عدة رسائل في التوحيد والوعظ توفي ببغداد سنة 297 ه- الأعلام 2/141
(3) متفق عليه، البخاري "الإيمان" باب فضل من استبرأ لدينه رقم 52، ومسلم، المساقاة " باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم 1599(211/32)
فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق..)(1).
ويقول أيضاً (الإيمان أصله معرفة القلب وتصديقه وقوله، والعمل تابع لهذا العلم والتصديق ملازم له، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بها) (2).
ويقول - رحمه الله - مبيناً شدة الترابط بين الأصل والفرع: (إذا قام بالقلب التصديق به، والمحبة له (قول القلب، وعمله) لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، فما يظهر على البدن من الأقوال والأعمال هو موجب ما في القلب ولازمه، ودليله ومعلوله، كما أن ما يقوم بالبدن من الأقوال والأعمال له أيضاً تأثير فيما في القلب، فكل منهما يؤثر في الآخر، لكن القلب هو الأصل والبدن فرع له، والفرع يستمد من أصله، والأصل يثبت ويقوى بفرعه)(3).
__________
(1) الإيمان 176 - 177
(2) الإيمان 361 وراجع الإيمان الأوسط 721
(3) الإيمان الأوسط 83(211/33)
ويقول الإمام المروزي (1) - رحمه الله -: (أصل الإيمان التصديق بالله، وبما جاء من عنده، وعنه يكون الخضوع لله لأنه إذا صدق بالله خضع له، وإذا خضع أطاع.. ومعنى التصديق هو المعرفة بالله، والاعتراف له بالربوبية، بوعده، ووعيده، وواجب حقه، وتحقيق ما صدق به من القول والعمل.. ومن التصديق بالله يكون الخضوع لله، وعن الخضوع تكون الطاعات، فأول ما يكون عن خضوع القلب لله الذي أوجبه التصديق من عمل الجوارح والإقرار باللسان)(2).
ويقول أيضاً: (وإنما المعرفة التي هي إيمان، هي معرفة تعظيم الله، وجلاله، وهيبته، فإذا كان كذلك، فهو المصدق الذي لا يجد محيصاً عن الإجلال، والخضوع لله بالربوبية، فبذلك ثبت أن الإيمان يوجب الإجلال لله، والتعظيم له، والخوف منه، والتسارع إليه بالطاعة على قدر ما وجب في القلب من عظيم المعرفة) (3).
ويقول: (أصل الإيمان هو التصديق، وعنه يكون الخضوع، فلا يكون مصدقاً إلا خاضعاً، ولا خاضعاً إلا مصدقاً، وعنهما تكون الأعمال)(4)
__________
(1) هو أبو عبدالله محمد بن نصر بن الحجاج المروزي، ولد ببغداد سنة 202ه- توفي سنة 294ه- من كبار علماء الحديث، رحل كثيراً في طلب العلم، ومن أشهر شيوخه إسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، وهناد، قال الخطيب : كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة، له تصانيف كثيرة في الفقه وفي نصرة مذهب السلف، من أشهرها " تعظيم قدر الصلاة " ونصفه حول مسائل الإيمان، " والسنة " حول حجية السنة، انظر ترجمة موسعة له في مقدمة كتاب تعظيم قدر الصلاة كتبها د. عبد الرحمن الفريوائى 1/15-64
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/695، 696
(3) تعظيم قدر الصلاة 2/775، 776 ويلاحظ من هذا النقل، والذي قبله أنه لا فرق بين مفهومي التصديق، والمعرفة عند الإمام المروزي وكلاهما داخل تحت قول القلب.
(4) تعظيم قدر الصلاة 2/715، 716 .(211/34)
يتضح لنا من النقل السابق أن العلم والمعرفة والتصديق (أي قول القلب)، إن لم يصحبها الانقياد والاستسلام والخضوع، (أي عمل القلب والجوارح) لم يكن المرء مؤمناً، بل تصديق هذا شر من عدمه (1) لأنه ترك الانقياد مع علمه ومعرفته.
والدليل على أن التصديق والمعرفة فقط لا تنفع صاحب-ها وصف الله به إبليس بقوله: (خلقتنى من نار) (2) وقوله: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين)(3)، فأخبر أنه قد عرف أن الله خلقه، ولم يخضع لأمره فيسجد لآدم كما أمره، فلم ينفعه معرفته إذ زايله الخضوع.
والدليل على ذلك أيضاً شهادة الله على قلوب بعض اليهود أنهم يعرفون النبي – صلى الله عليه وسلم – وما أنزل إليهم كما يعرفون أبناءهم، فلا أحد أصدق شهادة على ما في قلوبهم من الله، إذ يقول لنبيه: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)(4)، وقال: (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)(5)، وقال: (ليكتمون الحق وهم يعلمون) (6) فشهد على قلوبهم بأنها عارفة عالمة بالنبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يوجب لهم اسم الإيمان بمعرفتهم وعلمهم بالحق إذ لم يقارن معرفتهم التصديق والخضوع لله ولرسوله بالتصديق له والطاعة (7).
ومما يجدر ذكره أن بعض السلف يطلق التصديق أو اعتاد القلب ويقصد به قول القلب وعمله جميعاً، أو عمل القلب وحده.
__________
(1) للاستزاده راجع الصارم المسلول / 520 – 525 .
(2) سورة الأعراف، آية : 12
(3) سورة ص، آية : 82
(4) سورة البقرة، آية : 89
(5) سورة البقرة، آية 146
(6) سورة البقرة، آية : 146
(7) انظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/696، 698(211/35)
يقول الإمام أحمد – رحمه الله -: " وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج على المعرفة مع الإقرار، فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا ومصدقا بما عرف، فهو من ثلاثة أشياء، وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً(1) فالملاحظ من كلام الإمام أحمد أنه يعني بالتصديق عمل القلب ويعني بالمعرفة قول القلب، أما الإقرار فقول اللسان(2) وقال الإمام أبو ثور لما سئل عن الإيمان ما هو؟: (فاعلم يرحمنا الله وإياك أن الإيمان تصديق بالقلب والقول باللسان وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد، وأن ما جاءت به الرسل حق، وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به أنه ليس بمسلم ولو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، قال لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما (3) لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمناً ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمناً، حتى يكون مصدقاً بقلبه مقراً بلسانه فإذا كان تصديق بالقلب وإقرار باللسان كان عندهم مؤمناً (4) وعند بعضهم لا يكون حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت مؤمناً...)(5)
ثم رد على من أخرج العمل من الإيمان فالغالب أنه يقصد بالتصديق هنا (قول القلب وعمله) والله أعلم
__________
(1) الإيمان 376
(2) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (فأراد أحمد بالتصديق أنه مع المعرفة به صار القل-ب مصدقا له، تابعاً له، محباً له، معظماً له .. وهذا أشبه بأن يحمل عليه كلام الإمام أحمد ) الإيمان 380
(3) قال محقق " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " لم أجد جواب لما في السياق
(4) عند أبي حنيفة وأصحابه
(5) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/849، 850(211/36)
يقول ابن تيمية (وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولا بد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب، أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل حب الله، وخشية الله والتوكل عليه، ونحو ذلك، فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها)(1)
ويقول الإمام ابن القيم موضحاً ذلك: (ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيماناً لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم مؤمنين صادقين) (2)
ونختم هذا البحث بالتأكيد على أهمية الخضوع والاستسلام والانقياد (عمل القلب والجوارح) وأنه أساس دعوة الأنبياء والرسل، وأن قضيتهم مع أقوامهم دائماً ليست قضية المعرفة والعلم المجرد (أي قول القلب) قال تعالى: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) (3)
وقال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً)(4)
__________
(1) الإيمان الأوسط ص 48
(2) الصلاة وحكم تاركها، 44، 45
(3) سورة الأنعام، أية : 33
(4) سورة النمل، آية : 14
(*)أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، ولد في جرجان سنة 383ه-، من أشهر شيوخه أبو بكر القفال أخذ عنه الفقه الشافعي، وكان الحليمي من مجتهدي المذهب، وهو رئيس المحدثين والمتكلمين فيما وراء النهر وكان ذكياً مناظراً طويل الباع في الأدب والبيان، له تصانيف من أشهرها " المنهاج في شعب الإيمان " توفي سنة 403 ه- في بخارى، سير أعلام النبلاء 17/231 - 234 وانظر ترجمة موسعة في مقدمة كتابة المنهاج.(211/37)
فالكفار والمنافقون غالباً ما يقرون بالربوبية والرسالة ولكن الكبر والبغض وحب الرياسة والشهوات ونحوها تصدهم عن الطاعة والإخلاص والمتابعة (أي توحيد الألوهية) ومن ثم فلا ينفعهم ذلك، ولا ينجيهم من عذاب الله عز وجل في الآخرة ولا من سيف المؤمنين في الدنيا، فيجب على الدعاة إلى الله أن ترتكز دعوتهم على ذلك، وأن لا يقتصروا بالاهتمام بتوحيد الربوبية دون الدعوة إلى توحيد الألوهية، وإنما يكون اهتمامهم بالربوبية طريقاً ومنطلقاً لترسيخ وتثبيت توحيد الألوهية وعبادة الله وحده لا شريك له.
قول اللسان (الإقرار باللسان) (1)
قول اللسان جزء من مسمى الإيمان، والمقصود بقول اللسان: الأعمال التي تؤدى باللسان: كالشهادتين والذكر وتلاوة القرآن والصدق والنصيحة والدعاء وغير ذلك مما لا يؤدى إلا باللسان وهذه الأعمال منها ما هو مستحب ومنها ما هو واجب ومنها ما هو شرط لصحة الإيمان ولنبدأ أولاً بالنصوص الدالة على أن قول اللسان يدخل في مسمى الإيمان ومنها:
1- قوله - عز وجل- (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) (2) ثم قال - عز وجل - (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق) (3).
قال الحليمي (4) (فأمر المؤمنين أن يقولوا " آمنا " ثم أخبر بقوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) أن ذلك القول منهم إيمان، وسمي قولهم مثل ذلك إيمانا، إذ لا معنى لقوله (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به).
__________
(1) لا فرق بين الأقرار باللسان، وقول اللسان عند التقييد، أما عند إطلاق لفظ الإقرار أو القول فيفهم من الإقرار إقرار اللسان ومن القول، قول القلب، وقد يقصد به قول اللسان
(2) سورة البقرة، آية : 136
(3) سورة البقرة، آية : 137(211/38)
إلا فإن آمنوا بأن قالوا: " مثل ما قلتم " فكانوا مؤمنين كما آمنتم فصح أن القول إيمانا)(1).
2- وقال - عز وجل - في آية أخرى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) (2) هذا الإيمان منهم لما رأوا البأس لم ينقلهم من الكفر ولم ينفعهم فثبت أنه لو كان قبلها لنفعهم بأن ينقلهم من الكفر إلى الإيمان وبذلك يكون هذا القول منهم لو كان قبل رؤية البأس لكان إيمانا(3).
3- ومن الأحاديث الشريفة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " (4) فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف أن العصمة المزايلة للكفر تثبت بالقول فبذلك يثبت أن القول إيمان لأن الإيمان هو العاصم من السيف (5).
4- ومن الأحاديث أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (6).
فهذا الحديث أصل في دخول الأعمال والأقوال في مسمي الأيمان وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.
نكتفي بهذه الأدلة الصريحة على دخول قول اللسان في مسمى الإيمان ونأتي إلى مسألة مهمة وهي:
الشهادتان أصل قول اللسان وهما شرط في صحة الإيمان:
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان 1/26
(2) سورة غافر، آية 84 - 85
(3) انظر المنهاج في شعب الإيمان 1/26
(4) متفق عليه البخاري كتاب الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة رقم 25 ومسلم الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله رقم 22
(5) انظر المنهاج في شعب الإيمان 1/27
(6) متفق عليه وسيأتي الكلام عنه وعن ألفاظه، عند ذكر أدلة دخول العمل في مسمي الإيمان ص 50(211/39)
اتفق أهل السنة على أن النطق بالشهادتين شرط لصحة الإيمان قال الإمام النووي تعليقاً على حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (وفيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم (1)وقال أيضاً (واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار، لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا)(2)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر) (3)
وقال أيضاً (فأما الشهادتان) إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها) (4) وقال أيضاً (إن الذي عليه الجماعة أن من لم يتكلم بالإيمان بلسانه من غير عذر لم ينفعه ما في قلبه من المعرفة، وأن القول من القادر عليه شرط في صحة الإيمان) (5) وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي عند كلامه على حديث شعب الإيمان (وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها إجماعاً كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعاً، كترك إماطة الأذى عن الطريق..) (6)
__________
(1) مسلم بشرح النووي 1/212
(2) مسلم بشرح النووي 1/149
(3) الإيمان 287
(4) الإيمان الأوسط 151
(5) الصارم المسلول 525 والمقصود بالقول هنا شهادة ألا إله إلا الله
قال الحافظ ابن حجر ( فأما القول المراد به النطق بالشهادتين ) فتح الباري 1/46 وهذا ليس حصراً لقول اللسان بالشهادتين وإنما الكلام عن القول الذي هو شرط في الإيمان
(6) شرح العقيدة الطحاوية 382، وراجع الصلاة لابن القيم ففيه نص مشابه ص 53(211/40)
وقال الأمام ابن رجب الحنبلي: (ومن ترك الشهادتين خرج من الإسلام)(1)
ويق-ول الحافظ ابن حجر تعليقاً على حديث " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير.." الحديث (2)
(فيه دليل على اشتراط النطق بالتوحيد..)(3)
__________
(1) جامع العلوم والحكم 23
(2) رواه البخاري كتاب الإيمان " باب زيادة الإيمان ونقصانه " رقم 44 (الفتح 1/104)، ومسلم الإيمان " باب أدنى أهل الجنة منزلة " رقم 193
(3) الفتح 1/104(211/41)
والمقصود بالشهادتين كما لا يخفى ليس مجرد النطق بهما، بل التصديق بمعانيهما وإخلاص العبادة لله، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإقرار ظاهراً وباطناً بما جاء به فهذه الشهادة هي التي تنفع صاحبها عند الله عز وجل، ولذلك ثبت في الأحاديث الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله (مخلصاً) (1)من قلبه وفي رواية (صدقاً) (2) وفي رواية (غير شاك)(3)(مستيقناً) (4) قال الامام المروزي (ثم قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس لوفد عبد القيس: " آمركم بالإيمان، ثم قال أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله " فبدأ بأصله والشاهد بلا إله إلا الله هو المصدق المقر بقلبه يشهد بها لله بقلبه، ولسانه يبتديء بشهادة قلبه والإقرار به ثم يثني بالشهادة بلسانه والإقرار به ليس كما شهد المنافقون إذ (قالوا نشهد إنك لرسول الله) (5) والله يشهد إنهم لكاذبون، فلم يكذب قلوبهم أنه حق في عينه، ولكن كذبهم من قولهم، فقال (والله يعلم إنك لرسوله) (6)أي كما قالوا، ثم قال (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) (7) فكذبهم من قولهم، لا أنهم قالوا بألسنتهم باطلاً ولا كذباً، وكذلك حين أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل بقوله " الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله " لم يرد شهادة باللسان كشهادة المنافقين ولكن أراد شهادة بدؤها من القلب بالتصديق بالله بأنه واحد) (8)
__________
(1) رواه أحمد 5/236 ابن من الايمان 1/235
(2) رواه البخاري كتاب العلم باب من خص بالعلم قوماً دون قوم .." رقم 128 الفتح (226)
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 1/224، كتاب الإيمان " باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً " رقم 27
(4) مسلم بشرح النووي 1/237 كتاب الإيمان " باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً " رقم 31
(5) سورة المنافقون، آية 1
(6) سورة المنافقون، آية 1
(7) سورة المنافقون، آية 1
(8) تعظيم قدرة الصلاة 2/707، 708(211/42)
قال القرطبي ردا على من زعم أن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان (بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح وهو باطل قطعاً (1)وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب تعليقاً على قوله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دونه حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " قال (وهذا من أعظم ما يبين معنى " لا إله إلا الله " فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، وياله من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع)(2) والمقصود من النقل السابق التأكيد على أن التلفظ بالشهادتين وحده لا يفي لصحة الإيمان والنجاة في الآخرة ما لم يقترن ذلك بخضوع وانقياد وتصديق وإخلاص على حسب ما جاء في النصوص الأخرى وأجمل عبارة مختصرة يمكن أن تقال بهذه المناسبة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (وتواترت النصوص بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال)(3)
وسيأتي إن شاء الله مزيد بحث لهذه النقطة عند مناقشة شبه المرجئة
ثالثا: صلة العمل بالإيمان
مر معنا كلام السلف أن أعمال الجوارح داخلة في الإيمان، وفي هذه الفقرة سنشير إلى أدلة أهل السنة على إدخال الأعمال في مسمى الإيمان ومنها:
__________
(1) المفهم على صحيح مسلم نقلاً من فتح المجيد ص 32
(2) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد 81
(3) نقلاً عن فتح المجيد 38(211/43)
قول الله - عز وجل (وما كان الله ليضيع إيمانكم) (1) ثبت في سبب نزول هذه الآية كما في حديث البراء الطويل وغيره وفي آخره " أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم) ووضع البخاري هذا الحديث في مواضع ومنها " باب الصلاة من الإيمان "(2) قال الحليمي (أجمع المفسرون على أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فثبت أن الصلاة إيمان، وإذا ثبت ذلك، فكل طاعة إيمان إذ لم أعلم فارقاً في هذه التسمية بين الصلاة وسائر العبادات) (3)
كذلك قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا)(4)ومثله جميع الآيات المشابهة كقول-ه عز وجل (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه) (5) ففي هذه الآيات إشارة إلى أن جميع الأعمال المذكورة من واجبات الإيمان فلهذا نفي الإيمان عمن لم يأت بها، فإن حرف "إنما" يدل على إثبات المذكور ونفي غيره(6)
__________
(1) سورة البقرة آية : 143
(2) الفتح 1/95
(3) المنهاج في شعب الإيمان 1/37 راجع الإيمان لابن منده 1/329 والجامع لشعب الإيمان للبيهقي 1/121
(4) سورة الأنفال، الآيات : 1 - 4
(5) سورة النور، آية 62 .
(6) راجع الإيمان لابن تيمية 14(211/44)
ومن الأدلة الصريحة في ذلك حديث وفد عبد القيس وفيه قوله صلى الله عليه وسلم " آمركم بالإيمان بالله وحده وقال: هل تدرون ما الإيمان بالله وحده؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال " شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا من الغنائم الخمس " الحديث (1) ففي هذا الحديث فسر الرسول صلى الله عليه وسلم للوفد الإيمان هنا بقول اللسان، وأعمال الجوارح
(ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق مع العلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود) (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي 8/84 ( من الفتح ) والتوحيد 13/527 من الفتح ومسلم في الإيمان 1/48
(2) شرح العقيدة الطحاوية 389(211/45)
ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث (1) وما في معناه من الأحاديث في نفي الإيمان عمن ارتكب الكبائر وترك الواجبات كقوله صلى الله عليه وسلم " لا إيمان لمن لا أمانة له " (2) يقول ابن رجب تعليقاً على ذلك (فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته)(3) ويقول ابن تيمية (.... ثم إن نفي الإيمان عند عدمها دال على أنها واجبة فالله ورسوله لا ينفيان اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته كقوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة إلا بأم القرآن " (4).
وقوله صلى الله عليه وسلم " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " (5)(6).
ومن الأحادي-ث أيضاً قوله صلى الله عليه وسل-م: " الطهور شطر الإيمان " (7) ومثله " حسن العهد من الإيمان " (8)وغيرها كثير.
__________
(1) رواه البخاري كتاب المظالم " باب النهب بغير إذن صاحبه " رقم 2475 ومسلم كتاب الإيمان " باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي " 2/41 ( شرح النووي )
(2) رواه ابن أبي شيبة في الإيمان رقم (7) وأحمد 3/135، 251 واللالكائي 5/924، ورواه أيضاً أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد 1/96 قال الألباني في حاشية الإيمان لابن أبي شيبة ( حديث صحيح وإسناده حسن ) ص 5
(3) جامع العلوم والحكم 25
(4) رواه البخاري الأذان "باب وجوب القراءة ..." (الفتح) 2/199 ومسلم الصلاة " باب وجوب قراءة الفاتحة ..." رقم 394
(5) سبق تخريجه في الصفحة السابقة
(6) الإيمان 11، وراجع أيضاً 288 - 290، والإيمان الأوسط
(7) رواه مسلم كتاب الطهارة " باب فضل الوضوء " 1/223
(8) الإيمان لأبي عبيد ص 63، وحسنه الألباني(211/46)
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم -: " من أعطى لله ومنع لله، وأحب لله وأبغض لله، وأنكح لله فقد استكمل إيمانه " (1)
وهذا يدل على أن هذه الأعمال جزء من مسمى الإيمان يكمل بوجودها وينقص بنقصها، ومثل ذلك جميع الآيات والأحاديث الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه كما سيأتي (لأن الأعمال إذا كانت إيمانا كان بكمالها تكامل الإيمان، وبتناقصها تناقص الإيمان وكان المؤمنون متفاضلين في إيمانهم كما هم متفاضلون في أعمالهم، وحرم أن يقول قائل (إيماني وإيمان الملائكة والنبيين واحد) لأن الطاعات كلها إذا كانت إيماناً فمن كان أكثر طاعة كان أكثر إيماناً ومن خلط الطاعات بالمعاصي كان أنقص إيماناً ممن أخلص الطاعات)(2)
ولعلنا نختم هذا المبحث بأبرز الأحاديث دلالة على المقصود وهو حديث شعب الإيمان.
__________
(1) رواه أحمد : 3/440، 438، وأبو داود السنة " باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه " رقم (4681) والترمذي صفة القيامة " باب 6 " وقال حديث حسن، رقم (2521) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/405) واللالكائي في " شرح اعتقاد أهل السنة ( 5، 2، 9 ) والبيهقي في شعب الإيمان (1/127) وقد حسن إسناده الألباني كما في السلسلة الصحيحة 1/380 وانظر الكلام على طرقه وألفاظه في حاشية البيهقي، والمروزي والسلسلة
(2) المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 1/51(211/47)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " (1) وقد اعتنى الأئمة بهذا الحديث واعتبروه أصلاً لإدخال الطاعات في الإيمان وعدوها من شعبه وألفوا في ذلك بعض المصنفات، ومن أغزرها المنهاج في شعب الإيمان للإمام أبي عبد الله الحليمي واختصره الإمام البيهقي في كتاب الجامع لشعب الإيمان مع عنايته بالأسانيد خلافاً للحليمي، واختصر كتاب البيهقي الإمام القزويني وجميعهم عدوا سبعاً وسبعين شعبة من شعب الإيمان مع شرحها
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان ( باب عدد شعب الإيمان مسلم بشرح النووي 2/6 هكذا بالشك ورواه بالشك أيضاً أحمد 2/245 والنسائي في الإيمان ( ذكر شعب الإيمان ) 1/110، والترمذي في أبواب الإيمان باب استكمال الإيمان والزيادة والنقصان 7/2614 وابن ماجه في المقدمة، باب في الإيمان 1/57 وابن منده كتاب الإيمان 1/297 د وغيرهم وورد بلفظ (بضع وستون) بدون شك كما في صحيح البخاري (راجع الفتح 1/51) وكذلك بلفظ (بضع وستون) بدون شك كما في مسلم (راجع شرح النووي 2/3) وأبو داود 5/ رقم 4676 والترمذي 7/2614 والنسائى 8/110 لذلك اختلف أنظار العلماء في الترجيح بين الروايات فذهب البخاري وابن الصلاح والبيهقي وابن حجر إلى ترجيح (بضع وستون) لكونه المتيقن، ورجح الحليمي والقاضي عياض رواية (بضع وسبعون) لأنها زيادة ثقة والله أعلم راجع الاختلاف في روايات الحديث ووجوه الترجيح في مسلم بشرح النووي 2/3-5، وفتح الباري 1/52 وحاشية الجامع لشعب الإيمان للبيهقي 1/99، والإيمان لابن منده 1/295 - 298 وشرح السنة لللالكائي 5/905 - 909 مع الحاشية، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي 1/425 - 429 وسلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 1769(211/48)
وممن اعتنى بحصر شعب الإيمان الإمام اللالكائي فقد ذكر في كتابه " شرح أصول اعتقاد أهل السنة " اثنتين وسبعين خصلة من خصال الإيمان وذكر تحت كل خصلة ما يناسبها من الأحاديث (1)
وعد الإمام ابن بطه في الإيمان سبعين شعبة سرداً دون ذكر أدلتها (2)
وقال أبو حاتم بن حبان (تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على العدد شيئا كثيراً فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين فرجعت إلى كتاب الله فقرأته بالتدبر وعددت كل طاعة عدها الله تعالى من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن وأسقطت المعاد فإذا هي كل شيء عده الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم من الإيمان تسع وسبعين شعبة لا يزيد عليها ولا تنقص فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنن) (3)
__________
(1) راجع شرح أصول اعتقاد أهل السنة 5/911 - 940 ( وراجع كلام المحقق في الحاشية )
(2) انظر الإبانة لابن بطة 2/650 - 653
(3) ذكر ذلك في كتاب ( وصف الإيمان وشعبه) نقلاً عن النووي في شرح مسلم 2/504(211/49)
وعدها أيضاً الحافظ ابن حجر فقال: (هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن، فأعمال القلب فيه المعتقدات والنيات وتشتمل على أربع وعشرين خصلة ثم ذكرها وأعمال اللسان وتشتمل على سبع خصال ثم ذكرها وأعمال البدن وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة ثم ذكرها، إلى أن قال: فهذه تسع وستون خصلة ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. والله أعلم) (1) وأخيراً ننقل كلاماً للقاضي عياض قال فيه: (وبقي بين هذين الطرفين [أي الشهادتان وإماطة الأذى] - أعداد لو تكلف المجتهد تحصيلها بغلبة الظن وشدة التتبع لأمكنه وقد فعل ذلك بعض من تقدم، وفي الحكم بأن ذلك مراد النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها، ولا يقدح جهل ذلك في الإيمان، إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة والإيمان بأنها هذا العدد واجب في الجملة) (2)
الإيمان شعب، والكفر شعب:
قال الإمام الخطابي (3) (وفي هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها، كالصلاة الشرعية، لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها) (4)
__________
(1) فتح الباري 1/52، 53
(2) نقلاً عن شرح النووي على مسلم 2/4
(3) هو الإمام الحافظ اللغوي أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، ولد سنة بضع عشرة وثلاث مائة، سمع من : أبي سعيد الأعرابي، وإسماعيل الصفار وأبي العباس الأصم وغيرهم وأخذ الفقه على مذهب الشافعي عن أبي بكر القفال، حدث عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو حامد الإسفرائيني وغيرهم، من أشهر تصانيفه " غريب الحديث " " وشرح سنن أبي داود " توفي ببست سنة 388ه- انظر سير أعلام النبلاء 17/23 - 28
(4) معالم السنن، حاشية سنن أبي داود 5/56(211/50)
ويقول الإمام ابن القيم (الإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصوم، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل.. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة، ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى، ويكون إليها أقرب، وكذلك الكفر ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر... والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان) (1)
خلاصة ما سبق:
من الأدلة السابقة يتبين لنا:
أولاً: أن الطاعات جميعاً ومنها أعمال الجوارح تدخل في مسمى الإيمان.
ثانياً: أن الإخلال والتقصير بأداء الطاعات يضر في الإيمان.
رابعا: الإيمان والإسلام والعلاقة بينهما
كثر نزاع أهل القبلة في مسمى الإيمان والإسلام هل مسماهما واحد؟ أم الإيمان أعم من الإسلام؟ أم الإسلام أعم من الإيمان؟.... الخ.
والذي يعنينا في هذا المبحث الإشارة إلى أقوال أهل السنة وأدلتهم، وإليك بيان ذلك.
اختلف أهل السنة في ذلك على قولين:
أحدهما: أن مسماهما يختلف على حسب الإفراد والاقتران.
والآخر: أن مسماهما واحد.
__________
(1) كتاب الصلاة 53 وانظر شرح الطحاوية 382(211/51)
القول الأول: أكثر أهل السنة على هذا القول وممن قال بذلك ابن عباس والحسن البصري، ومحمد بن سيرين والزهري وقتادة وداود بن أبي هند، وحماد بن زيد، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وأحمد بن حنبل، وأبو جعفر الباقر، وعبد الرحمن ابن مهدي، وابن معين، وأبو خيثمة، والخطابي، واللالكائي، وابن الصلاح، وابن تيمية، وابن رجب وغيرهم (1).
ومن أبرز أدلتهم:
قوله - تعالى -: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا). الآية: (2).
استدل أصحاب هذا القول بالآية على التفريق بين مسمى الإيمان الإسلام عند الافتران، فقالوا إن هذه الآية أثبتت لهم الإسلام ونفت عنهم الإيمان مما يدل على أن مرتبة الإيمان أعلى واستدلوا بها على أن الإسلام المثبت يثابون عليه وهذا أحد القولين في تفسير هذه الآية (3).
__________
(1) انظر، شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/812، 815، مسلم بشرح النووي 1/144 - 146، الإيمان لابن تيمية 343، وجامع العلوم والحكم 26، والإيمان لابن منده 311.
(2) سورة الحجرات، آية : 14.
(3) وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتاده والحسن وابن سيرين والإمام أحمد وحماد بن زيد واختاره ابن جرير، انظر تفسير ابن كثير 4/234 والإيمان لابن تيمية 225.(211/52)
يقول ابن تيمية (والدليل على أن الإسلام المذكور في الآية هو إسلام يثابون عليه وأنهم ليسوا منافقين، قوله: (وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً) فدل على أنهم إذا أطاعوا الله ورسوله مع هذا الإسلام، آجرهم الله على الطاعة، والمنافق عمله حابط في الآخرة (1) (وأيضاً قوله: (ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (ولما) إنما ينتفي بها ما ينتظر ويكون حصوله مترقباً، كقوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) (2).
فقوله: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) يدل على أن دخول الإيمان منتظر منهم، فإن الذي يدخل في الإسلام ابتداء، لا يكون قد حصل في قلبه الإيمان ولكنه يحصل فيما بعد.. ولهذا كان عامة الذين أسلموا رغبة ورهبة دخل الإيمان في قلوبهم بعد ذلك، وقوله: (ولكن قولوا أسلمنا) أمر لهم بأن يقولوا ذلك، والمنافق لا يؤمر بشيء) (3).
أيضاً نفي الإيمان هنا عنهم من جنس قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) وقوله ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)) ونحوه، أي أن المنفى هنا هو الإيمان الواجب وليس أصل الإيمان (فكذلك الأعراب) في هذه الآية لم يأتوا بالإيمان الواجب فنفى عنهم ذلك وإن كانوا مسلمين معهم من الإيمان ما يثابون عليه) (4)
ويق-ول ابن كثير: (استفيد من هذه الآية أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة...) (5).
__________
(1) الإيمان 229، وراجع الإيمان الأوسط 19.
(2) سورة آل عمران، آية : 142.
(3) الإيمان 328، 239، وراجع ص 232 والإيمان الأوسط ص 19، شرح العقيدة الطحاوية 393.
(4) الإيمان 23، والأوسط 2، وشرح العقيدة الطحاوية 392.
(5) تفسير ابن كثير 4/234.(211/53)
2- عن عام-ر بن سعد، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى رجالاً ولم يعط رجلاً فقلت يا رسول الله: أعطيت فلاناً وتركت فلاناً لم تعطه، وهو مؤمن!! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أو هو مسلم)) قال: فأعدتها ثلاثاً وهو يقول: ((أو مسلم)).
ثم قال: ((إني لأعطى رجالاً، وأمنع رجالاً أحب إلي منهم مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم)) - أو قال ((على مناخرهم)) (1).
يقول ابن أبي العز الحنفي تعليقاً على هذا الحديث: (فأثبت له الإسلام، وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما سواء - كان مخالفاً) (2).
وأيضاً يمكن أن يقال: إن هذا الرجل الذي أثبت له - صلى الله عليه وسلم - الإسلام دون الإيمان من جنس الأعراب المذكورين في الآية السابقة، فهو معه إسلام يثاب عليه، ولكن لم يفعل الإيمان الواجب حتى يقال له مؤمن بدون قيد، وهذا من الأدلة الواضحة على أن الإيمان أخص وأعلى من الإسلام حين اقترانهما (3).
__________
(1) رواه البخاري كتاب الإيمان (( باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة ...)) رقم 27. الفتح 1/79، ومسلم كتاب الإيمان (( باب تألف قلب من يخاف على إيمانه )) رقم 150، 180 ( شرح النووي ).
(2) شرح العقيدة الطحاوية 394.
(3) انظر الإيمان الأوسط 17، 18.(211/54)
3- ومن أدلتهم الكلية على التفريق بينهما قولهم: (إن الله جعل اسم المؤمن اسم ثناء وتزكية ومدحة أوجب عليه الجنة، فقال: (وكان بالمؤمنين رحيما * تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما) (1)وقال: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) (2)وقال: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) (3) وقال: (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) (4)وقال: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) (5)وقال: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) (6) ثم أجب الله النار على الكبائر، فدل بذلك على أن اسم الإيمان زائل عن من أتى كبيرة، قالوا: ولم نجد الله أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام له ثابت على حاله، واسم الإيمان زائل عنه... فإن قيل له-م: فالذين زعمتم أن النبي - صل-ى الله عليه وسلم - أزال عنه اسم الإيمان، هل فيه من الإيمان شيء؟ قالوا: نعم، أصله ثابت ولولا ذلك لكفر) (7).
ويزيد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأمر وضوحاً بنص قيم ننقله مع بعض الاختصار. قال (.... والوعد الذي في القرآن بالجنة وبالنجاة من العذاب إنما هو معلق باسم الإيمان، وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد استفار، وبالإسلام بعث جميع النبيين قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (8).
__________
(1) سورة الأحزاب، الآيتان : 43- 44.
(2) سورة يونس، آية : 2.
(3) سورة الحديد، آية : 12.
(4) سورة التحريم، آية : 8.
(5) سورة البقرة، آية : 257.
(6) سورة التوبة : آية : 72.
(7) تعظيم قدر الصلاة 2/512، 513.
(8) سورة آل عمران، آية : 58.(211/55)
وقال: (إن الدين عند الله الإسلام) (1)وكذلك أخبر عن إبراهيم - عليه السلام - أن دينه الإسلام فقال - تعالى -: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (2)وقال: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا) (3)ولمجموع هذين الوصفين (أي الإسلام مع الإحسان علق السعادة فقال: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (4) كما علقه بالإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح في قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (5)، وهذا يدل على أن الإسلام الذي هو إخلاص الدين لله مع الإحسان وهو العمل الصالح الذي أمر الله به هو والإيمان المقرون بالعمل الصالح متلازمان، فإن الوعد على الوصفين وعد واحد وهو الثواب وانتفاء العقاب... وأما الإسلام المطلق المجرد، فليس في كتاب الله تعليق دخول الجنة به كما في كتاب الله تعليق دخول الجنة بالإيمان المطلق المجرد..) (6).
__________
(1) سورة آل عمران، آية : 19.
(2) سورة البقرة : آية : 130-132.
(3) سورة النساء، آية : 125.
(4) سورة البقرة، آية : 12.
(5) سورة البقرة، آية : 62.
(6) الإيمان 246 - 248، وراجع أيضاً نصا مشابهاً 330 - 334 .(211/56)
وقال رادا على من يطلق الإيمان على مرتكب الكبيرة في سياق الثناء والوعد بالجنة بأن ذلك (خلاف الكتاب والسنة، ولو كان كذلك لدخلوا في قوله: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) (1)وأمثال ذلك مما وعدوا فيه الجنة بلا عذاب) (2).
ومقصود الأئمة من الكلام السابق أن الإيمان أكمل من الإسلام حيث إن المؤمن المطلق موعود بالجنة أما المسلم المطلق فلم يرد أنه يدخل الجنة بلا عذاب، لأنه قد يكون مسلماً ولا يكون مؤمناً كاملاً، والله أعلم
__________
(1) سورة التوبة، آية : 72.
(2) الإيمان 395.(211/57)
4- أيضاً ذكر من يفرقون بين مسمى الإيمان والإسلام قاعدة في الأسماء مفادها (أن من الأسماء ما يكون شاملاً لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو محتاج، وإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإيمان إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده ودل الآخر على الباقي وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة.. ويدل على صحة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الإيمان عند ذكره مفرداً في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام المقرون بالإيمان في حديث جبريل - عليه السلام - وفسر في حديث آخر الإسلام بما فسر به الإيمان، كما في مسند الإمام أحمد عن عمرو بن عبسة قال: جاء رجل إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا ر سول الله ما الإسلام؟ قال: ((أن تسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك))، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: ((الإيمان، قال: وما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت)).. الحديث (1).. فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان أفضل الإسلام، وأدخل فيه الأعمال... وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف فيقال: إذا أفرد كل من الإسلام والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين كان بينهما فرق...) (2)
__________
(1) مسند الإمام أحمد 4/114، قال الهيثمي : ( رواه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه ورجاله ثقات ) مجمع الزوائد 1/59 وانظر شواهد للحديث في تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/595 - 607.
(2) جامع العلوم والحكم ص 26 وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أحد عشر مثالاً لهذه القاعدة راجع الإيمان 152- 161، وراجع 340- 341.(211/58)
.
5- وأخيراً لعلنا نذكر ما يمكن أن نعتبره أهم دليل يعتمده من يفرقون بينهما: وهو حديث جبريل المشهور وفيه قال جبريل عليه السلام: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، فقال: صدقت، فتعجبنا من سؤاله وتصديقه. ثم قال: فما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وحده وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار، وبالقدر خيره وشره)). فقال: صدقت، ثم قال: فما الإحسان؟ إلى أن قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) (1).
قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح تعليقاً على هذا الحديث: (هذا بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر)(2)..
__________
(1) رواه البخاري، الإيمان باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم 50 الفتح 1/114، ومسلم الإيمان باب الإيمان والإسلام والإحسان .....) ( مسلم بشرح النووي 1/150-160 ).
(2) يقول ابن تيمية تعليقاً على ذلك ( ... وقوله : إن الحديث ذكر فيه أصل الإيمان وأصل الإسلام، قد يورد عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب عن الإيمان والإسلام بما هو من جنس الجواب بالحد عن المحدود، فيكون ما ذكره مطابقاً لهما لا لأصليهما فقط، فالإيمان هو الإيمان بما ذكره باطناً وظاهراً، ولكن ما ذكره من الإيمان تضمن الإسلام، كما أن الإحسان تضمن الإيمان ) الإيمان 346.(211/59)
ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان، وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة، لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات. فإن ذلك كله استسلام قال: فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً قال: وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم)(1).
__________
(1) نقلاً عن شرح النووي على مسلم 1/148.(211/60)
ويستنبط شيخ الإسلام ابن تيمية من هذا الحديث القاعدة التالية وهى أن (الإحسان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين (1).. فجعل الدين ثلاث طبقات: أولها الإسلام، وأوسطها الإيمان، وأعلاها الإحسان، ومن وصل إلى العليا، فقد وصل إلى التي تليها، فالمحسن مؤمن، والمؤمن مسلم، وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمناً (أي الإيمان التام) (2).
وقال الخطابي: (والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا، ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها..) (3).
__________
(1) الإيمان 6.
(2) الإيمان 341، 342، وراجع شرح الطحاوية 390 ( نفس النص تقريباً ) والاختلاف هنا حين الاقتران، وأما عند الإفراد فالمسلم الممدوح هو المؤمن الممدوح.
(3) شرح النووي على مسلم 145 وراجع جامع العلوم والحكم 27، وراجع كلاماً آخر للخطابي بنفس المعنى، أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري 1/160 - 161.(211/61)
لكن - بعدما عرفنا أن مرتبة الإيمان أعلى - كيف يكون معناهما عند الاقتران؟ قالوا: (حقيقة الفرق أن الإسلام دين، والدين مصدر دان يدين ديناً: إذا خضع وذل، ودين الإسلام الذي ارتضاه الله، وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده.. وهو الخضوع له، والعبودية له، هكذا قال أهل اللغة: أسلم الرجل إذا استسلم، فالإسلام في الأصل من باب العمل، عمل القلب والجوارح. وأما الإيمان فأصله تصديق وإقرار ومعرفة، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب والأصل فيه التصديق، والعمل تابع له، فلهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بإيمان القلب وبخضوعه، (أي قول القلب وعمله) وفسر الإسلام باستسلام مخصوص هو المباني الخمس، هكذا في سائر كلامه - صلى الله عليه وسلم -: يفسر الإيمان بذلك النوع، ويفسر الإسلام بهذا، وذلك النوع أعلى) (1)، لأن المؤمن الإيمان التام لابد أن يكون مسلماً، ولذلك ورد في الشرع إطلاق الإيمان على أعمال الجوارح.
أما المسلم فلا يلزم أن يكون تام الإيمان، يقول الإمام ابن رجب: (قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم، فإن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمناً، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفاً فلا يتحقق القلب به تحققاً تاما، مع عمل جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلماً، وليس بمؤمن الإيمان التام) (2).
القول الثاني:
__________
(1) الإيمان 249، 250.
(2) جامع العلوم والحكم 27 والحديث مشهور متفق عليه، البخارى، والإيمان 1 رقم 52 مسلم رقم 1599.(211/62)
أن مسماهما واحد، وممن نقل عنه ذلك الإمام البخاري (1)، والإمام محمد بن نصر المروزي، وابن عبد البر وقال: (أكثر أصحاب مالك على أن الإسلام والإيمان شيء واحد) (2)، وقال أيضاً: (وعلى القول بأن الإيمان هو الإسلام، جمهور أصحابنا وغيرهم من الشافعيين والمالكيين، وهو قول داود وأصحابه، وأكثر أهل السنة والنظر، المتبعين للسنة والأثر) (3)(ونقل أبو عوانة الاسفرائيني في صحيحه عن المزني صاحب الشافعي الجزم بأنهما عبارة عن معنى واحد) (4)، وكذلك قال أصحاب أبي حنيفة (5) وابن منده (6).
ومن أبرز أدلتهم ما ذكره الإمام محمد بن نصر المروزي حيث أطال الكلام في حجج هذا القول ورجحه ورد على أصحاب القول الأول في كتابه القيم ((تعظيم قدر الصلاة)) (7). ولذلك فأكثر الحجج التي سأذكر منقولة من هذا الكتاب، وهناك حجج
قليلة ذكرها غيره، وإليك أدلتهم:
قال الإمام ابن عبد البر (أكثر أصحاب مالك على أن الإسلام والإيمان شيء واحد، ذكر ذلك ابن بكير في الأحكام، واحتج بقول الله عز وجل: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (8)أي غير بيت منهم (9).
__________
(1) انظر فتح الباري 1/55، 79، 114.
(2) التمهيد 9/247.
(3) التمهيد 9/250.
(4) فتح الباري 1/115.
(5) الإيمان لابن تيمية 353.
(6) الإيمان لابن منده 321، 322، وقد نقل كلام المروزي دون الإشارة إليه راجع تعظيم قدر الصلاة 2/530.
(7) تزيد أوراق هذا الكتاب على الألف صفحة أكثر من نصفها حول مسائل الإيمان من ص 344 - 871 وللإمام المروزي كتاب الإيمان في حكم المفقود، راجع مقدمة تعظيم قدر الصلاة للدكتور عبد الرحمن الفريوائي 1/47، 48.
(8) سورة الذرايات، آية 35 - 48.
(9) التمهيد 9/247، 250.(211/63)
وقال الإمام محمد بن نصر المروزي: (الإيمان الذي دعا الله العباد له، وافترضه عليهم هو الإسلام الذي جعله ديناً، وارتضاه لعباده، ودعاهم إليه، وهو ضد الكفر الذي سخطه، فقال:
(ولا يرضى لعباده الكفر) (1)، وقال: (ورضيت لكم الإسلام ديناً) (2).. وقال: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)(3) فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان، وجعله اسم ثناء وتزكية، فأخبر أن من أسلم فهو على نور من ربه وهدى، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه، فقد أحبه، وامتدحه، ألا ترى أن أنبياء الله ورسله، رغبوا فيه إليه، وسألوه إياه، فقال إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل ذبيحه: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (4) وقال يوسف: (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) (5) وقال تعالى: (وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا) (6) وقال في موضع آخر: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم) إلى قوله (ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) (7)فحكم الله بأن من أسلم، فقد اهتدى، ومن آمن فقد اهتدى فقد سوى بينهما) (8).
ومقصود الإمام هنا: أن مسمى الإيمان والإسلام واحد، لأن الله عز وجل مدح الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه، وأمر أهل الكتاب والأمين بالإسلام كما أمرهم بالإيمان، وأخبر أن الرسل والأنبياء، دعوا إلى الإسلام، وسألوه إياه، فلابد أن يكون كل مسلم مؤمناً.
__________
(1) سورة الزمر، آية : 7.
(2) سورة المائدة، آية :3.
(3) سورة الزمر : آية : 22.
(4) سورة البقرة، آية : 128.
(5) سورة يوسف، آية : 101.
(6) سورة آل عمران، آية : 20.
(7) سورة البقرة، آية 136 - 137.
(8) تعظيم قدرة الصلاة 2/529 - 531، وراجع الإيمان لابن منده 321 - 322.(211/64)
وقال أيضاً: (وقال الله عز وجل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (1)، وقال: (إن الدين عند الله الإسلام) (2)، فسمى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ديناً قيماً، وسمى الدين إسلاماً، فمن لم يؤد الزكاة. فقد ترك من الدين القيم الذي أخبر الله أنه عنده الدين وهو الإسلام، بعضاً، وقد جامعتنا هذه الطائفة التى فرقت بين الإيمان والإسلام على أن الإيمان قول وعمل، وأن الصلاة والزكاة من الإيمان، وقد سماها الله ديناً، وأخبر أن الدين عند الله الإسلام، فقد سمى الله الإسلام بما سمى به الإيمان، وسمى الإيمان بما سمى به الإسلام، وبمثل ذلك جاءت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (3).
(قالوا - أي من يساوون بينهما -: ومما يدلل على تحقيق قولنا أن من فرق بين الإيمان، والإسلام، قد جامعنا أن من أتى الكبائر أتى استوجب النار بركوبها،
__________
(1) سورة البينة، آية : 5 وبقية الآية ( حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ).
(2) سورة آل عمران، آية : 19.
(3) تعظيم قدر الصلاة 2/533، وانظر 1/344، 345، 2/714، 715، وراجع استدلال البخاري عند تبويبه لحديث جبريل عليه السلام، وتعليق ابن حجر عليه، الفتح 1/114.(211/65)
لن يزول عنه اسم الإسلام، وشر من (1)الكبائر وأعظمهم ركوباً لها من أدخله الله النار، فهم يروون الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويثبتونه أن الله يقول: ((أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان، ومثقال برة، ومثقال شعيرة)) (2)فقد أخبر الله - تبارك وتعالى - أن في قلوبهم إيماناً، وأخرجوا بها من النار، وهم أشر أهل التوحيد، الذين لا يزول في قولنا وفي قول من خالفنا عنهم اسم الإسلام، ولا جائز أن يكون من في قلبه إيمان يستوجب به الخروج من النار (3)، ودخول الجنة ما ليس بمؤمن بالله، إذ لا جائز أن يفعل الإيمان الذي يثاب عليه بقلبه من ليس بمؤمن، كما لا جائز أن يفعل الكفر بقلبه من ليس بكافر) (4).
ومقصودهم هنا الرد على من أخرج أهل الكبائر من الإيمان، وقال: إنهم مسلمون وليسوا بمؤمنين، فيقال لهم: كيف تنفون عنهم الإيمان مع إثباتكم أن من في قلبه ذرة من إيمان - من أهل الكبائر - يخرج من النار؟
إذاً من يخرج من النار فلابد أن يكون مسلماً مؤمناً ولا فرق.
(قالوا: ومما يدل على بطلان قول من خالفنا، ففرق بين الإيمان والإسلام وتحقيق قولنا: أنا وجدنا الله - عز وجل - افترض الفرائض، وأحل الحلال، وحرم الحرام، ووضع الأحكام والحدود بين المسلمين على اسم الإيمان، لا على اسم الإسلام، فزعم هؤلاء أن من أتى كبيرة، فهو خارج من الإيمان، وليس بمؤمن، ثم حكموا عليه، وله بأحكام المؤمنين، ولو كان الأمر كما قالوا فيمن
__________
(1) لعلها ( أهل ) لأن السياق يقتضيها.
(2) رواه البخاري في الإيمان (( باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال )) رقم الحديث 22، وانظر أطرافه في نفس الموقع ( فتح الباري 1/72 ).
(3) في الأصل (( الإيمان )) بدل النار، ولا شك أن ذلك خطأ لأنه يلزم منه الاضطراب في النص، ولعله خطأ طباعي أو سبق قلم.
(4) تعظيم قدر الصلاة 2/535، وراجع 2/536.(211/66)
أتى كبيرة، للزم إسقاط عامة الفرائض، والأحكام والحدود التي أوجبها على المؤمنين على من أتى كبيرة، لأن اسم الإيمان زال عنه، وفي ذلك خروج من أحكام الكتاب، وما أجمعت عليه الأمة... قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) (1) وقال: (يأ أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) (2).... وقال (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة) (3).. وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) (4).
فمن زعم أن من أتى كبيرة، زال عنه اسم الإيمان، لزمه أن يسقط عنه هذه الفرائض كلها، لأن الله إنما أوجبها على المؤمنين باسم الإيمان،] إلى أن قال [: (وقال الله: (فتحرير رقبة مؤمنة) (5) فما تقولون في أمة أو عبد مسلم يصوم ويصلي، ويؤدى الفرائض إلا أنها سرقت، أو شربت خمراً هل يجوز عتقها عن من عليه عتق رقبة؟ فإن أجازوا عتقها، فقد أثبتوا لها اسم الإيمان، وتركوا قولهم، وإن قالوا: ليست بمؤمنة، وعتقها جائز، خالفوا حكم الكتاب، وإن زعموا أن عتقها ليس بجائز، خرجوا من لسان الأمة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمة السوداء حين امتحنها بالشهادتين، فأقرت: ((اعتقها، فإنها مؤمنة)) ولم يقل: إنها مسلمة) (6).
__________
(1) سورة الجمعة، آية : 9.
(2) سورة البقرة، آية : 193 .
(3) سورة آل عمران، آية : 13.
(4) سورة المائدة، آية : 95.
(5) سورة النساء، آية : 92 .
(6) تعظيم قدر الصلاة 2/536 - 540، وحديث الجارية، رواه مسلم كتاب المساجد (( باب تحريم الكلام في الصلاة )) رقم 537.(211/67)
وقال في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني... الحديث)): (فالذي صح عندنا في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (1) وما روي من الأخبار مما يشبه هذا أن معنى ذلك كله أن من فعل تلك الأفعال لا يكون مؤمناً مستكمل الإيمان، لأنه قد ترك بعض الإيمان نفي عنه الإيمان، يريد به الإيمان الكامل، ولا جائز أن يكون معناه غير ذا، قلنا: لأن في إزالة الإيمان بأسره عنه حتى لا يبقى فيه منه شيء إزالة لاسم الإيمان عنه، وفي إزالة اسم الإيمان عنه إسقاط الفرائض، والأحكام التي أوجبها الله تبارك وتعالى، وإسقاط الحدود عنه...) (2).
وقالوا في الرد على بعض أدلة من يفرقون بينهما:
__________
(1) سبق تخريجه ص 48.
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/576.(211/68)
1- قال المروزي: (وأما احتجاجهم بقول الله تبارك وتعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) (1) وبحديث سعد بن أبي وقاص أنه قال لرجل: أراه مؤمناً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أو مسلم؟)) (2) فإن ذلك ليس بخلاف مذهبنا، وذلك أنا نقول: إن الرجل قد يسمى مسلماً على وجهين: أحدهما نية، والجهة الأخرى أن يخضع ويستسلم للرسول وللمؤمنين، خوفاً من القتل والسبي، فيقال: قد أسلم أي خضع خوفاً وتقية، ولم يسلم لله، وليس هذا الإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه، الذي هو الإيمان الذي دعا الله العباد إليه، والدليل على ذلك قوله: (قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) (3)، يريد: ولم يدخل الإيمان في قلوبكم، نظير ذلك قوله: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) (4)، يريد: لم يلحقوا بهم.. وكذلك حدثنا محمد بن يحيي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن مجاهد في قوله: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)، قال: استسلمنا خوف السبي والقتل (5).. إلى أن قال: فكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد: ((أو مسلم؟)) إنما يريد الإسلام الذي هو استسلام من مخافة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمين، وذلك إسلام المنافقين، وليس بإسلام المؤمنين) (6).
__________
(1) سورة الحجرات، آية : 14.
(2) سبق تخريجه ص 56.
(3) سورة الحجرات، آية : 14.
(4) سورة الجمعة، آية :3.
(5) أخرجه الطبري 26/90، وقال ابن تيمية ( هذا منقطع، سفيان، لم يدرك مجاهداً )، الإيمان 226 - 227.
(6) تعظيم قدر الصلاة 2/553 -555.(211/69)
وقال الإمام البخاري: (باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره: (إن الدين عند الله الإسلام) (1) ثم ذكر حديث سعد بن أبي وقاص.
قال الشارح الحافظ ابن حجر: ((قوله: (باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة) حذف جواب قوله ((إذا)) للعلم به كأنه يقول: إذا كان الإسلام كذلك لم ينتفع به في الآخرة، ومحصل ما ذكره واستدل به أن الإسلام يطلق ويراد به الحقيقة الشرعية، وهو الذي يراد في الإيمان وينفع عند الله،، وعليه قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) (2) وقوله تعالى: (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (3).
ويطلق ويراد به الحقيقة اللغوية وهو مجرد الانقياد والاستسلام، فالحقيقة في كلام المصنف هنا هي الشرعية) (4). وخلاصة ما سبق من كلامهم أن الإسلام الشرعي الذي ينفع عند الله مرادف للإيمان أما الإسلام المذكور في الآية السابقة وحديث سعد فهو إسلام لا ينفع عند الله، ومن ثم فليس بينه وبين الإيمان علاقة.
__________
(1) سورة آل عمران، آية : 19.
(2) سورة آل عمران، آية : 19.
(3) سورة الذاريات، آية : 36.
(4) فتح الباري 1/79.(211/70)
2- قال الإمام المروزي: (وأما احتجاجهم بأن الله جعل اسم مؤمن اسم ثناء وتزكية، وأوجب عليه الجنة، ثم أوجب النار على الكبائر، فدل بذلك على أن اسم الإيمان زائل عن كل من أتى كبيرة، فإنا نقول: إن اسم المؤمن قد يطلق على وجهين، اسم بالخروج من ملل الكفر، والدخول في الإسلام، وبه تجب الفرائض التي أوجبها الله على المؤمنين، ويجري عليها الأحكام والحدود التي جعلها الله بين المؤمنين. واسم يلزم بكمال الإيمان، وهو اسم ثناء وتزكية، يجب به دخول الجنة، والفوز من النار، فالمؤمنون الذين خاطبهم الله بالفرائض، والحلال، والحرام، والأحكام، والحدود، الذين لزمهم الاسم بالدخول في الإسلام بالإقرار والتصديق، والخروج من ملل الكفر، والمؤمنون الذين زكاهم، وأثني عليهم، ووعدهم الجنة هم الذين أكملوا إيمانهم باجتناب كل المعاصي، واجتناب الكبائر، دل على ذلك في آيات كثيرة، نعت فيها المؤمنين، ثم وعدهم الجنة على تلك النعوت ثم ذكر بعض الآيات ومنها قوله عز وجل: (ويبشر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات أن لهم أجراً حسنا ماكثين فيه أبداً) (1).. إلى أن قال: (فكل آية وعد الله المؤمنين فيها الجنة، وبشرهم بها، فإنما أراد الذين عملوا الصالحات، استدلالاً بهذه الآيات، ولو لم يكن ذلك كذلك، للزمنا أن نثبت الشهادة بالجنة لكل من لزمه اسم الإيمان، وجرت عليه الأحكام التي أجراها الله على المؤمنين على أي حال مات من تضييع الفرائض، وارتكاب المحارم بعد أن لا يكفر بالله) (2)
المناقشة والترجيح بين القولين
في مقدمة هذه الفقرة سنذكر قاعدتين مهمتين وباتضاحهما يمكن الفصل بين القولين بإذن الله.
القاعدة الأولى:] لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له. [.
والمقصود هنا الإيمان والإسلام المقبولان عند الله عز وجل.
__________
(1) سورة الكهف، آية 2-3.
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/567 - 569.(211/71)
قال أبو طالب المكي: (.. فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول، غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه) (1)
وق-ال ف-ي تحقي--ق الإي--مان بالعمل: (وم-ن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى..)) (2)(3).
ويقول ابن أبي شيبة: (لا يكون الإسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام...) (4).
وقال الإمام البغوي في تعليقه على حديث جبريل عليه السلام: (جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن
من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام (5)، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين ولذلك قال: ((ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعاً....) (6).
إذاً يمكن تلخيص هذه القاعدة بما يلي:
__________
(1) سورة الأنبياء، آية : 94.
(2) سورة طه، آية : 75.
(3) الإيمان لابن تيمية 316.
(4) تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/528.
(5) لو قال : ليس شرطاً في الإسلام لكان أولى لأنه لم يرد في النصوص إطلاق الإسلام على التصديق ( أي قول القلب ) .
(6) شرح السنة للبغوي 1/10.(211/72)
إن بين الإسلام والإيمان تلازماً (1) فلا يمكن أن يوجد أحدهما بدون الأخر، فلا يصح الإسلام ولا يوجد بدون أصل الإيمان، فإذا انتفي أصل الإيمان بطل الإسلام، كذلك لا يصح ولا يوجد إيمان بدون إسلام (أي عمل الجوارح، وعمل القلب) فلو انتفي العمل لدل ذلك على بطلان الإيمان وفساده.
القاعدة الثانية: (أن الاسم الواحد ينفي ويثبت بحسب الأحكام المتعلقة به، فلا يجب إذا أثبت أو نفى في حكم أن يكون كذلك في سائر الأحكام... كذلك كل ما يكون له مبتدأ وكمال، ينفى تارة باعتبار انتفاء كماله، ويثبت تارة باعتبار ثبوت مبدئه) (2).
ذكر هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا من دقته - رحمه الله - وسعة بحثه واستقرائه، وقبل أن نطبقها على مسألة الإيمان نذكر مثالاً من الأمثلة التي ذكرها لتتضح القاعدة أكثر.
__________
(1) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إذا قيل إن الإسلام والإيمان متلازمان، لم يلزم أن يكون أحدهما هو الآخر، كالروح والبدن، فلا يوجد عندنا روح حية إلا مع البدن، ولا يوجد بدن حي إلا مع الروح، وليس أحدهما الآخر )، الإيمان. 35، وراجع ص 313، 344، 349 من الكتاب نفسه.
(2) راجع هذه القاعدة وشرحها وأمثلة لها في الإيمان لابن تيمية 400 - 406.(211/73)
قال: (ولفظ النكاح وغيره في الأمر، يتناول الكامل، وهو العقد والوطء، كما في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) (1) وقوله: (حتى تنكح زوجاً غيره) (2) وفي النهي يعم الناقص والكامل، فينهي عن العقد مفرداً، وإن لم يكن وطء، كقوله: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) (3)، وهذا لأن الآمر مقصوده تحصيل المصلحة، وتحصيل المصلحة إنما يكون بالدخول كما لو قال: اشتر لي طعاماً، فالمقصود ما يحصل إلا بالشراء والقبض، والناهي مقصوده دفع المفسدة، فيدخل كل جزء منه، لأن وجوده مفسدة، وكذلك النسب والميراث معلق بالكامل منه، جزء منه، لأن وجوده مفسدة، وكذلك النسب والميراث معلق بالكامل منه، والتحريم معلق بأدنى سبب حتى الرضاع) (4).
__________
(1) سورة النساء، آية : 3.
(2) سورة البقرة، آية : 23.
(3) سورة النساء، آية : 21.
(4) الإيمان 403.(211/74)
قال: (وكذلك الإيمان له مبدأ، وكمال وظاهر، وباطن، فإذا علقت به الأحكام الدنيوية من الحقوق والحدود كحقن الدم، والمال، والمواريث، والعقوبات الدنيوية، الدنيوية من الحقوق والحدود كحقن الدم، والمال، والمواريث، والعقوبات الدنيوية، علقت بظاهرة، لا يمكن غير ذلك، إذ تعليق ذلك بالباطن متعذر، وإن قدر أحياناً، فهو متعسر علماً وقدرة، فلا يعلم ذلك علماً يثبت به في الظاهر، ولا يمكن عقوبة من يعلم ذلك منه في الباطن... وأما مبدؤه فيتعلق به خطاب الأمر والنهي، فإذا قال الله: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) (1) ونحو ذلك، فهو أمر في الظاهر لكل من أظهره، وهو خطاب في الباطن لكل من عرف من نفسه أنه مصدق للرسول، وان كان عاصياً، وإن كان لم يقم بالواجبات الباطنة والظاهرة،..... وأما كماله فيتعلق به خطاب الوعد بالجنة، والنصرة والسلامة من النار، فإن هذا الوعد إنما هو لمن فعل المأمور وترك المحظور، ومن فعل بعضاً وترك بعضاً فيثاب على ما فعله، ويعاقب على ما تركه، فلا يدخل في اسم المؤمن المستحق للحمد والثناء دون
الذم والعقاب ومن نفى عنه الرسول الإيمان، فنفي الإيمان في هذا الحكم (2)، لأنه ذكر ذلك على سبيل الوعيد، الوعيد إنما يكون بنفي ما يقتضي الثواب ويدفع العقاب، ولهذا ما في الكتاب والسنة من نفي الإيمان عن أصحاب الذنوب، فإنما هو في خطاب الوعيد والذم، لا في خطاب الأمر والنهي، ولا في أحكام الدنيا) (3).
وكلام المروزي السابق يتفق مع هذه القاعدة حيث قال: (إن اسم المؤمن قد يطلق على وجهين: اسم بالخروج من ملل الكفر، والدخول في الإسلام، وبه تجب الفرائض.... ويجري عليه الأحكام والحدود. واسم يلزم بكمال الإيمان وهو اسم ثناء وتزكية، يجب به دخول الجنة والفوز من النار.. إلخ كلامه وقد مر قريباً (4)
__________
(1) سورة المائدة، آية : 6.
(2) أي حكم الآخرة.
(3) الإيمان 404، 405.
(4) ص 70(211/75)
وبتطبيق هاتين القاعدتين على القولين السابقين يمكن أن نستنتج ما يلي:
1- أن الخلاف بين القولين يسير، فكلا الفريقين، يدخل العمل في مسمى الإيمان، وكلاهما لا يخرجون أهل المعاصي من الإيمان إلى الكفر، حتى الذين قالوا: إن أهل الكبائر يخرجون من الإيمان إلى الإسلام، لم يقولوا: إنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج والمعتزلة، وأهل السنة الذين قالوا هذا يقولون: الفساق يخرجون من النار بالشفاعة، وإن معهم إيماناً يخرجون به من النار، لكن لا يطلق عليهم اسم الإيمان، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب ودخول الجنة بلا عذاب، بل من ينكر على هؤلاء إخراجهم أهل المعاصي من الإيمان إلى الإسلام، لا يطلقون على أهل المعاصي الإيمان المطلق، وإنما يقولون مؤمن ناقص الإيمان (1)، وأن المنفي في النصوص المختلفة إنما هو كمال الإيمان ومن ثم قالقولان متفقان على أن أهل الكبائر لا يستحقون اسم الثناء المطلق والوعد بالجنة، وأن ذلك لمن كمل إيمانه، أيضاً يتفقون على أن من لزمه اسم الإيمان من أهل الكبائر يدخل في خطاب الأمر والنهي وبه تجب الفرائض والحدود.
من كل ما سبق، يتبين لنا أن الالتزامات التي ألزمها الإمام المروزي من يفرقون بينهما غير لازمة فهم - أي من يفرقون - وإن لم يطلقوا الإيمان على أهل الكبائر، فلا يخرجونهم من الإيمان ومن ثم فالخطاب بالفرائض والحدود والأحكام يشملهم، لأنه يشمل كل من دخل الإيمان، وهذا متفق عليه بين الفريقين (2)
__________
(1) راجع رقم (5) من أدلة محمد بن نصر، وتعليقه على حديث " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "
(2) راجع أدلة محمد بن نصر المروزي رقم (4)، (5) ورده على أدلة من يفرق رقم (2)(211/76)
أما استدلال الإمام محمد بن نصر ب- " حديث الجارية " فلا حجة فيه، لأن المراد بالحديث، أي حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا، هو الإيمان الظاهر، وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحك--ام الظاهرة، وليس المقصود بالحديث أنها تستحق دخول الجنة بلا عذاب إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار (1).
2- وكذلك الاستدلال بقول--ه تعالى: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (2)، على عدم التفريق، استدلال ضعيف لأن هؤلاء كانوا مؤمنين، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الاسمان ههنا لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال (3). ويحتمل وجهاً آخر، أن قوله (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) أي المستسلمين في الظاهر، وذلك لأن امرأة لوط كانت في أهل البيت الموجودين، وكانت في الظاهر مع زوجها، وفي الباطن مع قومها على دينهم، خائنة لزوجها تدل قومها على أضيافه (4).
3- وأما استدلال الإمام المروزي] رقم (2) (3) [فقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناقشته وخلاصة رده يتلخص بما يلي:
أن المسلم الممدوح هو المؤمن الممدوح، وأن المذموم ناقص الإيمان والإسلام، وأن المؤمن المستحق لوعد الله هو المسلم المستحق لوعد الله، قال: وهذا متفق على معناه بين السلف والخلف، كلهم يقولون: إن المؤمن الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مسلماً، والمسلم الذي وعد بالجنة لابد أن يكون مؤمناً، وكل من يدخل الجنة بلا عذاب فهو مؤمن مسلم، ويتبع ذلك الأنبياء الذين وصفهم الله بالإسلام كلهم كانوا مؤمنين، وقد وصفهم الله بالإيمان، ولو لم يذكر ذلك عنهم، فنحن نعلم قطعاً أن الأنبياء كلهم مؤمنون.
__________
(1) انظر الإيمان لابن تيمية ص 197، 398.
(2) سورة الذاريات : 36.
(3) انظر تفسير ابن كثير 4/253.
(4) انظر الإيمان الأوسط ص 15، 16.(211/77)
وقال جواباً عن استدلال المروزي بقوله عز وجل: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه) (1). (هذا يقتضي أن كل من دان بغير الإسلام فعمله مردود، وهو خاسر في الآخرة، فيقتضي وجوب دين الإسلام وبطلان ما سواه، لا يقتضي أن مسمى الدين، هو مسمى الإيمان، فإن الإسلام الاستسلام له بقلبه وقصده وإخلاص الدين، والعمل بما أمر به، كالصلاة والزكاة خالصاً لوجهه، فهذا هو الذي سماه إسلاماً، وجعله ديناً (2) ولم يدخل فيما خص به الإيمان، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله (أي تصديق القلب) فإن هذه جعلها من الإيمان، والمسلم المؤمن يتصف بها، وليس إذا اتصف بها المسلم المؤمن يلزم أن تكون من الإسلام، بل هي من الإيمان، والإسلام فرض، والإيمان فرض والإسلام داخل فيه، فمن أتى بالإيمان الذي أمر به، فلابد أن يكون قد أتى بالإسلام المتناول لجميع الأعمال الواجبة، ومن أتى بما سمي إسلاماً لم يلزم أن يكون قد أتى بالإيمان إلا بدليل منفصل) (3)
__________
(1) سورة آل عمران، آية : 85.
(2) قال ابن تيمية : (( فإن الإسلام من جنس الدين والعمل والطاعة والانقياد والخضوع ( عمل القلب والجوارح ) فمن ابتغى غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، والإيمان طمأنينة ويقين، أصله علم وتصديق ومعرفة، والدين تابع له ( أي الإسلام ) ))، الإيمان 361.
(3) الإيمان 392(211/78)
ج – وأخيراً قال: (والآيات التي احتج بها محمد بن نصر تدل على وجوب الإسلام، وأنه دين الله، وأن الله يحبه ويرضاه، وأنه ليس له دين غيره، وهذا كله حق، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه هو الإيمان، بل يدل على أنه بمجرد الإسلام يكون الرجل من أهل الجنة، فإن الله وعد المؤمنين بالجنة في غير أية، ولم يذكر هذا الوعد باسم الإسلام (أي المجرد) وحينئذ فمدحه وإيجابه ومحبة الله له تدل على دخوله في الإيمان، وأنه بعض منه) (1)
خلاصة المناقشة والترجيح:
الرأي الراجح كما يتضح من العرض السابق أن مسماهما مختلف وذلك للأدلة التالية:
أصل الإيمان التصديق، والخضوع والانقياد تابع، وأصل الإسلام الخضوع والانقياد، ومنه الأركان الخمسة، لذلك نجد في أكثر النصوص إطلاق الإيمان على الباطن، والإسلام على الظاهر، ومن ذلك حديث جبريل عليه السلام المشهور.
لم يرد في النصوص الوعد بالجنة على الإسلام المطلق، كما في الإيمان المطلق.
لم يرد في النصوص أن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله (قول القلب)، يدخل في مسمى الإسلام، كما ورد في دخول أعمال القلب والجوارح في الإيمان، وإن كان يلزم الإسلام جنس تصديق.
لا يعرف في النصوص نفي الإسلام عمن ترك شيئاً من الواجبات، أو فعل الكبائر (2) كما ورد في الإيمان.
فالأدلة السابقة - كما ترى - صريحة في اختلاف مسماهما، ومع ذلك فهناك استعمالات وحالات تجعلهما يتفقان ومن ذلك:
الإيمان الكامل، لابد أن يكون معه إسلام كامل، أما الإسلام الكامل فلا يلزم منه الإيمان الكامل ولكن لابد أن يكون معه أصل الإيمان.
أيضاً يمكن أن يقال إن المسلم الممدوح هو المؤمن الممدوح، وذلك كمدح الأنبياء بالإسلام
__________
(1) الإيمان 351 - 352 وانظر تفاصيل أخرى في الإيمان أيضاً 347 - 352 - 360 - 363 - 391 - 396
(2) انظر جامع العلوم والحكم 27(211/79)
ويشتركان في الخطاب بالإيمان أمراً أو نهياً من أحكام وحدود ومواريث وغيرها، لأن الخطاب بالإيمان يشمل كل الداخلين فيه سواء كان معهم أصل الإيمان أو كماله
في حال الافتراق يكون معناهما واحد، وعند الاجتماع يفترقان في المعنى وأخيراً نقول لعل من يساوون بينهما ظنوا أن التلازم بينهما يلزم منه أن يكون مسماهما (واحداً)، يقول محمد بن نصر: (ومن فرق بينهما، فقد عارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم - بالرد، إلا أن أحدهما أصل للآخر، لا ينفك أحدهما عن الآخر، لأن أصل الإيمان هو التصديق، وعنه يكون الخضوع، فلا يكون مصدقاً إلا خاضعاً، ولا خاضعاً إلا مصدقاً..)(1) فكلام المروزي هنا يقتضي أن مسماهما مختلف، والله أعلم
خامسا: الإيمان يزيد وينقص
أجمع أهل السنة على أن الإيمان يتفاضل، وجمهورهم على أنه يزيد وينقص وسنبحث هنا:
أدلة الزيادة والنقصان عندهم
(ب) حقيقة الخلاف حول النقصان
(ج) كيف تكون الزيادة والنقصان
أدلة الزيادة والنقصان:
من القرآن الكريم قال الله - عز وجل (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم) (2)
وقال عز وجل (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً)(3).
وقال تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون) (4).
وقال تعالى: (ويزداد الذين آمنوا إيماناً)(5).
وقال تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (6).
وهذه صريحة بزيادة الإيمان، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة (7).
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 2/715، 716، وراجع 2/695 - 697، وراجع القاعدة الأولى
(2) سورة الفتح، آية : 4
(3) سورة الأنفال، آية : 2
(4) سورة التوبة، آية : 124
(5) سورة المدثر، آية : 31
(6) سورة آل عمران، آية 173
(7) الفتح 1/47 .(211/80)
وقال ابن بطال(1) (فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص)(2).
2- أما الأحاديث فكثيرة جدا، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ".
وقال البخاري وقال أبان حدثنا قتادة حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم من إيمان مكان من خير (3).
وضع الإمام البخاري هذا الحديث تحت باب (زيادة الإيمان ونقصانه) وهو ظاهر الدلالة على تفاوت الناس بما في قلوبهم من الإيمان (والمراد بحبة الخردل ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد (4) مثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكراً... إلى قوله وذلك أضعف الإيمان "(5)
وفي حديث الأمانة ".. وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.. الحديث " (6)
__________
(1) * ابن بطال: أبو الحسن، علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال القرطبي له شرح البخاري، ينقل عنه الحافظ في الفتح كثيراً، توفي سنة 449ه-، الأعلام 4/285، شذرات الذهب 3/283.
(2) مسلم شرح النووي 1/146.
(3) صحيح البخاري، كتاب الإيمان " باب زيادة الإيمان ونقصانه " رقم 44 الفتح 1/103 وهناك رواية أخرى - من طريق أبي سعيد الخدري تحت باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال ) 1/72 .
(4) الفتح 1/73 .
(5) رواه مسلم (في الإيمان ) " باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان .." رقم 49، والترمذي 4/2173، وأبو داود رقم 1140، والنسائي 8/111 وابن ماجه رقم 4013.
(6) رواه مسلم كتاب الإيمان " باب رفع الأمانة والإيمان " رقم 143(211/81)
الأحاديث التي فيها نفي الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " (1)
وقوله صلى الله عليه وسلم " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.. الحديث " (2).
وقوله " لا إيمان لمن لا أمانة له.. الخ " (3).
قال النووي (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة) (4).
فالذي يترك هذه المعاصي أكمل إيماناً ممن يقترفها.
قوله صلى الله عليه وسلم " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " (5).
قال الحليمي رحمة الله: (فدل هذا القول على أن حسن الخلق إيمان، وأن عدمه نقصان إيمان، وأن المؤمنين متفاوتون في إيمانهم، فبعضهم أكمل إيماناً من بعض)(6).
__________
(1) متفق عليه البخاري الإيمان " باب حب الرس-ول صلى الله عليه وسلم - من الإيمان " رقم 15 ومسلم الإيمان " باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقم 44.
(2) سبق تخريجه ص 48.
(3) سبق تخريجه ص 48.
(4) مسلم بشرح النووي 2/41
(5) أخرجه الإمام أحمد 2/527 وابن أبي شيبة في المصنف 8/328، 11/28 وفي الإيمان رقم 17 وأبو داود في السنة " باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه " رقم 4682، والترمذي في الرضاع " باب حق المرأة على زوجها " وقال حديث حسن صحيح رقم 162، والدارمي ص 719، والحاكم 1/3 وقال صحيح على شرط مسلم والبيهقي في الشعب 1/160 وابن حبان : 6/188، من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها في المسند 6/47، 99 وغيره وحسن الألباني طريق أبي هريرة كما في حاشية الإيمان لابن أبي شيبة، والسلسلة الصحيحة رقم 1/284
(6) المنهاج في شعب الإيمان 1/61(211/82)
ومما استدل به أهل السنة من الأحاديث الدالة على نقص الإيمان قوله صلى الله عليه وسلم عن النساء في حديث طويل: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ " قلن: بلى يا رسول الله، قال: " فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ " قلن: بلى قال: " فذلك من نقصان دينها " (1).
قال الإمام البغوي: وقالوا (أي أهل السنة): إن الإيمان قوله وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء الحديث بالنقصان في وصف النساء) (2)
وقال الحليمي: (فإذا كانت المرأة لنقصان صلاتها عن صلاة الرجال تكون أنقص ديناً منهم، مع أنها غير جانية بترك ما تترك من الصلاة، أفلا يكون الجاني بترك الصلوات أنقص ديناً من المقيم بها المواظب؟) (3)
أقوال الصحابة: صحت آثار كثيرة عن الصحابة رضوان الله عليهم نختار بعضاً منها
__________
(1) رواه البخاري كتاب الحيض " باب ترك الحائض الصوم والصلاة " رقم 304، الفتح 1/345، 346 ومسلم في الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، ( مسلم بشرح النووي 2/66)
(2) شرح السنة 1/39
(3) المنهاج 1/63(211/83)
عن الأسود بن هلال (1) قال: قال لي معاذ بن جبل: " اجلس بنا نؤمن ساعة " (2) قال الحافظ في الفتح (ووجه الدلالة ظاهرة، لأنه لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمناً وأي مؤمن (3) وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيماناً بذكر الله تعالى) (4).
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: " اللهم زدناً إيماناً ويقيناً وفقهاً " (5).
وعن أبي الدرداء أنه كان يقول " الإيمان يزداد وينقص " (6).
وعن أبي هريرة أنه كان يقول " الإيمان يزيد وينقص " (7).
وعن عروة بن الزبير أنه قال " (ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه) (8).
__________
(1) الأسود بن هلال المحاربي، أبو سلام الكوفي مخضرم، ثقة جليل، مات سنة 84 ه- تقريب التهذيب 1/77، وتهذيب التهذيب 1/342
(2) رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، الفتح 1/45 ووصله أحمد وابن بطة في الإبانة 2/847 واللالكائي 5/943 بسندين، وابن أبي شيبة في الإيمان بسندين ص 35، وأبو = عبيد في الإيمان، رقم 20 بسند صحيح، قاله الحافظ في الفتح 1/48
(3) كذا في الفتح، والمعنى أنه لا يحمل على أصل الإيمان لكون معاذاً كان مؤمناً، وأي مؤمن لأنه من السابقين - رضوان الله عليهم أجمعين
(4) الفتح 1/48
(5) رواه الإمام أحمد في الإيمان، وابن بطة في الإبانة 2/846، والآجري 114، واللالكائي 5/942 قال ابن حجر إسناده صحيح، الفتح 1/48
(6) رواه الإمام أحمد في الإيمان وعنه ابنه عبد الله في السنة 74، 75 وابن بطه في الإبانة 2/843، وابن ماجه في الإيمان رقم 75، واللالكائي 5/944
(7) رواه الإمام أحمد في الإيمان وعنه ابنه عبد الله في السنة 75 والآجري في الشريعة ص 111، وابن بطه في الإبانة 2/844 واللالكائي 5/945
(8) رواه ابن أبي شيبة في الإيمان رقم 10، وابن بطة في الإبانة 2/852 والآجري في الشريعة ص 118، والبيهقي في شعب الإيمان 1/197(211/84)
وعن عمير بن حبيب الخطمي (1) قال: (الإيمان يزيد وينقص، قيل وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا فذلك نقصانه) (2).
إلى غير ذلك من الآثار عن الصحابة الصريحة في إثباتهم الزيادة والنقصان في الإيمان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان فيه عن الصحابة، ولم يعرف فيه مخالف من الصحابة) (3)
وبناء على ما سبق فقد قال جمهور السلف من التابعين وتابعيهم والأئمة من بعدهم بذلك ونقل الأئمة المصنفون في عقائد أهل السنة الكثير من الآثار عن الأئمة وفيما ذكرنا من الآيات والأحاديث وأقوال الصحابة ما يشفي ويكفي لمريد الحق والصواب والله الموفق (4).
اختلاف الرواية عن مالك حول النقصان:
يقول الإمام ابن عبد البر: (وقد روى ابن القاسم عن مالك، أن الإيمان يزيد، ووقف في نقصانه، وروى عنه عبد الرزاق ومعمر بن عيسى وابن نافع وابن وهب أنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد لله) (5).
__________
(1) هو عمير بن قتادة بن سعد الليثي، صحابي، من مسلمي الفتح، استشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم انظر التهذيب 8/148، 149 التقريب 2/86
(2) رواه ابن أبي شيبة في الإيمان رقم 14 وأحمد في الإيمان وعنه عبد الله في السنة 75، 81، والآجري في الشريعة ص 411، وابن بطة في الإبانة 2/845 والبيهقي في الشعب 1/196
(3) الإيمان 211، وراجع آثارا أخرى عن الصحابة عند اللالكائي 5/941 - 950
(4) راجع على سبيل المثال آثارا عن السلف في ذلك عند اللالكائي 5/941 - 964، والإبانة لابن بطة 2/844 - 859 وغيرها
4) التمهيد لابن عبد البر 9/252، وأشار الإمام النووي إلى توقف الإمام مالك في بعض الروايات عن القول بالنقص انظر شرح النووي على مسلم 1/146(211/85)
وقال ابن تيمية (وكان بعض الفقهاء من أتباع التابعين لم يوافقوا في إطلاق النقصان عليه لأنهم وجدوا ذكر الزيادة في القرآن، ولم يجدوا ذكر النقص، وهذا إحدى الروايتين عن مالك، والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم أنه يزيد وينقص) (1).
ولم أجد الرواية عن مالك في التوقف التي أشار إليها الأئمة.
ووجدت عدة روايات، وإشارات من الأئمة على قول مالك بالزيادة والنقصان كبقية الأئمة، ومن ذلك.
قال عبد الرزاق: سمعت سفيان الثوري، وابن جريج، ومالك بن أنس، ومعمر بن راشد وسفيان بن عيينة يقولون: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) (2).
وطريق أخرى عن أبي الغنى الحسن بن علي نعمان قال أخبرنا عبد الرزاق قال لقيت اثنين وستين شيخاً وذكر منهم مالك بن أنس كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (3).
وطريق ثالثة عن عبد الرزاق من طريق أحمد بن منصور الرمادي عنه بمثل الرواية الأولى مع تقديم وتأخير في الأسماء (4).
2- وعن عبد الله بن نافع قال: قال مالك (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) (5).
__________
(1) الإيمان الأوسط 48، وراجع الإيمان ص 210
(2) رواه عبد الله بن أحمد في السنة 87، والآجري في الشريعة 117 واللالكائي 5/975، وابن عبد البر، التمهيد 9/252 من طريق سلمة بن شبيب قال أخبرنا عبد الرزاق
(3) شرح السنة لللالكائي 5/958
(4) الإبانة لابن بطة 2/813 وراجع رابعة عن عبد الرزاق، التمهيد 9/253
(5) رواه عبد الله بن أحمد في السنة 26 وأبو داود في مسائل الإمام أحمد 113 والآجري في الشريعة 118 واللالكائي 5/959(211/86)
ورواية ثالثة قال إسحاق بن محمد: " كنت عند مالك بن أنس فسمعت حماد بن أبي حنيفة يقول لمالك: يا أبا ع-بد الله إن لنا رأيا نعرضه عليك فإن رأيته حسناً مضينا عليه، وإن رأيته غير ذلك كففنا عنه، قال: ما هو؟ (فعرض عليه مسألة من أصول العقيدة، فوافقه الإمام مالك) فقام بعض تلامذة الإمام مالك فقالوا: يا أبا عبد الله إن هذا يقول بالإرجاء قال: ديني مثل دين الملائكة المقربين قال (أي مالك) لا والله الإيمان يزيد وينقص) (1).
أما رواية معمر بن عيسى، وابن وهب المشار إليها في التمهيد فلم أجدهما.
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام هذه تسمية من كان يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وذكر ثلاثاً وثلاثين ومائة اسماً ممن يقول بذلك ومنهم الإمام مالك رحمه الله) (2)
والمقصود من نقل هذه الروايات الإشارة إلى أن الإمام مالك يقول كما يقول أهل السنة: إن الإيمان يزيد وينقص حتى من نقل عنه التوقف عن القول بالنقصان أشار إلى الروايات الأخرى عنه التي يقول فيها بالزيادة والنقصان كما قال ذلك ابن عبد البر وابن تيمية والنووي
والسؤال المطروح هنا، لماذا توقف الإمام مالك في بعض الروايات عن القول بالنقصان؟
والجواب:
لعله توقف في ذلك لأنه وجد ذكر الزيادة في القرآن ولم يجد النقص(3) وكذلك لأنه لم يوجد التصريح بالنقص في الأحاديث النبوية.
قال الإمام النووي (قال بعضهم إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين) (4).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي 5/960
(2) الإبانة لابن بطة 2/814 - 826
(3) أشار إلى ذلك ابن تيمية في الإيمان الأوسط 48
(4) مسلم بشرح النووي 1/146(211/87)
ولعل الإمام النووي يشير إلى أن القول بنقصان الإيمان يساوي عند البعض وخاصة ممن يقول بأن الإيمان واحد، وأن التصديق لا يتفاضل، وأن الأعمال لا تدخل في مسمي الإيمان يساوى عند هؤلاء القول بكفر أهل المعاصي فحيث إن الإيمان عند هؤلاء واحد فهو غير قابل للزيادة ولا النقصان فالقول بأن المعاصي تنقص الإيمان بمعنى تبطله عندهم فيكون القول بالنقصان يشبه قول الخوارج في زعمهم، أما القول بالزيادة فلا يحصل به عندهم هذا اللبس.
ولذلك توقف الإمام مالك في بعض الروايات خشية أن يظن أنه موافق للخوارج والله أعلم
وأخيراً يمكن أن يقال لعل ذلك كان قولاً قديماً له تراجع عنه لما بلغته الآثار عن الصحابة وفيها التصريح بالنقصان ولذلك نقل ذلك أكثر أصحابه وكذلك الأئمة نقلوا قوله بالزيادة والنقصان ولم يحكوا عنه خلافه.
مجالات الزيادة والنقصان
عرفنا أن الإيمان: قول وعمل، وأن القول يشمل قول القلب واللسان، وأن العمل يشمل عمل القلب والجوارح فهل التفاضل يكون بعمل الجوارح فقط؟ أم بعمل القلب فقط؟ أم أن التصديق والمعرفة يشملها التفاضل أيضاً؟ وإذا كان كذلك فكيف تكون الزيادة والنقصان في التصديق والمعرفة؟ وللجواب على ذلك نقول ابتداء: إن الكلام عن زيادة الإيمان ونقصانه فرع عن القول في الطاعات وأنها إيمان(1) فمن لا يدخل الطاعات في الإيمان، لا يقول بالزيادة والنقصان، لأن الإيمان عندهم واحد لا يتبعض ولا يتفاضل (2)
__________
(1) راجع الجامع لشعب الإيمان 1/159
(2) سيأتي بيان ذلك عند مناقشة الفرق في مفهوم الإيمان(211/88)
أما من يدخل العمل في الإيمان - وهم أهل السنة - فيتفقون على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويزيد بذكر الله عز وجل وينقص بالغفلة ونسيان ذكر الله عز وجل لكن قد يفهم البعض من ذلك أن السلف يقصرون مجال التفاضل على عمل الجوارح وقول اللسان، والحقيقة خلاف ذلك، فقول السلف إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لا يقصدون بالطاعة عمل الجوارح وقول اللسان فقط بل عمل القلب من الطاعة، فالح--ب في الله والبغض في الله وحب الأنصار، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، والخوف، والرجاء، والتوكل.. الخ كل ذلك من الطاعات وهو من الإيمان كما سبق، ومن ثم يتفاوت الناس فيه، والأمر في هذا بين، فهل يمكن أن يقال إن الناس متساوون في حبهم وبغضهم وخوفهم ورجائهم؟ كذلك أيضاً يقولون إن الإيمان ينقص بالحسد والكبر والعجب إلخ مما ينافي عمل القلب الواجب أيضاً التصديق والمعرفة والعلم (أي قول القلب) تشمله الزيادة والنقصان وهو من الطاعات(1).
يقول ابن رجب رحمه الله (... التصديق القائم بالقلوب يتفاضل، وهذا هو الصحيح.. فإن إيمان الصديقين الذي يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شكك لدخله الشك.....)(2).
__________
(1) من المعلوم قطعاً أن طلب العلم مطلوب شرعاً، والعلم المفصل وكذلك العلم الذي يصحبه عمل أكمل وأتم وأفضل .
(2) جامع العلوم والحكم 28، وراجع المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 1/55(211/89)
ويقول الإمام النووي: (فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبهة ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يشك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه آحاد الناس) (1).
وعلق الحافظ ابن حجر في الفتح على (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنا أعلمكم بالله " وأن المعرفة فعل القلب...) مبيناً ما يؤخذ من الترجمة، قال (فيه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه لأنه قوله صلى الله عليه وسلم " أنا أعلمكم بالله " ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض) (2).
يؤخذ من النصوص السابقة القول بتفاضل التصديق والمعرفة، وأن ذلك يكون بكثرة الأدلة وقوتها (فمن كان مستند تصديقه ومحبته أدلة توجب اليقين، وتبين فساد الشبهة العارضة، لم يكن بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك) (3).
أيضاً (نفس التصديق والعلم في القلب يتفاضل باعتبار الإجمال والتفصيل، فليس تصديق من صدق الرسول مجملاً من غير معرفة منه بتفصيل أخباره كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته والجنة والنار والأمم وصدقه في ذلك كله..) (4).
يقول ابن بطال (التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل فمن قل علمه كان تصديقه مثلاً بمقدار ذرة والذى فوقه في العلم بمقدار برة أو شعيرة) (5).
__________
(1) مسلم بشرح النووي 1/148، 149 وراجع الفتح 1/46
(2) فتح الباري 1/70
(3) الإيمان الأوسط 107
(4) الإيمان الأوسط 106
(5) الفتح 1/103(211/90)
وكذلك (التصديق المستلزم لعمل القلب، أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله فالعلم الذي يعمل به صاحبه، أكمل من العلم الذي لا يعمل به، وإذا كان شخصان يعلمان أن الله حق، ورسوله حق، والجنة حق والنار حق، وهذا علمه أوجب له محبة الله، وخشيته، والرغبة في الجنة، والهروب من النار، والآخر علمه لم يوجب ذلك فعلم الأول أكمل..) (1).
إذا التصديق والمعرفة يزيد وينقص من حيث:
كثرة الأدلة وقوتها أو قلتها وضعفها
ومن حيث الإجمال والتفصيل
ج- ومن حيث التصديق المستلزم لعمل القلب أو عدمه، والله أعلم (2)
سادسا: مراتب الإيمان
علمنا في المبحث السابق تفاوت الناس في إيمانهم على حسب علمهم وعملهم، وفي هذا المبحث سنبين مراتب الإيمان وطبقات الناس فيه، وما هو الحد الأدنى الذي من أخل به ذهب إيمانه، وما هو الحد الأعلى الذي يبلغ بصاحبه درجة الصديقين.
اسم الإيمان، وحقيقته:
قال الإمام الخطابي (إن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أدنى وأعلى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جميع أجزائها...) (3).
__________
(1) الإيمان 221
(2) راجع شرح ذلك في المختار من كنوز السنة، للدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله 77 - 82 وراجع مجالات أخرى من مجالات التفاضل في الإيمان 219 - 224 والإيمان الأوسط 104 - 110
(3) معالم السنن حاشية سنن أبي داود 5/56 وانظر أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري 1/242، 143(211/91)
إذا حقيقة الإيمان واستكماله لا تكون إلا بأداء الفرائض واجتناب المحارم، وأما اسم الإيمان وحكمه فيشمل كل من دخل الإيمان وإن لم يستكمله وهكذا (الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل فيها بعضهم بعضاً وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك أنك تجد القوم صفوفاً بين مستفتح للصلاة، وراكع وساجد، وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون وكذلك صناعات الناس، لو أن قوماً ابتنوا حائطاً وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نصفه، وثالث قد قارب الفراغ منه، قيل لهم جميعاً بناة وهم متبانيون في بنائهم وكذلك لو أن قوماً أمروا بدخول دار، فدخلها أحدهم فلما تعتب الباب أقام مكانه، وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها، قيل لهم جميعاً داخلون وبعضهم فيه-ا أكثر مدخلاً من بعض فكذلك المذهب في الإيمان.. هو درجات ومنازل وإن سمي أهله اسماً واحداً) (1).
__________
(1) الإيمان لأبي عبيد 75، 76(211/92)
أيضاً مما ينبغي تأكيده في هذا المجال أن ما ورد من نفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر هو داخل في هذا المعنى الذي ذكرنا، أي أن المنفي ليس اسم الإيمان والدخول فيه إنما المنفي هو حقيقة الإيمان وكماله، يقول الإمام أبو عبيد (فإن قال قائل كيف يجوز أن يقال ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عاملة إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً وإنما وقع معناه هاهنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكملوا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال ما هو بولده، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة البر، وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أحكامها وأسماؤها فكذلك هذه الذنوب التي ينفي بها الإيمان إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته، فأم-ا الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك ولا يقال لهم مؤمنون (1)وبه الحكم عليهم (2) ثم ذكر شواهد شرعية على ذلك فلتراجع.
يتبين لنا من النقل السابق أن هناك أمرين أحدهما عام والآخر خاص، فأما العام فهو استحقاق اسم الإيمان لكل من دخل الإيمان، سواء استكمله أم كان معه الحد الأدنى منه، وأما الخاص، فهو إطلاق الإيمان على معنى الكمال لمن عمل حقائق الإيمان.
فالمؤمنون متفاوتون في مراتب إيمانهم فمنهم من معه أصل الإيمان (الحد الأدنى منه) دون حقيقته الواجبة، ومنهم من بلغ درجات الكمال الواجب أو المستحب وإليك بيان ذلك.
1- أصل الإيمان:
__________
(1) أي بقاء اسم الإيمان وأصله دون حقيقته وكماله
(2) الإيمان لأبي عبيد 90، 91(211/93)
ويمكن أن يطلق عليه الإيمان المجمل أو مطلق الإيمان، والمقصود به الحد الأدنى من الإيمان الذي هو شرط صحة الإيمان والنجاة من الخلود في النار في الآخرة إن مات على ذلك، وبه تثبت الأحكام من فرائض ومواريث، وهذا الإيمان غير قابل للنقصان، لأن نقصانه يعني خروج الإنسان عن اسم الإيمان.
وهذه المرتبة يطلق على صاحبها الإسلام أو الإيمان المقيد (مؤمن ناقص الإيمان أو فاسق,فيدخل تحت هذه المرتبة أهل الكبائر عموماً, وكذلك من أسلم من أهل الطاعة ممن لم تدخل حقائق الإيمان في قلوبهم.
يقول ابن تيمية عن أهل هذه المرتبة: (... فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم، إنما يحصل شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين وإلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفاراً ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب، ولا عندهم قوة الحب لله ولرسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، وهؤلاء إن عرفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يورد عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع آخر من النفاق...) (1).
__________
(1) الإيمان ( 257 )، ( 258 ).(211/94)
أيضاً كل من أزالت عنه النصوص الإيمان من أهل المعاصي هو داخل تحت هذه المرتبة لأن المنفي في النصوص هو حقيقة الإيمان، وكماله أو الإيمان الواجب، أما أصل الإيمان فلا ينتفي إلا عمل الكفر الأكبر. قال الإمام المروزي: (الكفر ضد أصل الإيم-ان، لأن للإيمان أصلاً وفروعاً يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان... فإن قيل: فالذي زعمت-م أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أزال اسم عنه الإيمان (1) هل فيه من الإيمان شيء؟ قالوا: نعم، أصله ثابت ولولا ذلك الكفر) (2).
1- الإيمان الواجب:
وقد يقال عنه الإيمان الكامل، أو الإيمان المفصل أو الإيمان المطلق أو حقيقة الإيمان، ويكون صاحبه ممن يؤدى الواجبات وبجتنب الكبائر وهو ممن وعد بالجنة بلا عذاب. قال الإمام المروزي: (إن اسم المؤمن قد يطلق على وجهين: اسم بالخروج من ملل الكفر والدخول في الإسلام (أصل الإيمان).. واسم يلزم بكمال الإيمان وهو اسم ثناء وتزكية يجب به دخول الجنة والفوز من النار..
] إلى أن قال [: والمؤمنون الذين زكاهم وأثنى عليهم، ووعدهم الجنة هم الذين أكملوا إيمانهم باجتناب كل المعاصي، واجتناب الكبائر...) (3). ولهذا لا يوصف أهل الكبائر بالإيمان المطلق، لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب ودخول الجنة بلا عذاب، وهؤلاء معرضون للوعيد ودخول النار إلا أن يشاء الله.
قال ابن الصلاح: (ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد....) (4).
__________
(1) مثله قوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا إيمان لمن لا أمانة له ) ونحو ذلك.
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/513.
(3) تعظيم قدر الصلاة 2/567.
(4) نقلاً عن مسلم شرح النووي 1/148 .(211/95)
ويقول ابن تيمية (من أتى بالإيمان الواجب استحق الثواب، ومن كان فيه شعبة نفاق، وأتى بالكبائر فذاك من أهل الوعيد، وإيمانه ينفعه الله به ويخرجه به من النار (إن دخلها) ولو أنه مثقال حبة من خردل، لكن لا يستحق به الاسم المطلق المعلق به وعد الجنة بلا عذاب) (1).
لكن يرد هنا سؤال، وهو: ما حكم من أتى الواجبات، واجتنب الكبائر، ولكنه ارتكب بعض الصغائر، هل ينقص عن مرتبة الإيمان الواجب؟
وقد أجاب عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بجواب محكم فقال: (والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينفه - أي الإيمان - إلا عن صاحب كبيرة وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات، واجتنابه الكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر فمن (2) أتى بالإيمان الواجب ولكنه خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقص بذلك درجة عمن لم يأت بذلك) (3).
إذاً أهل هذه المرتبة متفاوتون على حسب تورعهم عن الصغائر، فمن كان منهم أحرص على اجتنابها كان إيمانه أكمل ممن يغشاها.
1- الإيمان المستحب:
أو الإيمان الكامل (4) بالمستحبات، وهذه المرتبة هي مرتبة الإحسان، وصاحب هذه المنزلة لا يكتفي بعمل الواجبات وترك المحرمات، بل يضيف إلى ذلك فعل المستحبات، وهذا حاله في عامة الأعمال كالصلاة والحج والصوم والغسل وغيره... فالحج مثلاً (فيه أجزاء ينقص الحج بزوالها عن كماله الواجب ولا يبطل، كرمي الجمار، والمبيت بمنى ونحو ذلك، وفيه أجزاء ينقص بزوالها عن كماله المستحب، كرفع الصوت بالإهلال، والرمل، والاضبطاع في الطواف الأول (5).
__________
(1) الإيمان 334، وانظر نصوصاً أخرى في 398، 331، الأوسط 67.
(2) في الأصل (فما )، ولعل الصواب ما أثبت.
(3) الإيمان 337.
(4) يقول ابن تيمية ( لفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب ) الإيمان 186، وذلك يتضح بالقرائن.
(5) الإيمان الأوسط 59، راجع الإيمان ص 186.(211/96)
فمن أتى بالواجبات فقط فهو من أهل الإيمان الواجب، ومن زاد على ذلك المستحبات فهو من أهل الإيمان المستحب.
وقد ورد في القرآن الكريم في عدة مواضع الإشارة إلى هذه المراتب (أصل
الإيمان، الإيمان الواجب، المستحب قال - تعالى -: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) (1).
فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه، وقد ذكر - سبحانه - تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة في سورة الواقعة والمطففين، وهل أتى، وذكر الكفار أيضاً) (2).
الفصل الثاني:
المعاصي وأثرها على الإيمان عند أهل السنة
1- المعاصي تنقسم إلى كبائر وصغائر
2- الفرق بين الكبائر والصغائر
3- حكم أهل الكبائر عند أهل السنة وأدلتهم
المعاصي تنقسم إلى كبائر وصغائر
ذهب جمهور أهل السنة إلى انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، وحكى الإمام ابن القيم الإجماع على ذلك حيث قال: (والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف وبالاعتبار) (3). واستدلوا لذلك بعدة أدلة منها:
قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) (4).
قال القرطبي (لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، دل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء) (5).
__________
(1) سورة فاطر، آية : 32.
(2) الإيمان لابن تيمية 342، وانظر الإيمان الأوسط 189.
(3) مدارج السالكين 1/342، وراجع الجواب الكافي 186.
(4) سورة النساء، آية : 31.
(5) تفسير القرطبي ( الجامع لأحكام القرآن 5/158 ).(211/97)
وقال الإمام الشوكاني: ((أي إن تجتبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها نكفر عنكم سيئاتكم أي ذنوبكم التي ه-ي صغائر، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات) (1).
قوله عز وجل: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) (2)، هذه الآية صريحة الدلالة في تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر على خلاف بين العلماء في المقصود باللمم.
__________
(1) فتح القدير 1/457، 458.
(2) سورة النجم، الآية : 32.(211/98)
فقد اختلف السلف في معين ((اللمم)) على قولين مشهورين، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (فأما اللمم فقد روي عن جماعة من السلف: أنه الإلمام بالذنب مرة، ثم لا يعود إليه، وإن كان كبيراً: قال البغوي: هذا قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عطاء عن ابن عباس.. والجمهور على أن اللمم مادون الكبائر، وهو أصح الروايتين عن ابن عباس، كما في صحيح البخاري من حديث طاووس عنه قال: ((ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (1).. إلي أن قال رحمه الله: والصحيح: قول الجمهور: أن اللمم صغائر الذنوب، كالنظرة، والغمزة، والقبلة، ونحو ذلك. هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو قول أبي هريرة وعبد الله بن مسعود، وابن عباس ومسروق والشعبي، ولا ينافي هذا قول أبي هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى: ((انه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها)) فإن ((اللمم)) إما أنه يتناول هذا وهذا ويكون على وجهين، كما قال الكلبي، أو أن أباهريرة وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة – ولم يصر عليها، بل حصلت منه فلته في عمره – باللمم، ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مراراً عديدة، وهذا من فقه الصحابة – رضى الله عنهم – وغور علومهم، ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث، وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنوب عادته، وتكرر منه مراراً عديدة (2)، وذكر شيخ الإسلام ابن تيميه الآيات الدالة على انقسام الذنوب (3) ومنها قوله تعالى: ((والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون)(4) وقوله عز وجل:
__________
(1) سبق تخريجه ص 31.
(2) مدارج السالكين 1/343 – 345 وانظر تفسير ابن كثير 4/255، 256 .
(3) الفتاوى 11/659
(4) سورة الشورى آية : 37(211/99)
(وقال مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)(1) وقوله تعالى: (وكل صغير وكبير مستطر)(2)
3- قوله صلى الله عليه وسلم ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) (3).
قال النووي: (.. وتنقسم (أي المعاصي) باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى مالا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح " ما لم يغش كبيرة" فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر ومالا تكفره كبائر)(4) ومثله قوله – صلى الله عليه وسلم:- ((ما من امريء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله))(5)
4- ومن الأدلة على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر الأحاديث الكثيرة في ذكر الكبائر من مثل حديث أنس رضي الله عنه قال: ((ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس، وعقوق الوالدين.. الحديث))(6) (فخص الكبائر ببعض الذنوب، ولو كانت الذنوب كلها كبائر لم يسغ ذلك)(7)
__________
(1) سورة الكهف، آية 49
(2) سورة القمر، آية 53
(3) رواه مسلم كتاب الطهارة "باب فضل الوضوء... " من حديث أبي هريرة 3/117 ،118، وفي رواية "مالم تغش الكبائر "
(4) شرح النووي على مسلم 2/85
(5) رواه مسلم من حديث عثمان رضي الله عنه 3/112، كتاب الطهارة، "باب فضل الوضوء .."
(6) متفق عليه البخاري، كتاب الأدب "باب عقوق الوالدين من الكبائر " مسلم كتاب الإيمان ،" باب الكبائر وأكبرها" ،الفتح 10/405 ،مسلم بشرح النووي 2/282
(7) الزواجر عن اقتراف الكبائر 5(211/100)
فالنصوص السابقة كما ترى صريحة في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر ومع ذلك فقد نقل عن بعض الأشاعرة إنكارهم تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وقالوا: إن سائر المعاصي كبائر، منهم أبو إسحاق الإسفرائيني، والباقلاني، وإمام الحرمين وابن القشيري والتقي السبكي، بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة واختاره في تفسيره(1)، ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية، وحكاه القاضي عياض عن المحققين (2)
ولقد لخص الإمام ابن بطال أدلتهم تلخيصاً جيداً فقال:
(انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء، وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا: المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال القبلة المحرمة صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر.
__________
(1) انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر ص5
(2) انظر فتح الباري 10/409 ومسلم بشرح النووي 2/85(211/101)
قالوا: ولا ذنب عندنا يغفر عندنا يغفر واجباً باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبيرة، ومرتكبه في المشيئة، غير الكفر لقوله تعالى: ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء))(1) وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله تعالى: ((إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه..))(2)، أن المراد الشرك وقد قال الفراء: من قرأ " كبائر " فالمراد بها كبير، وكبير الإثم هو الشرك، وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى: ((كذب-ت قوم نوح المرسلين)) (3) ولم يرسل إليهم غير نوح، قالوا: وجواز العقاب على الصغيرة لجوازه على الكبيرة)(4) واستدلوا أيضاً بقول ابن عباس: ((كل ما نهى الله عنه كبيرة))(5) وأجاب الجمهور عن هذه الاستدلالات بما يلي:
1- قال ابن العز الحنفي: ((ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة لما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر، وهذا فاسد، لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر))(6) فيكفي في بيان بطلان هذا القول مخالفته للنصوص الصريحة السابقة الذكر.
__________
(1) سورة النساء، آية : 48
(2) سورة النساء، آية : 31
(3) سورة الشعراء، آية : 105
(4) نقلا عن فتح الباري 10/409، وانظر تفسير القرطبي 5/159
(5) أخرجه الطبري في تفسيره من طريقين 8/214 (شاكر)، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان = 2/92 ،وقال الهيثمي:رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات إلا أن الحسن مدلس وعنعنه (مجمع الزوائد 1/103) ونسبه السيوطي إلى عبد بن حميد وابن المنذر (الدر المنثور 2/499) ،قال الحافظ في الفتح : ( أخرجه إسماعيل القاضي والطبري بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس ) الفتح 10/410
(6) شرح الطحاوية 419 وانظر مجموع الفتاوى 11/657(211/102)
2- أما قولهم: لا ذنب عندنا يغفر واجباً باجتناب ذنب آخر بل كل ذلك كبير، غير الشرك، وتأويلهم قوله تعالى: ((إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه..)) أن المراد الشرك لقراءة "كبير" فيقال لهم: وماذا عن قوله – صلى الله عليه وسلم:- ما اجتنبت الكبائر، ما لم تغش الكبائر؟
وماذا يجاب عن النصوص الصريحة في التفريق بين الصغائر والكبائر مثل قوله عز وجل: ((وقالوا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها))(1)
3- أما استدلالهم بقول ابن عباس – رضي الله عنه – فيجاب عنه بأنه قد ورد أيضاً عن ابن عباس أنه قال: ((كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة))(2) فالأولى أن يكون المراد بقوله ((نهى الله عنه)) محمولاً على نهي خاص وهو الذي قرن به وعيد، فيحمل مطلق كلامه رضي الله عنه على مقيده جمعاً بين قوليه(3) وقال البيهقي في تعليقه على رواية ابن عباس: كل ما نهى الله عنه كبيرة ": ((فيحتمل أن يكون هذا في تعظيم حرمات الله والترهيب عن ارتكابها، فأما الفرق بين الصغائر والكبائر فلابد منه في أحكام الدنيا والآخرة))(4)، وطعن القرطبي في الرواية من جهة المتن. فقال: ((ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عزوجل عنه كبيرة لأنه مخالف لظاه-ر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر (ثم ذكر الآيات) إلى أن قال فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن)) (5)؟
ولوضوح الأدلة في الفرق بينهما اعتبر الحافظ ابن حجر القول الآخر شاذاً حيث قال: ((وقد اختلف السلف، فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر وصغائر، وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو اسحاق الاسفرائيني فقال: ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله عنه كبيرة..))(6)
__________
(1) سورة الكهف، آية : 49
(2) قال الحافظ في الفتح 10/410، عن هذا الأثر : (( وأخرج ( ابن أبي حاتم ) من وجه آخر متصل لا بأس برجاله "
(3) انظر فتح الباري 10/410
(4) الجامع لشعب الإيمان 2/94
(5) نقلاً عن الفتح 10/410
(6) الفتح 1/409(211/103)
وقال أبو حامد الغزالي في كتابه الوسيط في المذهب: ((انكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه وقد فهما من مدارك الشرع))(1).
2- الفرق بين الصغائر والكبائر
بعدما بينا في الفقرة السابقة انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر سنبحث في هذه الفقرة تعريف الكبيرة والفرق بينها وبين الصغيرة.
تعريف الكبيرة:-
اختلف العلماء في تعريفها فبعضهم يعبر عن جانب منها من خلال الاستدلال ببعض النصوص دون بقيتها، وحاول البعض الآخر أن يأتي بتعريف شامل وسنستعرض بعض هذه التعريفات باختصار ثم نأتي بالقول الصحيح من خلال كلام الأئمة المحققين (2).
1- ق-ال الرافعي في الشرح الكبير: (الكبيرة هي الموجبة للحد، وقيل ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وه-م إلى ترجيح الأول أميل، ولكن الثاني أوفق لما ذكروه من تفصيل الكبائر (3). قال الحافظ في الفتح (وكيف يقول عالم إن الكبيرة ما ورد فيه الحد مع التصريح في الصحيحين بالعقوق واليمين الغموس وشهادة الزور وغير ذلك)(4).
وقال بعدما جمع ما ورد التصريح بأنه من الكبائر: (إذا تقرر ذلك عرف فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد، لأن أكثر المذكورات لا يجب فيها الحد (5). أما من عرفها بأنها ما ورد فيها الوعيد فهو أقرب إلى الصحة كما سيأتي قال الحافظ في الفتح: (ولا يدل عليه إخلاله بما فيه الحد، لأن كل ما ثبت فيه الحد لا يخلو من ورود الوعيد على فعله) (6).
__________
(1) نقلاً عن مسلم بشرح النووي 2/85
(2) استعرض هذه التعريفات وناقشها عدد من الأئمة منهم الإمام ابن تيمية، الفتاوى 11/650، 657، ابن حجر في الفتح 10/410، 411، 12/182، 184، الهيثمي في الزواجر 1/5 - 9، ابن كثير في التفسير 4/486، 487.
(3) نقلاً عن فتح الباري 12/184.
(4) فتح الباري 12/184.
(5) فتح الباري 12/183.
(6) فتح الباري 12/184، وانظر الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية 11/657.(211/104)
2- ومن الأقوال في تعريفها: أنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، قال شيخ الإسلام عن هذا القول يوجب (هذا القول) أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقة، والخيانة والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة، وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر، إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة....... إلخ) (1).
3- وعرفها إمام الحرمين بقوله: (كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقاقة الديانة) (2)
ومثله قول أبي حامد الغزالي: (كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ووجدان ندم تهاوناً واستجراء عليها فهي كبيرة، وما يحمل على فلتات اللسان ولا ينفك عن ندم يمتزج بها وينغص التلذذ بها فليس بكبيرة) (3).
واعتُرض على هذا التعريف، لأنه يشمل صغائر الخسة وليست بكبائر، وكذلك يرد على هذا التعريف أن م--ن ارتكب كبيرة من الكبائر المنصوص عليها كالزنا مثلاً لا يشمله التعريف إن صاحب فعله الخوف أو الندم (4).
4- قال ابن عبد السلام: (إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فان نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر وأربت عليها فهي من الكبائر) (5).
واعترض على ذلك بتعذر الإحاطة بمفاسد الكبائر كلها حتى نعلم أقلها مفسدة (6).
__________
(1) مجموع الفتاوي 11/656.
(2) نقلاً عن فتح الباري 10/410.
(3) نقلاً عن الزواجر 1/7.
(4) انظر الزواجر 1/7.
(5) قواهد الأحكام 1/19.
(6) انظر الزواجر 1/8.(211/105)
5- وذهب بعض العلماء ومنهم الإمام الطبري إلى تعريفها بالعدد من غير ضبطها بحد قال رحمه الله: (وأولى ما قيل في تأوي--ل ((الكبائر)) بالصحة، ما صح به الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون ما قاله غيره).. فالكبائر إذن: الشرك به، وعقوق الوالدين، وقتل النفس...) (1)
ومقصود الإمام الطبري حصر الكبائر بما نص عليه الصلاة والسلام بأنه كبيرة دون غيره مما عليه حد أو وعيد ولم ينص على أنه كبيرة، ولازم هذا القول إخراج بعض الذنوب كالسرقة والرشوة مثلاً من أن تكون من الكبائر لعدم ورود نص يصرح بأنها من الكبائر، على الرغم من أن مفسدة هذه أكبر من بعض المنصوص عليها.
6- ومن أشهر التعريفات ما نقل عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وغيرهم: أن الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن الصلاح: (لها أمارات منها: إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن) (2).
وقال الماوردي من الشافعية: (الكبيرة ما وجبت فيه الحدود أو توجه إليها الوعيد) (3) وورد مثل ذلك عن الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلي (4) ورجحه القرطبي (5) وابن تيمية والذهبي (6) وغيرهم.
ولعل هذا التعريف أشمل التعاريف وأقربها للصواب لعدة اعتبارات ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية من أهمها:
__________
(1) تفسير الطبري ( تحقيق شاكر ) 8/253، وانظر تعريفات تشبه ما قاله الطبري معتمدة على بعض النصوص فمنهم من عرف الكبائر بأنها سبع أو تسع أو أربع ويورد النصوص المؤيدة لقوله، راجع 8/235 - 253.
(2) نقلاً عن مسلم بشرح النووي 2/85.
(3) نقلاً عن فتح الباري 10/410.
(5) انظر فتح الباري 10/411.
(6) انظر كتاب الكبائر 36.(211/106)
أنه يشمل كل ما ثبت في النصوص أنه كبيرة كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة، ويشمل أيضاً ما ورد فيه الوعيد كالفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشهادة الزور، ويشمل كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، وما قيل فيه من فعله فليس منا، وما ورد من نفي الإيمان عن من ارتكبه كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.. الخ)) (1) فكل من نفي الله عنه الإيمان والجنة أو كونه من المؤمنين فهو من أهل الكبائر، لأن هذا النفي لا يكون لترك متسحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة.
أنه مأثور عن السلف من الصحابة والتابعين بخلاف غيره.
أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الصغائر والكبائر بخلاف غيره.
أن الله تعالى قال: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً)، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنته أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب العقوبة عليه (2).
3- حكم أهل الكبائر عند أهل السنة وأدلتهم
تواترت النصوص الدالة على عدم كفر مرتكب الكبيرة، وعدم خلوده في النار إن دخلها، ما لم يستحل، وهذا من الأصول الاعتقادية المجمع عليها بين أهل السنة، وسنبحث في هذه الفقرة ما يلي:
أدلة أهل السنة على حكم مرتكب الكبيرة، [الحكم الدنيوي والأخروي].
نصوص قد يظن أنها تخالف ما سبق، وإيضاح معناها.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى 11/651 - 655 باختصار.
(2) انظر مجموع الفتاوى 11/654 - 655.(211/107)
نصوص عامة لعلماء أهل السنة تبين الخلاصة في الحكم على أهل الكبائر.
أولا: أدلة أهل السنة على حكم مرتكب الكبيرة [الحكم الدنيوي والأخروي]:
استدل أهل السنة لذلك بأدلة كثيرة جداً، ونحن سنذكر هنا ما يمكن أن يسمى " أدلة كلية " وكل دليل يندرج تحته عدد من الأدلة التفصيلية
الدليل الأول: نصوص تدل على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، وعلى أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ومنها:
قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)(1) (فحكم بأن الشرك غير مغفور للمشرك، يعني إذا مات غير تائب منه لقوله: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)(2) مع آيات غير هذه تدل على أن التائب من الشرك مغفور له شركه، فثبت بذلك أن الشرك الذي أخبر الله أنه لا يغفر: هو الشرك الذي لم يتب منه، وأن التائب مغفور له شركه، وأخبر أنه يغفر: ما دون الشرك لمن يشاء، يعني لمن أتى ما دون الشرك، فلقي الله غير تائب منه، لأنه لو أراد أن يغفر ما دون الشرك للتائب، دون من لم يتب لكان قد سوى بين الشرك، وما دونه، ولو كان كذلك لم يكن لفصله بين الشرك وما دونه معنى، ففصله بينهما دليل على أن الشرك لا يغفره لو مات وهو غير تائب منه، وأن يغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء ممن مات وهو غير تائب، ولا جائر أن يغفر له، ويدخله الجنة إلا وهو مؤمن)(3)(4).
قوله - صلى الله عليه وسلم – في رواية أبي هريرة:"... أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة "(5)
__________
(1) سورة النساء، آية : 48
(2) سورة الأنفال، آية : 38
(3) أي معه أصل الإيمان
(4) تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/617، وانظر الإيمان الأوسط 36، 37
(5) رواه مسلم كتاب الإيمان " باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً " انظر شرح النووي 1/224(211/108)
وحديث معاذ المشهور وفيه قوله صلى الله عليه وسلم " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً "(1)
وروى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ".. ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بقرابها مغفرة "(2)
قال الإمام ابن رجب " فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض، وهو ملؤها أو ما يقارب خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة "(3)
الدليل الثاني: نصوص فيها التصريح بعدم دخول الموحد النار أو خلوده فيها - إن دخل - مع تصريحها بارتكابه الكبائر ومنها:
حديث أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة قلت: وإن زنى وإن سرق قال: وإن زنى وإن سرق " (4).
قال النووي رحمه الله: " وأما قوله صلى الله عليه - وإن زنى وإن سرق فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود بالجنة) (5).
__________
(1) رواه البخاري اللباس " باب إرداف الرجل خلف الرج-ل " 10/397 ومسلم الإيمان : " باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً " رقم 30، 1/58، 59.
(2) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء " باب فضل الذكر والدعاء ..." رقم 2687.
(3) جامع العلوم والحكم 374، وراجع أحاديث أخرى في الموضوع، مسلم بشرح النووي 1/217 - 244 وفتح المجيد 39 - 64.
(4) رواه مسلم، كتاب الإيمان " باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة " شرح النووي 2/93 - 94.
(5) مسلم بشرح النووي 2/97.(211/109)
حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: " تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه " (1).
قال النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم " ومن أصاب شيئاً من ذلك " إلى آخره المراد به ما سوى الشرك وإلا فالشرك لا يغفر له " (2) ثم ذكر من فوائد الحديث (الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر لا يقطع لصاحبها بالنار إذا مات ولم يتب منها، بل هو بمشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه) (3).
__________
(1) رواه البخاري في عدة مواضع ( كتاب الإيمان ) " باب 18" ( الفتح 1/64 ) ومسلم، واللفظ له كتاب الحدود " باب الحدود كفارات لأهلها " 11/223 .
(2) مسلم بشرح النووي 11/223 .
(3) نفسه 11/224 وانظر الجامع لشعب الايمان للبيهقي 2/98.(211/110)
وقال المروزي تعليقاً على هذا الحديث: (ففي هذا الحديث دلالتان على أن السارق، والزاني ومن ذكر في هذا الحديث غير خارجين من الإيمان بأسره إحداهما: قوله فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا، فهو كفارة له،والحدود لا تكون كفارات إلا للمؤمنين (1) ألا ترى قوله: " من ستر الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه " فإذا غفر له أدخله الجنة، ولا يدخل الجنة من البالغين المكلفين إلا مؤمن، وقوله (2) صلى الله عليه وسلم " إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه " هو نظير قول الله تبارك وتعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) (3) وأن يغفر مادون ذلك الشرك لمن يشاء ممن مات وهو غير تائب، ولا جائز أن يغفر له ويدخله الجنة إلا وهو مؤمن) (4).
الدليل الثالث: نصوص فيها التصريح ببقاء الإيمان والأخوة الإيمانية مع ارتكاب الكبائر ومنها.
قوله تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (5).
……استدل أهل السنة بهاتين الآيتين على أن المؤمن لا يكفر بارتكابه الكبائر، لأن الله - عز وجل - أبقى عليه اسم الإيمان مع ارتكابه لمعصية القتل (6) ووصفهم بالأخوة وهي هنا أخوة الدين.
__________
(1) رجح جمهور العلماء أن الحدود كفارة لأهلها استناداً لهذا الحديث وغيره راجح مسلم شرح النووي 11/224، وفتح الباري 1/66 - 68 وجامع العلوم والحكم 161، 132
(2) هذه هي الدلالة الثانية
(3) سورة النساء، أية 48
(4) تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/616، 617
(5) سورة الحجرات آية 9، 10
(6) راجع فتح الباري 1/85 الإيمان الأوسط 24، شرح الطحاوية 361(211/111)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء) الآية (1)
قال ابن الجوزي: (دل قوله تعالى (من أخيه) على أن القاتل لم يخرج من الإسلام) (2)
واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بهذه الآية على أن الأخوة الإيمانية ثابتة مع ارتكاب المعاصي (3)
لعل مما يدخل تحت هذا الدليل ما رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتى به يوماً فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم العنة، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تلعنوه، فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله " (4)
فالحديث صريح هنا ببقاء محبة الله ورسوله، وهي من أعظم أصول الإيمان القلبي مع تكرار شربه للخمر.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - " وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر لثبوت النهي عن لعن، والأمر بالدعاء له وفيه أن لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله مع وجود ما صدر منه "(5)
الدليل الرابع: شرع الله - عز وجل - إقامة الحدود على بعض الكبائر:
__________
(1) سورة البقرة، آية : 178
(2) زاد المسير 1/180
(3) انظر مجموع الفتاوي 3/151.
(4) رواه البخاري كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر ......" 12/75 (الفتح)
(5) فتح الباري 12/78 .(211/112)
لعل هذا من أقوى الأدلة على فساد مذهب من يكفر مرتكب الكبيرة إذ لو كان السارق والقاذف وشارب الخمر، والمرتد سواء في الحكم لما اختلف الحد في كل منها، قال الإمام أبو عبيد رحمه الله (... ثم قد وجدنا الله - تبارك وتعالى - يكذب مقالتهم، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا بالقتل لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (1)، أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد، وكذلك قول الله فيمن قُتل مظلوماً: [فقد جعلنا لوليه سلطاناً] (2) فلو كان القتل كفراً ما كان للولي عفو ولا أخذ دية، ولزمه القتل (3).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (.. بل القرآن والنقل المتواتر عنه، يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام، كما ذكر الله في القرآن جلد القاذف والزاني، وقطع يد السارق، وهذا متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانوا مرتدين لقتلهم، فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام) (4).
وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي: (ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد) (5).
الدليل الخامس: نصوص صريحة في خروج من دخل النار من الموحدين بالشفاعة وبغيرها:
__________
(1) انظر مجموع الفتاوي 3/151.
(2) سورة الإسراء، آية : 33 .
(3) الإيمان لأبي عبيد 89 .
(4) الفتاوى 7/287، 288، وانظر الإيمان الأوسط 24 .
(5) شرح العقيدة الطحاوية 361 .(211/113)
وهذا – أيضاً – من الأدلة الواضحة على عدم كفر مرتكب الكبائر وعدم خلوده في النار، إذ لو كان كافراً لما خرج من النار. والأدلة في هذا بلغت مبلغ التواتر، ونقل التواتر جمع من العلماء منهم الإمام البيهقي (1) وابن تيمية (2) وابن أبي العز الحنفي (3) وابن الوزير االيماني، وقال: (وأحاديث الشفاعة المصرحة بخروج الموحدين من النار قاطعة في معناها بالإجماع، وهي قاطعة في ألفاظها.. لورودها عن عشرين صحابياً أو تزيد في الصحاح والسنن والمسان-يد، وأم-ا شواهدها بغير ألفاظها فقارب-ت خمسمائة حديث) (4)، وقال (والتواتر يحصل بهذا بل بدون ذلك) (5).
ومن هذه الأحاديث:
1- حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " وفي رواية " من إيمان " مكان "من خير" (6).
__________
(1) الجامع لشعب الإيمان 2/110
(2) الإيمان الأوسط 28، الفرقان 37 .
(3) شرح العقيدة الطحاوية 258 .
(4) إيثار الحق على الخلق 295 .
(5) نفسه 286، وما بعدها .
(6) رواه البخاري كتاب الإيمان "باب زيادة الإيمان ونقصانه " 1/103 وانظر الحديث بطوله في البخاري كتاب التوحيد 13/392 ومسلم 3/59، كتاب الإيمان " باب الشفاعة " .(211/114)
2- ومن ذلك أحاديث شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم – في أهل الكبائر الذين دخلوا النار أن يخرجوا منها فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً " (1) يوضح ذلك حديث الشفاعة المشهور وفيه … فيقول " أي عيسى عليه السلام): ائتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم – عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة (2)، ثم أعود إليه، فإذا رأيت ربي – وذكر مثله – ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، ثم أعود الرابعة، فأقول: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود " قال البخاري: إلا من حبسه القرآن يعني قول الله تعالى: (خالدين فيها) (3).
__________
(1) رواه مسلم كتاب الإيمان " باب الشفاعة " 3/74 (النووي) .
(2) وفي رواية : ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة البخاري 11/417 .
(3) رواه البخاري كتاب التفسير " باب قول الله وعلم آدم السماء كلها " 8/160، الرقاق "باب صفة الجنة والنار" 11/417، ومسلم الإيمان " باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها " بعدة طرق عن أنس (شرح النووي 53 – 64 ) .(211/115)
3- ومن الأحاديث في هذا الباب حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في نهر الحيا – أو الحياة - (1) شك مالك – فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية " (2) إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة (3).
وهناك أدلة أخرى لبيان مذهب أهل السنة وما ذكرنا هو أبرزها وأهمها ولعل فيها الكفاية إن شاء الله.
ثانياً: نصوص يظن أنها تخالف ما سبق:
__________
(1) قال النووي : ( الحيا هنا مقصور وهو المطر سمي حياً لأنه تحيا به الأرض ولذلك هذا الماء يحيا به هؤلاء المحترقون وتحدث فيهم النضارة كما يحدث ذلك المطر في الأرض والله أعلم) 3/37 .
(2) رواه البخاري الإيمان "باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال " وانظر أطرافه في نفس الموضع 1/72 (الفتح) ومسلم 3/36 (نووي) الإيمان "إثبات الشفاعة …"
(3) انظر أحاديث أخرى في ذلك، مسلم بشرح النووي 3/30 – 77، التوحيد لابن خزيمة 2/602 – 690، الاعتقاد للبيهقي 191 – 204، والجامع لشعب الإيمان للبيهقي 2/110 – 153 والإيمان لابن منده 758 – 854 وغيرها كثير .(211/116)
تبين لنا من الأدلة السابقة قطعية النصوص الدالة على عدم كفر مرتكب الكبيرة وعدم خلوده في النار، وسنتكلم هنا عن أنواع من الأدلة قد يظن بعض المبتدعة أو قليلو العلم أنها تخالف مذهب أهل هذا الباب، والحقيقة أن من أسباب انحراف هؤلاء وغيرهم، في هذا الباب النظر إلى جانب من النصوص وترك الجانب المقابل، فبعضهم نظر إلى الأحاديث السابقة فأخذ جانب الوعد والرجاء، والبعض الآخر نظر إلى ما سيأتي فأخذ جانب الخوف والوعيد ومذهب أهل السنة متوازن يجمع بين أطراف النصوص ولا يضرب بعضهما ببعض، كما سنبين، ولنأت الآن لذكر أهم الأدلة وهي أنواع، وكل نوع يحتوي على أحاديث كثيرة:
1- النوع الأول: نصوص تنفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر:(211/117)
ومن أشهرها قوله – صلى الله عليه وسلم:- (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) (1)، فهم بعض أهل البدع من هذا النص وما في معناه أن المنفي أصل الإيمان أما أهل السنة فأجمعوا على أن المنفي هنا كمال الإيمان جمعاً بين هذا النص وغيره من النصوص، قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله، تعليقاً على هذا الحديث: (.. يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر – إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام – من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم، أوضح الدلائل على صحة قولنا، أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان بفعله ذلك) (2). وقال النووي رحمه الله: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الإبل ولا عيش إلا عيش الآخرة …) (3) وقال المروزي رحمه الله، (فالذي صح عندنا في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " وما روي عنه من الأخبار مما يشبه هذا أن معنى ذلك كله أن من فعل تلك الأفعال لا يكون مؤمناً مستكمل الإيمان، لأنه ترك بعض الإيمان، نفى عنه الإيمان، يريد به الإيمان الكامل.. وإقامة الحدود عليه دلي--ل على أن الإيمان لم يزل كله عنه، ولا اسمه، ولولا ذلك لوجب استتابته،
__________
(1) رواه البخاري (الفتح) 12/58، 59 رواه مسلم (بشرح النووي 2/42)وقد سبق تخريجه وانظر جمعاً لطرق الحديث في تعظيم قدر الصلاة للمروزي 1/487 – 505 وانظر أحاديث أخرى من هذا النوع في الإيمان لأبي عبيد 84، 85 .
(2) التمهيد لابن عبد البر 9/243، 244
(3) مسلم بشرح النووي 2/41 .(211/118)
وقتله، وسقطت الحدود) (1).
إذاً لا مناص من تفسير هذا الحديث وما في معناه بأن المنفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب وليس أصل الإيمان، لأنا لو قلنا إن المنفي أصل الإيمان لوقعنا في تناقض ولضربنا بعض النصوص ببعض، إذ يلزم من هذا القول إسقاط الحدود، ورد الأحادي-ث المصرحة بدخول الموحد الجنة وإن زنى وإن سرق، وخروجه من النار … الخ ما سبق بيانه (2).
وكما أن هذا الحديث رد على الوعيدية الذين يكفرون بالذنوب ففيه أيضاً رد على المرجئه الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب، حيث بين هذا الحديث خطورة المعاصي وأثرها في نقصان الإيمان.
النوع الثاني: نصوص فيها براءة النبي
- صلى الله عليه وسلم – ومنها:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من حمل علينا السلاح فليس منا " (3) وقوله عليه الصلاة والسلام. " من غش فليس مني " (4)، يقول الإمام أبو عبيد تعليقاً على هذا النوع: (لا نرى شيئاً منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ولا من ملته، إنما مذهبه عندنا أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا ولا من المحافظين على شرائعنا) (5). ويقال فيه ما ذكرنا في النوع الأول من نقص اتباعه وطاعته بفعله ذلك.
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 2/576، وسبق في مبحث "مراتب الإيمان" بيان لشيء من ذلك ونقل مطول عن الإمام أبي عبيد في ذلك .
(2) انظر تفسيرات أخرى لحديث (لا يزني الزاني) لا تعارض ما سبق الفتح 12/59 – 62 .
(3) رواه مسلم كتاب الإيمان "باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم – من حمل علينا السلاح فليس منا " (شرح النووي ) 2/108 .
(4) جزء من حديث رواه مسلم الإيمان "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم – من غشنا فليس منا " (شرح النووي 2/109 .
(5) الإيمان لأبي عبيد 92، 93، وانظر مسلم بشرح النووي 2/108 .(211/119)
3- النوع الثالث: نصوص فيها إطلاق الكفر والشرك على بعض المعاصي، ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (1).
وقوله: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت " (2).
وقوله: " الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل " (3).
وقوله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) (4).
وهذه الأحاديث استدل بها الخوارج على كفر مرتكب المعاصي وخروجه من الملة، أما أهل السنة فجمعوا بين النصوص وفسروا هذه الأحاديث وأمثالها بعدة تفسيرات، أشهرها أن مرتكب هذه المعاصي قد تشبه بالكافرين والمشركين بأخلاقهم وسيرهم وعمل عملهم، وقد تحمل على المستحل، وقد يقال عن بعضها كفر نعمة.. الخ.
__________
(1) رواه البخاري الإيمان "بابا خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر"، فتح 1/112 ومسلم الإيمان " باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم – سباب المسلم فسوق .. " عن ابن مسعود. 2/54 (النووي) .
(2) رواه مسلم الإيمان " باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة " ( شرح النووي ) 2/5745 .
(3) رواه أحمد 1/389، والبخاري في الأدب المفرد (909) وأبو داود (3910)، والترمذي (1614) وقال : "حسن صحيح "، وابن ماجه 3538 وغيرهم عن ابن مسعود انظر تفصيلاً لذلك في النهج السديد ص 162 وصححه العراقي في الفيض (4/294) وزيادة (ومامنا إلا … ) مدرجة. انظر إيضاحاً لذلك في مفتاح دار السعادة 2/2334 "وفتح الباري" 10/213 .
(4) رواه أحمد (2/34، 86) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) وحسنه، وانظر نصوصاً أخرى في الإيمان لأبي عبيد 86، 87، ومسلم بشرح النووي 2/49 – 62 .(211/120)
قال الخطابي رحمه الله: (وقوله: (وقتاله كفر) فإنما هو على أن يستبيح دمه، ولا يرى أن الإسلام قد عصمه منه، وحرمه عليه.. وقد يتأول هذا الحديث وما جاء في معناه من الأحاديث على وجه التشبيه لأفعالهم بأفعال الكفار من غير تحقيق للحكم فيه … وهذا لا يوجب أن يكون من فعل ذلك كافراً به خارجاً عن الملة، وإنما فيه مذمة هذا الفعل وتشبيهه بالكفر، على وجه التغليط لفاعله، ليجتنبه فلا يستحله، ومثله في الحديث كثير) (1)
يضاف في الرد أن أفراد هذه المسائل مثل – سباب المسلم – الحلف بغير الله – النياحة – الطيرة. وقد وردت نصوص أخرى تدل أنها وقعت من البعض ولم يكفر صاحبها، بل حذر الرسول – صلى الله عليه وسلم – منها. مثل قوله: (لا تحلفوا بآبائكم) وقوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) حيث لم يرتب عليها كفراً.
واستند أهل السنة في تأويلهم هذا إلى النصوص السابقة في حكم مرتكب الكبيرة من مثل قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (2) وأحاديث الشفاعة وغيرها (3) وبما ثبت عن ابن عباس وغيره من الأئمة في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (4): أنه قال: (ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه) فقالوا: كفر دون كفر وشرك دون شرك..الخ) (5).
وأول بعض العلماء الكفر الوارد في الأحاديث بكفر النعمة، وإن كان الأدق والله أعلم أن تؤول بعض النصوص وليس كلها فيها إطلاق الكفر على كفر النعمة مثل ما جاء في حديث كفران العشير ونحوه.
__________
(1) أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي 178، 179، وانظر الإيمان لأبي عبيد 93 – 96 .
(2) سورة النساء، آية : 48 .
(3) فتح الباري 1/112 .
(4) سورة المائدة، أية : 44.
(5) انظر تفصيل لذلك في تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/519 – 529، وكتاب الصلاة لابن القيم 26 – 3 .(211/121)
قال النووي رحمه الله: (وأما قوله – صلى الله عليه وسلم – فيمن ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، فقيل فيه تأويلان أحدهما: أنه في حق المستحل، والثاني: أنه كفر النعمة والإحسان وحق الله تعالى وحق أبيه، وليس المراد الكفر الذي يخرجه من ملة الإسلام وهذا كما قال – صلى الله عليه وسلم -: (يكفرن) ثم فسره بكفرانهن الإحسان وكفران العشير) (1).
وقال أبو بكر بن العربي: (فقرن حق الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأة حق زوجها - وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية – (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله) – كان ذلك دليلاً على تهاوناً بحق الله، فذلك يطلق عليها الكفر، لكنه كفر لا يخرج من الملة) (2).
والنوع الرابع: نصوص فيها تحريم النار على من تكلم بالشهادتين، وأخرى فيها تحريم الجنة على مرتكب الكبائر:
مثل قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها) (3).
وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) (4).
وقوله: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) (5).
وقوله: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار) (6)
__________
(1) مسلم بشرح النووي 2/50 .
(2) نقلاً عن فتح الباري 1/83، وانظر تفصيلاً لذلك في رسالة التكفير والمكفرات لحسن العواجي 1/87 – 101 .
(3) سورة النساء، آية : 93 .
(4) رواه مسلم (الإيمان باب بيان تحريم إيذاء الجار) (مسلم بشرح النووي) 2/17 .
(5) رواه مسلم الإيمان (باب بيان حال من رغب عن أبيه …) (بشرح النووي 2/52 )، وانظر أحاديث أخرى في هذا المعنى، التوحيد لابن حزيمة 2/858 – 867 .
(6) رواه مسلم (بشرح النووي 1/229) الإيمان (باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة )(211/122)
فالأدلة الثلاثة الأولى ظاهرها – إذا لم يضم إليها ما يقابلها – يكاد يكون صريحاً في مذهب الخوارج، والدليل الرابع يكاد يكون صريحاً في مذهب المرجئة، ولكن كما كررنا من قبل، من أعظم أسباب ضلال هؤلاء أخذهم بجانب من الأدلة وتركهم الجانب الآخر، أما أهل السنة فينظرون إلى جميع الأدلة والأحاديث إذا ثبت في مسألة معينة فيضمون بعضها إلى بعض، وكأنها دليل واحد، أو حديث واحد فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل الاعتقاد والعمل بجميع ما في مضمونها (1).
__________
(1) انظر المختار من كنوز السنة 95 .(211/123)
وهكذا نظروا لهذه الأدلة وما يشبهها فقال الإمام الطبري – رحمه الله – في تفسير آية قتل العمد المشار إليها بعد أن استعرض الأقوال في تفسيرها: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمناً متعمداً، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، ولكنه يعفو ويتفضل على أهل الإيمان به وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إياها ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) (1) (2) وقال الخطابي: (القرآن كله بمنزلة الكلمة الواحدة، وما تقدم نزوله وما تأخر في وجوب العمل به سواء مالم يقع بين الأول والآخر منافاة، ولو جمع بين قوله: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (3) وبين قوله: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها) (4)، وألحق به قوله: (لمن يشاء) لم يكن متناقضاً، فشرط المشيئة قائم في الذنوب كلها ما عدا الشرك، وأيضاً فإن قوله: (فجزاؤه جهنم) إن جازاه الله ولم يعف عنه، فالآية الأولى خبر لا يقع فيه الخلف، والآية الأخرى وعيد (5) يرضي فيه العفو والله أعلم) (6).
__________
(1) سورة الزمر، آية : 53 .
(2) تفسير الطبري (شاكر) 9/69، وانظر الأقوال في تفسير الآية 9/61 – 69 وانظر كلاماً قريباً من ذلك في التوحيد لابن حزيمة 2/869 .
(3) سورة النساء : 48، 116 .
(4) سورة النساء : 93 .
(5) في الأصل (وعد )والصحيح ما أثبتناه .
(6) الجامع لشعب الإيمان 2/103 .(211/124)
وأما قوله – صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة) وقوله: (فالجنة عليه حرام) ففيه جوابان: (أحدهما: أنه محمول على من يستحل الإيذاء مع علمه بتحريمه فهذا كافر لا يدخلها أصلاً، والثاني: معناه جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم، بل يؤخر ثم قد يجازى وقد يعفى عنه فيدخلها أولاً) (1).
إذا يمكن أن نقول لا يدخل الجنة ابتداء، والجنة عليه حرام ابتداء ونحو ذلك. وكذلك قوله – صلى الله عليه وسلم -: (حرم الله عليه النار) أي حرم الله عليه الخلود في النار، أما دخولها إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله إن شاء أدخله وإن شاء عفا عنه) (2).
ثالثاً: نصوص عامة لعلماء أهل السنة تبين الخلاصة في الحكم على أهل الكبائر:
سننقل بعض النصوص عن أئمة السلف يتبين خلالها وضوح منهجهم في ذلك:
__________
(1) مسلم بشرح النووي 2/17 وانظر ص 2/52 .
(2) انظر المختار من كنوز السنة 94 .(211/125)
قال الإمام الصابوني (*) رحمه الله: (ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها، إن خرج من الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله – عز وجل – إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عفا عنه وعذبه مدة بعذاب النار، وإن عذبه لم يخلد فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار) (1).
وقال الإمام البغوي رحمه الله: (اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئاً منها، فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار، كما جاء به الحديث، بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته) (2).
__________
(1) *…هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد أبو عثمان الصابوني، ولد سنة 372 ه-، قال الذهبي، كان شيخ خراسان في وقته، ومما قيل في وصفه أنه كان حافظاً كثير السماع والتصنيف، وكان سيف السنة وأفعى البدع اشتهر بالوعظ والتذكير، من أشهر مشايخه أبو بكر المقري وأبو المعالي الجويني وأبو عبد الله الحاكم، ومن أشهر تلامذته، أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم الخرقي توفي سنة 449 ه-، انظر مقدمة تحقيق رسالته (عقيدة السلف أصحاب الحديث) لبدر البدر، والبداية والنهاية 12/76، وشذرات 3/282 .
( ) عقيدة أهل الحديث للإمام الصابوني ص 60 .
(2) شرح السنة 1/103 .(211/126)
وقال الإمام ابن بطة رحمه الله: (وقد أجمعت العلماء – لا خلاف بينهم – أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيء) (1) وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) (2)، وأهل الكبائر في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون) (3).
وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي في تعليقه على كلام الإمام الطحاوي (إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين …) (4).
إذاً الخلاصة مما سبق من الآيات والأحاديث وكلام العلماء:
1- إجماع أهل السنة على عدم كفر مرتكب الكبيرة، ما لم يستحل.
2- أنه في الآخرة تحت المشيئة إذا لم يتب – إن شاء عذبه – عز وجل – وإن شاء عفا عنه.
3- أنه إن دخل النار فلا يخلد فيها.
4- تحذير الموحدين من ارتكاب الكبائر، ويخشى على مرتكبها أن تتراكم عليه الذنوب فتوصله إلى الكفر، وكذلك يخشى عليه من العقوبات المترتبة على بعض الذنوب. أما ما يظن أنه يخالف ذلك من بعض النصوص فله عدة تفسيرات عند الأئمة:
فالنصوص التي فيها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة فالمقصود فيه نفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب.
2- أما النصوص التي فيها براءة النبي – صلى الله عليه وسلم – فمعناها ليس من المقتدين بنا بفعله هذا.
__________
(1) الشرح والإبانة 265 .
(2) شرح العقيدة الطحاوية 355 .
(3) المرجع السابق، ص 357 .
(4) المرجع السابق، ص 360، 361(211/127)
3- وكذلك النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على بعض المعاصي، قال فيها أهل السنة. إنها كفر دون كفر، وإن المقصود بذلك أن مرتكب هذه المعصية قد تشبه بالكافرين والمشركين بفعله ذلك. وأولوا بعضها بكفر النعمة.
4- أما النصوص التي تحرم النار على الموحد فالمقصود تحريم خلوده في النار، وكذلك النصوص التي تحرم الجنة على من ارتكب بعض الكبائر فالمقصود دخول الجنة ابتداء. وبذلك يظهر تميز مذهب أهل السنة في هذا الباب وتوسطه بين الوعيدية، والمرجئة، وجمعه بين النصوص المختلفة دون تكلف ولا تناقض.
الفصل الثالث
الإيمان عند الفرق إجمالا
أ- الإيمان عند الوعيدية
الإيمان عند الوعيدية
قولهم في الزيادة والنقصان
الفرق بين الكبائر والصغائر عندهم
حكم أهل الكبائر عندهم
موقفهم من نصوص الوعد والوعيد
ب- الإيمان عند المرجئة
تعريفه، الصلة بين الإيمان والعمل عندهم
موقفهم من الزيادة والنقصان
موقفهم من نصوص الوعد والوعيد
الكفر عندهم
الإيمان عند الوعيدية (1)
1- الإيمان عند الوعيدية:
__________
(1) الوعيدية : ويقصد بهم من يغلبون جانب الخوف والوعيد على جانب الرجاء والوعد عند حكمهم على الكبيرة، وأبرز من يمثل مذهبهم الخوارج والمعتزلة، والزيدية والرافضة، وسأركز على نقل آراء المعتزلة والأباضية، لسببين : الأول : أن الزيدية والرافضة في عامة أبواب العقيدة – إلا في شئ من مسائل الإمامة – على مذهب المعتزلة (انظر العلم الشامخ 11/12)، الثاني: أن فرق الخوارج الأخرى لا يوجد لها كتب خاصة بها، ولهذا قال ابن حزم وهو يتحدث عن زمنه : (ولم يبق اليوم من فرق الخوارج إلا الأباضية والصفرية فقط) الفصل 4/190.(211/128)
يتفق المعتزلة(1)والخوارج(2)
__________
(1) المعتزلة: سموا بذلك لاعتزال واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري بسبب خلافه معه في الموقف من مرتكب الكبيرة ،- وهم فرق عديدة، أوصلها بعض المصنفين في الفرق إلى عشرين، أشهر رجالهم واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبو الهذيل العلاف والجاحظ والجبائي والقاضي عبد الجبار وغيرهم، اشتهروا بالتنظير والجدل، وتقديم العقل على النقل، وعدم العناية بالسنة والحديث، واشتهروا بأصولهم الخمسة وهي التوحيد والعدل، والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انظر شرح الأصول االخمسة للقاضي عبد الجبار، وانظر الفرق بين الفرق 114-201، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين، 28-42، والتبصير في الدين 63-95، مقالات الإسلاميين 155-278، المعتزلة وأصولهم الخمسة، عواد المعتق، رؤية نقدية للنظرية الاعتزالية، د. عبد الستار السيد، دراسة فلسفية لآراء الفرق (المعتزلة) د. أحمد صبحي، المعتزلة بين القديم والحديث، محمد العبده وطارق عبد الحليم، مذاهب الإسلاميين د. عبد الرحمن بدوي 1/37 – 484 وغيرها كثير .
(2) الخوارج : ظهر الخوارج كجماعة بعد حادثة "التحكيم" حيث فارقوا الجماعة وانحازوا إلى حروراء، وأهم آرائهم تكفيرهم مرتكب الكبيرة والقول بتخليده في النار (على خلاف بينهم في ذلك كما سيأتي)، وتكفيرهم أصحاب الجمل، والحكمين وكل من رضي التحكيم، والخروج على السلطان الجائر، ومن أشهر فرقهم الأزارقة والنجدات والصفرية والأباضية وعن هذه الفرق تفرعت سائر فرقهم وهذه الفرق لا يوجد منها إلا الأباضية وبعض الجماعات التي نهجت نهج الخوارج كالتكفير والهجرة، والأباضية ينكرون صلتهم بالخوارج، ويرون أن مصنفي الفرق لم ينصفوهم، والحقيقة أن الأباضية تخلوا عن غلو الخوارج الأوائل في كفر مرتكب الكبيرة في الدنيا، ولكنهم خلدوه في النار في الآخرة كما أنهم تبنوا كثيراً من آراء المعتزلة (في الصفات، ونفي الرؤية، وخلق القرآن، والموقف من مرتكب الكبيرة، ومسألة الشفاعة ..) فهم في الواقع أقرب إلى المعتزلة منهم إلى الخوارج، انظر مقالات الإسلاميين 86-131، التبصير في الدين 45-62، الملل والنحل 1/114 – 136، دراسة عن الفرق د. أحمد جلي 51-108، الخوارج في العصر الأموي د. نايف معروف آراء الخوارج، د. عمار الطالبي، الأباضية د. صابر طعيمة، الأباضية بين الفرق الإسلامية على يحيى معمر، وغيرها .(211/129)
على أن الإيمان الشرعي يشمل جميع الواجبات من الأقوال والأفعال والاعتقادات وسنختار بعض أقوال شيوخهم الدالة على ذلك، يقول أبو الحسن البسيوي: (الإيمان هو التصديق بالطاعة والعمل بها، فمن ترك شيئا من ذلك، أو ركب ما حرم الله عليه، أو ترك ما أوجب الله عليه، خرج من الإيمان، ولحق بضده، فافهم ذلك إن شاء الله، لأن ضد الإيمان هو الكفر …) (1).
ويقول عبد الله بن حميد السالمي(2)- أحد علماء الأباضية: (اعلم أن للإيمان والإسلام في الشرع استعمالاً غير الاستعمال اللغوي، وذلك أن الشرع نقلها عن معناهما اللغوي فاستعملهما مترادفين في مطلق الواجب، كان ذلك الواجب تصديقاً باللسان فقط أو تصديقاً بالجنان مع قول اللسان، أو كان معهما عمل لازم إتيانه، فمن أدى جميع ما وجب عليه كان مؤمناً مسلماً عندنا، ومن أخل بشيء من الواجبات لا يسمى مؤمناً مسلماً عندنا، بل يخص باسم المنافق والفاسق والعاصي والكافر ونحو ذلك(3)، ويقول في موضع آخر: (.. أن الإيمان عندنا فعل الواجبات فالكفر مقابله، أي فالكفر هو ترك شئ من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات من الكبائر …)(4).
__________
(1) جامع أبي الحسن البسيوي 1/235.
(2) عبد الله بن حميد السالمي الأباضي : ولد سنة 1286 في عمان، من أبرز مشايخه، صالح بن علي الحارث، رحل إليه سنة 1308 ه- ولازمه حتى وفاته، أخذ عنه التفسير والحديث وأصول الفقه وأصول الدين والنحو والمنطق حتى أصبح من أبرز علماء بلده، له جهود وآراء إجتهادية، تخرج على يديه مجموعة من علماء السلطنة، يقول إبراهيم اطفيش : (لا نبالغ أذا قلنا أن رجال العلم االيوم في عمان جلهم من تلامذته)، له مصنفات كثيرة منها مشارق أنوار العقول، تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، انظر مقدمة مشارق أنوار العقول، 1/ 16 – 38 .
(3) مشارق أنوار العقول 2/197.
(4) نفسه 2/304.(211/130)
وهذا يتفق مع ما ذكره علماء الفرق عنهم، يقول أبو الحسن الأشعرى: _والإباضية يقولون: إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدين مخلدون فيها) (1).
ويلخص القاضي عبد الجبار(2) مذهب المعتزلة في الإيمان فيقول: (وجملة ذلك أن الإيمان عند أبي علي(3)، وأبي هاشم(4)عبارة عن أداء الطاعات، الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبحات، وعند أبي الهذيل(5)
__________
(1) مقالات الإسلاميين 110، وانظر الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 3/ 188، الإيمان لأبي عبيد 101/102 .
(2) القاضي عبد الجبار هو : عبد الجبار بن أحمد خليل الهمذاني، ولد في مدينة أسد أباد، وكان أشعرياً ثم تحول إلى مذهب الاعتزال بعد تعرفه على شيخ المعتزلة في البصرة أبو اسحاق بن عياش، ولي القضاء في دولة البويهيين سنة 367 ه-، توفي سنة 415 ه-، له تصانيف كثيرة من أهمها شرح الأصول الخمسة، المغني في أبواب التوحيد والعدل وغيرها. وتكاد كتبه أن تكون المصدر الرئيسي لدراسة فكر المعتزلة وآرائهم، انظر : تاريخ بغداد 11/113، الأعلام 3/273، مقدمة الأصول الخمسة، ومقدمة رسائل العدل والتوحيد .
(3) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي المتكلم المعتزلي ولد سنة 235ه- صاحب تصانيف كثيرة، تلميذه أبو الحسن الأشعري ثم خالفه وصنف في الرد عليه، توفي سنة 303ه-، وفيات الأعيان 3/399، مذاهب الإسلاميين 280- 329.
(4) هو: أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي محمد الجبائي ولد سنة 247ه- من كبار المعتزلة، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميت البهشمية نسبة إلى كنيته "أبي هاشم" له مصنفات، انظر: تاريخ بغداد 11/55 الأعلام 4/ 7، مذاهب الإسلاميين 330-379 .
(5) هو : محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي، أبو الهذيل العلاف، من أئمة المعتزلة، ولد في البصرة سنة 135ه- له مناظرات، ومقالات في الاعتزال، توفي بسامرا سنة 235ه- انظر وفيات الأعيان 1/480، الأعلام 7/131، ومذاهب الإسلاميين 121 – 197.(211/131)
عبارة عن أداء الطاعات الفرائض منها والنوافل. واجتناب المقبحات، وهو الصحيح من المذهب (1)، ويلاحظ من النقل السابق اتفاق المعتزلة والخوارج في مفهومهم للإيمان، يقول عبد القاهر البغدادي: (وقالت القدرية والخوارج برجوع الإيمان إلى جميع الفرائض مع ترك الكبائر …)(2).
وهذا يتفق – من حيث الإجمال – مع مفهوم أهل السنة للإيمان (3)، إلا أن أهل السنة لا يكفرون من أخل بالواجبات أو ارتكب الكبائر، أما هؤلاء فيجعلون الإيمان كلا لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب كله.
2- قولهم في الزيادة والنقصان:
قولهم في الزيادة والنقصان فرع عن قولهم في الإيمان، فلما قالوا: إن جميع الطاعات داخلة في الإيمان، ظنوا أن القول بالنقص يلزم منه، ذهاب جميع الإيمان، فنفوا نقص الإيمان، وأجازوا زيادته من جانب اختلاف الناس في وجوب التكاليف على بعضهم دون البعض الآخر.
يقول أبو الحسن: (فإن قال: الإيمان يزيد وينقص؟ قيل له: قد اختلف الناس في زيادته، فأما نقصانه فلا نقص فيه، لأنه لو نقص من تصديقه شيء مما أمر به، وأقر به من الجملة لانتقض إيمانه ولم يسم مؤمناً، لأن أصل ذلك التصدي-ق، فمن لم يصدق بشيء مما جاء عن الله لم يؤمن حتى يصدق بالجملة التي أقر بها، فأما زيادته فقد قال بعضهم: إن الإيمان يزيد ولا ينقص).
__________
(1) شرح الأصول الخمسة : 707، وانظر مقالات الإسلاميين، فقد ذكر الأشعري ستة أقوال للمعتزلة في الإيمان، حاصلها يرجع إلى ماذكره عبد الجبار،
(2) أصول الدين، 249
(3) أنظر الفصل لابن حزم 3/188، الموجز لأبي عمار عبد الكافي الأباضي 2/73 .(211/132)
إلى أن يقول: (أما المؤمنون فيزدادون تصديقاً وإيماناً بما أنزل، و أما الإيمان فلا يزداد، ألا ترى أن الإيمان غير المؤمن، فالمؤمن هو الذي يزداد، و الإيمان ثابت لا زيادة فيه ولا نقصان، والله توفيقنا، فإن قال من أوجب نقصانه: أن من ركب الكبيرة، وقذف المحصنات، فقد نقص من الإيمان؟ قيل له: إن الإيمان لا ينقص، ولكن الفاسق قد خرج من الإيمان الذي صدق به نفسه …)(1).
ويقول عبد الله بن حميد السالمي: (… الإيمان الشرعي لا ينقص لكن يزيد لأنه عندنا هو نفس فعل الواجبات فهي تزيد على المكلف ولا تنقص، بمعنى أنها إذا وجبت لا يصح تنقيص شيء منها، لا بمعنى أنه إذا وجبت على العبد لا يرفع، فإن سمي رفع بعض الواجبات عن بعض المكلفين نقصاناً في الإيمان فلا ضير فإنه خلاف لفظي، وقد صرح حديث ذم النساء، بذلك في قوله – صلى الله عليه وسلم: - "ناقصات عقل ودين"(2)وبين نقصان الدين بترك الصلاة شطر دهرها بسبب الحيض..) (3)، ويقول أيضاً: (ونقصان الإيمان الذي نفاه أصحابنا، هو الإخلال بشيء من الواجبات لا رفع بعض المفترضات..) (4)، ويلخص مفتي السلطنة أحمد الخليلي مذهب الإباضية فيقول: (ذهب أصحابنا رحمهم الله إلى أن الإيمان يزيد ولا ينقص وهذا المذهب إذا حمل على معناه الشرعي الذي يشمل الاعتقاد والقول والعمل تجلت صحة هذا المذهب من حيث إن أول ما يتعبد به الإنسان الاعتقاد، و إذا اعتقد ما لزمه اعتقاده، ولم يحضره فرض قولي أو عملي كان مؤمناً كامل الإيمان، و إذا وجب عليه
شيء من الأقوال أو الأفعال وأداه كما وجب عليه ازداد إيمانه و إذا أخل بهذا الواجب انهدم إيمانه كله) (5).
__________
(1) جامع أبي الحسن البسيوي 1/237- 239 .
(2) سبق تخريجه ص82.
(3) مشارق أنوار العقول 2/205- 206.
(4) نفسه 2/205.
(5) حاشية مشارق الأنوار 2/204 .(211/133)
وهذا الرأي يتفق مع رأي المعتزلة، حيث أجازوا الزيادة والنقصان من جهة زيادة التكاليف على بعض الناس دون بعض، يقول القاضي عبد الجبار في تعليقه على قوله تعالى:{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً.. الآية}(1): (إنه يدل على أن الإيمان يزيد وينقص على ما نقوله، لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين، فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير، فتجب صحة الزيادة والنقص-ان، وإنما كان يمتنع ذلك لو ك-ان الإيمان خصلة واحدة وهو القول باللسان، أو اعتقادات مخصوصة بالقلب) (2).
وخلاصة ما سبق: أن الوعيدية ينفون نقص الإيمان بمعنى الإخلال بشيء من الواجبات، أو فعل شيء من الكبائر ويجوزون ذلك بمعنى سقوط بعض التكاليف عن بعض المكلفين، وتفاوتهم في ذلك.
ويقولون بزيادة الإيمان، بمعنى، زيادة التكاليف على بعض الناس دون بعض.
فالخطأ عند الخوارج والمعتزلة في حصرهم للزيادة بهذا وفي قولهم إن النقص في غيره كفر، أما أهل السنة والجماعة فيوافقونهم على أن زيادة التكاليف و الإيمان بها والعمل بما يزيد الإيمان ويجعلونه من مجالات زيادة الإيمان – وليس المجال الوحيد – وهذه المجالات هي [كما في الإيمان لابن تيمية ص219 وما بعدها – ط المكتب الإسلامي]
1- الإجمال والتفصيل فيما أمروا به.
الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم.
العلم والتصديق نفسه.
التصديق المستلزم لعمل القلب.
أعمال القلوب.
الأعمال الظاهرة والباطنة.
ذكر القلب لما أمر به.
وقد سبق مناقشة ذلك تفصيلاً.
3- الفرق بين الكبائر والصغائر عندهم:
__________
(1) سورة الأنفال، آية : 2.
(2) متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار 1/312.(211/134)
يتفق عامة الوعيدية على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر وعلى تعريف الكبيرة، ويختلفون في الحكم على أصحابها، وسننقل رأي المعتزلة في تقسيم الذنوب وفي الفرق بين الصغائر والكبائر عندهم وحكمهم على مرتكب الصغائر(1)، ثم ننقل رأي الخوارج.
أ- رأي المعتزلة:
يقول القاضي عبد الجبار (فإن قيل: وما تلك الدلالة الشرعية التي دلتكم على أن في المعاصي ما هو كبير وفيها ما هو صغير، أفي كتاب الله تعالى ذلك، أم في سنة رسوله عليه السلام، أم في اتفاق الأمة؟
قيل له: أما اتفاق الأمة على أن أفعال العباد تشتمل على الصغير والكبير غير أنَّا نتبرك به ونتلو آيات فيها ذكر الصغير والكبير وما في معناه، قال سبحانه وتعالى: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}(2)وقال تعالى: {وكل صغير وكبير مستطر}(3)… وقال أيضاً: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم}(4)فلابد من أن يكون المراد باللمم الصغائر، و إلا لا يكون للاستثناء
معنى وفائدة، إذ المستثنى لابد من أن يكون غير المستثنى منه…)(5).
__________
(1) سيأتي بحث حكمهم على مرتكب الكبيرة مفصلاً .
(2) سورة الكهف، آية : 49.
(3) سورة القمر، آية : 53.
(4) سورة النجم، آية : 32.
(5) شرح الأصول الخمسة 633- 634.(211/135)
وبين القاضي الفرق بين الصغائر والكبائر فقال: (فإذا قال: فما الفسق؟ قيل له: كل معصية وجب فيها حد وعقوبة، نحو القذف، ونحو السرقة والزنا، أو صح عن الرسول أو بالإجماع أنه من الكبائر وما عدا ذلك يجوز فيه أنه صغير من المعاصي..) (1). وذكر الأشعري ثلاثة أقوال للمعتزلة حول الفرق بين الصغيرة والكبيرة فقال: (.. فقال قائلون منهم: كل ما أتى فيه الوعيد فهو كبير وكل ما لم يأت فيه الوعيد فهو صغير، وقال قائلون: كل ما أتى فيه الوعيد فكبير وكل ما كان مثله في العظم فهو كبير..) (2)ثم ذكر قولاً ثالثاً وهو قول بعضهم: (كل مرتكب لمعصية متعمداً لها فهو مرتكب لكبيرة).
والقولان الأولان قريبان من قول القاضي عبد الجبار، أما القول الثالث فيبدو أنه قول شاذ عندهم حيث لم ينسبه الأشعري إلى فرقة منهم، و إنما إلى شخص ينسب إليهم وهو، جعفر بن مبشر. (3)
أما حكمهم على مرتكب الصغيرة، فهم يرون أن مرتكبها لا يكفر، وأنه يغفر له إذا اجتنب الكبائر. وفي هذا المعنى يقول القاضي عبد الجبار: (… إن ما يستحقه المرء على الكبيرة من العقاب يحبط ثواب طاعاته، وما يستحقه على الصغيرة مكفر في جنب ماله من الثواب …)(4)
ب- رأي الخوارج:
__________
(1) المختصر في أصول الدين، ضمن رسائل العدل والتوحيد 1/261.
(2) مقالات الإسلاميين 270، 271 .
(3) جعفر بن مبشر بن أحمد، أبو محمد الثقفي المتكلم، أحد المعتزلة البغداديين، له مصنفات وآراء انفرد بها، مات في بغداد سنة 234ه-، انظر تاريخ بغداد 7/162، الأعلام 2/126 .
(4) شرح الأصول الخمسة 632، وانظر أقوالهم في ذلك في مقالات الإسلاميين 271 .(211/136)
نقل صاحب "مشارق أنوار العقول" ما كتبه ابن حجر الهيتمي في الزواجر من الأقوال في تعريف الكبيرة، ثم خرج بخلاصة في تعريف الكبيرة، فقال: (وحاصل ما ذكره أن الكبير من الذنوب هو ما ثبت فيه حد في الدنيا أو عذاب في الآخرة) (1)، وقال خميس بن سعيد الرستاقي أحد علماء الأباضية(2): (والكبائر ما جاء فيه وعيد في الآخرة أو حد في الدنيا، وقيل: ما قاد أهله إلى النار فهو كبير، وأما الصغير من الذنب فليس هو بشيء محدد إلا أنه قيل: ما دون الكبائر…)(3).
أما حكمهم على مرتكب الصغيرة فمتفاوت، وسنقتصر هنا على كلام الأباضية في ذلك باعتباره المذهب المنتشر، ثم نشير إلى آراء أخرى عند غيرهم، يلخص صاحب "مشارق الأنوار" رأيهم فيقول: (اعلم أن للصغائر حكمين، أحدهما أنها مغفورة بفعل الحسنات، بشرط اجتناب الكبائر قال تعالى { إن الحسنات يذهبن السيئات}(4)وقال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر مما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}(5)
والحكم الثاني: إن الإصرار عليها كبيرة…)(6)ولذلك يكفر المصر على الصغيرة(7)عندهم كفر نعمة.
__________
(1) مشارق أنوار العقول 2/270.
(2) هو: خميس بن سعيد بن علي بن مسعود الثقفي، عاش في أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر، عاش في زمن سلطان بن سيف ثاني إمام اليعاربة، وكان عضداً ومساعداً له، له مصنفات أهمها منهاج الطالبين، في عشرين جزءاً، انظر مقدمة منهاج الطالبين .
(3) منهج الطالبين وبلاغ الراغبين 2/206، وانظر جامع البسيوني 206.
(4) سورة هود، آية : 114 .
(5) سورة النساء، آية: 31.
(6) مشارق أنوار العقول 2/273.
(7) انظر منهاج الطالبين 2/197، ومشارق الأنوار 2/278.(211/137)
ويذهب الأزارقة إلى القول بتكفير مرتكب الصغيرة(1)، وينسب هذا القول – أيضاً – إلى طائفة من الصفرية(2)، أما النجدات فيكفرون المصر على الذنب سواء كان الذنب صغيراً أو كبيراً، ولا يكفرون غير المصر و إن عمل الكبائر إذا كان من موافقيهم. (3)
مما سبق نلاحظ، الاتفاق بين أهل السنة والوعيدية – من حيث الإجمال – في مسألة تقسيمهم الذنوب إلى صغائر وكبائر، وعلى تعريفهم الكبيرة، ويختلفون عمن يكفر مرتكب الصغيرة أو المصر عليها، فإذا كان أهل السنة لا يكفرون مرتكب الكبيرة، ولا المصر عليها(4)، فعدم تكفير المصر على الصغيرة من باب أولى. وهذا واضح، ومع مخالفة الوعيدية- لأهل السنة – في هذه الأمور على التفصيل، أعني مسألة تعريف الإيمان، وزيادته ونقصانه والفرق بين الكبائر والصغائر. إلا أن القضية الكبرى التي هي مدار خلاف طويل عريض بين أهل السنة والجماعة والوعيدية هى مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، وهذا ما سنفصله فيما يلي:
4- حكم أهل الكبائر عندهم:
يتفق رأي المعتزلة والأباضية(5) في الحكم على مرتكب الكبيرة، فكلاهما لا يرى أن مرتكب الكبيرة يخرج من الملة في الدنيا، ويرون خلوده في النار في الآخرة، و إن اختلفوا في اسمه، حيث يقول المعتزلة بأنه في "منزلة بين المنزلتين" وهو أحد أصولهم الخمسة، ويقول الأباضية بأنه كافر كفر نعمة، فالخلاف بينهم لفظي. (6)
أ- رأي المعتزلة:
__________
(1) مشارق الأنوار 2/203.
(2) الإيمان لأبي عبيد، 102، وانظر آراء أخرى للصفرية، التبصير في الدين للإسفراييني 53.
(3) الفصل 4/190، الفرق بين الفرق89.
(4) سبق بيان أدلة أهل السنة على ذلك بشكل مفصل في الفصل الثاني فليراجع .
(5) سنشير في آخر الفقرة إلى آراء فرق الخوارج في مرتكب الكبيرة.
(6) وقد صرح بذلك بعض علمائهم كما سيأتي .(211/138)
يلخص القاضي عبد الجبار مذهب المعتزلة في مرتكب الكبيرة (..فيقول: وجملة القول في ذلك أن الغرض بهذا الباب أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً ولا كافراً، وإنما يسمى فاسقاً، والذي دل على الفصل الأول، وهو الكلام في أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمناً، هو ما قد ثبت أنه يستحق بارتكاب الكبيرة الذم واللعن والاستخفاف والإهانة، وثبت أن اسم المؤمن صار بالشرع اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم والموالاة، فإذا قد ثبت هذا من الأصلين، فلا اشكال في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمناً.. وهذه الجملة تنبني على أن المؤمن صار بالشرع اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم، و أنه غير مبقي على موضوع اللغة، و أما الذي دل على أنه صار بالشرع اسماً لمن يستحق المدح والتعظيم، هو أنه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلا وقد قرن إليه المدح والتعظيم ألا ترى إلى قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون}(1)وقوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}(2)وقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله و إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه}(3)إلى غير ذلك من الآيات..
__________
(1) المؤمنون، آية : 1.
(2) سورة الأنفال، آية : 2.
(3) سورة النور، آية : 62.(211/139)
و إذا قد فرغنا من الكلام في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمناً وما يتصل به، فإنا نذكر بعده الكلام في أنه لا يسمى كافراً.. اعلم أن الكفر في أصل اللغة إنما هو الستر والتغطية، ومنه سمي الليل كافراً لما ستر ضوء الشمس عنا ومنه سمي الزارع كافراً لستره البذرة في الأرض، قال الله تعالى: {ليغيظ بهم الكفار}(1) أي الزراع، هذا في اللغة، و أما في الشرع فإنه جعل الكافر اسماً لمن يستحق العقاب العظيم، ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين، وله شبه بالأصل، فإن من هذه حاله صار كأنه جحد نعم الله تعالى عليه وأنكرها ورام سترها، و إذا ثبت هذا، ومعلوم أن صاحب الكبيرة ممن لا يستحق العقاب العظيم، ولا تجري عليه هذه الأحكام فلم يجز أن يسمى كافراً…)(2).
ويلخص هذا الكلام بعبارة موجزة فيقول: (.. صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين لا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يسمى فاسقاً، وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه، هو سبب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما) (3)، وهذه المسألة " المنزلة بين المنزلتين " مما أجمعت عليه فرق المعتزلة(4)، (وهذا هو الذي امتازت به المعتزلة، و إلا فسائر بدعهم قد قالها غيرهم…)(5).
ب- رأي الأباضية:
__________
(1) سورة الفتح، آية : 29.
(2) شرح الأصول الخمسة 701- 702، وانظر بشكل موسع شرح القاضي لهذا الأصل (697-738) وانظر "الانتصار الرد على ابن الروندي" 164-167 لأبي الحسين الخياط المعتزلي .
(3) شرح الأصول 697 .
(4) انظر التبصير في الدين 65، والمنية والأمل المرتضى ص6، الفرق بين الفرق 115.
(5) النبوات لابن تيمية 134.(211/140)
يلخص صاحب "مشارق الأنوار" رأي الأباضية في ذلك، والفرق بينهم وبين المعتزلة، فيقول: (وذهبت المعتزلة إلى جعل منزلة الفسق بين منزلتين الإيمان والكفر، قالوا: لا يسمى الفاسق مؤمناً ولا كافراً فهو بين بين، لأن له في الدنيا أحكام المؤمنين وفي الآخرة أحكام الكافرين، والخلاف بيننا لفظي، لأنهم خصوا اسم الكفر بالمشرك، ومنعوا إطلاقه على الفاسق، ونحن نطلقه عليه لكنا نقيده بكفر النعمة، ولا نجري عليه أحكام المشركين، بل نقول فيه إن أحكامه في الدنيا أحكام المؤمنين إلا في الولاية وقبول الشهادة ونحوهما من الأحكام المختصة بالعدول، وليست التسمية بنفسها موجبة خلافاً معنوياً بين الفرق، وإنما الموجب لذلك الخلاف بناء الأحكام على الأسماء، كما ذهبت الأزارقة والصفرية والنجدات إلى تسمية صاحب الكبيرة كافراً وأجروا حكم المشركين عليه وزادت الأزارقة على الطائفتين بتسمية صاحب الصغيرة كافراً وإجراء حكم المشركين عليه) (1).
أما بقية فرق الخوارج فتتضارب أقوالهم في هذه المسألة، فالنجدات ينقل عنهم في المسألة قولان:
__________
(1) مشارق الأنوار 2/202، 203، وانظر 304، فقد أشار إلى أن الخلاف مع المعتزلة في ذلك "لفظي" أما إشارته إلى أن جميع فرق الخوارج تقول بأن مرتكب الكبيرة كافر مشرك فغير دقيق، كما سنشير بعد ذلك إلى أقوالهم في المسألة .(211/141)
الأول: أن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة(1)، والثاني: أن من فعل الذنب وأصر عليه فهو مشرك، و إن كان غير مصر فهو مسلم إن كان من موافقيهم(2)، والصفرية: انقسموا ثلاث فرق(3): ففرقة تقول بأن مرتكب الكبيرة كافر ومشرك(4)، وأخرى تقول: لا يكفر إلى أن يحده الوالي ويحكم بكفره(5)، وثالثة تقول: كل ذنب له حد في الشريعة لا يسمى مرتكبه مشركاً ولا كافراً، بل يدعى باسمه بأن يقال سارق وقاتل وقاذف.. الخ وكل ذنب ليس له حد فمرتكبه كافر. (6)
ومر معنا تكفير الأزارقة لمرتكب الصغيرة.
5- موقفهم من نصوص الوعد والوعيد:
يترتب على ارتكاب الكبيرة مسألة الجزاء والثواب في الآخرة، وهو ما يسمى "الوعد والوعيد"، وهو أحد أصول المعتزلة الخمسة، ويتفق الخوارج جميعاً معهم في هذا الأصل، وتتطابق تعريفاتهم وأدلتهم – كما ستلاحظ – وسنذكر رأي المعتزلة ثم رأي الخوارج، ثم نذكر أدلتهم على هذا الأصل.
أ- رأي المعتزلة:
__________
(1) انظر مقالات الإسلاميين 86، التبصير 45، أصول الدين للبغدادي 250.
(2) الفصل 4/190، والفرق بين الفرق 89.
(3) التبصير 53، الفرق بين الفرق 91، فقد ذكروا هذه الفرق وأقوالها .
(4) الإيمان لأبي عبيد 102، والفرق بين الفرق 117.
(5) الفصل 4/190.
(6) الملل والنحل للشهرستاني 1/135.(211/142)
يقول القاضي عبد الجبار: (… و أما علوم الوعد والوعيد، فهو أنه يعلم أن الله تعالى وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب، وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة،ولا يجوز عليه الخلف و الكذب،والمخالف في هذا الباب إما أن يخالف في أصل الوعد والوعيد،أو يقول:أنه تعالى وعد وتوعد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده، فالكلام عليه أن يقال:إن الخلف في حق الله تعالى كذب لما تقدم،والكذب قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح لعلمه بقبحه،ولغناه عنه،وإلى هنا أشار تعالى بقوله: {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد}(1)، وبعد فلو جاز الخلف في الوعيد لجاز في الوعد، لأن الطريق في الموضعين واحد، فإن قال: فرق بينهما، لأن الخلف في الوعيد كرم وليس كذلك في الوعد، قلنا: ليس كذلك، لأن الكرم من المحسنات، والكذب قبيح بكل وجه، فكيف تجعله كرماً، أو يقال إن الله تعالى وعد وتوعد، ولا يجوز عليه الخلف والكذب، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرطاً واستثناء لم يبينه الله تعالى، والكلام عليه أن يقال: إن الحكيم لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب لا يريد به ظاهره، ثم لا يبين مراده به لأن ذلك يجري مجرى الألغاز والتعمية، وذلك لا يجوز على الله تعالى، وبعد، فلو جاز في عمومات الوعيد لجاز في عمومات الوعد، بل في جميع الخطاب من الأوامر والنواهي، والمعلوم خلافه…)(2)أيضاً من مذهبهم في الوعيد، أن من دخل النار لا يخرج منها، يقول يحيى بن الحسين(3): (ثم يجب أن يعلم أن وعده ووعيده حق، من أطاعه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار أبد الآبدين، لا ما يقول الجاهلون من خروج
__________
(1) سورة ق، آية : 29.
(2) شرح الأصول الخمسة 135، 136، وانظر شرح هذا الأصل مفصلاً (611-693).
(3) يحيى بن الحسين : ابن القاسم الرسي، يلقب بالهادي إلى الحق، من أئمة الزيدية، المتأثرين بالمعتزلة أقام للزيدية دولة في اليمن، له مصنفات كثيرة، توفي سنة 298ه-، انظر الأعلام 8/141.(211/143)
المعذبين من العذاب المهين إلى دار المتقين ومحل المؤمنين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {خالدين فيها أبداً}(1)، ويقول: {وما هم بخارجين من النار}(2)، ففي كل ذلك يخبر أنه من دخل النار فهو مقيم فيها غير خارج منها..) (3)، ولذلك أنكروا شفاعته – صلى الله عليه وسلم – لمن دخل النار من أهل الكبائر، يقول القاضي عبد الجبار في ذلك: (فصل في الشفاعة، ووجه اتصاله بباب الوعيد، هو أن هذا أحد شبه المرجئة الذين يوردون علينا طعناً في القول بدوام عقاب الفساق، وجملة القول في ذلك، هو أنه لا خلاف بين الأمة في أن شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – ثابتة للأمة، وإنما الخلاف في أنها ثبتت لمن؟ فعندنا أن الشفاعة للتائبين من المؤمنين، وعند المرجئة أنها للفساق من أهل الصلاة..) (4).
من كل ما سبق نستخلص، أن مذهب المعتزلة في الوعد والوعيد أن الله وعد المطيعين أن يثيبهم الجنة، أوعد العصاة النار، و أنه يفعل ذلك لا محالة، فلا خلف لوعده ولا وعيده، و أن من دخل النار فهو خالد مخلد فيها، فلا يخرج منها أحد ممن دخل فيها، وينكرون الشفاعة في أهل الكبائر وسنذكر أهم أدلتهم، بعد ذكر رأي الخوارج للتشابه بين أدلة الرأيين.
رأي الخوارج:
يقول خميس بن سعيد الرستاقي ملخصاً مذهب الأباضية في ذلك: (.. والوعد: هو ما وعد الله به أهل طاعته من الثواب في الآخرة، وهو حق، والوعيد: ما أوعد الله به أهل الكفر والمعاصي من العقاب في الآخرة، وهو حق، ومن زعم أن الله تعالى أوعد قوماً النار ثم لم يدخلهم إياها، فقد كذب على الله تعالى، والله تعالى
__________
(1) سورة النساء 57، 122، سورة المائدة 119، والتوبة : 22،100.. الخ.
(2) سورة المائدة : 37.
(3) رسائل العدل والتوحيد 2/67، وانظر 1/155.
(4) شرح الأصول 687، 688.(211/144)
يقول: { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد}(1)، وقال: { إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم * يصلونها يوم الدين * وما هم عنها بغائبين}(2)، فلا يجوز بطلان قول الله تعالى و الله تعالى يقول: { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين}(3)، فهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن الله ينجز وعده ويبطل وعيده) (4).
ويعبر عن ذلك أبو الحسن البسيوي بعبارة موجزة، فيقول: (فمن لقي الله بعمل الكبائر، و الإصرار على الصغائر ولم يتب من ذلك فله النار، كما قال، لا خلف لوعيده في ذلك..) (5).
__________
(1) سورة ق، آية : 29 .
(2) الانفطار : 13-16.
(3) سورة الأعراف : 44.
(4) منهج الطالبين 1/421.
(5) جامع أبي الحسن البسيوي 1/206.(211/145)
ويرد أبو عمار عبد الكافي الأباضي(1)على من يقول: إن إخلاف الوعيد قد يكون من الكرم والجود فلماذا لا يجوز على الله عز وجل ذلك، فيقول: (ويحك قد ناظرت ما لم يكن نظيراً، وشبهت ما ليس بشبيه، وذلك أن أحداً منا قد يعد ويوعد، وهو لا علم له بالذي تصير إليه عاقبة وعده وتوعده ثم يكون من بعد ذلك تبدو له أمور يتبين بها أن عاقبة وعيده، إذا هو أمضاه تصير إلى فساد، وتنتهي إلى هلاك، فيرى أن الخلف الذي توعد به أصلح من إمضائه وإتمامه، فيقصر عندما بداله من إنجاز ما توعد به، والله عز وجل غير موصوف بأن يكون يجهل عاقبة أمر من الأمور، فيكون يبدو له ما لم يكن يعلم من ذلك، ولو كان الله عز وجل يعد أحداً أو يتوعده، ثم هو لا يفي له بذلك لوقع التوهم في جميع موعوداته، وشك في جميع أخباره..) (2) أيضاً ينكر الأباضية الشفاعة لمن دخل النار من أهل الكبائر، ويقصرونها على المؤمنين ممن أدوا الواجبات، وجانبوا المحرمات. (3)
وبذلك يتضح لنا مذهب الأباضية في الوعد والوعيد حيث إنه لا يختلف عن مذهبه بقية الخوارج والمعتزلة، وقبل ذكر أدلتهم على هذا الأصل، نشير بإيجاز، إلى بعض الفروق التفصيلية بينهم في ذلك.
الفرق بين الخوارج والمعتزلة في مسألة الخلود:
__________
(1) هو أبو عمار عبد الكافي بن أبي يعقوب التناوتي، وتناوت، قرية من قرى وارجلان جنوب الجزائر، أخذ العلم عن أستاذه المتكلم الأباضي أبو يعقوب الورجلاني المتوفي سنة 530ه-. وارتحل إلى تونس ودرس فيها، يعتبر من الذين أحيوا المذهب الأباضي تأليفاً وتعليماً، وهو من أقدر مؤلفي الأباضية على التنظير والجدل، من أشهر كتبه "الموجز في علم الكلام" توفي سنة 530ه- على الراجح، وهي السنة التي توفي فيها شيخه، انظر آراء الخوارج د. عمار الطالبي 229 – 236.
(2) الموجز 2/86.
(3) انظر مشارق الأنوار 2/132، ومنهج الطالبين 1/520.(211/146)
قد بينا فيما سبق أنه ليس هناك فروق في أصل الوعيد لأهل الكبائر في الآخرة، و أنهم متفقون على الخلود في النار، وهناك فروق يسيرة، يذكرها بعض المصنفين في الفرق والمقالات، لا تعارض الاتفاق العام بينهم على هذا الأصل، من ذلك، ما ذكره صاحب مشارق الأنوار من أن (أهل الاستقامة ويعني بهم الأباضية) يقولون: إن التعذيب بعدل الله والثواب بفضله، والمعتزلة يقولون بوجوب ذلك عليه تعالى عن ذلك، بناءاً على أصلهم الفاسد في التحسين والتقبيح العقليين) (1).
ومن الفروق ما ذكره الأشعري في المقالات، من أن الخوارج يقولون إن مرتكبي الكبائر ممن لم يتوبوا يعذبون عذاب الكافرين، أما المعتزلة فيقولون إن عذابهم أخف من عذاب الكافرين. (2)
ومن ذلك ما ذكره البغدادي عن بعض شيوخ المعتزلة أنهم أجازوا مغفرة الله عز وجل ذنوب أهل الكبائر من غير توبة(3)، بينما لم ينقل عن أي من فرق الخوارج أو شيوخهم رأياً مخالفاً في هذا.
أ-أدلة الوعيدية في مسألة الوعد والوعيد:
استدلوا بأدلة كثيرة، ومن أكثر استدلالاتهم، احتجاجهم بعمومات الوعيد، ليؤكدوا أن صاحب الكبيرة – إن لم يتب – فهو خالد مخلد في النار ولابد فلا تشمله المغفرة، ولا يخرج من النار لا بشفاعة ولا بغيرها، وردوا على بعض الأدلة المخالفة لمذهبهم، ومن باب الاختصار، سأختار أهم أدلتهم على ذلك، وأهم ردودهم، على أهل السنة وسأجمل أدلتهم بما يلي:
__________
(1) مشارق أنوار العقول 2/143.
(2) انظر مقالات الإسلاميين 124، الملل والنحل 1/45.
(3) انظر الفرق بين الفرق 116، نقل ذلك عن محمد بن شبيب البصري، والصالحي، والخالدي .(211/147)
1- عمومات الوعيد: قالوا: (إن غالب آيات الوعيد نصت على الخلود في النار ولم تفرق بين المشرك وغيره. ولا تجد بجانب ذلك في القرآن ما يشير إلى عدم خلود أحد ولو من بعيد..) (1)، ومن الآيات التي ذكروا قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها}(2) قال عبد الجبار في شرحها: (فالله تعالى أخبر أن العصاة يعذبون بالنار ويخلدون فيها، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعاً فيجب حمله عليها، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على ما ذكرناه) (3). ومن ذلك قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب}(4)وقوله تعالى: {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(5).
قالوا: (فقد بين أن من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فهو مخلد في النار، ما لم يلق الله تائبا منها) (6).
وقال القاضي عبد الجبار: (دلت الآية على أن من غلبت كبائره على طاعته – لأن هذا هو المعقول من الإحاطة في ب-اب الخطايا، إذ أن ما سواه من الإحاط-ة التي تستعمل في الأجسام مستحيل فيها – هو من أهل النار مخلد فيها) (7)ومن أدلتهم قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا}(8).
__________
(1) حاشية مشارق الأنوار، أحمد الخليلي 2/138.
(2) سورة النساء، آية : 14.
(3) شرح الأصول الخمسة 657.
(4) سورة الفرقان، آية : 68- 70.
(5) سورة البقرة : آية 81.
(6) جامع البسيوي 1/213، وانظر شرح مطول لهذه الآية، في تأييد مذهب الأباضية، الحق الدامغ 202-207.
(7) متشابه القرآن 1/97.
(8) سورة النساء، آية : 10.(211/148)
يقول القاضي: (و الآية تدل على أن الفاسق من أهل الصلاة متوعد بالنار، و أنه سيصلاها لا محالة ما لم يتب، لأن الذي يأكل أموال اليتامى ليس هو الكافر فلا يصح حمله عليه، ويجب كونه عاما في كل من هذه حاله…)(1).
ومنها قول-ه سبحان--ه: { إن الأبرار لفي نعيم و إن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين }(2).
قال السالمي: (فلو كانوا يخرجون منها لزم أن يغيبوا عنها، والفجور شامل للشرك وغيره) (3).
ومما استدلوا به – أيضاً – قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}(4) (ووجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى توعد فيها قاتل المؤمن – فيما توعده به – بالخلود في النار مع أن القتل كبيرة دون الشرك..) (5).
قال القاضي عبد الجبار بعدما ذكر بعض آيات الوعيد: (والذي يدل على أن الفاسق يخلد في النار ويعذب فيها أبداً ما ذكرناه من عمومات الوعيد، فإنها تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة، تدل على أنه يخلد، إذ ما من آية من هذه الآيات التي مرت إلا وفيها ذكر الخلود والتأبيد أو ما يجري مجراها) (6).
2- أدلتهم من السنة:
__________
(1) متشابه القرآن، 1/178.
(2) الانفطار، آية : 13-16.
(3) مشارق أنوار العقول 2/145.
(4) سورة النساء، آية : 93.
(5) الحق الدامغ 213، وانظر متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار 1/201.
(6) شرح الأصول 666.(211/149)
استدلوا ببعض الأحاديث(1) التى فيها التصريح بعدم دخول الجنة، أو الخلود في النار مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: " من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة …"(2) وقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يدخل الجنة نمام"(3)، وقوله: " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبداً.." (4)قال الخليلي – مفتي الأباضية في عصرنا هذا – في تعليقه على هذه الروايات: (والروايات – كما قلت – في ذلك كثيرة، تارة تدل على الخلود بالنص عليه، وتاره بالجمع بينه وبين التأبيد، وأخرى بالتوعد بحرمان الجنة أو حرمان شم ريحها، ومحصلها واحد و إن اختلفت ألفاظها، فإن حرمان الجنة ينافي دخولها في أي وقت من الأوقات، كما أن نفي دخولها يعم جميع الأزمنة) (5).
3- آيات الشفاعة:
__________
(1) انظر شرح الأصول 673، مشارق الأنوار 2/147.
(2) رواه مسلم، كتاب الإيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمينه فاجره بالنار رقم 173.
(3) رواه البخاري كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة بلفظ :قتات"، الفتح 10/394، ومسلم في الإيمان "باب بيان غلظ النميمة" رقم 105.
(4) رواه مسلم كتاب الإيمان " باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه …" رقم 109.
(5) الحق الدامغ 225.(211/150)
ينكر الوعيدية شفاعته – صلى الله عليه وسلم – فيمن دخل النار من أهل الكبائر ويقصرون الأدلة الواردة على الشفاعة للمتقين، يقول القاضي عبد الجبار، في ذلك – وقد سبق نقله قبل قليل – (فصل في الشفاعة، ووجه اتصاله بباب الوعيد، هو أن هذا أحد شبه المرجئة(1)الذين يوردون علنيا، طعناً في القول بدوام عقاب الفساق، وجملة القول في ذلك، هو أنه لا خلاف بين الأمة في أن شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – ثابتة للأمة وإنما الخلاف في أنها ثبتت لمن؟ فعندنا أن الشفاعة للتائبين من المؤمنين، وعند المرجئة أنها للفساق من أهل الصلاة) (2).
وقال عبد الله السالمي أحد علماء الأباضية: (… شفاعة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – مقصورة على التقي من المكلفين، والتقي: من جانب المحرمات وأدى الواجبات فلا شفاعة لغيره من الأشقياء، لقوله تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}(3)وقوله: {واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة}(4)وقوله: { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}(5)وهو اسم لكل من ظلم نفسه أو ظلم غيره، فلا يخص المشركين كما زعموا… ويعضد هذه الآيات ما سيأتي من الأدلة القاطعة في تخليد أهل الكبائر فإنهم متى ثبت تخليدهم في النار بالقطعيات الآتية، انتفت عنهم الشفاعة في الموقف ضرورة..) (6)
4- استدلوا لذلك ببعض الأدلة العقلية:
وسأقتصر على ثلاثة منها:
1- أنه- سبحانه – لو لم يعاقب العصاة، لاقتضى ذلك الخلف والتبديل والكذب في خبره. (7)
__________
(1) يقصد بالمرجئة هنا : من يثبت الشفاعة لأهل الكبائر، ومنهم أهل السنة .
(2) شرح الأصول 687- 688.
(3) سورة الأنبياء، آية : 28.
(4) سورة البقرة، آية : 48.
(5) سورة غافر، آية : 18.
(6) مشارق الأنوار 2/132- 133، وانظر منهج الطالبين 1/520، 521، أصدق المناهج في تمييز الأباضية من الخوارج 27.
(7) شرح الأصول الخمسة، 136، ومتشابه القرآن 2/626.(211/151)
2- أن القول بأن صاحب الكبيرة قد لا يعذب (فيه إغراء بمعصية الله تعالى فإن من علم أنه إن أتى الكبيرة لا يعذب، سارع في إتيانها) (1).
3- وم-ن أدلتهم العقلية على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر ما قاله القاضي عبد الجبار: (..أن الأمة اتفقت على قولهم: اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون هذا الدعاء، دعاء لأن يجعلهم الله تعالى من الفساق، وذلك خلف"(2).
مناقشة مذهب الوعيدية في الإيمان:
سنركز في مناقشتنا لمذهب الوعيدية في الإيمان على رأيهم في الوعد والوعيد واستدلالاتهم عليه، وذلك للأسباب التالية:
1- لأنه سبق و أن ذكرنا في الفصلين السابقين، ما يمكن أن نعتبره رداً عليهم في بقية آرائهم، حيث ذكرنا مذهب أهل السنة في الإيمان، ودخول العمل في مسماه، وقولهم بزيادة الإيمان ونقصانه، وأدلتهم على عدم تكفير مرتكب الكبيرة، والرد على بعض الشبهات في ذلك.
2- ولأن مسألة " الوعد والوعيد" وخاصة القول بوجوب الوعيد لأهل الكبائر وخلودهم في النار، هي أكبر انحراف وابتداع للمعتزلة والخوارج في مسألة الإيمان، وهو من أصولهم الرئيسية، لذلك كثر استدلالهم لها.
2- إذا بينا فساد حججهم على ذلك، سقطت حججهم في غيرها من مسائل الإيمان التي هي في حقيقة الأمر فرع عن هذا الأصل، ولإيضاح ذلك يقال: إذا ثبت أن الله سبحانه يغفر لمن يشاء من أهل الكبائر، و أن من دخل النار منهم لا يخلد، دل ذلك على أن مرتكب الكبيرة لم يخرج من الإيمان فلم يحبط عمله، و إذا لم يخرج من الإيمان بارتكابه المعاصي فإن إيمانه سيكون أنقص ممن لم يعملها وهكذا..
مناقشة أدلتهم في "الوعد والوعيد":
__________
(1) مشارق الأنوار 2/149، وانظر شرح الأصول 683.
(2) شرح الأصول الخمسة 692، وانظر التفسير الكبير للفخر الرازي 3/63- 65، مشارق الأنوار 2/133.(211/152)
أولاً: من أهم ما يرد عليهم به الاستدلال عليهم بآيات الوعد والرجاء والترغيب في مقابل استدلالهم بآيات الوعيد وهذا هو الرد الرئيس، أو الأصل الذي تتفرع عنه باقي الردود فيقال لهم:
إن آيات الوعيد التي احتج بها من ذهب مذهب المعتزلة والخوارج، لا يجوز أن تخص بالتعلق بها دون آيات العفو وأحاديث العفو التي احتج بها من أسقط الوعيد، بل الواجب جمع جميع تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها حق وكلها من عند الله وكلها مجمل تفسيرها بآيات الموازنة وأحاديث الشفاعة التي هي بيان لعموم تلك الآيات وتلك الأخبار وكلها من عند الله) (1).
(المعتزلة تقول: إن الإيمان يضيع ويحبط، وهذا خلاف قول الله تعالى: إنه لا يضيع إيماننا ولا عمل عامل منا، وقالوا هم: إن الخير ساقط بسيئة واحدة، وقال تعالى: { إن الحسنات يذهبن السيئات}(2)فقالوا هم: إن السيئات يذهبن الحسنات، وقد نص تعالى أن الأعمال لا يحبطها إلا الشرك والموت عليه، وقال تعالى: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها}(3) فلو كانت كل سيئة أو كبيرة توجب الخلود في جهنم، وتحبط الأعمال الحسنة، لكانت كل سيئة أو كل كبيرة كفراً ولتساوت السيئات كلها وهذا خلاف النصوص. (4)
أيضاً مما رد عليهم به الإمام ابن حزم – رحمه الله – قوله: (كل آية وعيد وخبر وعيد تعلق به من قال بتخليد المذنبين، فإن المحتجين بتلك النصوص هم أول مخالف لها لأنهم يقولون: إن من أتى بتلك الكبائر ثم تاب سقط عنه الوعيد، فقد تركوا ظاهر تلك النصوص، فإن قالوا: إنما قلنا ذلك بنصوص أخر أوجبت ذلك، قيل لهم: نعم وكذلك فعلنا بنص-وص أخر، وهي آيات الموازنة، و أنه تعالى لا يضيع عمل عامل من خير أو شر ولا فرق) (5).
__________
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم 1/48.
(2) سورة هود، آية : 114.
(3) سورة الأنعام، آية : 160.
(4) الفصل، 1/49.
(5) الفصل 4/50.(211/153)
ومن ردوده عليهم – رحمه الله – رده على دعواهم استحالة اجتماع الولاية والعداوة والحمد والذم في الشخص الواحد، لذلك من عمل الكبيرة والسوء فقد صار عدواً لله، وليس وليا وهكذا، قال – رحمه الله – راداً على هذه الدعوى: (ثم يقال لهم: ما تقولون إن عارضتكم المرجئة بكلامكم نفسه، فقالوا: من المحال أن يكون إنسان واحد محموداً مذموماً محسناً مسيئاً عدواً لله وليا له معا، ثم أرادوا تغليب الحمد والإحسان والولاية، وإسقاط الذم و الإساءة والعداوة، كما أردتم أنتم بهذه القضية نفسها تغليب الذم والإساءة والعداوة، وإسقاط الحمد والإحسان والولاية، فإن قالت المعتزلة، إن الشرط في حمده وإحسانه وولايته أن تجتنب الكبائر، قلنا لهم: فإن عارضتك-م المرجئة فقالت: إن الشرط في ذمه وإساءته ولعنه وعداوته ترك شهادة التوحيد، فإن قالت المعتزلة: إن الله قد ذم المعاصي وتوعد عليها، قيل لهم فإن المرجئة تقول لكم إن الله تعالى قد حمد الحسنات [والتوحيد] ووعد عليها، وأراد بذلك تغليب الحمد، كما أردتم تغليب الذم، فإن ذكرتم آيات الوعيد ذكروا آيات الرحمة(1)إذاً كل شبهة ودعوى يتعلق بها الوعيدية، فبنفس دعواهم ومنطقهم يرد عليهم.
يقال لهم – أيضاً – ترجيح عمومات الوعد أولى، لأنه ثبت في النصوص الصحيحة، أن رحمة الله غلبت غضبه أو سبقت غضبه(2)، و لأنها أدل على الجود والكرم من عمومات الوعيد. (3)
ولعلنا من باب زيادة الإيضاح نذكر بعض أدلة الوعد والترغيب المقابلة لأدلة الوعيد التي ذكروها في حججهم ثم نجيب عن بعض اعتراضاتهم عليها.
بعض آيات الوعد التي استدل بها أهل السنة وردودهم عليها:
__________
(1) نفسه 3/232.
(2) انظر صحيح البخاري (كتاب التوحيد) باب قوله تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} (الفتح 13/440).
(3) انظر التفسير الكبير 3/171.(211/154)
منها قوله سبحانه وتعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها}(1).
وقوله سبحانه: {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}(2)، وقوله عز وجل: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}(3) وقوله عز وجل: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}(4)، وقوله سبحانه: {للذين أحسنوا بالحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}(5) وقوله عز وجل: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً}(6)، وغيرها من الآيات وهي كثيرة جداً، أما ردود الوعيدية على هذه الآيات فهي في الغالب عمومات – كما سنرى- فمثلاً قوله سبحانه {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} قالوا: إن ذلك يكون في حق من اتقى المعاصي والسيئات قبل إحسانه، ومن ركب المعاصي لم يقبل عمله فإذا كان ذلك كذلك لم يقبل إحسان مع السيئة، لأنه لا يقبل إلا من المتقين، وكيف يكون من المتقين من زنا وسرق وقذف وشرب الخمر …؟(7) واحتجوا بقوله تعالى: {إنما يتقبل الله من المتقين}(8).
__________
(1) سورة الأنعام، آية : 16.
(2) سورة الأحزاب، آية : 71.
(3) سورة الرعد، آية 6.
(4) سورة يوسف، آية : 87.
(5) سورة يونس، آية : 26.
(6) سورة النساء، آية : 40.
(7) انظر جامع البسيوي 1/212، مشارق الأنوار 2/144.
(8) المائدة، آية : 27.(211/155)
وقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بجواب مطول ومما قال فيه: (إن المراد من اتقى الله في ذلك العمل، كما قال الفضيل بن عياض، في قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(1)، قال: أخلصه، وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، و إن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة(2)، فمن عمل لغير الله – كأهل الرياء- لم يقبل منه ذلك كما في الحديث الصحيح، يقول الله عز وجل: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، فأنا برئ منه، وهو كله للذي أشركه"(3)… لا يجوز أن يراد بالآية: أن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها، لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة، بخلاف ما إذا اشترك التقوى في العمل، فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة … أيضاً فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل، وغصب، وقذف – وكذلك الذمي إذا أسلم – قبل إسلامه مع بقاء المظالم عليه.. ولا نعرف أحداً من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له، لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب…)(4)
__________
(1) سورة الملك، آية : 2.
(2) انظر تفسير البغوي – سورة الملك 8/176، ط دار طيبة .
(3) رواه مسلم، كتاب الزهد " باب الرياء"، مسلم بشرح النووي 18/115.
(4) الإيمان الأوسط 36- 40.(211/156)
أما قوله سبحانه: { و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}(1)فقالت الوعيدية عنها:(إن الأخذ بظاهر الآية مما لا يجوز بالاتفاق، لأنه يقتضي الإغراء على الظلم وذلك لا يجوز على الله تعالى فلابد أن يؤول، وتأويله هو أنه يغفر للظالم على ظلمه إذا تاب) (2)، ويجاب عن ذلك بأنه ثبت في الصحيح، ما يدل على أن لا يختص بالتائب، حيث قال – صلى الله عليه وسلم -: " من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار"(3)فثبت أن الظالم له حسنات يستوفي منها حقه(4)، ولو كان عمله حابطاً بالظلم، لم يأت بحسنات، ولو كان تائباً لم يسم ظالماً، أما القول إن الأخذ بظاهرها لا يجوز بالاتفاق فيقال له، اتفاق من؟ ثم، ليس في الآية إغراء على الظلم، لأن الأصل معاقبة الظالم على ظلمه إلا أن يشاء الله، كما دلت على ذلك آيات أخرى مثل قوله سبحانه: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون}(5)، وكذلك قوله سبحانه: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (6)ثم الآية بعدها {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها} إلى قوله عز وجل: {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(7)قالوا عنها: (.. إنه توعد الذين عملوا السيئات بالنار مخلدين فيها وهذا الحكم يصدق على من أتى سيئة فإن السيئات جنس غير محصورة أفراده، وما كان كذلك فحكمه يصدق على كل فرد من أفراده سلباً وإيجاباً.." (8).
__________
(1) سورة الرعد، آية : 6.
(2) شرح الأصول الخمسة 684.
(3) رواه البخاري، كتاب المظالم " باب من كانت عنده مظلمة لأخيه.." 5/73 (الفتح)
(4) شرح العقيدة الطحاوية 361.
(5) سورة إبراهيم، آية 42.
(6) سورة يونس، آية : 26.
(7) سورة يونس، آية 27.
(8) الحق الدامغ 22، 221.(211/157)
وهذا الطرف، يرد عليه بما يقابله فيقال، والحكم الأول يصدق على من أتى أي حسنة، فلابد من التوازن وربط ذلك بالنصوص الأخرى الشبيهة والمكملة.
ثانياً: ومما يرد عليهم به بعض النصوص الصريحة – كما سبقت الإشارة إليه – في أن من مات موحداً، فهو تحت المشيئة وأن مآله إلى الجنة، من مثل حديث أبي ذر عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: أنه قال " أتاني جبريل عليه السلام فبشرني: أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت:وإن زنى وإن سرق، قال و إن زنى وإن سرق"(1) وهذا من أقوى النصوص في إبطال مذهب الوعيدية، ولم أجد – حسب المراجع المتوفرة لدى – ما يردون به على الدليل.
أيضاً مما يستدل به على أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة، ومما يعتبر استثناءاً من عموم الوعيد قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (فجعل ما دون ذلك الشرك معلقاً بمشيئته، ولا يجوز أن يحمل هذا على التائب: فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره، كما قال سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً}(3)فهنا عمم وأطلق لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق(4).
__________
(1) رواه مسلم "كتاب الإيمان"، باب من مات لا يشرك باله شيئاً دخل الجنة" مسلم بشرح النووي 2/93- 94.
(2) سورة النساء، آية : 48.
(3) سورة الزمر، آية : 53.
(4) الإيمان الأوسط 26،27 وانظر تفسير القرطبي 5/161، وانظر ما نقلنا عن الإمام المروزي، في تفسير هذه الآية في الفصل السابق ص111.(211/158)
وهذه الآية، اضطرب الوعيدية في الجواب عنها ومن أشهر أجوبتهم، قول بعضهم: (فإن سألوا عن قول الله عز وجل: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(1)قيل لهم: فقد قال الله أيضاً: إن الله يغفر الذنوب جميعا}(2)، ولم يخص ذنباً دون ذنب، ولا غير شرك من شرك، فيجب بهذا من قول الله، أن يكون يغفر الشرك وغير الشرك.. إلى أن يقول، وقوله عز وجل: {لمن يشاء} فقد شاء أن يغفر لمجتنب الكبائر ما دون الكبائر، ولم يشأ أن يغفر لمرتكبها إذا لقي الله بها..) (3)، ويقول القاضي في شرح الأصول الخمسة (اعلم أن (العلماء) رحمهم الله قالوا: إن الآية مجملة مفتقرة إلى البيان، لأنه قال: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ولم يبين من الذي يغفر له، فاحت-مل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر، فسقط احتجاجهم بالآية.. ووجه آخر، وهو أن أكثر ما في الآية تجويز أن يغفر الله تعالى ما دون الشرك على ما هو مقرر في العقل، فلو خلينا وقضية العقل لكنا نجوز أن يغفر الله تعالى، ما دون الشرك لمن يشاء إذا سمعنا هذه الآية، غير أن عمومات الوعيد تنقلنا من التجويز إلى القطع على أصحاب الكبائر يفعل بهم ما يستحقونه، و أنه تعالى لا يغفر لهم إلا بالتوبة والإنابة}(4).
ويرد على هذا الاستدلال بما يلي:
__________
(1) سورة النساء، آية : 48.
(2) سورة الزمر، آية : 53.
(3) الموجز لأبي عمار الأباضي 2/91.
(4) شرح الأصول الخمسة 678، وانظر رسائل العدل والتوحيد 1/151، والحق الدامغ 217، 218، ومشارق أنوار العقول 2/152.(211/159)
1- قوله سبحانه: { إن الله يغفر الذنوب جميعا}(1)، النظر في سياق الآية، وما بعدها يدل صراحة على أنها خاصة بالتائب، حيث قال سبحانه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}وقال في الآية بعدها، {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون}(2)، أما قوله سبحانه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به … الآية}(3)، فلا يصح حملها على التائب، لأن التائب يغفر له حتى و إن أشرك، فوجب حملها على أن مرتكب الذنوب – غير المشرك- إذا لقي الله سبحانه بدون توبة فهو تحت المشيئة.
2- أما قولكم: إن الآية مجملة فتحتمل الصغائر والكبائر.. إلخ، فيقال لكم: وما المانع من حملها على إجمالها وعمومها، على طريقتكم في الاستدلال؟
3- أما دعواكم، إن الآية فيها تجويز المغفرة لما دون الشرك، غير أن عمومات الوعيد تمنع ذلك، فيمكن يقال لكم عكس ذلك، أن عمومات الوعيد تدل على العقوبة وعدم المغفرة وهذه الآية تجوز المغفرة فتكون مخصصة للعموم، ويمكن أن يقال – بمثل ما سبق- ولماذا الذهاب إلى عمومات الوعيد وليس الوعد؟
ثالثاً: الرد على بعض أدلتهم التفصيلية في الوعيد، وسنختار دليلين منها – من باب الاختصار -:
__________
(1) سورة الزمر، آية : 53.
(2) سورة الزمر، آية : 54.
(3) سورة النساء، آية : 48.(211/160)
من أهم استدلالاتهم المذكورة استدلالهم بقوله سبحانه: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(1)، وقد سبق في أول مبحث أدلة الوعيدية ذكر وجه استدلالهم بها(2)، وقد أجاب أهل السنة عنها، بعدم فصلها عن النصوص الأخرى المفسرة لها، يقول الإمام الطبري – رحمه إله -: (وأما السيئة التي ذكر الله في هذا المكان، فإنها الشرك بالله) ونقل هذا التفسير عن أئمة التابعين كمجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم، ثم قال: (وإنما قلنا إن السيئة.. في هذا الموضع، إنما عنى الله بها بعض السيئات دون بعض، و إن كان ظاهرها في التلاوة عاماً، لأن الله قضى على أهلها بالخلود في النار والخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان به، لتظاهر الأخبار عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بأن أهل الإيمان لا يخلدون فيها، و أن الخلود في النار لأهل الكفر بالله دون أهل الإيمان، فإن قال لنا قائل: فإن الله جل ثناؤه إنما ضمن لنا تكفير سيئاتنا باجتنابنا كبائر ما ننهى عنه، فما الدلالة على أن الكبائر غير داخلة في قوله: (بلى من كسب سيئة)؟ قيل: لما صح أن الصغائر غير داخلة فيه، و أن المعنى بالآية خاص دون عام، ثبت وصح أن القضاء والحكم بها غير جائز لأحد على أحد، إلا على من وقفه الله عليه بدلالة من خبر قاطع عذر من بلغه. وقد ثبت وصح أن الله تعالى ذكره قد عنى بذلك أهل الشرك والكفر به، بشهادة جميع الأمة، فوجب بذلك القضاء على أن أهل الشرك والكفر ممن عناه الله بالآية، فأما أهل الكبائر، فإن الأخبار القاطعة عذر من بلغته، قد تظاهرت عندنا بأنهم غير معنيين بها..) (3)
__________
(1) سورة البقرة، آية : 81.
(2) انظر ص 147.
(3) تفسير الطبري (شاكر) 2/281- 283، وانظر تفسير القرطبي 2/12، وفتح القدير 1/105، وتفسير ابن كثير 1/119، وتفسير السعدي 1/103.(211/161)
خلاصة كلام الطبري – رحمه الله -: أن الآية و إن كانت عامة إلا أنها مخصصة بالأخبار المتواترة الدالة على عدم خلود من يدخل النار من أهل الكبائر، ومما يؤكد ذلك، أنها لا تشمل مرتكب الصغائر باتفاق الجميع، لذلك يقال لهؤلاء الوعيدية: إذا قلتم: لماذا أخرجتم مرتكب الكبائر من هذا العموم؟ قلنا لكم، ولماذا أخرجتم مرتكب الصغائر؟ فإن قالوا: للنصوص الدالة على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وفعل الحسنات، قلنا، ونحن أخرجنا الكبائر للنصوص الدالة على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار.
واستدلوا بقوله تعالى {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها.. الآية}(1) أيضاً هذه الآية مخصصة بالاتفاق، فالوعيدية يخصصونها فيقولون:
إن هذا جزاؤه إلا من تاب، و أهل السنة، يخصصونها بالتوبة، وبنصوص الوعد الأخرى، وبنصوص خاصة في أن القاتل تحت المشيئة، قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: (ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله: {إن الحسنات يذهبن السيئات}(2)، وقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده}(3)، وقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(4)والأخذ بالظاهرين تناقض فلابد من التخصيص(5)، ومما يدل على التخصيص حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – وفيه: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه، و إن شاء عذبه"(6)فوضع أهل المعاصي، ومنهم القاتل تحت المشيئة، وقد سبق الحديث عن ذلك في الفصل السابق.
رابعاً: الرد على أدلتهم من السنة:
__________
(1) سورة النساء، آية : 93.
(2) سورة هود، آية : 114.
(3) سورة التوبة، آية : 104.
(4) سورة النساء، آية : 48.
(5) تفسير القرطبي 5/333، 334.
(6) مضى تخريجه، وهو في الصحيحين انظر ص110.(211/162)
من مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة نمام"(1)ونحو ذلك، قد سبق الكلام عن مثل هذه الأحاديث عند كلامنا عن حكم أهل الكبائر عند أهل السنة، وأشرنا إلى منهج أهل السنة في مثل هذه الأحاديث، حيث يضمونها إلى ما يقابلها من أحاديث الوعد وكأنها دليل واحد فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل الاعتقاد والعمل بجميع هذه الأدلة، فهذه الأحاديث يقابلها الأحاديث الدالة على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، وفي بعض الروايات الصحيحة التصريح بأنه يدخل الجنة " وإن زنى وإن سرق" وأحاديث الشفاعة ومن قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة ونحو ذلك، فيجب الجمع بين هذه الأحاديث التي قد تبدو في الظاهر متعارضة، وهذا ما فعله أهل السنة: فقالوا: إن معنى هذه الأحاديث: لا يدخل الجنة ابتداءاً، أو تحمل على مستحل ذلك.. الخ.
خامساً: مناقشة رأيهم في الشفاعة:
قال ابن الوزير – رحمه الله -: (وأحاديث الشفاعة المصرحة بخروج الموحدين من النار قاطعة في معناها بالإجماع، وهي قاطعة في ألفاظها.. لورودها عن عشرين صحابيا أو تزيد..) (2)واعترض الوعيدية على إثبات ذلك بعدة أمور أهمها:
استدلالهم بعموم بعض الآيات القرآنية السابق ذكرها وهي قوله سبحانه: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة}(3)وقوله {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}(4).
قالوا: والظالم اسم لكل من ظلم نفسه أو ظلم غيره ولا تخص المشركين.
__________
(1) مضى تخريجه قريباً ص148.
(2) إيثار الحق على الخلق 295، وقد سبق ذكر بعض هذه الأحاديث ص114، 115.
(3) سورة البقرة، آية : 48.
(4) سورة غافر، آية : 18.(211/163)
قالوا عن أحاديث الشفاعة: أنها لا تصح، ومن صححها منهم قال: إنه خبر واحد لا يعارض القطعي، ولو لم يعارض القطعي لما أوجب العلم فلا يحتج به في مثل هذه المسائل، وبعضهم قال: لا تصح لمخالفتها ما في القرآن وذكر بعضهم روايات تخالف هذه الرواية ونصها: " لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي"(1).
والبعض أول هذه الأحاديث – على فرض تصحيحه لها – على أن المراد به شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي إذا تابوا(2)، وأجاب أهل السنة عن ذلك بما يلي:
بالنسبة لمعارضتهم الأحاديث المتواترة بعموم الآيات مثل قوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة}(3)وغيرها، أجاب الإمام القرطبي عن ذلك فقال: (فإن قالوا: قد وردت نصوص من الكتاب بما يوجب رد هذه الأخبار مثل قوله: {وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}(4)، قالوا: وأصحاب الكبائر ظالمون، وقال: {من يعمل سوءاً يجز به}(5) {ولا يقبل منها شفاعة}(6)، قلنا: ليست هذه الآيات عامة في كل ظالم، والعموم لا صيغة له، فلا تعم هذه الآيات كل من يعمل سوءاً وكل نفس، وإنما المراد الكافرون دون المؤمنين بدليل الأخبار الواردة في ذلك، و أيضاً فإن الله تعالى أثبت شفاعة لأقوام، ونفاها عن أقوام، فقال في صفة الكافرين: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين}(7).
__________
(1) انظر هذه الأقوال في شرح الأصول الخمسة 672، 673، 690، 961، مشارق الأنوار 2/133، 134، منهج الطالبين 1/521.
(2) انظر شرح الأصول 691، مشارق الأنوار 134.
(3) سورة البقرة، آية : 48.
(4) سورة غافر، آية : 18.
(5) سورة النساء، آية : 123.
(6) سورة البقرة، آية : 48.
(7) سورة المدثر، آية : 48.(211/164)
وقال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}(1)وقال: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}(2)، فعلمنا بهذه الجملة أن الشفاعة إنما تنفع المؤمنين دون الكافرين، وقد أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة}(3)النفس الكافرة لا كل نفس، ونحن و إن قل-نا بعموم العذاب لكل ظالم عاص، فلا نقول: إنهم مخلدون فيها بدليل الأخبار التي روينا، وبدليل قوله تعالى: {ويغ-فر ما دون ذلك لمن يشاء}(4)، وقوله: {أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}(5) (6)، وقال الحافظ البيهقي في قوله تعالى: {وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع}(7): (فالظالمون هاهنا ه-م الكافرون ويشهد لذلك مفتتح الآية إذ هي في ذكر الكافرين) (8)، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: (أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله، من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم..) (9)، وقد ورد تسمية الشرك ظلماً كما في قوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}(10)، فيكون حمل الظلم هنا على الشرك أولى من حمله على الكبائر لسياق الآية، وللأحاديث المتواترة.
__________
(1) سورة الأنبياء، آية : 28.
(2) سورة سبأ، آية : 23.
(3) سورة البقرة، آية : 48.
(4) سورة النساء، آية : 48.
(5) سورة يوسف، آية : 87.
(6) تفسير القرطبي، 1/379، وانظر الطبري 1/33.
(7) سورة غافر، آية : 18.
(8) شعب الإيمان 1/205.
(9) تفسير ابن كثير 4/75.
(10) سورة لقمان، آية : 13.(211/165)
أما تضعيفهم لهذه الأحاديث، فلم يستندوا في ذلك لأي قاعدة من قواعد نقد الرواية، ولا إلى كلام أهل العلم بالحديث، أما قولهم أنها لو صحت فهي خبر واحد لا يحتج به، فيقال لهم قد نقلنا عن أئمة الحديث تواتره عن أكثر من عشرين صحابياً، فإذا لم يكن مثل ذلك متواتراً، فما هو المتواتر(1)؟، أما زعمهم أن خبر الواحد لا يحتج به في مثل هذه المسائل: فهذا من أصولهم الفاسدة التي ردوا بسببها أحاديث كثيرة، وهذا الأصل تكلم عنه علماء السنة كثيراً مما لا مجال لذكره هنا، خاصة و أن الروايات المذكورة متواترة، أما الحديث الذي ذكروا – وهو – لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي – (فهو حديث موضوع باطل وفي أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: أنه من أكاذيب المعتزلة) (2).
أما قول بعضهم إن الشفاعة لمن تاب من أهل الكبائر، فيجاب عنه بجوابين الأول: أن الأحاديث ليس فيها هذا الاستثناء، الثاني: (عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة، فإذا قبل الله توبة المذنب فلا يحتاج إلى الشفاعة ولا إلى الاستغفار) (3).
سادساً: مناقشة بعض شبههم العقلية:
1- قولهم: لو لم يعاقب العصاة، لاقتضى ذلك الخلف والتبديل والكذب في خبره، والرد على ذلك من وجوه:
__________
(1) مثل هذا القول يدل على جهل أهل الكلام وأتباعهم في الحديث، وقلة العناية به (وكثر منهم بل أفضلهم عند، أصحابه لا يعتقد أنه روي في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء، أو يظن أن المروي فيه حديث أو حديثان، كما يوجد لأكابر شيوخ المعتزلة كأبي الحسين البصري، يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد، وهو حديث جرير، ولم يعلم أنه فيها ما يقارب ثلاثين حديثاً) مختصر الصواعق 2/357.
(2) الشفاعة لمقبل الوادعي 109، وانظر أسنى المطالب الذي طبع باسم الأحاديث المشكلة في الرتبة محمد بن درويش الحوت ص155.
(3) تفسير القرطبي 1-379، 380(211/166)
أن الله عز وجل علق وعيده لأهل الكبائر بالمشيئة، فإذا تخلف الوعيد في حق بعضهم لم يكن في ذلك كذباً أو تبديلاً.
الخلف والكذب يحصل إذا لم يعذب جميع العصاة، و أهل السنة لا يقولون ذلك، وإنما يقولون: أنهم تحت المشيئة، فبعضهم يعذب، ويغفر للآخرين، فهم يقولون بالوعيد المجمل، ومقتضاه، أنه لابد أن يدخل بعض أهل الكبائر النار لورود الأحاديث في ذلك(1)ثم يخرجون منها.
..(إخلاف الوعيد لا يذم، بل يمدح، والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد، ولا يجوز عليه خلف الوعد، والفرق بينهما، أن الوعيد حقه، فإخلافه عفو وهبة، وإسقاط ذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه، والوعد حق عليه، أوجبه على نفسه، والله لا يخلف الميعاد..) (2)فإن قالوا: الكرم من المحسنات، والكذب قبيح بكل وجه، فكيف تجعله كرماً؟ فيقال لهم: لا نسلم لكم أن في هذا كذباً، وقد بينا ذلك.
2- قولهم: من علم أن من أتى كبيرة لا يعذب، سارع في إتيانها، ففي ذلك إغراء لهم، والجواب عن ذلك من وجهين:
الأول: لا أحد من أهل الكبائر يعلم أنه لا يعذب، بل النصوص دالة على دخول بعضهم النار كما سبق – فأين الإغراء؟
الثاني: يمكن أن يقال لكم عكس ذلك، وهو أن من قال: إن المذنب بمجرد ارتكاب المعصية يخلد في النار إن مات غير تائب، فهذه المقالة سوف تفتح أمامه باب اليأس والقنوط ومن ثم يبقى على عصيانه ومعاصيه.
3- …أما استدلالهم على نفي الشفاعة لأهل الكبائر، بأنه يلزم من ذلك أن المرء إذا سأل الله الشفاعة كأنه سأل الله أن يجعله من الفساق، فيرد عليهم بأن المرء إنما يطلب الشفاعة (لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب ولا قائم لله بكل ما افترض الله عليه، بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص، فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة) (3).
__________
(1) مثل حديث يخرج من النار من كان في قلبه أدني مثقال حبة خردل من إيمان، رواه البخاري ومسلم ومضى تخريجه ص115.
(2) مدارج السالكين 1/396.
(3) تفسير القرطبي 1/380.(211/167)
ب- الإيمان عند المرجئة (1)
__________
(1) أ- قال الإمام الطبري- رحمه الله – (الإرجاء معناه ما بينا قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان- رضي الله عنهما – إلى ربهما، وتارك ولا يتهما والبراءة منهما، مرجئاً أمرهما فهو مرجيء، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان ومرجئهما عنه فهو مرجيء)، تهذيب الآثار 2/166، وانظر الملل والنحل للشهرستاني 1/139، والتوحيد للماتريدي 381- 384، والفرق بين الفرق 202 والتبصير للإسفراييني 97.
ب- والمرجئة فرق عديدة ذكر الأشعري والملطي اثنتي عشرة فرقة – منهم مرجئة خالصة، ومنهم من يجمع مع الإرجاء بدعة أخرى كالجبر أو القدر ونحو ذلك. ويجمعهم إخراجهم العمل عن مسمى الإيمان، انظر مقالات الإسلاميين 132، الملل والنحل للشهرستاني 1/139، التنبيه والرد للملطي 146، الفرق بين الفرق 202 وغيرها.
ج- والمرجئة الخالصة لا وجود لها اليوم، لكن آراءها الأساسية في الإيمان دخلت ضمن آراء الأشاعرة والماتريدية، فالأشعري نقل عنه قولان في الإيمان أحدهما : انتصاره لمذهب السلف، كما في المقالات293.
الثاني: وهو المشهور عنه – انتصاره لقول جهم في الإيمان، وعليه أكثر أصحابه كالباقلاني والجويني وغيرهم وهو الذي استقر عليه المذهب، لكنهم عرفوا الإيمان بأنه التصديق، بدل المعرفة.
وكذلك الماتريدية، نقل عنهم قولان، الأول: أن الإيمان هو الإقرار والتصديق، كما هو المنقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله .
والثاني: ما ذهب إليه أبو منصور الماتريدي- وهو من أشهر متكلمي الأحناف – حيث نصر قول جهم في الإيمان واستدل بنفش بهات مرجئة الفقهاء، وجعل قول اللسان أو الإقرار شرطاً لإجراء الأحكام في الدنيا وليس شطراً من الإيمان، و إلى هذا القول ذهب عامة الأحناف من بعده، بل ذهبوا إلى الأخذ بالمذهب الماتريدي في عامة أبواب العقيدة وبذلك يلتقي المذهب الماتريدي بالمذهب الأشعري، في هذه المسألة – حيث جعلوا الإيمان مجرد التصديق، وهذا الذي استقر عليه المذهب الارجائي في طوره الأخير، ولذلك سنقتصر في هذه الفقرة المختصرة بمناقشة هذه الرأي دون سائر آرائهم، انظر في إيضاح ما سبق الإيمان الأوسط 51، 52، 124، الإيمان 114، 115، 184، شرح الفقه الأكبر 69، شرح العقيدة النسفية 65، 56، رسالة الإيمان لمحمد العجلان، مطبوع على الآلة 31-37، رسالة الشيخ سفر الحوالي ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي 257- 296، ولمعرفة الخلاف بين الأشاعرة والماتريدية في هذه المسألة وفي غيرها، انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي د. على عبد الفتاح المغربي 422- 436، ونظم الفرائد وجمع الفوائد، لشيخ زاده والروضة البهية فيما بين الأشعرية والماتريدية لأبي عذبه وغيرها .(211/168)
1- تعريفه – الصلة بين الإيمان والعمل عندهم:
تختلف فرق المرجئة في تعريفها للإيمان، وحاصل أقوالها يرجع إلى ثلاثة أقوال:
الأول: أن الإيمان مجرد المعرفة، وبعضهم يقول المعرفة والتصديق، ومن
هؤلاء، من يدخل عمل القلب كعامة فرق المرجئة، ومنهم من لا يدخل ذلك كجهم بن صفوان. (1)
الثاني: أن الإيمان مجرد قول اللسان وهو ما انفردت به الكرامية(2)دون سائر الفرق.
الثالث: تصديق القلب وقول اللسان وهو ما يسمى بإرجاء الفقهاء. (3)
__________
(1) الجهم بن صفوان : السمرقندي، أبو محرز، قال عنه الذهبي، " رأس الجهمية .. زرع شراً عظيماً" وهو من أكثر الشخصيات أثراً على عامة الفرق الكلامية حيث فتح باب التأويل، وقال بالجبر، و أن الإيمان، المعرفة فقط، و أن الجنة والنار تفنيان، أمر بقتله نصر بن سيار فقتل سنة 128ه-، انظر ميزان الاعتدال 1/426، ولسان الميزان 2/124، وخطط المقريزي 2/349، 351 والأعلام للزركلي 2/141.
(2) الكرامية : أتباع محمد بن كرام، أبو عبد الله السجستاني (ت255) من بدعهم المشهورة، قولهم بأن الله جسم، و أنه محل للحوادث، وقولهم : إن الإيمان هو الإقرار والتصديق باللسان، و أنكروا أن تكون معرفة القلب أو عمل الجوارح من الإيمان، وزعموا أن المنافقين مؤمنون على الحقيقة، مستحقون للعقاب في الآخرة، فنازعوا في اسمه لا في حكمه، يقول شيخ الإسلام – رحمه الله : - (وهذا القول هو الذي اختصت به الكرامية، وابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول، وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان ..) الفتاوي 13/56، قال الذهبي – رحمه الله - : ( وكانت الكرامية كثيرين بخراسان، ولهم تصانيف، ثم قلوا وتلاشوا، نعوذ بالله من الأهواء) سير أعلام النبلاء 11/524، وانظر في مذهبهم وأخبارهم الملل والنحل للشهرستاني 1/108/114، التبصير في الدين 111- 117، البداية والنهاية 11/20، وسير أعلام النبلاء 11/523-524، والأعلام 7/14، وغيرها .
(3) مرجئة الفقهاء :
اشتهر إطلاق هذا المصطلح على الإمام أبي حنيفة وأصحابه بسبب موافقتهم المرجئة في إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، ولذلك يسمى هذا المذهب- أحياناً – بمذهب الحنفية، وقد عرف هذا القول عند متقدميهم، قبل ظهور الإمام أبي منصور الماتريدي، فلما ظهر تأثر به عامة الأحناف، فصاروا يقولون بقوله : إن الإيمان هو التصديق، وقول اللسان شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، كالقول المشهور عند الأشاعرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (… وهؤلاء المعرفون مثل حماد بن أبي سليمان، و أبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة، كانوا يجعلون قول اللسان، واعتقاد القلب من الإيمان، وهو قول أبي محمد بن كلاب وأمثاله، ولم يختلف قولهم في ذلك، ولا نقل عنهم أنهم قالوا : الإيمان مجرد تصديق القلب) الأوسط50 الإيمان 114.
وذكر الإمام أبو الحسن الأشعري – رحمه الله – الإمام أبا حنيفة وأصحابه رحمهم الله ضمن فرق المرجئة المقالات 138 وانظر الفصل 3/188، وقال الإمام ابن عبد البر – رحمه الله - : (أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، و الإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان، إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيماناً، قالوا : إنما الإيمان التصديق و الإقرار، ومنهم من زاد : والمعرفة …) التمهيد 9/238.
وقال الإمام الطحاوي – رحمه الله – وهو من أئمة الأحناف المتقدمين (و الإيمان : هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – من الشرع والبيان كله حق..) قال الشارح ابن أبي العز الحنفي – رحمه الله - : (وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي – رحمه الله : (أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان..) شرح الطحاوية 373، وانظر المسامرة على المسايرة 865
وهذا يتفق مع ما نسب إلى الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – حيث قال (في كتاب الوصية): (الإيمان إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، و الإقرار وحده لا يكون إيماناً لأنه لو كان إيماناً لكان المنافقون كلهم مؤمنين، وكذلك المعرفة وحدها أي مجرد التصديق لا يكون إيماناً لأنها لو كانت إيماناً لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين…) شرح الفقه الأكبر 68، 69.
وجاء في الفقه الأكبر : ( ولا نكفر مسلماً بذنب من الذنوب، و إن كان كبيرة، إذا لم يستحلها، ولا نزيل عنه اسم الإيمان، ونسميه مؤمناً حقيقة، ويجوز أن يكون مؤمناً فاسقاً غير كافر.. ولا نقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، و أنه لا يدخل النار، ولا أنه يخلد فيها و إن كان فاسقاً، بعد أن يخرج من الدنيا مؤمناً …) شرح الفقه الأكبر 58- 61، وانظر شرح الطحاوية 355، لكن ما حقيقة الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وبقية الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة ؟
يلخص شيخ الإسلام هذا الخلاف بقوله : (… ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، و إلا فالقائلون بأن الإيمان قول، من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، و إن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب، كما تقول الجماعة، ويقولون، أيضاً بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقول الجماعة….) الإيمان 281، 282.
وقال: (وحدثت "المرجئة" وكان أكثرهم من أهل الكوفة، فقالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان، وكانت هذه البدعة أخف البدع، فإن كثيراً من النزاع فيها نزاع في الاسم واللفظ دون الحكم…) الفتاوي 13/83، وقال أيضاً : (… ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحداً من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، و إلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ، سبباً لخطأ عظيم في العقائد و الأعمال..) الإيمان 377، وانظر نصوصاً أخرى عن شيخ الإسلام في الإيمان 183، و الإيمان الأوسط 97,96، 117، وانظر شرح الطحاوية 374، 375، 379 وخلاصة ما نستفيده من هذا الإيضاح ما يلي :
أن أكثر التنازع (وليس جميعه) بين الأئمة ومرجئة الفقهاء لفظي، وفي الأسماء دون الأحكام.
أن هذا الخلاف و إن كان في الأصل لا يترتب عليه أثر عملي، إلا أن شيخ الإسلام عده من بدع الأقوال والأفعال.
وسبب اعتباره من بدع الألفاظ، عدولهم عن الألفاظ المطابقة للكتاب والسنة، في مسألة دخول العمل في مسمى الإيمان، و مسألة الزيادة والنقصان ..الخ .
أن هذا القول : صار ذريعة وطريقاً استند عليه المرجئة المتكلمون، ولذلك نجد بينهم تشابهاً في عامة استدلالهم، (فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ، سبباً لخطأ عظيم في العقائد والأعمال) الإيمان 377.
أنه ذريعة إلى ظهور الفسق والمعاصي، (… بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقا كامل الإيمان و الإسلام، ولي من أولياء الله، فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي ) شرح الطحاوية ولذلك ندرك أن الأسلم والأصح أن لا يقال: إن الخلاف صوري أو لفظي بإطلاق، فضلاً عن أن يقال: إن هذا الخلاف لا محذور فيه، أو لا يترتب عليه فساد اعتقاد والله اعلم.
انظر فيما يتعلق بمذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه – رحمهم الله – في مسألة الإيمان، ظاهرة الإرجاء د. سفر الحوالي 289- 295 الفرق الكلامية مدخل ودراسة، د. علي المغربي 367 – 375، حقيقة الإيمان محمد المصري 193- 219، الإيمان لمحمد العجلان 57- 67.(211/169)
ولما كان جميع المرجئة يجمعهم في تعريف الإيمان عدم إدخالهم العمل في مسماه، فسنقصر حديثنا عما استقر عليه الإرجاء في طوره الأخير، حيث تبنى جمهور الأشاعرة والماتريدية مذهب جهم في الإيمان – و إن لم يلتزم كثير منهم لوازمه – و إليك بعض النقولات المختصرة عن أئمتهم(1)المبينة لذلك، ثم نذكر أهم أدلتهم:
قال الأشعري في اللمع: (فإن قال قائل ما الإيمان عندكم بالله تعالى؟ قيل إنه هو التصديق بالله، وعلى ذلك إجماع أهل اللغة التي نزل بها القرآن … فلما كان الإيمان في اللغة التي نزل بها القرآن الكريم هو التصديق – قال تعالى: { وما أنت
بمؤمن لنا لو كنا صادقين}(2)أي بمصدق لنا، وقالوا جميعاً، فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة يريدون يصدق بذلك – وجب أن يكون الإيمان هو ما كان عند أهل اللغة إيماناً وهو التصديق) (3).
__________
(1) سأختار نقولات متفرقة في عصور مختلفة، من كتبهم المشهورة المتداولة، لنعطي من خلالها تصوراً مجملاً لمذهبهم في هذه المسألة، وسأترك التعليق لوضوح هذه الأقوال ودلالتها الصريحة على المقصود.
(2) سورة يوسف، آية : 17
(3) اللمع لأبي الحسن الأشعري 123، وانظر نصا مشابهاً في التمهيد للباقلاني 346- 347.(211/170)
2- وقال البغدادي: (1)الطاعات عندنا أقسام: أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً ويكون عاقبته لأجلها الجنة إن مات عليها، وهي معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات ومعرفة أركان شريعة الإسلام وبهذه المعرفة يخرج من الكفر، والقسم الثاني إظهار ما ذكرناه باللسان مرة واحدة وبه يسلم من الجزية والقتال والسبي والاسترقاق وبه تحل المناكحة واستحلال الذبيحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين والصلاة عليه وخلفه، والقسم الثالث: إقامة الفرائض واجتناب الكبائر وبه يسلم من دخول النار ويصير به مقبول الشهادة، والقسم الرابع منها، زيادة النوافل وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية..) (2) فالبغدادي – كما نلاحظ من النص – يقرر أن المعرفة وحدها كافية لخروج المرء من الكفر وللنجاة عند الله، ويجعل قول اللسان شرطاً لإجراء الأحكام الدنيوية وليس جزءاً من الإيمان.
__________
(1) عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الإسفراييني، من أئمة الأصول والكلام، ولد ونشأ ببغداد، ورحل إلى خراسان واستقر بنيسابور، كان يدرس في سبعة عشر فنا، درس على الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وقعد بعده للإملاء مكانه، وحمل عنه العلم أكثر أهل خراسان له تصانيف كثيرة أشهرها، الفرق بين الفرق، وأصول الدين، مات في إسفرائين سنة 429ه-، انظر طبقات الشافعية 3/238، وفيات الأعيان، 1/298، الأعلام 4/48.
(2) أصول الدين للبغدادي 268.(211/171)
3- ومثله قول أبي المعين النسفي(1): (الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، فكل من صدق غيره فيما يخبره يسمى في اللغ--ة مؤمناً به، ومؤم-ناً به، قال الله تعالى خبراً عن إخوة يوسف صلوات الله عليهم: {وما أنت بمؤمن لنا}(2)أي بمصدق لنا، ثم إن هذا اللغوي، وهو التصديق بالقلب، هو حقيقة الإيمان الواجب على العبد حقا لله تعالى، وهو أن يصدق الرسول – صلى الله عليه وسلم -، فيما جاء به من عند الله تعالى، فمن أتى بهذا التصديق فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، و الإقرار، إقرار يحتاج إليه، ليقف عليه الخلق فيجروا عليه أحكام الإسلام، هذا هو المروي عن أبي حنيفة رحمه الله، و إليه ذهب الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله وهو أصح الروايتين عن أبي الحسن الأشعري..) (3)، أهم ما في هذا الكتاب تأويله لمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، بما يوافق مذهب غلاة المرجئة ممن لا يشترطون النطق لصحة الإيمان والنجاة، في الآخرة.
__________
(1) أبو المعين النسفي : ميمون بن محمد بن مكحول النسفي، نسبة إلى "نسف" من بلاد ما وراء النهر، أبرز شخصيات المدرسة الماتريدية بعد الماتريدي، صنف عدة مصنفات في نصرة مذهبه أبرزها كتاب تبصرة الأدلة، والتمهيد في أصول الدين، توفي سنة 508ه-، انظر الأعلام 7/341، هدية العارفين 2/487، ترجمة موسعة في مقدمة كتابه التمهيد د. عبد الحي قابيل 2-23، وله رسالة مستقلة " أبو المعين النسفي وأراؤه الكلامية"، وانظر الفرق الكلامية الإسلامية د. علي المغربي 380- 427.
(2) سورة يوسف، آية : 17.
(3) التمهيد في أصول الدين 99، 100.(211/172)
4- ويقول الشيخ الملا علي القاري، بعدما ذكر الخلاف في الإقرار هل شطر الإيمان يزول الإيمان بزواله، أم شرط لإجراء الأحكام في الدنيا: (وذهب جمهور المحققين، إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، و إنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا، لما أن تصديق القلب أمر باطني لابد له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى، و إن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا، ومن أقر بلسانه، ولم يصدق بقلبه كالمنافق، فهو بالعكس، وهذا هو اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي، رحمه الله والنصوص موافقة لذلك..) (1).
5-وقال اللقاني(2)في شرح الجوهرة: " وفسر الإيمان " أي حده جمهور الأشاعرة والماتريدية وغيرهم بالتصديق المعهود شرعاً، وهو تصديق بنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة أي فيما اشتهر بين أهل الإسلام وصار العلم به يشابه العلم الحاصل بالضرورة بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال..) ثم أشار إلى الخلاف في النطق فقال: (.. فقال محققو الأشاعرة الماتريدية وغيرهم النطق من القادر (شرط) في إجراء أحكام المؤمنين الدنيوية عليه، لأن التصديق القلبي و إن كان إيماناً إلا أنه باطن خفي فلابد له من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط به تلك الأحكام، هذا فهم الجمهور، وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء بل اتفق له ذلك فهو مؤمن عند الله، غير مؤمن في أحكام الشرع الدنيوية..) (3).
__________
(1) شرح الفقه الأكبر 69- 70.
(2) هو: عبد السلام بن إبراهيم اللقاني المصري، شيخ المالكية في وقته بالقاهرة، ولد سنة 971ه-، من أشهر مصنفاته "إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد"، والجوهرة من تصنيف والده، توفي سنة 1078ه-، وانظر الأعلام 3/355 .
(3) إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد 47-57.(211/173)
6- وقال السنوسي(1)في بيان حكم النطق بالشهادتين: (.. و أما الكافر فذكره لهذه الكلمة واجب شرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة، و إن عجز عنها بعد حصول إيمانه القلبي لمفاجأة الموت له ونحو ذلك سقط عنه الوجوب وكان مؤمناً هذا هو المشهور من مذاهب العلماء أهل السنة، وقيل لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً ولا فرق في ذلك بين المختار والعاجز، وقيل يصح الإيمان بدونها مطلقاً، و إن كان التارك لها اختياراً عاصياً كما في حق المؤمن بالأصالة إذا نطق بها، ولم ينو الوجوب، ومنشأ هذه الأقوال الثلاثة الخلاف في هذه الكلمة المشرفة هل هي شرط في صحة الإيمان، أو جزء منها، أو ليست بشرط فيه ولا جزءاً منه و الأول هو المختار) لكن الدسوقي(2). خالف ذلك في الحاشية فقال: (.. حاصل ما ذكره الشارح أن الأقوال فيه ثلاثة، فقيل إن النطق بالشهادتين شرط في صحته خارج عن ماهيته، وقيل إنه شطر أي جزء من حقيقة الإيمان، فالإيمان مجموع التصديق القلبي، والنطق بالشهادتين وقيل ليس شرطاً في صحته ولا جزءاً من مفهومه بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وهو المعتمد، وعليه فمن صدق بقلبه ولم ينطق بالشهادتين سواء كان قادراً على النطق أو كان عاجزاً عنه، فهو مؤمن عند الله يدخل الجنة و إن كانت لا تجري عليه
__________
(1) السنوسي: محمد بن يوسف بن عمر السنوسي، عالم تلمسان في عصره، ولد سنة 832ه-، له تصانيف كثيرة منها "شرح صحيح البخاري" لم يكمله، و "عقيدة أهل التوحيد" ويسمى العقيدة الكبرى، و "أم البراهين" ويسمى العقيدة الصغرى، وغيرها توفي سنة 895ه-، انظر الأعلام 7/154.
(2) الدسوقي : محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، من علماء العربية، كان من المدرسين بالأزهر، له تصانيف منها : " حاشية على مغنى اللبيب" وحاشية على "السعد التفتازانى" و "حاشية على الشرح الكبير على مختصر خليل" و "حاشية على شرح السنوسي لمقدمته أم البراهين" توفي سنة 1330ه-، انظر الأعلام 6/17.(211/174)
الأحكام الدنيوية من غسل وصلاة عليه ودفن في مقابر المسلمين، ولا ترثه ورثته المسلمون، فقول الشارح: هذا هو المشهور غير مسلم بل هذا ضعيف) (1).
7- ونختم هذه النقولات، بقول لأحد المشايخ المعاصرين – ممن تأثر بهذا المذهب – يتفق مع ما سبق، يقول: (… والنطق بهما (أي الشهادتين) شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على المسلم، مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات، ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا لم ينطق لعذر كالخرس، أو لم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه فهو ناج عند الله تعالى، أما إذا استطاع النطق ووجد وقتاً كافياً، ولم ينطق بالشهادتين، فإن كان عدم النطق عناداً فهو كفر، ولا عبرة بالتصديق القلبي، أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح، لقوله تعالى: { إلا من كره وقلبه مطمئن بالإيمان}(2)، أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب، ولكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه، فالقول الراجح أنه ناج عند الله و إن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه، وعدم الدليل عليه..) (3)وهذا الكلام ما هو إلا ترديد وتقليد لما قاله المرجئة المتكلمين، أردت بنقله الإشارة إلى أثر هذا الرأي على بعض الدعاة المعاصرين ممن يفترض فيهم توعية الأمة عن مثل هذه الانحرافات العقدية المخالفة لمنهج السلف الصالح، لا أن يدعو الأمة إليها!! (4)
__________
(1) حاشية الدسوقي على أم البراهين 225- 226.
(2) سورة النحل، آية : 106.
(3) تبسيط العقائد الإسلامية، حسن أيوب 33، وانظر نصوصاً مشابهة لما سبق في العقيدة النظامية للجويني 62، والمسامرة على المسايرة 174- 178، المواقف للإيجي 384، شرح المقاصد للتفتازاني 5/179، المواقف شرح الجرجاني 8/322، شرح العقائد النسفية 428، ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي د. سفر الحوالي 351- 470، وغيرها .
(4) وانظر نصوصاً أخرى عن غيره من المعاصرين فيها انتصار لمذهب المرجئة الغلاة نقلها الشيخ سفر الحوالي، ظاهرة الإرجاء 364- 370.(211/175)
خلاصة المشهور من مذهبهم في ذلك ما يلي: أن الإيمان هو مجرد المعرفة والتصديق، و أن قول اللسان ليس جزءاً من الإيمان داخلاً فيه، ولا شرطاً خارجاً عنه، وإنما هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على المرء، فمن كان مؤمناً بقلب-ه ولم ينطق بالشهادة بلسانه دون عذر فهو ناج عند الله، و إن أجريت عليه أحكام الكافرين في الدنيا.
أدلتهم(1)على ذلك: سأختصر أهم أدلتهم على ما سبق بإيجاز:
أن الإيمان في اللغة هو التصديق وهو باق على معناه اللغوي، لم ينقل عنه، فوجب أن يكون كذلك في الشرع. (2)
أن الكفر ضد الإيمان، والكفر هو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما، قال تعالى: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}(3)، { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}(4)، (5).
وقالوا: إن الله فرق بين الإيمان والأعمال الصالحة، كما في كثير من الآيات من مثل قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}(6) {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة}(7)، والعطف يقتضي المغايرة. (8)
وقالوا: إن الله تعالى خاطب المؤمنين باسم الإيمان، ثم أوجب الأعمال على العباد فدل ذلك على التغاير، وقصر اسم الإيمان على التصديق. (9)
__________
(1) انظر تلخيص لهذه الأدلة في رسالة "الماتريدية" لأحمد الحربي 406.
(2) انظر اللمع 123، التمهيد للباقلاني 346- 347، التمهيد للنسفي 99.
(3) سورة الحجرات، آية : 14.
(4) سورة النحل، آية : 107.
(5) انظر المواقف للإيجي 385، التمهيد للنسفي 100.
(6) سورة يونس، آية : 9.
(7) سورة التوبة، آية : 18.
(8) انظر التمهيد للنسفي 100، المواقف للإيجي 385، شرح الفقه الأكبر 72.
(9) انظر التمهيد للنسفي 101، شرح المقاصد 5/195.(211/176)
وردوا على بعض أدلة من يدخل العمل في مسمي الإيمان، مثل الاستدلال بقوله تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم}(1)قالوا: (بأن المعنى: تصديقكم بوجوبها، أو بكونها جائزة عند التوجه إلى بيت المقدس، أو هو مجاز…)(2).
2- موقفهم من الزيادة والنقصان:
الخلاف في ذلك، بحسب الخلاف في تعريف الإيمان، فمن أدخل أعمال الجوارح في الإيمان أثبت الزيادة والنقصان فيه وهذا مذهب السلف ومن لم يدخلها لم يجوز الزيادة والنقصان فيه(3)، ولذلك اشتهر عن الأشاعرة والماتريدية القول بعدم الزيادة والنقصان، وأجاز بعضهم ذلك باعتبارات معينة.
__________
(1) سورة البقرة، آية : 143.
(2) شرح المقاصد 5/198، وانظر المواقف 386، التمهيد للنسفي 102.
(3) انظر أصول الدين للبغدادي 252، شرح الفقه الأكبر 113، المواقف 388.(211/177)
جاء في شرح المقاصد: (وعند أبي حنيفة رحمه الله، وأصحابه وكثير من العلماء – وهو اختيار إمام الحرمين – أنه لا يزيد ولا ينقص، لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، ولا يتصور فيه الزيادة والنقصان، والمصدق إذا ضم الطاعات إليه، أو ارتكب المعاصي، فتصديقه بحاله لم يتغير أصلاً، وإنما يتفاوت إذا كان اسماً للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة…)(1)وقال أبو المعين النسفي: (و إذا ثبت أن الإيمان هو التصديق وهو لا يتزايد في نفسه، دل على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلا زيادة له بانضمام الطاعات إليه، ولا نقصان له بارتكاب المعاصي، إذ التصديق في الحالين على ما كان قبلهما …)(2)، وأولوا النصوص الصريحة الواردة في ذلك بعدة تأويلات منها، (…تأويل ما ورد به من الزيادة في الإيمان ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله، أنهم كانوا آمنوا في الجملة، ثم يأتي فرض فيؤمنون بكل فرض خاص، فيزداد إيمانهم بالتفصيل مع إيمانهم بالجملة … وكذا الثبات على الإيمان، والدوام عليه، زيادة عليه في كل ساعة …)(3)وقال الملا علي القاري في تأويل قوله تعالى: { و إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً}(4): فمعناه إيقاناً، أو مؤول بأن المراد زيادة الإيمان بزيادة نزول المؤمن به أي القرآن }(5).
__________
(1) شرح المقاصد 5/211، وانظر شرح الفقه الأكبر 71، 112.
(2) التمهيد في أصول الدين 102.
(3) التمهيد 102.
(4) سورة الأنفال، آية : 3.
(5) شرح الفقه الأكبر 71.(211/178)
ولخ-ص ذلك سعد الدين التفتازاني(1)في جوابه عن أدلة من يجوز الزيادة والنقصان فقال: (وأجيب بوجوه: الأول: أن المراد الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الأزمان والساعات … الثاني: أن المراد الزيادة بحسب زيادة المؤمن به.. والناس متفاوتون في ملاحظة التفاصيل كثرة وقلة، فيتفاوتون في إيمانهم زيادة ونقصاً.
الثالث: أن المراد زيادة ثمرته، وإشراق نوره في القلب، فإنه يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي..) (2)
إذاً يمكن أن نستنتج من كلامهم السابق، أنهم يقولون بالزيادة والنقصان – باعتبارات معينة – أما نفي الزيادة والنقصان الوارد عنهم، فالمقصود به عندهم نفي ذلك عن التصديق. قال ملا قاري: (وذكر ابن الهمام أن الحنفية ومعهم إمام الحرمين لا يمنعون الزيادة والنقصان، باعتبار جهات هي غير نفس ذات التصديق، بل يتفاوت بتفاوت المؤمن به عند الحنفية ومن وافقهم لا بسبب تفاوت التصديق) (3)، وقال أيضاً: (فالتحقيق أن الإيمان كما قال الإمام الرازي لا يقب-ل الزيادة والنقصان من حيثية أصل التصديق لا من جهة اليقين، فإن مراتب أهلها مختلفة في كمال الدين … وعلى هذا فالمراد بالزيادة والنقصان القوة والضعف فإن التصديق بطلوع الشمس أقوى من التصديق بحدوث العالم، و إن كانا متساويين في أصل تصديق المؤمن به، ونحن نعلم قطعاً أن إيمان آحاد الأمة ليس كإيمان النبي – صلى الله عليه وسلم – ولا كإيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه باعتبار هذا التحقيق. (4)
__________
(1) هو: مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني، مشهور بسعد الدين، من أئمة العربية والمنطق، ولد بتفتازان (من بلاد خراسان) سنة 712ه- له مصنفات عديدة منها، "تهذيب المنطق"، "شرح العقائد النسفية" وغيرها، توفي بسمرقند سنة 793ه-، انظر الأعلام 7/219، الدرر الكامنة 4/350 .
(2) شرح المقاصد 5/214.
(3) شرح الفقه الأكبر 114.
(4) شرح الفقه الأكبر 70.(211/179)
واقترب بعضهم أكثر من مذهب السلف فصرح بأن التصديق أيضاً قابل للزيادة والنقصان، قال الإيجي(1): (… والحق أن التصديق يقبل الزيادة والنقصان بوجهين.
الأول: القوة والضعف … والثاني: التصديق التفصيلي في أفراد ما علم مجيئه به، جزء من الإيمان يثاب عليه ثوابه على تصديق بالإجمال، والنصوص دالة على قبوله لهما…)(2).
وجوز البغدادي الزيادة والنقصان، رغم تعريفه الإيمان بالمعرفة والتصديق، فقال بعد ما ساق الآيات الدالة على ذلك: (ففي هذه الآيات تصريح بأن الإيمان يزيد و إذا صحت الزيادة فيه، كان الذي زاد إيمانه، قبل الازدياد أنقص إيماناً منه في حال الازدياد) (3).
3- موقفهم من نصوص الوعد والوعيد:
__________
(1) الإيجي هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، عضد الدين الإيجي، عالم بالأصول العربية، من أهل (إيج) بفارس ولي القضاء، جرت له محنة فمات مسجوناً، من تصانيفه "المواقف"، و "شرح مختصر ابن الحاجب" وغيرها توفي سنة 756ه- انظر الدرر الكامنة 2/322، وطبقات السبكي 6/108، والأعلام 3/295.
(2) المواقف 388.
(3) أصول الدين 253.(211/180)
يتفق الأشاعرة والماتريدية – من حيث الأجمال – مع أئمة السلف في عدم تكفير مرتكب الكبيرة و أنه تحت المشيئة، إن شاء عذبه ثم لا يخلد في النار، يخرج منها بالشفاعة وبغيرها، قال النسفي ملخصاً مذهبهم في ذلك: (… و أما أهل الحق فإنهم يقولون: إن من اقترف كبيرة غير مستحل لها، ولا مستخف بمن نهى عنها، بل لغلبة شهوة أو حمية يرجو الله تعالى أن يغفر له، ويخاف أن يعذبه عليها، فهذا اسمه المؤمن، وبقي على ما كان عليه من الإيمان ولم يزل عنه إيمانه، ولم ينتقص، ولا يخرج من الإيمان إلا من الباب الذي دخله، وحكمه أنه لو مات من غير توبة فلله تعالى فيه المشيئة، إن شاء عفا عنه بفضله وكرمه أو ببركة ما معه من الإيمان والحسنات، أو بشفاعة بعض الأخيار، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، ثم عاقبة أمره الجنة لا محالة، ولا يخلد في النار …)(1)وقال إمام الحرمين: (..من مات من عصاة أهل الإيمان من غير توبة، فأمره مغيب، إن شاء الله غفر له، أو شفع فيه شفعاء، و إن شاء عرضه على النار بقدر ذنوبه، ثم عاقبته الفوز الأكبر والنجاة) (2). وقال البغدادي: (فأما أصحاب الذنوب من المسلمين إذا ماتوا قبل التوبة فمنهم من يغفر الله عز وجل له قبل تعذيب أهل النار، ومنهم من يعذبه في النار مدة ثم يغفر له ويرده إلى الجنة برحمته …)(3)
وقال الإيجي: (الثواب فضل وعد به فيفي به من غير وجوب، لأن الخلف في الوعد نقص، تعالى الله عنه، والعقاب عدل فله أن يتصرف فيه وله العفو عنه لأنه فضل، ولا يعد الخلف في الوعيد نقصاً عند العقلاء..) (4)
__________
(1) التمهيد 92، وانظر تفصيل أدلة ذلك 92- 97.
(2) العقيدة النظامية 64.
(3) أصول الدين 242.
(4) المواقف 378، وانظر نصاً مطولاً في مسألة جواز الوعيد – يتفق مع ما ذكر – في التمهيد للباقلاني 398-404.(211/181)
وقال أيضاً: (أجمعت الأمة عل--ى أص-ل الشفاعة، وهي عندنا لأهل الكبائر من الأمة لقوله – صلى الله عليه وسلم -: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"(1)،(2)
وهكذا الكلام – كما هو واضح، يتفق مع مذهب السلف في الجملة، أما من حيث التفصيل فهناك بعض الفروقات، من مثل إطلاقهم الإيمان دون تقييد على مرتكب الكبائر، وقولهم إن إيمانه لا ينقص بذلك مهما فعل من الذنوب، وترك من الواجبات.
4- الكفر عندهم:
__________
(1) رواه الإمام أحمد 3/213، و أبو داود في السنة " باب في الشفاعة" رقم 4739، والترمذي في صفة القيامة "باب ما جاء في الشفاعة" رقم 435، وقال : حسن صحيح، وابن أبي عاصم في السنة 2/399، والحاكم 1/69، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وابن حبان كما في الموارد ص645، وابن خزيمة في التوحيد 2/651-653، والآجري في الشريعة 388، والبيهقي في سننه 10/190، وفي شعب الإيمان 2/129، وفي الاعتقاد ص202، بطرق عن أنس رضي الله عنه، قال الحافظ ابن كثير عن أحد طرقه : (إسناده صحيح على شرط الشيخين) التفسير 1/487، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم 3608، وفي مشكاة المصابيح رقم 5598، وله طرق أخرى عن جابر وابن عباس، وابن عمر وكعب بن عجرة رضي الله عنهم، انظر الشفاعة لمقبل الوادعي 90-94.
(2) المواقف 380، وانظر في إثباتهم لأهل الكبائر، التمهيد النسفي 98، أصول الدين البغدادي 244، وغيرها.(211/182)
الكلام عن مفهومهم للكفر فرع عن مفهومهم للإيمان، فلما عرفوا الإيمان بأنه مجرد المعرفة والتصديق، حصروا الكفر بالجهل والتكذيب ونحوه من الجحود والإنكار والعناد، فلما قيل لهم: إن ساب الرسول – صلى الله عليه وسلم-، أو الساجد للصنم، أو ملقي المصحف في القاذورات، كافر عند الجميع، ولا يلزم من ذلك انتفاء التصديق عن قلبه، اضطربوا في الجواب عن ذلك، فقال بعضهم إن هذه علامات على تكذيب القلب، وقال آخرون نحكم بالظاهر ويجوز أن يكون في الباطن مؤمناً، و إليك بعض النقولات عنهم الموضحة لمذهبهم- باختصار-: قال الإمام الباقلاني – رحمه الله – في تعريف الكفر: (وهو ضد الإيمان، وهو الجهل بالله عز وجل، والتكذيب به، الساتر لقلب الإنسان عن العلم به، فهو كالمغطي للقلب عن معرفة الحق، ومنه قول الشاعر: في ليله كفر النجوم غمامها، أي غطاها، ومنه قولهم: زيد متكفر بسلاحه.. وقد يكون الكفر بمعنى التكذيب والجحد والإنكار) (1)، وقال أبو المعين النسفي: (… الكفر هو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب…)(2)
وجاء في المقاصد: (وقال القاضي(3): هو الجحد بالله، وفسر بالجهل، ورد: بأن الكافر قد يعرف الله ويصدق به، والمؤمن قد لا يعرف بعض أحكامه، فأجيب: بأن المراد الجحد به في شيء مما علم قطعاً أنه من أحكامه، أو الجهل بذلك إجمالاً وتفصيلاً..) (4)قال التفتازاني في شرح ذلك: (… فإن قيل: من استخف بالشرع أو الشارع أو ألقى المصحف في القاذورات، أو شد الزنار بالاختيار كافر إجماعاً، و إن كان مصدقاً للنبي – صلى الله عليه وسلم- في جميع ما جاء به.. قلنا: لو سلم اجتماع التصديق
__________
(1) التمهيد للباقلاني 394.
(2) التمهيد في أصول الدين للنسفي 100، وانظر ص92.
(3) لعله الباقلاني.
(4) شرح المقاصد 5/224.(211/183)
المعتبر في الإيمان مع تلك الأمور التي هي كفر وفاقاً، فيجوز أن يجعل الشارع بعض محظورات الشرع علامة التكذيب، فيحكم بكفر من ارتكبه، وبوجود التكذيب فيه، وانتفاء التصديق عنه كالاستخفاف بالشرع..) (1)، فالتفتازاني، يرى أن هذه الأمور إذا وجدت دل ذلك على تكذيب القلب، فهي علامات على الكفر وهو تكذيب القلب.
وجوز بعضهم أن يكون مؤمناً في الباطن حتى لو سب الرسول – صلى الله عليه وسلم- وسجد للصنم، جاء في شرح المواقف: (قال: (2) (قلنا هو دليل عدم التصديق) أي سجوده لها يدل بظاهره على أنه ليس بمصدق، ونحن نحكم بالظاهر، ولذلك حكمنا بعدم إيمانه، لا لأن عدم السجود لغير الله داخل في حقيقة الإيمان، (حتى لو علم أنه لم يسجد لها على سبيل التعظيم، واعتقاد الإلهية) بل سجد لها، وقلبه مطمئن بالتصديق، (لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله) و إن أجري عليه حكم الكافر في الظاهر) (3)، وقال البغدادي: (.. والسجود للشمس أو للصنم وما جرى مجرى ذلك من علامات الكفر، و إن لم يكن في نفسه كفراً إذا لم يضامه عقد القلب على الكفر، ومن فعل شيئاً من ذلك أجرينا عليه حكم أهل الكفر و إن لم نعلم كفره باطناً …)(4)، فالبغدادي خالف الإجماع الذي ينقلونه أيضاً، حيث اعتبر السجود للشمس والصنم ليس كفراً في نفسه، فيقال له: إذا لم تكن كفراً في نفسها فلماذا نجري عليه أحكام الكفر ونحن لا نعلم كفره باطناً؟
__________
(1) شرح المقاصد 5/225.
(2) أي الإيجي، وما بين القوسين كلامه، والشارح الشريف الجرجاني .
(3) شرح المواقف 3/250- 251.
(4) أصول الدين 266.(211/184)
وصور الكشميري هذا الإشكال والإلزام ثم أشار إلى جوابهم عنه فقال: (هاهنا إشكال يرد على الفقهاء والمتكلمين، وهو أن بعض أفعال الكفر قد توجد من المصدق كالسجود للصنم والاستخفاف بالمصحف، فإن قلنا إنه كافر ناقض قولنا: إن الإيمان هو التصديق، ومعلوم أنه بهذه الأفعال لم ينسلخ عن التصديق، فكيف يحكم عليه بالكف-ر؟ و إن قلنا: إنه مسلم فذلك خلاف الإجماع، وأجاب الكستلي تبعاً للجرجاني، إنه كافر قضاء ومسلم ديانة) (1)، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إلزام الإمام أحمد لهم بمثل ذلك، ثم ذكر عن جهم التزامه بهذا اللازم، فقال: (قال أحمد: فيلزمه أن يقول: إذا أقر، ثم شد الزنار في وسطه وصلى للصليب، وأتي الكنائس والبيع، وعمل الكبائر كلها إلا أنه في ذلك مقر بالله، فيلزمه أن يكون عنده مؤمناً وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم، قلت: هذا الذي ذكره الإمام أحمد من أحسن ما احتج الناس به عليهم، جمع في ذلك جملاً يقول غيره بعضها، وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه، ولهذا لما عرف متكلموهم مثل جهم ومن وافقه أنه لازم التزموه وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن كافراً في الباطن، لكن يكون دليلاً على الكفر في أحكام الدنيا) (2). إلى أن يقول: (ومن كان موافقاً لقول جهم في الإيمان، بسبب انتصار أبي الحسن لقوله في الإيمان، يبقى تارة يقول بقول السلف والأئمة، وتارة يقول بقول المتكلمين الموافقين لجهم، حتى في مسألة سب الله ورسوله، رأيت طائفة من الحنبليين، والشافعيين، والمالكيين، إذا تكلموا بكلام الأئمة قالوا: إن هذا كفر باطناً وظاهراً، و إذا تكلموا بكلام أولئك قالوا: هذا كفر في الظاهر، وهو في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً تام الإيمان) (3)،
__________
(1) فيض الباري شرح صحيح البخاري 1/50، وانظر نصوصاً أخرى في هذا المعنى المواقف 287، 388، الاقتصاد للغزالي 160، الإعلام بقواطع الإسلام 348.
(2) الإيمان، 384.
(3) الإيمان 386.(211/185)
وهذا القول الذي نقلناه عنهم، قال به بعض غلاة المرجئة من قبلهم، فقد نقل الأشعري والشهرستاني والبغدادي ذلك عن بعض متقدميهم، قال الشهرستاني: (و إلى هذا المذهب ميل ابن الراوندي، وبشر المريسي، قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان جميعاً، والكفر هو الجحود والإنكار، والسجود للشمس والقمر والصنم ليس بكفر في نفسه، ولكنه علامة الكفر) (1)
مناقشة المرجئة:
سيقتصر النقاش على تعريفهم الإيمان، وعلى الكفر عندهم، لأنهما الأصل عندهم فإذا بطل الأصل، بطلت فروعه، و لأن مسألة الزيادة والنقصان سبق ذكر أدلتها من الكتاب والسنة وكلام الصحابة – في الفصل الأول – مما نعتبره كافياً في الرد عليهم، أما مسألة الوعد والوعيد فهم متفقون مع أهل السنة فيها.
أ- مناقشة تعريفهم للإيمان:
__________
(1) الملل والنحل للشهرستاني 1/144، وانظر نفس النص – تقريباً، في مقالات الإسلاميين 141، الفرق بين الفرق 205، وانظر آراء شبيهة بذلك عن بعض فرق المرجئة كالتومنية والصالحية، في نفس المراجع المذكورة .(211/186)
1- قولهم: الإيمان في اللغة هو التصديق، وهو باق على معناه اللغوي لم ينقل عنه، فوجب أن يكون كذلك في الشرع والرد على ذلك من وجوه(1)، منها: (ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث، إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم.. فاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك، قد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم- ما يراد بها في كلام الله ورسوله، وكذلك لفظ الخمر وغيرها، ومن هناك يعرف معناها، فلو أراد أحد أن يفسرها بغير ما بينه النبي – صلى الله عليه وسلم- لم يقبل منه، و أما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها، فذاك من جنس علم البيان، وتعليل الأحكام، هو زيادة في العلم، وبيان حكمه ألفاظ القرآن، ولكن معرفة المراد بها لا يتوقف على هذا، واسم الإيمان و الإسلام والنفاق والكفر، هي أعظم من هذا كله، فالنبي – صلى الله عليه وسلم- قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق شواهد استعمال العرب…)(2)
2- أيضاً – الإيمان في اللغة ليس مرادفاً للتصديق (وذلك من وجوه: أحدها: أن يقال للمخبر إذا صدقته، صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال آمن له، كما قال تعالى: {فآمن له لوط}(3)، وقال {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه}(4).
__________
(1) هذه الردود ذكرها شيخ الإسلام – رحمه الله – في مواضع مختلفة في معرض الرد عليهم، وسننقل بعضها مع محاولة الاختصار، الإيمان الأوسط 71-76، الإيمان 117-124. 271-277، شرح الطحاوية 379-382، وغيرها، وراجع جمعاً وتلخيصاً لكلام شيخ الإسلام في ذلك، رسالة الشيخ عبد الرحمن المحمود "مواقف ابن تيمية من الأشاعرة" 4/1427- 1449.
(2) الإيمان 271، 272.
(3) سورة العنكبوت، آية : 26.
(4) سورة يونس، آية : 83.(211/187)
الثاني: أنه ليس مرادفاً للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال: كذب، و أما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهده، كقوله طلعت الشمس، وغربت، أنه يقال: أمناه، كما يقال: صدقناه، ولهذا، المحدثون والشهود ونحوهم، يقال: صدقناهم، وما يقال آمنا لهم، فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ: آمن له إلا في هذا الشرع..
الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب، كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه، أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له، أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة لفظ الكفر، ويقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، لكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك، وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط…)(1)
3- وعلى فرض أنه مرادف للتصديق، فلا حجة فيه لأسباب منها:
أ- أن الإيمان ليس هو التصديق بكل شيء، بل بشيء مخصوص وهو ما أخبر به الرسول – صلى الله عليه وسلم – وحينئذ فيكون الإيمان في كلام الشارع أخص من الإيمان في اللغة، ومعلوم أن الخاص ينضم إليه قيود ولا توجد في جميع العام…)(2).
__________
(1) الإيمان 275- 277.
(2) الإيمان 121 .(211/188)
ب- أن التصديق لا يختص بالقلب (بل الأفعال تسمى تصديقاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: " العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"(1)، (2)
ج- أما قولهم: إن الكفر ضد الإيمان والكفر هو الجحود والتكذيب.. فيجاب عنه، بأن الكفر لا يختص بالجحود كما بينا ضمن الجواب الأول، أما الآيات التي ذكرت أن محل الإيمان في القلب، فلا تنفي دخول الأعمال في الإيمان لورود أدلة أخرى تبين ذلك، وغاية ما في هذه الآيات أن الإيمان أصله في القلب وهذا لا خلاف حوله.
__________
(1) مضى تخريجه ص31.
(2) الإيمان 278.(211/189)
د- أما استدلالهم بالآيات التي فيها عطف الأعمال الصالحة على الإيمان، وقولهم: إن العطف يقتضي التغاير، فقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك فقال: (و أما قولهم: إن الله فرق بين الإيمان والعمل الصالح في مواضع، فهذا صحيح وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها، وقد يقرن به الأعمال … وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، و الأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع الأعمال، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة، كان لنقص الإيمان الذي في القلب، فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم، و إن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال، فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب، بل لابد معه من الأعمال الصالحة، ثم للناس في مثل هذا قولان، منهم من يقول: المعطوف دخل في المعطوف عليه أولاً، ثم ذكر باسمه الخاص تخصصاً له، لئلا يظن أنه لم يدخل في الأول، وقالوا: هذا في كل ما عطف فيه خاص على عام، كقوله: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال}(1)وقوله: { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح و إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}(2)وقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم}(3)فخص الإيمان بما نزل على محمد بعد قوله: {والذين آمنوا} وهذه نزلت في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، وقوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}(4)، وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}(5)، والصلاة والزكاة من العبادة، فقوله: {آمنوا وعملوا الصالحات} كقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}، فإنه قصد أولاً أن تكون العبادة لله
__________
(1) سورة البقرة، آية : 98.
(2) سورة الأحزاب، آية : 7.
(3) سورة محمد، آية : 2.
(4) سورة البقرة، آية : 238.
(5) سورة البينة، آية : 5.(211/190)
وحده لا لغيره، ثم أمر بالصلاة والزكاة ليعلم أنهما عبادتان واجبتان، فلا يكتفي بمطلق العبادة الخالصة دونهما، وكذلك يذكر الإيمان أولاً، لأنه الأصل الذي لابد منه، ثم يذكر العمل الصالح، فإنه أيضاً من تمام الدين الذي لابد منه، فلا يظن الظان اكتفاءه بمجرد إيمان ليس معه العمل الصالح.. فعلى قول هؤلاء يقال: الأعمال الصالحة المعطوفة على الإيمان دخلت في الإيمان، وعطفت عليه عطف الخاص على العام، إما لذكره خصوصاً بعد عموم، وإما لكونه إذا عطف كان دليلاً على أنه لم يدخل في العام.
وقيل (القول الثاني): بل الأعمال في الأصل ليست من الإيمان، فإن أصل الإيمان هو ما في القلب، ولكن هي لازمة له، فمن لم يفعلها كان إيمانه منتفياً لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، لكن صارت بعرف الشارع داخلة في اسم الإيمان إذا أطلق …)(1)وقد ذكرنا في الفصل الأول أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان.
ه-- وأما قولهم: إن الله خاطب المؤمنين باسم الإيمان، قبل وجوب الأعمال، فدل ذلك على عدم دخولهما فيه، فيقال لهم: (إنهم خوطبوا به قبل أن تجب تلك الأعمال، فقبل وجوبها لم تكن من الإيمان، وكانوا مؤمنين الإيمان الواجب عليهم قبل أن يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين) (2).
و- أما تأويلهم قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}(3)، أي تصديقكم بوجوب الصلاة، فهذا تكلف في التأويل، وخروج عن ظاهر النص دون قرينة، ويرده سبب نزولها، وقد سبق بيان معناها(4)، وكذلك سبق ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف على دخول الأعمال في مسمى الإيمان فلتراجع، وبذلك يتبين لنا فساد استدلالاتهم وبطلانها.
ب- مناقشة مفهومهم للكفر:
__________
(1) الإيمان 186- 190 وانظر 163 – 168، وشرح الطحاوية 387-389.
(2) الفتاوى 7/197.
(3) سورة البقرة، آية : 143.
(4) انظر ص47.(211/191)
إذا بطل مفهومهم للإيمان و أنه مجرد التصديق بطل حصرهم الكفر بالتكذيب والجحود، لأن الكفر لا يختص بالتكذيب(1)، كما سيأتي تفصيله في الباب الأخير، حيث سنشير إلى بعض أنواع الكفر كالإعراض والامتناع والبغض ونحوه مما لا يختص بالتكذيب، كذلك الإجماع على عدد من المكفرات القولية والعملية المعروفة وكثير منها لا يتضمن التكذيب كما هو معلوم.
أشار شيخ الإسلام – رحمه الله – إلى هذا الفهم الفاسد، ثم نقضه من عدة وجوه فقال: (… فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر، ليس هو كفراً في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً، قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن و أن الإيمان يستلزم عدم ذلك..) ثم رد على ذلك من وجوه فقال: (… أما الأول: فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعاً بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعاً غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطناً وظاهراً، و أن من قال: إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمناً بالله وإنما هو كافر في الظاهر، فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين، وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن وحكم بكفرهم، واستحقاقهم الوعيد بها، ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقاً، وقد تكون كذباً، بل كان ينبغي أن لا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة، وهذا كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}(2)، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}(3)
__________
(1) انظر الصارم المسلول 522، الإيمان 277 وغيرها .
(2) سورة المائدة، آية : 73.
(3) سورة المائدة، آية : 27، 72.(211/192)
وأمثال ذلك.
وأما الثاني: فالقلب إذا كان معتقداً صدق الرسول، و أنه رسول الله، وكان محباً لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- معظماً له، امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب.. يبين ذلك قوله: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة}(1)، فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق و الإيمان من قلوبهم، و إن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة، والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ماله في الآخرة من خلاق،، "و أيضاً " فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره، لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه(2).
__________
(1) سورة النحل، آية : 106-107.
(2) الإيمان الأوسط 99-102، وانظر وجوهاً أخرى 124- 127.(211/193)
ثالثاً: …مما يمكن أن يرد عليهم به أن يقال: قولكم إن ساب الرسول – صلى الله عليه وسلم – يكفر إذا كان مستحلاً و إن لم يكن مستحلاً فسق(1)، يلزم منه أن لا أثر للسب في التكفير وجوداً وعدماً، وإنما المؤثر هو الاعتقاد فإن اعتقد حل السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن، وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء. (2)
رابعاً: (أنه إذا كان المكفر هو اعتقاد الحل فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل، فيجب أن لا يكفر لا سيما، إذا قال: أنا أعتقد أن هذا حرام وإنما أقول غيظاً وسفهاً أو عبثاً أو لعباً كما قال المنافقون: {إنما كنا نخوض ونلعب} وكما إذا قذفت هذا وكذبت عليه لعباً وعبثاً فإن قيل: لا يكونون كفاراً فهو خلاف نص القرآن، و إن قيل: يكونون كفاراً فهو تكفير بغير موجب، إذا لم يجعل نفس السبب مكفراً..) (3).
ولعل من أعظم أسباب اضطرابهم وتناقضهم إخراج كثير منهم أعمال القلوب من مسمى الإيمان، ولذلك ظنوا أن سب الرسول – صلى الله عليه وسلم- لا ينافي اعتقاد صدقه فيجوز اجتماع ذلك مع الإيمان، ولكن لو أدخلوا الأعمال في مسمى الإيمان لعلموا أنه يستحيل أن يسب المرء من أحبه وخضع واستسلم، لأن المحبة والاستسلام والانقياد إكرام وإعزاز، والسب والشتم إهانة وإذلال فلا يجتمعان. (4)
الباب الثاني
ضوابط التكفير وموانعه عند أهل السنة
الفصل الأول: ضوابط التكفير
الفصل الثاني: موانع التكفير
__________
(1) وممن قرر ذلك ونقله عن الفقهاء القاضي أبو يعلى، وفند شيخ الإسلام هذه المقولة، انظر الصارم المسلول 516- 527 حتى قال: (فمن قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة عامداً لها عالماً بأنها كلمة الكفر فإنه يكفر بذلك ظاهراً وباطناً، ولا نجوز أن يقال إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمناً، ومن قال ذلك: فقد مرق من الإسلام) الصارم 526.
(2) انظر الصارم المسلول 518.
(3) نفسه 518.
(4) نفسه 523، وقد أطال – رحمه الله – في إضاح ذلك انظر 519- 527.(211/194)
الفصل الأول: ضوابط التكفير
الحكم بالظاهر وأدلة ذلك
الاحتياط في تكفير المعين
(ليس كل من قال الكفر أو عمله يكون كافرا)
ما تقوم به الحجة
عدم التكفير بكل ذنب
الحكم بالظاهر وأدلة ذلك
هذه من المسائل العظيمة في مذهب أهل السنة في الحكم على الناس، فلا تكون أحكامهم مبنية على ظنون وأوهام أو دعاوي لا يملكون عليها بينات، وهذه من رحمة الله وتيسيره على عباده ومن باب تكليفهم بما يطيقون ويستطيعون، وكل ما سبق المقصود به الحكم الدنيوي على الشخص بالإسلام أو الكفر، أما الحكم على الحقيقة فلا سبيل إليه، يقول الإمام الشاطبي – رحمه الله – مبيناً أهمية هذا الأصل وخطورة إهماله: (إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به في الأحكام خصوصاً، وبالنسبة إلى الاعتقاد في الغير عموماً، فإن سيد البشر مع إعلامه بالوحي يجري الأمور على ظواهرها في المنافقين وغيرهم، و إن علم بواطن أحوالهم، ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه. لا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال: (خوفاً من أن يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه) (1) فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عدم ما علل به فلا حرج. لأنا نقول: هذا أدل الدليل على ما تقرر، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن "البينة على المدعي واليمين على من أنكر"(2)
__________
(1) جزء من حديث، رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى : {سواء عليهم استغفرت لهم…} الآية الفتح 8/648.
(2) أخرجه البخاري 8/398 في تفسير سورة الأحزاب، و عبد الرزاق في "المصنف" رقم 20416 و أبو داود رقم 3607 في الأقضية : باب: إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به. والطبراني في الكبير برقم 3712 و 4841.(211/195)
، ولم يستثن من ذلك أحداً حتى أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- احتاج في ذلك إلى البينة، فقال من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين(1)فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعي أكذب الناس على أصلح الناس لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر وهذا من ذلك والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية) (2).
واستند أهل السنة في تقريرهم لهذا الأصل العظيم إلى أدلة كثيرة منها:
1- قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا}(3) قال الشوكاني رحمه الله: (والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقية) (4).
وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله تعالى: {فتبينوا} ولو كان لا يقتل إذا قالها للتثبت معنى، إلى أن يقول: (و إن من أظهر التوحيد و الإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك) (5).
__________
(1) أما خزيمة فهو: خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعده، أبو عمار الأنصاري المدني، ذو الشهادتين شهد أحداً وما بعدها. استشهد مع على رضي الله عنه يوم صفين، صحابي جليل وله أحاديث، انظر لترجمته: طبقات ابن سعد 4/378، أسد الغابة 2/133. والإصابة 3/930.
(2) الموافقات للشاطبي 2/271، 272.
(3) سورة النساء، آية : 94.
(4) فتح القدير 1/501.
(5) كشف الشبهات 49.(211/196)
2- واستدلوا بقوله – صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، و أن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله"(1)
والشاهد من الحديث قوله (وحسابهم على الله) قال ابن رجب: (وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقاً أدخله الله بذلك الجنة، و إن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار (2). وق-ال الحافظ في الفتح: (أي أمر سرائرهم.. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر) (3)وقال الإمام البغوي: (وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضاً إنما تجري على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، و أن من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره، ولو وجد مختون فيما بين قتلى غلف، عزل عنهم في المدفن، ولو وجد لقيط في بلد المسلمين حكم بإسلامه) (4).
__________
(1) رواه البخاري كتاب الإيمان، {فإن تابوا وأقاموا الصلاة .. الآية { (الفتح) 1/75، ومسلم كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله) (شرح النووي) 1/210.
(2) جامع العلوم والحكم 83.
(3) فتح الباري 1/77، وانظر شرح النووي 1/212، وجامع العلوم والحكم 83.
(4) شرح السنة 1/70.(211/197)
3- واستدلوا أيضاً بقصة أسامة رضي الله عنه المشهورة قال: " بعثنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة (1)فأدركت رجلاً فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي – صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: أقال لا إله إلا الله وقتلته قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ"(2)، (3).
__________
(1) الحرقات من جهينة : هم بطن من جهينة، وانظر في سبب تسميتهم الفتح 12/195.
(2) حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ : ( أي لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأت الآن الإسلام ليمحو عني ما تقدم) شرح النووي 2/104.
(3) رواه مسلم، واللفظ له كتاب الإيمان، "باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله " (مسلم بشرح النووي 2/99)، والبخاري، كتاب الديات "باب قول الله تعالى : {ومن أحياها ..الآية) (الفتح 7/517، 12/191)، وانظر أحاديث شبيهة، مسلم بشرح النووي 2/98-101، "كتاب المغازي" باب بعث النبي – صلى الله عليه وسلم- أسامة .(211/198)
والحديث فيه زجر شديد وتحذير من الإقدام على قتل من تلفظ بالتوحيد وتحذير صريح من تجاوز الظاهر والحكم على ما في القلب دون بينة، قال النووي – رحمه الله-: (وقوله – صلى الله عليه وسلم- أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ الفاعل في قوله أقالها هو القلب(1)، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان، وقال أفلا شققت عن قلبه لتنظر، هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنت لست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب ولا تطلب غيره) (2)، وقال أيضاً في تعليقه على قوله – صلى الله عليه وسلم-: "أفلا شققت عن قلبه؟" (وفيه دليل على القاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام فيها بالظاهر والله يتولى السرائر) (3)
4- ومن الأحاديث العظيمة في هذا الباب حديث جارية معاوية بن الحكم السلمي لما سأل رسول الله – صلى الله علي-ه وسلم-: " أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة"(4).
__________
(1) أي أقالها خوفاً من السلاح أم لا ؟
(2) مسلم بشرح النووي 2/104.
(3) نفسه 2/107.
(4) رواه مسلم كتاب المساجد، "باب تحريم الكلام في الصلاة" رقم 537.(211/199)
قال شيخ الإسلام في تعليقه على هذا الحديث (…فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا، هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة، ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: " أعتقها فإنها مؤمنة" أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار) (1)، (لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة) (2).
__________
(1) الإيمان 398، وانظر 201، 202، 243.
(2) نفسه 197.(211/200)
ولذلك كان – صلى الله عليه وسلم- يعامل المنافقين على ظواهرهم مع علمه بنفاق كثير منهم ليقرر هذا الأصل العظيم (فهم في الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون، ويحجون ويغزون والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم.. ولم يحكم النبي –صلى الله عليه وسلم – في المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر، لا في مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحو ذلك، بل لما مات عبد الله بن أبي سلول وهو من أشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبد الله وهو من خيار المؤمنين، وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون، و إذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين.. لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة، لا على المحبة التي في القلوب، فإنه لو علق بذلك لم تمكن معرفته، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها، وهو ما أظهروه من موالاة المؤمنين.. وكذلك كانوا في الحقوق والحدود كسائر المسلمين) (1) (وهكذا كان حكمه – صلى الله عليه وسلم- في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم لا يستحل منها شيئاً إلا بأمر ظاهر، مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم) (2)ومع ذلك (يجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب، فالمؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمناً في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة) (3).
وبعد هذا التقرير الواضح لهذا الأصل القطعي ترد بعض التساؤلات التي قد يظن أنها مخالفة لهذا الأصل ومنها:
أ - لماذا حصل الخلاف في قبول توبة الزنديق(4)، مع أن الأصل يقتضي أخذه على ظاهره؟
ب- ما ذكر من أدلة ينطبق على من أظهر الإسلام، أو من أقر بالإسلام ونطق بالشهادتين من الكفار لكن هل ينطبق هذا الكلام على المسلم إذا أظهر الكفر فيحكم بكفره بمجرد ذلك بناءاً على هذا الأصل؟.
__________
(1) الإيمان لابن تيمية 198.
(2) الإيمان 201.
(3) الإيمان 203.
(4) وهو المنافق إذا ظهر نفاقه، الإيمان 203، جامع العلوم والحكم 83.(211/201)
وللجواب عن ذلك يقال:
أما الأول فقد اختلف العلماء فيه فذهب بعضهم إلى قبول توبته وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد، والبغوي والنووي وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء رحمهم الله، وذهب مالك و أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى عن أحمد وابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمه الله إلى عدم قبول توبته(1).
ولا نريد أن ندخل في تفاصيل أدلة الفريقين ولا في الترجيح، وإنما الذي يهمنا هنا، قول من قال بقتله بعدما يظهر التوبة، هل ينافي الحكم بالظاهر؟.
الواقع أن (من تأمل أقوال العلماء في هذه المسألة وجد أنه لا خلاف بينهم في مناط الحكم وهو اعتبار الظاهر في الحكم على الناس، وإنما اختلفوا في تحقيق ذلك المناط، فيما يتعلق بالزنديق فمنهم من يرى ظاهره الإسلام لتظاهره بذلك (مستدلاً بالأدلة السابقة التي ذكرناها)، ومنهم من يرى أن ظاهره خداع المسلمين لا الرجوع إلى الإسلام، ولهذا لم يجزم من قال بقتله أنه لابد أن يكون كافراً في الباطن) (2).
__________
(1) انظر جامع العلوم والحكم 83، شرح السنة 1/69، أعلام الموقعين 3/144، وانظر أقوالاً أخرى مسلم بشرح النووي 1/207، والمغني 8/126- 128.
(2) رسالة ضوابط التكفير، عبد الله القرني 277، قال ابن قدامة (وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا .. و أما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تاب وأقلع ظاهراً أم باطناً فلا خلاف فيه) المغني 8/128.(211/202)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله (والزنديق بالعكس "من الكافر الأصلي إذا تاب" فإنه كان مخفياً لكفره مستتراً به، فلم نؤخذه بما في قلبه إذا لم يظهر عليه، فإذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع لم يرجع عن أمر كان مظهراً له غير خائف من إظهاره، وإنما رجع خوفاً من القتل) (1). ثم ذكر قاعدة مهمة تنسجم مع قاعدة الحكم بالظاهر فقال: (وههنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره، بالإسلام لأنه ظاهر لا يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به، لأنه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه التوبة و الإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية، أما انتفاء القطع فظاهر، و أما انتفاء الظن فلأن الظاهر إنما يكون دليلاً صحيحاً إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن خلافه.. و إذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته، وتكذيبه واستهانته بالدين، وقدحه فيه، فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا.
وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة، فلا يجوز الاعتداء عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته) (2)
ب- أما التساؤل الآخر: حول المسلم إذا ظهر منه الكفر:
…فيقال فيه إن هناك فرقاً بين الحكم بإسلام المعين والحكم بكفره فالحكم بإسلامه يكفي فيه الإقرار والظاهر، وهو إسلام حكمي قد يكون معه المعين منافقاً في الباطن.
__________
(1) أعلام الموقعين 3/142، وانظر الإيمان لابن تيمية 203.
(2) أعلام الموقعين 3/143، وانظر تفصيلاً لذلك في الصارم المسلول 345- 358، وقد ذكر شيخ الإسلام عدداً من الأدلة في قتل المنافق إذا تبين نفاقه فليراجع.(211/203)
أما الكفر فليس حكماً على الظاهر فقط، و إنما هو حكم على الظاهر والباطن بحيث لا يصح أن نحكم على معين بالكفر مع احتمال أن يكون غير كافر على الحقيقة. ولذلك لابد من النظر للعمل الذي عمله هذا المعين هل هو أمر لا يحتمل غير الكفر؟ أم أمر يحتمل الكفر وعدمه؟ أم أن الأمر كفر في ظاهره ولكن يحتمل أن يكون معذوراً بجهل أو تأول(1)وسيأتي تفصيل هذه المسألة في المباحث التي بعدها.
الاحتياط في تكفير المعين
مذهب أهل السنة وسط بين من يقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، وبين من يكفر المسلم بكل ذنب دون النظر إلى توفر شروط التكفير وانتفاء موانعه، ويتلخص مذهب أهل السنة في أنهم يطلقون التكفير على العموم مثل قولهم: من استحل ما هو معلوم من الدين بالضرورة كفر، ومن قال القرآن مخلوق، أو أن الله لا يرى في الآخرة كفر، ولكن تحقق التكفير على المعين لابد له من توفر شروط، وانتفاء موانع، فلا يكون جاهلاً ولا متأولاً ولا مكرهاً.. الخ.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله -: " فقد يكون الفعل أو المقالة كفراً، ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، أو من فعل ذلك، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها. وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار، لجواز أن لا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع"(2)
فإذا توفرت الشروط وانتفت الموانع حكم بردته فيستتاب فإن تاب و إلا قتل، وسنبحث في هذه الفقرة:
أ - النصوص المحذرة من إطلاق التكفير على المعين دون بينة وتطبيقات السلف لذلك.
__________
(1) انظر تفصيلاً جيداً لهذه المسألة ولهذه الحالات في رسالة "ضوابط التكفير" لعبد الله القرني 274- 296.
(2) مجموع الفتاوى 35/165.(211/204)
ب- نصوص تدل على تكفير المعين إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع وتطبيقات السلف لذلك.
أ- …قال ابن أبي العز الحنفي: (و أما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد و أنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب " باب النهي عن البغي" وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: " كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، و الآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له أقصر، فقال خلني وربي، أبعثت على رقيباً؟ فقال: و الله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته "(1)وهو حديث حسن، و لأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله) (2).
__________
(1) رواه أبو داود كتاب الأدب باب في النهي عن البغي رقم 4901، وحسنه ابن أبي العز وحسنه الألباني كما في شرح الطحاوية.
(2) شرح العقيدة الطحاوية 357، 358.(211/205)
ومن الأحادي--ث المحذرة من تكفير المسلم قوله – صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهم-ا" (1) قال الحافظ في الفتح (… والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم من أن يقول ذلك لأخيه المسلم … وقيل معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره… فمعنى الحديث فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير لا الكفر، فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله) (2) وقال القرطبي رحمه الله: (والحاصل أن المقول له إن كان كافراً كفراً شرعياً فقد صدق القائل وذهب بها المقول له، و إن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه) (3).
وهذا الوعيد والزجر أن لم يكن مع الكفر بينه كما ذكر القرطبي، ولم يكن متأولاً ومن فقه البخاري أن وضع هذا الحديث تحت باب (من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال) ثم ذكر بعده باباً آخر بعنوان (باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً …) ثم ذكر بعض الأحاديث(4) الدالة على المقصود.
__________
(1) رواه البخاري كتاب الأدب "باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال" (الفتح 10/514، ومسلم كتاب الإيمان "باب بيان حال من قال لأخيه المسلم كافر" (شرح النووي 3/49).
(2) فتح الباري 10/466.
(3) فتح الباري 10/466.
(4) فتح الباري 10/515.(211/206)
ومن الأدلة التى يمكن الاستدلال بها للتحذير من التكفير موقف السلف من أحاديث الوعيد لمن ارتكب الكبائر وعدم إنفاذها على الأعيان من مثل قوله – صلى الله عليه وسلم-:" لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه"(1)ولعنه شارب الخمر، والواصلة والمستوصلة(2)والراشي والمرتشي" وقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}(3)إلى غير ذلك من الأدلة(4)، فهذه الأدلة القول بموجبها واجب على العموم والإطلاق من غير أن يعين شخصاً من الأشخاص فيقال: ملعون أو مستحق للنار لإمكان التوبة، أو الحسنات الماحية أو المصائب المكفرة وغيرها من مكفرات الذنوب بل عد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه، أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم(5)، والتكفير هو من الوعيد(6) بل أشد أنواع الوعيد فإذا كان هذا التحذير فيما دون الكفر، فالتحذير من إطلاق الكفر على التعيين أشد والله أعلم.
__________
(1) رواه مسلم (كتاب المساقاة) باب لعن آكل الربا وموكله 3/1218، 1219.
(2) الواصلة: التي تصل شعرها بشعر آخر زور والمستوصلة التي تأمر من يفعل بها ذلك، النهاية 5/192.
(3) سورة النساء، آية : 10.
(4) انظر مزيداً من الأدلة في الفتاوي 20/287، 288.
(5) انظر الفتاوى 20/387،388.
(6) انظر الفتاوى 3/231، 10/330، 23/345، 346، 12/498.(211/207)
وقد التزم أهل السنة بموجب هذه التوجيهات فعرفوا باحتياطهم في التكفير رغم أن أغلب الفرق باستثناء المرجئة تتساهل في المسألة، بل وتكفر أهل السنة أما أهل السنة فالتزموا الضوابط الشرعية، يقول شيخ الإسلام: (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم، و إن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى) (1)وقال رحمه الله: (إني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى) (2).
(ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاه الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم) (3).
فهذا أنموذج عظيم للتطبيق العملي لهذا المبدأ وفيه رد عملي على أدعياء العلم من المبتدعة الذين يزعمون أن شيخ الإسلام يكفر المسلمين إلى آخر هذا الكلام المستند إلى الهوى والتعصب.
__________
(1) الرد على البكري 260.
(2) الفتاوى 3/229، يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب في تعليقه على هذا الكلام (وهذه صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفيره المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال إن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، و أما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية) مفيد المستفيد 10.
(3) الرد على البكري 46، ومع ذلك فشيخ الإسلام حكم بكفر من لا شبهة في كفره كالباطنية ومن قامت عليه الحجة.. الخ.(211/208)
و إليك أنموذجاً آخر للتطبيق العملي لهذا المنهج وهو موقف الإمام أحمد إمام أهل السنة رحمه الله من أعيان الجهمية ممن آذوه، ودعوا الناس إلى بدعتهم وعاقبوا مخالفهم الجهمية: إن القرآن مخلوق، و إن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك، ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم، إذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم، حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق، وغير ذلك، ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول – صلى الله عليه وسلم- ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلدوا من قال لهم ذلك(1).
يتبين مما سبق أن أهل السنة يطلقون التكفير بالعموم، وكذلك الوعيد ولكن الحكم على المعين بالكفر والوعيد لابد فيه من الدقة والاحتياط للتأكد من توفر الشروط وانتفاء الموانع.
لكن ظن بعض المتوهمين – بسبب قراءتهم لهذه النصوص وأمثالها – أن أهل السنة لا يكفرون المعين، هكذا بالإطلاق، وظنهم هذا شبيه بظن من اعتقد أن أهل السنة يتساهلون في مسألة التكفير، وسنبين في المبحث القادم موقف أهل السنة من كفر المعين إذا قامت عليه الحجة.
ب- نصوص تدل على تكفير المعين إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وتطبيقات السلف لذلك.
__________
(1) الفتاوى 23/348، 349، وانظر نصاً شبيهاً 12/488، 489.(211/209)
من تأمل كلام أهل السنة في هذه المسألة يتضح له تحفظهم من إطلاق التكفير إلا إذا قامت الحجة على المعين ويفهم من ذلك بداهة أنه إذا قامت الحجة على المعين وأصر على عمل الكفر فإنه يحكم بكفره ويستتاب فإن تاب و إلا قتل … انظر قول شيخ الإسلام رحمه الله: (إذا عرف هذا فتكفير "المعين" من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار – لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، و إن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر، وهكذا الكلام في تكفير جميع "المعينين" مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، و إن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزال إلا بعد إقامة الحجة، و إزالة الشبهة) (1).
إذاً إذا قامت الحجة وزالت الشبهة وتيقنا من إصراره وتكذيبه فلابد من تكفيره وهذا أمر معروف ومجمع عليه لدى علماء الأمة قاطبة.
ولذلك ذكر الفقهاء في كتبهم "كتاب المرتد" وذكروا فيه الأحكام المترتبة على من ارتد عن دينه من نكاح وإرث، ونحوه. وتصرفات المرتد في ردته من بيع وهبه وعتق.. وكذلك الأشياء التي يصير بها المسلم كافراً واستتابته فإذا لم يتب قتل إجماعاً(2).
__________
(1) الفتاوى 12/500، 501، وانظر الفتاوى 3/229، وغيرها كثير .
(2) انظر المغني لابن قدامة 123، وما بعدها.(211/210)
وهكذا فعل السلف مع من سب الرسول – صلى الله عليه وسلم- أو من لم يرض بحكم الرسول – صلى الله عليه وسلم- (1)، أو مع أعيان الجهمية كالجعد بن درهم وغيلان الدمشقي(2)وما ورد من قتل السحرة(3).. الخ وأيضاً (أصحاب رسول – صلى الله عليه وسلم- قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي – صلى الله عليه وسلم- وهم يشهدون أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله، ويؤذنون ويصلون، فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، فقل هذا هو المطلوب. إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي – صلى الله عليه وسلم- كفر وحل ماله ودمه، ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف(4) أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السموات و الأرض؟ ويقال أيضاً: الذين حرقهم علي – رضي الله عنه – وتعلموا العلم من الصحابة، ولكنهم اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟.. ويقال أيضاً: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس، كلهم يشهدون بألسنتهم أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله، ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، و أن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين … ويقال أيضاً: الذين قال الله فيهم: { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم}(5)أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن الرسول – صلى
__________
(1) انظر الصارم المسلول ص59 وما بعدها.
(2) انظر شرح الأصول اعتقاد أهل السنة اللالكائي 2/319، والبخاري في خلق أفعال العباد 118، الدارمي في الرد على الجهمية 352، 353.
(3) انظر فتح المجيد 291، 292.
(4) من الطواغيت التي كانت تعبد في نجد قديماً، كشف الشبهات 40.
(5) التوبة، آية : 74.(211/211)
الله عليه وسلم- ويجاهدون معه ويصلون معه ويزكون ويحجون ويوحدون، وكذلك الذين قال الله فيهم: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}(1)، فهؤلاء الذين صرح الله فيهم، أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح..) (2).
ومن التطبيقات العملية لتكفير المعين إذا قامت عليه الحجة إجماع السلف على قتال الطائفة الممتنعة(3)عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، استناداً لقتال الصحابة لمانعي الزكاة رغم إقرارهم بها، واعتمد شيخ الإسلام هذه القاعدة في فتواه الشهيرة عن التتار ووجوب قتالهم كحال المرتدين فقال رحمه الله: (كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه و إن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهما فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنة … فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات أو الصيام، أو الحج أو التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والزنا.. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها و إن كانت مقره بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء) إلى أن يقول – رحمه الله -: (وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن أولئك خارجون
__________
(1) التوبة : 65-66.
(2) كشف الشبهات 39-44.
(3) لا يلزم من المقالة التكفير في كل حال، لكن قتال الطائفة الممتنعة من باب التكفير كما في كلام شيخ الإسلام وسيأتي لذلك مزيد تفصيل إن شاء الله .(211/212)
عن طاعة إمام معين، أو خارجون لإزالة ولايته، و أما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام (1)بمنزلة مانعي الزكاة، وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه(2)، وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب- بعدما ذكر بعض الأمثلة - (ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته لطال الكلام..) (3)
وبهذه الأمثلة والتطبيقات تتضح الصورة لمريد الحق إن شاء الله. والخلاصة أن من أظهر شيئاً من مظاهر الكفر لا يكفر حتى تقام عليه الحجة للتأكد من دوافعه لهذا العمل فإذا زالت الشبهة وأصر استتيب فإن تاب و إلا قتل. لكن يرد تساؤل هنا وهوما مفهوم قيام الحجة؟ وهل كل من فعل مكفراً ولو كان في دار علم، يقال لم تقم عليه الحجة؟ فنقول هذا ما سنعرفه في المبحث القادم إن شاء الله.
ما تقوم به الحجة
مر معنا في المبحث السابق اتفاق السلف على عدم تكفير المعين إلا بعد قيام الحجة؟ فما أدلتهم على ذلك؟ وبم تقوم الحجة؟ وما الفرق بين بلوغ الحجة وفهمها.
كل هذه المسائل سنحاول- إن شاء الله – الإجابة عليها بما يتيسر من الأدلة وكلام أهل العلم، سائلين المولى عز وجل التوفيق والسداد.
1- التكفير والتعذيب بعد قيام الحجة:
__________
(1) وهذا يدل على تكفير شيخ الإسلام للتتار .
(2) مجموع الفتاوى 28/502-504، وانظر الفتوى كاملة ومفصلة 28/501-543.
(3) الرسائل الشخصية 220.(211/213)
استدل أهل السنة بأدلة كثيرة على أن التكفير، والتعذيب(1)لا يكون إلا بعد قيام الحجة ومنها قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}(2)وقوله عز وجل: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}(3)وقوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء}(4)وقال تعالى: {يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}(5) وقوله تعالى:{ ما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا}(6). وقوله تعالى: {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير}(7).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: " الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية).. ثم ذكر عدداً من الأدلة منها ما ذكرنا وغيرها إلى أن قال: (فمن قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلاً، أما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله ورسوله ما يوجب أن الله عليه، وما لم يؤمن به(8)لم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها) (9).
__________
(1) سيأتي إيضاح ذلك عند الكلام عن حكم من لم تبلغهم الدعوة.
(2) سورة الإسراء، آية : 15.
(3) سورة النساء، آية : 165.
(4) سورة الملك، آية : 7-9.
(5) سورة الأنعام، آية : 130.
(6) سورة القصص، آية : 59.
(7) سورة فاطر، آية : 37.
(8) أي تفصيلاً.
(9) مجموع الفتاوي 12/493، 494، وانظر 17/308.(211/214)
وقام الإمام ابن القيم رحمه الله بعدما ذكر هذه الآيات: (وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة) (1).
وقال الإمام الذهبي رحمه الله: (فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه، والله لطيف رءوف بهم، قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي – صلى الله عليه وسلم – فلا يبلغهم إلا بعد أشهر، فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص، وكذا يعذر بالجهل من لم يعلم حتى يسمع النص والله أعلم) (2).
لكن قد يقول قائل: إن هذه الأدلة المستدل بها تنفي العذاب في الدنيا فقط؟ فيقال أولاً: (أنه خلاف ظاهر القرآن، لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقاً، فهو أعم من كونه في الدنيا، وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
الوجه الثاني: أن القرآن دل في آيات كثيرة على شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة، كقوله: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى}(3) وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل) (4).
ويمكن أن يقال ثالثاً: إن هذه النصوص إذا نفت التعذيب الدنيوي فالأخروي من باب أولى والله أعلم.
إذاً لا تقوم الحجة إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبلوغ ذلك إلى المعين(5)، أما كيفية قيامها، والفرق بين قيامها وفهمها، فسيأتي بحثه في مسألة العذر بالجهل.
عدم التكفير بكل ذنب
__________
(1) طريق الهجرتين 384، وانظر تفسير ابن كثير 3/28.
(2) الكبائر للذهبي 12، تحقيق محي الدين مستو.
(3) سورة الملك، آية : 7-9.
(4) أضواء البيان 3/434.
(5) وسيأتي بعض الإيضاح لذلك في الفصل القادم.(211/215)
من الأصول المجمع عليها عند أهل السنة: أنهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب- ما لم يستحله(1)، ويقصدون بالذنب- الذي لا يكفر صاحبه- فعل الكبائر أو الصغائر أو ترك الواجبات، خلافاً للوعيدية، الذين يكفرون أهل الكبائر، وبعضهم يكفر أهل الصغائر، لكن قد يفهم البعض من عبارات السلف في ذلك أنهم لا يكفرون بكل ذنب، مطلقاً، فدفعاً لهذا اللبس (امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج وفرق بين النفي العام، ونفي العموم..) (2).
فالنفي العام قد يفهم منه عدم تكفير المعين مطلقاً مهما عمل من الذنوب، ولو عمل النواقض. أما نفي العموم، فيفهم منه أنهم يكفرون ببعض الذنوب، ولا يكفرون ببعضها فمن الذنوب التي يكفر مرتكبها نواقض الإسلام الكبرى المعلومة(3)، ومن ذلك – أيضاً – الخلاف المشهور عند أهل السنة في التكفير بترك الأركان وخاصة الصلاة، أما الذنوب التي لا يكفرون بها ففعل الكبائر وترك الواجبات ما لم يستحل الكبائر، أو ينكر الواجبات وقد مضى تفصيل مذهب أهل السنة في أهل الكبائر فليراجع.
الفصل الثاني: موانع التكفير
أولاً: الجهل
ثانياً: الخطأ
ثالثاً: الإكراه
رابعاً: التأويل
خامساً: التقليد
أولاً: الجهل
حالات الجهل، ومتى يكون عذرا؟
__________
(1) سبق بحث ذلك بالتفصيل في الفصل السابق .
(2) شرح الطحاوية 356.
(3) سيأتي بحث ذلك في الباب القادم.(211/216)
الجهل يأتي بعدة معاني منها: خلو النفس من العلم(1)وهو المشهور، ومنها: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه(2)، ومنها: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً(3)، ومنه قوله سبحانه: { فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة}(4)، ومقصود العلماء بالجهل الذي يعذر صاحبه أو لا يعذر، أن يقول قولاً أو يفعل فعلاً بخلاف ما حقه أن يفعل، أو يعتقد اعتقاداً بخلاف ما هو عليه من الحق.
والعذر بالجهل – كما هو معلوم – له حالات، فهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، والأشخاص يختلفون فمنهم من قامت عليه الحجة، ومنهم من لم تقم عليه باعتباره – مثلاً – حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، وكذلك الجهل يختلف إن كان جهلاً بما هو معلوم من الدين بالضرورة أو ما دون ذلك، وهل يفرق في ذلك بين أصول وفروع؟
كل هذه المسائل سنشير إليها في هذا المبحث – من خلال الأدلة وكلام العلماء -، وسنبدأ أولاً: بذكر أدلة العذر بالجهل بشكل عام، ثم نناقش هل هذه الأدلة شاملة لكل جهل، أم لا؟
أدلة العذر بالجهل
__________
(1) انظر المفردات 102 ولسان العرب 11/129.
(2) انظر المفردات 102، والتعريفات 84.
(3) انظر المفردات 102.
(4) سورة الحجرات، آية : 6.(211/217)
1- لعل من أشهر الأدلة وأصرحها في هذه المسألة حديث الرجل من بني إسرائيل الذي أمر أهله بإحراقه، و إليك نصه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: " كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيتك، فغفر له"(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على هذا الحديث: (فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان و إن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن مخطئاً، فغفر الله له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكاً في المعاد، وذلك كفر إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره ….)(2)، وقال في موضع آخر: (فهذا الرجل كان قد وقع له الشك، والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم بعدما أحرق وذري، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك، وهذان أصلان عظيمان:
"أحدهما" متعلق بالله تعالى، وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
__________
(1) رواه البخاري (واللفظ له) 6/514 كتاب الأنبياء، وكتاب التوحيد 13/466، ومسلم، كتاب التوبة 17/70-73 من حديث أبي هريرة و رواه البخاري كتاب الرقاق 11/312، وكتاب الأنبياء 6/514، 494، من حديث حذيفة، ورواه البخاري، كتاب الأنبياء 6/514، وكتاب الرقاق 11/312، وكتاب التوحيد 13/466، ومسلم كتاب التوبة 17/73، من حديث أبي سعيد الخدري، وهذا الحديث متواتر انظر الفتاوي 12/491، وإيثار الحق على الخلق 436.
(2) مجموع الفتاوى 11/409.(211/218)
"والثاني": متعلق باليوم الآخر، وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل عملاً صالحاً – وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه – غفر الله له بما كان فيه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح) (1)، وقال الإمام الخطابي رحمه الله: (قد يستشكل هذا فيقال: كيف يغفر له وهو منكر للبعث والقدرة على إحياء الموتى؟ والجواب أنه لم ينكر البعث وإنما جهل فظن أنه إذا فعل به ذلك لا يعاد فلا يعذب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله) (2)، و أيضاً فإنه قال: ليعذبني وهذا اعتراف منه بالعذاب في اليوم الآخر.
وقال الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله-: (… و أما جهل هذا الرجل المذكور في هذا الحديث بصفة من صفات الله في علمه وقدرته، فليس ذلك بمخرجه من الإيمان ….) ثم استدل على ذلك بسؤال الصحابة – رضي الله عنهم – عن القدر ثم قال: (ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين، …. ولم يضرهم جهلهم به قبل أن يعلموه) (3).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في معرض حديثه عن حكم من جحد فرضاً من فرائض الإسلام: (…. و أما من جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه: فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه، وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح، ومع هذا فقد غفر الله له، ورحمه لجهله، إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عناداً أو تكذيباً) (4).
__________
(1) مجموع الفتاوى 1/491، وانظر نصوصاً أخرى لشيخ الإسلام الفتاوى 3/231، 7/619، 23/348، 28/501، والرد على البكري 259.
(2) فتح الباري 6/523.
(3) التمهيد 18/46،47.
(4) مدارج السالكين 1/367.(211/219)
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله بعدما ذكر الحديث: (…. فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله) (1).
وقال ابن الوزير رحمه الله في تعليقه على الحديث: (…. وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد ولذلك خاف العقاب، و أما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالاً فلا يكون كفراً إلا لو علم أن الأنبياء جاءوا بذلك و أنه ممكن مقدور ثم كذبهم أو أحداً منهم لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}(2)وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل) (3).
إذاً يمكن أن نستخلص من كلام الأئمة أمرين مهمين:
الأول: أن عمل هذا الرجل هو كفر لأن فيه إنكاراً لقدرة الله تعالى على إعادته بعدما يحرق، ولكنه عذر بسبب جهله الذي قاده إلى هذا الظن الفاسد.
الثاني: أن هذا الرجل معه أصل الإيمان وهذا واضح في الحديث، وهكذا فهم الأئمة، انظر إلى قول شيخ الإسلام في النص السابق: (…. فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل صالحاً – وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه – غفر الله له بما كان فيه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح)، وقول الخطابي: (…. وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنه إنما فعل ذلك من خشية الله)، وقول ابن حزم: (… وقد غفر له لإقراره وخوفه وجهله) (4).
تأويلات أخرى للحديث:
ذكر بعض العلماء بعض التأويلات لهذا الحديث تخالف ما سبق وسنشير إلى تأويلين فقط من هذه التأويلات، للضعف الشديد في التأويلات الأخرى(5).
__________
(1) الفصل 3/252.
(2) الإسراء، آية : 15.
(3) إيثار الحق على الخلق 436.
(4) الفصل 3/252.
(5) انظر الشفا للقاضي عياض 2/1082- 1084، ومسلم بشرح النووي 17/70-75، وفتح الباري 6/522، 523.(211/220)
الأول: أن قوله لئن قدر الله عليّ، أي قضاه، يقال منه قدر بالتخفيف، وقدر بالتشديد بمعنى واحد، أو قدر بمعنى ضيق علي من مثل قوله تعالى: {فقدر عليه رزقه}(1)وقوله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه}(2)علي أحد الأقوال في تفسيرها، لكن المتأمل لسياق الحديث يتبين له ضعف هذا القول، فكيف يقال لئن قدر الله علي العذاب ليعذبني أو لئن ضيق علي ليعذبني، فهذا لا معنى له، وكذلك لو كان المعنى مما سبق فما فائدة أمره لأهله بإحراقه ثم ذره. قال شيخ الإسلام: (ومن تأول قوله: لئن قدر الله علي بمعنى قضي، أو بمعنى ضيق فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد، وقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، و أنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مفراً بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، و لأن التقدير والتضييق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايراً، لأن يقدر الرب.
قال: فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء) (3).
وقال ابن حزم: (… وقد قال بعض من يحرف الكلم عن مواضعه أن معنى لئن قدر الله عليّ إنما هو لئن ضيق الله علي كما قال تعالى: { و أما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه}(4)وهذا تأويل باطل لا يمكن لأنه كان يكون معناه حينئذ لئن ضيق الله علي ليضيق علي، و أيضاً فلو كان هذا لما كان لأمره بأن يحرق ويذر رماده معنى ولا شك في أنه إنما أمر بذلك ليفلت من عذاب الله) (5).
__________
(1) سورة الفجر، آية : 16.
(2) سورة الانبياء، آية : 87.
(3) مجموع الفتاوى 11/410، وانظر بقية الرد .
(4) سورة الفجر، آية : 16.
(5) الفصل 3/252.(211/221)
التأويل الثاني: أنه قال ذلك في حال دهشته ولم يقله قاصداً لحقيقة المعنى وهذا القول رجحه ابن حجر – حيث قال في الفتح: (… وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلب الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يقله قاصداً لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل، والذاهل والناسي الذي لا يؤخذ بما يصدر منه) (1)، وهذا التفسير فيه ضعف ظاهر من وجهين:
الأول: أنه لو كان غير مدرك ولا عاقل لما يقول لفهم أولاده ذلك ولما نفذوا هذه الوصية.
الثاني: أن هذا الحديث يذكر لبيان سعة رحمة الله عز وجل حيث غفر لهذا الرجل رغم هذا الجهل الكبير، فلو كانت المغفرة لرجل أخطأ في كلام قاله دون شعور منه ولا إدراك لما يقول لما كان للمغفرة في هذه الحالة مزية، ولصار في حكم من سقط عنه التكليف، وحينئذ لا يعتبر قد ارتكب خطأ، ولذلك من فقه الإمام الزهري أنه لما روى هذا الحديث الذي تتبين فيه سعة رحمة الله وفضله، روى بعده حديث المرأة التي دخلت النار لهرة حبستها (حديث من أحاديث الخوف والوعيد) ثم قال: (ذلك لئلا يتكل رجل، ولا ييأس رجل) (2).
__________
(1) الفتح 6/523، ومسلم بشرح النووي 17/71.
(2) انظر مسلم بشرح النووي 17/72: قال النووي : (معناه أن ابن شهاب لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد ذلك ليجتمع الخوف والرجاء) 17/73.(211/222)
2- ومن الأدلة أيضاً حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب(1). حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقي في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس، الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة(2): ما تغنى عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلة تنجيهم من النار ثلاثاً) (3)هذا الحديث و إن كان يتحدث عن حال الناس في آخر الزمان، حيث لا يدري ما صلاة ولا صيام، فإن فيه دليلاً على العذر بالجهل حيث ينطبق الحديث على بعض الأمكنة أو الأزمنة حيث ينتشر الجهل ويضعف نور النبوة، فتخفى على بعض الناس كثير من الأحكام الظاهرة المتواترة كوجوب الصلاة والصوم، ولكن لابد من الإقرار الذي عليه مدار النجاة، لأنه بدون الإقرار لا يكونون مسلمين.
__________
(1) وشي الثوب: لونه ونقشه ونسجه، انظر لسان العرب 15/392.
(2) أي صلة بن زفر العبسي، أو أبو بكر الكوفي، تابعي كبير، ثقة جليل، مات في حدود السبعين روى له أصحاب الكتب الستة، انظر تقريب التهذيب 1/370.
(3) رواه ابن ماجه (كتاب الفتن) رقم 4049 والحاكم (4/473)، (كتاب الفتن والملاحم) وقال صحيح على شرط مسلم، ورواية الحاكم ليس فيها ذكر الصلاة، وقال البوصيرى في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 87، وصحيح ابن ماجه 2/378.(211/223)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما بعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم و الإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: "يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة" ثم ذكر بقية الحديث(1).
إذاً أمثال هؤلاء عذروا بجهلهم لأن الحجة لم تقم عليهم.
__________
(1) مجموع الفتاوى 11/407 وانظر نصاً قريباً 35/165.(211/224)
3- ومن ذلك حديث أبي واقد الليثي(1)- رضي الله عنه – قال: خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر – وكانوا أسلموا يوم الفتح- قال: فمررنا بشجرة قلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كمالهم ذات أنواط(2)وكان للكفار سدرة يعفكون حولها ويعلقون بها أسلحتهم يدعونها ذات أنواط فلما قلنا ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم- قال: " الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون}(3)لتركبن سنن من كان قبلكم"(4)واضح من هذه الحادثة أن الذي طلبه الصحابة هو شرك(5)
__________
(1) * أبو واقد الليثي: مختلف في اسمه قيل: الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف ابن الحارث قال ابن سعد: اسلم قديماً وكان يحمل لواء بني ليث وضمرة وسعد بن بكير يوم فتح مكة وحنين وفي غزوة تبوك يستنفر بني ليث، روى عنه ابناه عبد الملك وواقد، و أبو سعيد الخدري وعطاء بن يسار وآخرون، مات سنة 68 ه- وهو ابن 85 سنة على الصحيح، انظر الإصابة 4/215، 216، وتهذيب التهذيب 12/270، 271.
(2) ذات أنواط: اسم شجرة بعينها كانت للمشركين، ينوطون بها سلاحهم: أي يعلقونه بها، ويعكفون حولها، انظر النهاية 5/128.
(3) الأعراف، آية: 38.
(4) رواه أحمد 5/218 (بطريقين) والترمذي كتاب الفتن 4/474، وقال حسن صحيح، والطيالسي (1346) وعبد الرزاق (20763) والحميدي (848) وابن جرير الطبري في التفسير 9/31، 32، وابن عاصم في السنة (76) (واللفظ له) وقال الألباني "إسناده حسن".
(5) ذهب بعض الباحثين إلى أن طلب الصحابة من قبيل المشابهة للكفار، حيث أرادوا أن يجعل لهم شجرة يعكفون عندها، و أن هذه المشابهة المذكورة ليست من الشرك الأكبر، واستندوا إلى قول لشيخ الإسلام (اقتضاء الصراط المستقيم 2/644) وللشاطبي (الاعتصام 2/245، 246) ظنوا أنها تؤيد قولهم انظر، الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد، عبد الرحمن عبد الحميد 84، 85) ولعلنا من باب الاختصار نترك المناقشة التفصيلية لهذا القول ونكتفي بكلام مجمل مفاده : (لو كان طلبهم من باب المشابهة فقط، لما أقسم – صلى الله عليه وسلم- أنهم قالوا مثل ما قال أصحاب موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فالتشبيه هنا يقتضي تمام المشابهة و أن ما طلبوا من جنس اتخاذ آلهة كما سيتضح من كلام الأئمة، كذلك هؤلاء حديثو عهد بكفر، ولذلك لا يستغرب أن يطلبوا أمراً يقتضي الشرك، فلو كان الذي طلبوا مجرد مشابهة دون الشرك، لما استغرب منهم لأن ذلك يمكن أن يحصل لمن تقدم إسلامه والله أعلم، انظر رداً مفصلاً في كتاب (العذر بالجهل عقيدة السلف لشريف هزاع 68-74).(211/225)
، ولذلك شبهه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بطلب بني إسرائيل لموسى أن يجعل لهم إلهاً بل وأقسم على أنه مثله، ولكنهم لم يكفروا بطلبهم لأنهم حدثاء عهد بكفر(1)، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث: (فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، والدعاء به، ودعائه، والدعاء عنده …؟ قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك(2): (فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها) (3)، وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (… وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي – صلى الله عليه وسلم- لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب، ولكن القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك وهو لا يدري عنها فتفيد لزوم التعلم والتحرز… وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي – صلى الله عليه وسلم-) (4)وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (… وفيها (أي الحادثة): أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل النبي – صلى الله عليه وسلم- طلبهم كطلب بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط، فالمشرك مشرك، و إن سمي شركه ما سماه، كمن يسمي دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيماً ومحبة، فإن
__________
(1) انظر كلام سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في حاشية فتح المجيد 146.
(2) هو أبو بكر الطرطوشي وكلامه هذا في كتابه الحوادث والبدع ص105.
(3) إغاثة اللهفان 1/224.
(4) كشف الشبهات 45،46، وانظر إرشاد المسلمين في الرد على القبوريين الشيخ حمد بن معمر 98، 99.(211/226)
ذلك هو الشرك، و إن سماه ما سماه، وقس على ذلك(1).
وأخيراً مما ينبغي التنبيه إليه الإشارة إلى أن طلب الصحابة رضي الله عنهم- كما يظهر- ليس فيه ما يدل على أنهم أرادوا عبادة هذه الشجرة من دون الله ولكن لحداثة عهدهم بالإسلام ظنوا أن اتخاذ شجرة ليتبركوا بها ويعلقوا عليها أسلحته-م لا ينافي التوحيد، (فبين لهم أن ما طلبوا من التبرك ولو لم يكن صلاة ولا صياماً ولا صدقة هو الشرك بعينه) (2)، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: (ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريون من أهل القبور فأخبرهم – صلى الله عليه وسلم – أن ذلك بمنزلة الشرك الصريح و أنه بمنزلة طلب آلهة غير الله تعالى) (3).
4- ومن الأحاديث أيضاً ما رواه عبد الله بن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي – صلى الله عليه وسلم- قال: " ما هذا يا معاذ؟" قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: " فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"(4).
__________
(1) فتح المجيد 145.
(2) حاشية فتح المجيد (سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله)، 146.
(3) الدر النضيد ص9.
(4) رواه ابن ماجه واللفظ له 1/595، وابن حبان (1290) والبيهقي (7/292) وحسنه الألباني (إرواء الغليل 7/56) وراجع شواهد للحديث في الإرواء.
قال الشوكاني : (أخرج قصة معاذ المذكورة في الباب البزار بإسناد رجاله رجال الصحيح .. وأخرجها أيضاً البزار والطبراني بإسناد آخر رجاله ثقات، وقصة السجود ثابتة من حديث ابن عباس عند البزار ومن حديث سارقة عند الطبراني، ومن حديث عائشة عند أحمد وابن ماجه، ومن حديث عصمة عند الطبراني وغير هؤلاء)، نيل الأوطار 6/234.(211/227)
قال الإمام الشوكاني – رحمه الله – في تعليقه على هذا الحديث: (وفي هذا الحديث دليل على أن من سجد جاهلاً لغير الله لم يكفر) (1)لكن ينبغي أن نعلم أنه لا يلزم من السجود للشخص عبادته، بل يحتمل العبادة، ويحتمل غيرها من التحية والاحترام كما في الحديث المذكور(2)، بخلاف السجود للصنم فإنه شرك في العبادة(3)، فعموم الآيات السابقة إضافة إلى الأحاديث المذكورة تقرر مسألة العذر بالجهل، وهذا أمر مجمع عليه، وإنما خالف بعض العلماء وبعض الباحثين بقولهم: إن مسائل أصول الدين وخاصة التوحيد والشرك لا يعذر فيها بالجهل، وسنذكر أبرز أدلتهم ثم رد العلماء عليهم ممن يرى أن الأدلة عامة لأصول الدين وغيرها.
لكن قبل ذكر أدلة الفريقين والمناقشة يحسن بنا أن نذكر – بشيء من الاختصار – بعض المسائل المهمة المتعلقة بهذه القضية، لأنه باتضاحها، يمكن بناء تصور صحيح عن هذه القضية، ويمكن – أيضاً- إدراك كثير من أسباب اللبس في فهمها والله أعلم.
المسألة الأولى: مجرد النطق بالشهادتين كاف في الحكم بإسلام الشخص:
بوب الإمام ابن منده في كتابه الإيمان(4) (ذكر ما يدل على أن قول لا إله إلا الله يوجب اسم الإسلام ويحرم مال قائلها ودمه، وذكر فيه حديث المقداد رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله أرأيت إن اختلفت أنا ورجل من المشركين ضربتين فقطع يدي، فلما هويت إليه لأضربه قال: لا إله إلا الله، أأقتله؟ أم أدعه؟ قال: "بل دعه"(5)
__________
(1) نيل الأوطار 6/234.
(2) انظر مجموع الفتاوى 1/372، 4/360.
(3) انظر بتوسع، التكفير والمكفرات، 2/485-491.
(4) الإيمان لبن منده 1/ 198.
(5) رواه البخاري المغازي (الفتح) 7/321، والديات باب قوله تعالى : {ومن يقتل مؤمناً متعمدا..}12/187،ومسلم في القسامة باب المجازاة بالدماء في الآخرة رقم 1678.(211/228)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-: (وقد علم بالاضطرار من دين الرسول –صلى الله عليه وسلم – واتفقت عليه الأمة، أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً والعدو ولياً، والمباح دمه وماله: معصوم الدم والمال …)(1)ويقول الإمام ابن الصلاح –رحمه الله- (…وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين …)(2)وقال الإمام ابن رجب الحنبلي – رحمه الله -: (ومن المعلوم بالضرورة أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك ويجعله مسلماً) (3)ويقول – أيضاً-: (من أقر صار مسلماً حكماً) (4)
ويقول الحافظ ابن حجر –رحمه الله-(…وفي حديث ابن عباس من الفوائد [حديث بعث معاذ إلى اليمن]. الاقتصار في الحكم بإسلام الكافر إذا أقر بالشهادتين) (5).
وقال أيضاً: (…أما بالنظر إلى ما عندنا –[أي في الدنيا] – فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم(6).
__________
(1) نقلاً عن فتح المجيد 89.
(2) مسلم بشرح النووي 1/148.
(3) جامع العلوم والحكم 72.
(4) نفسه23.
(5) فتح الباري 13/367.
(6) فتح الباري 1/61، وانظر إشارة إلى هذه المسألة في مباحث سابقة حول قول اللسان ص43، ومبحث الحكم بالظاهر ص204-207 وراجع مناقشة لهذه المسألة في كتاب التوقف والتبين، للشيخ محمد سرور زين العابدين ص149-154.(211/229)
هذه النصوص عن الأئمة واضحة في تقرير هذا الأصل، وأهمية تقرير هذا الأصل هنا تكمن في أن بعض الباحثين يخلطون بين الحكم الدنيوي والأخروي، فيظنون أنه يلزم من الحكم بإسلام الشخص، الحكم له بالنجاة في الآخرة، أو يظنون أن الشروط التي ذكرها العلماء لكلمة التوحيد من العلم والاخلاص واليقين..الخ، لا يحكم بإسلام الشخص إلا بعد فهم هذه الشروط، ولكن الحقيقة أن مجرد النطق بكلمة التوحيد لا ينجي العبد عند الله إلا بالإتيان بشروطها.
أما بالنسبة للحكم الدنيوي فمجرد النطق كاف في الحكم بإسلام المرء حتى يتبين لنا ما يناقض ذلك- بعد قيام الحجة وبذلك ندرك الخطأ الذي وقع فيه من يرى أن من يقعون في شئ من الشرك من نذر وذبح لغير الله وطواف على القبور ممن شهد بشهادة التوحيد كفار أصليون باعتبارهم لم يفهموا التوحيد(1)
المسألة الثانية:خطأ التقسيم إلى أصول لا يعذر بالجهل بها، وفروع يعذر الجاهل بها:
__________
(1) انظر على سبيل المثال ما ذكره الإمام الصنعاني في "تطهير الاعتقاد"ص131(ضمن مجموعة عقيدة الموحدين)وما ذكره العلامة إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن في رسالة "حكم تكفير المعين"ص9،17 .(211/230)
كثيراً ما يقال: هذه من مسائل العقيدة التي لا يعذر من يجهلها، أو من مسائل الأصول، أو هذه مسألة قطعية لا عذر فيها ونحو ذلك، وهذا التعبير غير دقيق وغير منضبط فمن قال: هذه من مسائل الأصول التي لا يعذر جاهلها، يقال له:ماذا تقصد بمسائل الأصول؟فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل العقيدة، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، يقال له: هناك من مسائل العمل كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم الفواحش..الخ، ما هو أعظم من كثير من مسائل الاعتقاد وأقوى وأوضح دليلاً ولا يعذر من يجهلها في دار الإسلام وهناك من مسائل الاعتقاد، اختلف السلف فيها ولم يورث اختلافهم تضليلاً ولا تبديعاً ولا تفسيقاً، كمسألة: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء والعذاب في القبر على الروح وإلا على الروح والبدن،وهل إبليس من الجن أو الملائكة…الخ…
وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية (أو ما هو معلوم من الدين بالضرورة) والفروع ليست قطعية، فيقال له:كون المسألة قطعية أو ظنية أمر نسبي إضافي، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فكون الشيء معلوماً من الدين ضرورة أمر إضافي، فحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة قد لا يعلم هذا بالكلية، فضلاً عن كونه يعلمه بالضرورة، وكثير من العلماء يعلم بالضرورة أن النبي-صلى الله عليه وسلم –سجد للسهو، وقضى بالدية على العاقلة، وقضى أن الولد للفراش، وغير ذلك مما يعلمه الخاصة بالضرورة، وأكثر الناس لا يعلمه البتة) (1)
__________
(1) مجموع الفتاوي 13/118وانظر 19/211،منهاج السنة 5/87-95،مختصر الصواعق المرسلة613 .(211/231)
ولكن مما ينبغي التنبيه إليه، أن هناك أموراً تعلم من الدين بالضرورة بلا خلاف(1)، وأموراً لا تعلم من الدين بالضرورة بلا خلاف، ويبقى بينهما أمور ومسائل تختلف حولها الأنظار والأفهام، ولذلك يمكن أن نقول: إن هذا التعبير غير دقيق لأننا لا نستطيع أن نضع حداً منضبطاً لا يختلف حوله والله أعلم.
المسألة الثالثة: في حال حكاية مذاهب العلماء في هذه المسألة أو في غيرها، يجب التفريق بين النصوص المطلقة والمقيدة:
فمثلاً يستدل البعض بقول عالم من العلماء:
إن من نذر أو استغاث بغير الله فهو كافر مشرك حلال الدم والمال …الخ، فيقول هذا المستدل إن مذهب هذا العلم عدم العذر بالجهل في مسائل العقيدة أو التوحيد سواء في دار الإسلام أو غيرها، والدليل أنه قال كافر، مشرك ولم يقل ما لم تقم عليه الحجة أو نحو ذلك، وقد يرد على هذا الاستدلال، بأن هذا النص عام، وليس فيه تعيين شخص معين، فعند التعيين لابد من قيام الحجة، والعالم لم ينف ذلك، والصحيح في مثل هذه النصوص: أنه لا يجوز نسبة قول أو رأي لعالم في مسألة ما إلا بجمع النصوص المختلفة عنه في هذه المسألة أو تلك، ثم بعد ذلك استخلاص رأيه.
__________
(1) كثيراً ما يعبر عن هذه الأمور: (بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة )انظر الفتاوى 12/496، 7/610، 11/ 406 ، جامع العلوم والحكم 64 وغيرها إذاً لابد من شرطين أن تكون ظاهرة ومتواترة، ولذلك اعتبرت كثير من المسائل المتواترة غير الظاهرة مما يعذر بجهلها في دار الإسلام، ومن أشهر الأمثلة التي يذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب وتلامذته، مسألة الصرف والعطف رغم اعتباره السحر ومنه الصرف والعطف، من نواقض الإسلام،انظر مجموع الشيخ 9/12، فتاوى ومسائل 12/213.(211/232)
كما أنه لا يلزم أن يقال في كل نص من النصوص العامة: ما لم تقم عليه الحجة، لأن العلماء في كثير من الأحيان لا يذكرون الأعذار، فهم حين يقولون من فعل كذا فقد كفر، لا يقولون إلا إن كان متأولاً أو جاهلاً أو مكرهاً..الخ، ولعل هذا يشبه قولهم: إن الزاني والسارق وشارب الخمر لا يكفرون، لا يلزم أن يقال في كل نص إلا إن كان مستحلاً والله أعلم.
المسألة الرابعة: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص:
فالمسألة نسبية فقد تقوم الحجة على أهل هذا البلد لانتشار العلم والعلماء،ولا تقوم على بلد آخر لضعف من يدعو ويبلغ، وقد تقوم الحجة على هذا الشخص لعلمه وفهمه، ولا تقوم على آخر لعدم تمكنه من العلم لأنه حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة ونحو ذلك.
يقول شيخ الإسلام-رحمه الله- وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيراً مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول) (1)،وقال أيضاً:…ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه،أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا. بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية (2)، وقد فصل في هذا المعنى، وزاده إيضاحاً الإمام الخطابي حيث قال: …وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة، وامتنعوا عن أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي؟(3).
__________
(1) مجموع الفتاوي 11/407،وانظر 7/610، 619 ،35، 165 وغيرها .
(2) المرجع السابق 11/407.
(3) سيأتي بحث حكم الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة.(211/233)
قلنا: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذا الأزمان كان كافراً بإجماع المسلمين والفرق بين هؤلاء وأؤلئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان، منها قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ، ومنها أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين وكان عهدهم بالإسلام قريباً فدخلتهم الشبهة فعذروا، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم
وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأول يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه، فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها و أن القاتل عمداً لا يرث، و أن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة) (1)
__________
(1) مسلم بشرح النووي 1/173.(211/234)
ومثال ذلك ما قاله الإمام ابن قدامة – رحمه الله – في حكم من جحد وجوب الصلاة: (ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحداً لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك، فإن كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الإسلام والناشيء بغير دار الإسلام أو بادية بعيدة عن الأمصار و أهل العلم، لم يحكم بكفره، وعرف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها فإن جحدها بعد ذلك كفر، و أما الجاحد لها ناشئا في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحدها، وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها وهي الزكاة والصيام، والحج لأنها مبادئ الإسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى إذ كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتها و الإجماع منعقد عليها، فلا يجحدها إلا معاند للإسلام يمتنع من التزام الأحكام غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته، إلى أن يقول: وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول الشبهة ويستحله بعد ذلك) (1)
ويمكن أن نستخلص من أقوال الأئمة السابقة ما يلي:
أ- اتفاق الأئمة على أن حديث العهد بالإسلام أو من نشأ ببادية بعيدة يعذر بجهل.
الأحكام الظاهرة المتواترة كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم شرب الخمر.. الخ.
ب- أن من أنكر هذه الأمور في دار إسلام وعلم ولم يكن حديث عهد بإسلام أنه يكفر بمجرد ذلك، وبذلك ندرك خطأ من يظن أن الجاهل لا يكفر مطلقاً.
ج- أن هناك أحكاماً ظاهرة متواترة مجمع عليها ومسائل خفية غير ظاهرة ولكنها لا تعرف إلا من طريق الخاصة من أهل العلم. فهذه من أنكرها من العامة لا يكفر، ولكن من أنكرها من الخاصة يكفر(2)إذا كان مثله لا يجهلها.
__________
(1) المغني 131-132.
(2) انظر العواصم من القواصم لابن الوزير 4/174.(211/235)
د- أيضاً يمكن أن يقاس على حديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة، من ينشأ في بلاد يكثر فيها الشرك والانحراف وتضعف بينهم دعوة التوحيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله – بعدما ذكر بعض أنواع الشرك: (… و إن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم- مما يخالفه) (1).
وقول الإمام المجدد: (… و إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم..) (2)
وقول الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عن بعض من يعمل الشرك إنه لا يكفر (لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه، وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة ولا وضحت له المحجة….)(3)
إذاً الحجة تختلف من بلد إلى آخر ومن زمن إلى آخر، وكذلك تختلف الأنظار والاجتهادات بالنسبة لقيام الحجة على الأشخاص، فقد يرى شخص أن الحجة قائمة على فلان أو على أهل البلد الفلاني، لانتشار العلماء والدعاة وطلبة العلم والكتب والأشرطة والمذياع وما يشبه ذلك، وقد يرى آخر أنه رغم انتشار الدعاة وطلبة العلم إلا أنهم لا يعتنون بمسائل التوحيد والشرك، أو أنهم أنفسهم مصابون بهذا الداء، فمن أين يعرف أهل بلدهم حقيقة التوحيد؟
__________
(1) انظر النص في الرد على البكري 376، وسيأتي نصوص أخرى عن شيخ الإسلام عند حكاية مذهبه.
(2) مجموعة الشيخ، فتاوى ومسائل 9/11، وسنذكر نصوصاً أخرى عن الإمام عند حكاية مذهبه في هذه المسألة .
(3) الهدية السنية 46، 47، وسيأتي النص بتمامه عند حكاية مذهب أئمة الدعوة .(211/236)
وأعظم ما يؤدي إلى هذا الاختلاف واللبس أمران أحدهما: التقصير في الدعوة إلى الله وإقامة الحجة على الجهال والبدء بالأهم فالمهم، والثاني: عدم وجود السلطة التي تقيم الحجة وتستيب من يصر، والتي بها يتضح للناس من قامت عليه الحجة ومن لم تقم، ولعل هذا من أبرز أسباب كثرة الكلام حول هذه المسألة بين المتأخرين والله أعلم.
المسألة الخامسة: كيفية قيام الحجة على المعين:
أكد العلماء على ضرورة بلوغ الحجة للمعين، وثبوتها عنده وتمكنه من معرفتها، وكل ذلك لا يتم إلا بوجود من يحسن إقامة الحجة.
يقول شيخ الإسلام في ذلك: (… وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها: قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان…)(1)ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله – (… و أما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفي الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل) (2).. ويقول أيضاً: (…. فإن حجة الله قامت على العبد بإرسال الرسل،
وإنزال الكتب، وبلوغ ذلك إليه، وتمكنه من العلم به، سواء علم أو جهل، فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، فقصر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، والله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه) (3).
__________
(1) مجموع الفتاوي 23/346، ومثله 3/231، 20/59.
(2) طريق الهجرتين 384، كلام الإمام ابن القيم في الحكم الأخروي، لكن الشاهد منه قوله وعدم التمكن من معرفتها).
(3) مدارج السالكين 2/239.(211/237)
ويقول الإمام ابن حزم – رحمه الله -: (وكل ما قلناه فيه أنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة، فهو ما لم تقم الحجة عليه، معذور مأجور و إن كان مخطئا، وصفة قيام الحجة عليه أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها وبالله التوفيق) (1).
وحكى الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن(2)عن الإمام المجدد أنه (قرر أن من قامت عليه الحجة، وتأهل لمعرفتها، يكفر بعبادة القبور…)(3)ويقول العلامة سليمان بن سحمان(4)كلاماً متيناً مهما حول من يقيم الحجة: (الذي يظهر لي والله أعلم أنها لا تقوم الحجة إلا بمن يحسن إقامتها، و أما من لا يحسن إقامتها كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ولا ما ذكره العلماء في ذلك، فإنه لا تقوم به الحجة) (5).
إذاً خلاصة ما سبق أن يقال، لابد من قيام حجة صحيحة تنفي عمن تقام عليه أي شبهة أو تأويل، وبذلك ندرك عظم المسئولية الملقاة على عاتق العلماء والدعاة ممن يحسن إقامة الحجة، ليقيموا الحجة على الخلق ويزيلوا الشبه عنهم.
أدلة من لا يعذرون الجاهل في
أصول الدين وخاصة مسائل الشرك
__________
(1) الإحكام لابن حزم 1/67.
(2) إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن : ولد في الرياض سنة 1276ه- سافر إلى مصر، ورحل إلى الهند في طلب الحديث وحصل على إجازات من علمائها ثم عاد إلى الرياض وجلس للتدريس إلى أن توفي فيها سنة 1319ه- له بعض الرسائل الصغيرة انظر الأعلام 1/195.
(3) حكم تكفير المعين ص18.
(4) **) سليمان بن سحمان : ولد في إحدى قرى أبها سنة 1266ه- انتقل إلى الرياض وتعلم بها، له مؤلفات كثيرة في الدفاع عن دعوة الشيخ، والرد على خصومها، توفي في الرياض سنة 1349ه-. انظر: مشاهير علماء ص 290، وعلماء نجد 1/279.
(5) منهاج الحق والاتباع 68.(211/238)
1- قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}(1) استدل بعض الباحثين المعاصرين(2)بهذه الآية على عدم عذر من يقع في الشرك جهلاً، (لأن الله خلقهم على التوحيد، وليس مجرد كون آبائهم على الشرك سبباً كافياً في شركهم هم، لوجود ما يدفع ذلك الشرك عندهم وهو التوحيد المستقر في فطرهم فحين يشركون فإنما يفعلون ذلك بإرادتهم ولذلك فلا عذر لهم في المخالفة بالشرك، وهذا يعني أن الإشهاد على التوحيد ليس لمجرد إقامة الحجة بل هو أيضاً مناط للتكليف ومخالفته تقتضي التعذيب ولو لم يكن بلاغ عن طريق الرسل) (3)، وأيدوا كلامهم بما ثبت في الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه وفيه: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا و أنت في صلب آدم: ألا تشرك فأبيت إلا الشرك"(4) قال القاضي عياض: (… يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم…. الآية } فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا فهو مؤمن، ومن لم يوف به فهو الكافر، فمراد الحديث أردت منك حين أخذت الميثاق فأبيت إذا أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك) (5)
__________
(1) الأعراف 172، 173.
(2) لم أجد للأئمة في تفسيرها كلاماً صريحاً في الدلالة .
(3) ضوابط التكفير عند أهل السنة 301 وانظر الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد لأبي عبد الله عبد الرحمن بن عبد الحميد 17-24 فقد جمع فيه أهم أدلة من لا يعذرون بالجهل في أصول الدين .
(4) رواه البخاري، كتاب الرقاق " باب من نوقش الحساب عذاب" 11/401، ومسلم كتاب صفات المنافقين "باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهباً" 2805.
(5) فتح الباري 11/403.(211/239)
.
ونقلوا أقوال بعض المفسرين حول هذه الآية مثل قول الإمام الطبري: (يقول تعالى ذكره: شهدنا عليكم، أيها المقرون بأن الله ربكم، كيلا تقولوا يوم القيامة: "إنا كنا عن هذا غافلين" إنا كنا لا نعلم ذلك، وكنا في غفلة منه، " أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم" اتبعنا مناهجهم "أفتهلكنا، بإشراك من أشرك من آبائنا، واتباعنا مناهجهم على جهل منا بالحق؟) (1)وقول الإمام البغوي: (يقول إنما أخذ الميثاق عليكم لئلا تقولوا أيها المشركون إنما أشرك آباؤنا من قبل ونقضوا العهد وكنا ذرية من بعدهم، أي كنا أتباعاً لهم فافتدينا بهم، فتجعلوا هذا عذراً لأنفسكم وتقولوا: (أفتهلكنا بما فعل المبطلون "أفتعذبنا بجناية آبائنا المبطلين؟ فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد" وكذلك نفصل الآيات " أي نبين الآيات ليتدبرها العباد" ولعلهم يرجعون" من الكفر إلى التوحيد(2)ونقلوا أيضاً عن الإمام ابن القيم وعن ابن كثير ما يؤيد قولهم. (3)
ونقلوا – أيضاً – عن بعض المعاصرين ما يؤيد قولهم من مثل قول الشيخ رشيد رضا – رحمه الله -: (… والمراد أن الله تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد آبائهم وأجدادهم، كما أنه لم يقبل منهم الاعتذار بالجهل، بعدما أقام عليهم من حجة الفطرة والعقل.
و الآيات تدل على أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة بالشرك بالله تعالى، ولا بفعل الفواحش والمنكرات التي تنفر منها الفطرة السليمة، وتدرك ضررها وفسادها العقول المستقلة، وإنما يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه أن لا يعرف إلا منهم، وهو أكثر العبادات التفصيلية) (4).
__________
(1) تفسير الطبري (تحقيق شاكر) 13/251.
(2) معارج القبول 1/46.
(3) انظر هذه النقولات في الجواب المفيد 19-24.
(4) تفسير المنار 9/360-361.(211/240)
2- واستدلوا ببعض الأحاديث الدالة على الحكم على المشركين في الجاهلية من أهل الفترة أنهم من أهل النار: ومنها حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"(1).
وحديث أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: " في النار"، قال: فلما قفى الرجل دعاه فقال: " إن أبي وأباك في النار"(2).
قالوا: (فيتضح من الأحاديث السابقة أن جهل من مضى قبل بعثة الرسول – صلى الله عليه وسلم- بالتوحيد، لم يكن عذراً لهم سواء في الحكم عليهم في الدنيا بظاهر أمرهم، أو في حقيقة أمرهم عند الله تعالى، وذلك بإخبار الرسول – صلى الله عليه وسلم- أنهم في النار) (3).
__________
(1) رواه مسلم 1/196 كتاب "الإيمان" باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل".
(2) رواه مسلم 1/196" باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار …".
(3) الجواب المفيد ص25.(211/241)
3- ومن الأحاديث التي استدلوا بها، حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة(1)فقال: " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً"(2)
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (فيه شاهد لكلام الصحابة: إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، و أنه لم يعذر بالجهالة) (3).
(فإذا كان الرجل لم يعذر بالجهالة في أمر من أمور الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر؟!)(4).
__________
(1) الواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها فيرقى منها، وقيل : هو مرض يأخذ في العضد، وربما علق عليها جنس من الخرز، يقال لها : خرز الواهة. النهاية في غريب الحديث 5/234.
(2) رواه أحمد (4/445) واللفظ له، وابن ماجه (3531) وليس عنده : " فإنك لو مت …" وابن حبان (1410) بلفظ : (إنك إن تمت وهي عليك وكلت إليها " كلهم من طريق المبارك ابن فضاله عن الحسن قال : (أخبرني عمران بن الحصين وهذا السند ضعيف لضعف مبارك ابن فضالة انظر التهذيب 10/29. و لأن الحسن لم يسمع من عمران، ورواه ابن حبان (1411) والحاكم صححه (4/216) من طريق أبي عامر الخراز عن الحسن عن عمران وليس فيه قوله : " ما أفلحت أبداً" وانما قال : "انبذها" وفي هذا الطريق أيضاً أن الرجل هو عمران نفسه. وهذا أيضاً ضعيف جداً لضعف أبي عامر، و لأن الحسن لم يسمع من عمران كما قال المديني وابن معين و أحمد و أبو حاتم وغيرهم انظر جامع التحصيل ص194- 197 راجع تخريج الحديث في النهج السديد ص56.
(3) فتح المجيد 127.
(4) الجواب المفيد 26.(211/242)
4- واستدلوا – أيضاً – بحديث طارق بن شهاب أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: " دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب قال ما عندي شيء، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة"(1) قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ(2): (وفي هذا الحديث التحذير من الوقوع في الشرك، و أن الإنسان قد يقع
فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار) (3) (وفيه أن ذلك الرجل كان مسلماً قبل ذلك، و إلا فلو لم يكن مسلماً لم يقل دخل النار في ذباب).
5- واستدلوا ببعض أقوال العلماء لتأييد قولهم، بل حكي بعضهم الإجماع على ذلك. حيث قال صاحب الجواب المفيد: (أصل الدين هو معرفة الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، وهذا لا عذر فيه بالجهل، سواء وجدت مظنة العلم – كدار الإسلام – أم لم توجد – كدار الحرب – وسواء ثبتت إقامة الحجة أم لم تثبت، ويجب اعتبار الجاهل فيه كافراً في ظاهر الأمر وهذا القدر متفق عليه بين الأئمة) (4).
__________
(1) رواه أحمد في الزهد ص15،16 و أبو نعيم في الحلية (1/203) عن طارق بن شهاب عن سلمان موقوفاً بسند صحيح ولا يصح مرفوعاً، انظر النهج السديد ص68.
(2) عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – ولد في الدرعية سنة 1193ه- تفقه بنجد ثم بمصر، بعد سقوط الدرعية ثم عاد إلى نجد وتولى القضاء في الرياض، له مؤلفات من أشهرها "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " توفي في الرياض سنة 1285ه-، انظر الاعلام 3/304 علماء نجد 1/56، عنوان المجد 1/56 حوادث سنة 1241ه-.
(3) فتح المجيد 155.
(4) الجواب المفيد 16،17 ونقل عن الإمام القرافي الإجماع على ذلك ص27.(211/243)
وسأذكر أبرز ما وقفت عليه من نصوص عن العلماء تدل على ذلك:
أ- فهمنا ما نقلوه عن الإمام القرافي حيث قال: (… النوع الثاني (من أنواع الجهل): جهل لم يتسامح صاحب الشرع عنه في الشريعة فلم يعف عن مرتكبه، وضابطه أن كل ما لا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشق لم يعف عنه، وهذا النوع يطرد في أصول الدين، و أصول الفقه وفي بعض أنواع من الفروع، أما أصول الدين فلأن صاحب الشرع لما شدد في جميع الاعتقادات تشديداً عظيما، بحيث إن الإنسان لو بذل جهده واستفرغ وسعه في رفع الجهل عنه في صفة من صفات الله، أو في شيء يجب اعتقاده من أصول الديانات، ولم يرتفع ذلك الجهل، لكان بترك ذلك الاعتقاد آثماً كافراً يخلد في النيران على المشهور من المذاهب) (1).
ب- ومن النصوص المنقولة عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: (فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح، كمثل علي رضي الله عنه أو عدي ونحوه، أو فيمن يعتقد فيه الصلاح كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر، أو يونس الفتي ونحوهم، وجعل فيه نوعاً من الآلهة مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده أو يقول إذا ذبح شاه: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب و إلا قتل) (2).
__________
(1) الفروق للقرافي 2/149، 163، وانظر الجواب المفيد 27،28.
(2) مجموع الفتاوى 3/395، علق صاحب الجواب المفيد بقوله : (فتأمل كلام الإمام رحمه الله وتأمل عظم الافتراء عليه) ص66.(211/244)
وردوا على من يحكي عن شيخ الإسلام عذره بالجهل في أصول الدين إذا لم تقم عليه الحجة، ردوا على ذلك بقول شهير عن شيخ الإسلام قال فيه: (… وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال: إنه فيها مخطيء ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى يعلمون: أن محمداً – صلى الله عليه وسلم- بعث بها، وكفر مخالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك…)(1).
ج- ونقلوا عن الإمام ابن القيم رحمه الله، قوله: (و الإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، و الإيمان بالله وبرسوله، واتباعه فيما جاء به، فلما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، و إن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً أو جهلاً وتقليداً لأهل العناد) (2).
__________
(1) مجموع الفتاوى 4/54.
(2) طريق الهجرتين 382، وانظر الجواب المفيد 30.(211/245)
د- ما نقل عن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – حيث (.. قال: وأفادك أيضاً الخوف العظيم، فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل…)(1)وقوله – رحمه الله -: (… إذا عرفت هذا عرفت لا إله إلا الله، وعرفت أن من دعا نبياً أو ملكاً أو ندبه أو استغاث به فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول – صلى الله عليه وسلم- (2)والقول المنقول عنه سابقاً في تعليقه على حديث عمران بن الحصين، حيث قال: (… فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.. الثالثة أنه لم يعذر بالجهالة) (3).
ومما نقل عنه أيضاً قوله: (… فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف، أما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن: فمن بلغه فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}(4))(5).
__________
(1) كشف الشبهات 11 وانظر ضوابط التكفير 311.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ، العقيدة والآداب الإسلامية 366.
(3) فتح المجيد 127.
(4) سورة الفرقان آية : 44.
(5) مجموعة الشيخ فتاوى ومسائل 12،13.(211/246)
ه-- وقال الصنعاني- رحمه الله – في تأييد هذا الرأي: (… فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة، والخلعاء مشركين، كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلت: نعم، قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم.. فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه، قلت: قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، و إن لم يقصد معناها، وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفاراً كفراً أصليا…)(1).
__________
(1) تطهير الاعتقاد للإمام الصنعاني ص22.(211/247)
و- واشتهر عن الإمام عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين(1)قوله بعدم العذر بالجهل في مسائل الشرك، وألف في ذلك رسالة معروفة ومما قال فيها: (وقولك (2)إن الشيخ تقي الدين وابن القيم يقولان: إن من فعل هذه الأشياء لا يطلق عليه أنه كافر حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية من إمام أو نائبه فيصر و أنه يقال هذا الفعل كفر وربما عذر فاعله لاجتهاد أو تقليد أو غير ذلك: فهذه الجملة التي حكيت عنهما لا أصل لها في كلامهما..) (3) إلى أن يقول: (وقولك أن الشيخ يقول: إن من فعل شيئاً من هذه الأمور الشركية، لا يطلق عليه أنه كافر مشرك حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية، فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر، وعبادة غير الله ونحوه من الكفر، و إنما قال في المقالات الخفية كما قدمنا من قوله، وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد قال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، فلم يجزم بعدم كفره، و إنما قد يقال) (4).
__________
(1) عبد الله بن عبد الرحمن أبي بطين : ولد في روضة سدير 1194، تولى القضاء في كثير من المناطق له عدة مؤلفات في تقرير العقيدة، والدفاع عن دعوة الإمام المجدد لقب بمفتي الديار النجدية، توفي في شقراء سنة 1282ه- انظر علماء نجد 234 .
(2) أي إبراهيم بن عجلان انظر ص15 رسالة أبي بطين.
(3) رسالة في بيان الشرك، وعدم إعذار جاهله، وثبوت قيام الحجة عليه ص30.
(4) نفسه.(211/248)
وقال في رسالة "الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين" (واحتج بعض من يجادل عن المشركين بقصة الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته على أن من ارتكب الكفر جاهلاً لا يكفر، ولا يكفر إلا المعاند. والجواب عن ذلك كله أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وأعظم ما أرسلوا به ودعوا إليه عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك الذي هو عبادة غيره، فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذوراً لجهله فمن هو الذي لا يعذر؟ ولازم هذه الدعوى أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند…)(1)فهذه أهم وأوضح النقولات عن الأئمة في مسألة عدم العذر بالجهل في أصول الدين وخاصة الشرك.
ورد على هذه الأدلة من يرى أن أدلة العذر بالجهل شاملة فقالوا:
__________
(1) الانتصار لحزب الله الموحدين ضمن مجموعة "عقيدة الموحدين" ص16.(211/249)
1- بالنسبة للآية المذكورة فلا نختلف معكم حول أخذ الميثاق(1)
__________
(1) اختلف العلماء حول المقصود بالميثاق المذكور هنا، هل هو ما أخذ عليهم وهم في ظهور آبائهم من الإقرار بالتوحيد، كما دلت على ذلك الأحاديث، أم المقصود بالميثاق ما فطرهم الله عز وجل به من التوحيد قال ابن كثير رحمه الله : (وذهب طائفة من السلف والخلف أن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- "كل مولود يولد على الفطرة" ورجح هذا القول وذكر من الأدلة ما يؤيد ترجيحه، تفسير ابن كثير 2/264 وقال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله كلاماً جميلاً فيه جمع بين القولين حيث قال: (ليس بين التفسيرين منافاة ولا مضادة ولا معارضة، فإن هذه المواثيق كلها ثابتة بالكتاب والسنة، الأول: الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم حيث أخرجهم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم "ألست بربكم قالوا: بلى" الآيات، وهو الذي قاله جمهور المفسرين رحمهم الله في هذه الآيات وهو نص الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما. الميثاق الثاني: ميثاق الفطرة وهو أنه تبارك وتعالى فطرهم شاهدين بما أخذه عليهم في الميثاق الأول كما قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} الآية وهو الثابت في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار و الأسود بن سريع رضي الله عنهم وغيرها من الأحاديث في الصحيحين وغيرها. الميثاق الثالث : هو ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب تجديداً للميثاق الأول وتذكيراً به {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما} .. الخ معارج القبول 1/48.
ومما يجدر ذكره هنا أن ترجيح أيا من القولين لا يلزم منه اعتبار الميثاق حجة مستقلة دون إرسال الرسل، وليس في كلام المفسرين ما يدل صراحة على هذا، و إنما كلام بعضهم عام يحتمل هذا وغيره، وكلام الآخرين صريح في أنه لابد من بلوغ الحجة.(211/250)
ولا على تذكير الله - عز وجل – لهم به يوم القيامة، و إنما الخلاف بيننا حول جعل هذا الميثاق حجة مستقلة على من يقع في الشرك جهلاً، ولو لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل، لأننا نقول: إنه يلزم من هذا القول (أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السموات والأرض وما فيهما من غرائب صنع الله، الدالة على أنه الرب المعبود وحده، وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها، تقوم عليهم به الحجة، ولو لم يأتهم نذير، والآيات القرآنية مصرحة بكثرة، بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}(1)، فإنه قال فيها: حتى نبعث رسولاً ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة. ومن ذلك قوله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}(2)، فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم: هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة) (3).
أما ما نقلوه عن الأئمة فهو قسمان، قسم عام محتمل لهذا المعنى وغيره فلا يؤخذ منه هذا الاستدلال لعدم وضوح مقصود الأئمة فيه وذلك مثل ما نقلوه عن القاضي عياض وعن الإمام الطبري رحمهم الله، والقسم الآخر ما نقلوه عن الإمام البغوي و الإمام ابن القيم وابن كثير، حيث اختاروا من كلامهم ما يؤيد رأيهم، وأغفلوا ما يعارضه، وهذا لا يليق بالباحث المنصف، لأنهم في هذه الحالة ينسبون لهؤلاء الأئمة من الأقوال ما لم يقولوها، بل قالوا عكسها.
__________
(1) الإسراء، آية : 15.
(2) النساء، آية : 165.
(3) أضواء البيان للشنقيطي 2/300-302، وانظر بقية كلامه رحمه الله .(211/251)
فمثلا نقلوا قول الإمام البغوي – كما سبق – وحذفوا أول كلامه حيث قال رحمه الله: (…فإن قيل: كيف يلزم الحجة واحداً لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله تعالى الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر صاحب المعجزة.. إلى أن يقول: فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد…)(1).
فهل يفهم من كلام الإمام البغوي أنه يضع الميثاق السابق حجة مستقلة؟
__________
(1) معارج القبول 1/46، وانظر الجواب المفيد ص19.(211/252)
ومثل ذلك ما نقله صاحب كتاب "الجواب المفيد" عن ابن القيم حيث أوهم ببتر كلامه أنه- أي ابن القيم – يؤيد رأيهم، ولكن بقراءة النص دون تجزئة يتبين أن قوله يخالف ما يدعون. وللنقل كلامه هنا ولنتأمله حيث قال- رحمه الله -: (… ولما كانت هذه آية الأعراف في سورة مكية ذكر فيها الميثاق والإشهاد العام لجميع المكلفين ممن أقر بربوبيته ووحدانيته، وبطلان الشرك وهو ميثاق وإشهاد تقوم به عليهم الحجة وينقطع به العذر وتحل به العقوبة، ويستحق بمخالفته الإهلاك(1)، فلابد أن يكونوا ذاكرين له عارفين به، وذلك فطرهم عليه من الإقرار بربوبيته و أنه ربهم وفاطرهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، ثم أرسل إليهم رسله يذكرونهم بما في فطرهم وعقولهم ويعرفونهم حقه عليهم وأمره ونهيه ووعده ووعيده ونظم الآية يدل على هذا من وجوه متعددة (ثم ذكره عشرة أوجه) ومنها، الخامس، أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل، والفطرة التي فطروا عليها كما قال تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}(2).
الثامن: قوله تعالى: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} أي لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار.
__________
(1) توقف صاحب الجواب المفيد عند هذه الفقرة، وترك ما بعدها، حيث لم يكمل الجملة!!؟
(2) سورة النساء، آية : 165.(211/253)
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليهم بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه كقوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون}(1)أي فكيف يصرفون عن التوحيد بعد هذا الإقرار منهم، أن الله ربهم وخالقهم، وهذا كثير في القرآن، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله، بقوله تعالى: {أفي الله شك فاطر السموات و الأرض} فالله تعالى إنما ذكرهم على ألسنة رسله بهذا الإقرار والمعرفة، ولم يذكرهم قط بإقرار سابق على إيجادهم، و لا أقام به عليهم حجة…)(2)، فالإمام رحمه الله يقرر ويؤكد – كما رأينا – أن الحجة لا تقوم إلا بإرسال الرسل، وهذا واضح لأصحاب الفهوم السليمة.
أما ما نقلوه عن رشيد رضا فالرد عليه من وجهين:
الوجه الأول: أنه يقول: (والآيات تدل على أن من لم تبلغه بعثة رسول لا يعذر يوم القيامة بالشرك بالله تعالى، ولا بفعل الفواحش والمنكرات التي تنفر منها الفطرة السليمة، وتدرك ضررها وفسادها العقول المستقلة.. الخ).
فهو لا يقصر عدم العذر على فعل الشرك، بل وحتى الفواحش والمنكرات التي تنفر منها الفطر السليمة، ولو لم يأتهم نذير، وصاحب "الجواب المفيد"(3)يرى العذر في جهل مثل هذه الأمور لمن لم تقم عليه الحجة، فكيف يستدل بهذا القول بعمومه؟ إذاً فقول رشيد رضا هنا مخالف لأجماع أهل السنة، فلم ينقل عن واحد منهم مثل هذا القول، لذلك لا يعتد بقول هذا لشذوذ رأيه.
__________
(1) سورة الزخرف، آية : 87.
(2) الروح لابن القيم 167، 168، وراجع نفس الكلام في شرح الطحاوية 270- 271، وانظر ما يؤيد هذا الفهم في مدارج السالكين 1/239، وما حصل في نقلهم من ابن القيم حصل مثله – تقريباً – في نقلهم عن الإمام ابن كثير حيث بتروا كلامه، واختاروا منه ما يناسبهم وما يخالف مقصود الإمام، انظر الجواب المفيد 19،20 وانظر العذر بالجهل لشريف هزاع ص103، 104.
(3) الجواب المفيد 53-66.(211/254)
الوجه الثاني: أن هذا القول فيه تأثر بمذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح العقليين، حيث يرتبون الثواب والعقاب على ذلك، أما أهل السنة فإنهم و إن قالوا بأن العقل يدرك الحسن والقبح بنفسه إلا أنهم لا يرتبون الثواب والعقاب إلا بما ورد بالشرع. (1)
وخلاصة مما سبق يقال: ليس في هذه الآية ما يدل على أن الميثاق المذكورة حجة مستقلة ولو لم يأتهم نذير، وليس في كلام الأئمة المعتبرين ما يدل صراحة على ذلك والله أعلم.
2- أما الاستدلال الآخر، والخاص بحكم أهل الفترة في الدنيا و الآخرة.
فيقال عنه، إن هذا الاستدلال لا علاقة له بمبحثنا هذا، حيث إن محل النزاع بيننا، حول المسلم الذي يثبت له عقد الإسلام ووقع في شيء من الكفر العملي أو الشرك جاهلاً ذلك.
أما هذه الأحاديث فهي في حكم من مات قبل بعثة محمد – صلى الله عليه وسلم- وفي حكم من لم تبلغهم الدعوة أصلاً، أي في أناس كفار كفراً أصليا، فلا مجال لقياسها على مسألتنا تلك. (2)
أضف إلى ذلك أن الأئمة وإن حكموا بكفر من لم تبلغهم الدعوة فقد اختلفوا اختلافاً واضحاً حول حكمهم في الآخرة، فلا نسلم للكاتب ما ذكر. (3)
3- أما حديث عمران بن الحصين – رضي الله عنه – وفيه أن النبي – صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً في يده حلقة من صفر.. الحديث.
فيجاب عنه بالتالي:
أ - الحديث ضعيف بجملته – كما بينا سابقاً – فلا يحتج به.
__________
(1) راجع حول مسألة التحسين والتقبيح ومذاهب الفرق فيها، رسالة الشيخ عبد الرحمن المحمود "القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه" 195-202، وكتاب "الحكمة والتعليل في أفعال الله تعالى د. محمد ربيع المدخلي 77-105.
(2) انظر، العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير لأحمد فريد ص33.
(3) سيأتي مبحث "أهل الفترة" إن شاء الله .(211/255)
ب-كذلك الشاهد من الحديث على مبحثنا هنا هو قوله: "فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً" وهذه اللفظة لم ترد إلا في رواية الإمام أحمد – رحمه الله – وقد علمت ضعف الحديث بشواهده، فكيف بدون الشواهد؟
ج- وعلى فرض صحة الحديث، يقال: إن الرسول – صلى الله عليه وسلم- لم يكفره ابتداءاً، بل أمره بنزع الحلقة لأن ذلك من أعمال الشرك، وقال له: " فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً" أي إن عملت هذا العمل بعد ذلك أي بعد إقامة الحجة عليه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ما أفلحت أبداً، إذاً الرسول – صلى الله عليه وسلم- عذره بالجهالة هذا يناقض استدلالكم. (1)
د- أما ما نقل عن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث قال: (فيه شاهد لكلام الصحابة: إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، و أنه لم يعذر بالجهالة)، فهذا القول نترك مناقشته إلى مبحث مستقل حول مذهب الإمام في هذه المسألة.
4- ومن استدلالاتهم حديث" دخل الجنة رجل في ذباب".. الحديث.
فقد ذكرنا سابقاً أن هذا الحديث موقوف على سلمان رضي الله عنه ولا يصح مرفوعاً هذا جانب، وجانب آخر هذا الحديث ليس في مسألة العذر بالجهل، و إنما يدخل في العذر بالإكراه، ولذلك قتلوا من أبى أن يقرب، ومن قرب دخل النار لأن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة و الله أعلم.
__________
(1) انظر العذر بالجهل لأحمد فريد 36، والعذر بالجهل لشريف هزاع 114، 115.(211/256)
قال الشنقيطي رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً}(1)، أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة، لأن قوله عن أصحاب الكهف: {إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم} ظاهر في إكراههم وعدم طواعيتهم ومع هذا قال عنهم {ولن تفلحوا إذاً أبداً} فدل على أن الإكراه ليس بعذر، ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذباباً قتلوه.
ويشهد له أيضاً دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله – صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(2)فإنه يفهم من قوله "تجاوز لي عن أمتي" أن غير أمته من الأمم لم يتجاوز لهم عن ذلك، وهذا الحديث و إن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديماً وحديثاً بالقبول، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة، أما هذه الأمة فقد صرح الله تعالى بعذرهم بالإكراه في قوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}(3).
أما ما ذكره من أقوال العلماء حول عدم العذر، فينبغي أن نعلم – قبل مناقشتها – أن الحجة تكون بالكتاب والسنة والإجماع، وليس المرجع في هذه المسائل خاصة إلى قول عالم بعينه مهما علا قدره.
__________
(1) سورة الكهف، آية : 20.
(2) رواه ابن ماجه كتاب الطلاق "باب طلاق المكره والناسي" رقم 2045، والحاكم 2/198، والبيهقي 7/356، 10/61، والدارقطني 497، والطبراني في الكبير 11/133، والصغير (الروض الداني 2/52، وحسنه الإمام النووي كما في جامع العلوم والحكم 350، وصححه الشيخ الألباني في حاشيته على المشكاة برقم 6264، وفي إرواء الغليل رقم 82، و أحمد شاكر في تحقيقه الأحكام لابن حزم 5/149.
(3) أضواء البيان 4/72-73.(211/257)
و إليك مناقشة ما نسب إلى بعض العلماء في هذه المسألة:
ما نقل عن الإمام القرافي من قوله: (… النوع الثاني (من أنواع الجهل): جهل لم يتسامح صاحب الشرع عنه …) إلى أن قال: (أما أصول الدين فلأن صاحب الشرع لما شدد في جميع الاعتقادات تشديداً عظيماً، بحيث إن الإنسان لو بذل جهده واستفرغ وسعه في رفع الجهل في صفة من صفات الله … ولم يرتفع ذلك الجهل، لكان بذلك الاعتقاد آثماً كافراً).
يجاب عن ذلك بأمور:
الأول: مر معنا من حديث الرجل من بني إسرائيل عذر من جهل صفة من صفات الله عز وجل ونحوها.
الثاني: بينا من قبل خطأ هذا التقسيم إلى أصول، وفروع، و الإمام هنا يقصد بالأصول – كما هو واضح – جميع الاعتقادات وبينا أن هناك أصول عملية كثيرة أهم من بعض مسائل العقائد، ولا يجوز جهلها في دار الإسلام.
الثالث: يظهر أن الإمام يتكلم عن حكم من اجتهد فأخطأ، وسيأتي إن شاء الله بحث هذه المسألة.
الرابع:نقل عن الإمام ما يخالف ذلك في نفس كتابه المذكور حيث قال: (إن التكليف بالتوحيد وعدم العذر بالجهل فيه من باب تكليف ما لا يطاق) (1)وغير التوحيد من مسائل أصول الدين من باب أولى أن يعذر بها.
2- مذهب شيخ الإسلام في هذه المسألة:
__________
(1) الفروق للقرافي 2/150.(211/258)
قبل مناقشة النصوص المذكورة عن شيخ الإسلام، نقدم مقدمة حول مذهبه في هذه المسألة فنقول: مر معنا تعليق شيخ الإسلام على حديث الرجل من بني إسرائيل الذي قال لأهله: لئن أنا مت فخذوني ثم ذروني ثم ارموني في البحر.. الحديث، حيث قال – رحمه الله – (فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى أو إنكار معاد الأبدان و إن تفرقت كفر، لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلاً بذلك، ضالاً في هذا الظن مخطئا، فغفر الله له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع أن لا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد، وذلك كفر – إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره…)(1).
وكذلك مر معنا قول حول مسألة تكفير المعين: (ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاه الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم) (2).
وهذه المسائل من أصول الدين التي لا يعذر بالجهل بها – على مذهب من لا يرى العذر بذلك- بل وبين شيخ الإسلام، فساد تقسيم الدين إلى أصول يكفر منكرها، والمخطيء فيها وفروع لا يكفر منكرها ولا المخطيء فيها، وبين أن هذا التقسيم لا أصل له عن السلف لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان، وهو تقسيم متناقض (… فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطيء فيها؟ وما الفصل بينهما وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع
__________
(1) انظر ص224.
(2) انظر ص213.(211/259)
الناس في محمد – صلى الله عليه وسلم- هل رأى ربه أم لا؟ وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل؟ وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية، ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل علمية، والمنكر لها يكفر بالاتفاق، و إن قال: الأصول هي المسائل القطعية، قيل له: كثير من مسائل العمل قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول – صلى الله عليه وسلم- وتيقن مراده منه، وعند رجل لا تكون ظنيه، فضلا عن أن تكون قطعية لعدم بلوغ النص إياه، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته) (1).
وبين أن الاعتبار بالتكفير بقيام الحجة أو عدم قيامها، بصرف النظر عن كون المسألة من العقائد أو الأحكام، أو من الفرائض الظاهرة المتواترة أو غير ذلك، قال رحمه الله: (… و أما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك، و أما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك.
فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون، وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا من التأويل) (2).
__________
(1) مجموع الفتاوي 23/346/347، وانظر 13/125،126، ومنهاج السنة 5/87-91.
(2) الإيمان الأوسط 151، 152، وانظر مجموع الفتاوي 35/165، 11/406، 407، 28/500، 501، 3/131 وغيرها .(211/260)
وقال أيضاً: (… كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول. فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطيء في تلك لا يحكم بكفره إلا بعد البيان له واستتابته – كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر – ففي غير ذلك أولى وأحرى..) (1)، وقال: (من شك في صفة من صفات الله تعالى، ومثله لا يجهلها فمرتد، و إن كان مثله يجهلها فليس بمرتد) (2).
أما من يقع في الشرك جهلاً فقد قال في حكمه – بعدما تكلم عمن اجتهد فأخطأ قال: (…بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك، فإن هذا لا ثواب فيه، و إن كان الله لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة، كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}(3).
لكنه و إن كان لا يعذب فإن هذا لا يثاب … و إذا نهاهم الرسول عنها فلم ينتهوا عوقبوا، فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسول، و أما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها…)(4)وقال أيضاً: (… والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، و إما مخطيء ضال، و أما بالمعنى الذي نفاه الرسول – صلى الله عليه وسلم-: فهو أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير الله ما لا يكون إلا لله فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها) (5)
__________
(1) المرجع السابق 161.
(2) الاختيارات العلمية 182، وانظر الإيمان الأوسط ص80.
(3) سورة الإسراء، آية : 15.
(4) مجموع الفتاوي 20/31،33.
(5) نفسه 1/112.(211/261)
فهذا النص صريح في حكم من صرف شيئا من أنواع العبادة كالاستغاثة إلى غير الله أنه لا يكفر إذا لم تقم عليه الحجة، وأصرح منه قوله – رحمه الله -: (فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور و إن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم- مما يخالفه) (1).
إذاً من كل ما سبق من النقولات يمكن أن نلخص مذهب شيخ الإسلام في هذه المسألة بما يلي:
إن من وقع في عمل من أعمال الكفر – سواء كان ذلك في العقائد أو الأحكام، وسواء كان في المسائل الظاهرة أو الخفية – بما في ذلك الوقوع في الشرك-(2)وكان جاهلاً الحكم، مثل أن يكون حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، فإنه لا يكفر حتى تقام عليه الحجة والله أعلم.
بعد كل ما سبق نأتي لمناقشة النصوص المنقولة عن شيخ الإسلام حول عدم العذر بالجهل في أصول الدين:
__________
(1) الرد على البكري 376، وانظر مجموع الفتاوى 1/372، 11/412، 413، 19/23، 219، منهاج السنة 5/111-113، وسنذكر مزيداً من النصوص عند الكلام عن العذر بالتأويل والتقليد .
(2) لا يعذر المرء في جهل مسألة الشرك أو الأحكام الظاهرة في دار الإسلام كما سيأتي .(211/262)
النص الأول: قوله (فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح … إلى قوله: مثل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب و إلا قتل) فيقال عن هذا النص: لا شك عندنا بكفر من فعل كل هذه الأمور، لكن هذا الكلام من باب التكفير بالعموم، وحديثنا حول تكفير المعين إذا فعل شيئا مما ذكر، وكان جاهلاً لم يبلغه الحكم، و أيضاً لا يلزم أن يقال في كل نص، من فعل كذا فقد كفر إلا أن يكون جاهلاً كما بينا من قبل.
أما النص الآخر الذي قال فيه: (… وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه فيها مخطيء ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر منكرها…).
فيجاب عنه بالتالي:(211/263)
لو رجعنا إلى النص في الفتاوى، لوجدنا شيخ الإسلام يتكلم عن طائفة معينة، وهي طائفة أهل الكلام، حيث قال في أول الكلام: (و أيضاً فإنه لا يعرف من أهل الكلام أحد إلا وله في الإسلام مقاله يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه، وفي التعميم ما يغني عن التعيين، فأي الفريقين أحق بالحشو والضلال من هؤلاء؟ وذلك يقتضي وجود الردة فيهم، كما يوجد النفاق فيهم كثيراً، وهذا إذا كان في المقالات الخفية.. إلى أن يقول: (ثم تجد كثيراً من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، و إن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام، فقد حكى عن الجهم بن صفوان: أنه ترك الصلاة أربعين يوماً لا يرى وجوبها… وأبلغ من ذلك: أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، و إن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام) (1)فهو كما ترى يتكلم عن أهل الكلام، وهؤلاء – كما لا يخفى – ليسوا حديثوا عهد بإسلام، ولا نشأوا ببادية بعيدة، فليسوا ممن يعذر بالجهل في المسائل الظاهرة ومما يؤكد هذا الفهم، قول شيخ الإسلام – رحمه الله -: (لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين… مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله.. ومثل أمره بالصلوات الخمس … ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك) ومثل هؤلاء (أي المتكلمين) لا يعذرون في جهل مثل هذه الأمور، وغيرهم ممن لم تقم عليهم الحجة يعذرون في مثل هذه الأمور كما مر معنا من كلامه – رحمه الله – وبهذا نعرف أن كلام شيخ الإسلام هنا لا يعارض كلامه المقرر سابقاً، والله أعلم.
3- مذهب الإمام ابن القيم في ذلك:
__________
(1) انظر النص بطوله، مجموع الفتاوي 4/53-55.(211/264)
أما ما نقلوه عن الإمام ابن القيم – رحمه الله – فليس له علاقة بموضوع بحثنا. فالإمام ابن القيم يتحدث عن طبقات المكلفين في الدار الآخرة، فبعد ما ذكر طبقات أهل الجنة، أخذ في تعداد طبقات أهل النار، ومنهم (الطبقة السادسة عشر: رؤساء الكفر وأئمته ودعاته.. ثم ذكر الطبقة السابعة عشر: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم…) إلى أن يقول: (وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار و إن كانوا جهالاً مقلدين لرءوسائهم وأئمتهم.. و الإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، و الإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاء به، فلما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، و إن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل..) (1).
فالإمام – كما ترى – يتكلم عن طبقات الكفار الأصليين ويبين أن منهم المعاند، ومنهم الجاهل… وكلهم كفار لم يخالف في ذلك إلا بعض أهل البدع(2)، وحديثنا ليس عن هذا، و إنما عن حكم من دخل في الإسلام بالشهادتين، ثم وقع في شيء من أعمال الكفر من الشرك أو غيره جاهلاً الحكم إما لحداثة عهده بالإسلام، أو غير ذلك، وهذا (أي موضوع بحثنا)، قال عنه الإمام ابن القيم وهو يتحدث عن أنواع كفر الجحود: (… والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام، أو تحريم محرم من محرماته، أو صفة وصف الله بها نفسه، أو خبراً أخبر الله به، عمداً، أو تقديماً لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض، و أما جحد ذلك جهلاً، أو تأويلاً يعذر فيه صاحبه، فلا يكفر صاحبه به، كحديث الذي جحد قدرة الله عليه..) (3)،
فهذا الإمام ابن القيم كما هو واضح من النص المذكور يرى العذر في إنكار حكم الفرائض واستحلال المحرمات، وأصول العقيدة من الصفات والأخبار ونحوها، فكيف يحكى عنه خلاف ذلك؟
4- مذهب الإمام محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة:
__________
(1) انظر طريق الهجرتين 380- 382.
(2) نفسه 382.
(3) مدارج السالكين 1/367، وانظر النص المنقول سابقاً عن المدارج 1/239.(211/265)
اختلفت النقول عن الإمام – رحمه الله – فهناك من ينسب له عدم العذر بالجهل في مسألة الشرك ونحوها، وهناك من ينقل عنه خلاف ذلك، ولأهمية رأي الإمام في هذه المسألة، سنحاول تجلية مذهبه باستقراء ما أمكن جمعه من النصوص المنقولة عنه، وسنبدأ بالنصوص الواردة حول العذر بالجهل في مسائل الشرك ونحوها:
قال رحمه الله: (… و إنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعدما نبين له الحجة على بطلان الشرك …)(1).
وكذلك قال مدافعاً عمن يتهمه أنه يكفر بالعموم: (… ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعدما عرف أنها دين للمشركين وزينه للناس، فهذا الذي أكفره، وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلا رجلاً معانداً أو جاهلاً والله أعلم) (2).
وذكر في إحدى رسائله أربع مسائل مهمة، ومنها: (الثالثة: تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونفر الناس عنه، وجاهد من صدق الرسول فيه، ومن عرف الشرك و أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بعث بإنكاره وأقر بذلك ليلاً ونهاراً، ثم مدحه وحسنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم، وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم) (3).
__________
(1) مجموعة الشيخ 12/60، وانظر في مذهب الإمام وكذلك أئمة الدعوة، كتاب "سعة رحمة رب العالمين" للسيد بن سعد الدين الغباشي 20-28، ودعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 170-177، وضوابط التكفير 311-317.
(2) نفسه 12/58.
(3) نفسه 12/25.(211/266)
ومن النصوص الصريحة له إعذاره جهلة القبوريين حيث قال: (… و إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل…)(1)وقوله – أيضاً -: (فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم ممن يعبد الأولياء والصالحين نحكم بأنهم مشركون ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية) (2).
قال العلامة عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ: (وقال شيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: سألني الشريف عما نقاتل عليه وما نكفر به؟ فقال في الجواب: إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان بعد التعريف إذا عرف ثم أنكر"(3).
(وقال قد سئل عن مثل هؤلاء الجهال فقرر: أن من قامت عليه الحجة وتأهل لمعرفتها يكفر بعبادة القبور، و أما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه فلا أدري ما حاله) (4).
وقوله: (… إن معصية الرسول في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم، كفر صريح، بالفطرة والعقول والعلوم الضرورية..) (5).
__________
(1) نفسه 9/فتاوى ومسائل ص11، وانظر الضياء الشارق لابن سحمان 372.
(2) الهدية السنية، الرسالة الرابعة 103.
(3) المورد العذب الزلال ضمن مجموعة "عقيدة الموحدين" ص186.
(4) حكم تكفير المعين للعلامة إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ص18.
(5) مفيد المستفيد ص27.(211/267)
وقال رحمه الله: في معرض رده على من يزعم أن شيخ الإسلام لا يكفر المعين: (على أن الذي نعتقده وندين الله به ونرجو أن يثبتنا عليه، أنه لو غلط هو أو أجل منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة أو المسلم الذي يفل هذا على الموحدين أو يزعم أنه على حق أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر والذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره) (1)فهذه النصوص – كما ترى – صريحة من الإمام في عدم تكفير المعين إلا بعد قيام الحجة " و أن ذلك يشمل مسألة الشرك، فلنأت الآن إلى مناقشة النصوص المنقولة عن الإمام المخالفة لذلك. (2)
النص الأول: قوله – رحمه الله -: (… إذا عرفت هذا عرفت لا إله إلا الله، وعرفت أن من نخا نبياً أو ملكاً أو ندبه، أو استغاث به فقد خرج من الإسلام)، فهذا النص – كما هو واضح – يتكلم حول التكفير بالعموم وليس حول مسألة تكفير المعين، ولا شك أن من فعل ذلك يكفر إذا قامت عليه الحجة.
__________
(1) مجموع الشيخ 1/289، 290.
(2) انظر هذه النصوص ص247، 248.(211/268)
النص الثاني: قوله: (فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه، وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل..) أيضاً هذا النص لا يخالف ما نقلنا عن الإمام سابقاً، فإن على المسلم أن يتعلم التوحيد، و أن يخلص العبادة لله ويتجنب كل ما ينافي الوحدانية من خوف أو نذر أو ذبح.. الخ، ومن فعل ذلك في دار العلم، أو فعل شيئاً من هذه الأمور مما لا يجهلها مثله لم يعذر بالجهل، فالعذر بالجهل ليس مطلقاً لكل أحد – كما سيأتي – لكن لا يمكن أن يفهم من النص أن الإمام يكفر الجاهل ممن هو حديث عهد بكفر أو نشأ ببادية بعيدة إذا تكلم بالكفر، وهو لا يدري، يقول الإمام رحمه الله في تعليقه على قصة ذات أنواط: (…ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم، بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل "التوحيد فهمناه" أن هذه من أكبر الجهل، ومكايد الشيطان. وتفيد – أيضاً – أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر، كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم-، وتفيد – أيضاً – أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- (1).
النص الثالث: قوله – رحمه الله – في تعليقه على حديث عمران بن حصين: (… أنه لم يعذر بالجهالة).
فيجاب عنه بما يلي:
__________
(1) كشف الشبهات 46.(211/269)
حديث عمران في الشرك الأصغر، وليس في الشرك الأكبر المخرج من الملة، فإذا كان الشيخ – كما نقلنا سابقاً – يعذر بالجهل في الشرك الأكبر، فالعذر بالشرك الأصغر من باب أولى، فيكون قول الشيخ " إنه لم يعذر بالجهالة" إما مقيد بأن ذلك بعد قيام الحجة عليه أو لأن الحجة قائمة عليه، أو أنه يقصد بقوله (لم يعذر بالجهالة) أي أنه يغلظ عليه كما في الحديث "انزعها" "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً" ونحوه(1)، وكما في حديث ذات أنواط قال الإمام محمد في تعليقه عليه: (… وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فأنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم-).
أما من قال: (فإذا كان الرجل لم يعذر بالجهالة في أمر من أمور الشرك الأصغر، فكيف بالشرك الأكبر؟!)(2)، فيقال له: إن الوقوع في الشرك الأصغر – حتى لو قامت الحجة على صاحبه – لا يصير صاحبه مرتداً عن الإسلام، بخلاف الوقوع في الشرك الأكبر بعد قيام الحجة، فكيف يقاس هذا على ذاك؟.
أما قول الإمام رحمه الله: (…. فإن الذي لم تقم عليه الحجة …الخ).
فأصل هذه المقالة، إجابة عن سؤال من بعض المشايخ(3)يسألون الإمام عن قول شيخ الإسلام ابن تيمية يقول فيه: (من جحد ما جاء به الرسول وقامت به الحجة فهو كافر).
__________
(1) انظر "سعة رحمة رب العالمين" السيد الغباشي 22،23.
(2) الجواب المفيد : 26.
(3) وهم عيسى بن قاسم، و أحمد بن سويلم فتاوي ومسائل 12.(211/270)
فأجاب الإمام: (… ما ذكرتموه من قول الشيخ كل من جحد كذا وكذا، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعه-م هل قامت عليهم الحجة أم لا؟ فهذا من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا وقد وضحته لكم مراراً؟ فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية، أو يكون في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف، و أما أصول الدين التي أوضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة…)(1)فقول الإمام هنا يجاب عنه بمثل ما أجيب به قول ابن تيمية السابق. (2).
فالإمام هنا يتكلم عن أناس معينين قد قامت عليهم الحجة، حيث أقام عليهم الإمام الحجة، فشرح لهم التوحيد وحذرهم من الشرك، فمثل هؤلاء لا يعذرون في مسألة التوحيد والشرك ولا في المسائل الظاهرة المتواترة.
__________
(1) مجموعة الشيخ 9/12، الفتاوي والمسائل.
(2) انظر ص262.(211/271)
ومن تأمل سيرة الإمام – رحمه الله – وأطلع على رسائله الشخصية وخاصة القسم الرابع منها(1)، يتبين له، هذا الفهم، ففي رسالته إلى أحمد بن إبراهيم مطوع مرات قال: (…وصار الخلاف في أناس معينين أقروا أن التوحيد الذي ندعوا إليه دين الله ورسوله، و أن الذي ننهى عنه في الحرمين والبصرة والحسا هو الشرك بالله، ولكن هؤلاء المعينين هل تركوا التوحيد بعد معرفته، وصدوا الناس عنه؟ أم فرحوا به وأحبوه ودانوا به وتبرأوا من الشرك وأهله؟ فهذه ليس مرجعها إلى طالب العلم بل مرجعها إلى علم الخاص والعام، مثال ذلك إذا صح أن أهل الحسا والبصرة يشهدون أن التوحيد الذي نقول دين الله ورسوله، و أن هذا المفعول عندهم في الأحياء والأموات هو الشرك بالله، ولكن أنكروا علينا التكفير والقتال خاصة، والمرجع في هذه المسألة إلى الحضر والبدو والنساء والرجال. هل أهل قبة الزبير وقبة الكواز تابوا من دينهم، وتبعوا ما أقروا به من التوحيد؟ أو هم على دينهم…)(2).
فيتضح لنا من هذا النص أن الشيخ يتكلم عن أناس معينين قد أقام عليهم الحجة فعرفوا التوحيد، بعد ذلك وقعوا في الشرك وعادوا أهل التوحيد، ولكي يؤكد الإمام كلامه هنا، بين أن العامة والخاصة من الحضر والبدو والنساء والرجال يشهدون بذلك (أي وقوعكم بالشرك بعدما عرفتم التوحيد) فهي مسألة لا تحتاج إلى عالم أو طالب علم ليثبتها، والله أعلم.
__________
(1) انظر مجموعة الشيخ والرسائل الشخصية 12/201- 245.
(2) المرجع السابق 12/204.(211/272)
ومثل ذلك ما جاء في رسالته إلى سليمان بن سحيم، حيث قال فيها: (… أنكم تقرون أن الذي يأتيكم من عندنا هو الحق و أنت تشهد به ليلاً ونهاراً، و إن جحدت هذا شهد عليك الرجال والنساء ثم مع هذه الشهادة أن هذا دين الله و أنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين ليلاً ونهاراً ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار فكيف تشهد أن هذا دين الله ثم تتبين في عداوة من تبعه؟
الوجه الثاني: إنك تقول إني أعرف التوحيد وتقر أن من جعل الصالحين وسائط فهو كافر والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد وتقرؤه لهم وتحضرهم وهم ينخون ويندبون مشايخهم ويطلبون منهم الغوث والمدد وتأكل اللقم من الطعام المعد لذلك، فإذا كنت تعرف أن هذا كفر فكيف تروح لهم وتعاونهم عليه وتحضر كفرهم؟.. إلى أن يقول: و أما الدليل على أنك رجل معاند، ضال على علم، مختار الكفر على الإسلام، فمن وجوه:
الأول: إني كتبت ورقة لابن صالح من سنتين فيها تكفير الطواغيت شمسان وأمثاله، وذكرت فيها كلام الله ورسوله وبينت الأدلة، فلما جاءتك نسختها بيدك لموسى بن سليم ثم سجلت عليها وقلت: ما ينكر هذا إلا أعمى القلب، وقرأها موسى في البلدان وفي منفوحة وفي الدرعية وعندنا، ثم راج بها للقبلة، فإذا كنت من أول موافقا لنا على كفرهم، وتقول: ما ينكر هذا إلا من أعمى الله بصيرته فالعلم
الذي جاءك بعد هذا يبين لك أنهم ليسوا بكفار بينه لنا…)(1).
__________
(1) انظر الرسالة بطولها، مجموعة الشيخ، الرسائل الشخصية 226-237، وانظر رسالته إلى رجل من أهل الاحساء يقال له أحمد بن عبد الكريم ص216-217.(211/273)
وبذلك نفهم من قول الإمام في آخر النص المذكور: (… و أما أصول الدين التى أوضحها الله في كتابه فإن حجة الله هي القرآن: فمن بلغه فقد بلغته الحجة…)(1)، أي (أصول الدين) من مسائل التوحيد والشرك والواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة، لا يعذر فيها أمثال هؤلاء المذكورين لأنهم ليسوا حديثي عهد بإسلام ولا نشأوا ببادية بعيدة، وليست هذه المسائل كالمسائل الخفية التي يعذرون بها مع عدم قيام الحجة.
يتضح لنا من كل ما سبق أن مذهب الإمام المجدد في هذه المسألة، هو مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أما قول الإمام في آخر النص (… ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة…) فيحتمل معنيين:
الأول: أن أمثال هؤلاء المذكورين، ممن بلغتهم الدعوة، وتمكنوا من فهمها، لا يعذرون بجهل الأحكام الظاهرة المتواترة ولا الواجبات الظاهرة المتواترة، ولذلك ضرب الإمام مثاليين يؤكدان هذا الفهم.
المثال الأول: الخوارج: فالخوارج عاشوا في دار العلم مع الصحابة فلا يمكن أن يدعوا أنهم لم يفهموا الحجة في مثل الأصول المجمع عليها.
والمثال الآخر: القدرية: قال رحمه الله: (وكذلك إجماع السلف على تكفير ناس من غلاة القدرية وغيرهم، مع كثرة علمهم، وشدة عبادتهم، مع كونهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل أنهم لم يفهموا) (2).
__________
(1) بعض من يحتج بهذا الكلام، يرى أن الحجة في أصول الدين قائمة بمقتضى الميثاق!! لكن الشيخ يؤكد أن حجة الله هي القرآن : فمن بلغه فقد بلغته الحجة، وانظر إرشاد المسلمين في الرد على القبوريين لابن معمر 68-72.
(2) مجموعة الشيخ 9/13.(211/274)
فانظر إلى قوله (مع كثرة علمهم) فهؤلاء ليسوا حديثي عهد بإسلام ولم يكن جهلهم في أمور خفية، فلا يعذرون بسبب سوء فهمهم، و أيضاً، انظر إلى دقة عبارة الشيخ حيث قال: (…على تكفير ناس من غلاة القدرية وغيرهم)، فلم يكفر السلف كل من قال بقول القدرية(1)، و إنما كفروا معينين قامت عليهم الحجة.
ومما يؤكد هذا الفهم، ما ذكره الشيخ في موضع آخر حيث قال: (… فإذا كان المعين، يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه}(2)، وقوله: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}(3))(4)، وقال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن في توضيح هذه المسألة عند تعليقه على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال فيه: (ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفه)، قال الشيخ عبد اللطيف: (وشيخنا رحمه الله قد قرر هذا وبينه وفاقاً لعلماء الأمة واقتداءاً بهم، ولم يكفر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل، حتى إنه رحمه الله توقف في تكفير الجاهل من عباد القبور إذا لم يتيسر له من ينبهه، وهذا هو المراد بقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى: " حتى يبين لهم ما جاء به الرسول – صلى الله عليه وسلم- ".
__________
(1) سيأتي تفصيل لذلك عند الكلام عن مسألة "حكم المتأولين"
(2) الأنعام، آية : 25.
(3) سورة الأنفال، آية : 22.
(4) مجموعة الشيخ 12/220،221.(211/275)
فإذا حصل البيان الذي يفهمه المخاطب ويعقله فقد تبين له، وليس بين بين وتبين فرق بهذا الاعتبار لأن كل من بين له ما جاء به الرسول أصر وعاند فهو غير مستجيب، والحجة قائمة عليه سواء كان إصراره لشبهة عرضت له، أو كان ذلك عن عناد وجحود واستكبار.. إلى أن يقول: وكذلك كل من بلغته دعوة الرسل بلوغاً يعرف منه المراد والمقصود، فرد ذلك لشبهة أو نحوها فهو كافر و إن التبس عليه الأمر وهذا لا خلاف فيه) (1)، من كل ما سبق ندرك خطأ من يحتجون بالكلام المذكور للشيخ على أنه لا يعذر في الأصول المجمع عليها بشكل مطلق.
الاحتمال الثاني: أن الفهم المقصود هنا هو (فهم الهداية، فليس كل من بلغته الحجة وفهمها يهتدى بها لكن الله قد جعل فهم الدلالة شرطاً في تكليف عموم الناس مؤمنهم وكافرهم، ولم يجعل فهم الهداية والتوفيق إلا لمن أراد لهم ذلك) (2)، وهذا الفهم هو المذكور في الآيات من مثل قوله تعالى: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}(3)، وقال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون…} الآية (4)وغير ذلك من الآيات، وبشكل عام لا تعارض بين الاحتمالين فكلاهما مكمل للآخر.
5- مذهب أئمة الدعوة في هذه المسألة:
هذا الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، و الإمام المجدد – رحمهم الله – هو الذي فهمه عنهم عامة أئمة الدعوة، وسأسرد ما وقفت عليه من كلامهم مما يؤيد ذلك:
__________
(1) مصباح الظلام، 325، 326، وانظر الضياء الشارق 374، 375، وانظر مبحثاً نفيساً حول الفرق بين قيام الحجة وفهمها، وبيان مذهب أئمة الدعوة في ذلك، "الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه" لعبد الرزاق معاش 152- 164 (رسالة ماجستير، مطبوعة على الآلة الكاتبة) .
(2) ضوابط التكفير، عبد الله القرني 344.
(3) سورة الأنفال، آية : 22.
(4) سورة الفرقان، آية : 44.(211/276)
أ-فهذا الإمام عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب(1)، يقول معلقاً على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية:
(وتأمل كلامه فيمن دعا نبياً أو ولياً أن يقول: يا سيدي فلان أغثني ونحوه، أنه يستتاب فإن تاب و إلا قتل، تجده صريحاً في تكفير أهل الشرك وقتلهم بعد الاستتابة وإقامة الحجة عليهم…(2)).
وفي موضع آخر نقل كلاماً طويلاً لشيخ الإسلام وفيه قوله: (… و أن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم-، ولكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول…)(3)، فقال الشيخ عبد الله بن محمد معلقاً على ذلك: (وتأمل – أيضاً – قوله الشيخ رحمه الله تعالى في آخر الكلام، ولا ريب أن أصل قول هؤلاء هو الشرك الأكبر والكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، و أن ذلك يستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين، كيف صرح بكفر من فعل هذا أو ردته عن الدين إذا قامت عليه الحجة من الكتاب والسنة، ثم أصر على فعل ذلك، وهذا لا ينازع فيه من عرف دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله محمداً –صلى الله عليه وسلم-، والله أعلم) (4).
__________
(1) من كبار أئمة الدعوة، ولد في الدرعية سنة 1165ه- له مؤلفات مفيدة منها " الكلمات النافعة " "وجواب أهل السنة النبوية" عرف بالشجاعة أبناؤه علماء أشهرهم سليمان صاحب "تيسير العزيز الحميد" توفي في مصر سنة 1242ه-. انظر: مشاهير علماء نجد ص 48، وعلماء نجد 1/48، الاعلام 4/131.
(2) الكلمات النافعة 17،18.
(3) انظر هذا الكلام ص261.
(4) الكلمات النافعة 78.(211/277)
وقال بعد كلامه عن الشفاعة، و أنها تطلب من الله عز وجل، وأن من قال: يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها، فقد وقع في الشرك، قال: (فإن قال قائل منفر عن قبول الحق و الإذعان له: يلزم من تقريركم وقطعكم في أن من قال: يا رسول الله أسألك الشفاعة – أنه مشرك مهدر الدم – أن يقال بكفر غالبة الأمة، ولا سيما المتأخرين لتصريح علمائهم المعتبرين أن ذلك مندوب.. إلى أن قال: ونحن نقول فيمن مات (تلك أمة قد خلت) ولا نكفر إلا من بلغته دعوتنا للحق، ووضحت له المحجة، وقامت عليه الحجة، وأصر مستكبراً معانداً، كغالب من نقاتلهم اليوم يصرون على ذلك الإشراك، ويمتنعون من فعل الواجبات، ويتظاهرون بأفعال الكبائر المحرمات… فإن قلت: هذا فيمن ذهل فلما نبه انتبه، فما القول فيمن حرر الأدلة، واطلع على كلام الأئمة القدوة، واستمر مصراً على ذلك حتى مات؟
قلت: ولا مانع من أن نعتذر لمن ذكر، ولا نقول إنه كافر، لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته بلسانه، وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة…) (1)
فانظر إلى آخر كلامه: (لعدم من يناضل في هذه المسألة في وقته..) نجده صريحاً في أن قيام الحجة يختلف من زمن إلى زمن ومن شخص إلى شخص، ولا فرق بين مسألة وأخرى.
__________
(1) عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – رحمهم الله – ولد في الدرعية سنة 1225، وغادرها إلى مصر أثناء سقوط الدرعية، ودرس على مشايخ مصر، ثم عاد إلى الرياض، له جهود دعوية في منطقة الإحساء، ألف رسائل كثيرة من أبرزها "منهاج التأسيس" و "مصباح الظلام"، من أبرز تلامذته الشيخ سليمان بن سحمان، توفي سنة 1293ه-، انظر "مشاهير علماء نجد" 290، و "علماء نجد" 1/63.(211/278)
ب- وهذا الشيخ الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن(1)يحكي مذهب الإمام المجدد، فيقول: (والشيخ محمد – رحمه الله – من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر حتى إنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور، أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه، ويبلغه الحجة التي يكفرمرتكبها) (2).
ويقول أيضاً: (فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر) (3)، وفي رده على ابن جرجيس، ذكر أن الناس معهم أنواع (مع دعوة الشيخ) إلى أن قال: (و إذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم وعدم من ينبههم…)(4)، وفي "مصباح الظلام" كرر هذا بعدما نقل كلام شيخ الإسلام السابق في رده على البكري فقال الإمام عبد اللطيف: (… فمن بلغته دعوة الرسل إلى توحيد الله ووجوب الإسلام له، وفقه أن الرسل جاءت بهذا لم يكن له عذر في مخالفتهم وترك عبادة الله، وهذا هو الذي يجزم بتكفيره إذا عبد غير الله، وجعل معه الأنداد والآلهة، والشيخ وغيره من المسلمين لا يتوقفون في هذا وشيخنا رحمه الله قد قرر هذا وبينه وفاقاً لعلماء الأمة واقتداء بهم، ولم يكفر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل، حتى إنه – رحمه الله – توقف في تكفير الجاهل من عباد القبور إذا لم يتيسر له من ينبهه) (5).
__________
(1) الهدية السنية ص46، 47 وانظر نصوصاً أخرى مجموعة الرسائل النجدية 1/246، 201.
(2) منهاج التأسيس ص65، 66.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل 3/5.
(4) تاريخ نجد عن كتاب محمد بن عبد الوهاب للقاضي أحمد بن حجر.
(5) مصباح الظلام 324، 325.(211/279)
ج- أما الشيخ سليمان بن سحمان فقد نقل في دفاعه عن الإمام محمد وأئمة الدعوة، قول الإمام: (و إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر أحمد البدوي لأجل جهلهم وعدم من ينبههم) (1)وقال – رحمه الله -: (أما تكفير المسلم فقد قدمنا أن الوهابية لا يكفرون المسلمين، والشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر تاركها) (2).
وقال أيضاً: (ونحن لم نكفر أحداً بذنب دون الشرك الأكبر الذي أجمعت الأمة على كفر فاعله، إذا قامت عليه الحجة، وقد حكى الاجماع على ذلك غير واحد كما حكاه في "الإعلام لابن حجر الشافعي"(3)، وقال ابن سحمان في كتابه "تبرئة الشيخين": (فلم يكفر- رحمه الله – إلا عباد الأوثان من دعاة الأولياء والصالحين وغيرهم ممن أشرك بالله وجعل له أنداداً بعد إقامة الحجة ووضوح المحجة، وبعد أن بدأوه بالقتال فحينئذ قاتلهم) (4).
__________
(1) منهاج الحق والاتباع ص56، وانظر نصا مشابهاً في الضياء الشارق 372.
(2) الضياء الشارق 372، وانظر في هذا المعنى ص211.
(3) الضياء الشارق ص82.
(4) تبرئة الشيخين ص68.(211/280)
د- وذكر ابن سحمان في كتابه " منهاج الحق والاتباع" قول الشيخ حسين بن محمد، و أخيه الشيخ عبد الله بن محمد لما سئلا عن مسائل عديدة فأجابا عنها ثم قالا: (و أما المسألة الثامنة عشرة في أهل بلد بلغتهم هذه الدعوة، وأن بعضهم يقول إن هذا الأمر حق، ولا غير منكراً ولا أمر بالمعروف ولا عادي … وينكر على الموحدين إذا قالوا تبرأنا من دين الآباء والأجداد… فما تقولون في هذه البلدة على هذه الحال؟ مسلمين أم كفاراً؟ وما معنى قول الشيخ إنا لا نكفر بالعموم؟ وما معنى العموم والخصوص؟ (الجواب) أن أهل البلد المذكورين إذا كانوا قد قامت عليهم الحجة التي يكفر من خالفها، حكمهم حكم الكفار، والمسلم الذي بين أظهرهم ولا يمكنه إظهار دينه تجب عليه الهجرة إذا لم يكن ممن عذر الله… والسامعين كلام الشيخ أنا لا نكفر بالعموم، فالفرق بين العموم والخصوص ظاهر، فالتكفير بالعموم أن يكفر الناس كلهم عالمهم وجاهلهم من قامت عليه الحجة ومن لم تقم، و أما التكفير بالخصوص فهو أن لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة بالرسالة التي يكفر من خالفها) (1).
__________
(1) منهاج الحق والاتباع ص58.(211/281)
ه-- وقال الشيخ السهسواني(1)صاحب كتاب: " صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" مدافعاً عمن يتهم الإمام محمداً بأنه يجعل بلاد الإسلام كفاراً أصليين، فقال: (و أما قول المفتري وجعل بلاد المسلمين كفاراً أصليين فهذا كذب وبهت ما صدر وما قيل، ولا أعرفه عن أحد من المسلمين فضلاً عن أهل العلم والدين بل كلهم مجمعون على أن بلاد المسلمين لها حكم الإسلام في كل مكان وزمان، و إنما تكلم الناس في بلاد المشركين الذين يعبدون الأنبياء والملائكة والصالحين ويجعلونهم أنداداً لله رب العالمين، ويسندون إليهم التصرف والتدبير كغلاة القبوريين، فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم، والمعروف المتفق عليه عند أهل العلم، أن فعل ذلك ممن يأتي بالشهادتين، يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردة ولم يجعلوه كافراً أصلياً…)(2).
ولخص كلام الشيخ أن هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام ممن أتوا بالشهادتين، لا يحكم عليهم بالردة إذا فعلوا الشرك إلا بعد بلوغ الحجة.
__________
(1) هو محمد بن بشير السهسواني الهندي: عالم بالحديث والفقه، ولد في لكنهؤ سنة 1250ه-، دعاه صديق خان إلى بهوبال سنة 1295، ففوض إليه رياسة المدارس الدينية فيها، له عدة مؤلفات، توفي في دلهي سنة 1326ه- انظر الأعلام 6/53.
(2) صيانة الإنسان 445، أصل هذه المقالة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، انظر مصباح الظلام ص22، 23.(211/282)
و- هذا العلامة أبو المعالي محمود شكري الألوسي(1)أحد أكبر أنصار دعوة الشيخ في العراق في رده الشهير على النبهاني صاحب كتاب (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) يقرر هذا الأمر في كتابه، بعد ما ساق كلاماً طويلاً لشيخ الإسلام في رده على البكري، ومنه الكلام الذي ذكرنا من قبل فيقول – رحمه الله-: (والذي تحصل مما سقناه من النصوص: أن الغلاة ودعاة غير الله وعبدة القبور إذا كانوا جهلة بحكم ما هم عليه، ولم يكن أحد من أهل العلم قد نبههم على خطئهم فليس لأحد أن يكفرهم، و أما من قامت عليه الحجة و أصر على ما عنده واستكبر استكباراً، أو تمكن من العلم فلم يتعلم فسنذكر حكمه في الآتي …)(2).
فهذه مجموعة نقولات عن ستة من كبار أئمة الدعوة وأنصارها وهم الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وأخوه حسين بن محمد والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ السهسواني والعلامة الألوسي، وهي واضحة كل الوضوح، متشابهة في عباراتها – لا تحتاج إلى شرح وإيضاح، حرصت على سردها كلها ليتبين للقاريء أن هذا الأمر معروف ومشهور عندهم.
ولم أقف على ما يخالف ذلك عن أئمة الدعوة إلا ما نقل عن الإمام أبي بطين، مما ذكرناه سالفاً، وسنأتي الآن لمناقشة قوله – رحمه الله -.
__________
(1) محمود شكري بن عبد الله بن شهاب الدين محمود الألوسي الحسيني، أبو المعالي، ولد في رصافة بغداد سنة 1273ه-، جده الإمام محمود شهاب الدين صاحب التصانيف الشهيرة، ومن أشهرها تفسير "روح المعاني" تلقى أبو المعالي العلم عن أبيه وعمه العلامة نعمان خير الدين، مؤلف كتاب "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" من أعلام المدرسة السلفية المعاصرة، ساهم في نشر المذهب السلفي في العراق، ورد على أهل البدع، له مؤلفات كثيرة تربوا على الخمسين، توفي في بغداد سنة 1342ه-. انظر الأعلام 7/172،173، ومقدمة غاية الأماني .
(2) غاية الأماني في الرد على النبهاني 1/36.(211/283)
6- مذهب الإمام عبد الله أبي بطين – رحمه الله – في هذه المسألة:
اشتهر عن الإمام قوله بعدم العذر بالجهل فيمن يقع في الشرك، ونقلنا سابقاً بعض النصوص عنه التي يحتج بها من لا يرى العذر بذلك، ونسب هذا القول إلى الإمامين ابن تيمية وابن القيم، وملخص كلامه السابق (أن العذر بالجهل لمن يقع في الشرك لا أصل له في كلام الإمامين، و إنما العذر يكون في المسائل الخفية، وقال: إن من يقول غير ذلك يلزم من قوله إنه لا يكفر إلا المعاند).
ولكن الإمام أبا بطين – رحمه الله – له كلام آخر يخالف هذا الكلام وفيه شيء من التوضيح، حيث قال: بعدما حكى قول شيخ الإسلام في رده على البكري(1)، قال: (فقوله رحمه الله: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، أي لم يمكن تكفيرهم بأشخاصهم وأعيانهم بأن يقال فلان كافر ونحوه، بل يقال هذا كفر ومن فعله كافر، أطلق رحمه الله على فاعل هذه الأمور ونحوها في مواضع لا تحصى، وحكى إجماع المسلمين على كفر هذه الأمور الشركية …)(2)، فكيف تجمع بين هذين المختلفين؟ فالجواب عن ذلك أن يقال:
لعل مقصد الإمام رحمه الله الرد على من ينفي تكفير جاهل التوحيد بشكل مطلق، حتى لو كان في دار إسلام وعلم، انظر إلى تعليقه على قصة الرجل من بني إسرائيل حيث قال: (ولازم هذه الدعوى أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند)، والذين يعذرون بذلك لا يقولون هذا، و إنما يقولون إن جاهل التوحيد في دار العلم و الإسلام ولديه قدر من الإدراك لا يعذر فلا يلزم أن لا يكفر إلا المعاند.
__________
(1) انظر القول تمامه ص261.
(2) الانتصار لحزب الله الموحدين ص29، "ضمن مجموعة" " عقيدة الموحدين".(211/284)
وانظر إلى قوله: (وقولك: إن الشيخ تقي الدين وابن القيم يقولان أن من فعل هذه الأشياء لا يطلق عليه أنه كافر مشرك حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية).. و الإمامان ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، لا يقولون ذلك بإطلاق، و إنما يقولان إن حديث العهد بإسلام، ومن نشأ ببادية بعيدة ونحوه يعذر بذلك أما غيرهم فلا.
ويحتمل أن يكون رجع عن هذا القول، ويحتمل أن يكون قد التبس عليه مذهب الشيخين في هذه المسألة. وبكل حال، فمذهب الشيخين واضح في هذه المسألة – كما بيناً سابقاً – فلا حاجة للإعادة والله الموفق للصواب.
مذهب الإمام الصنعاني:(1)
أما القول المروي عن الإمام الصنعاني فيمن يعتقدون في القبور و الأولياء بأنهم لا يعذرون بالجهل، و أنهم كفار كفراً أصلياً لأنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد. (2)
فيمكن أن نلحظ عدة أمور:
__________
(1) هو، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، ولد في مدينة كحلان سنة 1099ه-، من أبرز علماء اليمن تصدى للبدع والشركيات والتعصب المذهبي، له نحو مائة مؤلف أشهرها "سبل السلام" و "توضيح الأفكار" و "تطهير الاعتقاد" توفي في صنعاء سنة 1182ه-، انظر الاعلام 6/38.
(2) انظر قول الصنعاني ص248.(211/285)
الأول: اعتبار هؤلاء كفاراً كفراً أصلياً، يظهر – والله أعلم – أنه رأي شاذ، و إنما من فعل هذه الأمور بعد قيام الحجة يكون مرتداً، قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (…فهؤلاء تكلم الناس في كفرهم وشركهم وضلالهم، والمعروف المتفق عليه عند أهل العلم أن من فعل ذلك ممن يأتي بالشهادتين يحكم عليه بعد بلوغ الحجة بالكفر والردة، ولم يجعلوه كافراً أصلياً وما رأيت ذلك لأحد سوى محمد بن إسماعيل في رسالته تجريد التوحيد المسمى "بتطهير الاعتقاد" وعلل هذا القول بأنهم لم يعرفوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص، فلم يدخلوا بها في الإسلام مع عدم العلم بمدلولها، وشيخنا لا يوافقه على ذلك) (1).
ووجه الشذوذ أن من نطق الشهادتين فقد دخل الإسلام، من جهة الحكم الدنيوي فيعامل معاملة المسلمين حتى يتبين لنا ما يناقضها، فإذا تبين صار مرتداً ومن قال إنه كافراً كفراً أصلياً فإنه يلزم من قوله أنه لم يدخل الإسلام أصلاً بحجة أنه لم يفهم معنى الشهادة، وهذا مخالف، لما قرره أهل العلم في ذلك، لأن فهم المعنى ليس شرطاً في الحكم على الشخص بالإسلام، و إنما هو شرد للنجاة في الآخرة.
__________
(1) مصباح الظلام 22،23.(211/286)
الثاني: والصنعاني – رحمه الله – و إن اعتبرهم كفاراً أصليين إلا أنه يظهر من كلامه عنهم أنهم لا يعاملون كمعاملة الكفار في كل شيء، قال: (فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المشركين. قلت: إلى هذا ذهب طائفة من أئمة العلم فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر، لا يغنى عنهم من الله شيئا.. وهذا واجب على العلماء أي بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور والنحائر والطواف والقبور شرك محرم.. فإذا أبانت العلماء ذلك للأئمة والملوك بعث دعاة إلى إخلاص التوحيد، فمن رجع وأقر حقن عليه دمه وماله وذراريه، ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح الرسول –صلى الله عليه وسلم- من المشركين) (1) فانظر كيف لم يحكم بحل دم إلا من أصر بعد إقامة الحجة الواضحة عليه، ولو كانوا كفاراً أصليين لما كان هذا لازماً لأن الكافر الأصلي يقاتل إن كانت بلغته الدعوة. (2).
الثالث: أننا نقول حتى لو اعتبرهم مرتدين بهذا الفعل، فإن ذلك يكون بعد إقامة الحجة عليهم.
الرابع: ذكر الإمام الشوكاني – رحمه الله – رأيا آخر للإمام الصنعاني أكثر شذوذاً من هذا القول ويناقض قوله السابق، حيث حكى عنه أنه يعتبر دعاء الأولياء والاستغاثة بهم من الكفر العملي غير المخرج من الملة وليس من الشرك المخرج، مما يدل على نوع من اضطراب في مذهب الصنعاني في هذه المسألة.
قال الشوكاني – رحمه الله -: (ومن جملة الشبه التي عرضت لبعض أهل العلم ما جزم به السيد العلامة محمد بن اسماعيل الأمير- رحمه الله تعالى – في شرحه لأبياته التي قال في أولها:
__________
(1) تطهير الاعتقاد 132، ضمن مجموعة " عقيدة الموحدين".
(2) انظر سعة رحمة رب العالمين، للسيد الغباشي ص27.(211/287)
رجعت عن النظم الذي قلت في نجدي(1) فإنه قال: إن كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العملي لا الكفر الجحودي، ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة.. وكفر تارك الحج.. ونحو ذلك من الأدلة الواردة فيمن زنى وسرق ومن أتى أمرأة حائضاً أو امرأة في دبرها أو أتى كاهناً أو عرافاً أو قال لأخيه يا كافر، قال: فهذه الأنواع من الكفر و إن أطلقها الشارع على فعل هذه الكبائر فإنه لا يخرج به العبد عن الإيمان … ثم قال السيد المذكور: قلت: ومن هذا (يعني الكفر العملي) من يدعو الأولياء ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويقبل جدرانها وينذر لها بشيء من ماله فإنه كفر عملي لا اعتقادي… إلى أن يقول: فالذي أتوه من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد، فالواجب وعظهم وتعريفهم جهلهم وزجرهم، ولو بالتعزير كما أمرنا بحد الزاني والشارب والسارق من أهل الكفر العملي، وقد ثبت أن هذه الأمة تفعل أموراً من أمور الجاهلية هي من الكفر العملي كحديث "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن، الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة" أخرجه مسلم في صحيحه) (2) (3)
__________
(1) يؤكد بعض المؤرخين أن الصنعاني تراجع عن مدحه لدعوة الشيخ المجدد كما قال البسام في "علماء نجد" 3/948، ويرى الشيخ ابن سحمان في كتابه "تبرئة الشيخين الإمامين" الذي يدافع فيه عن الإمام المجدد وعن الصنعاني – يرى ابن سحمان أنه لم يتراجع، و الإمام الشوكاني هنا يؤكد أنه تراجع و أنه شرح قصيدته التي تراجع فيها، ولعل رأيه أقرب بحكم معرفته لعلماء بلده والله أعلم، انظر تفصيل لذلك في "تبرئة الشيخين" 182-195، و "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب "ص39.
(2) والحديث أخرجه مسلم في صحيحه رقم 934 كتاب الجنائز : باب التشديد في النياحة، و أحمد في المسند 2/455، والبيهقي 4/63، الطحاوي في معاني الآثار 4/309، البغوي في شرح السند 5/437.
(3) الدر النضيد 32-34، وانظر رد الإمام الشوكاني عيه 34-43.(211/288)
فهذا الاضطراب في مذهب الإمام إضافة إلى الأسباب الأخرى التي ذكرنا – تجعلنا لا نعتمد رأيه في هذه المسألة و الله أعلم.
أقوال أخرى للأئمة في مسألة العذر
بالجهل في أصول العقيدة المجمع عليها
1- قال الإمام الشافعي: رحمه الله – (لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، و أما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر) (1).
2- وقال الإمام الطبري – رحمه الله -: عند تفسيره لقوله تعالى: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين}(2): (… و أما قوله: "قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين" فإنه يعني: قال عيسى للحواريين القائلين له: " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"، راقبوا الله، أيها القوم، وخافوا أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفر به، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته، " إن كنتم مؤمنين" يقول: إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم:" هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء"؟)(3).
__________
(1) فتح الباري 13/418، وانظر الإيمان الأوسط 80.
(2) سورة المائدة، آية : 112.
(3) تفسير الطبري (شاكر) 11/223، وانظر أدلة ترجيحية لهذه القراءة 11/218-224، وقال ابن حزم: (فهؤلاء الحواريون الذين أثنى الله عز وجل عليهم، قد قالوا بالجهل لعيسى عليه السلام : هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟! ولم يبطل بذلك إيمانهم وهذا مالا مخلص منه وإنما كانوا يكفرون لو قالوا ذلك بعد قيام الحجة وتبينهم لها ) الفصل 3/253.(211/289)
3- وقال الإمام ابن حزم – رحمه الله-: (وصدق أبو يوسف القاضي إذا سئل عن شهادة من يسب السلف الصالح فقال: لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما قبلت شهادته فكيف من يسب أفاضل الأمة؟ إلا أن يكون من الجهل بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم، فهذا لا يقدح سبهم في دينه أصلاً، ولا ما هو أعظم من سبهم لكن حكمه أن يعلم ويعرف، فإن تمادى فهو فاسق، و إن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله – صلى الله عليه وسلم- فهو كافر مشرك، ولو أن آمرءاً بدل القرآن مخطئا جاهلا أو صلى لغير القبلة، كذلك ما قدم ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام حتى تقوم عليه الحجة بذلك) (1).
4- وقال الإمام ابن العربي المالكي – رحمه الله -: (الطاعات كما تسمى إيماناً، كذلك المعاصي تسمى كفراً، لكن حيث يطلق عليها الكفر لا يراد عليه الكفر المخرج من الملة، فالجاهل والمخطيء من هذه الأمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركاً أو كافراً فإنه يعذر بالجهل والخطأ، حتى يتبين له الحجة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مما أجمعوا عليه إجماعاً قطعياً يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع) (2)
5- وقال الإمام الشوكاني:- رحمه الله-: (…فلابد من شرح الصدر بالكفر، وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه…)(3).
__________
(1) الأحكام في أصول الأحكام 1/133.
(2) نقلاً عن محاسن التأويل للقاسمي 5/1307.
(3) الروضة الندية 2/291.(211/290)
6- وقال الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني: أحد أبرز أئمة المدرسة السلفية في هذا الوقت في شرحه لهذه المسألة: (كثير من جماهير المسلمين اليوم يعيشون بين المسلمين يصومون ويصلون، ومع ذلك لم يفقهوا التوحيد الذي هو أس الإسلام كما ذكرنا، هل بلغتهم الدعوة؟ أنا أقول لم تبلغهم الدعوة، المفروض أن هؤلاء تبلغهم الدعوة من مشايخهم الذين يتلقون عنهم العلم ولكن لا أقول أن هؤلاء (أي المشايخ) ينطبق عليهم الكلام المأثور فاقد الشيء لا يعطيه… فعامة المسلمين اليوم الذين نسمع منهم الشرك… وهو داخل المسجد تزل القدم فيقول يا "باز" أأنت ذاهب إلى مسجد الباز، تعبد الباز، أم تعبد خالق الباز ورب الباز؟ مسكين هذا لا يعلم لكنه يجهل أن قوله "أغثني يا باز" هو عبادة للباز من دون الله تبارك وتعالى… وليس هذا فقط فهو يدخل المسجد ويكون في المسجد قبر فيأتيه ويطلب منه ما يطلبه من الله تعالى أقول مع هذه الدلالات كلها نحن لا نستطيع أن نكفر هؤلاء المسلمين لأنه لم تقم الحجة عليهم، لأنه ليس هناك دعاة كفؤ سيطروا على جو سوريا مثلاً فضلاً عن بلاد أخرى وبلغت هذه الجماهير دعوة التوحيد خالصة لا شرك فيها…)(1).
أكتفي بهذه الأقوال الصريحة التي لا تحتاج إلى تعليق، وتنسجم مع ما نقل عن الأئمة سابقاً.
خلاصة ما سبق:
__________
(1) سعة رحمة رب العالمين ص36 عن شريط مسجل للسيخ الألباني لم أستطع الحصول عليه، وانظر أقوال أخرى للشيخ شبيه بهذا القول في كتاب "الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي " د.صلاح الصاوي ص104-112.(211/291)
من خلال عرض أدلة الفريقين يتبين لنا شكل جلي أن أدلة العذر بالجهل عامة وشاملة للأصول المجمع عليها، للدلالة الصريحة من نصوص السنة على ذلك، مثل حديث الرجل من بني إسرائيل، وحديث صلة بن زفر عن حذيفة، وحديث ذات أنواط، وحديث سجود معاذ للنبي – صلى الله عليه وسلم وهذا الذي فهمه أئمة أهل السنة وقرروه في مصنفاتهم، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية، و الإمام ابن القيم، و الإمام محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة من بعده، وخلاصة مذهبهم – باختصار -: (أن حديث العهد بإسلام، أو من نشأ ببادية بعيدة، من في حكمهم مثل أن ينشأ في بيئة ينتشر فيها الشرك ويقل فيها الدعاة إلى التوحيد، يعذر بجهل الأحكام الظاهرة المتواترة من الواجبات والمحرمات، وكذلك في أصول العقائد ولا فرق، أما من أنكر شيئاً مما ذكر في دار إسلام وعلم فإنه يكفر بمجرد ذلك، ولا يكفر بإنكاره مسائل خفية، أو شيئاً من الأمور المتواترة التي لا تعرف إلا عند الخاصة).
أما من يذهب إلى أن أصول العقائد، أو مسائل أصول الدين المجمع عليها من الأحكام والعقائد، أو مسألة الوقوع في الشرك خاصة، لا يعذر فيها فليس معه أدلة من الكتاب أو السنة إلا أن يكون دليلاً عاماً غير صريح الدلالة، أو دليلاً ضعيفاً من جهة سنده، أما ما نسبوه إلى بعض العلماء من القول بذلك فيجاب عنه بجوابين: أحدهما:أن الحجة تكون بالكتاب والسنة والإجماع، أما أقوال العلماء، فيحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية.
الثاني: أن هذه الأقوال المنسوبة إلى العلماء، إما آراء شاذة، أو أقوال محتملة، أو نسبة غير دقيقة، مثل ما نسبوه إلى شيخ الإسلام وإلى الإمام محمد بن عبد الوهاب رجمهم الله كما بينا سابقاً.(1)
__________
(1) تنبيهات لابد منها:
وبعد أخي القارئ، لعل من المناسب بعد نهاية هذا المبحث الهام ذكر بعض التنبيهات والضوابط لعلها تساعد في فهم وإدراك مذهب السلف في هذه المسألة وأسباب اللبس فيها، ولعلها-أيضاً- تساهم في تقريب وجهات النظر، ووضع المسألة في مكانها الطبيعي، ومن أهم هذه التنبيهات: (1)
(1) ينبغي أن نعلم أن هذه المسألة ليست من المسائل التي يبدع فيها المخالف، بل من موارد الاجتهاد نظراً لتداخل بعض جزئياتها، فالمخالف مجتهد مخطئ في اجتهاده، ودافع الفريقين غالباً الغيرة على التوحيد، وعدم تمييع مسائل العقيدة، أما تضخيم القضية، وتضليل المخالف، وإلزامه بلوازم لم يقل بها، فهو خلل وانحراف، أما إذا التزم أحد الفريقين بأي من اللوازم الباطلة فهو مبتدع، وإليك الإشارة إلى أهم هذه اللوازم .
------------
يمكن مراجعة بعض التنبيهات السابقة 1/234-243.
(2) من اللوازم التي قد يقع فيها بعض من يقول بعدم العذر بالجهل في مسائل العقائد :
أ - مخالفة منهج السلف في الاحتياط في تكفير المعين أو التأثر بمذهب الخوارج، في هذا الباب .
ب- اللبس في مسألة التحسين والتقبيح العقليين أو القول:بأن الحجة تقوم بدون إرسال الرسل .
ج- التوقف في الحكم بإسلام بعض المعينين ممن لم تقع عليهم الحجة وهذه ينبغي عدم إلزام كل من يقول ذلك بها.
(3) ومن اللوازم التي يقع فيها بعض من يرى العذر في مسائل العقيدة، وخاصة من لا يدرك هذا المذهب .
أ-عدم تكفير من يحكمون القوانين(التكفير بالعموم).
ب-الميل إلى مذهب الإرجاء، ومن ذلك حصر الكفر بالجحود فقط.
لكن هذه اللوازم ليست لازمة لكل القائلين بذلك، بل أكثر من يقول ذلك يكفر من يحكمون القوانين، ولا يحصر الكفر بالجحود بل يكفر المعرض والممتنع ..إلخ، ويشترطون جنس العمل للإيمان، وكذلك النطق بالشهادتين ..إلخ، وكذلك لا يعذرون كل جاهل في مسائل الأصول، بل من كان مقيماً في دار الإسلام لا يعذر له، فلا يلزم من القول تمييع العقيدة والتوحيد .
(4) أؤكد ما بينته في ثنايا البحث من أن الجاهل المفرط لا يعذر بوجوده في دار الإسلام (مظنة العلم)، وقدرته على التعلم والفهم، وإنما العذر لمن لا يقدر على التعلم أو الفهم، أو لم تصله الحجة الصحيحة – أي أن الجهل عذر مؤقت، ومقيد بعمد توفر بعض الشروط، فإذا وجدت هذه الشروط أو أمكن وجودها تقديراً، فإن الجهل لا يبقى عذراً.
(5) أكرر ما ذكرته سابقاً من أن وجود السلطة الشرعية لتقيم الحجة وليستتب من يقع في الشرك جهلاً، هو الذي يحسم النزاع من الناحية العملية، لأن الأنظار تختلف حول قيام الحجة على فلان أو الطائفة الفلانية، أو أهل البلد الفلاني، فالمسألة نسبية كما نقلنا عن الأئمة.
(6) لعل من المفيد التذكير بالفرق بين التكفير بالعموم والتكفير المعين، فذم الشرك، ومن يقع فيه والتحذير من صوره، وتكفير فاعله والجهاد من أجل ذلك شئ، وتكفير كل من يرتكب شيئاً منه وعدم عذره بأي حال أمر آخر.
(7) ينبغي عدم فصل مسألة العذر بالجهل عن مسألة العذر بالتأويل أو الخطأ في الاجتهاد، فحين البحث في المسألة من المفيد تأمل السلف من بعض الفرق المؤلة (كالجهمية،والمعتزلة والرافضة،والخوارج..)، وهل كفروا جميعاً، وهل كفروا أعيانهم بشكل مطلق برغم انحرافاتهم العقدية الجلية والكثيرة؟، إذاً تكفير المتأولين بأعيانهم مطلقاً بصرف النظر عن قيام الحجة على المعين، مخالف لمذهب السلف في الاحتياط في تكفير الأعيان، رغم أن هؤلاء منهم الكافر ومنهم المبتدع الضال ومنهم الجاهل أو المخطئ الذي لا يكفر.
(8) أيضاً، يمكن أن نسأل من لا يعذرون بالشرك مطلقاً، ما الحكم في بعض العلماء الذين التبست عليهم بعض صور الشرك فزينوا التوسل بالأولياء أو الاستغاثة بهم الخ.. من أمثال السبكي والسيوطي والهيثمي، هل نقول أنهم لا يعذرون بالجهل أو التأويل فيكفرون لأنهم لم يفهموا التوحيد؟ أم معذرون في الحكم الأخروي فقط؟!.
(9) لذلك يعجب المرء من حماسة البعض واصرارهم بدافع الغيرة على التوحيد، على عدم العذر في أصول العقيدة رغم أن هذا القول فيه تكفير لفئات كثيرة من الفرق المبتدعة وأتباعهم، ممن لم تقم الحجة على كثيره، ورغم الخلاف الواضح في المسألة، ألا يكون ذلك من باب التكفير بالظن؟
(10) العذر بالجهل لا يشمل من يقع في أمور فيها نقض مجمل لأصول الإسلام، مثل أن يسجد للصنم أو للشمس والقمر، أو ينكر نبوة محمد –صلى الله عليه وسلم – أو لا يؤمن باليوم الآخر، أو يزعم أن لله صاحبة أو ولد أو يعتقد ألوهية البشر كبعض الباطنية، أو يعتقد أن بعض الناس يسعهم الخروج عن الشريعة ونحو ذلك (1)، فالعذر يكون لمن وقع في بعض الانحرافات العقدية، أو بعض آحاد الشرك وصوره ولم تقم عليه الحجة، فمحل العذر ما يتعلق بتفاصيل التوحيد لا بأصله والله أعلم، إذاً لابد من الأقرار المجمل بالإسلام والتوحيد والبراءة المجملة من الشرك وأهله.
(11) البحث الموضوعي يقتضي من الباحث جمع جميع الأدلة والأقوال في المسألة، وليس انتقاء أقوال تؤيد ما يذهب إليه، ولذلك أقول لبعض من يرجحون عدم العذر بشكل مطلق، وينسبون ذلك لبعض الأئمة كابن تيمية وابن عبد الوهاب، بدلاً من أن تردوا على بعض الباحثين المعاصرين، الأولى مناقشة وتوجيه أقوال هؤلاء الأئمة الصريحة في العذر في أصول العقيدة، رغم جهودهم المشهورة في نشر العقيدة والذب عنها، فما ذهب إليه من يقول بالعذر منقول عنهم وأكثر الاستدلالات هي استدلالاتهم، والقول بعموم العذر بضوابطه الشرعية هو مذهب السلف، ولم يعرف عنهم التفريق بين الأصول والفروع الذي جاء به المتأخرون .
وفي الختام أحيل إلى رسالة قيمة في هذا الباب بعنوان "الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه" للأخ عبد الرازق معاش، وهي عبارة عن رسالة ماجستير من جامعة الإمام باشراف فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك، وهي رسالة متميزة في بابها، وشاملة لمسألة العذر بالجهل وتفريعاتها. نسأل الله التوفيق والصواب.
-------------------
(1) يمكن مراجعة مبحث التأويل ففيه الإشارة إلى بعض الأمور التي لا عذر فيها لمتأول، وهكذا الجهل.(211/292)
حكم من لم تبلغهم الدعوة
ويسمون أهل الفترة، قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله – في تعريف الفترة: (هي ما بين كل نبيين كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام ومحمد – صلى الله عليه وسلم -(1)).
وقال الألوسي في تفسيره: (أجمع المفسرون بأن الفترة هي انقطاع ما بين رسولين) (2)و أهل الفترة: (هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثاني كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبي – صلى الله عليه وسلم-..) (3)ثم صار يطلق عند كثير من العلماء على كل من لم تبلغهم الدعوة، بما فيهم أطفال المشركين(4).
ومن باب الاختصار سأكتفي بعرض لأهم الأقوال ثم بيان القول الراجح في هذه المسألة لعدة أسباب منها:
أن الكلام في هذه المسألة ليس له علاقة بمسألة العذر بالجهل – سواء قلنا: إن أهل الفترة معذورون أو غير معذورون، فمحل النزاع في مسألة العذر بالجهل، حول من يثبت له حكم الإسلام، ثم يقع في شيء من النواقض جاهلاً ذلك. (5)
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/35.
(2) روح المعاني 6/103، وانظر تفسير الطبري 10/156، جامع الجوامع للسبكي 1/63.
(3) الحاوي للفتاوي للسيوطي 2/209، والتعريف المذكور لأبي عبد الله الأبي في شرحه لمسلم.
(4) بعض أهل العلم يفرق بين حكم أطفال المشركين وغيرهم ممن لم تبلغهم الدعوة لورود أدلة خاصة بهم.
(5) سبقت الإشارة إلى هذه الملاحظة ص254.(211/293)
أيضاً، الخلاف في هذه المسألة هو في الحكم الأخروي. وليس الدنيوي فلم يقل أحد من الأئمة إن هؤلاء مسلمين أو تجري عليهم أحكام المسلمين في الدنيا، ولذلك لا يترتب على هذا الخلاف أي حكم من أحكام الدنيا، يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله -: (الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، و أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعين موكول إلى علم الله وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، و أما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم) (1).
هذه المسألة من مسائل الاجتهاد والخلاف حولها مشهور بين العلماء، فهي ليست من أصول الدين ولا من مسائل الإجماع، ولذلك لا تذكر في عامة كتب العقيدة المشهورة.
أقوال العلماء في المسألة:
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال كثيرة ومن أشهرها:
__________
(1) طريق الهجرتين 384، وانظر شفاء العليل 578، 595، الاعتقاد للبيهقي 165، شرح النووي لمسلم 16/208.(211/294)
الأول: أن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجياً، قال السيوطي – رحمه الله-: (وقد أطبقت أئمتنا الأشاعرة من أهل الكلام و الأصول، والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجياً…)(1)ونص بعض الأئمة على دخول أطفال المشركين الجنة- دون غيرهم من أهل الفترة – كالإمام ابن حزم حين قال: (وذهب جمهور الناس إلى أنهم في الجنة وبه نقول) (2). والنووي (3)، والحافظ ابن حجر العسقلاني وذكر أنه ترجيح البخاري(4)، و الإمام القرطبي (5)والإمام ابن الجوزي(6).
الثاني: أن من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار، قال الإمام ابن القيم – رحمه الله- (وهو قول جماعة من المتكلمين، و أهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد وحكاه القاضي نصا عن أحمد، وغلطه شيخنا….)(7) كما هو قول جماعة من أصحاب أبي حنيفة(8).
__________
(1) الحاوي للفتاوي 2/202.
(2) الفصل لابن حزم 4/73، وفيه أشار إلى أن هذا الحكم لا يشمل البالغين 4/74.
(3) انظر شرح مسلم 16/208، وقد نص على أن من لم يؤمن من أهل الفترة فهو في النار، انظر شرح مسلم 3/79.
(4) انظر فتح الباري 3/246.
(5) انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للإمام القرطبي ص612.
(6) انظر مجموع الفتاوي 24/372، والعواصم والقواصم لابن الوزير 7/248.
(7) أحكام أهل الذمة 2/623، وانظر طريق الهجرتين 362، وانظر كلام شيخ الإسلام، الفتاوي 24/372.
(8) انظر الجواب الصحيح 1/311، جمع الجوامع 1/62.(211/295)
الثالث: الوقف في أمرهم، وقد يعبر عنه بأنهم تحت المشيئة(1) (وهو منقول عن الحمادين وابن المبارك وإسحاق بن راهويه، وقال ابن عبد البر: وهو مقتضى صنيع مالك وليس عنده في المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار خاصة في المشيئة) (2).
الرابع: أنهم يمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله سبحانه وتعالى بدخولها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها فقد عصى الله تعالى فهو من أهل النار، وهذا قول جمهور السلف، حكاه الأشعري عنهم(3)، وممن قال به محمد بن نصر المروزي(4)، والبيهقي(5)، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وابن كثير وغيرهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (.. ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين و أهل الفترات فهؤلاء فيهم أقوال أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، و إن عصوه استحقوا العذاب) (6).
__________
(1) انظر أحكام أهل الذمة 2/619.
(2) فتح الباري 3/246، والتمهيد لابن عبد البر 18/111، 112، وانظر أهل الفترة ومن في حكمهم لموفق شكري 98.
(3) الإبانة للأشعري ص33، وانظر مجموع الفتاوى 24/373، وأحكام أهل الذمة 2/649.
(4) في كتابه "الرد على ابن قتيبة" نقلاً عن أحكام أهل الذمة 2/650.
(5) انظر الاعتقاد للبيهقي 170.
(6) الجواب الصحيح 1/312، وانظر درء التعارض 8/401، مختصر الفتاوى المصرية 643، والفتاوي 24/371-372.(211/296)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله بعد حكايته المذاهب في أطفال المشركين وأدلتها: (المذهب الثامن: أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كل من "لم"(1) تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه أدخله النار وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار، وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها وتتوافق الأحاديث) (2)، ثم ساق أدلة لهذا القول، وقال: (فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضا، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله..) (3)، ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (.. وقد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديماً وحديثاً وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ماذا حكمهم؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه) (4) ثم ساق عشرة أحاديث في هذه المسألة، ثم أشار إلى الأقوال في المسألة، ورجح أنهم يمتحنون يوم القيامة حيث قال: (… وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضه لبعض..) (5)، ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – بعدما رجح هذا القول -:(إن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر و الامتحان..) (6).
ومن أهم أدلتهم على هذا القول دليلان:
__________
(1) ساقط من كتاب "طريق الهجرتين" 369، والتصحيح من أحكام أهل الذمة 2/648.
(2) طريق الهجرتين 369.
(3) نفسه 371.
(4) تفسير ابن كثير 3/28، نلاحظ في هذا النص عن ابن كثير، وفي كلام ابن تيمية وابن القيم السابق، أنهم يساوون بين أهل الفترة وأطفال المشركين في الحكم.
(5) نفسه 3/30.
(6) أضواء البيان 3/440.(211/297)
الأول: استدلوا بعموم الآيات الدالة على نفي التعذيب قبل بلوغ الحجة(1)، من مثل قوله تعالى عن أهل النار: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا}(2).
وقوله سبحانه: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}(3)وغيرها من الآيات الدالة على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير(4)يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية: (والله تعالى أعدل العادلين، لا يعذب أحداً حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة، و أما من انقاد للحجة، أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه، استدل بهذه الآية على أن أهل الفترات، وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله، حتى يبعث إليهم رسولاً، لأنه منزه عن الظلم) (5).
الثاني: استدلوا بعدد من الأحاديث المصرحة بأن أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة يمتحنون يوم القيامة، ومن أشهرها ما رواه الأسود بن سريع أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:
__________
(1) وسبقت الإشارة إلى هذه الأدلة في مبحث "التعذيب والتكفير بعد قيام الحجة".
(2) الملك : 8-9.
(3) الإسراء : 15.
(4) انظر مزيداً من الأدلة في أضواء البيان 3/429-431، ودفع إيهام الاضطراب ضمن أضواء البيان 10/178-180.
(5) تفسير السعدي 4/266.(211/298)
"يكون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، و أما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، و أما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، و أما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً) (1).
__________
(1) حديث الأسود بن سريع رواه الإمام أحمد واللفظ له 4/24، والطبراني 2/79، والضياء في المختارة 1/463، وابن حبان (1827)، والبيهقي في الاعتقاد 169، والبزار (2174) وصححه البيهقي كما في الاعتقاد، وابن القيم كما في طريق الهجرتين 369، وعبد الحق الأشبيلي (انظر أحكام أهل الذمة 2/654) و الألباني كما في السلسلة 3/419.(211/299)
وعن أبي هريرة مثل هذا غير أنه قال في آخره: "فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها "(1)، والقول بموجب هذا الحديث فيه جمع للأدلة كما في النقل السابق عن الأئمة – قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: (وهذا التفصيل يذهب الخصومات التي كره الخوض فيه لأجلها من كرهه، فإن من قطع لهم بالنار كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله، ومن قطع لهم بالجنة كلهم، جاءت نصوص تدفع قوله..) (2)، وقال
__________
(1) أما حديث أبي هريرة فقد رواه الإمام أحمد 4/24، (واللفظ له)، وابن أبي عاصم في السنة 1/176، والبيهقي في الاعتقاد 169، والبزار (2175)، وصححه البيهقي في الاعتقاد، وابن القيم في أحكام أهل الذمة 2/654، والسيوطي في الحاوي 2/205، وابن تيمية في درء التعارض 8/399، والألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم، وفي السلسلة 3/419، وقال الهيثمي عن حديث أبي هريرة، وحديث الأسود: (هذا لفظ أحمد ورجاله من طريق الأسود بن سريع و أبي هريرة رجال الصحيح، وكذا رجال البزار فيهما) مجمع الزوائد 7/216 وللحديث شواهد من رواية أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، ومعاذ بن جبل، وثوبان، حسنها شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذكر أن أحاديث الامتحان رويت بأحاديث حسان (مختصر الفتاوي المصرية 643)، وقال الحافظ ابن كثير : ( إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من الأئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، و إذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر) التفسير 3/31، وقال الحافظ في الفتح : (وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة) الفتح 3/346، انظر هذه الطرق والكلام حولها في مجمع الزوائد 7/215- 217، تفسير ابن كثير 3/28-30، وأحكام أهل الذمة 2/650- 653، والحاوي للسيوطي 2/204-205، والتمهيد 18/127،130.
(2) درء التعارض 8/401.(211/300)
الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – بعد ترجيحه لهذا القول: (وهذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و ثبوته عنه نص في النزاع فلا وجه للنزاع البتة مع ذلك..) (1).
وردوا على ما ذكر بعض الأئمة كالإمام ابن عبد البر، و الإمام القرطبي والحليمي، وملخص قولهم: أن هذه الأحاديث لا تصح و أن (هذا مخالف لأصول المسلمين لأن الآخرة ليست بدار امتحان) (2)وردوا على هذا القول بما يلي:
1- أن هذه الأحاديث صحيحة وردت من طرق مختلفة، وقد سبق الإشارة إلى ذلك.
__________
(1) أضواء البيان 3/438.
(2) انظر التذكرة للقرطبي 611، 612، والتمهيد 18/130.(211/301)
2- قال شيخ الإسلام – رحمه الله-: (والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهي الجنة والنار، وأما عرصات القيامة فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ، فيقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وقال تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) (1)…)(2) وقال الطيبي(3): (لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء و الآخرة دار جزاء أن لا يقع في واحده منهما ما يخص الأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة، وفيه الابتلاء والفتنة بالسؤال وغيره(4) ولخص الإمام ابن القيم رحمه الله الرد على ذلك فقال: (… فإن قيل: فالآخرة دار جزاء، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، و أما في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف، و أما في عرصة القيامة، فقال تعالى: {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} فهذا صريح في أن الله يدعوا الخلائق إلى السجود يوم القيامة، و أن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك) (5)، وذكروا أحاديث على جواز التكليف في الآخرة ذكرها ابن القيم وابن كثير وغيرهم فلتراجع.
ثانياً: الخطأ
1-المراد به لغة و اصطلاحاً:
__________
(1) القلم : 42-43.
(2) الفتاوى 24/373، وانظر فتح الباري 3/246، وتفسير ابن كثير 3/31.
(3) هو: الحسين بن محمد الطيبي من أئمة الحديث والتفسير، كان شديد الرد على المبتدعة، من كتبه "الخلاصة في معرفة الحديث" وشرح مشكاة المصابيح" توفي سنة 743ه-، انظر الدرر الكامنة 2/68، البدر الطالع 1/29، الأعلام 2/256.
(4) فتح الباري 11/451.
(5) طريق الهجرتين 373، وقد ذكر قول الإمام ابن عبد البر في أحكام أهل الذمة، ورد عليه من تسعة عشر وجهاً، 2/654-656.(211/302)
(الخطأ والخطاء: ضد الص-واب، وقد أخطأ، قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}(1)عداه بالباء لأنه في معنى عثرتم أو غلطتم، وأخطأ الطريق، عدل عنه، وأخطأ الرامي الغرض: لم يصبه.. والخطأ: مالم يتعمد، والخطأ: ما تعمد، وقال الأموي: المخطيء: من أراد الصواب فصار إلى غيره، والخاطيء: من تعمد ما لا ينبغي، والخطيئة الذنب على عمد، والخطء: الذنب في قوله تعالى: {إن قتلهم كان خطئاً كبيراً}(2) أي إثماً، وقال تعالى: فيما حكاه عن أخوة يوسف: {إنا كنا خاطئين}(3)آي آثمين..) (4)، وقال الراغب في "المفردات": (الخطأ: العدول عن الجهة) ثم ذكر بعض صور الخطأ ومنها: (أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال أخطأ فهو خطيء، وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، وهذا المعنى بقوله – صلى الله عليه وسلم- "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"(5)، وبقوله: " من اجتهد فأخطأ فله أجر"(6)، {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة}(7) إلى أن يقول (وجملة الأمر أن من أراد شيئاً فاتفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، وقد يقال: لمن فعل فعلا لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل إنه أخطأ) (8).
والخلاصة أن معنى الخطأ في اللغة: أن يريد ويقصد أمراً، فيقع في غير ما يريد، أما الخطء: فهو الإثم أو الذنب المتعمد والله أعلم.
__________
(1) سورة الأحزاب : آية : 5.
(2) سورة الإسراء، آية : 31.
(3) سورة يوسف، آية : 97.
(4) لسان العرب 1/65-68، وانظر مختار الصحاح 179، 180، والنهاية في غريب الحديث 2/44،45، المعجم الوسيط 1/232.
(5) سيأتي تخريجه في الفقرة التالية.
(6) سيأتي تخريجه في الفقرة التالية.
(7) سورة النساء، آية : 92.
(8) المفردات : 151، وانظر كلاماً مفصلاً حول معنى الخطأ في الكتاب والسنة وكلام السلف : مجموع الفتاوي 20/19-24.(211/303)
أما معنى الخطأ في الاصطلاح: فهو قريب من المعنى اللغوي، قال الحافظ ابن رحب- رحمه الله -: (الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غير ما قصده، مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلماً) (1)، أو يظن أن الحق في جهته، فيصادف غير ذلك(2)، وقال الجرجاني: (الخطأ وهو ما ليس للإنسان فيه قصد.. كما إذا رمى شخصاً ظنه صيداً أو حربيا فإذا هو مسلم..) (3)، وهناك تعريفات أخرى(4) قريبة مما ذكر وحاصلها أن الخطأ في الاصطلاح: (كل ما يصدر عن المكلف من قول أو فعل خال عن إرادته وغير مقترن بقصد منه) (5).
2- الفرق بينه وبين الجهل:
الجهل يأتي بعدة معانى منها: خلو النفس من العلم(6)وهو المشهور، ومنها: اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه(7)، ومنها: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقاداً صحيحاً أو فاسداً (8)ومنه قوله سبحانه: {فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة}(9). وقد سبق الكلام عن أدلة أهل العلم في العذر بالجهل، ومقصودهم بالجهل الذي يعذر صاحبه: أن يقول قولاً أو يعتقد اعتقاداً بخلاف (الحق)، غير عالم وغير قاصد للمخالفة، رغم اجتهاده في رفع الجهل عن نفسه، وهو بهذا المعنى يتفق مع الخطأ حيث إن الجاهل والمخطئ - حسب هذا المفهوم- غير قاصدين للمخالفة، لذلك وردت النصوص من الكتاب والسنة في إعذارهما ورفع الإثم عنهما – في الحقيقة- في حكم من لم تقم عله الحجة والله أعلم.
3- متى يكون عذرا في العقائد والأحكام؟
__________
(1) جامع العلوم والحكم، 352.
(2) انظر فتح الباري 13/319.
(3) التعريفات 104.
(4) انظر بعضها في عوارض الأهلية عند الأصوليين، د. حسين الجبوري 395- 396.
(5) نفسه 396.
(6) انظر المفردات 102، لسان العرب 11/129.
(7) انظر المفردات 102، لسان العرب 84.
(8) انظر المفردات 102.
(9) سورة الحجرات، آية : 6.(211/304)
اتفق الأئمة على الإعذار بالخطأ-كما في الجهل- وإنما الخلاف في شمول ذلك للعقائد والأحكام، أم للأحكام فقط؟
وسنذكر هنا الأدلة العامة على العذر بالخطأ، ثم نشير إلى شمولها أو عدمه.
أ- أدلة عامة حول العذر بالخطأ:
استدل أهل السنة لذلك بأدلة كثيرة، سنأخذ أهمها ومنها:
1- قوله سبحانه: {ادعوهم لآباءهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً}(1)، قال الحافظ في الفتح: (.. قال ابن التين: أجرى البخاري قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}، في كل شئ، وقال غيره: هي في قصة مخصوصة وهي: ما إذا قال الرجل يا بني وليس هو ابنه… ولوسلم أن الآية نزلت فيما ذكر لم يمنع ذلك من الاستدلال بعمومها، وقد أجمعوا على العمل بعمومها في سقوط الإثم) (2).
2- واستدلوا بقوله تعالى:{ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها… الآية}(3)، فقيد الوعيد على قاتل المؤمن بالتعمد(4)، وفرقت النصوص بين القتل المتعمد والقتل الخطأ في أحكام الدنيا والآخرة.
3- ومن الأدلة المشهورة قوله تعالى:{ربنا لا تؤخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا}(5)وثبت في الحديث الصحيح أن الله سبحانه استجاب لهذا الدعاء فقال:فقد فعلت(6).
__________
(1) سورة الأحزاب، آية:5.
(2) فتح الباري 11/551.
(3) سورة النساء،آية:93.
(4) انظر إيثار الحق على الخلق 436.
(5) سورة البقرة،آية:286.
(6) رواه مسلم كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق "رقم126،عن ابن عباس رضي الله عنهما.(211/305)
4- ومن الأحاديث المشهورة في العذر بالخطأ قوله-صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (1)، قال الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث (الخطأ:هو أن يقصد بفعله شيئاً فيصادف فعله غير ما قصده، مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلماً، والنسيان أن يكون ذاكراً الشئ فينساه عند الفعل، وكلاهما معفو عنه: يعني لا إثم فيه، ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم، ولو قتل مؤمناً خطأ فإن عليه الكفارة والدية بنص الكتاب، وكذا لو أتلف مال غيره خطأ بظنه أنه مال نفسه..) إلى أن يقول:(والأظهر، والله أعلم أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما، وأما رفع الأحكام عنهما فليس مراداً من هذه النصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر) (2). وقد استدلوا بالحديث المشهور في قصة الرجل من بني إسرائيل(3)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تعليقه عليها: (فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنه لا يبعثه، وكل هذين الاعتقادين كفر، يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته، فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد، من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل فيغفر الله خطأه، أو يعذبه
__________
(1) رواه ابن ماجه1/630، وابن حبان1498، والطحاوي في شرح معاني الآثار2/56، والدارقطني497،وابن حزم في أصول الحكام5/149،والحاكم وقال:"صحيح على شرط الشيخين"2/198، وحسنه النووي كما في جامع العلوم350، وصححه الألباني كما في إرواء الغليل 1/123.
(2) جامع العلوم والحكم352-354.
(3) سبق تخريجه في مبحث العذر بالجهل ص223.(211/306)
إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه، وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك، فعظيم..) (1).
فهذا الحديث كثيراً ما يستدل به شيخ الإسلام في مسائل العذر بالجهل والخطأ، والتأويل.
فهذا الرجل وقع في الخطأ – فتكلم بالكفر من غير قصد – بسبب جهله – فعذره الله سبحانه لعدم قيام الحجة عليه، أما الاستدلال به على مسألة العذر بالتأويل فمن باب أولى، لأن المتأول في حقيقته مجتهد مخطيء، فإذا لم يكفر المخطيء من غير اجتهاد- كما في هذه القصة – فعدم كفر من اجتهد في طلب الحق فأخطأ من باب أولى، وفي هذا المعنى يقول ابن الوزير – رحمه الله -: (.. قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ والظاهر أن أهل التأويل أخطأوا، ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم) ثم ذكر بعض أدلة الإعذار بالخطأ ومنها قصة الرجل من بني إسرائيل، ثم علق عليها قائلاً (وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله والمعاد ولذلك خاف العقاب.. وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل) (2)، فذكر أنه أخطأ بسبب الجهل فعذر، ثم استدل به على الخطأ بسبب التأويل والله أعلم..
__________
(1) الاستقامة 1/164،165،وانظر 3/231،12/490، وغيرها.
(2) إيثار الحق 435، 436.(211/307)
5- ونختم هذه الأدلة بحديث خاص بإعذار المجتهد المخطيء في الأحكام، وهو قوله – صلى الله عليه وسلم-: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، و إذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (1)قال الحافظ الخطيب البغدادي – رحمه الله -: (فإن قيل: كيف يجوز أن يكون للمخطيء فيما أخطأ فيه أجر، وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد حتى أخطأ؟ فالجواب، أن هذا غلط لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- لم يجعل للمخطيء أجراً على خطئه، و إنما جعل له أجراً على اجتهاده، وعفا عن خطئه لأنه لم يقصده، و أما المصيب فله أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته) (2)، واستدل جمهور العلماء بهذا الحديث على تخطئة بعض المجتهدين ممن لم يصب الحق و أن الحق مع أحدهم أو بعضهم، وفيه رد على من قال: كل مجتهد مصيب، يقول الإمام ابن قدامة – رحمه الله-: (والحق في قول واحد من المجتهدين ومن عداه مخطيء، سواء كان في فروع الدين أو أصوله) (3)، ثم ذكر الأدلة على ذلك ومنها هذا الحديث، وقال الإمام الزركشي(4): (واختلف العلماء في حكم أقوال المجتهدين، هل كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؟ ذهب الشافعي و أبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء رحمهم الله إلى أن
__________
(1) رواه البخاري، الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد.. "الفتح 13/318، ومس-لم الأقضية، "باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد.." شرح النووي 12/13.
(2) الفقيه والمتفقه 1/191، وانظر البحر المحيط للزركشي 6/262، والأحكام لابن حزم 2/652 وغيرها.
(3) روضة الناظر، 193.
(4) الزركشي: هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، عالم بفقه الشافعية و الأصول، ولد بمصر سنة 745ه-، له تصانيف كثيرة منها "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة"، و "البحر المحيط" ويبلغ ست مجلدات، وهو من أوسع الكتب في أصول الفقه، توفي بمصر سنة 794ه-، انظر الدرر الكامنة 3/397، شذرات الذهب 6/335، الأعلام 6/60، 61.(211/308)
الحق في أحدهما، و إن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالاً حراماً، و لأن الصحابة تناظروا في المسائل و احتج كل واحد على قوله: وخطأ بعضهم بعضاً، وهذا يقتضي أن كل واحد يطلب إصابة الحق، ثم اختلفوا، هل كل مجتهد مصيب أم لا؟ فعند الشافعي أن المصيب منهم واحد و إن لم يتعين، و إن جميعهم مخطيء إلا ذلك الواحد وبه قال مالك وغيره..) (1)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (فإذا أريد بالخطأ الإثم، فليس المجتهد بمخطيء بل كل مجتهد مصيب مطيع لله، فاعل ما أمره الله به، و إذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر فالمصيب واحد، وله أجران..) (2)، ونختم الكلام حول هذا الحديث بالإشارة إلى أن من أخطأ فحكم أو أفتى بغير علم واجتهاد فهو آثم عاص(3)، يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – (.. فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن و الإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه…..)(4)، لكنه لا يكفر إن فرط في الاجتهاد فوقع في الكفر خطأ، لأن الكفر يكون بعد قيام الحجة، يقول شيخ الإسلام: (.. و أما "التكفير" فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم- وقصد الحق، فأخطأ لم يكفر، بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول،
__________
(1) البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي 6/241.
(2) مجموع الفتاوي 13/124، وانظر 20/24، وانظر تفريعات وتفصيلات أخرى لهذه المسألة في الفقيه والمتفقه 58-64، المحصول للرازي 2/47-91، والأحكام لابن حزم 2/658-660، روضة الناظر 193-200 وغيرها .
(3) انظر فتح الباري 13/319.
(4) مجموع الفتاوي 3/317، وانظر 12/496.(211/309)
فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين: فهو كافر، ومن اتبع هواه، وقصر في طلب الحق، وتكلم بلا علم فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقاً، وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته..) (1)، ويقول – أيضاً -: (وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، و إن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة و إزالة الشبهة) (2)، وخلاصة هذا المبحث ما يلي:
قد تواترت النصوص من الكتاب والسنة في إعذار المخطيء، و أن حكمه حكم الجاهل والمتأول – فلا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه -، و أنه إن كان مجتهداً فيما يسوغ فيه الاجتهاد – فله أجر باجتهاده – ولو أخطأ – أما إن لم يكن مجتهداً وأخطأ فيأثم لتفريطه.
لكن هل يفرق في ذلك بين العقائد و الأحكام؟
ب- هل يفرق بين العقائد و الأحكام؟
__________
(1) مجموع الفتاوي 12/180.
(2) نفسه 12/466، وانظر 12/523، 524.(211/310)
سبقت الاشارة في مبحث الجهل إلى بطلان التقسيم إلى فروع يعذر الجاهل فيها، و أصول لا يعذر، و أن هذا التقسيم لا دليل عليه ولا يعرف عن السلف، والمفرقون لم يذكروا حدا منضبطاً يمكن به التفريق بين الأصول والفروع، والعذر بالخطأ من جنس العذر بالجهل، لذلك بين أئمة السلف أنه لا يأثم المجتهد المخطيء لا في الأصول ولا في الفروع، والخلاف في هذه المسألة بين أئمة السلف ومخالفيهم من المتكلمين ومن تأثر بهم، فرع عن الخلاف في أصل عام شامل، وهو: هل يمكن لكل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع، و إذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق، بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر، ولم يكن هو الحق في نفس الأمر: هل يستحق أن يعاقب أم لا؟ وهل يفرق في ذلك بين الأصول والفروع أو بين المسائل العلمية والعملية(1)؟
__________
(1) أطال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في مناقشة هذا الأصل وأقوال الناس فيه، ثم بين أقوال السلف وأدلتهم، ومن باب الاختصار سنكتفي ببيان مذهب السلف في هذا الأمر، انظر منهاج السنة، 5/84-125، ومجموع الفتاوي 19/203-227.(211/311)
نقل شيخ الإسلام الأقوال في هذه المسألة، ثم بين أن قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة، والشافعي، والثوري وداود بن علي وغيرهم أنهم (لا يؤثمون مجتهداً مخطئاً لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية، كما ذكر عنهم ابن حزم وغيره، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء(1)إلا الخطابية(2)، ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين، ولا يصلي خلفه. وقالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين: إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا في مسألة عملية ولا علمية، قالوا: والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره، قالوا: والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام، لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة، فهي باطلة عقلاً،
__________
(1) رغم أنهم مخطئون في المسائل العلمية، و إنما عذر من عذر منهم لاجتهاده وتأوله، أما من رد شهادتهم من الأئمة – كمالك و أحمد – فليس ذلك مستلزماً لإثمهم، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، انظر الفتاوى 13/125.
(2) الخطابية : أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع المقتول سنة 143ه-، من غلاة الشيعة، قال النوبختي – الرافضي - : ( كان أبو الخطاب يدعي أن أبا عبد الله جعفر بن محمد (الصادق) عليهما السلام جعله قيمه ووصيه من بعده، وعلمه اسم الله الأعظم، ثم ترقى إلى أن ادعى الرسالة، ثم ادعى أنه من الملائكة و أنه رسول الله إلى أهل الأرض والحجة عليهم" فرق الشيعة للنوبختي الرافضي 37،38، وانظر مقالات الإسلاميين 1/75-81، الملل والنحل 1/380-385 وغيرها .(211/312)
فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين، بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة..) (1) ثم ذكر هذه الفروق ورد عليها، وفي مواضع أخرى، ذكر بعض الأمثلة عن السلف فقال: (… و أيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل(2)، واتفقوا على عدم التكفير بذلك مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة، وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: (بل عجبت) (3)ويقول: إن الله لا يعجب… فكان يقول (بل عجبت) فهذا قد أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة، وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروفاً من القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: { أفلم ييأس الذين آمنو}(4)وقال: إنما هي: أو لم يتبين الذين آمنوا،و إنكار الآخر قراءة قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}(5)
__________
(1) منهاج السنة 5/87،88، وانظر الفتاوي 19/207،208، 13/125، 126، 23/346 وغيرها.
(2) أي المسائل العلمية الخبرية أو مسائل العقيدة.
(3) الصافات : 12، وعجبت، بالضم والفتح كلاهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، انظر تفسير الطبري 23/29، وفتح القدير 4/388، وانظر الإشارة إلى إنكار شريح لهذه القراءة زاد المسير 7/49، 50 قال الزجاج : (وإنكار هذه القراءة غلط، لأن العجب من الله خلاف العجب من الآدميين) زاد المسير 7/50.
(4) سورة الرعد، آية 31، وانظر الإشارة إلى قراءة (أو لم يتبين) في تفسير الطبري 12/104، وزاد المسير لابن الجوزي 4/331.
(5) سورة الاسراء، آية : 23، وانظر الإشارة إلى قراءة (ووصى ربك) تفسير الطبري 15/47، وزاد المسير 5/22.(211/313)
وقال: إنما هي: ووصى ربك وبعضهم كان حذف المعوذتين، وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، و إن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر..) (1).
إذاً العذر بالخطأ يعم المسائل العلمية والعملية، وليس في النصوص ما يدل على التفريق، لكن قد يقول قائل: إذا قلنا: إن المجتهد المخطيء في مسائل العقيدة يرفع عنه الإثم، فهل نقول أيضاً: إن المجتهد المخطيء يؤجر أجراً واحداً، كالمجتهد في أمور الأحكام والعمل؟ فيجاب عن ذلك، بأن النصوص الواردة، فيها رفع الاثم عن المجتهد المخطيء، وليس فيها ما يدل على أن كل مجتهد مخطيء يكون مأجوراً باستثناء قوله – صلى الله عليه وسلم -: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب.. الحديث"، وهذا كما هو واضح من سياقه خاص بالحاكم أي القاضي، ومثله المفتي، وقد أشار شيخ الإسلام إلى شيء من هذا المعنى حيث قال: (.. وكذلك كل من عبد عبادة نهى عنها ولم يعلم بالنهي – لكن هي من جنس المأمور به – مثل من صلى في أوقات النهي، وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي، أو تمسك بدليل خاص مرجوح، مثل صلاة جماعة من السلف ركعتين بعد العصر، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- صلاهما … بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك، فإن هذا لا ثواب فيه، و إن كان لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}(2).. فالعقاب عليها مشروط بتبليغ الرسالة، و أما بطلانها في نفسها فلأنها غير مأمور بها، فكل عبادة غير مأمور بها فلابد أن ينهى عنها، ثم إن علم أنها منهي عنها استحق العقاب، فإن لم يعلم لم يستحق العقاب، و إن اعتقد أنها مأمور بها وكانت من جنس المشروع فإنه لم يعلم لم يستحق العقاب، و إن اعتقد أنها مأمور بها وكانت
__________
(1) مجموع الفتاوي 12/492، 493، وانظر أمثلة أخرى، الفتاوي 20/33-36، 3/229،230.
(2) سورة الإسراء، آية : 15.(211/314)
من جنس المشروع فإنه يثاب عليها، وإن كانت من جنس الشرك فهذا الجنس ليس فيه شيء مأمور به، لكن قد يحسب بعض الناس في بعض أنواعه أنه مأمور به…)(1).
فشيخ الإسلام – فيما يبدو – استند في كلامه هذا إلى القاعدة المعروفة في أن العمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً أريد به وجه الله، صواباً بما شرع الله، فلما لم يشرع جنسه غالباً يكون في أمور العقيدة كصور الشرك ونحوها من البدع الحقيقية التي يكثر وجودها لدى الفرق المشهورة، أما الاجتهاد الخاطيء فيما شرع جنسه فغالباً يكون في مسائل الاجتهاد من أمور التعبد ونحوها.
__________
(1) مجموع الفتاوي 20/31-32.(211/315)
نواقض الإيمان القولية والعملية
تأليف
د. عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف
صـ261 الباب الثاني
نواقض الإيمان العملية
صـ262
سيكون الحديث في هذا الباب عن الأعمال التي تناقض الإيمان، ولا تجامعه، وقد سبق – في تمهيد هذا البحث – تقرير أن الإيمان قول وعمل، وأن الكفر كذلك، فكما أن الإيمان ليس تصديقاً فحسب، بل هو قول وعمل، قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، فكذلك الكفر ليس هو التكذيب فقط – كما ظن المرجئة -، كما دلت على ذلك النصوص، مثل قوله تعالى:- {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور، آية 47] فحكم الله تعالى عليهم بالكفر ونفى الإيمان، بسبب توليهم وامتناعهم عن الطاعة، وقال سبحانه: - {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة، آية 31، 32] فهذه الآية الكريمة تبين أن التولي غير التكذيب، فإن التكذيب ضده التصديق، وأما التولي فضد الطاعة والامتثال، فالكفر قد يكون اعتقاداً، وقد يكون قولاً باللسان، وقد يكون عملاً ظاهراً كالسجود للصنم وامتهان المصحف ونحوهما، فهذه الأعمال نواقض للإيمان؛ لأنها واقعة فيما يظهر عن طريق الجوارح، مع أن هذه الأعمال الظاهرة مناقضة لما في القلب من الأعمال الإيمانية كالانقياد والمحبة والتعظيم ونحوها.
صـ263
الفصل الأول
نواقض الإيمان العملية في التوحيد
المبحث الأول:: الشرك في العبادة
1- سبق الحديث بإيجاز عن معنى توحيد العبادة وأهميته، كما مر بنا الحديث عن حد الشرك في توحيد العبادة وضابطه، وعرفنا أن الشرك الأكبر هو أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من العبادة لغير الله تعالى.(1)
__________
(1) انظر : المبحث الثاني من الفصل الأول في الباب الأول(212/1)
وهذا المبحث سيكون موضوعه عن الشرك في العبادة العملية كالذبح لغير الله، والنذر لغير الله تعالى … إلخ، وفي مطلع هذا المبحث سنتحدث باختصار عن وجوب إفراد الله تعالى وحده بهذه العبادات لا شريك له، تحقيقاً للتوحيد الذي يتضمن وجوب صرف جميع أنواع العبادة لله وحده، كما قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة، آية 163]، وقال تعالى: - {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل، آية 36]
(أ) فالذبح إن قصد به التوجه والتقرب إلى الله تعالى وحده فهو من العبادات، ويسمى نسكاً؛ لأن النسك هو العبادة والقربة (1)، وقد فرض الله ذلك بقوله تعالى: - {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام، آية 162، 163]، والنسك – هاهنا – الذبيحة (2)
يقول ابن عطية في تفسير الآيات: - " وقوله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي} [الآية]، أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها
صـ264
وتصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل، وإرادة وجهه وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به، حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل "(3) "
__________
(1) انظر : المفردات للأصفهاني ص 747 ، ومعجم مقاييس اللغة 5/420 ، والمصباح ص 738 ، واللسان 10/498 .
(2) انظر : تفسير ابن كثير 2/189 ، والدر المنثور للسيوطي 3/410 ، ويقول ابن عطية في تفسيره (6/193) : - " ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية ، أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة "
(3) تفسير ابن عطية 3/192 .(212/2)
ويقول ابن كثير في تفسيره: - " يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى:- {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر، آية 2]، أي أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، ويذبحون لها فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى. (1) "
ومما قاله محمد رشيد رضا في تفسيره لهذه الآيات: - " هذا بيان إجمالي لتوحيد الإلهية بالعمل، والمراد بالصلاة جنسها الشامل للمفروض والمستحب، والنسك في الأصل العبادة أو غايتها، والناسك العابد، ويكثر استعماله في القرآن والحديث في عبادة الحج وعبادة الذبائح والقرابين فيه، أو مطلقاً.
- إلى أن قال – والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقرباً إليه، وتعظيماً له، وطلباً لمثوبته ومرضاته، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك، ويقصد به تعظيمه فهو معبود له، سواء عبر فاعله عن ذلك بقول يدل عليه أم لا. فالعبادة لا تنبغي إلا لله رب العباد وخالقهم … وكون الصلاة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضروريات الدين.(2) "
ويقول سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر، آية 2]
يقول ابن تيمية عن هذه الآية الكريمة: - " أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدته وأمره
صـ265
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/189 .
(2) تفسير المنار 8/241 , 243 = باختصار .(212/3)
وفضله، وعكس حال الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر، وتركا لإعانة الفقراء وإعطائهم، وسوء الظن منهم بربهم، ولهذا جمع الله بينهما في قوله تعالى: - {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام، آية 162]، والنسك هي الذبيحة ابتغاء وجهه، وهو أجل العبادات المالية، وما يجتمع للعبد في نحره من إيثار الله، وحسن الظن به، وقوة اليقين، والوثوق بما في يد الله أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه، كثير النحر، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنه، وكان ينحر في الأعياد وغيرها.(1) "
وبهذا يتقرر أن الذبح لله تعالى وحده عبادة من أجل العبادات، وأعظم الطاعات.
(ب) وأما النذر فهو عبادة لا يكون إلا لله وحده لا شريك له (2)؛ حيث إن الله تعالى مدح الموفين به، فقال سبحانه {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان، آية 7].
يقول ابن حجر عن هذه الآية: - " يؤخذ منه أن الوفاء بالنذر قربة للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة (3) "
ويقو الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في بيان هذه الآية:- " إن المدح مدح الموفين بالنذر، والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، لا يمدح على فعل المباح المجرد، وذلك هو العبادة.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 16/531 ، 532 = باختصار
(2) النذر عبادة باعتبار الوفاء به ، أما النذر ابتداءً فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال " إنه لا يرد شيئاً " أخرجه الجماعة إلا الترمذي .
(3) فتح الباري 11 / 576 .
(4) تيسير العزيز الحميد ص 203 ، وانظر القول السديد للسعدي ص 47 .(212/4)
ويقول عز وجل: - {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة، آية 270].
صـ266
وقال ابن كثير في تفسيهر لهذه الآية:- " يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه، ورجاء موعوده، وتوعد من لا يعمل بطاعته، بل خالف أمره وكذب خبره، وعبد معه غيره، فقال: - " وما للظالمين من أنصار " أي يوم القيامة، ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.(1) "
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة فقال:- من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " (2)
وذم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ينذرون ولا يوفون فقال عليه الصلاة والسلام:- " خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم – قال عمران بن حصين رضي الله عنه راوي الحديث: - لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثاً بعد قرنه – ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون لا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن.(3)"
قال ابن بطال: - " سوّى بين من يخون أمانته، ومن لا يفي بنذره، والخيانة مذمومة فيكون ترك الوفاء بالنذر مذموماً.(4) "
ومن خلال ما سيق إيراده، ندرك أن النذر عبادة مدح الله الموفين به، فلا يكون إلا لله وحده.
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/305 .
(2) أخرجه البخاري ، ك الأيمان والنذور (11/581) ح (6696) ، وأحمد 6/41 .
(3) أخرجه البخاري ، ك الأيمان والنذور (11/580) ح (6695) وأحمد 4/440 .
(4) فتح الباري 11/580 .(212/5)
(ج) وأما السجود والركوع فلا شك أنهما عبادتان لله وحده، وهذا أمر ظاهر لاخفاء فيه، ففي السجود والركوع أبلغ معاني الخضوع والتذلل والانقياد، مما لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، ولقد أخبر الله تعالى بانقياد هذا الكون كله لله وحده لا شريك له، وسجوده له تعالى، فقال سبحانه: - {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد، آية 5].
وقال تعالى: - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
صـ267
عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج، آية 18].
وأمر الله تعالى بالسجود والركوع له تعالى وحده في مواضع كثيرة من كتابه، فقال سبحانه: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج، آية 77].
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة، آية 43].
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {37} فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت، آية 37 , 38].
{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم، آية 62].
كما أخبر سبحانه أن التعبد له بالركوع والسجود من أوصاف المؤمنين فقال تبارك وتعالى:-
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة، آية 55](212/6)
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة، آية 112].
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح، آية 29].
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم، آية 58].
يقول ابن تيمية - في هذا المقام -: - " وبالجملة فالقيام والركوع والسجود حق للواحد المعبود خالق السموات والأرض، وما كان حقاً خالصاً لله لم يكن لغيره منه نصيب...
فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له، قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة، آية 5].(1)
وأما الطواف فهو عبادة لله وحده لا شريك له، ولا يكون هذا الطواف إلا بالبيت الحرام، والدليل على ذلك قوله تعالى: - {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج، آية 29] وقال سبحانه: -: - {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة، آية 158].
وإجمالاً فكل هذه العبادات العملية وغيرهما ? مما لم نذكره كالتوبة وحلق الرأس تذللاً وخضوعاً ونحوهما ? يجب أن تصرف لله تعالى وحده لا شريك له، تحقيقاً لأصل التوحيد، كما قال تعالى: - {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء، آية 23].
__________
(1) مجموع الفتاوى 27/93 = باختصار .(212/7)
وقال سبحانه: - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة، آية 5].
قال المقريزي(1) في هذه الآية: - " بالجملة فالعبادة المذكورة في قوله تعالى: - {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هي السجود والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعاً وتعبداً، والدعاء، كل ذلك محض حق الله تعالى.(2) "
ويقول الصنعاني عن هذه الآية أيضاً:- " أمر الله عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذباً منهياً عن أن يقول هذه الكلمة، إذ معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها دون كل أحد، وهو معنى قوله: - {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت، آية 56]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة، آية 41] كما عرف من علم البيان، أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي لا تعبدوا إلا الله، ولا تعبدوا غيره، ولا تتقوا غيره...، فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده، واللجا إلى الله، والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات، من الخضوع والقيام تذللاً لله تعالى، والركوع
صـ269
والسجود والطواف والتجرد عن الثياب، والحلق والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل.(3) "
__________
(1) أحمد بن علي بن عبد القادر الحسيني المصري الحنفي ، عاش في القاهرة ، كان مؤرخاً محدثاً ، وتولى حسبه القاهرة ، له مؤلفات كثيرة ، توفي بالقاهرة سنة 845 هـ .
انظر شذرات الذهب 7/255 ، البدر الطالع 1/79 .
(2) تجريد التوحيد ، ص 22 .
(3) تطهير الاعتقاد ، ص 28 = باختصار يسير .(212/8)
2- وإذا تقرر أن هذه الأعمال من العبادات، وأنها حق لله وحده لا شريك له سواء كانت ذبحاً أو نذراً أو سجوداً أو ركوعاً أو طوافاً ونحوها، فإن من جعل شيئاً منها لمخلوق كائناً من كان فقد أشرك بالله تعالى في عبادته، واتخذ مع الله أنداداً.
(أ) وبيان ذلك أن الذبح أو النذر لغير الله تعالى شرك بالله تعالى، لأنهما عبادتان يجب صرفهما لله تعالى وحده، فمن صرفهما لغيره فقد أشرك، كما أن هؤلاء الذين ينحرون أو ينذرون لغير الله تعالى سواء كان للأموات، أو للجن، أو للملائكة عليهم السلام، أو لطلعة سلطان ونحوها، إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد باطل، فيعتقدون أنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ومنهم من يقدم تلك النحائر والنذور إلى هذه المعبودات من أجل أن تقربهم عند الله زلفى...
يقول الله تعالى: - {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة، آية 3].
يقول ابن عطية في تفسير قوله تعالى: - {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ}: - " يعني ما ذبح لغير الله تعالى، وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل، وكذلك النصارى، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به، فذلك إهلاله.(1) "
__________
(1) تفسير ابن عطية 5/21 .(212/9)
ويقول ابن تيمية: - " قوله تعالى: - {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} [المائدة، آية 3]. ظاهره أنه ما ذبح لغير الله تعالى، مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن، متقربين به إلى الله سبحانه، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح
صـ270
والزهرة أو قصد به ذلك أولى، وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس لكان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم، وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب، بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان.(1) "
ويقول ابن كثير: - " وقوله تعالى: - {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة، قال ابن جريج: - وهي ثلاثمائة وستون نصباً... فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب، فهو من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وينبغي أن يحمل هذا على هذا.(2) "
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 2/563
(2) تفسير ابن كثير 2/12 = باختصار .(212/10)
ويقول الشوكاني: - " قوله تعالى: - {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا، والفسق الخروج عن الحد، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشد الكفر، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر.(1)"
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: - " ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسؤ إلى شيئاً يكتمه الناس، غير أنه قد حدثني بكلمات أربع، فقيل: ما هن يا أمير المؤمنين؟ قال " لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاُ، ولعن الله من غير منار الأرض.(2) "
ومما يبين لك أن هؤلاء الذين ينذرون أو يذبحون لغير الله تعالى، إنما هو عن اعتقاد بأنها تجلب النفع أو تدفع الضر، ما يرى من أحوالهم وأوضاعهم، وقد
صـ271
بين العلماء ذلك في كتبهم، فهذا الصنعاني يوضح هذا الأمر فيقول – مناقشاً شبهات من يذبح لغير الله -: " فإن قال إنما نحرت لله، وذكرت اسم الله عليه، فقل إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم، فقل له هذا النحر لغير الله تعالى، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين؟ إليه أنت تعلم يقيناً أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصداً له.(3) "
__________
(1) فتح القدير 2/10 ، وانظر فتح القدير 1/57 ، وإيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص 451 .
(2) أخرجه مسلم ، ك الأضاحي (3/ 1567) ح (1978) ، وأحمد 1/118 .
(3) تطهير الاعتقاد ص 33 .(212/11)
ويقول أيضاً – مبيناً حكم هذه النذور والنحائر -: - " فإن قلت هذه النذور والنحائر ما حكمها " قلت: قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها، يسعون في جمعها، ولو بارتكاب كل معصية، ويقطعون الفيافي من أدني الأرض والأقاصي، فلا يبذل أحد من ماله شيئاً إلا معتقداً لجلب نفع أكثر منه، أو دفع ضرر، فالناذر للقبر ما أخرج ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما أرداه، ما أخرج درهماً.(1) "
وكذلك الشوكاني يقرر أن هذه الأعمال الشركية صادرة عن الباطن، وأن أصحابها يعتقدون فيها النفع والضر، فيقول: - " وكذلك النحر للأموات عبادة لهم، والنذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتعظيم عبادة لهم، كما أن النحر للنسك وإخراج صدقة المال، والخضوع والاستكانة عبادة لله عز وجل بلا خلاف، ومن زعم أن ثم فرقاً بين الأمرين فليهده إلينا، ومن قال إنه لم يقصد بدعاء الأموات والنحر لهم والنذر لهم عبادتهم، فقل له: فلأي مقتضى صنعت هذا الصنع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر ربك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عرض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم، فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله، وتنذر لله، فلأي معنى جعلت ذلك للميت وحملته إلى قبره، فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، أو أمر قد أردته..(2) "
صـ272
ويعلل صاحب كتاب " التوضيح عن توحيد الخلاق "(3)
__________
(1) المرجع السابق ، وانظر سبل السلام للصنعاني 4/225 .
(2) الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد (ضمن الرسائل السلفية) ص 20 ، 21 .
(3) اشترك في تأليف هذا الكتاب كل من : الشيخ الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ، وحمد بن معمر ، ومحمد بن غريب .
انظر للتحقيق في هذا التوثيق / كتاب دعاوي المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للكاتب ص 59 ، 60 .(212/12)
كون النذر لغير الله تعالى من الشرك الاعتقادي قائلاً: - " لأن الناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أن يضر وينفع، ويعطي ويمنع، إما بطبعه، وإما بقوة سببية فيه، ويجلب الخير والبركة ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم حكيهم وقولهم أنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة،فنذروا نذراً لفلان، وفلان، … فانكشفت شدائدهم واستراحت خواطرهم، فقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي سبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن وسنة المبعوث به صلى الله عليه وسلم، ونظر أحوال السلف الصالح، علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى: - {هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام، آية 136].(1) "
ويتحدث مبارك الميلي (2) عن واقع أولئك الناس الذين يذبحون لغير الله تعالى، ويبين أنهم إنما يفعلون ذلك عن اعتقاد وطلب للقربى من تلك المعبودات... فكان مما قاله: - " إن كل من خالط العامة، يجزم بأن قصدهم بذبائح الزردة (3)التقرب من صاحب المزار، ويكشف عن ذلك أشياء: - أحدها: أنهم
صـ273
__________
(1) التوضيح ص 382 ، 383 = باختصار ، وانظر فتح المنان تتمة منهاج التأسيس لمحمود الآلوسي ص 418 – 421 .
(2) مبارك بن محمد الميلي ، من علماء الجزائر ، عاش في قسنطينة ، وولي أمانة سر جمعية علماء الجزائر ، له مؤلفات ، توفي حوالي سنة 1357 هـ .
انظر : معجم المؤلفين 8/175 .
(3) هكذا تسمى الذبائح التي ذبحت لغير الله باسم " الزردة" أو " النشرة " في بعض جهات الجزائر ، بينما يسمون ما ينذرون لغير الله بالغفارة (انظر رسالة الشرك ومظاهره لمبارك الميلي ص 225 ، 256 ، 269 ) ، وفي اليمن يسمون تلك الذبائح بالجلبة ، وأما النذور فيطلقون عليها " التلم " (انظر الدرر السنية 8/286 ، وتطهير الإعتقاد للصنعاني ص 37) .(212/13)
يضيفون الزردة إلى صاحب المزار، فيقولون: زردة سيدي فلان، أو طعام سيدي عبد القادر مثلاً.
ثانيها: - إنهم يفعلونها عند قبره، وفي جواره، لا يرضون لها مكاناً آخر.
ثالثها: - إنهم إن نزل المطر إثرها، نسبوه إلى سر المذبوح له، وقوى اعتقادهم فيه، وتعويلهم عليه.
رابعها: - أنهم لو تركوها فأصيبوا بمصيبة، نكسوا على رؤوسهم، وقالوا إن وليهم غضب عليهم، لتقصيرهم في جانبه.(1) "
وفي ختام مسألة الذبح أو النذر لغير الله تعالى، ننبه إلى عدم الخلط بين ما يذبح لغير الله تعالى تقرباً أو تعظيماً فهذا من باب العبادات والقربات، وبين ما يذبح عادة بقصد الأكل أو إكرام ضيف ونحوهما.
ولما ساق النووي كلام بعض علماء الشافعية في هذا الشأن قائلاً:- " وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقرباً، أفتى أهل بخاري بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله تعالى، قال الرافعي هذا إنما يذبحونه استبشاراً بقدومه كذبح العقيقة لولادة المولود، وقيل هذا لا يوجب التحريم، والله أعلم (2) "
فقد عقب الميلي على ما سبق إيراده فقال: - " ونقله عن الرافعي غير مخالف لفتوى أهل بخارى إلا بالقصد،فهو خلاف في حال. فمن قصد التقرب إلى الأمير، صدقت عليه الفتوى، ومن قصد مجرد السرور أفتى بقول الرافعي.(3) "
وقال سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معلقاً على هذه المسألة:- " إن كانوا يذبحونه استبشاراً كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك، وإن كانوا يذبحونه تقرباً إليه، فهو داخل في الحديث يعني حديث لعن الله من ذبح لغير الله} .(4) "
صـ274
__________
(1) رسالة الشرك ومظاهره ص 257 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 13/141 وانظر روضة الطالبين للنووي 3/205 .
(3) رسالة الشرك ومظاهرة ص 253 .
(4) تيسير العزيز الحميد ص 192 ، وقد أشار الشاطبي في الموافقات إلى هذا التفريق 2/210 .(212/14)
كما يجب التفريق بين النذر الشركي المخرج من الملة، وبين نذر المعصية فيما دون ذلك، ونبين ذلك من خلال نص في كتاب " التوضيح عن توحيد الخلاق " حيث جاء فيه ما يلي:- "والنذر غير الجائز قسمان " :-
أحدهما: - نذر فعل معصية، كشرب الخمر، وقتل المعصوم، فيحرم الوفاء به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:- " من نذر أن يعصي الله فلا يعصه "؛ ولأن معصية الله تبارك وتعالى لا تباح في حال من الأحوال...
الثاني:- النذر لغير الله تعالى كالنذر لإبراهيم الخليل، أو محمد النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، أو ابن عباس، أو عبد القادر، أو الخضر فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي.(1) "
ومن جانب آخر، فقد لبس خصوم عقيدة التوحيد في هذه المسألة، فزعموا أن الذبح لغير الله، وكذا النذر لغيره، إنما هي من المحرمات التي دون الشرك..، وذلك بسبب سوء فهمهم للنصوص الشرعية، وكلام أهل العلم، بل ربما نسبوا هذا التلبيس لبعض أئمة السلف.(2)"
وقد قام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بكشف هذا التلبيس، وبيان الحق في هذه القضية فكتب جواباً في الرد على ابن سحيم، حين زعم الأخير أن النذر لغير الله حرام ليس بشرك، فقال الشيخ في الرد عليه:-
__________
(1) التوضيح ص 382 ، 383 .
(2) كما فعل ذلك داود بن جرجيس النقشبندي ، فزعم أن ابن تيمية وابن القيم لا يرون كفر من ذبح أو نذر لغير الله ... وحرف بعض كلامهما ، وبتر البعض الآخر ، وأساء الفهم والقصد في هذه المسألة ، وقد قام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ بالرد عليه في كتاب تحت عنوان (منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس) وأتمه محمود شكري الآلوسي .(212/15)
" فدليلك قولهم أن النذر لغير الله حرام بالإجماع، فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك فإن كان هذا قدر عقلك، فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك ما تصنع بقول الله تعالى:- {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [ الأنعام، آية 151]، فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى: - {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ
صـ275
رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف، آية 33]، إلى قوله: {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف، آية 33].
هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك أن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في " الإقناع " أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره، كيف لا يكون شركاً؟ (1) "
ويورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاعدة مهمة أثناء جوابه على من ادعى أن الذبح للجن منهي عنه فهو معصية وليس ردة.. حيث قال الشيخ:-
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 5/229 .(212/16)
" قوله: - الذبح للجن منهي عنه، فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ " التحريم والكراهة " وقوله " لا ينبغي " ألفاظ عامة تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المكفرات قوله: لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له (1)، وقوله {وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم، آية 92]، ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: - {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا}[الأنعام، آية 151]، وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم:-
" يحرم كذا " لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم " يكره " كقوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء، آية 23]، إلى قوله: - {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء، آية 38]، وأما كلام الإمام أحمد في قوله: - " أكره كذا " فهو عند أصحابه على التحريم، إذا فهمت هذا فهم صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج (2)، وقالوا الذبيحة حرام ولو سمي عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان، الأول: - أنها مما أهل به لغير الله، والثاني: أنها ذبيحة مرتد
صـ276
والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل وسمى عليها.(3) "
(ب)وإذا انتقلنا إلى حكم السجود أو الركوع لغير الله تعالى، فهذا من الشرك الظاهر، فلا ريب أن السجود والركوع عبادتان لله وحده لا شريك له، فمن سجد أو ركع لغير الله تعالى فقد أشرك.
__________
(1) يقول ابن القيم : - " وإنما تجيء لا ينبغي في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للذي هو في غاية الامتناع شرعاً " الجواب الكافي ص 179 ، وانظر تجريد التوحيد للمقريزي ص 21 .
(2) أي تخرج من الملة .
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 3/66 ، 67 ، وانظر منهاج التأسيس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ ص 239 , 245 .(212/17)
يقول الله تعالى: - {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت، آية 37]، أي لا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره، فإنه لا يغفر أن يشرك به (1) "
" قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: إن من أراد أن يكون عبداً لله خالصاً، فلا يسجد إلا له سبحانه، ولا يسجد للشمس والقمر، نبه بهما على غيرهما من المخلوق العلوي، فالسفلي من الأحجار والأشجار والضرائح ونحوها بالأولى. وقد دلت هذه الآية على أن ديننا، هو أن السجود حق الخالق، فلا يسجد لمخلوق أصلاً كائناً ما كان، فإن المخلوقية يتساوى فيها الشمس والقمر، والولي والنبي، والحجر والمدر، والشجر ونحوها.(2) "
وأيضاً فإن الله تعالى قال – بعد الآية السابقة -: - {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت، آية 38]، فمن سجد لله وحده، فقد خضع وانقاد لله وحده، وحقق كمال الذل والمحبة لله تعالى، وضده من استكبر عن إفراد الله بالعبادة – ومنها السجود -، وقد توعد الله تعالى هؤلاء المستكبرين بالعذاب المهين (3) فقال سبحانه: - {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(4) [غافر، آية 60].
صـ277
ويقول القرطبي: - " وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوف عادة في سماعهم، وعند دخولهم على مشايخهم، واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه، يسجد للأقدام لجهله سواء كان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم.(5) "
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 4/104 .
(2) الدين الخالص 2/53 .
(3) وسبق مراراً أن ذكرنا قول ابن تيمية : - " ولم يجيء إعداد العذاب المهين إلا في حق الكافر " الصارم المسلول ص 52 .
(4) أي صاغرين حقيرين .
(5) تفسير القرطبي 1/294 .(212/18)
ويقول ابن القيم في بيان هذا الشرك: - " ومن أنواع الشرك: - سجود المريد للشيخ، فإنه شرك من الساجد والمسجود له، والعجب أنهم يقولون: - ليس هذا سجود، وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراماً وتواضعاً، فيقال لهؤلاء ولو سميتموه ما سميتموه، فحقيقة السجود: - وضع الرأس لمن يسجد له، وكذلك السجود للصنم، وللشمس، وللنجم، وللحجر، كله وضع الرأس قدامه.
ومن أنواعه: - ركوع المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة، وهذا سجود في اللغة، به تفسير قوله تعالى: - {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة، آية 58] أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول بالجبهة على الأرض، ومنه قول العرب: سجدت الأشجار إذا أمالتها الريح.(1) "
ويقول أيضاً:- " جاء شيوخ الضلال والمزاحمون للربوبية فزينوا لمريديهم حلق رؤوسهم لهم، كما زينوا لهم السجود لهم وسموه بغير اسمه، وقالوا هو وضع الرأس بين يدي الشيخ، ولعمر الله إن السجود لله تعالى هو وضع الرأس بين يديه سبحانه، وزينوا لهم أن ينذروا لهم، ويتوبوا لهم، ويحلفوا بأسمائهم، وهذا هو اتخاذهم أرباباً وآلهة من دون الله، قال تعالى: - {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ {79} وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران، آية 79، 80].
صـ278
__________
(1) مدارج السالكين 1/344 ، 345 ، وانظر الجواب الكافي لابن القيم ص 178 ، وتجريد التوحيد للمقريزي ص 21 .(212/19)
وأشرف العبودية عبودية الصلاة، وقد تقاسمها الشيوخ والمتشبهون بالعلماء والجبابرة، فأخذ الشيوخ منها أشرف ما فيها، وهو السجود، وأخذ المتشبهون بالعلماء منها الركوع، فإذا لقي بعضهم بعضاً ركع له، كما يركع المصلي لربه سواء، وأخذ الجبابرة منهم القيام، فيقوم الأحرار والعبيد على رؤوسهم عبودية لهم، وهم جلوس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمور الثلاثة على التفصيل، فتعاطيها مخالفة صريحة له، فنهى عن السجود لغير الله وقال: " لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد (1) " وتحريم هذا معلوم من دينه بالضرورة، وتجويز من جوزه لغير الله مراغمة لله ورسوله، وهو من أبلغ أنواع العبودية، فإذا جوز هذا المشرك هذا النوع للبشر، فقد جوز العبودية لغير الله، وأيضاً فالانحناء عند التحية سجود، ومنه قوله تعالى: - {وادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة، آية 58]، أي منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجباه …
والمقصود أن النفوس الجاهلة الضالة أسقطت عبودية الله سبحانه، وأشركت فيها من تعظمه من الخلق، فسجدت لغير الله، وركعت له، وقامت بين يديه قيام الصلاة وحلفت لغيره، ونذرت لغيره، وحلقت لغيره، وذبحت لغيره، وطافت لغير بيته … وسوت من تعبده من المخلوقين برب العالمين، وهؤلاء هم المضادون لدعوة الرسل، وهم الذين بربهم يعدلون. قال تعالى {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، آية 97، 98] (2) "
__________
(1) لم أعثر على هذا الحديث بهذا اللفظ ، وقد ورد بمعناه عند أحمد في المسند 5/277 وابن ماجة في سننه ح (1853) ، والحاكم في المستدرك 4/171 ،172 .
(2) زاد المعاد 4/159 –161 = باختصار ، وانظر أعلام الموقعين 3/117 ، 155 وشرح الشروط العمرية ص 94 .(212/20)
وإذا تقرر كون السجود لغير الله تعالى شركاً بالله تعالى، فينبغي أن نفرق بين سجود العبادة، وسجود التحية، فأما سجود العبادة فقد سبق الحديث عنه، وأما سجود التحية فقد كان سائغاً في الشرائع السابقة، ثم صار محرماً على هذه الأمة، فهو معصية لله تعالى، فمن المعلوم أن سجود العبادة القائم على الخضوع والذل والتسليم والإجلال لله وحده هو من التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وإن صرف لغيره فهو شرك وتنديد، ولكن لو سجد أحدهم لأب أو عالم ونحوهما
صـ279
وقصده التحية والإكرام فهذه من المحرمات التي دون الشرك، أما إن قصد الخضوع والقربة والذل له فهذا من الشرك، ولكن لو سجد لشمس أو قمر أو قبر فمثل هذا السجود لا يتأتى إلا عن عبادة وخضوع وتقرب فهو سجود شركي، وإليك توضيح ذلك من خلال النصوص التالية:-
يقول الله تعالى:- {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} [يوسف، آية 100].
يقول ابن عطية – في معنى السجود -: - " واختلف في هذا السجود، فقيل: كان كالمعهود عندنا من وضع الوجه بالأرض، وقيل: بل دون ذلك كالركوع البالغ ونحوه، مهما كان سيره تحياتهم للملوك في ذلك الزمان، وأجمع المفسرون أن ذلك السجود – على أي هيئة كان – فإنما كان تحية لا عبادة، قال قتادة: - هذه كانت تحية الملوك عندهم.(1) "
ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:- " وقد كان سائغاً في شرائعهم، إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصاً بجناب الرب سبحانه وتعالى، هذا مضمون قول قتادة وغيره – إلى أن قال: - والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سجداً.(2) "
__________
(1) تفسير ابن عطية 9/377 ،378 ، وانظر تفسير القرطبي 1/293 ، 9/265 .
(2) تفسير ابن كثير 2/491 = باختصار .(212/21)
ويقول محمد رشيد رضا عند تفسيره لقوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة، آية 34]: - " وهو سجود لا نعرف صفته، ولكن أصول الدين تعلمنا أنه ليس سجود عبادة إذ لا يعبد إلا الله تعالى، والسجود في اللغة التطامن والخضوع والانقياد، وأعظم مظاهره الخرور نحو الأرض للأذقان، ووضع الجبهة على التراب، وكان عند القدماء من تحية الناس للملوك والعظماء، ومنه سجود يعقوب وأولاده ليوسف عليهم السلام (1) "
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر،
صـ280
لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " (2).
وعن قيس بن سعد (3) رضي الله عنه قال: - " أتيت الحيرة، فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم (4)، فقلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: - إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدن لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: أرأيت لو مررت على قبري أكنت تسجد له، قال: لا، قال: - فلا تفعلوا، لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق.(5) "
__________
(1) تفسير المنار 1/265 .
(2) أخرجه أحمد 3/158 ، وكذا البزار كما في مجمع الزوائد (9/4) وقال الهيثمي : - " رجاله رجال الصحيح غير حفص بن أخي أنس ، وهو ثقة " ووافقه الألباني في الإرواء 7/55 .
(3) هو قس بن سعد عبادة الخزرجي ، صحابي جليل ، أمير مجاهد ، كان يطعم الناس ، وصاحب دهاء ، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد ، مات سنة 85 هـ .
انظر : الإصابة 5/473 ، وسير أعلام النبلاء 3/102 .
(4) أي الفارس الشجاع .
(5) أخرجه أبو داود ح (2140) ، والحاكم (2/187) ، والبيهقي (7/291) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي .(212/22)
"قال الطيبي (1):-
" أي اسجدوا للحي الذي لا يموت، ولمن ملكه لا يزول، فإنك إنما تسجد لي الآن مهابة وإجلالاً، فإذا صرت رهين رمس، امتنعت عنه.(2) "
ويبين ابن تيمية هذه المسألة فيقول: -
" أما تقبيل الأرض، ووضع الرأس، ونحو ذلك مما فيه السجود، مما يفعل قدام بعض الشيوخ، وبعض الملوك، فلا يجوز، بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضاً، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: " الرجل منا يلقى أخاه، أينحني له؟
صـ281
قال لا …(3) "
وأما فعل ذلك تديناً وتقرباً فهذا أعظم المنكرات، ومن اعتقد مثل هذا قربة وتديناً فهو ضال مفتر، بل يبين له أن هذا ليس بدين ولا قربة، فإن أصر على ذلك استتيب، فإن تاب وإلا قتل.(4) "
ويقول أيضاً:-
" وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم، أو تقبيل الأرض ونحو ذلك، فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه، بل مجرد الانحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهي عنه.(5) "
ويقول في موضع ثالث: - وحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحجرة الخليل، وغيرهما من المدافن التي فيها نبي ورجل صالح، لا يستحب تقبيلها ولا التمسح بها باتفاق الأئمة، بل منهي عن ذلك، وأما السجود لذلك فكفر.(6) "
__________
(1) هو الحسين بن محمد بن عبد الله الطيبي ، من علماء الحديث والتفسير ،له ردود على المبتدعة ، كان كريماً جواداً ، له مؤلفات ، توفي سنة 743 هـ .
…انظر الدرر الكامنة 2/156، والبدر الطالع 1/229.
(2) عون المعبود 6/187 .
(3) أخرجه أحمد 3/198 ، والترمذي وحسنه ح ( 2728) ، وابن ماجه ح ( 3702) .
(4) مجموع الفتاوى 1/372 = باختصار .
(5) المرجع السابق 27/92 .
(6) المرجع السابق 27/136 ، وانظر تهذيب رسالة البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات ص 50 ، 51 .(212/23)
(ج) وإذا انتقلنا إلى الطواف، فإن المراد بالطواف الذي يكون شركاً هو الطواف بغير الكعبة مع قصد التقرب لغير الله تعالى، كالطواف بالقبور والمشاهد ونحوها، فالطواف عبادة لقوله تعلى:- {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج، آية 29]، وصرف العبادة أو شيء منها لغير الله شرك، وأما لو طاف بتلك القبور بقصد التقرب إلى الله تعالى فهذا محرم، وبدعة منكرة، ووسيلة لعبادة تلك القبور "
يقول ابن تيمية في هذه المسألة:-
" وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب، فقال: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمره الله به رسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره.(1) "
صـ282
ويقول أيضاً:-
" ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة … فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكاناً يطاف به كما يطاف بالكعبة؟ والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال …(2) "
3-وإذا تقرر حكم هذه الأعمال … فيمكن إيجاز أوجه كون هذه الأعمال كفر بما يلي:-
__________
(1) المرجع السابق 2/308 .
(2) المرجع السابق 27/10 = باختصار .(212/24)
(أ) أن هذه الأعمال شرك يناقض توحيد العبادة، فإذا كان الذبح والنذر، وكذا السجود والركوع والطواف عبادات لا يجوز صرفها إلا لله تعالى وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر (1)؛ لأن الشرك الأكبر – كما سبق ذكره – هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى، والعبادة الشرعية تتضمن غاية الذل لله تعالى، مع غاية المحبة له.(2) "
وكما يقول ابن تيمية:-
" فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء ونحو ذلك.(3) " ومن المعلوم أن الذبح والنذر والسجود والركوع والطواف ونحوها … عبادات تجمع بين الخضوع والخوف والإجلال، والرجاء والمحبة والقرب، فإذا صرفت هذه العبادات لله وحده فهذا إيمان وتوحيد، وإذا صرفت لغيره فهذا كفر وتنديد.
وقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن شرك التقرب والنسك ليس شركاً بإطلاق، مالم يتضمن عندهم الشرك في التوحيد العلمي الخبري؛ لأنهم حصروا التوحيد في الربوبية والأسماء الصفات من ثم فالشرك
صـ283
عندهم هو الشرك في هذا التوحيد.(4)
ومثال ذلك ما توهمه بعضهم بأن السجود لغير الله تعالى لا يكون كفراً إلا إذا اعتقد الربوبية فيمن سجد له(5)، والصحيح أن السجود لغير الله تعالى شرك يناقض توحيد العبادة، وإذا انضم إلى ذلك اعتقاد الربوبية فيمن سجد له، فهذا شرك في توحيد الربوبية.
__________
(1) انظر الرد على البكري لابن تيمية ص 214 .
(2) انظر العبودية لابن تيمية ص 44 .
(3) العبودية ص 51 .
(4) انظر : لمزيد من التفصيل رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 173 ، 174 .
(5) انظر : تهذيب الفروق والقواعد السنية لمحمد على بن حسين المالكي (بهامش الفروق للقرافي ) 1/137 ، وانظر السيل الجرار للشوكاني 4/580 ، وقارنه بكلامه في الدر النضيد ص 34 ، 35 .(212/25)
ومنهم من قال إن السجود للصنم أو الشمس ونحوهما علامة الكفر (1) وإن لم يكن في نفسه كفر، وهذا ليس بصحيح، بل السجود للصنم أو الشمس في حد ذاته كفر وشرك بالله تعالى في العبادة، فهو خضوع ورجاء وتذلل لغير الله تعالى، ولا تقوم عبودية الله تعالى إلا بتحقيق السجود له سبحانه، كما قال تعالى:- {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت، آية 37].
(ب) أن من قصد بتلك العبادات غير الله تعالى، وصرفها لغيره سبحانه، فقد شبه المخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر.
ولذا يقول ابن القيم:- " ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونها: - غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع … - إلى أن قال – فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة فمن تاب لغيره فقد شبهه به.(2) "
صـ284
ويقول – في كتاب آخر -: " ومن أسباب عبادة الأصنام: - الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم، والذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله.
__________
(1) انظر أصول الدين لعبد القاهر البغدادي ص 266 ، والشفا لعياض 2/1072 .
(2) الجواب الكافي ص 183 = باختصار .(212/26)
فأهل الشرك غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلهاً واحداً، وقالا {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص، آية 6]، وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه.(1) "
ويقول ابن القيم أيضاً: - " وقوله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [فصلت، آية 11] إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك، أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون. وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام.. فإن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع، والنذر له والسجود له وحلق الرأس له، والاستغاثة به.(2) "
ومما قاله المقريزي – في شأن هذا التشبيه -: - " إن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، وهي التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى. وسوى بين التراب ورب الأرباب، فأي فجور وذنب أعظم من هذا.
واعلم أن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعاً وفطرة، فمن جعل ذلك لغيره فقد شبه الغير بمن لا شبيه له، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم، أخبر من كتب على نفسه الرحمة أنه لا يغفره أبداً …
صـ285
__________
(1) إغاثة اللهفان 2/322 ،323 = باختصار .
(2) المرجع السابق 2/329 – 341 = باختصار .(212/27)
ومن خصائص الإلهية للسجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به، ومنها الذبح له فمن ذبح لغيره قد شبهه به، ومنها حلق الرأس إلى غير ذلك.(1).
ويتحدث أحمد الدهلوي (2) عن هذا التشبيه قائلاً:- " حقيقة الشرك أن يعتقد إنسان في بعض المعظمين من الناس أن الآثار العجيبة منه إنما صدرت لكونه متصفاً بصفة من صفات الكمال مما لم يعهد في جنس الإنسان بل يختص بالرب جل مجده، لا يوجد في غيره إلا أن يخلع هو خلعة الألوهية على غيره، فيتذلل عنده أقصى التذلل، ويعامل معه معاملة العباد مع الله تعالى. (3)
إضافة إلى ذلك فإن هذا التشبيه من أظلم الظلم وأشنعه، ولذا يقول إسماعيل الدهلوي:-
" قال الله تعالى: - {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان، آية 13] وقد هدت لقمان الحكمة العميقة التي أكرمه الله وخصه بها، إلى أن أفحش الظلم أن يجود الانسان على أحد بحق غيره، فمن أعطى حق الله لأحد خلقه فقد عمد إلى حق أكبر كبير، فأعطاه أذل ذليل، وكان كرجل وضع تاج الملك على مفرق إسكاف، وأي جور أكبر من هذا الجور، وأي ظلم أفحش من هذا الظلم.(4) "
__________
(1) تجريد التوحيد ص 27 , 28 = باختصار ، وكلام المقريزي هاهنا يكاد يطابق كلام ابن القيم في الجواب الكافي ص 182 , 183
(2) هو ولي الله بن أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي ، نشأ بدلهي في الهند ، ورحل إلى الحجاز ، وصار من كبار العلماء ، وأتقن علوماً كثيرة ، وله مؤلفات جمة وجهود إصلاحية متعددة ، توفي سنة 1180 هـ .
انظر : معجم المؤلفين 4/292 . ومقدمة كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير
(3) حجة الله البالغة 1/61= بتصرف يسير .
(4) رسالة التوحيد ص 48 ، 49 .(212/28)
(ج) أجمع العلماء على أن من صرف عبادة لغير الله تعالى فهو كافر – كما تقدم – وكما يقول ابن تيمية: - " فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب،
صـ286
وهداية القلوب وتفريج الكروب، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين.(1) "
ولذا علق الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب على هذا الإجماع قائلاً:- "وهو إجماع صحيح، معلوم بالضرورة من الدين، وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر، أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادة.(2) "
كما أن حرمة مثل هذا الشرك من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، كما وضحه ابن تيمية بقوله: - " فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحد من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين …، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نهى عن كل هذه الأمور، وإن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله.(3) "
كما يقول أيضاً:- " كان من أتباع هؤلاء (المشركين) من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كما يدعو الله تعالى، ويصوم لها وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول إن هذا ليس بشرك،وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سبباً وواسطة لم أكن مشركاً، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك.(4) "
4- وفي ختام هذا المبحث، نسرد مجموعة من أقوال العلماء في هذه المسألة:-
يقول ابن نجيم الحنفي: - " والسجود للجبابرة كفر إن أراد به العبادة، إن أراد به التحية على قول الأكثر.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 1/124 .
(2) تيسير العزيز الحميد ص 229 .
(3) الرد على البكري ص 376 ، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل 1/29 .
(4) درء التعارض 1/227 ، 228 .
(5) البحر الرايق 5/134 .(212/29)
وجاء في الفتاوى البزازية: - " والسجدة لهؤلاء الجبابرة كفر؛ لقوله تعالى مخاطباً للصحابة رضي الله عنهم: - {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران، آية 80]، نزلت حين استأذنوا في السجود له عليه الصلاة والسلام (1) ولا يخفى
صـ287
أن الاستئذان لسجود التحية بدلالة: {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} ومع اعتقاد جواز سجدة العبادة لا يكون مسلماً، فكيف يطلق عليهم بعد إذ أنتم مسلمون "، وقيل لا يكفر لقصة إخوة يوسف عليه السلام، والقائل الأول يدعي نسخة بتلك الآية، وبقوله تعالى: - {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن، آية 18]، وقيل إن أراد العبادة كفر، وإن أراد التحية لا، وهذا موافق لما ذكر في فتاوى الأصل.(2) "
وقال محمد علاء الدين الحصكفي (3) فيمن نذر لغير الله:-
" واعلم أن المنذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام وما يؤخذ من الدراهم والشموع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء الكرام تقرباً إليهم فهو بالإجماع باطل وحرام.(4) "
وقال ابن عابدين شارحاً لما سبق:-
__________
(1) أخرجه عبد بن حميد عن الحسن ، وانظر الدر المنثور للسيوطي 2/250 .
(2) الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 6/343 ، وانظر كلام صنع الله الحلبي الحنفي في تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب ص 207 ، وفتح المنان للآلوسي ص 420 ، ورسالة في تحريم اتخاذ الضرائح المصنوعة من الخشب لمحمد الآبادي ص 25 – 28 ، : - وروح المعاني للآلوسي 17/212 ، ونصاب الاحتساب لعمر السنامي ص 317 .
(3) محمد بن علي بن محمد الحصكفي الدمشقي الحنفي ، فقيه ، أصولي ، مفسر ، نحوي ، رحل إلى القدس ، وتولي إفتاء الأحناف ، له مؤلفات ، توفي بدمشق سنة 1088 هـ .
…انظر : معجم المؤلفين 11/56.
(4) الدر المختار (مع حاشية ابن عابدين) 2/439 .(212/30)
" قوله باطل وحرام لوجوه: - منها أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها أن المنذور له ميت، والميت لا يملك، ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى، واعتقاده ذلك كفر.(1) "
ويقول ابن عبد البر عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2):-
صـ 288
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم، واتخذوها قبلة ومسجداً، كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم.(3) "
ويقول القاضي عياض:- " وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر … كالسجود للصنم، وللشمس، والقمر، والصليب، والنار.(4) "
ويقول النووي:- " اعلم أن الذبح للمعبود وباسمه، نازلة منزلة السجود له، وكل واحد منهما نوع من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة، فمن ذبح لغيره من حيوان، أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة، لم تحل ذبيحته، وكان فعله كفراً، كمن سجد لغيره سجدة عبادة.(5) "
ويقول أيضاً: - والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح كالسجود للصنم، أو الشمس …(6) "
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2/439 .
(2) أخرجه مالك (1/172) ح (172) وأحمد 2/246 \ ، والحميدي ح (1025) وصححه الألباني في " تحذير الساجد " ص 25 .
(3) التمهيد 5/45 .
(4) الشفا 2/1072 .
(5) روضة الطالبين 3/205 ، 206 وانظر روضة الطالبين 1/326 .
(6) المرجع السابق 10/64 ، وانظر مغني المحتاج للشربيني 4/136 .(212/31)
ولما أورد الرملي (1) أنواع الردة … كان مما قاله: - " السجود لصنم أو شمس، أو مخلوق آخر؛ لأنه أثبت لله شريكاً، نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشية منه فلا كفر. – إلى أن قال – وإن قصد تعظيم مخلوق بالركوع كما يعظم الله به فلا
ص289
فرق بينهما في الكفر حينئذ. (2) "
ويقول البريهاري: - "ولا يخرج أحد من أهل القبلة من الإسلام حتى يرد آية من كتاب الله عز وجل، أو يرد شيئاً من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله، وإذا فعل شيئاً من ذلك فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام. (3) ".
__________
(1) محمد بن أحمد بن حمزة الرملي المصري الشافعي ، تولى إفتاء الشافعية بمصر ، وصنف شروحاً وحواشي كثيرة ، توفي سنة 1004 هـ .
انظر :الأعلام 6/7 ، ومعجم المؤلفين 8/255 .
(2) نهاية المحتاج 7/417 ، وانظر قليوبي وعميرة 4/176 ، وتنبيه الغافلين لابن النحاس ص 403 ، والإعلام لبن حجر الهيتمي ص 348 .
(3) شرح السنة للبربهاري ص 31 .(212/32)
ويقول ابن تيمية – في مسألة السجود لغير الله ووسائلها -: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقال: - "فإنها تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار " (1)، ونهى عن تحري الصلاة في هذا الوقت، لما فيه من مشابهة الكفار في الصورة، وإن كان المصلي يقصد السجود لله لا للشمس، لكن نهى عن المشابهة في الصورة لئلا يفضي إلى المشاركة في القصد، فإذا قصد الإنسان السجود للشمس وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، كان أحق بالنهي والذم والعقاب، ولهذا يكون كافراً، كذلك من دعا غير الله، وحج إلى غير الله هو أيضاً شرك، والذي فعله كفر. (2) ".
ويبين ابن تيمية أن السجود الشركي من الأمور المتفق على تحريمها عند الرسل عليهم السلام، فيقول: -
"أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله، كما قال سبحانه وتعالى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}[الزخرف، آية 45](3) "
ص290
ومما سطره هذا الإمام في مسألة النذر الشركي قوله رحمه الله: - "ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة، ولا يجوز أن ينذرها إلا لله، فمن نذر لغير الله فهو مشرك. كمن صام لغير الله، وسجد لغير الله، ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك. (4) "
__________
(1) أخرجه البخاري ك بدء الخلق (6/335) ح (3273) ، ومسلم ك صلاة المسافر (1/567) ح (827) .
(2) الرد على الأخنائي ص 61 ، وانظر مجموع الفتاوي لابن تيمية 27/11 ، 23 ، 11/502 ، واقتضاء الصراط المستقيم ، 2/768 .
(3) إقتضاء الصراط المستقيم 1/192 .
(4) منهاج السنة 2/440(212/33)
ويقول أيضاً: - " وأما النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم، أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم، فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى، سواء كان النذر نفقة أو ذهباً أو غير ذلك، وهو شبيه بمن ينذر للكنائس والرهبان وبيوت الأصنام. (1) "
ويؤكد ابن تيمية على إزالة مثل تلك النذور فيقول: -:وكل ما ينذر له، أو يعظمه من الأحجار أو الأشجار، ونحوها، يجب أن يزال؛ لأنه يحصل للناس به ضرر عظيم في دينهم، كما كسر الخليل عليه السلام الأصنام، وكما حرق موسى عليه السلام العجل، وكما كسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصنام وحرقها لما فتح مكة.. (2) - إلى أن قال – ومن قال أنه يشفى بمثل نذره لهذه الأشياء فهو كاذب، بل يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإنه مكذب لله ورسوله... (3)"
وأرد الشاطبي مثال من ذبح لغير الله تعالى – مع أمثلة أخرى – على مسألة قررها بقوله: - "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل...؛ لأن الأخذ في خلاف مقاصد الشريعة مشاقة ظاهرة، والله تعالى يقول: - {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء، آية 115]، كما أن القاصد لخلاف الشرع مستهزىء بآيات الله وأحكامه، والله تعالى يقول {وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا} [ البقرة، آية 231] (4) "
ص291
__________
(1) مجموع الفتاوي 11/504
(2) أخرجه البخاري بمعناه ، ك المغازي ، ح (4287) ، ومسلم ، ك الجهاد ، ح (1781)
(3) مختصر الفتاوي المصرية ص 551، وانظر الفتاوي 33/123 ، واقتضاء الصراط المستقيم 2/644- 646 .
(4) انظر : الموافقات 2/333 – 335 = باختصار .(212/34)
وذكر مرعي بن يوسف الكرمي أن السجود للحكام بقصد العبادة كفر، وبقصد التحية كبيرة (1).
ومما قاله أحمد الفاروقي السرهندي (2) في مكتوباته: - "والتبري من الكفر شرط الإسلام، والاجتناب عن شائبة الشرك توحيد، والاستمداد من الأصنام والطاغوت في دفع الأمراض والأسقام، كما هو شائع فيما بين جهلة أهل الإسلام عين الشرك والضلالة، وطلب الحوائج من الأحجار المنحوته نفس الكفر – إلى أن قال – وما يفعلونه من ذبح الحيوانات المنذورة للمشائخ عند قبور المشائخ المنذورة لهم جعله الفقهاء داخلاً في الشرك، وألحقوه بجنس ذبائح الجن الممنوع عنها شرعاً. (3)"
ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب في هذا الشأن: - "والعبادة أنواع كثيرة، لكني أمثلها بأنواع ظاهرة لا تنكر، من ذلك السجود فلا يجوز لعبد أن يضع وجهه على الأرض ساجداً إلا لله وحده لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي، ومن ذلك الذبح فلا يجوز لأحد أن يذبح إلا لله وحده، كما قرن الله بينهما في القرآن في قوله تعالى: - {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام، آية 162] ,163 والنسك هو الذبح، وقال {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر، آية 2] فتفطن لهذا، واعلم أن من ذبح لغير الله من جني أو قبر، فكما لو سجد له، وقد لعنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: "لعن الله من ذبح لغير الله" (4) "
__________
(1) انظر : غاية المنتهى 3/337 ، وانظر كشاف القناع للبهوتي 6/137
(2) أحمد بن عبدالأحد السرهندي ، النقشبندي ، من علماء الهند ، دعا إلى نبذ البدع ، اشتغل بالتدريس ، له مؤلفات ، توفي سنة 1034 هـ .
…انظر : الأعلام 1/142، معجم المؤلفين 1/259.
(3) المنتخبات من المكتوبات للسرهندي ص 220 .
(4) الدرر السنية 2/54 .(212/35)
ومما كتبه الشوكاني عن مفاسد البناء على القبور قوله: - " ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمي بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام: أن كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام، وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقرباً به
ص292
إليه، راجياً ما يضمر حصوله منه، فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان، إذ أنه لا فرق بين نحر النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثناً، وبين قبر لميت يسمونه قبراً...
- إلى أن قال – ولا شك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه، واستدفاع الشر به، وهذا عبادة لا شك فيها، وكفاك من شر سماعه. (1) "
ومما قاله الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبو بطين – في هذا الموضوع -: - "فالدين كله داخل في العبادة، فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله، وأنه المعبود، وعرف حقيقة العبادة، تبين له أن من جعل شيئاً من العبادة لغير الله، فقد عبده واتخذه إلهاً، وإن فر من تسميته معبوداً أو إلهاً، فتغير الاسم لا يغير حقيقة المسمى، ولا يزيل حكمه
ولما سمع عدي بن حاتم (2) - وهو نصراني – قول الله تعالى: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة، آية 31]. قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى، قال: فذلك عبادتهم (3) ".
__________
(1) شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص20 = باختصار
(2) عدي بن حاتم بن عبدالله الطائي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسلم في سنة تسع ، شهد فتح العراق ، وكان جواداً ، مات سنة 68 هـ .
…انظر : الإصابة 4/472، وسير أعلام النبلاء 3/162.
(3) سيأتي تخريجه ص 299(212/36)
فعدي ما كان يحسب أن موافقتهم فيما ذكر عبادة منهم لهم، فأخبره صلى الله عليه وسلم أن ذلك عبادة منهم لهم، مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم. وكذلك ما يفعله عباد القبور من دعاء أصحابها، والتقرب إليهم بالذبائح والنذور، عبادة منهم للمقبورين، وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة. (1) "
ص293
ويقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب – في توجيهه القول بأن النذر لغير الله شرك -: " وذلك لأن الناذر لله وحده قد علق رغبته به وحده، لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة، ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله، والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركاً بالله لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، فقد جعله شريكاً لله في العبادة (2) "
ص294
المبحث الثاني:
الحكم بغير ما أنزل الله
لا شك أن تنحية شرع الله تعالى، وعدم التحاكم إليه في شؤون الحياة من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في مجتمعات المسلمين، ولقد كانت عواقب الحكم بغير ما أنزل الله في بلاد المسلمين ما حل بهم من أنواع الفساد وصنوف الظلم والذل والمحق.
ونظراً لأهمية وخطورة هذه المسألة من جانب، وكثرة اللبس فيها من جانب آخر، فنفصل هذه المسألة على النحو التالي: -
__________
(1) الانتصار ص 33، 34 = باختصار .
(2) قرة عيون الموحدين ص 85 وانظر جواب الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ عن الذبح لغير الله تعالى في الدرر السنية 8/286 ، وجواب الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ عن الذبح لغير الله وكذا النذر لغير الله في فتاويه 1/105 – 107 وانظر فتاوي ابن باز 3/322 والمجموع الثمين لابن عثيمين 1/41 ، وفتاوي اللجنة الدائمة 1/89 ، 110 ، 112 – 116 ، 127 ، 132 ، 220 ، 258 .(212/37)
1 - منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين: فرض الله تعالى الحكم بشريعته، وأوجب ذلك على عباده، وجعله الغاية من تنزيل الكتاب، فقال سبحانه: - {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} [البقرة، آيه 213]، وقال تعالى: - {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [النساء، آية 105].
وبين سبحانه اختصاصه وتفرده بالحكم، فقال: - {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام، آية 57]، وقال سبحانه: - {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف، آية 40]، وقال عز وجل: - {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} [القصص، آية 70]، وقال سبحانه: - {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى، آية 42].(212/38)
وجاءت الآيات القرآنية مؤكدة على أن الحكم بما أنزل الله من صفات المؤمنين، وأن التحاكم إلى غير ما أنزل الله (وهو حكم الطاغوت والجاهلية) من صفات المنافقين. قال سبحانه: - {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47}وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49}أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {50} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور، آية 47 – 51].(212/39)
وقال تعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا {61}فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء، آية 59 – 62].
يقول ابن تيمية عن هذه الآيات: -
"ذم الله عز وجل المدعين الإيمان بالكتب كلها، وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله كما يصيب ذلك كثيراً ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم، وإذا قيل لهم تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله أعرضوا عن ذلك إعراضاً، وإذا أصابتهم مصيبة في عقولهم ودينهم ودنياهم بالشبهات والشهوات، أو في نفوسهم وأموالهم عقوبة على نفاقهم، قالوا إنما أردنا أن نحسن بتحقيق العلم بالذوق، ونوفق بين الدلائل الشرعية والقواطع العقلية التي هي في الحقيقة ظنون وشبهات. (1)"
__________
(1) مجموع الفتاوي 12/339 ، 340 = بتصرف يسير(212/40)
ويقول أيضاً: - " ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم ويسلموا تسليماً. (1) "
ويقول محمد رشيد رضا عند تفسيره لقوله تعالى: -
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ..} الآية: - "والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام. (2) "
ص296
ويمكن أن نحدد أهمية إفراد الله تعالى بالحكم، وبيان منزلة الحكم بما أنزل الله من خلال العناصر التالية: -
منزلته من توحيد العبادة: - إن الحكم بما أنزل الله تعالى وحده هو إفراد لله تعالى بالطاعة، والطاعة نوع من أنواع العبادة، فلا تصرف إلا لله وحده لا شريك له، قال تعالى: - {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف، آية 40].
وقال سبحانه: - {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص، آية 70]
فعبادة الله تعالى تقتضي إفراده عز وجل بالتحليل والتحريم، حيث قال سبحانه: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31].
__________
(1) مجموع الفتاوي 7/37 ، 38 .
(2) تفسير المنار 5/227 .(212/41)
وتحقيق هذه الطاعة، وإفراد الله تعالى بالحكم والانقياد لشرعه هو حقيقة الإسلام، وكما قال ابن تيمية: - "فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده. (1)
ويقول أيضاً: - "فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه وإن خالف أمر الله ورسوله، فقد جعله نداً... وهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: - {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} [البقرة آية 165] (2)"
ويقول ابن القيم: - "وأما الرضا بدينه، فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا، ولم يبق في قلبه حرج من حكمه، وسلم تسليماً، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه، أو هواها، أو قول مقلدة وشيخه وطائفته. (3) "
ص297
وفي المقابل فإن من أشرك مع الله في حكمه، فهو كالمشرك في عبادته لا فرق بينهما، كما قال الشنقيطي: - "الإشراك بالله في حكمه، والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله، وتشريعاً غير تشريع الله، كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن، ولا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه، فهما واحد، وكلاهما مشرك بالله. (4) "
__________
(1) مجموع الفتاوي 3/91 وانظر النبوات ص 69 ، 70
(2) مجموع الفتاوي 10/267 .
(3) مدارج السالكين 2/118
(4) الحاكمية في تفسير أضواء البيان لعبدالرحمن السديس ص 52 ، 53 = باختصار ، وانظر أضواء البيان للشنقيطي 7/162 .(212/42)
ويقول أيضاً: - " ويفهم من هذه الآية: - {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: - {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى، هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى: - {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60}وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس، آية 60، 61] وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم، آية 44] (1) "
وتحقيقاً لتوحيد العبادة القائم على نفي الإلهية عما سوى الله تعالى، وإثباتها لله تعالى وحده، فإنه يجب الكفر بالطاغوت، كما قال تعالى: - {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة، آية 256].
وقد سمى الله تعالى الحكم بغير شرعه طاغوتاً، حيث قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء، آية 61]
والطاغوت عام. فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود، أو متبوع،
ص298
__________
(1) أضواء البيان 4/83 ، وانظر أضواء البيان 3/440(212/43)
أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله، فهو طاغوت. (1)
(ب) منزلته من التوحيد العلمي الخبري: - الحكم بما أنزل الله تعالى من توحيد الربوبية، لأنه تنفيذ لحكم الله الذي هو مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه، ولهذا سمى الله تعالى المتبوعين في غير ما أنزل الله تعالى أرباباً لمتبعيهم، فقال سبحانه: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31]. (2) "
وكما يقول محمد رشيد رضا – في بيان معنى الشرك في الربوبية -: -
"هو إسناد الخلق والتدبير إلى غير الله تعالى معه، أو أن تؤخذ أحكام الدين في عبادة الله تعالى والتحليل والتحريم عن غيره، أي غير كتابه ووحيه الذي بلغه عنه رسله. (3)
ويقول ابن حزم – عند قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ...}الآية -: - "لما كان اليهود والنصارى يحرمون ما حرم أحبارهم ورهبانهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، وقد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله وعبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف. (4) "
__________
(1) انظر : أعلام الموقعين 1/49 ، 50 وانظر رسالة معنى الطاغوت لمحمد بن عبدالوهاب (مجموعة التوحيد) ص 260 ، وفتاوي اللجنة الدائمة 1/542 .
(2) انظر المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين 1/33
(3) تفسير المنار 2/55 ، وانظر تفسير المنار 3/326 .
(4) الفصل 3/266(212/44)
ويقول ابن تيمية – في هذا الشأن -: - " وقد قال الله تعالى: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31]، وفي حديث عدي بن حاتم – وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما – وكان قد قدم على النبي صلى الله علي وسلم وهو نصراني، فسمعه يقرأ هذه الآية، قال: فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم
ص299
الله فتحلونه؟ قال فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم "(1) وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم، ولكن أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية...
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون الله، فهذه عبادة الرجال، وقد ذكر الله أن ذلك شرك بقوله: - {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) "
كما أن حقيقة الرضا بالله رباً توجب إفراد الله تعالى بالحكم، واختصاصه تعالى بالخلق والأمر، حيث قال سبحانه: - {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، آية 54]، وقال سبحانه: - {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [ آل عمران، آية 154]، فالأمر كله لله تعالى وحده، سواء كان هذا الأمر أمراً كونياً قدرياً، أو شرعياً دينيا. (3)
__________
(1) أخرجه الترمذي ح (3095) ، والبيهقي ( 10/116) وحسنه الألباني في "غاية المرام" (6)
(2) مجموع الفتاوى 7/67
(3) انظر : تحكيم الشريعة لصلاح الصاوي ص 18-21 ، ورسالة ضوابط التكفير ص116(212/45)
يقول العز بن عبدالسلام (1): - " وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه... وكذلك لا حكم إلا له. (2) "
ويقول عبدالرحمن السعدي: - " فإن الرب، والإله هو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا
ص300
شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى بحيث تكون الطاعات كلها تبعاً لطاعته.(3) "
إضافة إلى ذلك، فإن " الحكم " من أسماء الله تعالى الحسنى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:- " إن الله هو الحكم وإليه الحكم.(4) "
وقال تعالى: - {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام، آية 114].
وقال سبحانه: - {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف، آية 87].
وقال عز وجل:- {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين، آية 8 ].
وإن الإيمان بهذا الاسم يوجب التحاكم إلى شرع الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: - {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف، آية 26]، وقال سبحانه: - {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى، آية 10].
وقد بين الله تعالى – في آيات كثيرة – صفات من يستحق أن يكون الحكم له... كما قال الشنقيطي مبيناً ذلك:-
__________
(1) هو أبو محمد عبدالعزيز بن عبدالسلام السلمي الدمشقي الشافعي ، سلطان العلماء الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر ، كان فقيهاً مفسراً ، ولي الخطابه بدمشق ، له مؤلفات ، توفي بالقاهرة سنة 660 هـ .
انظر : طبقات الشافعية 8/209 ، البداية والنهاية 13/235 .
(2) قواعد الأحكام 2/134 ،135 .
(3) القول السديد ص 102 .
(4) أخرجه أبو داود ح (4955) ، والنسائي (8/226 ، 227) والبيهقي (10/145)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (8/237).
انظر : زاد المعاد 2/335 .(212/46)
" فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع، قوله تعالى: - {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ثم قال مبيناً صفات من له الحكم:- {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {10}فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى، آيات 10-12].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السموات والأرض أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجاً...؟
ص301
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقلبوا تشريعاً من كافر خسيس حقير جاهل.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:- {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف، آية 26].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السموات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات، وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:- {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص، آية 88].(212/47)
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومنها قوله تعالى:-
{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام، آية 57]. فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق، وأنه خير الفاصلين؟.
ومنها قوله تعالى:-
{قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس، آية 59].
فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم؟
سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في التحليل والتحريم.(1) "
(ج) منزلته من توحيد الاتباع - والمقصود بتوحيد الاتباع تحقيق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوحيد الاتباع هو توحيد الرسول بالتحكيم والتسليم.
ص302
والإنقياد والإذعان (2)، وإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن الحكم بما أنزل الله هو توحيد الاتباع.
قال الله تعالى:- {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء، آية 65].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له ظاهراً وباطنه.(3) "
__________
(1) أضواء البيان 7/163 – 168 = باختصار .
(2) انظر شرح العقيدة الطحاوية 1/228 .
(3) تفسير ابن كثير 3/211 .(212/48)
ويقول ابن القيم عن هذه الآية:- " أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم، وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض.(1)
كما أن الحكم بما أنزل الله تعالى هو تحقيق للرضى بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً، ولذا يقول ابن القيم:- " وأما الرضى بنبيه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبته، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان، ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، ولا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه.(2) "
بل إن الحكم بما أنزل الله تعالى هو معنى شهادة أم محمداً رسول الله، وكما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا
ص303
بما شرع.(3) "
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن ص 270 .
(2) مدارج السالكين 2/172 ، 173 .
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/190 ، وانظر تيسير العزيز الحميد لسليمان السليمان بن عبد الله ص 554 ، 555.(212/49)
ولذا يقرر الشيخ محمد بن إبراهيم أن تحكيم شرع الله تعالى وحده هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله بقوله: - " " وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، إذ مضمون الشهادتين أن يكون الله هو المعبود وحده لا شريك له، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتبع المحكم ما جاء به فقط، ولا جردت سيوف الجهاد إلا من أجل ذلك والقيام به فعلاً وتركاً وتحكيماً عند النزاع.(1) "
(د) منزلته من الإيمان:- يقول عز وجل: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا {61}فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء، آية 59 – 62].
ويقول سبحانه: - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء، آية 65].
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/251 .(212/50)
من خلال هذه الآيات الكريمات ندرك منزلة تحكيم شرع الله تعالى من الإيمان، فلقد عد الشارع هذا التحكيم إيماناً كما قال تعالى: - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}
يقول ابن حزم: - " فسمى الله تعالى تحكيم النبي صلى الله عليه وسلم إيماناً، وأخبر الله تعالى أنه لا إيمان إلا ذلك، ومع أن لا يوجد في الصدر حرج مما قضي، فصح يقيناً أن الإيمان عمل وعقد وقول؛ لأن التحكيم عمل، ولا يكون
ص304
إلا مع القول، ومع عدم الحرج في الصدر وهو عقد (1) "
ويقول ابن تيمية: - " فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة، أنه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما شجر بينهم من أمور الدين أو الدنيا، وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه.(2)
__________
(1) الدرة ص 338 .
(2) مجموع الفتاوى 28/471 ، وانظر مجموع الفتاوى 35/363 ، 407 .(212/51)
ويقول الشوكاني عند تفسيره لقوله تعالى:- {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ... الآية}:- " وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنه أولاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال:- {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} فضم إلى التحكيم أمراً آخر. وهو عدم وجود حرج: أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضم إليه قوله {وَيُسَلِّمُواْ} [أي يذعنوا وينقادوا ظاهراً وباطناً، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال} {تَسْلِيمًا} فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه تسليماً لا يخالطه رد، ولا تشوبه مخالفة.(1) "
وتحكيم شرع الله تعالى ورد النزاع إلى نصوص الوحيين شرط في الإيمان، كما قال الله تعالى:- {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء، آية 59].
ولذا يقول ابن القيم:-
" إن قوله {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقة وجله، جليه وخفيه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه، ولم يكن كافياً لم يأمر بالرد إليه، إذ
ص305
__________
(1) فتح القدير للشوكاني 1/484 .(212/52)
من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع ومنها أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإن انتفى هذا الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة.(1) "
ويقول ابن كثير:-
"فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى:- {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.(2) "
وإذا كان التحاكم إلى شرع الله تعالى شرطاً في الإيمان، فإن التحاكم إلى غير هذا الشرع – وهو حكم الطاغوت والجاهلية – ينافي الإيمان، وهو من علامات النفاق، وقد سبق أن أوردنا كلام محمد رشيد رضا حيث يقول عند قوله تعالى:- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء، آية 60]:-
" والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً، ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام.(3) "
__________
(1) أعلام الموقعين 1/49 ، 50 .
(2) تفسير ابن كثير 3/209 .
(3) تفسير المنار 5/227 .(212/53)
ويقول الشيخ السعدي – في هذا الصدد -: " الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان.. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ..} الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه، في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن، واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك.(1) "
ص306
ويؤكد سيد قطب (2) على أن عدم تحكيم الشريعة الإسلامية لا يجتمع مع الإيمان، فيقول رحمه الله عند وقوفه على قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة، آية 43]: - " فهي كبيرة مستنكرة أن يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم بشريعة الله، وعندهم – إلى جانب هذا – التوارة فيها شريعة الله فيتطابق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عندهم في التوارة، مما جاء القرآن مصدقاُ ومهيمناً عليه، ثم يتولون من بعد ذلك ويعرضون، سواء كان التولي بعدم التزام الحكم، أو بعدم الرضا به. ولا يكتفي السياق بالاستنكار، ولكن يقرر الحكم الإسلامي في مثل هذا الموقف {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، أو عدم الرضى بحكم هذه الشريعة، والذين يزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أنهم " مؤمنون، ثم لا يحكمون بشريعة الله في حياتهم، أو لا يرضون حكمها إذا طبق عليهم.. إنما يدعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} .(3) "
__________
(1) تفسير السعدي 2/90 = باختصار .
(2) سيد قطب بن إبراهيم ، مفكر إسلامي كبير ، وأديب بليغ ، له جهود ظاهرة في الإصلاح ، وصاحب مؤلفات ، توفي مقتولاً سنة 1387 هـ .
انظر الأعلام 3/147 .
(3) في ظلال القرآن 2/894 ،895 .(212/54)
ومما كتبه الشيخ محمد بن إبراهيم في هذا المقام قوله: - " إن قوله تعالى: - {يَزْعُمُونَ} تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه.(1) "
ويقرر الشنقيطي أن متبعي المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، ويسوق الأدلة على ذلك، ومنها قوله: - " ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله،
ص307
يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب، وذلك في قوله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ...} الآية.(2) "
إضافة إلى ذلك فإن الإيمان قول وعمل، فهو يتضمن تصديقاً وانقياداً، فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا، كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ} [النساء، آية 64].
ولذا يقول محمد بن نصر المروزي في تعريف الإيمان: " الإيمان بالله: أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له، ولأمره، باعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات.(3) "
__________
(1) رسالة تحكيم القوانين ص 2 .
(2) أضواء البيان 4/83 وانظر الحاكمية في أضواء البيان للسديس ص 58 .
(3) تعظيم قدر الصلاة 1/392 ، 393 .(212/55)
ولا شك أن تحكيم الشريعة انقياد وخضوع لدين الله تعالى، وإذا كان كذلك فإن عدم تحكيم هذه الشريعة كفر إباء ورد وامتناع وإن كان مصدقاً بها، فالكفر لا يختص بالتكذيب فحسب كما زعمت المرجئة.
(هـ) وفي ختام هذا العرض نشير إلى أن تحكيم الشريعة استجابة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ففيه الحياة والصلاح والخير، كما قال الله تعالى:- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال، آية 24].
يقول الشيخ السعدي: - " قوله: {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم، لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلوب والروح، والروح بعبودية الله تعالى، ولزوم طاعته، وطاعة رسوله على الدوام.(1) "
ص308
وإن رفض هذه الشريعة وعدم الاستجابة لها اتباع للهوى، فهو ضلال شنيع في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة، يقول تعالى:- {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص، آية 50].
ويقول سبحانه: - {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص آية 26].
ويقول عز وجل: - {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء، آية 14].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: -
__________
(1) تفسير السعدي 3/125 .(212/56)
" أي لكونه غير ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.(1) "
ولقد جاءت نصوص الوحيين محذرة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى، فقال سبحانه:- {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة، آية 49].
يقول الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الأزهري (2): - فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله فيه، ونهاه عن اتباع أهوائهم لما فيه من مخالفة المنزل إليه، وحذره أن يفتنوه فيحولوا بينه وبين بعض ما أنزل عليه، وأعلمه أنهم إن تولوا عن الحكم الذي أنزله الله إليه فإنما يريد أن يصيبهم ويبتليهم بسبب بعض ذنوبهم. فعلم منه أن التولي عن حكم الله وحكم رسوله إلى
ص309
حكم الأهواء سبب لإصابة الله بالمصائب (3) "
ويحكي ابن القيم شيئاً من عواقب تنحية حكم الله تعالى فيقول: -
__________
(1) عمدة التفسير 3/125 .
(2) هو أبو هبة الله إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني الأسعردي الأزهري السلفي ، لم أعثر له على ترجمة ، ولكنه كان معاصراً لمحمد منير بن عبده آغا الدمشقي (ت1367 هـ)
انظر : نموذج من الأعمال الخيرية لمحمد منير آغا ص 291 ، والأعلام 7/310 .
(3) تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن ص 40 ، وانظر ص 22 ، وانظر مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم 2/53 .(212/57)
" لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربى فيها الصغير وهرم عليها الكبير...(1)
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:- " يا معشر المهاجرين: خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم – وذكر منها -: - وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم.(2) "
وفي رواية: - " وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر (3) "
وفي هذا يقول ابن تيمية: - " وإذا خرج ولاة الأمر عن هذا (حكم الكتاب والسنة) فقد حكموا بغير ما أنزل الله، ووقع بأسهم بينهم، قال صلى الله عليه وسلم:- " ما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم " وهذا من أعظم أسباب تغيير الدول / كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا، ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويحتسب مسلك من خذله الله وأهانه.(4) "
ص310
__________
(1) الفوائد ص 42 ، 43 .
(2) أخرجه ابن ماجه 2/1333 ح (4019) ، والحاكم (4/540) ، والبيهقي (3/346) وقال البوصيري في (الزوائد) :- :هذا حديث صالح للعمل به .." وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " (1/321) . وانظر الصحيحة (106)
(3) أخرجه الطبراني في الكبير وقال المنذري : - " وسنده قريب من الحسن ، وله شواهد " وحسنه الألباني في صحيح الترغيب " (1/321) .
(4) مجموع الفتاوى 35/387 .(212/58)
وصدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الناظر إلى واقع المسلمين – الآن – يرى ما وقع في تلك البلاد من المصائب والشرور، ومن الفرقة والعداوة فيما بينهم، وكذا التقاتل والتناحر، كما ظهر الفقر والتدهور الاقتصادي، مع أن في بلاد المسلمين – كما هو معلوم – أعظم الثروات وبمختلف الأنواع، وأعظم سبب في ذلك هو تنحية شرع الله، والتحاكم إلى الطاغوت والله المستعان.(1)
ص311
2- متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ناقضاً من نواقض الإيمان؟
إذا تقرر أن التشريع من خصائص ربوبية الله تعالى، فالحلال ما حلله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله رسوله، فليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرع في دين الله تعالى، بل الواجب اتباع هذه الشريعة. قال تعالى: - {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف، آية 3].
كما يتعين الكفر بالطاغوت، وذلك بعدم التحاكم إليه واعتقاد بطلانه والبراءة منه. قال تعالى:- {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة، آية 256].
إن الإيمان اليقيني يوجب الانقياد لحكم الله تعالى الذي هو أحسن الأحكام على الإطلاق كما هو حال المؤمنين الصادقين الموقنين، قال تعالى: - {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة، آية 50].
وقال عز وجل: - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب، آية 36].
__________
(1) انظر مثلاً لمعرفة آثار هذه القوانين : رسالة الكتاب والسنة يجب أن يكون مصدر القوانين في مصر للشيخ أحمد شاكر ، وبحث " وجوب تطبيق الشريعة " للشيخ مناع القطان .(212/59)
وأما من تحاكم إلى الطاغوت أو حكم الجاهلية، وهو يدعي الإيمان، فهذه دعوى كاذبة كما هو شأن المنافقين المذكورين في قوله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء، آية 60].
وقد سمى الله تعالى الذين يحكمون بغير شرعه كفاراً، وظالمين، وفاسقين.
فقال سبحانه: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44].
وقال تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة، آية 45].
وقال عز وجل: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [ المائدة، آية 47].
ص312
ويكون الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كفراً ناقلاً عن الملة، وناقضاً من نواقض الإيمان في عدة صور وحالات، نتحدث عن بعضها على النحو التالي:-
(أ) من شرع غير ما أنزل الله تعالى:-
قد تقرر- بداهة – وجوب إفراد الله تعالى بالحكم والتشريع {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف، آية 54]، فإذا كان الله تعالى هو المتفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة لا شريك له في هذه الصفات، فهو سبحانه – أيضاً – وحده المتفرد بالتشريع والتحليل والتحريم، فالدين لا يكون إلا ما شرعه الله تعالى، وليس لأحد أن يشرع شيئاً ما جاء عن الله تعالى، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالتشريع حق خالص لله وحده لا شريك له. من نازعه في شيء منه فهو مشرك، لقوله تعالى: - {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى، آية 21].(212/60)
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأموال الفاسدة.(1) "
وسمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء (2)، فقال سبحانه: - {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [ الأنعام، آية 137].
وقال عز وجل: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31].
فهؤلاء الأحبار والرهبان الذين شرعوا غير تشريع الله تعالى كفار، ولا شك في
ص313
كفرهم؛ لأنهم نازعوا الله تعالى في ربوبيته، وبدلوا دين الله وشرعه.(3)
وإذا كانت متابعة أحكام المشرعين غير ما شرعه الله، تعتبر شركاً، وقد حكم الله على هؤلاء الأتباع بالشرك، كما قال سبحانه: - {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام، آية 121](4) فكيف بحال هؤلاء المشرعين؟
ويقول عز وجل: - {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ} [التوبة، آية 37].
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/113 .
(2) انظر : أضواء البيان للشنقيطي 4/83 ، 7/173 .
(3) انظر : الشريعة الإلهية ص 179- 182 .
(4) انظر : تفسير ابن كثير 2/163 ، فتاوى ابن تيمية 7/70 ، أضواء البيان للشنقيطي 3/440 .(212/61)
يقول ابن حزم عن هذه الآية: " وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون ألبته إلا منه لا من غيره، فصح أن النسيء كفر، وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله. (1) " وهؤلاء المشرعون ما لم يأذن به الله تعالى، إنما وضعوا تلك الأحكام الطاغوتية لاعتقادهم أنها أصلح وأنفع للخلق وهذه ردة عن الإسلام، بل إن اعتبار شيء من تلك الأحكام ولو في أقل القليل عدم رضا بحكم الله ورسوله، فهو كفر ناقل عن الملة (2) إضافة إلى أن هذا التشريع يعد تجويزاً وتسويغاً للخروج على الشرع المنزل، ومن سوغ الخروج على هذه الشريعة فهو كافر بالإجماع. (3)
" إن طواغيت البشر – قديماً وحديثاً – قد نازعوا الله في حق الأمر والنهي والتشريع بغير سلطان من الله تعالى، فادعاه الأحبار والرهبان لأنفسهم فأحلوا به الحرام، وحرموا به الحلال، واستطالوا به على عباد الله، وصاروا بذلك أرباباً من دون الله، ثم نازعهم الملوك في هذا الحق حتى اقتسموا السلطة مع هؤلاء الأحبار والرهبان، ثم جاء العلمانيون فنزعوا الحق من هؤلاء وهؤلاء، ونقلوه إلى هيئة تمثل الأمة أو الشعب، أطلق عليها اسم البرلمان، أو مجلس النواب... (4) "
ص314
__________
(1) الفصل 3/245
(2) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم 12/500 ، والمجموع الثمين لابن عثيمين 1/36
(3) انظر : فتاوى ابن تيمية 27/58 ، 59 ، 28/524 ، البداية لابن كثير 13/119
(4) نظرية السيادة ، وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية لصلاح الصاوي ص 19 ،20(212/62)
وغالب الأنظمة التي تحكم بلاد المسلمين – من خلال استقراء دساتيرها – إنما هو انسلاخ من عقيدة إفراد الله تعالى وحده بالتشريع، حيث جعلت التشريع والسيادة للأمة أو الشعب، وربما جعلت الحاكم مشاركاً في سلطة التشريع، وقد يستقل بالتشريع في بعض الأحوال، وكل ذلك تمرد على حقيقة الإسلام التي توجب الانقياد والقبول لدين الله تعالى، والله المستعان. (1)
يقول د. صلاح الصاوي – عن تلك الأوضاع -: -
" إن الحالة التي تواجهها مجتمعاتنا المعاصرة هي حالة الإنكار على الإسلام أن تكون له صلة بشؤون الدولة، والحجر عليه ابتداء أن تتدخل شرائعه لتنظيم هذه الجوانب، وتقرير الحق في التشريع المطلق في هذه الأمور للبرلمانات والمجالس التشريعية.
إننا أمام قوم يدينون بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق للمجالس التشريعية، فالحلال ما أحلته، والحرام ما حرمته، والواجب ما أوجبته، والنظام ما شرعته، فلا يجرم فعل إلا بقانون منها، ولا يعاقب عليه إلا بقانون منها، ولا اعتبار إلا للنصوص الصادرة منها...
هذه المحنة التي نواجهها اليوم، والتي لا يصلح لدفعها ترقيع جزئي بإلغاء بعض المواد، والنص على اخرى، وإنما يصلحه أن نبدأ بتقرير السيادة المطلقة والحاكمية العليا للشريعة الإسلامية، والنص على أن كل ما يتعارض معها من القوانين أو اللوائح فهو باطل. (2) "
لقد وصل امتهان الشريعة الإلهية ونبذها – في بعض تلك الدساتير – إلى حد أنهم جعلوا هذه الشريعة الربانية مصدراً ثانوياً من مصادر القانون، فتأتي الشريعة متأخرة بعد التشريع الوضعي، والعرف، كما أنهم يجاهرون صراحة بحق التشريع لغير الله تعالى، بحيث أن نصوص الشريعة لا تكتسب صفة القانون عندهم لو أرادوا العمل بتلك النصوص إلا بصدورها عمن يملك حق التشريع، وهي السلطة التى يمنحها الدستور الاختصاص بذلك!
ص315
__________
(1) انظر المرجع السابق ص 12-16
(2) تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية لصلاح الصاوي ص 81(212/63)
أما كون هذه الشريعة منزلة من عند الله تعالى فلا يعطيها صفة القانون عندهم فضلاً أن تكون حاكمة ومهيمنة، بل إن العرف يلغي أي مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية! (1)
كما أن هذه القوانين والدساتير الطاغوتية عند أصحابها قد صار لها من الحرمة والتعظيم كما لو كانت شريعة إلهية، يبين ذلك الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – فيقول: -
" هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام... هي في حقيقتها دين آخر جعلوه ديناً للمسلمين بدلاً من دينهم النقي السامي، لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيراً من الكلمات " تقديس القانون "، " قدسية القضاء "، "حرم المحكمة "، وأمثال ذلك من الكلمات... ثم صاروا يطلقون على هذه القوانين ودراساتها كلمة " الفقه الفقيه "، " والتشريع " و" المشرع "...وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها.(2) "
إن شريعة الله تعالى يجب أن تكون وحدها حاكمة ومهيمنة على غيرها، وأن تكون المصدر الوحيد للتشريع، فلا ننخدع بما يقوله بعضهم بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، لما تتضمنه هذه العبارة الشركية من الإقرار والرضا بمصادر أخرى للتشريع، ولو كانت مصادر فرعية.(3)
يقول الله تعالى:- {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة، آية 49].
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في كتاب حد الإسلام وحقيقة الإيمان لعبد المجيد الشاذلي ص 365 – 377 .
(2) عمدة التفسير لابن كثير 3/124 = باختصار .
(3) انظر : ضوابط التكفير لعبد الله القرني ص 115 ، 116 ، وأضواء على ركن من التوحيد لعبد العزيز بن حامد ص 20.(212/64)
(ب) أن يجحد أو ينكر الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى أحقية حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في رواية لابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44]
ص316
حيث قال: - " من جحد ما أنزل الله فقد كفر "(1) "
وهو اختيار ابن جرير في تفسيره.(2) "
إن جحود حكم الله تعالى هو اعتراض على شرح الله تعالى، وتكذيب لنصوص الوحيين، وقد أجمع العلماء على تكفير من أنكر حكماً معلوماً من الدين بالضرورة، وحكى هذا الإجماع جمع كثير من أهل العلم كما جاء مفصلاً فيما مضى.(3)
فمن ذلك ما قاله أبو يعلى: -
" ومن اعتقد تحليل ما حرم الله بالنص الصريح، أو من رسوله، أو أجمع المسلمون على تحريمه فهو كافر، كمن أباح شرب الخمر ومنع الصلاة والصيام والزكاة، وكذلك من اعتقد تحريم شيء حلله الله وأباحه بالنص الصريح، أو أباحه رسوله أو المسلمون مع العلم بذلك، فهو كافر كمن حرم النكاح والبيع والشراء على الوجه الذي أباحه الله عز وجل، والوجه فيه أن في ذلك تكذيباً لله تعالى ولرسوله في خبره، وتكذيباً للمسلمين في خبرهم، ومن فعل ذلك فهو كافر بإجماع المسلمين.(4) "
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره 6/149 .
(2) انظر : الموضع السابق ، وتفسير ابن كثير 2/58 .
(3) انظر : الفصل الرابع من الباب الأول وعنوان هذا الفصل : " إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة "
(4) المعتمد في أصول الدين ص 271 ، 272 .(212/65)
ويقول ابن تيمية: - " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً بالإتفاق.(1)"
ويقول الشنقيطي: - " من لم يحكم بما أنزل الله معارضة للرسل، وإبطالاً لأحكام الله، فظلمه وفسقه وكفره كلها مخرج عن المللة.(2) "
ص317
ولا يغيب عنا أن هذا الجحود في حد ذاته يعد كفرا، ولو لم يكن معه تحكيم لغير الشريعة، فالجاحد كافر سواء حكم بغير ما أنزل الله أو لم يحكم.
وعندما ساق ابن القيم أقوال العلماء في تأويل قوله تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44]، كان مما قاله – في هذا الشأن – " ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو قول عكرمة، وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم به أو لم يحكم.(3) "
(ج) أن يفضل حكم الطاغوت على حكم الله تعالى، سواء كان هذا التفضيل مطلقاً، أو مقيداً في بعض المسائل.
وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذه الحالة ضمن نواقض الإسلام، فقال: - " من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هدية، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر.(4) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 3/267 ، وانظر فتاوى محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/288 ، وكتاب حد الإسلام للشاذلي ص 437 ، ومقال " تحكيم الشريعة " لمناع القطان ، مجلة البحوث العدد الأول ، ص 67 ، ورسالة ضوابط التكفير للقرني ص 19 ، 20.
(2) أضواء البيان 2/104 .
(3) مدارج السالكين 1/336 .
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/386 .(212/66)
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم: - " من اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمة وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقاً، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، فلا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف نحاتة الأفكار على حكم الحكيم الحميد.(1) "
لقد قام التتار – بعد إسقاطهم لدولة الخلافة العباسية – بإظهار هذا الكفر، وذلك بتقديم حكم الياسق وفرضه على المسلمين ونبذ حكم الله تعالى، وقد أشار ابن كثير إلى هذا الواقع عند تفسيره لقوله تعالى،: - {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة، آية 50].
ص318
فقال: - " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم سنكز خان، الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير...(2) "
__________
(1) فتاوى محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/288 ، وانظر تفسير المنار 6/404 ، 407 وفتاوى ابن باز 1/273 ، والمجموع الثمين لابن عثيمين 1/36 .
(2) عمدة التفسير 4/171 – 173 وانظر البداية لابن كثير 13،119 = باختصار .(212/67)
ويقول محمود الآلوسي في تفسيره: - " لاشك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة، ويتميز غيظاً ويتقصف غضباً إذا قيل له في أمر: أمر الشرع فيه كذا، كما شاهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم...
فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بيّن المخالفة للشرع منها (أي القوانين) ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصاً لها.(1) "
ويتحدث إسماعيل الأزهري عما يزعمه من لا خلاق له من الإيمان، ممن يتهمون هذه الشريعة الكاملة بالنقص... فكان مما قاله:-
" من ظن أن هذه الشريعة الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر غير رسولهم الذي يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.
وكذلك من ظن أن شيئاً من أحكام الكتاب والسنة النبوية الثابتة الصحيحة بخلاف السياسة والمصلحة التي يقتضيها نظام الدنيا فهو كافر قطعاً (2) "
ص319
ويحكي محمود شاكر هذه الحالة فيقول: - " والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتياج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل أسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها.(3) "
__________
(1) روح المعاني 28/20 ، 21 = باختصار .
(2) تحذير أهل الإيمان ص 80، 81 ، وانظر ص 22 .
(3) عمدة التفسير لابن كثير 4/157 .(212/68)
لقد سلك خصوم هذا الدين مسالك متنوعة في سبيل استنقاص الشريعة الإسلامية (1)، وتفضيل حكم الطاغوت على حكم الله تعالى، فتراهم يصفون الإسلام بأنه ديانة روحية، فلا علاقة له بشؤون الحياة الأخرى كالمعاملات والقضاء والسياسة والحدود ونحوها.
يقول أحمد شاكر (2) عن هؤلاء القوم وحكم الله تعالى فيهم:- " والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم وأحكام القتال والغنائم والأسرى وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص فمن زعم أنه دين عبادة فقط (3) فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أو تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال هذا مسلم ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.(4) "
ص320
كما يزعم هؤلاء الخصوم أن في تحكيم الشريعة إقرار للاستبداد السياسي، والإرهاب الفكري، ويستدلون على ذلك بما حصل لأوروبا أثناء تسلط رجال الكنيسة، وتارة ينعقون بدعوى جمود الشريعة، وعدم مواكبتها للحياة المتطورة المتجددة، وربما وصفوا أحكام الحدود والقصاص بالقسوة التي لا تلائم إنسانية هذا العصر.
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في : الإسلام والعلمانية ليوسف القرضاوي ، والعلمانية لسفر الحوالي وتهافت العلمانية في الصحافة العربية لسالم البهنساوي ، وتحكيم الشريعة لصلاح الصاوي .
(2) أحمد بن محمد شاكر ، من علماء الحديث في هذا العصر ، التحق بالأزهر ، وتولى القضاء ، واشتغل بتأليف الكتب ، توفي سنة 1377 هـ .
انظر : الأعلام 1/253 .
(3) أي لا صلة له بشؤون الحياة الأخرى كالمعاملات والحدود .. إلخ .
(4) الكتاب والسنة يجب أن يكون مصدر القوانين في مصر ، ص 98 ، وانظر : - عمدة التفسير لابن كثير (تعليق لأحمد شاكر) 2/171 ، 172 ، وانظر : موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين لمصطفى صبري 4/292 .(212/69)
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم في هذا الشأن: - " وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته، باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً، أو ظاهراً، أو استنباطاً أو غير ذلك، علمه من علمه، وجهله من جهله.(1) "
ويقول الشنقيطي في هذا الصدد:-
"وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض، فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث، وكل دعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ونحو ذلك.
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً.(2)
ومما يلحق بمسألة تفضيل حكم الجاهلية على حكم الله تعالى: من لم يحكم بما أنزل الله تعالى استخفافاً واستهانة بحكم الله تعالى، واحتقاراً له (3)، فمن وقع في ذلك فقد خرج عن الملة؛ لأن ذلك استهزاء بدين الله تعالى، ومن ثم فهو ردة عن الإسلام، كما هو ظاهر في النصوص التالية:-
ص321
يقول تعالى: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66].
__________
(1) فتاوي محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/288 .
(2) أضواء البيان 4/84 ، 85 .
(3) غالباً ما يكون هناك تلازم بين من يفضل حكم الطاغوت على حكم الله ، وبين من يستهين بالشريعة أو يستهزئ بها .(212/70)
يقول الفخر الرازي:- " إن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله، وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال.(1)
ويقول تعالى: - {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة، آية 12].
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: - " استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدين إذ هو كافر، والطعن أن ينسب إليه مالا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين، لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه.(2) "
ويقول ابن أبي العز الحنفي: - " إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر (3) "
ومما قاله أبو السعود (4) عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44]:-
" ومن لم يحكم بما أنزل الله كائناً من كان دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً أي من لم يحكم بذلك مستهيناً منكراً... فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم به.(5) ”
ص322
__________
(1) التفسير الكبير 16/124 .
(2) تفسير القرطبي 8/82 ج
(3) شرح العقيدة الطحاوية 2/446 .
(4) هو محمد بن محمد العمادي الحنفي ، فقيه ، مفسر ، شاعر ، تقلد القضاء ، والفتيا في تركيا ، له مصنفات كثيرة ، توفي بالقسطنطينية سنة 982 هـ .
انظر : شذرات الذهب 8/398 ، البدر الطالع 1/361 .
(5) تفسير أبي السعود 2/64 ، وانظر : تفسير البيضاوي 1/276 ، ومحاسن التأويل للقاسمي 6/215 .(212/71)
(د) من ساوى بين حكم الله تعالى وحكم الطاغوت، واعتقد التماثل بينهما، فهذا كفر ناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق والمناقضة والمعاندة لقوله تعالى: - {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى، آية 11](1)
ولقوله عز وجل:- {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة آية 22]
إن دعوى المساواة بين الحكم الإلهي والحكم الوضعي تنقص للرب جل جلاله، وغلو وطغيان في أحكام البشر، وشرك بالله تعالى، لما في هذه المساواة من اتخاذ الأنداد مع الله تعالى، يقول، تعالى: - {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل، آية 74].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً، " إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون " أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.(2)
ويقول تبارك وتعالى: - {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} [البقرة، آية 165]. فمن أحب من دون الله شيئاً، كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً فهذا ند في المحبة، لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند.(3)
وإذا كان الأمر كذلك فلا أضل ولا أسوأ حالاً من هؤلاء الذين ساروا بين حكم الله تعالى الذي لا معقب لحكمه، وبين حكم البشر العاجزين القاصرين.
__________
(1) انظر فتاوى محمد بن إبراهيم (رسالة تحكيم القوانين) 12/289 ، ومقالة تحكيم الشريعة للقطان ، مجلة البحوث ، العدد الأول ، ص 68 .
(2) تفسير ابن كثير 2/559 .
(3) انظر : مدارج السالكين 3/20 ، وطريق الهجرتين ص 239 ، 240 .(212/72)
يقول ابن تيمية:- " من طلب أن يطاع مع الله، فهذا يريد من الناس أن يتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، والله سبحانه أمر أن لا يعبد إلا إياه، وأن لا يكون الدين إلا له.(1) "
وأخبر تعالى عن أهل النار أنهم يقولون – وهم في النار – لآلهتهم: - {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، آية 97، 98].
ص323
يقول ابن القيم عن هذه الآية: - " ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق والرزق والإماتة والإحياء والملك والقدرة، وإنما سووهم به في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل وهذا غاية الجهل والظلم، فكيف يسوى من خلق من تراب برب الأرباب؟ وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب؟ وكيف يسوي الفقير بالذات الضعيف بالذات، العاجز بالذات، المحتاج بالذات، الذي ليس له من ذاته إلا العدم، بالغني بالذات، القادر بالذات الذي غناه وقدرته وملكه وجوده وإحسانه وعلمه ورحمته وكماله المطلق التام من لوازم ذاته؟ فأي ظلم أقبح من هذا؟ وأي حكم أشد جوراً منه؟ (2) " فإذا كانت التسوية بين الله تعالى وبين خلقه في عبادة من العبادات يعتبر شركاً وتنديداً يناقض توحيد العبادة، فكيف بمن سوى حكم الله تعالى بحكم البشر؟
وعلى كل فإن الرضا بالله تعالى رباً يوجب إفراد الله تعالى بالحكم واختصاصه تعالى بالأمر – قدراً أو شرعاً – كما قال سبحانه: - {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، آية 54]، فالحكم بالطاغوت ولو في أقل القليل ينافي هذا التوحيد، فما بالك بمن سوى حكم البشر بالحكم الإلهي المنزل؟
__________
(1) مجموع الفتاوى 14/329 .
(2) الجواب الكافي ص 177 ، وانظر مفتاح دار السعادة 2/20 ، وطريق الهجرتين ص 296 .(212/73)
(هـ) أن يجوز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، أو يعتقد أن الحكم بما أنزل الله تعالى غير واجب، وأنه مخير فيه، فهذا كفر مناقض للإيمان، لتجويزه ما علم بالنصوص الصريحة القطعية تحريمه، حيث لم يعتقد وجوب إفراد الله تعالى بالحكم، وهو إن لم يكن جاحداً لحكم الله، لكن ما دام أنه لا يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى وحده، وذلك بتجويز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، فهذا كفر ناقل عن الملة.(1)
- يقول القرطبي: - " إن حكم بما عنده على أنه من عند الله تعالى، فهو تبديل له يوجب الكفر.(2) "
ص324
ويوضح ابن تيمية هذه المسألة قائلاً: - " ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسواليف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر.
فإن كثيراً من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً.(3) "
__________
(1) انظر : فتاوى محمد بن إبراهيم 12/288 ،280 ، وأضواء على ركن من التوحيد لعبد العزيز بن حامد ص 43 ، وعمدة التفسير لابن كثير (تعليق لمحمود شاكر) 4/158 ، وفتاوى ابن باز 1/275 ، 137 .
(2) تفسير القرطبي 6/191 ، وانظر تفسير الطبري 6/146 .
(3) منهاج السنة النبوية 5/130 .(212/74)
وبتأمل هذا النص لمهم، يظهر لنا أن من جوزوا الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وقد عرفوا ذلك فلم يلتزموا، فإن هذا يعتبر استحلالاً وردة عن الإسلام، ولو لم يتضمن تكذيباً.(1)
ويقول أيضاً: - " ومن حكم بما يخالف شرع الله ورسوله، وهو يعلم ذلك، فهو من جنس التتار الذي يقدمون حكم الياسق على حكم الله ورسوله.(2)
وإذا كان هذا الصنف من جنس التتار..، فكذلك هم من جنس اليهود عندما حكموا بما يخالف حكم الله تعالى وهم يعلمون ذلك، كما جاء مبيناً في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه حيث قال: - مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً (3) مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوارة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكن كثر في أشرافنا، فكنا إذا
ص325
__________
(1) انظر رسالة ضوابط التكفير ص 228 .
(2) مجموعة الفتاوى 35/407، وانظر الفتاوى 27/58 ، 59 ، 28/524 .
(3) أي مسوداً الوجه ، من الحممة : الفحمة .(212/75)
أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} يقول أئتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروه، فأنزل الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} في الكفار كلها.(1)
فمناط الكفر – هاهنا – ما تلبس به هؤلاء اليهود من تجويز الحكم بغير ما أنزل الله وتبديل حكم الله تعالى، فاليهود كفروا لتغييرهم حكم الله تعالى، فجعلوا التحميم والجلد بدلاً من الرجم، وهم يعلمون خطأهم.(2)
ويقول ابن القيم – عن هذه الحالة -: - " إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر.(3) "
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: - " من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.(4) "
__________
(1) أخرجه مسلم ، ك الحدود (3/1327) ح (1700) ، وأحمد (4/286) .
(2) انظر : رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 219 ، وحد الإسلام للشاذلي ص 381 ، 382 .
(3) مدارج السالكين 1/337 ، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز 2/446 .
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/387 .(212/76)
وإضافة إلى ذلك فإن تجويز الحكم بما يخالف حكم الله تعالى هو قبول للأحكام والتكاليف من غير الله تعالى ولو كان في بعضها، أو اليسير منها...، وهذا مناقض لحقيقة الإسلام لله وحده، فمن استسلم لله تعالى ولغيره كان مشركاً، والاستسلام لله وحده، يتضمن عبادته وحده، وطاعته وحده. (1)
ص326
وتوضيحاً لذلك فنورد ما سطره الأستاذ محمد قطب من أمثلة في تجويز الحكم بما يخالف حكم الله تعالى، حيث يقول: -
" كيف نزعم لأنفسنا أننا آمنا بأنه لا إله إلا الله – أي لا معبود (2) إلا الله، ولا حاكم إلا الله – إذا كنا نقول – بلسان الحال أو بلسان المقال – إنك يا رب قد قلت إن الربا حرام، أما نحن فنقول إنه مدار الحياة الاقتصادية المعاصرة، ولا يقوم الاقتصاد إلا به، ولذلك فنحن نقره ونتداوله، ونجعله هو الأصل في تداول المال! وإنك يا رب قد قلت إن الزنا حرام، وحددت له عقوبة معينة في كتابك المنزل، وفي سنة رسولك صلى الله عليه وسلم، أما نحن فنرى أنه ليس هناك جريمة تستحق العقاب أصلاً إذا تم الأمر برضى الطرفين ولم تكن المرأة قاصراً، وإذا وقعت – من وجهة نظرنا – جريمة فعقوبتها عندنا أمر آخر غير ما قررت! وإنك قد قلت يا رب إن عقوبة السرقة قطع اليد، أما نحن فنرى أن هذه عقوبة وحشية بربرية، إنما عقوبة السرقة عندنا هي السجن، وهي عقوبة مهذبة تليق بإنسان القرن العشرين! (3) "
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 3/91 ومجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب (التفسير) 4/344 .
(2) يقصد : أي لا معبود بحق إلا الله تعالى .
(3) حول تطبيق الشريعة ص 20 ، 21(212/77)
(و) من لم يحكم بما أنزل الله تعالى إباء وامتناعاً فهو كافر خارج عن الملة، وإن لم يجحد أو يكذب حكم الله تعالى(1)، وإذا كانت الحالة السابقة تجويز وقبول الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، فهذه الحالة لا تعدو أن تكون في المقابل من تلك الحالة.
فمن المعلوم – عند السلف الصالح – أن الإيمان قول وعمل، وتصديق وانقياد، فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا، فلا يتحقق الإيمان مع ترك الانقياد والطاعة، قال تعالى:- {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء، آية 64]، فالإيمان ليس مجرد التصديق – كما زعمت المرجئة -، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة
ص327
والانقياد. (2)
كما أن الكفر عدم الإيمان – باتفاق المسلمين (3) -، ومن ثم ليس تكذيباً فحسب، بل قد يكون امتناعاً عن اتباع الرسول مع العلم بصدقه... (4)، وقد يكون هذا الكفر إعراضاً أو شكاً، وعلى هذا يكون من ترك الحكم بما أنزل الله إباءً ورداً فهو كافر مرتد، وإن كان مقراً بهذا الحكم، لأن الإيمان يقتضي وجوب الانقياد والطاعة والإذعان لحكم الله تعالى ونوضح ذلك من خلال ما يلي: -
- مما أورده ابن جرير رحمه الله عند شرحه لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فسألته، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب عنق رجل تزوج امرأة أبيه (5) "
__________
(1) وهذه الحالة تعتبر مثالاً على كفر الإباء والاستكبار ، حيث يعد هذا الكفر هو الغالب على الأمم الكافرة بالرسل عليهم السلام . انظر مدارج السالكين 1/337
(2) انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 54
(3) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 20/86
(4) انظر السنة لعبدالله بن أحمد بن حنبل 1/347 ,348 ، درء تعارض النقل والعقل 1/242 .
(5) سبق تخريجه ص 251(212/78)
حيث يقول ابن جرير: -: فكان فعله (أي نكاحه زوجة أبيه) من أدل الدليل على تكذيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتاه عن الله تعالى ذكره، وجحوده آية محكمة في تنزيله... فكان بذلك من فعله حكم القتل وضرب العنق، فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله وضرب عنقه؛ لأن ذلك كان سنته في المرتد عن الإسلام. (1) "
ومما قاله الطحاوي في شرح هذا الحديث: - "إن ذلك المتزوج فعل ما فعل على الاستحلال، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فصار بذلك مرتداً،فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل به ما يفعل بالمرتد. (2) "
فتأمل – رحمك الله – نص هذا الحديث وما قرره ابن جرير والطحاوي... عندما بينا أن الجحود أو الاستحلال قد يظهر في عمل من الأعمال.. وهذا
ص328
كفر رد وإباء، فليس الجحود أو الاستحلال (القلبي) واقعاً بنطق اللسان فقط. (3)
حتى قال محمد رشيد رضا: - " إن حقيقة الجحد هو إنكار الحق بالفعل. (4) "
ويقول ابن حزم بعبارة شاملة: - " كل من خرج إلى الكفر بوجه من الوجوه، فلابد من أن يكون مكذباً بشيء مما لا يصح الإسلام إلا به، أو رد أمراً من أمور الله عز وجل لا يصح الإسلام إلا به فهو مكذب بذلك الشيء الذي رده أو كذب به.. (5) "
__________
(1) تهذيب الآثار 2/148 وانظر الفتاوى لابن تيمية 20/91
(2) شرح معاني الآثار 3/149
(3) قارن ما سبق ذكره .. بما تراه واقعاً مشاهداً في مجتمعات المسلمين ، عندما "جوزت" تلك الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين أوكار الربا والزنا والخمر ونحوها من المحرمات الظاهرة ، ومنحت التراخيص لتلك الموبقات ، بل "فرضت" تلك المحرمات القطعية ، وقامت على رعايتها وحمايتها ، ليس هذا فحسب ، بل و"سوغت" تلك الأنظمة موالاة الكفار باسم المصالح المشتركة والتعايش السلمي " .. والله المستعان .
(4) مجلة المنار مجلد 25 ، جزء 1 ، ص 21
(5) الفصل 3/266(212/79)
إضافة إلى ذلك فإن من رد وامتنع عن قبول حكم الله تعالى فهو كافر بالإجماع، وإن كان مقراً بهذا الحكم، يقول إسحاق بن راهويه: - " وقد أجمع العلماء على أن من دفع شيئاً أنزله الله.. وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر (1) "
يقول الجصاص (2) في تفسير قوله تعالى: - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء، آية 65]: -
" وفي هذه الآية دلالة على أن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم...(3) "
ص329
كما يقرر ابن تيمية اتفاق العلماء على وجوب قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، وإن كانت مقرة بتلك الشريعة، فيقول:-
" كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة... فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة... فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنة.(4)
__________
(1) التمهيد لابن عبد البر = 4/226 = باختصار .
(2) أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي ، فقيه مجتهد ، استوطن بغداد ، رفض القضاء ، صاحب تعبد وزهد ، له مؤلفات ، توفي سنة 370 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 16/340 ، شذرات الذهب 3/71 .
(3) أحكام القرآن للجصاص 2/213 ، 214 .
(4) مجموع الفتاوي 28/502 .(212/80)
-إلى أن قال -: - " فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال والخمر، والزنا، والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء.(1) "
ويفصل ابن تيمية هذه المسألة تفصيلاً شافياً عندما بين أن من أبى وامتنع عن حكم الله تعالى – وإن كان مقراً بهذا الحكم – فهو أشد كفراً ممن جحد هذا الحكم، فيقول:-
" إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه، فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه، أو أنه حرمه، لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يذعن لله وينقاد، فهو إما جاحد أو معاند، ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج، فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقاً بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق، وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في
ص330
__________
(1) مجموع الفتاوي 28/502 وانظر الفتاوى 28/519 .(212/81)
الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء، إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس، وحقيقته كفر، هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك، ولا ألتزمه وأبغض هذا الحق وأنفر منه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع.(1) "
وتأكيداً لما قرر ابن تيمية، نورد ما قاله النسفي في تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب، آية 36]: -
" فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق.(2) "
ومما يمكن إلحاقه بالإباء والامتناع: الإعراض والصدود عن حكم الله تعالى، ونوضح ذلك بما يلي: -
__________
(1) الصارم المسلول ص 521 ، 522 ، وانظر مجموع الفتاوي 20/97 .
(2) تفسير النسفي (ضمن كتاب مجموعة من التفاسير) 4/119 .(212/82)
يقول تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء، آية 60، 61].
يقول ابن تيمية: - " بين سبحانه أن من دُعي إلى التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله فصد عن رسوله كان منافقاً، وليس بمؤمن... فالنفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره.(1)
ص331
ويقول ابن القيم: - " فجعل الإعراض عما جاء به الرسول، والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه، والتسليم لما حكم رضىً واختياراً ومحبة، فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق.(2) "
ويقول البيضاوي في تفسيره لقوله تعالى: - {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران، آية 32]: - " وإنما لم يقل لا يحبهم لقصد العموم، والدلالة على أن التولي كفر، وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.(3) "
ويقول ابن تيمية عند قوله تعالى: - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام، آية 157]:-
" فذكر سبحانه أنه يجزي الصادف (4)
__________
(1) الصارم المسلول ص 33 = باختصار .
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/353 .
(3) تفسير البيضاوي 1/156 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/338 .
(4) صدف عنه : أي أعرض إعراضاً شديداً ،
انظر : مفردات الأصفهاني ص 408 .(212/83)
عن آياته مطلقاً – سواء كان مكذباً أو لم يكن – سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعاً لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر. (1) "
(ز) من ضمن الحالات التي يكون الحكم بغير ما أنزل الله تعالى كفراً، ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم: -
" وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع (2) ومكابرة لأحكامه،
ص332
ومشاقة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات.
فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 1/56 .
(2) قول الشيخ رحمه الله عن اتخاذ تلك المحاكم الوضعية .. " وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع .. " وذلك لما يتضمنه إنشاء محاكم غير شرعية من الأضرار المتعدية ، والشرور العامة ، والانحرافات الشاملة ، والتي غلبت على المسلمين بسبب إقامة تلك المحاكم القانونية ، إضافة إلى ذلك فإن اتخاذ تلك المحاكم الجاهلية قد يوقع في أكثر من ناقض من نواقض الإيمان من تلك الحالات التي سبق ذكرها ، ومن ثم كانت هذه الحالة أشمل وأعظم من قبلها .(212/84)
فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟(1) "
ومما يلحق بهذه الحالة – ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم – أيضاً:-
" ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها " سلموهم " يتوارثون ذلك فيهم، ويحكمون به، ويحملون على التحاكم إليه عند النزاع بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبة عن حكم الله ورسوله.(2) "
(ح) من خلال عرض الحالات السابقة الموجبة للردة، يظهر حكم المشرع – كما في الحالة الأولى – والحاكم بغير ما أنزل الله – كما في بقية الحالات – ويبقى موضوع المحكوم بتلك القوانين الطاغوتية، فإن كفره متعلق بقبوله لغير شريعة الله، ورضاه بها، إضافة إلى ذلك فإن متابعة هذا المحكوم وقبوله لغير الشريعة من خلال تحاكمه إلى غير ما أنزل الله تعالى، لا يخلو من امتناع عن قبول حكم الله وحده، أو تجويز للحكم بالطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، أو تفضيل لحكم الطاغوت على حكم الله تعالى، أو التسوية بينهما...
ص333
__________
(1) فتاوى محمد بن إبراهيم " رسالة تحكيم القوانين " 12/289 ، 290 .
(2) المرجع السابق 12/290 ، 291 ، وانظر 12/ 280 ، 281 ، 292 ، والدرر السنية 8/241 ، 271 – 275 .(212/85)
يقول الله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {60}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء، آية 60، 61].
ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية: - " التعجيب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم {إلى الطاغوت} دون نفسه (أي التحاكم) للتنبيه على أن إرادته مما يقضي منه العجب، ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع فما ظنك بنفسه؟(1) "
كما دلت الآية على أن إرادة التحاكم إلى الطاغوت إيمان بهذا الطاغوت، ومن ثم فهو كفر بالله تعالى، حيث إن الله تعالى قد فرض على عباده الكفر بالطاغوت، والإيمان به تعالى، حيث قال سبحانه: - {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة، آية 256].
ويقول عز وجل: - {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31].
يقول ابن تيمية – في معنى هذه الآية -:-
" هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين: -
__________
(1) تفسير أبي السعود 1/724 .(212/86)
أحدهما: - أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله، فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله(1) اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً – وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم – فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
ص334
والثاني: - أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: - " إنما الطاعة في المعروف " (2) "(3) "
وأمر آخر وهو أن المحكوم بتلك القوانين راضياً بها فهو كافر، لأن الراضي بالكفر كفاعله يدل على ذلك قوله تعالى: -
{وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} [النساء، آية 140].
__________
(1) مما يجدر التنبيه عليه هاهنا : أن هذا الاستحلال أو الجحود ليس تكذيباً باللسان فقط – كما هو عند المرجئة – فإن هذا الاستحلال أو الجحود يعتبر في حد ذاته كفراً ، وإن لم يكن هناك متابعة أو طاعة لأولئك الأرباب ، ومناط الكفر – هاهنا – هو القبول والمتابعة في هذا التبديل ...
(2) أخرجه البخاري ، ك الأحكام (13/122) ح (7145) ومسلم ، ك الإمارة (3/1469) ح (1840) .
(3) مجموع الفتاوي 7/70.(212/87)
يقول القرطبي: - " قوله تعالى: - {فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره} أي غير الكفر {إنكم إذاً مثلهم} فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر...(1) "
ويقول محمد رشيد رضا: - " إنكم إذاً مثلهم " هذا تعليل للنهي أي إنكم إن قعدتم معهم تكونون مثلهم، وشركاء لهم في كفرهم؛ لأنكم أقررتموهم عليه ورضيتموه لهم، ولا يجتمع الإيمان بالشيء، وإقرار الكفر والاستهزاء به ويؤخذ من الآية أن إقرار الكفر بالاختيار كفر، ويؤخذ منه أن إقرار المنكر والسكوت عليه منكر وهذا منصوص عليه أيضاً، وأن إنكار الشيء يمنع فُشّوه بين من ينكرونه حتماً، فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان، ويتأملوا كيف يمكن الجمع بين الكفر والإيمان، أو بين الطاعة والعصيان، فإن كثيراً من الملحدين في البلاد المتفرنجة يخوضون في آيات الله، ويستهزئون بالدين، ويقرهم على ذلك ويسكت لهم من لم يصل إلى درجة كفرهم، لضعف الإيمان والعياذ بالله تعالى.(2)
ص335
ويقول تعالى: - {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور، آية 47].
يقول النسفي – في تفسيرها -: - {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي المخلصين، وهو إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا، لا إلى الفريق المتولي وحده، وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتفٍ عنهم الإيمان لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء، والإعراض، وإن كان من بعضهم فالرضا بالإعراض من كلهم.(3)
وقال ابن تيمية: - " إن من الرضا ما هو كفر، كرضا الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه.
__________
(1) تفسير القرطبي 5/418 ، وانظر تفسير البيضاوي 1/251 .
(2) تفسير المنار 5/464 .
(3) تفسير النسفي (ضمن مجموعة من التفاسير ) 4/409 .(212/88)
قال تعالى: - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، آية 28]. فمن اتبع ما يسخط الله برضاه وعمله فقد أسخط الله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: - (إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن شهدها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها)(1)
3-متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر؟
يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر إذا حكم الحاكم أو القاضي بغير ما أنزل الله تعالى في واقعة ما (2)مع اعتقاده وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى في هذه القضية المعينة فعدل عنه عصياناً وهوى وشهوة، مع اعترافه بأنه آثم في ذلك، مستحق للعقوبة.
ونسوق جملة من كلام أهل العلم في هذه المسألة:-
ص336
يقول القرطبي: - " إن حكم به (أي بغير ما أنزل الله) هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين. (3) "
ويقول ابن تيمية: - " أما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة. (4) "
__________
(1) الاستقامة 2/121 , 122 .
(2) فهو ليس منهجاً ثابتاً أو قانوناً دائماً ، فمثل هذا يعد إباءً ورفضاً لحكم الشريعة – كما سبق توضيحه ، بل هو ملتزم لشرع الله في الجملة كما قال ابن تيمية ... ، وكما يقول الشيخ محمد بن إبراهيم : - " وأما الذي قيل فيه كفر دون كفر ، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق ، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر ، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل " أ . هـ من فتاوي محمد بن إبراهيم 12/280 ،وانظر : فتاوي محمد بن إبراهيم 6/189 .
(3) تفسير القرطبي6/191
(4) منهاج السنة 5/131(212/89)
يقول ابن القيم: - " إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. (1) "
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم: - "وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج عن الملة.. وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى. وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإن معصيته عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإن معصيةً سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها كفراً. (2) "
ويقول الشنقيطي: - " من لم يحكم بما أنزل الله معتقداً أنه مرتكب حراماً، فاعل قبيحاً، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة. (3) "
وعلى مثل هذه الحالة – التي ذكرت آنفاً – يحمل ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعطاء وطاووس وأبي مجلز رحمهم الله تعالى.
ص337
__________
(1) مدارج السالكين 1/336 ، وانظر شرح الطحاوية 2/446
(2) فتاوى محمد بن ابراهيم ، (رسالة تحكيم القوانين) 12/291
(3) أضواء البيان 2/104 ، وانظر الأضواء 2/109 ، وانظر : تحكيم الشريعة للصاوي ص 71 ورسالة ضوابط التكفير للقرني ص 217 ، ومقال وجوب تحكيم الشريعة لمناع القطان ، مجلة البحوث ع "1" ص 69 ، وكتاب أضواء على ركن من التوحيد لعبدالعزيز بن حامد ص 42 . 43 ، ومختصر الغياثي لمحمد الحسني ص 56 .(212/90)
فقد جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة، آية 44]، أنه قال: - " ليس بالكفر الذي يذهبون إليه؟ "(1) وفي رواية أنه قال:- " كفر لا ينقل عن الملة. " (2) وقال عطاء (3): - "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. (4)
وقال طاووس (5): - " ليس بكفر ينقل عن الملة. " (6)
" وعندما جاء نفر من الإباضية لأبي مجلز (7)، فقالوا له: يقول الله " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ "، "فأولئك هم الظالمون "، " فأولئك هم الفاسقون"، قال أبو مجلز: - إنهم يعملون بما يعملون بما يعملون – يعني الأمراء – ويعلمون أنه ذنب... (8) "
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/313 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/521
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/313 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/522
(3) أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي مولاهم ، المكي ، من خيار التابعين ، فقيه مفسر ، كان مفتي مكة ، صاحب عبادة وزهد ، مات بمكة سنة 115 هـ .
انظر : البداية والنهاية 9/306، سير أعلام النبلاء 5/78.
(4) أخرجه ابن جرير في تفسيره 6/148 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/522
(5) أبو عبدالرحمن طاووس بن كيسان اليمني ، من سادات التابعين ، جمع بين العلم والعبادة ، ولازم ابن عباس رضي الله عنهما ، توفي سنة 106 هـ .
…انظر : البداية والنهاية 9/235، سير أعلام النبلاء 5/38.…
(6) أخرجه ابن جرير في تفسيره 6/148 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/522
(7) لاحق بن حميد السدوسي البصري ، تابعي ثقة ، قدم خراسان ، روى عن نفر من الصحابة ، مات سنة 106 هـ .
انظر : تهذيب التهذيب 11/172
(8) أخرجه ابن جرير في تفسيره 6/146(212/91)
ومما يجدر التذكير به – في هذا المقام – أن هناك من حمل مقالة ابن عباس رضي الله عنهما – وغيرها من الآثار السابقة – ما لا تحتمله، فأساؤا فهمها، والمراد منها، ولذا فلابد من التنبيه على ما يلي: -
ص338
(أ) أن ظاهر سياق تلك الآيات في قوله تعالى: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وما بعدها يدل على أن المعنى المقصود أصلاً بالكفر والظلم والفسق فيها هو الكفر الأكبر، والظلم الأكبر، والفسق الأكبر (1)
كما يوضح ذلك سبب نزولها، حيث أنها نزلت في اليهود – كما سبق بيانه - (2) ثم إن هؤلاء الأئمة كابن عباس وغيره عمموا بها غير الكفار (3)، وقالوا: كفر دون كفر، مع أن سياق الآيات يدل على أنها في الكفار، كما جاء في آخر رواية البراء بن عازب رضي الله عنه – في سبب نزول تلك الآيات -: - " في الكفار كلها "
(ب) أن ما قاله أبو مجلز رحمه الله للإباضية (4)، كان جواباً عما أرادوه من إلزامه بتكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان...، ولأنهم ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عنه..
ومما قاله محمود شاكر – في المقصود من كلام أبي مجلز -: -
__________
(1) ويؤكد ذلك أن الكفر – ها هنا – جاء معرفاً باللام ، وفرق بين الكفر المعرف باللام ، وبين كفر منكر ..
انظر : اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 1/208
(2) انظر مجموع الروايات في سبب نزول تلك الآيات في تفسير ابن جرير 6/140 – 148
(3) انظر ما كتبه الشاطبي في الموافقات 3/285 في بيان سر تعميم السلف لمثل هذه الآية ونحوها ...
(4) 10) الإباضية : - فرقة من فرق الخوارج ، تنسب إلى عبدالله بن إباض التميمي ، وهم خوارج في الاعتقاد ، لكنهم يقولون إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة أو كفر نفاق – على خلاف بينهم – وهم طوائف متعددة .
…انظر : مقالات الإسلاميين 1/183، والملل والنحل 1/134.(212/92)
" اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة. وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين (1)، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها، والعامل بها.
ص339
- إلى أن قال – لم يكن سؤالهم (2) عما احتج به مبتدعة زماننا، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير الله في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه...
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة، ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة.(3) "
__________
(1) يعني قول أبي مجلز ، والذي جاء في روايتين عند الطبري في تفسيره
(2) أي النفر من الإباضية
(3) عمدة التفسير لابن كثير لأحمد شاكر 4/156 , 157 = باختصار .(212/93)
ولعل مما يؤكد ذلك: " ما أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مجلز: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: نعم، قالوا: - {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قال: نعم، قالوا: فهؤلاء يحكمون بما أنزل الله؟ قال: نعم، هو دينهم الذي به يحكمون، والذي به يتكلمون، وإليه يدعون، فإذا تركوا منه شيئاً، علموا أنه جور منهم، إنما هذه اليهود والنصارى والمشركون الذين لا يحكمون بما أنزل الله.(1) "
فينبغي أن يفهم كلام أبي مجلز – وكذا كلام ابن عباس رضي الله عنهما – على ظاهره، وحسب مناسبته بلا غلو، ولا جفاء، فلا نكون كالخوارج الذين جعلوا مطلق المخالفة الشرعية كفراً أكبر، وفي نفس الوقت لا نكون مع الطرف المقابل لهم ممن جعلوا رفض الشريعة وتنحيتها والإعراض عنها كفراً أصغر، فلم يقصد ابن عباس – وكذا أبو مجلز – من أبى وامتنع عن الالتزام بشرع الله تعالى، وتحاكم إلى قوانين الجاهلية، فلم يكن في تلك القرون السابقة من يفعل مثل ذلك،
ص340
فكلام السلف الصالح – في معصية كفر دون كفر – يدور حول قضية مفردة، أو واقعة معينة في الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، عن هوى وشهوة، مع اعتقاد حرمة هذا الفعل وإثمه، وليس منهجاً عاماً، وهذا أمر ظاهر توضحه مقالة ابن تيمية – التي سبق ذكرها -: - " أما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة.(2)"
__________
(1) الدر المنثور للسيوطي 3/88 .
(2) منهاج السنة 5/131 .(212/94)
وكذا ما قاله ابن القيم:- " إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر.(1) "
4- من خلال العرض السابق، نذكر – بإيجاز – أوجه كون الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي:-
(أ) لا يصح الإيمان إلا بالكفر بالطاغوت، فمن لم يكفر بالطاغوت، لم يؤمن بالله تعالى، وقد سمىّ الله تعالى الحكم بغير شرعه طاغوتاً، ومن ثم فالكفر بهذا الطاغوت وغيره من الطواغيت شرط الإيمان.(2)
يقول تعالى: - {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} [البقرة، آية 256].
ويقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء، آية 60].
إضافة إلى ذلك، فقوله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ..} الآية، يدل على أن من تحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى فهو منافق لا يعتد بما يزعمه من الإيمان.
ص341
__________
(1) مدارج السالكين 1/336 ، ولمزيد من التفصيل في هذه المسألة . انظر : - رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 217 ، وأضواء على ركن من التوحيد لعبد العزيز بن حامد ص 36 – 43 ، وحد الإسلام وحقيقة الإيمان لعبد المجيد الشاذلي ص 406 – 414 ، ومختصر الغياثي لمحمد الحسني ص 46 – 60 ، وتحكيم الشريعة للصاوي ص 70 – 83 .
(2) انظر : مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1/376 ، وتيسير العزيز الحميد ص 556 ، وأضواء البيان للشنقيطي 7/165 .(212/95)
(ب) أن اتباع أحكام المشرعين غير ما شرعه الله تعالى شرك بالله تعالى؛ لأن عبادة الله تقتضي إفراده عز وجل بالتحليل والتحريم، حيث يقول سبحانه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة، آية 31]، فذكر الله أن متابعتهم وموافقتهم للأحبار بتحليل الحرام وتحريم الحلال شرك بقوله تعالى: - {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
وأمر آخر وهو أن إفراد الله عز وجل بالحكم والاتباع لشرعه هو معنى الاستسلام لله وحده. والانقياد له بالطاعة، فمن استسلم له تعالى ولغيره صار مشركاً، وقد سمى الله تعالى متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله مشركين... كما جاء في قوله تعالى: - {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام، آية 121]، فصرح وأكد بأنهم مشركون بطاعتهم واتباعهم لتشريع مخالف لما شرعه الله عز وجل.
كما أن الحكم بغير ما أنزل الله يناقض التوحيد العلمي الخبري، فإن لله تعالى وحده الخلق والأمر، يقول تعالى: - {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، آية 54]، فالأمر كله لله وحده سواء كان أمراً كونياً قدرياً، أو أمراً شرعياً دينياً،
يقول الشنقيطي رحمه الله: - " لما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أو كونية قدرية، من خصائص الربوبية... كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع رباً، وأشركه مع الله.(1)
__________
(1) أضواء البيان 7/169 .(212/96)
و" الحكم " من أسماء الله تعالى الحسنى، والحكم بالطاغوت إلحاد في هذا الاسم، وتعطيل لتلك الصفة...(1).
(ج) أن الله عز وجل قد نفى الإيمان حتى يتحقق التحاكم إلى شرع الله وحده..قال تعالى: - {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء، آية 65].
يقول ابن حزم: - " فنص تعالى نصاً جلياً لا يحتمل تأويلاً، وأقسم تعالى
ص342
بنفسه أنه لا يؤمن أحد إلا من حكّم رسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينه وبين غيره، ثم يسلم لما حكم به عليه السلام، ولا يجد في نفسه حرجاً مما قضى.(2) "
ولذا جعله تعالى شرطاً في الإيمان، فقال سبحانه: - {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء، آية 59].
وحيث إن الإيمان قول وعمل، فهو متضمن للتصديق والانقياد، فتحكيم الشريعة إيمان؛ لأنه انقياد وخضوع لدين الله تعالى، ورفض تحكيم هذه الشريعة والامتناع عن قبولها هو كفر إباء ورد. وهذا الإباء والامتناع يعود إما إلى خلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، وعدم التصديق بصفة من صفاته تعالى، أو إلى بغض وكره لحكم الله تعالى، يقول عز وجل: - {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، آية 9]، ويقول تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، آية 28].
__________
(1) انظر : المبحث الثاني من الفصل الأول في الباب الأول : (إنكار اسم أو صفة لله عز وجل) .
(2) الفصل 3/263 وانظر : كتاب العقيدة وأثرها في بناء الجيل لعبد الله عزام ص 78 – 81 .(212/97)
يقول ابن حزم: - " أخبرنا تعالى أنه قد أحبط أعمالهم باتباعهم ما أسخطه وكراهيتهم رضوانه.(1) "
إضافة إلى أن الامتناع عن قبول حكم الله تعالى، هو رد ودفع لما أنزله الله تعالى، يقول إسحاق بن راهويه: - وقد أجمع العلماء على أن من دفع شيئاً أنزله الله... وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر.(2) "
(د) لا شك أن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى معصية لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم.. يقول تعالى {وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء، آية 14].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " أي لكونه غير ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.(3) "
ص343
ويقول ابن تيمية: -
" ولم يجيء إعداد العذاب المهين في القرآن إلا في حق الكفار، كقوله تعالى: - {فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة، آية 90] (4) "
(هـ) أن إنكار حكم الله تعالى وجحوده هو اعتراض على شرع الله تعالى، وتكذيب لنصوص الوحيين، وإنكار لحكم معلوم من الدين بالضرورة كما سبق بيانه.(5)
(ز) أن تفضيل وتقديم حكم الطاغوت على حكم الله تعالى، طعن في أحكام الشريعة الإلهية وتنقص لهذه الشريعة الربانية الكاملة، كما لا يخلو هذا التفضيل من استهانة بآيات الله واستهزاء بهذا الدين، والاستهزاء بالدين، أو بشيء من القرآن، أو السنة كفر ناقل عن الملة، كما قال تعالى: -
__________
(1) الفصل 3/262 .
(2) التمهيد لابن عبد البر = باختصار 4/226 .
(3) عمدة تفسير ابن كثير ، لأحمد شاكر 3/125 .
(4) الصارم المسلول ص 46 .
(5) انظر : الفصل الرابع من الباب الأول : (إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة) .(212/98)
{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66]. كما أ، التسوية بين حكم البشر، وحكم رب البشر من أشنع أنواع الشرك والتنديد، حيث أخبر اتعالى عن أهل النار أنهم يقولون – وهم في النار – لآلهتهم: - {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء، آية 97، 98]. فإذا كانت التسوية بين الله تعالى وبين خلقه في عبادة من العبادات تعتبر شركاً يناقض التوحيد، فكيف بمن سوى حكم البشر بحكم الله تعالى؟
(ح) أن المحكوم بتلك القوانين الطاغوتية عن رضى واختيار هو كافر بذلك؛ لأن الراضي بالكفر كفاعله، كما قال تعالى: - {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} [النساء، آية 140].
يقول القرطبي: - فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي، ذ ظهر منهم منكر، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر.(1) "
ص344
المبحث الثالث
الإعراض التام عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به
1- نذكر في مطلع هذا المبحث، بأن الإيمان يتضمن طاعة وانقياداً، وتسليماً وقبولاً...كما قال محمد بن نصر المروزي – في معنى الإيمان:-
" الإيمان بالله: - أن توحده، وتصدق به بالقلب واللسان، وتخضع له ولأمره، بإعطاء العزم للأداء لما أمره، مجانباً للاستنكاف، والاستكبار، والمعاندة، فإذا فعلت ذلك لزمت محابه، واجتنبت مساخطه.
__________
(1) تفسير القرطبي 5/418 .(212/99)
- إلى أن قال – وإيمانك بمحمد صلى الله عليه وسلم إقرارك به، وتصديقك إياه، واتباعك ما جاء به، فإذا اتبعت ما جاء به، أديت الفرائض، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ووقفت عند الشبهات، وسارعت في الخيرات.(1) "
ويقول ابن تيمية:-
" من الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة، والصيام والحج، ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار، كقوله تعالى: - {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم، آية 42، 43] (2).
وإذا كان الإيمان يعد خضوعاً واستجابة وقبولاً لدين الله تعالى، فإن الإعراض ينافي ذلك ويضاده كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
2-نشرع في الحديث عن الإعراض... فنورد معناه في اللغة، ويقال: أعرض عنه، أي صد عنه وتولى عنه (3)
ص345
يقول الراغب الأصفهاني: - " وإذا قيل: أعرض عني، فمعناه ولى مبدياً عرضه.(4)
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 1/392 ، 393 .
(2) مجموع الفتاوى 7/611 .
(3) انظر : اللسان 7/182 ، وترتيب القاموس للزاوي 3/196 ، ومختار الصحاح ص 425 ، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي 1/216 ، 2/1 ، ومفردات الراغب ص 406 ، 408 ، 838 .
(4) المفردات ص 495 .(212/100)
" يقول الفيومي: - أعرضت عنه: أضربت ووليت عنه، وحقيقة جعل الهمزة للصيرورة أي أخذت عرضاً، أي جانباً غير الجانب الذي هو فيه.(1) (2)
__________
(1) المصباح المنير ص 478 .
(2) وبهذا يعلم أن الإعراض في اللغة هو بمعنى التولي والصدود .. وبعضهم يجعل الإعراض أشد وأبلغ من التولي (انظر تفسير المنار 3/266) ، والإعراض يكون بمعنى الترك ، لأن ترك الطاعة يعتبر تولياً ، كما قال تعالى : - " " قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين " " آل عمران ، آية 32 ، ولعل هذا يؤكد أن الإعراض ناقض عملي ، فإنه إذا كان تركاً فهو يعتبر فعلاً كما هو مقرر عند أهل الأصول . وأمر آخر يحسن هاهنا ذكره وهو أن ننبه على عدم الخلط بين الإعراض ، والاعتراض ، فالاعتراض إعراض مع مناقضة ومصادمة للنصوص الشرعية ، وصد عن سبيل الله تعالى ، يقول ابن القيم في بيان ذلك : - " إن الله سبحانه وصف المعرضين عن الوحي المعارضين له بعقولهم وآرائهم بالجهل والضلال والحيرة الشك والعمى والريب ، فلا يجوز وصفهم بالعلم والعقل والهدى ، ومنشأ ضلال هؤلاء من شيئين أحدهما : الإعراض عما جاء به الرسول ، والثاني معارضته بما يناقضه فمن ذلك نشأت الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة ، فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه ... وهذا حال أهل الجهل المركب، ومن أعرض عما جاء به الرسول ولم يعرفه، ولم يتبينه، ولا عارضه بمعقول أو رأي فهو من أهل الجهل البسيط ، وهو أصل المركب " أ . هـ من الصواعق المرسلة 3/1131 ولما كان الاعتراض أعظم إثماً وأعم ضرراً من الإعراض ، كانت عاقبته أشد ، وعذابه أسوأ ، كما قال تعالى : - " " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون " " الأنعام ،آية 157 . فمن أظهر الأقوال في معنى هذه الآية – كما يقول ابن كثير – ما قاله السدي : - " أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ، ولا اتبع ما أرسل به ، ولا ترك غيره ، بل صدف عن اتباع آيات الله أي صرف الناس وصدهم عن ذلك "أهـ" من تفسير ابن كثير 2/184 ويدل على ذلك قوله تعالى : - " " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب " " النحل ، آية 8.(212/101)
"
والمقصود بالإعراض – هاهنا – والذي يعد ناقضاً من نواقض الإيمان العملية، والإعراض التام عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، وهو التولي عن طاعة
ص346
الرسول والامتناع عن الإتباع، والصدود عن قبول حكم الشريعة، فإذا كان جنس العمل الظاهر من أصل الإيمان، فإن تركه وعدم الالتزام به إعراض كلي عن هذا العمل، ومن ثم فهو كفر مخرج عن الملة.
لكن يجب أن يعلم أن الإعراض ليس كله مما يخرج عن الملة، بل منه ما هو مخرج من الملة – كما ذكرنا – وهو الإعراض عن جنس العمل (الطاعة) والذي يعد شرطاً في صحة الإيمان، كما وضحه ابن تيمية قائلاً: -
" وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه، أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة، ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات.(1) "
وهناك إعراض لا يخرج من الملة، كأن يكون معه أصل الإيمان، لكنه يعرض عن فعل واجب من الواجبات الشرعية، وبهذا ندرك الفرق بين الإعراض الكلي عن جنس العمل الظاهر (2) (الطاعة أو الاتباع)، وبين الإعراض الجزئي عن بعض العمل، فالأول ينقض الإيمان وينفيه بالكلية، والآخر ينقص الإيمان، لكن لا ينفيه بالكلية.(3)
فهذا الإعراض الكلي أو التام مخرج عن الملة، ومن تلبس بهذا الإعراض فهو كافر، وإن كان يحسب أنه يحسن صنعاً، لأن من كان متمكناً ثم فرّط فأعرض عما جاء به الرسول فهو تارك للواجب.
يقول ابن تيمية – في هذه المسألة -: -
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/621 .
(2) ويلحق بهذا الإعراض ما دل الدليل على أن تاركه يكفر ... كالصلاة ، كما سيأتي تفصيلاً إن شاء الله .
(3) انظر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/315 ،والدرر السنية 8/258 ، وإرشاد الطالب لابن سحمان ص 11 ، ومنهاج أهل الحق لابن سحمان ص 63 ، 64 ، ورسالة ضوابط التكفير للقرني ص 195 – 201 .(212/102)
" وأصل ضلال هؤلاء (الرافضة والجهمية) الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه.(1) "
ص347
ويذكر ابن القيم الفرق بين المعرض المفرط وبين العاجز قائلاً:-
" كل من اعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلابد أن يقول يوم القيامة: - {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف، آية 38]
فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلاله إذا كان يحسب أنه على هدى، كما قال تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف، آية 30].
قيل لا عذر لهذا وأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى، فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه،وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر، والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول، وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه...(2) "
ويقول أيضاً: - " إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إراداتها والعمل بها وبموجبها...(3) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 12/497 .
(2) مفتاح دار السعادة 1/43 ، 44 , وانظر هذه المسألة أكثر تفصيلاً وبياناً في طريق الهجرتين ص 412 .
(3) طريق الهجرتين ص 414 .(212/103)
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا {99} مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا {100} خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً} [طه، آية 99- 101]: - " وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم وأهل الكتاب وغيرهم، كما قال: - {لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام، آية 19] فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة...(1) "
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: -
" وأما من أعرض عن الهدى ودين الحق، ولم يرفع به رأساً بعد معرفته، أو مع تمكنه من معرفته، فالأدلة القرآنية والأحاديث النبوية دالة على دخول هؤلاء في الوعيد. قال تعالى: - {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه، آية 123 , 124](2) "
3-والآن نوجز حكم الإعراض عن دين الله تعالى، بأنه ينافي الإيمان ويضاده، كما قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور، آية 47].
والإعراض عن دين الله وشرعه هو حقيقة النفاق. يقول تعالى: - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء، آية 61].
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/160 .
(2) منهاج التأسيس ص 227 ، 228 .(212/104)
يقول ابن القيم عن هذه الآية: - " فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والإلتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه، والتسليم لما حكم به رضىً واختياراً ومحبة، فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق.(1)
ويقول محمد رشيد رضا – في تفسير هذه الآية: - " والآية ناطقة بأن من صد وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام.(2) "
إضافة إلى ذلك، فإن المؤمنين أهل طاعة وانقياد، وأصحاب استجابة وتسليم أما الإعراض عن دين الله تعالى فهو من صفات الكافرين، وخصال المنافقين، كما جاء ذلك مفصلاً في آيات كثيرة من القرآن.
يقول الله تعالى: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} [آل عمران، آية 23].
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47}وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} [النور، آية 47 , 48].
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف، آية 3].
ص349
{وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر، آية 3].
{فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى {14} لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل، آية، 14-16].
4- إن الإعراض عما جاء به الرسول ذنب عظيم، وإثم كبير، ولذا فإن له عواقب وخيمة، وآثار سيئة، نذكر منها ما يلي:-
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/353 .
(2) تفسير المنار 5/227 .(212/105)
(أ) يقول تعالى: -}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا {61}فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء، آية 61]، 62.
ويقول سبحانه: - {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة، آية 49].
فعلم من خلال هاتين الآيتين أن الإعراض عن دين الله سبب في وقوع البلايا والمصائب.(1)
(ب) ويقول عز وجل: - {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران، آية 63]. يقول البيضاوي في تفسير هذه الآية: - " وعيد لهم، ووضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن التولي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدين والاعتقاد المؤدي إلى فساد النفس، بل وإلى فساد العالم.(2) "
(ج) يقول تعالى:- {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه، آية 123 – 126].
يقول ابن تيمية:- " من أعرض عنه [أي الوحي} وإن لم يكذب به فإنه يكون يوم القيامة في العذاب المهين، وأن معيشته تكون ضنكا في هذه الحياة، وفي البرزخ، والآخرة، وهي المضنوكة النكدة المحشوة بأنواع الهموم والغموم والأحزان، كما أن الحياة الطيبة هي لمن آمن وعمل صالحاً.
__________
(1) انظر مختصر الصواعق لابن القيم 2/353 .
(2) تفسير البيضاوي 1/165 ، وانظر تفسير أبي السعود 1/498 .(212/106)
- إلى أن قال – وقد أمر آدم وبنوه من حين أهبط باتباع هداه الذي يوحيه إلى الأنبياء، فثبت أن علة الشرك كان من ترك اتباع الأنبياء والمرسلين فيما أمروا به من
ص350
التوحيد والدين.(1)
ويقول ابن كثير: - قوله : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غير هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} في الدنيا فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد.(2) "
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه الآية -: - " ذكر الله لمن أعرض عن القرآن عقوبتين إحداهما: المعيشة الضنك، وفسرها السلف بنوعين، أحدهما: ضنك الدنيا، وهو أنه إن كان غنياً، سلط عليه خوف الفقر، وتعب القلب والبدن في جميع الدنيا حتى يأتيه الموت ولم يتهن بعيش.
الثاني: - الضنك في البرزخ وهو عذاب القبر، وفسر الضنك في الدنيا أيضاً بالجهل، فإن الشك والحيرة لهما من القلق وضيق الصدر ما لهما.(3) "
(د) يقول تعالى:- {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور، آية 63].
ومعنى يخالفون: - يعرضون ويصدون.(4)
ومما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية: - قوله تعالى {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}
أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو زندقة. " أو يصيبهم عذاب أليم " أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 20/107 = باختصار وانظر : 20/109 ، 112 .
(2) تفسير ابن كثير 3/164 .
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب 4/266 ، 267 .
(4) انظر تفسير البيضاوي 2/136 ، وأضواء البيان 6/252 .
(5) تفسير ابن كثير 3/297 .(212/107)
(هـ) وقد أورد الشنقيطي جملة من عواقب الإعراض، عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف، آية 57].
فكان مما قاله رحمه الله: -
ص351
" وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من العواقب الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن التذكرة، فمن نتائجه السيئة: ما ذكره هنا في أن صاحبه من أعظم الناس ظلماً، ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق، وعدم الاهتداء أبداً، فقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف، آية 57]، ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة، كما قال تعالى: - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة، آية 22]، ومنها كون المعرض كالحمار كما قال تعالى {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {49}كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} [المدثر، آية 49]، ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود كما قال تعالى: - {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [ فصلت، آية 13]، منها تقييض القرناء من الشياطين كما قال تعالى: - {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف، آية 36]. (1) "
5- وأما وجه كون هذا الإعراض من نواقض الإيمان فذلك لجملة من الاعتبارات نذكر منها ما يلي:-
__________
(1) أضواء البيان 4/142 ، 143 = باختصار .(212/108)
(أ)أن الله تعالى نفى الإيمان عمن أعرض وتولى عن دين الله عز وجل، يقول تعالى {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {47}وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ} [النور، آية 47، 48].
يقول ابن حزم عن هذه الآيات: - " هذه الآيات محكمات لم تدع لأحد علقة يشغب بها، قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون: نحن المؤمنون بالله وبالرسول ونحن طائعون لهما، ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، أولئك بنص حكم الله تعالى ليسوا مؤمنين.(1) "
ص352
ويقول ابن تيمية عن هذه الآيات وأمثالها: - " فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول، وقال تعالى: - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور، آية 62].
وقال: - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال، آية 2] ففي القرآن والسنة من نفى الإيمان لم يأت بالعمل مواضع كثيرة...(2) "
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام 1/92 .
(2) مجموع الفتاوى 7/142 ، وانظر 7/221 .(212/109)
ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآيات: - " يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، يقولون قولاً بألسنتهم: - {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى: - {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية، أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه.
- إلى أن قال – وأياً كان فهو كفر محض والله عليم بكل منهم وما هو منطو عليه من الصفات.(1)
مع أن بعض المفسرين يرى أن معنى الآية أبلغ مما سبق ذكره، حيث يقررون بأن الجميع منتف عنهم الإيمان، وإن كان الإعراض والتولي من بعضهم، وذلك بسبب تحقق الرضا بالإعراض من جميعهم، كما قال النسفي: -
" قوله {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي المخلصين، وهو إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا، لا إلى الفريق المتولي وحده، وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتف عنهم الإيمان، لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء، والإعراض وإن كان من بعضهم، فالرضا بالإعراض من كلهم.(2) "
إضافة إلى ذلك، فمن الأدلة على أن الإعراض عن دين الله تعالى ينافي الإيمان، قوله تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى {126} وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه، آية 124-128].
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/288 = باختصار .
(2) تفسير النسفي 4/409 ، وانظر تفسير أبي السعود 4/134 .(212/110)
وكما قال أبو السعود: - " قوله تعالى [وَكَذَلِكَ} [أي مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية، {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} بالانهماك في الشهوات، {وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} [بل كذبها وأعرض عنها] …(1)"
(ب) إذا كان الإيمان يتضمن طاعة وانقياداً، وتسليماً وقبولاً، واستجابة وخضوعاً لدين الله تعالى، فإن الإعراض يضاد ذلك وينافيه، فهو تول وصدود، وترك وامتناع، وهو إعراض عن الهدى، وعدم إرادته والعمل به وبموجبه، وقد تقرر – عند أهل السنة – أن الإيمان ليس تصديقاً قلبياً فحسب،بل لابد فيه من الخضوع والانقياد.
وكما يقول ابن تيمية: - " لا بد أن يقترن بالعلم في الباطن مقتضاه من العمل الذي هو المحبة والتعظيم والانقياد ونحو ذلك، كما أنه لابد أن يقترن بالخبر الظاهر مقتضاه من الاستسلام والانقياد لأهل الطاعة، فهؤلاء الذين يعلمون الحق الذي بعث الله به رسوله، ولا يؤمنون به، ويقرون به يوصفون بأنهم كفار، وبأنهم جاحدون ويوصفون بأنهم مكذبون بألسنتهم، وأنهم يقولون بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم، وقد أخبر الله في كتابه أنهم ليسوا بمكذبين بما عملوه، أي مكذبين بقلوبهم وإن لم يكونوا مؤمنين مقرين مصدقين، إذ العبد يخلو في الشيء الواحد عن التصديق والتكذيب. والكفر أعم من التكذيب فكل من كذب الرسول كافر، وليس كل كافر مكذباً، بل من يعلم صدقه، ويقر به وهو مع ذلك يبغضه أو يعاديه كافر، أو من أعرض فلم يعتقد لا صدقه ولا كذبه كافر وليس بمكذب..(2) "
وأيضاً فإن المعرض عن دين الله تعالى لا يحب هذا الدين ولا يبغضه، ولا يصدق بالنبي ولا يكذبه، ولذا فهو معرض عن الطاعة والاتباع، بسبب خلو القلب من هذا الحب أو الإرادة؛ ومن المعلوم أن هذا الحب أو الإرادة الصادقة لو كانت موجودة لظهر لازمها من الطاعة والانقياد.
__________
(1) تفسير أبي السعود 3/675 .
(2) التسعينية 5/166 .(212/111)
قال ابن تيمية:- " محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن
صـ354
التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين. (1) "
(ج) ذكر الله تعالى أن الإعراض والتولي عن طاعة الله كفر، فقال تعالى: - {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران، آية 32].
يقول ابن كثير في تفسيره: - {فإِن تَوَلَّوْاْ} [أي تخالفوا عن أمره، " فإن الله لا يحب الكافرين " فدل على أن مخالفته في الطريق كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين.(2)
ويقول البيضاوي: - " وإنما لم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على أن التولي عن الطاعة كفر، وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين.(3) "
ويقول أبو السعود: - " وإيثار الإظهار على الإضمار لتعميم الحكم لكل الكفرة والإشعار بعلته، فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر.(4) "
ومما يدل على أن الإعراض عن دين الله والتولي عن طاعته كفر، أن الله تعالى توعد من أعرض وتولى بالصلي المطلق في النار، وهو المكث فيها والخلود الدائم، كما قال تعالى: - {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى {14} لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل، آية 14-16]، فالمتولي عن الطاعة كافر، ويشمله هذا الوعيد الشديد، كما أن المكذب كافر، وداخل في هذا الوعيد أيضاً.
__________
(1) التحفة العراقية في أعمل القلوب ص 57 .
(2) تفسير ابن كثير 1/338
(3) تفسير البيضاوي 1/156 .
(4) تفسير أبي السعود 1/466 ، وانظر تفسير روح المعاني للآلوسي 3/130 .(212/112)
يقول الشوكاني في تفسير الآيات السابقة: - {لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى} [أي يصلاها صلياً لازماً على جهة الخلود إلا الأشقى وهو الكافر، وإن صليها غيره من العصاة فليس صليه كصليه … ثم الأشقى فقال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
صـ355
أي كذب بالحق الذي جاءت به الرسل، وأعرض عن الطاعة والإيمان.(1) "
(د) قرر القرآن الكريم أن الإعراض عن دين الله تعالى من صفات المنافقين، وأن التولي عن طاعته من النفاق.
يقول الله تعالى: - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء، آية 61].
يقول ابن حزم عند هذه الآية: - " فليتق الله – الذي إليه المعاد – امرؤ على نفسه ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية، وليشتد إشفاقه من أن يكون مختاراً للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار، فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسائل الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى، وإلى كلام الرسول، فصد عنهما، ودعاه إلى قياس أو إلى قول فلان وفلان، فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقاً.(2) "
ويقول ابن تيمية – في هذه الآية السابقة -: " فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول، وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول سمعنا وأطعنا، فالنفاق يثبت، ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره. (3) "
وقال عز وجل: - {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} [التوبة، آية 127].
__________
(1) فتح القدير 5/453 .
(2) الإحكام في أصول الأحكام 1/91 .
(3) الصارم المسلول ص 33 .(212/113)
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " هذا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم " نظر بعضهم إلى بعض " أي تلفتوا، " هل يراكم من أحد ثم انصرفوا " أي تولوا عن الحق وانصرفوا، وهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق، ولا يقبلونه، ولا يفهمونه، لقوله تعالى: - {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ {49}كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ {50}فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر، آية 49 – 51].(1) "
صـ356
بل إن عاقبة الإعراض عن طاعة الله تعالى هي الوقوع في النفاق، كما قال تعالى: - {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة، آية 75 – 77].
ومما قاله الشوكاني في تفسير هذه الآيات: - " قوله " وتولوا " أي أعرضوا عن طاعة الله وإخراج صدقات ما أعطاهم الله من فضله " و" الحال أنهم معرضون " في جميع الأوقات قبل أن يعطيهم الله ما أعطاهم من الرزق وبعده، قوله: " فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه " الفاعل هو الله سبحانه، أي فأعقبهم الله بسبب البخل الذي وقع منهم والإعراض نفاقاً كائناً في قلوبهم، متمكناً منها، مستمراً فيها.(2) "
__________
(1) تفسير ابن كثير 2/385 .
(2) فتح القدير 2/384 , 385 .(212/114)
6-وفي نهاية هذا المبحث نورد جملة من كلام أهل العلم في هذا الناقض يقول القرطبي عند قوله تعالى: - {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى {14} لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى {15} الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل، آية 14-16]: " وتولى: أعرض عن الإيمان، قال قتادة: - كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله وقال الفراء: لم يكن كذب برد ظاهر، ولكنه قصر عما أمر به من الطاعة، فجعل تكذيباً …(1) "
ويقول ابن تيمية: - " قال تعالى: - {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام 157].
فذكر سبحانه أنه يجزي الصادف عن آياته مطلقاً – سواء كان مكذباً أو لم يكن – سوء العذاب بما كانوا يصدفون، يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه، أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعاً لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذب بما جاء به فهو كافر، وقد يكون كافراً من لا يكذبه إذا لم يؤمن به.(2) "
صـ357
ويعرف ابن القيم كفر الإعراض مع ذكر مثاله، فيقول: -
" وأما كفر الإعراض فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به ألبته، كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: " والله أقول لك كلمة إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أرد عليك، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك.(3) (4) "
__________
(1) تفسير القرطبي 20/86 ، 87 = باختصار .
(2) الدرء 1/56 .
(3) انظر سيرة ابن هشام 2/444، 445 ، والبداية لابن كثير 3/135 . ولفظهما : - " والله لا أكلمك أبداً ، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ، وما ينبغي لي أن أكلمك ."
(4) مدارج السالكين 1/338 .(212/115)
ويقول – في موضع آخر عند ذكره لأنواع الكفر … " وكفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول، ولا يحبه، ولا يبغضه، ولا يواليه، ولا يعاديه، بل هو معرض عن متابعة ومعاداته.(1) "
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} [آل عمران، آية 23].
" يقول تعالى منكراً على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل، وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم تولوا وهم معرضون عنهما، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد.(2) "
وأورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الإعراض ضمن نواقض الإسلام فقال: - " الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: - {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة، آية 22].(3) "
ص358
المبحث الرابع
مظاهرة المشركين على المسلمين
1- في بداية هذا المبحث، نذكر – بإيجاز – نبذة عن أهمية عقيدة الولاء والبراء، ومعناها فنقول: -
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/94 .
(2) تفسير ابن كثير 1/336 .
(3) مجموعة التوحيد (رسالة نواقض الإسلام ) ص 272 ، وانظر إرشاد الطالب لابن سحمان ص 11 ، وهاتف الأمن لعبد العزيز بن راشد ص 98 – 104 .(212/116)
إن الولاء والبراء شرط في الإيمان، كما قال سبحانه: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة، آية 83 – 84].
يقول ابن تيمية عن هذه الآية: - " فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط، وجد المشروط بحرف " لو " التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال: -} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه …(1) "
والولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: - " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله " (2) "
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: -
" فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في دين الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة، ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.(3) "
صـ359
__________
(1) الإيمان ص 14 .
(2) أخرجه أحمد 4/286 وابن أبي شيبه في كتاب الإيمان ح (110) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/480 ، وحسنه الألباني في " الصحيحة " حديث رقم (1728) .
(3) رسالة أوثق عرى الإيمان ص 38 .(212/117)
ويقول الشيخ حمد بن عتيق (1):-
"فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب ذلك، وأكد إيجابه وحرم موالاتهم وشدد فيها، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده.(2) "
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فعن جرير بن عبد الله البجلي (3)(4) رضي الله عنه قال: - أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله ابسط يدك حتى أبايعك واشترط علي فأنت أعلم قال: " أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين.(5) "
وجاء من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده (6)
__________
(1) حمد بن علي بن عتيق ، من علماء نجد ، ولد في الزلفي سنة 1227 هـ ، وتولى القضاء في عدة بلدان ، له مؤلفات ، توفي بالأفلاج سنة 1301 هـ .
انظر : علماء نجد 1/228 ، ومشاهير علماء نجد ص 244 .
(2) النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الاشراك (ضمن مجموعة التوحيد ) ص 363 .
(3) النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الاشراك (ضمن مجموعة التوحيد ) ص 363 .
(4) جرير بن عبد الله البجلي ، من أعيان الصحابة ، كان بديع الحسن ، كامل الجمال ، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الخلصة فهدمها ، سكن الكوفة ، مات سنة 51 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 2/530 ، الاصابة 1/475 .
(5) أخرجه أحمد 4/365 ، والنسائي 7/148 ، والبيهقي 9/13 وصححه الألباني في " الصحيحة " (936) .
(6) هو معاوية بن حيدة القشيري ، جد بهز بن حكيم ، صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، نزل البصرة ، أخرج له أصحاب السنن .
انظر : الاصابة 6/149 .(212/118)
: - " قلت يا نبي الله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن – لأصابع يديه – ألا آتيك، ولا آتي دينك، وإني كنت امرءاً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله ورسوله، وإني أسألك بوجه الله عز وجل بما بعثك ربك إلينا؟ قال: - بالإسلام، قال: قلت: وما آيات الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي إلى الله عز وجل وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي
صـ360
الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعدما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين.(1) "
وما أجمل تلك العبارة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل قائلاً:-
" إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً … وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب.(2) "
وأما معنى الولاء فهو المحبة والمودة والقرب، والبراء هو البغض والعداوة والبعد، والولاء والبراء من أعمال القلوب، لكن تظهر مقتضياتهما على اللسان والجوارح.
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ:-
" وأصل الموالاة الحب، وأصل المعادة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداةكالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال. (3) "
__________
(1) أخرجه أحمد (5/4) ، والحاكم (4/600) وصححه ، ووافقه الذهبي ، وحسن الألباني إسناده في الصحيحة (369) .
(2) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/268 .
(3) الدرر السنية 2/157 .(212/119)
والولاء لا يكون إلا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين قال سبحانه: - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة، آية 55].
فالولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم لإيمانهم، ونصرتهم،والنصح لهم، والدعاء لهم، والسلام عليهم، وزيادة مريضهم، وتشييع ميتهم، وإعانتهم، والرحمة بهم، وغير ذلك.(1)
صـ361
والبراءة من الكفار تكون ببغضهم – ديناً – ومفارقتهم، وعدم الركون إليهم، أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعاً، وجهادهم بالمال واللسان والسنان، ونحو ذلك من مقتضيات العداوة في الله (2) "
2- ولما كانت موالاة الكفار تقع على شعب متفاوتة، وصور مختلفة، لذا فإن الحكم فيها ليس حكماً واحداً، فإن من هذه الشعب والصور ما يوجب الردة، ونقض الإيمان بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من المعاصي.(3) "
__________
(1) انظر : تفصيل ذلك في رسالة أوثق عرى الإيمان لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 49 – 51 وكتاب الولاء والبراء لمحمد القحطاني ، والموالاة والمعاداة لمحماس الجلعود .
(2) انظر : تفصيل ذلك في رسالة أوثق عرى الإيمان لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 49-51 وكتاب الولاء والبراء لمحمد القحطاني ، والموالاة والمعادة لمحماس الجلعود .
(3) انظر : الدرر السنية 7/155 , 159 , 220 ، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/10، 31 ، 38 ، 57 .(212/120)
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: - " ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي، وتفسير السنة.(1) "
وهذا الموالاة التي تناقض الإيمان، قد تكون اعتقاداً فحسب، وقد تظهر في أقوال وأعمال. والذي يهمنا في هذا المبحث الموالاة العملية، حيث سنورد مسألة مظاهرة الكفار على المسلمين كمثال لتلك الموالاة، وقبل أن نفصل الحديث عن تلك المسألة، فإننا نوضح – باختصار – جملة من الأمثلة على تلك الموالاة العملية، نظراً لعظم خطرها، وسعة انتشارها، وكثرة الوقوع فيها، فنذكر منها ما يلي:-
(أ) من أقام ببلاد الكفر رغبة واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين، أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، فهذا كافر عدو لله ورسوله، لقوله تعالى: - {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران، آية 28].(2)
صـ368
يقول ابن رشد (3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7 .
(2) انظر : الدفاع عن أهل السنة والاتباع لحمد بن عتيق ص 12 ، والدرر السنية 7/202 .
(3) أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي ، فقيه ، ولي الإفتاء والقضاء ، صاحب عبادة وزهد ، توفي سنة 520 هـ .
انظر : الديباج المذهب 2/248 ، وسير أعلام النبلاء 19/501.(212/121)
- " فصل: - فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر، ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين، ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجري علينا أحكامهم في تجارة أو غيرها، وقد كره مالك رحمه الله تعالى أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان، ولا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء، مريض الإيمان.(1)"
ومما حرره ابن حزم في هذه المسألة قوله: - " قد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أبق عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين (2) وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر، قال تعالى: - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة، آية 71].
قال أبو محمد: - فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم. وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليه، ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره.(3) "
ويقول في موضع آخر: - " من لحق بأرض الشرك بغير ضرورة فهو محارب، هذا أقل أحواله إن سلم من الردة بنفس فراقه جماعة الإسلام، وانحيازه إلى أرض الشرك.(4) "
صـ363
__________
(1) مقدمات ابن راشد 2/612 , 613 .
(2) أخرجه أبو داود ح (2645) ، والترمذي ح (1605) ، وأورد الألباني في صحيح الجامع (1474).
(3) المحلى 13/138 ، 139 .
(4) المرجع السابق 13/31 .(212/122)
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء، آية 97].
"هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع.(1) "
ولما سئل أحمد بن يحي الونشريسي (2) عن قوم من الأندلسيين هاجروا من بلادهم الأندلس – وقد كانت دار شرك – إلى دار الإسلام في بلاد المغرب …
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/514 .
(2) أبو العباس أحمد بن النشريسي التلمساني ، فقيه مالكي استوطن فاس ، له مؤلفات كثيرة ، توفي بفاس سنة 914 هـ .
انظر : الأعلام 1/269 ، معجم المؤلفين 2/205 .(212/123)
ثم ندموا على تلك الهجرة، وسخطوا وصرحوا بذم دار الإسلام، ومدح دار الكفر وأهله … فكتب رحمه الله جواباً مبسوطاً عن هذه النازلة، بعنوان: " أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر (1)7) " فأورد النصوص الشرعية في تحريم الموالاة الكفرية، ووجوب الهجرة إلى دار الإسلام ثم قال: - " وتكرار الآيات في هذا المعنى وجريها على نسق وتيرة واحدة مؤكد للتحريم، ورافع للاحتمال المتطرق إليه، فإن المعنى إذا نص عليه وأكد بالتكرار فقد ارتفع الاحتمال لا شك، فتتعاضد هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والاجتماعات القطعية على هذا النهي، فلا تجد في تحريم هذه الإقامة، وهذه الموالاة الكفرانية مخالفاً من أهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فهو تحريم مقطوع به من الدين … ومن خالف الآن في ذلك أو رام الخلاف من المقيمين معهم والراكنين إليهم، فجوز هذه الإقامة واستخف أمرها واستسهل حكمها، فهو مارق من الدين، ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما
صـ364
لا مدفع فيه لمسلم، ومسبوق بالإجماع الذي لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله.(2) "
__________
(1) انظر المعيار المعرب 2/119 – 135 .
(2) المعيار المعرب 2/123 ، 124 = باختصار .(212/124)
وجاء في آخر فتواه، قوله للسائل: - " وما ذكرت عن هؤلاء المهاجرين من قبيح الكلام وسب دار الإسلام، وتمني الرجوع إلى دار الشرك والأصنام، وغير ذلك من الفواحش المنكرة التي لا تصدر إلا من اللئام، يوجب لهم خزي الدنيا والآخرة وينزلهم أسوأ المنازل، والواجب على من مكنه الله في الأرض ويسره لليسرى أن يقبض على هؤلاء وأن يرهقهم العقوبة الشديدة، والتنكيل المبرح ضرباً وسجناً حتى لا يتعدوا حدود الله؛ لأن فتنة هؤلاء أشد ضرراً من فتنة الجوع والخوف ونهب الأنفس والأموال، وذلك أن من هلك هنالك فإلى رحمة الله تعالى وكريم عفوه، ومن هلك دينه فإلى لعنة الله وعظيم سخطه، فإن محبة الموالاة الشركية، والمساكنة النصرانية والعزم على رفض الهجرة والركوب إلى الكفار، والرضى بدفع الجزية إليهم، ونبذ العزة الإسلامية، والطاعة الإمامية، والبيعة السلطانية، وظهور السلطان النصراني عليها وإذلاله إياها فواحش عظيمة مهلكة قاصمة للظهر يكاد أن تكون كفراً والعياذ بالله.(1) "
__________
(1) المعيار المعرب 2/132 ، وانظر ما كتبه الونشريسي من مفاسد الإقامة في ديار الكفر في كتابه المعيار 2/137 –141 .(212/125)
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: - " الإقامة ببلد يعلو فيها الشرك والكفر، ويظهر الرفض، ودين الإفرنج ونحوهم من المعطلة للربوبية والإلهية، وترفع فيها شعائرهم، ويهدم الإسلام والتوحيد، ويعطل التسبيح والتكبير والتحميد، وتقلع قواعد الملة والإيمان، ويحكم بينهم بحكم الإفرنج واليونان، ويشتم السابقون من أهل بدر وبيعة الرضوان، فالإقامة بين أظهرهم والحالة هذه لا تصدر عن قلب باشره حقيقة الإسلام والإيمان والدين … بل لا يصدر عن قلب رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فإن الرضى بهذه الأصول الثلاثة قطب الدين، وعليه تدور حقائق العلم واليقين، وفي قصة إسلام جرير عبد الله أنه قال يا رسول الله بايعني واشترط، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي
صـ365
الزكاة وأن تفارق المشركين " أخرجه أبو عبد الرحمن النسائي(1)، وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام. (2) "
(ب) من أطاع الكفار في التشريع والتحليل والتحريم، فأظهر الموافقة في ذلك، فهو كافر وخارج عن الملة، وسنورد بعض النصوص القرآنية في هذا الشأن.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران، آية 100].
ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية: - " وتعليق الرد بطاعة فريق منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجاب الاجتناب عن مصاحبتهم بالكلية، فإنه في قوة أن يقال لا تطيعوا فريقاً … (3) "
__________
(1) الدرر السنية 7/165 , 166 = باختصار .
(2) سبق تخريجه ص 359 .
(3) تفسير أبي السعود 1/523 .(212/126)
وتأمل قوله تعالى: - {إِن تُطِيعُواْ..} [فإن هذا الفعل جاء مطلقاً، فحذف المتعلق المعمول فيه، ليفيد تعميم المعنى (1)، فالآية الكريمة تحذر أيما تحذير عن طاعة أهل الكتاب – فضلاً عن غيرهم من أصناف الكفار – في جميع الأحوال وسائر شؤون الحياة.
ويقول عز وجل: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [آل عمران، آية 149].
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: - عند هذه الآية " أخبر تعالى أن المؤمنين إن أطاعوا الكفار فلا بد أن يردوهم على أعقابهم عن الإسلام، فإنهم لا يقنعون منهم بدون الكفر، وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك صاروا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، ولم يرخص في مواقفهم وطاعتهم خوفاً منهم. وهذا هو الواقع فإنهم لا يقتنعون ممن وافقهم إلا بشهادة أنهم على حق وإظهار العداوة والبغضاء للمسلمين.(2) "
صـ366
ويقول سبحانه وتعالى: - {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام، آية 121].
فصرح تعالى بأنهم مشركون في طاعة أولئك الكفار، حينما وافقوهم في تحليل أو تحريم. (3)
__________
(1) انظر توضيح هذه النكته في كتاب القواعد الحسان لتفسير القرآن / لعبد الرحمن السعدي ص 46-51 .
(2) الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك ص 33 .
(3) انظر أضواء البيان للشنقيطي 4/83 .(212/127)
وقال تبارك وتعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ {25} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد، آية 25 , 26].
فهذا النوع من الموالاة كان سبباً في ردة أولئك القوم (1)، ولذا يقول ابن حزم: - " فجعلهم مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق، وبعد أن تبين لهم الهدى بقولهم للكفار ما قالوا فقط، وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم.(2) "
ويقول القاسمي (3) في تفسيره: - " " ذلك إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم، " بأنهم " أي لسبب أنهم " قالوا " أي المنافقون " الذين كرهوا ما نزل الله "
أي اليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم " سنطيعكم في بعض الأمر " أي بعض أموركم، أو ما تأمرون به … كما أوضح ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} [الحشر، آية 11].(4) "
صـ367
__________
(1) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية 28/193 .
(2) الفصل 3/262 .
(3) جمال الدين بن محمد سعيد القاسمي ، من كبار علماء الشام في القرن الماضي ، عاش في دمشق ، واشتغل بالتدريس ، رحل إلى مصر والحجاز ، له مؤلفات كثيرة ، توفي بدمشق سنة 1332 هـ .
انظر : الأعلام 2/135 ، ومعجم المؤلفين 3/157 .
(4) تفسير القاسمي 15/56 .(212/128)
فتلك الآيات الكريمات قد قررت أن بعضاً من الطاعة لأولئك الكفار هي ردة عن دين الإسلام، كموافقتهم في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو المظاهرة على محمد صلى الله عليه وسلم كما جاء مفصلاً في كتب التفسير (1)"
ولذا عاقبهم الله تعالى بحبوط الأعمال، كما جاء في الآيات التالية: -
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ {27} ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد، آية 27 , 28]
ومما سطره يراع الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله – عند قوله تعالى: {ذلك بأنهم قالوا … " الآية
" أخبر تعالى أن سبب ما جرى عليهم من الردة وتسويل الشيطان والإملاء لهم هو قولهم للذين كرهوا ما نزل الله، سنطيعكم في بعض الأمر فإذا كان من وعد المشركين الكارهين لما نزل الله بطاعتهم في بعض الأمر كافراً، وإن لم يفعل ما وعدهم به، فكيف بمن وافق المشركين واظهر أنهم على هدى.(2) "
ويمكن أن نلحق بطاعة ومتابعة الكفار في التحليل والتحريم، وموافقتهم في التشريع، ما قد أفتى به بعض علماء هذا العصر في مسألة التجنس بجنسية أمة غير مسلمة (3)
وقد سئل الشيخ محمد رشيد رضا عن تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام – كما هو حاصل في بلاد تونس آنذاك – وما يتضمنه هذا التجنس من إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، والوقوف مع الكفار عسكرياً لقتال المسلمين.. الخ.
فكان من جوابه: -
__________
(1) انظر : زاد المسير لابن الجوزي 7/409 وفتح القدير للشوكاني 5/39 ، وتفسير النسفي 5/512 .
(2) الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك 50 ، 51 .
(3) كتب الشيخ محمد النيفر بحثاً في هذه المسألة ، كما بحثها الشيخ محمد السبيل ، وكلا البحثين منشوران في مجلة المجمع الفقهي – العدد الرابع .(212/129)
" إذا كانت الحال كما ذكر في هذا السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول الجنسية ردة صريحة، وخروج من الملة الإسلامية، حتى أن الاستفتاء فيها يعد غريباً في مثل البلاد التونسية التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال
صـ368
من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة …
-إلى أن قال – إن قبول المسلم لجنسية ذات أحكام مخالفة لشريعة الإسلام خروج من الإسلام فإنه رد له، وتفضيل لشريعة الجنسية الجديدة على شريعته، ويكفي في هذا أن يكون عالماً بكون تلك الأحكام التي آثر غيرها عليها هي أحكام الإسلام فلا يعامل معاملة المسلمين، وإذا وقع من أهل بلد أو قبيلة وجب قتالهم عليه حتى يرجعوا.(1) "
وجاء في فتوى لجنة مصر برئاسة الشيخ علي محفوظ (2):-
" إن التجنس بجنسية أمة غير مسلمة على نحو ما في السؤال (3) هو تعاقد على نبذ أحكام الإسلام عن رضا واختيار، واستحلال لبعض ما حرم الله، وتحريم لبعض ما أحل الله، والتزام لقوانين أخرى يقول الإسلام ببطلانها، وينادي بفسادها، ولا شك أن شيئاً واحداً من ذلك لا يمكن تفسيره إلا بالردة، ولا ينطبق عليه حكم إلا حكم الردة، فما بالك بهذه الأربعة مجتمعة في ذلك التجنس الممقوت؟(4) "
__________
(1) مجلة المنار ، مجلد 25 ، جزء 1 ، ص 22 .
(2) علي محفوظ ، فقيه واعظ ، تخرج من الأزهر ، ثم كان من أعضاء كبار العلماء ، وله مؤلفات ، توفي سنة 1361 هـ .
انظر : الأعلام 4/323 ، ومعجم المؤلفين 7/175 .
(3) خلاصة السؤال : - ما قول العلماء في مسلم تجنس بجنسية أمة غير مسلمة اختياراً منه ، والتزم أن تجري عليه أحكام قوانينها بدل أحكام الشريعة … ويدخل في هذا الالتزام أن يقف في صفوفها عند محاربتها ولو لأمة إسلامية ، كما هو الشأن في التجنس بالجنسية الفرنسية الآن في تونس ؟
(4) التجنس بجنسية دولة غير إسلامية لمحمد السبيل ، بحث في مجلة المجمع الفقهي ، العدد الرابع ، ص 156 ، 157 .(212/130)
ولما استفتي الشيخ يوسف الدجوي (1) عن هذه المسألة، كان من جوابه ما يلي: - " إن التجنس بالجنسية الفرنسية، والتزام ما عليه الفرنسيون في كل شيء
صـ369
حتى الأنكحة والمواريث والطلاق ومحاربة المسلمين والانضمام إلى صفوف أعدائهم معناه الانسلاخ من جميع شرائع الإسلام،ومبايعة أعدائه على ألا يعودوا إليه ولا يقبلوا حكماً من أحكامه بطريق العهد الوثيق، والعقد المبرم.(2) "
إلى أن قال: -
" وإنا نرى شبهاً كبيراً بين من يختار أن يسير على شريعة الفرنسيين دون شريعة المسلمين وبين جبلة بن الأيهم الغساني حين لطم الفزاري، فأراد عمر رضي الله عنه أن يقتص منه، فلم يرض بحكم الدين وفر إلى الشام مستبدلاً الإسلام بالمسيحية.(3) "
ولعل من أخطر التبعات المترتبة على هذا التجنس – مما يتعلق بمبحثنا – ما يفرض على أولئك المتجنسين من التجنيد العسكري، وجعلهم جنوداً لتلك الدولة الكافرة، وفي مواجهة المسلمين، فيصير بذلك مظاهراً لأولئك الكفار ضد المسلمين، (4) وقد قال الله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51].
__________
(1) يوسف بن أحمد الدجوي ، مدرس من علماء الأزهر ، وفقيه مالكي له مؤلفات كثيرة ، توفي سنة 1365 هـ .
…انظر : الأعلام 4/323، معجم المؤلفين 7/175.
(2) التجنس بجنسية دولة غير إسلامية لمحمد السبيل ، بحيث في مجلة المجمع الفقهي ، العدد الرابع ، ص 150 ، 151 .
(3) المرجع السابق ، ص 153 ، وانظر مجالس العرفان ومواهب الرحمن لمحمد جعيط 2/66 .
(4) يقول الشيخ محمد الشاذلي النيفر في بحثه عن التجنس بجنسية غير إسلامية : - " وقد تورط في الجندية للدولة غير الإسلامية كثير من المسلمين حاربوا في صفوف أعداء الإسلام مما أدى إلى انهزام الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى انظر مجلة المجمع الفقهي ، العدد الرابع ، ص 233 .(212/131)
ومع ذلك فإن نازلة " التجنس بجنسية أمة غير مسلمة " لها ملابسات مختلفة لا تنفك عنها،عند تحديد مناط حكم هذه النازلة، فأحوال أولئك المتجنسين متفاوتة، ولذا ينبغي التفصيل عند الحكم على واقع أولئك المتجنسين، فمن نال تلك الجنسية عن رغبة في بلاد الكفر، وانتماء إلى الكفار، ورضا بأحكامهم الطاغوتية، وتبعية لأنظمتهم الوضعية، فهذا لا شك أنه كافر خارج عن الملة، فهذا النوع من الناس لا يستوي بمن اضطر على مثل هذا التجنس بسبب أنظمة طاغوتية استولت على بلاد المسلمين فأذاقت أهلها سوء العذاب، وأنواع
صـ370
الافتتان، مما اضطر بعض أولئك المسلمين إلى ترك ديارهم، والإقامة في ديار الكفر، والتجنس بجنسيتهم، وهم مع ذلك مبغضون للكفر وأهله، قائمون بدينهم حسب الاستطاعة.
كما أن هناك عوامل أخرى لابد من مراعاتها عند الحكم في هذه المسألة، منها الظروف المختلفة التي يعيشها المقيمون في تلك البلاد، ونوعية تلك الديار كأن تكون دار حرب أو عهد … ونوعية التجنس، وأسبابه ودوافعه، والتوقيت الزمني لتلك النازلة.. الخ.
(ج) من الموالاة العملية التي تناقض الإيمان: - التشبه المطلق بهم، أو التشبه بهم فيما يوجب الكفر والخروج عن الملة.
إن المشاركة للكفار في الهدي الظاهر – وإن كان مباحاً – تؤول إلى مشاركة ومشابهة في الأخلاق، وموالاة في الباطن، وفي المقابل فإن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة عن الكفر وأسبابه، وتحقق عداوة وبراءة من الكفار.
فالموالاة وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومجانبتهم (1)، ولذا فإن جنس المخالفة للكافرين أمر مقصود للشارع.
وننبه إلى " أن المخالفة للكفار لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه بالجهاد، وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا، شرع ذلك.
__________
(1) انظر : إقتضاء الصراط المستقيم 1/79 – 81 ، 159 ، 488 .(212/132)
ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب، أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدى الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم، لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.(1) "
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار فقال: - " من تشبه
صـ371
بقوم فهو منهم " (2)
يقول ابن تيمية عن هذا الحديث:-
" وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51].
فقد يحمل هذا على التشبيه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم، في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً، أو معصية أو شعاراً لهم، كان حكمه كذلك. وبكل حال يقتضي تحريم التشبه.(3) "
وقد أورد العلماء أمثلة عديدة، وصوراً متنوعة في التشبه الذي يوجب الكفر، نختار منها ما يلي: -
يقول القاضي عياض: - " وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحاً بالإسلام مع فعله ذلك كالسعي إلى الكنائس والبيع (4)
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/418 .
(2) أخرجه أبو داود 4/314 ، ح (4031) ، وأحمد 2/50 وقال عنه ابن تيمية في الاقتضاء 1/236 : " إسناده جيد " ، وحسنه الألباني في الجامع الصغير (6025) .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم 1/237 ، 238 .
(4) الكنيسة والبيعة يقالان لمعابد اليهود والنصارى ، وقيل الأول عام والثاني مخصوص بالنصارى .
انظر : المعجم الوسيط 1/79 ، 2/806 .(212/133)
مع أهلها بزيهم، من شد الزنانير، وفحص (1) الرؤوس، فقد أجمع المسلمون أن هذا الفعل لا يوجد إلا من كافر. (2) "
ويقول ابن تيمية: - " وإذا زار أهل الذمة كنيسة بيت المقدس فهل يقال لهم يا حاج مثلاً؟ لا ينبغي أن يقال ذلك تشبيهاً بحاج البيت الحرام، ومن اعتقد أن زيارتها قربة فقد كفر، فإن كان مسلماً فهو مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر فقد كفر وصار مرتداً.(3) "
صـ372
ويقول أيضاً: - " وأما زيارة " معابد الكفار " مثل الموضع المسمى " بالقمامة " أو بيت لحم " أو " صهيون " أو غير ذلك، مثل كنائس النصارى، فمنهي عنها، فمن زار مكاناً من هذه الأمكنة معتقداً أن زيارته مستحبة، والعبادة فيه أفضل من العبادة في بيته فهو ضال خارج عن شريعة الإسلام، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.(4) "
ويقول الخرشي (5): - " وكذلك يكون مرتداً إذا شد الزنار في وسطه؛ لأن هذا فعل يتضمن الكفر … ومثله فعل شيء مما يختص بزي الكفار، ولا بد أن ينضم إلى ذلك المشي إلى الكنيسة ونحوه، وقيد أيضاً بما إذا فعله في بلاد الإسلام.(6) "
__________
(1) أي حلق أوساطها ، وهو من شعائرهم .
(2) الشفا 2/1072 ، 1073 .
(3) مختصر الفتاوى المصرية ص 514 .
(4) مجموع الفتاوى 27/14 .
(5) محمد بن عبد الله الخرشي المالكي ، أول من تولى مشيخة الأزهر ، كان فقيهاً ورعاً ، له مؤلفات ، توفي بالقاهرة سنة 1101 هـ.
انظر الأعلام 6/240 ، ومعجم المؤلفين 10/210 .
(6) الخرشي على مختصر خليل 7/63 ، وانظر : الفروق للقرافي 4/264 ، وتبصرة الحكام لابن فرحون 2/282 ، والشرح الصغير للدردير 6/146 ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/301 .(212/134)
وقال ابن نجيم:- " ويكفر بوضع قلنسوة المجوسي على رأسه على الصحيح، إلا لضرورة دفع الحر أو البرد، وبشد الزنار في وسطه إلا إذا فعل ذلك خديعة في الحرب.(1) "
وقال ابن حجر الهيتمي: - " ولو شد على وسطه زناراً، ودخل دار الحرب للتجارة كفر …(2) "
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء في حكم لبس الصليب: - " إذا بين له حكم لبس الصليب وأنه شعار النصارى، ودليل على أن لابسه راض بانتسابه إليهم
صـ373
والرضا بما هم عليه وأصر على ذلك، حكم بكفره لقوله عز وجل: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، آية 51] والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر، وفيه إظهار لموافقة النصارى على ما زعموه من قتل عيسى عليه السلام، والله سبحانه قد نفى ذلك في كتابه فقال: - {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء، آية 157](3) "
ومن أخطر صور التشبه بالكفار، وأشدها ضرراً، وأكثرها انتشاراً بين المسلمين ألا وهو مشاركة الكفار في أعيادهم، ولذا فلا بد من وقفة يسيرة مع هذه القضية.
__________
(1) البحر الرايق 5/133 ، وانظر : الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 3/332 ، وشرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 280 ، ورسالة البدر الرشيد في ألفاظ الكفر ص 42 ، 43 .
(2) الإعلام بقواطع الإسلام ص 363 ، وذكر النووي أن الصواب عدم كفره ، انظر روضة الطالبين 10/69 .
(3) فتاوى اللجنة الدائمة 2/78 .(212/135)
إن مشاركة الكفار في أعيادهم محرمة على أقل الأحوال، لما فيه من الموافقة لهم فيما ليس من ديننا، وعلى خلاف منهج سلفنا الصالح، عدا أن تلك الأعياد من البدع المحدثة (1)، وقد أثنى الله تعالى على عبادة المؤمنين، فوصفهم بقوله سبحانه: - {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان آية 72]، قال بعض السلف: - " الزور: أعياد المشركين.(2) "
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: - ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما، يوم الأضحى ويوم الفطر.(3) "
يقول ابن تيمية في بيان معنى الحديث:-
" فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: - " إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين " والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل
صـ374
والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما.(4) "
وقد اتفق المسلمون على منع أهل الكتاب من إظهار أعيادهم في دار الإسلام، كما جاء في الشروط العمرية، لما فيه من الفساد، ولإظهار شعائر الكفر.(5)
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: - " اجتنبوا أعداء الله في عيدهم " (6)
__________
(1) انظر اقتضاء ، الصراط المستقيم 1/425 ، 426 .
(2) انظر تفسير ابن جرير 19/29 ، والدر المنثور 6/282 ، وانظر : اقتضاء الصراط 1/426 .
(3) أخرجه أبو داود ح (1134) ، وأحمد (3/103) ،) ، والنسائي (3/146) ، وصححه ابن تيمية في الاقتضاء 1/432 وقال ابن حجر في الفتح (2/442) : - " إسناده صحيح "
(4) اقتضاء الصراط المستقيم 1/432 , 433 .
(5) انظر المرجع السابق 1/454 .
(6) أخرجه البيهقي 9/234 .(212/136)
وعن عبد الله بن عمرو (1)رضي الله عنهما قال:- "من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة. (2) "
ويعلق ابن تيمية على أثر عبد الله بن عمرو فيقول: - " وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار، وإن كان الأول ظاهر لفظه، فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية؛ لأنه لو لم يكن مؤثراً في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزءاً من المقتضى …(3) "
وقد ساق ابن تيمية جملة من الاعتبارات المهمة في هذه المسألة منها قوله: -
"إن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك، التي قال الله سبحانه: - {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج، آية 67]، كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة (4) في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها
صـ375
من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر، وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه.(5) "
__________
(1) عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي ، صحابي جليل ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ، أسلم قبل أبيه ، مات بالشام سنة 65 هـ.
انظر : الإصابة 4/193 ، وسير أعلام النبلاء 3/79 .
(2) أخرجه البيهقي 9/234 .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم 1/459 .
(4) في الكتاب : فوافقه ، ولعل الصحيح ما أثبته كما يدل على ذلك سياق الجملة التي تليها .
(5) المرجع السابق 1/471 .(212/137)
ويقول أيضاً: - " إنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس، وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس، بل عيداً، حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزاد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر، كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام، فيما يفعلونه في أواخر صوم النصارى، من الهدايا والأفراح، والنفقات وكسوة الأولاد، وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين.(1) "
ويقول في موضع ثالث: - " وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض القبائح كانت محرمة، فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله، من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية (2)، أو قول القائل: المعبود واحد، وإن كانت الطرق مختلفة، ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيها، مما يخالف دين الله، أو التدين بذلك، أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك، وأصل ذلك المشابهة والمشاركة.(3) "
وإذا تقرر ما سبق إيراده، فنسوق طرفاً من كلام أهل العلم في حكم المشاركة في أعياد الكفار..
يقول ابن تيمية: - " وأما إذا فعل المسلمون معهم (أي أهل الكتاب) أعيادهم مثل صبغ البيض، وتحمير دوابهم بمغرة (4) وبخور، وتوسيع النفقات، وعمل طعام
صـ376
__________
(1) المرجع السابق 1/473 ، 474 .
(2) " المعمودية - عند النصارى – أن يغمس القس الطفل في ماء ، يتلو عليه بعض فقر من الإنجيل ، وهو آية التنصير عندهم "
انظر : المعجم الوسيط 2/632 .
(3) اقتضاء الصراط 1/481 ، 482 .
(4) المغرة : لون ليس بناصع الحمرة ، انظر ترتيب القاموس المحيط 4/266 .(212/138)
فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال، بل قد نص طائفة من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كفر من يفعل ذلك، وقال بعضهم: من ذبح بطيخة في عيدهم فكأنما ذبح خنزيراً.
فليس للمسلم أن يخص خميسهم الحقير لا بتجديد طعام الرز والعدس والبيض المصبوغ وغير ذلك، ولا بالتجمل بالثياب، ولا بصبغ دواب، ولا بنشر ثياب ولا غير ذلك، ومن فعل ذلك على وجه العبادة والتقرب به واعتقاد التبرر به فإنه يعرّف دين الإسلام، وأن هذا ليس منه بل هو ضده، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل. وأما ذبح المسلم لنفسه في أعيادهم إلى وجه القربة فكفر بيّن كالذبح للنصب.(1) "
ويقول الذهبي: - " وقد أوجب الله عليك – يا هذا المسلم – أن تدعو الله تعالى كل يوم وليلة سبع عشرة مرة بالهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فكيف تطيب نفسك بالتشبه بقوم هذه صفتهم، وهم حطب جهنم؟ ولو قيل لك: تشبه بمسخرة لأنفت من ذلك وغضبت وأنت تشبه بأقلف عابد صليب في عيده، وتكسوه صغارك، وتفرحهم، وتصبغ لهم البيض، وتشتري البخور، وتحتفل بعيد عدوك كاحتفالك بعيد نبيك صلى الله عليه وسلم!
فأين يذهب بك إن فعلت ذلك إلا إلى مقت الله وسخطه إن لم يغفر الله لك إن علمت أن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم كان يحض على مخالفة أهل الكتاب في كل ما اختصوا به (2) "
ويقول محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي:-
" وفي الخلاصة: من أهدى بيضة إلى المجوس يوم النيروز كفر.
__________
(1) مختصر الفتاوى المصرية ص 517 ، 518 = باختصار .
(2) تشبه الخسيس بأهل الخميس للذهبي ص 21-23 .(212/139)
وفي الفتاوى الصغرى: - وإن اشترى يوم النيروز شيئاً ولم يكن يشتريه قبل ذلك، إن أراد به تعظيم النيروز كفر، وإن اتفق الشراء ولم يعلم أن هذا اليوم يوم النيروز لا يكفر.(1)"
صـ377
(د) من الموالاة العملية التي تناقض الإيمان: - إقامة مؤتمرات وتنظيم ملتقيات من أجل تقرير وحدة الأديان، وإزالة الخلاف العقدي، وإسقاط الفوارق الأساسية فيما بين تلك الديانات، وذلك من أجل توحيد هذه الملل المختلفة على أساس الاعتراف بعقائدهم وصحتها، وقد يطلقون على هذه الوحدة المزعومة بين الديانات الثلاث (الإسلام والنصرانية واليهودية) ما يسمى بالديانة الإبراهيمية، أو الديانة العالمية.
وقد نشأت هذه الدعوات المضللة في أحضان التنصير، والصهيونية العالمية (2) كما كان للبهائية مشاركة في إيجاد دين يوافق عليه الجميع! (3) "
ويذكر أن من أشهر دعاة وحدة الأديان في العصر الحديث جمال الدين الفارسي، والمشهور بالأفغاني (4)
__________
(1) رسالة ألفاظ الكفر ص 43 ، 45 ، وانظر البحر الرايق لابن نجيم 5/133 ، وشرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 282 ، والفتاوى البزازية 3/333 ، 334 .
(2) انظر الاتجاهات الوطنية لمحمد محمد حسين 2/318 – 320 والإسلام والأديان لمحمد عوض ص 35 .
(3) انظر الاتجاهات الوطنية لمحمد محمد حسين 2/321 .
(4) جمال الدين بن صفدر بن علي المشهور بالأفغاني ، واسع الإطلاع على مختلف العلوم ، ورحل إلى عدة بلدان ، واشتغل بالسياسة ، له مؤلفات ، ذو شخصية غامضة ، صاحب أفكار منحرفة ، توفي بتركيا سنة 1314 هـ .
انظر : - معجم المؤلفين 3/154 ، الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين ص 63 .(212/140)
، فقد كان له دور خطير في السعي إلى توحيد الأديان الثلاثة (1)، وتلقف هذه الدعوة من بعده تلميذه محمد عبده (2) فقد كان له مشاركة في التوفيق بين الإسلام والنصرانية (3).
ومن الدعاة لهذه العقيدة الضالة في السنوات الأخيرة: - رجاء جارودي
صـ378
كما هو واضح في رسالته المسماة بـ " وثيقة أشبيلية " (4)
وهذه الفكرة الخبيثة قد وجدت قديماً عند ملاحدة الصوفية كابن سبعين (5) وابن هود (6) والتلمساني (7)، وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع في كتبه، فمن ذلك قوله:-
__________
(1) دعوة الأفغاني في ميزان الإسلام لمصطفى غزال ص 241 .
(2) محمد عبده بن حسن آل التركماني ، فقيه ، مفسر ، متكلم ، مارس التعلم ، واشتغل بالسياسة والقضاء ، له مؤلفات ، صاحب نزعة عقلية ، وميول غربية ، توفي بالإسكندرية سنة 1323 هـ .
انظر : معجم المؤلفين 10/272 ، الإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين ص 63 .
(3) الاتجاهات الوطنية لمحمد محمد حسين 2/319 والإسلام والحضارة الغربية لمحمد محمد حسين ص 197 ، 198 .
(4) انظر كتاب : لا لجارودي ووثيقة أشبيلية لسعد ظلام، والإسلام والأديان لمحمد عوض ص 11-20 .
(5) عبد الحق بن إبراهيم بن محمد الرقوطي ، اشتغل بالفلسفة فأصابه إلحاد ، وجاور بغار حراء راجياً النبوة ، هلك عام 669هـ.
انظر : البداية والنهاية 13/261 ، شذرات الذهب 5/329 .
(6) حسن بن علي المغربي الأندلسي ، متصوف فيلسوف ، له صلة باليهود ، صاحب شطح وذهول ، هلك عام 699 هـ .
انظر شذرات الذهب 5/446 ، الأعلام 2/203 .
(7) أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله العابدي ، شاعر نحوي ، نسب إليه حلول واتحاد وزندقة ، له مؤلفات ، هلك عام 690 هـ
انظر : البداية والنهاية 13/326 ، وشذرات الذهب 5/412 .(212/141)
" كان هؤلاء كابن سبعين ونحوه يجعلون أفضل الخلق " المحقق " عندهم، وهو القائل بالوحدة، وإذا وصل إلى هذا فلا يضره عندهم أن يكون يهودياً أو نصرانياً، بل كان ابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية كما يتمسك بالإسلام، ويجعلون هذه طرقاً إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين.(1) "
كما وجدت عند التتار، يقول ابن تيمية في ذلك: - " وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأن هذه كلها طرق إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين.(2) "
صـ379
ولما كانت الدعوة إلى وحدة الأديان كفراً بواحاً، وردة ظاهرة، يدركها العوام فضلاً عن الخواص، لذا فقد حرص أعداء هذا الدين على إيجاد ذرائع مبطنة واستحداث وسائل مقنعة للوصول إلى مآربهم في هذه القضية، ولذا نجدهم – ابتداء – يجاهرون بضرورة التعايش بين الأديان، والحوار فيما بينها، ثم ينعقون بالحاجة الملحة إلى زمالة الأديان والتقارب فيما بينها من أجل مواجهة قوى الإلحاد والتيارات المادية.
ويأتي " النظام الدولي الجديد " عاملاً رئيساً في إحياء تلك الشجرة الخبيثة، كما هو ظاهر في مثل هذه الأيام القريبة، من كثرة المؤتمرات والملتقيات التي تسعى إلى وحدة و" خلط " الديانات.
إن الدعوة إلى وحدة الأديان كفر صريح، لما تتضمنه من تكذيب للنصوص الصحيحة الظاهرة، والتي تقرر – قطعياً – بأن دين الإسلام الكامل، والذي أتم الله به النعمة، ورضيه لنا ديناً، أنه هو الناسخ لما سبقه من ديانات اعتراها التحريف والتبديل، قال تعالى: - {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران، آية 85]، كما أن هذا القرآن حجة على كل من بلغه.
__________
(1) الصفدية 1/268 ، وانظر : الصفدية 1/98 ، 99 ، والرد على المنطقيين ص 282 ومجموع الفتاوى 14/165 .
(2) مجموع الفتاوى 28/523 .(212/142)
يقول تعالى: - {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ} [الأنعام، آية 19] كما أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم للثقلين كافة، قال تعالى: - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف، آية 158].
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء، آية 107].
كما أن الدعوة إلى وحدة الأديان عبارة عن إنكار لأحكام كثيرة معلومة الدين بالضرورة، منها: - استحلال موالاة الكفار، وعدم تكفيرهم، وإلغاء الجهاد في سبيل الله تعالى وتوابعه.. الخ.
وقد حرم الله تعالى موالاة الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، فقال سبحانه: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} [المائدة، آية 51].
وخص سبحانه الولاية بقوله تعالى: - {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [المائدة، آية 55]. وقد شهد الله تعالى عليهم بالكفر في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: - {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران، آية 70].
صـ380
وقال تعالى: - {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة، آية 1].
يقول ابن حزم: - " واتقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً، واختلفوا في تسميتهم مشركين.(1) "
ويقول القاضي عياض: - " ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك.(2) "
__________
(1) مراتب الإجماع ص 119 ، 120 .
(2) الشفا 2/1071 .(212/143)
وتتضمن دعوة وحده الأديان تجويزاً وتسويغاً لاتباع غير دين الإسلام، وهذا كفر يناقض الإيمان، فمن اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.
يقول ابن تيمية: - " ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، او اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب.(1) "
وفي نهاية هذه المسألة نقول: - " إن من يحدّث نفسه بالجمع أو التقريب بين الإسلام واليهودية والنصرانية كمن يجهد نفسه في الجمع بين النقيضين بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان وما مثله إلا كما قيل:-
أيها المنكح الثريا سهيلا……عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت……وسهيل إذا استقل يمان(2)
ص381
3-وأما مظاهرة الكفار على المسلمين، فالمقصود بها أن يكون أولئك أنصاراً وظهوراً وأعواناً للكفار ضد المسلمين، فينضمون إليهم، ويذبون عنهم بالمال والسنان والبيان، فهذا كفر يناقض الإيمان.(3) "
وهذا ما يسميه بعض العلماء بـ " التولي " ويجعلونه أخص من عموم الموالاة، كما هو عند بعض أئمة الدعوة السلفية في نجد (4) مع أن جمهوراً من المفسرين يفسرون التولي بالموالاة، فعلى سبيل المثال نذكر ما يلي: -
يقول ابن عطية عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة، آية 23]: - " أي والاهم واتبعهم في أغراضهم.(5) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/524 ،وانظر مختصر الفتاوى المصرية ص 507 .
(2) فتاوى اللجنة الدائمة 2/85 .
(3) انظر : تفسير الطبري 3/140 ، ومجموعة التوحيد ص 38 ، والدرر السنية 7/201 ، وفتاوى ابن باز 1/272 .
(4) انظر : الدرر السنية 7/201 ، وعقود الجواهر المنضدة لابن سحمان ص 146 .
(5) تفسير ابن عطية 8/152 .(212/144)
ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله عز وجل: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ..} [الممتحنة، آية 13].
" ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة، كما نهى عنها في أولها فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا..} فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء. (1) "
ويقول البيضاوي عند تفسيره لقوله سبحانه: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51] " أي من والاهم منكم، فإنه في جملتهم، وهذا للتشديد في وجوب مجانبتهم. (2) "
وما يؤكد أن التولي يكون بمعنى المولاة، ما جاء في لغة العرب، فإن التولي والموالاة من مادة واحدة وهي: ولي بمعنى قرب، والولي: الناصر ضد العدو.(3)
صـ382
ولذا فإن شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى – في عدة مواضع من تفسيره – يفسر معنى اتخاذ الكفار أولياء بمعنى جعلهم أنصاراً (4)، وهو بمعنى توليهم.
وإذا كان التولي بمعنى الموالاة، فكما أن موالاة الكفار ذات شعب متفاوتة، منها ما يخرج من الملة كالموالاة المطلقة لهم، ومنها ما دون ذلك … فإن تولي الكفار مثل موالاتهم، فهناك التولي المطلق التام الذي يناقض الإيمان بالكلية، وهناك مراتب دون ذلك.(5)
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/356 .
(2) تفسير البيضاوي 1/279 ، وانظر البيضاوي 2/462 ، وتفسير الآلوسي 28/32 ، وتفسير الشوكاني 5/192 ، وتفسير القاسمي 6/331 .
(3) انظر : معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/141 ، وترتيب القاموس المحيط 4/658 ، والمصباح المنير ص 841 ، ومفردات الراغب ص 837 ، ومختار الصحاح للرازي ص 736 ، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي 2/208 .
(4) انظر : تفسير الطبري 5/195 ، 6/159 ، 166 , 182 , 28/34 .
(5) أنظر : بدائع الفوائد لابن القيم 4/19 ، ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7 .(212/145)
ولذا يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي عند تفسيره لقوله تعالى:-
{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة، آية 9]: - " وذلك الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان تولياً تاماً، كان ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب، ما هو غليظ وما هو دونه.(1) "
ويقول عند تفسيره لقوله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51].
" إن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يكون العبد منهم.(2) "
وعلى كل، فلا مشاحة في الاصطلاح، فالمهم أن مظاهرة الكفار، ونصرتهم والذب عنهم، يناقض الإيمان سواء سمي ذلك تولياً أم موالاة.
إن مظاهرة الكفار ضد المسلمين خيانة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، قال تعالى:- {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة، آية 80، 81].
صـ383
فتولى الكفار موجب لسخط الله تعالى، الخلود في عذابه، ولو كان متوليهم مؤمناً ما فعل ذلك.
يقول الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: - {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران، آية 28].
__________
(1) تفسير السعدي 7/357 .
(2) المرجع السابق 2/304 .(212/146)
" ومعنى ذلك: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهوراً وأنصاراً، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، يعني فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر.(1) "
وتضمنت رسالة " الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك " للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم تعالى أكثر من عشرين دليلاً في النهي عن موالاة الكفار، فكان مما قاله الشيخ سليمان:-
" قوله تعالى: - {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر، آية 11]
فإذا كان وعد المشركين في السر – بالدخول معهم ونصرتهم والخروج معهم إن جلوا – نفاقاً وكفراً وإن كان كذباً، فكيف بمن أظهر لهم ذلك صادقاً، وقدم عليهم، ودخل في طاعتهم، ودعا إليها، ونصرهم وانقاد لهم، وصار من جملتهم وأعانهم بالمال والرأي؟ هذا مع أن المنافقين لم يفعلوا ذلك إلا خوفاً من الدوائر كما قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة، آية 52].(2)
__________
(1) تفسير الطبري 3/140 .
(2) الدلائل في حكم مولاة أهل الإشراك ص 52 .(212/147)
ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – عن هذه المسألة -: " وأما قوله {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51] وقوله: - {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة، آية 22 وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة، آية 57]. فقد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة …(1) "
وقد يخلط البعض بين مسألة تولي الكفار ومظاهرتهم، وبين مسألة الاستعانة بهم في قتال الكفار … فالمسألة الأولى خروج عن الملة، ومحاربة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومفارقة لسبيل المؤمنين، يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عن ذلك: - " وأكبر ذنب وأصله وأعظمه منافاة لأصل الإسلام ونصرة أعداء الله ومعاونتهم، والسعي فيما يظهر به دينهم، وما هم عليه من التعطيل والشرك والموبقات العظام.(2) "
وأما مسألة الاستعانة بهم في قتال كفار آخرين … فهي مسألة خلافية بين أهل العلم، فهناك من منعها، وهناك من أجازها بشروط كأن يحتاج إليهم، وتؤمن خيانتهم، وأن لا يكونوا أصحاب صولة وشوكة … الخ (3)، وأما الاستعانة بالكفار على بغاة المسلمين فهذه ممنوعة عند جماهير علماء الإسلام.(4)
ونورد كلاماً لابن حزم في هذه القضية حيث يقول:-
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7 .
(2) المرجع السابق 3/57 .
(3) انظر المرجع السابق 3/66 , 67 ، وكتاب الاستعانة بغير المسلمين لعبد الله الطريقي ص 262 – 271 .
(4) انظر كتاب الاستعانة بغير المسلمين لعبد الله الطريقي ص 272 – 274 .(212/148)
" قد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب، فقد أبق عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر (1)، قال تعالى : - {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة، آية 71].
صـ385
فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها، من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم. وأما من فر إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليه ولم يجد في المسلمين من يجيره،فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره.(2) "
-إلى أن قال – وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين، وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين، أو على أخذ أموالهم أو سبيهم، فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالك في غاية الفسوق، ولا يكون بذلك كافراً؛ لأنه لم يأت شيئاً أوجب به عليه كفراً: قرآن أو إجماع، وإن كان حكم الكفار جارياً عليه فهو بذلك كافر، فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافراً والله أعلم.(3) "
4 - والآن نورد جملة من الاعتبارات التي تجعل مظاهرة الكفار على المسلمين ناقضاً من نواقض الإيمان:-
(أ) يقول الله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، آية 51].
__________
(1) مراد ابن حزم – هاهنا - : أن يلحق المسلم بدار الحرب مختاراً محارباً – كما سيأتي تمام كلامه بعد قليل - ، انظر للمزيد من التوضيح المحلى 13/140 .
(2) المحلى 13/138 ، 139 .
(3) المرجع السابق 13/140، 141 .(212/149)
فبين الله تعالى أن من فعل ذلك فهو منهم أي من أهل دينهم وملتهم، فله حكمهم.
يقول الطبري في تفسير هذه الآية: - " من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه.(1)
صـ386
ويقول الطبري في تفسيرها: - " قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} فإنه أي يعضدهم على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} بين أن حكمه حكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي، ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة.(2) "
ويقول ابن حزم: - " صح أن قوله تعالى {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51]، إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين.(3) "
ويقول القاسمي في تفسيره: - {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}: أي جملتهم، وحكمه حكمهم، وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين، فهو بدلالة الحال منهم لدلالتها على كمال الموافقة.(4) "
إضافة إلى ذلك فإن الله تعالى ذكر بعد هذه الآية، قوله سبحانه {إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، آية 51].
وفي آية أخرى يقول عز وجل {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة، آية 23] والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر (5)، فدل هذا على أن مظاهرة الكفار على المسلمين خروج عن الملة.
__________
(1) تفسير الطبري 6/160 .
(2) تفسير القرطبي 6/217 ، وانظر تفسير البيضاوي 1/279 ، وتفسير الشوكاني 2/50 .
(3) المحلى 13/35 .
(4) تفسير القاسمي 6/240 .
(5) انظر فتاوى اللجنة الدائمة 2/78 .(212/150)
(ب) ولا ريب أن مظاهرة الكفار على المسلمين تناقض الإيمان، وتنافيه بالكلية، فمثل هذه الموالاة تتضمن بغضاً لدين الله تعالى، وحرباً لعباد الله الصالحين، ونصرة للكفار … ولا شك أن الإيمان لا يمكن أن يجتمع مع هذه الموالاة كما قال تعالى: -
{تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة، آية 80، 81]
صـ387
فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم، كما سجل على من تولى الكافرين بالمذمة وحلول السخط عليهم والخلود في العذاب.(1) "
يقول ابن تيمية عن هذه الآيات: - " فذكر جملة شرطية تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف " لو" التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط، فقال:-} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء} فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله وما أنزل إليه.
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم 1/490 ، والدرر السنية 7/84 .(212/151)
ومثله قوله تعالى: - {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51]، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمناً، وأخبر هنا أن متوليهم هم منهم، والقرآن يصدق بعضه بعضاً.(1) "
ويقول الشيخ سليمان عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في ذلك: -
" قوله تعالى: - {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة، آية 22].
أخبر تعالى أنك لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، وأن هذا مناف للإيمان مضاد له، لا يجتمع هو والإيمان إلا كما يجتمع الماء والنار.(2) "
(ج) جاء النص القرآني مقرراً براءة الله تعالى ممن ظاهر الكفار، فقال تعالى: - {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران، آية 28].
ويقول البيضاوي عند هذه الآية: - {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} [أي اتخاذهم أولياء، {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} أي من ولايته في شيء يصح أن يسمى ولاية، فإن موالاة المتعاديين لا يجتمعان.(3) "
__________
(1) الإيمان ص 13 ، 14 ، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/17 , 542 .
(2) تفسير البيضاوي 1/155 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/357 .
(3) الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك ص 56 ، وانظر ص 39 .(212/152)
ويقول الشوكاني في تفسير هذه الآية: - " قوله {لاَّ يَتَّخِذِ} فيه النهي عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب … وقوله: {مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} في محل الحال: أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً أو اشتراكاً … ومعنى قوله {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} أي من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال.(1) "
(د) إن مظاهرة أعداء الله تعالى كفر نفاق، وقد حكم الله تعالى بذلك في قوله عز وجل: - {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً {88} وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ…} [النساء، آية 88 , 89].
وذلك أن قوماً كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا إن لقينا أصحاب محمد عليه السلام فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله أو كما قالوا تقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا، ويتركوا ديارهم، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك، فكانوا كذلك فئتين … فنزلت الآية تقرر نفاقهم وكفرهم وأن الله تعالى أركسهم أي ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم (2).
صـ389
__________
(1) فتح القدير 1/331 وانظر رسالة أوثق عرى الإيمان ص 28 ، والدلائل ص 32 كلاهما للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب .
(2) انظر : تفصيل ذلك : في تفسير الطبري 5/113 .(212/153)
إن مظاهرة الكفار على المسلمين خصلة من خصال المنافقين، وشعبة من شعب النفاق، كما جاء بيان ذلك في كثير من نصوص القرآن الكريم.
قال تعالى: - {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [النساء، آية 138، 139].
وقال سبحانه: - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {14} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة، آية 14، 15].
وقال عز وجل: - {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر، آية 11].
وقال سبحانه: - {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة، آية 52].
يقول ابن جرير في تفسير الآية الأخيرة: - " هذا خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهود والنصارى، ويغشون المؤمنين، ويقولون نخشى أن تدور دوائر إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من عبدة الأوثان، أو غيرهم على أهل الإسلام، أو تنزل بهؤلاء المنافقين فيكون بنا إليهم حاجة، وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين.(1) "
__________
(1) تفسير الطبري 6/161 .(212/154)
وسئل الشيخ سليمان ين عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عمن أظهر علامات النفاق ممن يدعي الإسلام، هل يقال عنه أنه منافق أم لا؟
فأجاب رحمه الله: - " من ظهرت منه علامات النفاق الدالة عليه كارتداده عند التحزيب على المؤمنين وخذلانهم عند اجتماع العدو، كالذين قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وكونه إذا غلب المشركون التجأ إليهم، ومدحه للمشركين بعض الأحيان، وموالاتهم من دون المؤمنين، وأشباه هذه العلامات التي ذكر الله أنها علامات للنفاق، وصفات للمنافقين، فإنه يجوز إطلاق النفاق عليه وتسميته
صـ390
منافقاً …(1) "
5. ونختم هذا المبحث بإيراد جملة من كلام أهل العلم في هذه المسألة:-
يقول ابن تيمية: - " فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة. (2) "
يقول ابن القيم: - " إنه سبحانه قد حكم، ولا أحسن من حكمه أن من تولى اليهود والنصارى فهو منهم {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم. (3) "
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – مظاهرة الكفار ضد المسلمين ضمن نواقض الإسلام، فقال: -
الناقض الثامن: - مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: - {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة، آية 51](4) "
__________
(1) الدرر السنية 7/79 ، 80 .
(2) مجموع الفتاوى 28/534 ، وانظر مجموع الفتاوى 28/530 ، 531 ، ومختصر الفتاوى المصرية ص 507 ، 508 ، ومجموعة الرسائل والمسائل 1/41 – 43 .
(3) أحكام أهل الذمة 1/67 .
(4) مجموعة التوحيد ص 38 .(212/155)
ويقول الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ (1):-
" التولي كفر يخرج من الملة، وهو كالذب عنهم وإعانتهم بالمال والبدن والرأي.(2)
صـ391
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: - " وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، كما قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة، آية 51](3)
ص392
الفصل الثاني
نواقض الإيمان العملية في النبوات
في هذا الفصل سنورد مثالاً واحداً على ما يناقض الإيمان بالنبوات، وهو الاستهانة بالمصحف.
ونذكر ابتداء بما هو معلوم عند كل مسلم من وجوب الإيمان بالقرآن الكريم وتصديقه واتباعه، فالقرآن كلام الله تعالى، ولا يماثل شيئاً من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، فيجب تعظيمه وإجلاله، وتلاوته حق تلاوته، والذب عنه أمام تحريف الغالين وانتحال المبطلين.
فهذا القرآن العظيم هو كلام الله عز وجل {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة، آية 6]،
وقال تعالى: - {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} [النساء، آية 122، وهو حق، ونزل بالحق قال سبحانه {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء، آية 105].
__________
(1) هو عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ، من علماء نجد في هذا العصر ، نشأ في الأحساء ، ودرس في الرياض ، وتتلمذ على يديه خلق كثير ، له بعض الفتاوى والرسائل، توفي في الرياض سنة 1339هـ .
انظر : علماء نجد 1/78 ، والدرر السنية 12/98 .
(2) الدرر السنية 7/201 .
(3) فتاوي ابن باز 1/274 .(212/156)
وقال تعالى: - {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ} [يونس، آية 13]
وهذا القرآن قول فصل، لا باطل ولا لعب: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ {13} وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق، آية 13]
ومن ثم فيتعين توقير هذا الكتاب والقيام بإجلاله وتقديره تحقيقاً للإيمان بالقرآن، وتنفيذاً للنصيحة لكتابه تعالى.
والاستهانة بالمصحف تناقض هذا الإيمان، وتنافيه بالكلية، والمقصود بالاستهانة – هاهنا – الاستخفاف والاستهزاء والاحتقار.(1) والاستهانة بالمصحف قد تكون أقوالاً (2)، وقد تكون أعمالاً.
صـ393
والاستهانة العملية بالقرآن الكريم أن يفعل عامداً ما يتضمن احتقاراً أو استخفافاً بهذا القرآن، أو إسقاطا لحرمته، ولهذه الاستهانة عدة أمثلة منها: - أن يضع المصحف تحت قدمه، أو يلقيه في القاذورات، أو يسعى إلى تغييره وتبديله بزيادة أو نقصان.
وسنتحدث بشيء من التفصيل عن مسألة التبديل في آيات الكتاب إما بزيادة أو نقصان، نظراً لظهور هذا الكفر ووقوعه وانتشاره عند الفرق المنحرفة، كالباطنية مثلاً والتي تنتسب للإسلام زوراً وبهتاناً.
لقد تكفل الله تعالى بحفظ كتابه عن كل ما لا يليق من زيادة، أو نقصان، أو تصحيف أو تحريف ونحوه، ومن ثم فإن هذا القرآن لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض.
ولذا فإن المناسب أن نورد بعض النصوص الشرعية التي تقرر حفظ الله تعالى لكتابه العزيز، ونسوق أقوالاً مختارة لبعض الأئمة في ذلك.
يقول الله تعالى:-
__________
(1) انظر : اللسان 13/438 ، والمصباح المنير ص 795 ، ومختار الصحاح للرازي ص 2 , 7 .
(2) انظر أمثلة على تلك الأقوال الكفرية : شرح الفقه الأكبر لملا علي قاري ص 249 – 254 ، والفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 3/338 ، والإعلام للهيتمي ص 359 .(212/157)
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء، آية 82]
يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية:-
" يعني جل ثناؤه بقوله أفلا يتدبرون القرآن، أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم يا محمد كتاب الله فيعملوا حجة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتساق معاينة، وائتلاف أحكامه وتأييد بعضه بعضاً بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض.(1)
ويقول ابن عطية:-
" قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} هذا أمر بالنظر والاستلال ثم عرف تعالى، بمواقع الحجة، أي لو كان من كلام البشر لدخله ما في كلام البشر من القصور وظهر فيه تناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود
صـ394
في كلام البشر والقرآن منزه عنه إذ هو كلام المحيط بكل شيء علماً.
فإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافاً في شيء من كتاب الله، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه.(2) "
ويقول محمد رشيد رضا:-
" وإن تعجب فعجب أن تمر السنون والأحقاب، وتكر القرون والأجيال، وتتسع دوائر العلوم والمعارف، وتتغير أحوال العمران ولا تنقض كلمة من كلمات القرآن، لا في أحكام الشرع، ولا في أحوال الناس وشؤون الكون، ولا في غير ذلك من فنون القول.(3) "
ويقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9].
__________
(1) تفسير ابن جرير 5/6, 1 ، وانظر تفسير ابن كثير 1/1 , 5 ، 2 , 5
(2) تفسير ابن عطية 4/187 ، 188 .
(3) تفسير المنار 5/289 .(212/158)
يقول ابن جرير في تفسير هذه الآية:- " يقول تعالى ذكره إنا نحن نزلنا الذكر وهو القرآن وإنا له لحافظون من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه (1) "
ويقول أبو السعود: - {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من كل ما لا يليق به فيدخل فيه تكذيبهم له واستهزاؤهم به دخولاً أولياً، فيكون وعيداً للمستهزئين، وأما الحفظ عن مجرد التحريف والزيادة والنقص وأمثالها فليس بمقتضى المقام، فالوجه الحمل على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه، والمجادلة في حقيته، ويجوز أنه يراد حفظه بالإعجاز دليلاً على التنزيل من عنده تعالى، إذ لو كان من عند غير الله لتطرق عليه الزيادة والنقص والاختلاف.(2)
ويقول الآلوسي: - {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، أي من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك، حتى إن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول من كان: الصواب كذا.
صـ395
ولم يحفظ سبحانه كتاباً من الكتب كذلك، بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع، وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظاً أولاً وآخراً.(3) "
وعقد الإمام البخاري (4)
__________
(1) تفسير ابن جرير 14 / 6 ، وانظر تفسير ابن كثير 2/528 ، والقرطبي 10/5 .
(2) تفسير أبي السعود 3/296 ، وانظر فتح القدير للشوكاني 3/122 .
(3) روح المعاني 14/16 = باختصار .
(4) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي ، أمير المؤمنين في الحديث ، صاحب الصحيح ، الحافظ ، الفقيه ، المؤرخ ، له رحلات كثيرة ، ومؤلفات جمة ، توفي سنة 256 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 12/391 ، ومقدمة فتح الباري .(212/159)
- في صحيحه – باباً بعنوان: " باب من قال لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين "وساق بسنده إلى عبد العزيز بن رفيع حيث قال: - " دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس رضي الله عنهما، فقال شداد بن معقل: أترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين (1)؛ قال: ودخلنا على محمد بن الحنفية (2) فسألناه، فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. (3)
يقول الحافظ ابن حجر: - " وهذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيراً من القرآن ذهب لذهاب حملته، وهو شيء اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي، واستحقاقه الخلافة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً في القرآن وأن الصحابة كتموه، وهي دعوى باطلة؛ لأنهم لم يكتموا مثل: - " أنت عندي بمنزلة هارون من موسى " (4) وغيرها من الظواهر التي قد يمسك بها من يدعي إمامته.(5)
صـ396
ويقول الشاطبي: - " إن هذه الشريعة المباركة معصومة، كما أن صاحبها معصوم، وكما كانت أمته فيما اجتمعت عليه معصومة.
ويتبين ذلك من وجهتين:-
أحدهما: - الأدلة الدالة على ذلك تصريحاً وتلويحاً، كقوله تعالى: - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر آية 9، وقوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود، آية 1]
__________
(1) اللوحتين ، والمراد به المصحف .
(2) محمد بن علي بن أبي طالب ، من كبراء التابعين ، كان ورعاً كثير العلم ، وهو من سادات قريش ، كان شجاعاً قوياً ، مات بالمدينة سنة 81 هـ .
…انظر : البداية والنهاية 9/38، سير أعلام النبلاء 4/110.
(3) أخرجه البخاري ، ك فضائل القرآن (9/64) ح (5019) .
(4) أخرجه البخاري ، ك فضائل الصحابة (7/71) ، ح (3706) ، ومسلم ، ك فضائل الصحابة (4/1871) ، ح (2404) .
(5) فتح الباري 9/65 .(212/160)
والثاني: - الاعتبار الوجودي الواقع من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وذلك أن الله عز وجل وفر دواعي الأمة للذب عن الشريعة، والمناضلة عنها بحسب الجملة والتفصيل.
أما القرآن الكريم فقد قيض الله له حفظة بحيث لو زيد فيه حرف واحد لأخرجه آلاف من الأطفال الأصاغر، فضلاً عن القراء الأكابر.(1) "
وتحدث ابن حزم عما يجب اعتقاده في مسألة حفظ الله تعالى لكتابه فقال:-
" إن القرآن المقروء المكتوب في المصاحف حق نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه كلام الله عز وجل، حقاً لا مجازاً، وهو علم الله تعالى، وأنه محفوظ لم يغير منه شيء ولا حرف، ولا زيد فيه حرف فما فوقه، ولا نقص منه حرف فما فوقه، قال الله عز وجل: - {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء، آية 193 , 194]، وقال تعالى:- {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت، آية 49].
وقال تعالى:- {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ {77} فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ {78} لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ {79} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة، آية 77-79].
وقال تعالى: - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9].
فمن قال إن القرآن نقص منه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف، أو زيد فيه حرف، أو بدل منه حرف، أو أن هذا المسموع أو المحفوظ أو المكتوب أو المنزل ليس هو القرآن، أو قال: إن القرآن لم ينزل به جبريل صلى الله عليه وسلم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه ليس هو كلام الله تعالى
صـ397
فهو كافر، خارج عن دين الإسلام؛ لأنه خالف كلام الله عز وجل، وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل الإسلام.(2)
__________
(1) الموافقات 2/58 , 59 = باختصار .
(2) الدرة فيما يجب اعتقاده ص 218 – 221 = باختصار يسير .(212/161)
3. إن الاستهانة بالقرآن ناقض من نواقض الإيمان لجملة من الاعتبارات نذكر منها ما يلي:-
(أ) أن الاستهانة بالمصحف تناقض الإيمان، فالإيمان مبني على إجلال الله تعالى وتعظيم كلامه، والاستهانة استخفاف واستهزاء، يقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} [التوبة، آية 65 , 66] والإيمان انقياد وخضوع، والاستهانة بالمصحف لا تجتمع مع هذا الانقياد والخضوع، فمن استهان بالمصحف، امتنع أن يكون منقاداً لأمر الله تعالى.
يقول ابن تيمية: - " إن الانقياد إجلال وإكرام، والاستخفاف إهانة وإذلال، وهذان ضدان، فمتى حصل في القلب أحدهما، انتفى الآخر فعلم أن الاستخفاف والاستهانة به ينافي الإيمان منافاة الضد للضد.(1) "
(ب) أن الله تعالى توعد من اتخذ آياته هزواً بالعذاب المهين، ولم يجئ إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار.(2)
كما توعد أولئك المستهينين بآياته بالخلود في النار. فقال تعالى: - {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9]
وقال سبحانه: - {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ {34} ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية، آية 34 , 35].
(ج) أن الاستهانة بالمصحف تكذيب لله تعالى في خبره، ومناقضة لما أمر الله تعالى به من تعظيم كلامه عز وجل، والاستهانة بالقرآن استهانة بمن تكلم به تعالى.(3)
يقول الله تعالى: - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9]
صـ398
__________
(1) الصارم المسلول ص 521 .
(2) انظر المرجع السابق ص 52 .
(3) انظر مغني المحتاج للشربيني 4/136 .(212/162)
ويقول سبحانه: - {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا {82}} [النساء، آية 82].
وقال تعالى: - {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء، آية 88].
وقال سبحانه: - {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج، آية 52] فأخبر تعالى أنه يحفظ آياته، ويحكمها حتى لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل (1)
فمن استهان بالمصحف سواء كان بتحريف، أو تصحيف أو زيادة، أو نقص فهو مكذب بمثل الآيات الكريمة التي سبق ذكرها، ولقد حكم الله تعالى – ولا معقب لحكمه – لكفر على من جحد آياته، وأخبر تعالى بأنه لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وأنهم لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة، كما سبق إيراده.(2) "
يقول الحليمي (3): - إن الله حفظ القرآن، فقال عند ذكره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر آية 9]. وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ {41}لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت، آية 42].
__________
(1) انظر الموافقات للشاطبي 2/58 .
(2) انظر المبحث الثالث من الفصل الثاني في الباب الأول .
(3) أبو عبد الله الحسين بن الحسن البخاري الشافعي ، محدث متكلم عاش في بلاد ما وراء النهر ، كان ذكياً سيال الذهن ، له مؤلفات ، توفي سنة 403 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 17 / 231 ، طبقات الشافعية 4/333 .(212/163)
فمن أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن أو نقصانه منه، أو تحريفه أو تبديله، فقد كذب الله في خبره، وأجاز الوقوع فيه، وذلك كفر.(1) "
ويقول القرطبي:-
" لا خلاف بين الأمة ولا بين الأئمة أهل السنة أن القرآن اسم لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزة له، وأنه محفوظ في الصدور،
صـ399
مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأ من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحد، ولا في حصره بعد، فمن ادعى زيادة عليه أو نقصاناً منه فقد أبطل الإجماع، وبهت الناس، ورد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن المنزل عليه، ورد قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء، آية 88]، وأبطل آية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا ذاك يصير القرآن مقدوراً عليه، حين شيب بالباطل، ولما قدر عليه لم يكن حجة ولا آية، وخرج عن أن يكون معجزاً.(2) "
(د) أن الاستهانة بالمصحف – تحريفاً أو تبديلاً – استهانة بالدين، وهدم لأصول هذه الشريعة وفروعها، وهو طعن في تمام دين الإسلام وكماله.
ولذا يقول ابن حزم: - " والدين قد تم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، ولا يبدل.
قال تعالى: - {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة، آية 3]
وقال تعالى: - {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} [يونس، آية 64}، والنقص والزيادة تبديل.(3) "
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان 1/320 .
(2) تفسير القرطبي 1/80 ، 81 .
(3) المحلى 1/31 .(212/164)
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: - " ومن اعتقد عدم صحة حفظه {أي المصحف} من الإسقاط، واعتقد ما ليس منه أنه منه قد كفر، ويلزم من هذا رفع الوثوق بالقرآن كله، وهو يؤدي إلى هدم الدين، ويلزمهم عدم الاستدلال به، والتعبد بتلاوته، لاحتمال التبدل، ما أخبث قول قوم يهدم دينهم.(1) "
وعندما تحدث محمود شكري الآلوسي (2) عن القرآن الكريم، وأنه محفوظ
صـ400
عن الزيادة والنقصان، ثم ذكر معتقد الإثني عشرية في القرآن … قال بعد ذلك:- " والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجمهور الفرق الإسلامية أنه ليس في القرآن تحريف ولا نقصان، وذلك لأن الله تعالى قال: - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر، آية 9].
وإذا كان الله تعالى الحافظ له، كيف يتمكن أحد من تحريفه، لأن تبليغ القرآن كان واجباً على الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كافة الناس، أو بمن اتبعه …
ولم يزل المسلمون يتعبدون بتلاوته آناء الليل، وأطراف النهار، ويرون ذلك من أفضل الطاعات والأعمال من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى زمننا هذا، وكل ما في هذا شأنه لا يمكن تغييره ولا إسقاط شيء منه، ولأنه لو كان فيه تحريف بتغيير أو نقصان لم يبق وثوق بالأحكام.(3) "
__________
(1) رسالة في الرد على الرافضة ص 14 .
(2) أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله الآلوسي الحسيني ، عالم بالشرع ، والتاريخ والأدب ولد في بغداد سنة 1273 هـ ، له جهود في الرد على المبتدعة ، وألف كتباً كثيرة ، توفي ببغداد سنة 1342 هـ .
انظر : - كتاب تلميذه محمد بهجت الأثري " أعلام العراق " ص 36 ، الأعلام 7/172 .
(3) السيوف المشرقة ومختصر الصوامق المحرقة ، (مخطوط) ، ق 129 = باختصار .(212/165)
(هـ) أجمع العلماء على كفر من استهان بالمصحف، وخروجه عن الملة، وقد نقل هذا الإجماع جماعة من أهل العلم (1) ونورد هاهنا ما يلي:-
ذكر ابن حزم أن العلماء اتفقوا على: " أن كل ما في القرآن حق، وأن من زاد فيه حرفاً من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نقل الكافة، أو نقص حرفاً، أو بدل منه حرفاً مكان حرف، وقد قامت عليه الحجة أنه من القرآن فتمادى متعمداً لكل ذلك عالماً بأنه بخلاف ما فعل فإنه كافر.(2) "
ويقول أيضاً: - " إن الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم وهو أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمداً كذلك، أو زاد فيها كلمة عامداً فإنه كافر بإجماع الأمة كلها.(3) "
ويقول القاضي عياض: - " اعلم أن من استخف بالقرآن، أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما، أو جحده، أو حرفا منه، أو آية، أو كذب به، أو بشيء
صـ401
منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال تعالى: - {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت، آية 42].(4) "
4.وفي نهاية هذا الفصل نذكر جملة من كلام العلماء في هذه المسألة:-
يقول ابن حزم – في الرد على اعتراض النصارى بأن الروافض يزعمون أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بدلوا القرآن …:- " وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القرآن، فإن الروافض ليسوا من المسلمين.(5) "
__________
(1) وقد سبق ذكر شيء من ذلك فيما مضى ، مما هو قريب من موضوع هذا الفصل ، انظر : - المبحث الثالث من الفصل الثاني في الباب الأول .
(2) مراتب الإجماع ص 174 .
(3) الفصل 3/296 ، وانظر : المحلى 1/39 ، والإحكام في أصول الأحكام 1/86 .
(4) الشفا 2/1101 ، وانظر 2/1076 .
(5) الفصل 2/213 ، وانظر المحلى 1/15 .(212/166)
وقال محمد بن إسماعيل الرشيد الحنفي:_ " من استخف بالقرآن أو بالمسجد أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر، ومن وضع رجله على المصحف حالفاً استخفافاً كفر.(1) "
وذكر الدردير أن من موجبات الردة:: " إلقاء مصحف أو بعضه ولو كلمة، وكذا حرقه استخفافاً لا صوناً، ومثل إلقائه، وتركه بمكان قذر، ولو طاهراً كبصاق أو تلطيخه به … ومثل المصحف الحديث، وأسماء الله تعالى وكتب الحديث، وكذا كتب الفقه إن كان على وجه الاستخفاف بالشريعة.(2) "
وقال النووي:- " الأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كإلقاء المصحف في القاذورات.(3) "
وقال قليوبي شارحاً قول النووي: - " إلقاء مصحف بقاذورة ": - " قوله كإلقاء مصحف بقاذورة " بالفعل أو بالعزم والتردد فيه ومسه بها كإلقائه فيها، وألحق بعضهم به وضع رجله عليه ونوزع فيه، والمراد بالمصحف ما فيه قرآن ومثله
صـ402
الحديث، وكل علم شرعي وما عليه اسم معظم، قال شيخنا الرملي: ولا بد في غير القرآن من قرينة تدل على الإهانة وإلا فعلا، وشملت القاذورة الطاهرة كبصاق ومخاط ومني.(4) "
__________
(1) رسالة في ألفاظ الكفر ص 22 ، ويقول ملا علي قاري معلقاً على الجملة الأخيرة : - " ولا يخفى أن قوله حالفاً قيد واقعي فلا مفهوم له . " شرح الفقه الأكبر ص 250
(2) الشرح الصغير 6/145 , 146 ، وانظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/301 ، وبلغة السالك 2/416 ، والخرشي على مختصر خليل 7/62 , 63 .
(3) روضة الطالبين 10/64 ، وانظر مغني المحتاج للشربيني 4/136 ، ونهاية المحتاج للرملي 7/416 .
(4) قليوبي وعميرة 4/176 ، وانظر الأعلام للهيتمي ص 349 .(212/167)
وعد البهوتي من نواقض الإسلام ما يلي: - " أو وجد منه امتهان القرآن، أو طلب تناقضه، أو دعوى أنه مختلف، أو مقدور في مثله، أو إسقاط حرمته كفر؛ لقوله تعالى: - {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر، آية 21] وقوله: - " {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء، آية 82] وقوله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [ الإسراء، آية 88]. (1)
صـ403
الباب الثالث:
نواقض الإيمان المختلف فيها القولية والعملية
صـ404
في البابين السابقين كان الحديث شاملاً للنواقض القولية والعملية المتفق عليها بين أهل السنة.
وفي هذا الباب سنتحدث عن أمثلة مهمة على نواقض الإيمان المختلف فيها بين أهل السنة أيضاً، وسيظهر من خلال عرض أكثر تلك المسائل أن الخلاف فيها يسير، وذلك عند تحقيق معاني تلك النواقض، ومعرفة تفاصيل مجملها، وتنوع احتمالاتها.
صـ405
الفصل الأول: النواقض القولية
المبحث الأول: (سب الصحابة رضي الله عنهم)(2)
1- في مطلع هذا المبحث نشير إلى ما يجب علينا نحو الصحابة رضي الله عنهم، فالواجب علينا أن نحبهم ونجلهم ونترضى عنهم، وننزلهم المنزلة اللائقة بهم من غير إفراط ولا تفريط، كما ينبغي أن تسلم قلوبنا وألسنتنا نحوهم، وأن نمسك عما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
(1) كشاف القناع 6/137 ، وانظر شرح منتهى الإرادات 3/387 ، وغاية المنتهى لمرعي الكرمي 3/339 .
(2) في هذا المبحث استفدت مما كتبه الأخ محمد الوهيبي في بحث نشر في مجلة البيان ع ، 25، 26 بعنوان (اعتقاد أهل السنة في الصحابة).(212/168)
يقول الله تعالى:- {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة، آية 100]
ويقول سبحانه: - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح، آية 29].
ويقول عز وجل: - {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر، آية 8 , 9] وقال صلى الله عليه وسلم: - " لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحداً أنفق مثل
صـ406(212/169)
أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (1) "
وقد قرر علماء أهل السنة في مؤلفاتهم – اتباعاً لما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - الواجب نحو الصحابة رضي الله عنهم وإليك أمثلة من تقريراتهم على النحو التالي:-
فذكر الحميدي رحمه الله تعالى أن من السنة: - " الترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم فإن الله عز وجل قال: - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر، آية 10]، فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم، فمن سبهم أو تنقضهم، أو أحداً منهم فليس على السنة، وليس له في الفيء حق، أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس.(2) "
وقال الطحاوي في عقيدته المشهورة: - " ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بالخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.(3) "
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك فضائل الصحابة (7/21) ح ( 3673) ، ومسلم ، ك فضائل الصحابة (4/1967) ح (2540) ، انظر ما ورد في فضل الصحابة في الكتاب والسنة : - كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد بن حنبل ، وفضائل الصحابة للنسائي ، والصواعق المحرقة للهيتمي ، ودر السحابة في مناقب الصحابة للشوكاني ، وإتحاف ذوي النجابة لمحمد العربي ، وكتاب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادة الكبيسي 149 ? 176 .
(2) أصول السنة للحميدي (بذيل مسنده) 2/546 .
(3) شرح العقيدة الطحاوية 2/689 .(212/170)
ويقول ابن بطة – في هذه المسألة: - " ويشهد لجميع المهاجرين والأنصار بالجنة والرضوان والتوبة والرحمة من الله، ويستقر علمك وتوقن بقلبك أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم وشاهده وآمن به واتبعه ولو ساعة من نهار أفضل ممن لم يره، ولم يشاهده ولو أتى بأعمال الجنة أجمعين، ثم الترحم على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم، وأولهم وآخرهم، وذكر محاسنهم ونشر فضائلهم، والاقتداء بهديهم، والاقتفاء لآثارهم.(1) "
صـ407
ويذكرهم ابن بطة المسلك الصحيح تجاه النزاع بين الصحابة، فيقول: -
" ونكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرك بالإستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولا تنظر في كتاب صفين والجمل، ووقعه الدار وسائر المنازعات التي جرت بينهم، ولا تكتبه لنفسك، ولا لغيرك، ولا تروه عن أحد، ولا تقرأ على غيرك، ولا تسمعه ممن يرويه، فعلى ذلك اتفاق سادات علماء هذه الأمة من النهي عما وصفناه.(2) "
ويقول أبو نعيم (3): " فالواجب على المسلمين في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم إظهار ما مدحهم الله تعالى به وشكرهم عليه من جميل أفعالهم، وجميل سوابقهم، وأن يغضوا عما كان منهم في حال الغضب والإغفال وفرط منهم عند استزلال الشيطان إياهم.
__________
(1) الإبانة الصغرى ص 263 – 265 .
(2) المرجع السابق = باختصار ص 268 , 269 .
(3) أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني الشافعي ، محدث مؤرخ ، صاحب تصوف له مؤلفات ، توفي بأصبهان سنة 430هـ .
انظر : طبقات الشافعية 4/18 ، البداية والنهاية 12/45 .(212/171)
ونأخذ في ذكرهم بما أخبر الله تعالى به فقال تعالى: - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر، آية 10]، فإن الهفوة والزلل والغضب والحدة والإفراط لا يخلو منه أحد، وهو لهم غفور، ولا يوجب ذلك البراءة منهم، ولا العداوة لهم، ولكن يحب على السابقة الحميدة، ويتولى للمنقبة الشريفة.
-إلى أن قال –: فلا يتتبع هفوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وزللهم، ويحفظ عليهم ما يكون منهم في حال الغضب والموجدة إلا مفتون القلب في دينه.(1) "
صـ408
ومما سطره شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني (2) في رسالته " عقيدة أصحاب الحديث ":- " ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم، وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين.(3) "
__________
(1) الإمامة ص 341 , 342 ، 344 ، وانظر ص 208 – 211 .
(2) إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني الشافعي ، محدث فقيه ، مفسر واعظ ، نصر السنة في خراسان ، ولقب بشيخ الإسلام ، توفي سنة 449 هـ .
انظر : طبقات الشافعية 4/271 ، وسير أعلام النبلاء 18/40 .
(3) عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 93.(212/172)
وجاء في " العقيدة الواسطية " ما يلي:- " ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: - {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر، آية 10]، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (1) " ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم.(2) "
ثم قال: - " ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم، منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذرون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. (3) "
-إلى أن قال – " ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما
صـ409
من الله عليهم به من الفضائل علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله.(4) "
__________
(1) سبق تخريجه ص 406 .
(2) شرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل هراس ص 157 , 158 .
(3) المرجع السابق ص 164 .
(4) المرجع السابق ص 167 .(212/173)
وبهذا يعلم عظم منزلة الصحابة رضي الله عنهم، وأنه لا يعدلها شيء، وأن حبهم طاعة وإيمان وبغضهم معصية ونفاق، وأن من أصول أهل السنة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي المقابل فإن بغض الصحابة أو سبهم من صفات المبتدعة كما هو ظاهر – مثلاً – عند الرافضة والخوارج.
2 - وإذا تقرر واجبنا تجاه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإننا ننتقل إلى الحديث عن حكم سب الصحابة رضي الله عنهم.
وابتداء نذكر بمعنى السب، فهو الشتم وكل كلام قبيح يوجب الإهانة والتنقص والاستخفاف.(1) "
واختلف العلماء فيمن سب الصحابة رضي الله عنهم، وهل يكفر بذلك؟(2)
وذلك أن سب الصحابة ليس على مرتبة واحدة، بل له مراتب متفاوتة، فإن سب الصحابة أنواع ودركات، فمنها سب يطعن في عدالتهم، ومنها سب لا يوجب الطعن في عدالتهم، وقد يكون السب لجميعهم، وأكثرهم وقد يكون لبعضهم، وهناك سب لمن تواترت النصوص بفضله، ومنهم دون ذلك.
وسنورد جملة من أنواع سب الصحابة رضي الله عنهم مما يعد ناقضاً من نواقض الإيمان على النحو التالي:-
أ - إن كان مستحلاً لسب الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر (3)، فمن المعلوم أن جميع الصحابة رضي الله عنهم عدول، وقد أجمع العلماء على عدالتهم، لما جاء في الكتاب والسنة من الثناء الحسن عليهم، المدح لهم ونقل هذا الإجماع
صـ410
جمع كثير من العلماء، منهم النووي حيث يقول:-
" وكلهم عدول رضي الله عنهم، ومتأولون في حروبهم وغيرها، ولم يخرج شيء من ذلك أحداً منهم عن العدالة …
__________
(1) انظر مسألة سب الله تعالى في المبحث من الفصل الأول في الباب الأول .
(2) انظر : الشفا للقاضي عياض 2/1108 – 1114 ، والصارم المسلول ص 567 – 587 ، وصحابة رسول الله لعيادة الكبيسي ص 334 – 346 .
(3) انظر الصارم المسلول لابن تيمية ص 569 ، 571 .(212/174)
-إلى أن قال – ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين.(1) "
ويقول ابن الصلاح (2) في مقدمته: - " للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه، لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة.
-إلى أن قال – ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم، نظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه أتاح الإجماع على ذلك، لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم.(3) "
ويقول ابن كثير: - " والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل، والجزاء الجميل.(4) "
وقد تقرر أن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب والسنة، قال تعالى:- {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات، آية 12].
قال ابن تيمية: - " وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً.(5) "
وقال عز وجل: - {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران، آية 119].
صـ411
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 15/149 .
(2) أبو عنمر عثمان بن صلاح الدين بن عبد الرحمن الكردي الشهرزوري الشافعي ، إمام ، محدث ، درس وأفتى ، صاحب هيبة ووقار ، أتقن علوماً كثيرة ، توفي سنة 643 هـ.
انظر : طبقات الشافعة 8/326 ، وسير أعلام النبلاء 23/140 .
(3) مقدمة ابن الصلاح ص 427 ، 428 .
(4) الباعث الحثيث ص 205 .
(5) الصارم المسلول ص 571 .(212/175)
قال ابن تيمية: - " ومحبة الشيء كراهته لضده، فيكون الله يكره السب لهم الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة.(1) "
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.(2) "
فسب الصحابة كبيرة من كبائر الذنوب، لما ترتب عليه من الوعيد باللعنة (3)، واستحلال سبهم إنكار لما علم تحريمه من الدين بالضرورة، ومن ثم فهو خروج عن الملة.(4) "
ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب:-
" فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصة على كمالهم … فمن اعتقد حقية سبهم وإباحته، أو سبهم مع اعتقاد حقية سبهم، أو حليته فقد كفر بالله تعالى ورسوله فيما أخبر من فضائلهم …
- إلى أن قال – فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر، لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكذبه كافر.(5) "
(ب) ومما يناقض الإيمان: - أن يسب جميع الصحابة، أو جمهورهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، كأن يرميهم بالكفر، أو الفسق، أو الضلال، وبيان ذلك من خلال النقول الآتية:-
يقول القاضي عياض: - " وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قولاً يتوصل به إلى
صـ412
تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية (6)
__________
(1) المرجع السابق ص 574 .
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (12/142) ، وابن أبي عاصم في السنة (2/483) وأبو نعيم في الحلية " (7/103) وحسنه الألباني في (الصحيحة) (2340) .
(3) انظر تعريف الكبيرة في شرح العقيدة الطحاوية 2/526 ، ومجموع فتاوى ابن تيمية 11/650 .
(4) انظر في هذه الرسالة : - الفصل الرابع من الباب الأول : "إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة "
(5) الرد على الرافضة ص 18، 19 .
(6) الكميلية : ولعلها الكاملية ، وهم أصحاب أبي كامل ، وهم فرقة من غالية الشيعة ، أكفروا جميع الصحابة ، وقالوا بالتناسخ والحلول .
انظر : الملل والنحل 1/174 ، واعتقادات فرق المسلمين ص 60 .(212/176)
من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم … لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا – والله أعلم – أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة.(1) "
ويقول ابن تيمية: - " وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران، آية 110]، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.(2) "
ويقول السبكي: - " إن سب الجميع لا شك أنه كفر … وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول الطحاوي: وبغضهم كفر، فإن بغض الصحابة بجملتهم لا شك أنه كفر. (3) "
ويقول ابن كثير: - " ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك [أي كتمان الوصية لعلي بالخلافة …] فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة، رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضادته في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام …(4) "
صـ413
ويقول ابن حجر الهيتمي: - " إن تكفير جميع الصحابة كفر؛ لأنه صريح في إنكار جميع فروع الشريعة الضرورية فضلاً عن غيرها …(5) "
__________
(1) الشفا 2/1072 = باختصار .
(2) الصارم المسلول ص 586 ، 587 .
(3) فتاوى السبكي 2/575 .
(4) البداية والنهاية 5/252 .
(5) الإعلام ص 380 .(212/177)
ويذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر هو: " هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث.(1) "
ويقول أيضاً: -: ومن نسب جمهور أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى الفسق والظلم، وجعل اجتماعهم على الباطل فقد أزرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وازدراؤه كفر.(2) "
ويقول محمد العربي بن التباني المغربي (3):-
" كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة [يعني الرافضة] في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم، تقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً … ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح.(4) "
ويمكن أن نلحق بهذا النوع من السب – وإن كان أشنع مما سبق – فيما لو سب الصحابة رضي الله عنهم من أجل صحبتهم ونصرتهم لدين تعالى، ولو كان
صـ414
واحداً..، وإليك ما يبين ذلك من كلام أهل العلم.
__________
(1) الرد على الرافضة ص 13 .
(2) المرجع السابق ص 8 وانظر ص 17 .
(3) أبو عبد الله محمد العربي التباني الجزائري ثم المكي، عالم معاصر ، أصولي ، مفسر ، محدث ، مؤرخ ، درس في الحرم المكي ، وكذا في مدرسة الفلاح بمكة ، له مؤلفات جمة، كان حياً عام 1374 هـ .
انظر : مقدمة كتابه تحذير العبقري من محاضرات الخضري (1/9) .
(4) إتحاف ذوي النجابة ص 75 .(212/178)
يقول ابن حزم: - " ومن أبغض الأنصار لأجل نصرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه وجد الحرج في نفسه مما قضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان بأيديهم، ومن عادى علياً لمثل ذلك فهو أيضاً كافر.(1) "
ويقول السبكي: - " إن سب الجميع بلا شك أنه كفر، وهكذا إذا سب واحداً من الصحابة حيث هو صحابي؛ لأن ذلك استخفاف بحق الصحبة، ففيه تعرض إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك في كفر الساب.
-إلى أن قال – ولا شك أنه لو أبغض واحداً منهما (أي الشيخين أبي بكر وعمر) لأجل صحبته فهو كفر، بل من دونهما في الصحبة، إذا أبغضه لصحبته كان كافراً قطعاً.(2)
ومما أورده الحافظ ابن حجر عند شرحه لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: - " آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار " (3) حيث قال رحمه الله: - " فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة – وهي كونهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك في تصديقه، فيصح أنه منافق، ويقرب هذا زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب: - " من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم (4) "، وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعه: - " لا يبغض الأنصار رجل يؤم بالله واليوم الآخر " (5)، (6) "
صـ415
__________
(1) الفصل 3/300 .
(2) فتاوى السبكي 2/575 .
(3) أخرجه البخاري ، ك الإيمان (1/62) ح (17) ، ومسلم ، ك الإيمان (1/85) ح (74) .
(4) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة ح(1411) ، والنسائي في فضائل الصحابة ح (225) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/39) : " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، غير أحمد بن حاتم وهو ثقة " انظر "الصحيحة " للألباني ح (991) .
(5) أخرجه مسلم ، ك الإيمان (1/86) ح (77) ، وأحمد (2/419) .
(6) فتح الباري 1/62 .(212/179)
ويوضح العيني (1) هذا المعنى فيقول: - " المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين، وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصرة، وغير ذلك، وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة، والمهاجرين، بل في كل الصحابة، إذ كل منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان، وبغضهم محض النفاق.(2) "
ويقول الصاوي: - " وأما من كفر جميع الصحابة فإنه يكفر باتفاق، كما في الشامل؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وكذب الله ورسوله.(3) "
(ج) من أنواع سب الصحابة الذي يناقض الإيمان: - " أن يسب صحابياً تواترت النصوص بفضله، فيطعن في دينه وعدالته، وذلك لما فيه من تكذيب لهذه النصوص المتواترة، والإنكار والمخالفة لحكم معلوم من الدين بالضرورة.
وإليك جملة من كلام أهل العلم في تقرير ذلك: -
قال مالك (4) رحمه الله: - " من شتم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل.(5)
صـ416
__________
(1) بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى العيني الحلبي ثم القاهري الحنفي ، فقيه ، محدث مفسر ، لغوي ، أجاد علوماً جمة ، له رحلات ومؤلفات ، ولي التدريس والحسبة والقضاء في مصر ، توفي بالقاهرة سنة 855 هـ .
انظر : - شذرات الذهب 7/286 ، البدر الطالع 2/294 .
(2) عمدة القارئ 1/173 وانظر : الصارم المسلول لابن تيمية ص 581 .
(3) الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي 6/160 ، وانظر الرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب ص 19 .
(4) أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي ، إمام دار الهجرة ، وأحد الأئمة الأربعة ، كان صلباً في دينه ، له مؤلفات ، توفي في المدينة المنورة سنة 179 هـ .
…انظر : الديباج المذهب 1/82، سير أعلام النبلاء 8/48.
(5) الشفا 2/1107 .(212/180)
" وسئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة، فقال: ما أراه على الإسلام، وسئل عمن يشتم عثمان، فقال رحمه الله: - هذه زندقة.(1) "
" وقال محمد بن يوسف الفريابي (2) وسئل عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قيل: فيصلي عليه؟ قال: لا، وسأله: كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته.(3) "
وجاء في الفتاوى البزازية: - " ومن أنكر خلافة أبي بكر فهو كافر في الصحيح، ومنكر خلافة عمر رضي الله عنه فهو كافر في الأصح، ويجب إكفار الخوارج بإكفار عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم.
وفي الخلاصة: الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر.(4) "
وقال الخرشي:- " إن رمى عائشة بما برأها الله منه بأن قال زنت، أو أنكر صحبة أبي بكر أو إسلام العشرة أو إسلام جميع الصحابة، أو كفر الأربعة، أو واحداً منهم كفر.(5) "
__________
(1) المسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة للأحمدي 2/358 ، 363 ، وانظر السنة للخلال ص 493 .
(2) أبو عبد الله محمد بن يوسف بن واقد الفريابي ، إمام حافظ ، عابد ، من أكبر شيوخ البخاري ، وثقة جمهور المحدثين ، له ردود على المبتدعة ، مات سنة 212 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 10/114 ، وتهذيب التهذيب 9/335 .
(3) السنة للخلال ص 499 .
(4) الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) 6/318 وانظر البحر الرايق لابن نجيم 5/131 .
(5) الخرشي على مختصر خليل 7/74 ، وعلل العدوي ذلك في حاشيته على الخرشي (7/74) : "لأن إسلام الصحابة صار معلوماً من دين الله بالضرورة . "(212/181)
ويقول السبكي: - " احتج المكفرون للشيعة والخوارج بتكفيرهم لأعلام الصحابة رضي الله عنهم، وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في قطعه لهم بالجنة، وهذا عندي احتجاج صحيح فيمن ثبت عليه تكفير أولئك، وأجاب الآمدي بأنه إنما يلزم أن لو كان المكفر يعلم بتزكية من كفره قطعاً على الإطلاق إلى مماته بقوله صلى الله عليه وسلم: - أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان
صـ417
في الجنة، وعلي في الجنة(1) إلى آخرهم، وإن كان هذا الخبر ليس متواتراً لكنه مشهود مستفيض، وعضده إجماع الأمة على إمامتهم وعلو قدرهم وتواتر مناقبهم أعظم التواتر الذي يفيد تزكيتهم فبذلك نقطع بتزكيتهم على الإطلاق إلى مماتهم لا يختلجنا شك في ذلك.(2) "
ويقول أيضاً: - " وأما الرافضي فإنه يبغض أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لما استقر في ذهنه بجهله وما نشأ عليه من الفساد عن اعتقاد ظلمهما لعلي، وليس كذلك ولا علي يعتقد ذلك، فاعتقاد الرافضي ذلك يعود على الدين بنقض؛ لأن أبا بكر وعمر هما أصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مأخذ التكفير ببغض الرافضة لهما، وسبهم لهما.(3) "
ويقول في موضع ثالث:- " وتحريم سب الصديق رضي عنه معلوم من الدين بالضرورة بالنقل المتواتر على حسن إسلامه، وأفعاله الدالة على إيمانه وأنه دام على ذلك إلى أن قبضه الله تعالى هذا لا شك فيه.(4) "
وهذه المسألة فيها خلاف، فهناك من لا يعد هذا السب كفراً، بل يجعله فسقاً، يوجب التأديب والتعزير.
__________
(1) أخرجه الترمذي ح (3748) ، (3757) ، وقال الترمذي : " حسن صحيح " ، وأحمد (1/193) ، والنسائي في فضائل الصحابة ، ح(91) ، وابن أبي عاصم في السنة " (2/618) وصححه الألباني في الجامع الصغير ح (3905) .
(2) فتاوى السبكي 2/569 .
(3) المرجع السابق 2/576 .
(4) المرجع السابق 2/587 ، وانظر : 2/589 وانظر الإعلام للهيتمي ص 352 ، 363 ، 380 .(212/182)
ولا شك أن هذا السب فسق بالاتفاق، بل إن القائلين بعدم تكفير من سب الصحابة مجمعون على ذلك، كما قال السبكي:-
" وأجمع القائلون بعدم تكفير من سب الصحابة أنهم فساق.(1)
ويذكر ابن تيمية أن أقل ما يفعل بشاتم الصحابة: التعزير ويعلل ذلك بقوله: - " لأنه [أي التعزير] [مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، وقال صلى الله
صـ418
عليه وسلم:- " انظر أخاك ظالماً أو مظلوماً "(2) وهذا مما لا يعلم فيه خلافاً بين أهل الفقه والعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهل السنة والجماعة، فإنهم مجمعون على أن الواجب الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول.(3) "
وإليك طرفاً من أقوال العلماء القائلين بعدم التكفير في هذا السب.
سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرى أن يضرب … وقال: ما أراه إلا على الإسلام.(4) "
ويقول القاضي عياض: - " قد اختلف العلماء في هذا، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله: - من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب.
وقال ابن حبيب (5)
__________
(1) المرجع السابق 2/580 .
(2) أخرجه البخاري ، ك المظالم (5/98) ح (2443) ، وأحمد (3/99)
(3) الصارم المسلول ص 578 .
(4) انظر : المسائل المروية عن الإمام أحمد ، للأحمدي 2/363 ، وانظر الإنصاف للمرداوي 10/323 ، 324 .
(5) أبو مروان عبد الملك بن حبيب السلمي الأندلسي المالكي ، من أوائل فقهاء المالكية ، كان موصوفاً بالحذق في الفقه ، له مؤلفات كثيرة ، تولى الفتيا في قرطبة ، مات سنة 238 هـ .
انظر : الديباج المذهب 2/8 ، سير أعلام النبلاء 12/102 .(212/183)
: - " من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً، ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد، ويكرر ضربه، ويطال سجنه حتى يموت، ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سحنون (1): - من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
صـ419
علياً أو عثمان أو غيرهما، يوجع ضرباً.(2) "
وقال السبكي: - " وأما أصحابنا [الشافعية] [فقد قال القاضي حسين (3) في تعليقه في باب اختلاف نية الإمام والمأموم: - من سب النبي صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك، ومن سب صحابياً فسق، وأما من سب الشيخين أو الختنين (4) ففيه وجهان، أحدهما يكفر؛ لأن الأمة اجتمعت على إمامتهم، والثاني يفسق ولا يكفر.(5) "
ويقول الرملي: - " ولا يكفر بسب الشيخين أو الحسن والحسين إلا في وجه حكاه القاضي {حسين}.(6) "
__________
(1) أبو سعيد عبد السلام بن حبيب التنوخي القيرواني المالكي ، برع في الفقه ، وتفقه به عدد كثير صاحب ورع وكرم ، تولى القضاء ، توفي القضاء ، توفي سنة 240هـ.
انظر : الديباج المذهب 2/30 ، وسير أعلام النبلاء 12/63 .
(2) الشفا 2/1108 ، وانظر : الشرح الصغير للدردير 6/160 ، والخرشي على مختصر خليل 7/74 ، وفتح العلي المالك لعليش 2/286 ، وبلغة السالك لأقرب المسالك 2/420 .
(3) هو أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المروروذي الشافعي شيخ الشافعية في زمانه ، كان غواصاً في دقائق الفقه ،له مؤلفات ، توفي سنة 462 .
انظر : طبقات الشافعية 4/356 ، شذرات الذهب 3/310 .
(4) يعني عثمان وعلياً رضي الله عنهما ، وفي الأصل المطبوع : الحسين ، والتصحيح من كتاب الإعلام لابن حجر ص 352 .
(5) فتاوى السبكي 2/577 ، وانظر فتح الباري 7/36 .
(6) نهاية المحتاج 7/426 ، وانظر قليوبي وعميرة 4/175 .(212/184)
ويقول ابن عابدين: - " نقل في البزازية عن الخلاصة أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر، وإن كان يفضل علياً عليهما فهو مبتدع.أ. هـ
على أن الحكم عليه بالكفر مشكل، لما في الاختيار: اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم، وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفراً، ولكن يضلل … الخ.
وذكر في فتح القدير أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة.
-إلى أن قال – فعلم أن ما ذكره في الخلاصة من أنه كافر قول ضعيف مخالف للمتون والشروح …(1) "
صـ420
ومما يستدل به القائلون بعدم كفر ساب الصحابة رضي الله عنهم بأن مطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر؛ لأن بعض من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما سب بعضهم بعضاً، ولم يكفر أحد بذلك (2).
والجواب عن استدلالهم أن يقال: إن سب الصحابة نوعان، أحدهما سب يقدح في دين الصحابة وعدالتهم، كأن يرمي صحابياً بالكفر مثلاً ممن تواترت النصوص بفضله، فهذا من الكفر، لما يتضمنه من تكذيب للآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة الدالة على تزكيتهم وفضلهم، ولأن هذا السب إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومن ظن أن مثل هذا السب لا يعد كفراً، فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع (3). والآخر أن يسب صحابياً – وإن كان ممن تواترت النصوص بفضله – سباً لا يقدح في إسلامه ودينه، مثل وصفه بالبخل، أو الجبن، أو قلة معرفة بالسياسة ونحو ذلك، فهذا لا يعتبر كفراً، ولكن يستحق فاعله التأديب والتعزير.(4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4/237 ، وانظر مجموعة رسائل ابن عابدين 1/342 – 345 .
(2) انظر : الصارم المسلول ص 579 .
(3) سيأتي إن شاء الله بيان أوجه كون سب الصحابة كفراً
(4) انظر : الصارم المسلول ص 571 ، 589 .(212/185)
وكذا لو سب صحابياً لم يتواتر النقل بفضله سباً يطعن في دينه، فلا يكفر بهذا السب، لعدم إنكاره معلوماً من الدين بالضرورة (1).
ولا شك أن ما قد وقع بين بعض الصحابة من سبا ليس من النوع الأول، ويشهد لذلك أن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه.(2)
فقد جاءت رواية توضح وتبين حقيقة هذا السب، فقد روى الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: - كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا
صـ421
بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: - دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده … الحديث (3) "
وبهذا التفصيل والتفريق بين نوعي السب يمكن اجتماع القولين، كما يحصل التوفيق بين الأقوال المختلفة، فمثلاً الرواية السابقة عن الإمام أحمد: ما أراه إلا على الإسلام يمكن أن نضمها إلى الرواية الأخرى عن الإمام أحمد حيث قال: - ما أراه على الإسلام (4)"
__________
(1) انظر : رسالة الرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب ص 18 ، 19 .
(2) سبق تخريجه ص 406 .
(3) مسند الإمام أحمد 3/266 وقال الهيثمي في المجمع (10/15) : - " ورجاله رجال الصحيح " وانظر البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف لابن حمزة الحسيني 3/304 ، 305 .
(4) انظر المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد ، للأحمدي 2/363 ، 364 .(212/186)
وقد قال القاضي أبو يعلى في الجمع بين تلك الروايتين المتعارضتين عن الإمام أحمد "يحتمل أن قوله " ما أراه على الإسلام " إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف، ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك، بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي، قال: ويحتمل قوله " ما أراه على الإسلام " على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الأمر بغير حق، ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم، نحو قوله " كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة …(1) "
ويقول ابن تيمية – في هذا الصدد -: - " وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم، مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم .(2) "
وكذا يمكن التوفيق بين الروايات المختلفة عن الإمام مالك، فالرواية السابقة عن مالك: من شتم الصحابة أدب، لا تعارض ما جاء في الرواية الأخرى عنه حيث قال: - " من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قتل،
صـ422
وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً.(3)
فهذه الرواية تبين ما أجمل في الرواية الأولى، فمن شتم الصحابة – ممن تواترت النصوص بفضلهم – شتماً يقدح في دينهم فهو كافر يجب قتله، ومن شتمهم بغير هذا فليس بكفر، ويتعين تعزيره وتأديبه.
وأيضاً فرواية مالك: - " من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: - من رماها فقد خالف القرآن.(4) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 571 .
(2) المرجع السابق ص 586 .
(3) الشفا 2/1108 .
(4) المرجع السابق 2/1109 .(212/187)
فمراده – والله أعلم – أن يسب الصديق رضي الله عنه سباً لا يقدح في دينه، وذلك لما ورد عنه رحمه الله من القول بالقتل فيمن شتم من هو دون الصديق – كما سبق ذكره –
يوضح ذلك ما قاله السبكي: - " فيتلخص أن سب أبي بكر رضي الله عنه على مذهب أبي حنيفة وأحد الوجهين عند الشافعية كفر، وأما مالك فالمشهور أنه أوجب الجلد، فيقتضي أنه ليس كفراً، ولم أر عنده خلاف ذلك، إلا في الخوارج فتخرج عنه أنه كفر، فتكون المسألة عنده على حالتين: إن اقتصر على السب من غير تكفير لم يكفر، وإن كفر كفر.(1)
ويقول أيضاً: - " القائل بأن الساب لا يكفر لم نتحقق منه أن يطرده فيمن يكفر أعلام الصحابة رضوان الله عليهم، فأحد الوجهين عندنا إنما اقتصرنا على مجرد السب دون التكفير، وكذلك أحمد إنما جبن عن قتل من لم يصدر منه إلا السب.(2) "
وإذا تقرر نوعا السب والطعن في حق الصحابة رضي الله عنهم، فإن من أنواع السب ما لا يمكن القطع بإلحاقه في أحد النوعين السابقين، بل يكون محل تردد، وهذا النوع هو ما قال عنه ابن تيمية:-
صـ423
" وأما من لعن وقبح مطلقاً، فهذا محل الخلاف فيهم، لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد.(3) "
(ك) من قذف إحدى أمهات المؤمنين، فإن كنت عائشة رضي الله عنها فهو كافر بالإجماع ومن قذف غيرها من أمهات المؤمنين فهو أيضاً كافر على أصح الأقوال.
وبيان ذلك أن قذف عائشة رضي الله عنها تكذيب ومعاندة للقرآن، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله تعالى.
قال تعالى: - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [ النور، آية 17].
__________
(1) فتاوى السبكي 2/590 .
(2) المرجع الساب نفس الجزء والصفحة .
(3) الصارم المسلول ص 586 ، وانظر فتاوى السبكي 2/579 .(212/188)
كما قال الإمام مالك: - من سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن.(1) "
قال ابن حزم معلقاً على مقالة مالك: - " قول مالك هاهنا صحيح، وهي ردة تامة، وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها.(2) "
وذكر ابن بطة عائشة رضي الله عنها، وأنها: " مبرأة طاهرة خيرة فاضلة وصاحبته في الجنة، وهي أم المؤمنين في الدنيا والآخرة، فمن شك في ذلك، أو طعن فيه، أو توقف عنه، فقد كذب بكتاب الله، وشك فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه من عند غير الله عز وجل، قال الله تعالى: - {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [النور آية 17]، فمن أنكر هذا فقد برىء من الإيمان.(3) "
إضافة إلى ذلك، فإن قذف عائشة رضي الله عنها يعد تنقصاً للرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء له، ولذا قال السبكي: - " وأما الوقيعة في عائشة رضي الله عنها والعياذ بالله فموجبة للقتل لأمرين:-
أحدهما: أن القرآن الكريم يشهد ببراءتها، فتكذيبه كفر، والوقيعة فيها تكذيب له.
صـ424
الثاني: أنها فراش النبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة فيها تنقيص له، وتنقيصه كفر. (4) "
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: - " من قذف عائشة بالفاحشة … فقد جاء بكذب ظاهر واكتسب الإثم، واستحق العذاب، وظن بالمؤمنين سوءاً وهو كاذب، وأتى بأمر ظنه هيناً وهو عند الله عظيم، واتهم أهل بيت النبوة بالسوء، ومن هذا الاتهام يلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم .(5) "
إضافة إلى ذلك، فقد أجمع العلماء على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فهو كافر.
__________
(1) انظر : الشفا 2/1109 .
(2) المحلى 13/504 .
(3) الإبانة الصغرى ص 270 .
(4) فتاوى السبكي 2/592 .
(5) الرد على الرافضة ص 24 = بتصرف يسير .(212/189)
يقول ابن تيمية رحمه الله: - " ذكر غير واحد من العلماء اتفاق الناس على أن من قذفها بما برأها الله تعالى منه فقد كفر؛ لأنه مكذب للقرآن.(1) "
ويقول ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور، آية 23]: -
" وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. (2) "
وأما من قذف سائر أمهات المؤمنين، فهل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين أصحهما أنه يكفر.
والقول الآخر أنه لا يكفر، وقالوا: إن القرآن قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها، فمن خالف ذلك وأنكره، فهو مكذب للقرآن، ومن ثم فهو كافر بالله تعالى، ولم يرد مثل هذا في بقية أمهات المؤمنين.
والجواب عن ذلك أن يقال: - المقذوفة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى إنما غضب لها؛ لأنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم،
صـ425
فهي وغيرها منهن سواء.(3) "
كما أن جميع أمهات المؤمنين فراش للنبي صلى الله عليه وسلم، والوقيعة في أعراضهن تنقص ومسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن سب المصطفى صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة بالإجماع (4).
وقد اختار القول الأول جمع من المحققين، كابن حزم (5)، والقاضي عياض (6)، وابن تيمية (7)، والسبكي (8) وغيرهم.
__________
(1) الرد على البكري ص 340 .
(2) تفسير ابن كثير 3/267 ، وقد حكى ابن كثير هذا الإجماع أيضاً في البداية 8/92 ، وانظر مجموعة رسائل ابن عابدين 1/345.
(3) انظر : البداية لابن كثير 8/92 .
(4) انظر فتاوى السبكي 2/592 ، وطرح التثريب للعراقي 8/69.
(5) انظر المحلى 13/504 .
(6) انظر الشفا 2/1113 .
(7) انظر الصارم المسلول ص 567 .
(8) انظر فتاوي السبكي 2/592 .(212/190)
ويقول ابن تيمية: - " والأصح أن من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها؛ لأن هذا منه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن.(1) "
ويدل على هذا قوله تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور، آية 23].
فهذه الآية الكريمة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة، في قول كثير من أهل العلم كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين.
وكذا روي عن أبي الجوزاء، والضحاك، والكلبي وغيرهم (2) "
يقول ابن تيمية عن هذه الآية: - لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فلعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: - ليس له توبة؛ لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاماً جديداً، وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به
صـ426
أذى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة.(3) "
ومما قاله أبو السعود في تفسير هذه الآية:-
" والمراد بها عائشة الصديقة رضي الله عنها، والجمع باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين، لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: - {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء، آية 105]، ونظائره، وقيل أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولاً أولياً.
__________
(1) الصارم المسلول ص 567 .
(2) انظر : تفسير الطبري 18/74 ، وابن كثير 3/268 ، والدر المنثور للسيوطي 6/164 .
(3) الصارم المسلول ص 47 .(212/191)
وأما ما قيل من أن المراد هي الصديقة، والجمع باعتبار استتباعها للمتصفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، فيأباه، أن العقوبات المترتبة على رمي هؤلاء عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين، ولا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، فيجب أن يكون المراد إياهن على أحد الوجهين، فإنهن قد خصصن من بين سائر المؤمنات، فجعل رميهن كفراً إبرازاً لكرامتهن على الله عز وجل، وحماية في صاحب الرسالة من أن يحوم حوله أحد بسوء.(1) "
3- ومن خلال عرض أنواع سب الصحابة التي تخرج عن الملة، فإنه يمكن أن نسوق جملة من الأوجه في كون هذا السب ناقضاً من نواقض الإيمان، على النحو التالي:-
أ- أن في سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيباً للقرآن الكريم، وإنكاراً لما تضمنته الآيات القرآنية من تزكيتهم والثناء الحسن عليهم.
ولذا يقول ابن تيمية: - " إن الله سبحانه رضي عنهم رضى مطلقاً بقوله تعالى:- {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [ التوبة، آية 100] فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، وقال تعالى: - {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح، آية 18]، والرضى من الله صفة قديمة (2)، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات
صـ427
الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً "
__________
(1) تفسير أبي السعود 4/104 ، 105 .
(2) الرضى من صفات الله تعالى الفعلية التي تتعلق بمشيئة واختاره .(212/192)
- إلى أن قال – فكل من أخبر الله عنه أنه رضي عنه فإنه من أهل الجنة، وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح، فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء عليه والمدح له، فلو علم أن يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك (1) "
ويقول ابن حجر الهيتمي: - " ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح، آية 18]، فصرح تعالى برضاه عن أولئك وهم ألف ونحو أربعمائة، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاة على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر، فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضي عنه، فعلم أن كلا من هذه الآية وما قبلها صريح في رد ما زعمه وافتراه أولئك الملحدون الجاحدون حتى للقرآن العزيز، إذ يلزم من الإيمان به الإيمان بما فيه، وقد علمت أن الذي فيه أنهم خير الأمم، وأنهم عدول خيار، وأن الله لا يخزيهم وأنه رضي عنهم، فمن لم يصدق بذلك منهم فهو مكذب لما في القرآن، ومن كذب بما فيه مما لا يحتمل التأويل كان كافراً جاحداً ملحداً مارقاً.(2) "
__________
(1) الصارم المسلول ص 572 ، 573 ، وانظر سير أعلام النبلاء للذهبي 5/117 .
(2) الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ص 316 .(212/193)
وقد استنبط بعض الأئمة من نصوص قرآنية كفر من سب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فقال الإمام مالك بن أنس: - " من تنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا قوله تعالى: - {مَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [حتى أتى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الآية " الحشر، آية 7- 10]، فمن تنقصهم أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له في الفيء حق.(1) "
صـ428
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (2):-
"لاحظ للرافضي في الفيء والغنيمة لقول الله حين ذكر آية الفيء في سورة الحشر، فقال {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ..} [الآية (3) "
" وقال أبو عروة – رجل من ولد الزبير: - كنا عند مالك، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء} [حتى بلغ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ} [الفتح، آية 29] فقال مالك: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية.(4) "
قال القرطبي – معلقاً على قول مالك -: -
__________
(1) الحلية لأبي نعيم 6/327 ، وانظر : السنة للخلال ص 493 ، وأصول اللالكائي 7/1268 .
(2) أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله ، إمام حافظ ، صاحب التصانيف ، ولي قضاء طرطوس ، وقدم بغداد ، ألف في غريب الحديث واللغة ، نصر السنة ورد على المبتدعة ، توفي بمكة سنة 124 هـ .
انظر : طبقات الحنابلة 1/259 ، وسير أعلام النبلاء 10/490 .
(3) السنة للخلال ص 498 .
(4) الحلية لأبي نعيم 6/327 .(212/194)
" لقد أحسن مالك في مقالته، وأصاب في تأويله، فمن تنقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته، فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين.(1) "
ولما ذكر أبو المعالي الآلوسي هذه الآية {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ …} قال: " قال العلماء هذه الآية ناصة على أن الرافضة كفرة؛ لأنهم يكرهونهم، بل يكفرونهم والعياذ بالله تعالى.(2) "
وننبه هاهنا إلى أن قول مالك رحمه الله: - من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته الآية، إنما يحمل على غيظ سببه ما كان عليه الصحابة من الإيمان والقوة والكثرة، قال تعالى: - {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح، آية 29].
فكثرهم الله تعالى وقواهم ليكونوا غيظاً للكافرين، فمن غاظه حال الصحابة رضي الله عنهم لإيمانهم فهو كافر، كمن سبهم طعناً في دينهم وعدالتهم، وأما إن وقع الغيض من غير هذه الجهة، فليس بكفر، فقد جرت حروب بين الصحابة، ووقع من بعضهم غيظ وبغض لبعض، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بكفر أو نفاق.
وتوضيحاً لذلك نورد ما قاله العيني، ونقله عن القرطبي (3)
__________
(1) تفسير القرطبي 16/96 ، 297 .
(2) السيوف المشرقة (مخطوط) ، ق 238 .
(3) أبو العباس أحمد بن عمرو بن إبراهيم القرطبي المالكي ، محدث ، فقيه ، رحل إلى المشرق ، له مؤلفات ، توفي بالإسكندرية سنة 656 هـ .
انظر : الديباج المذهب 1/240 ، وشذرات الذهب 5/273 .(212/195)
صاحب المفهم.. عند شرحه لحديث: - " آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار " " حيث يقول العيني:- " المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار، وبيان فضلهم لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك … فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق.
وقال القرطبي: - وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طارئ من حدث وقع لمخالفة غرض، أو لضرر ونحوه، لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام.(1) "
وبهذا ندرك خطأ ما قاله ابن حزم عند خطأ من حمل الآية: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ..} على ما استنبطه الإمام مالك (2)، فابن حزم لم يفرق بين الغيظ الذي يوجب خروجاً عن الملة، وبين الغيظ فيما دون ذلك.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: - " فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم، ومن اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى
صـ430
فيما أخبر من كمالهم وفضلهم ومكذبه كافر.(3) "
وإذا تقرر أن سب الصحابة رضي الله عنهم تكذيب للقرآن الكريم، فإن القول بكفر جمهور الصحابة رضي الله عنهم، أو فسقهم يؤول إلى الشك في القرآن الكريم، والطعن في ثبوته وحفظه؛ لأن الطعن في النقلة طعن في المنقول، ولذا فإن الرافضة لما كفروا جمهور الصحابة، اتبعوا ذلك بدعوى تحريف القرآن الكريم وتبديله.
(ب) أن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى، أو العبث في تلك النصوص الكثيرة التي تقرر الثناء الحسن على الصحابة، وتزكيهم.
ويبين ذلك الشيخ محمد العربي بن التباني المغربي حيث يقول:-
__________
(1) عمدة القارئ 1/173 = باختصار ، وانظر فتح الباري 1/63 .
(2) انظر : الفصل 3/294 .
(3) الرد على الرافضة ص 17 .(212/196)
" كيف يؤمن بنصوص القرآن من يكذب بوعده تعالى لهم بالحسنى، وبإعداده لهم المنازل الرفيعة في الجنة، وبرضاه عنهم، ورضاهم عنه بزعمه أنهم قد كفروا وارتدوا عن الإسلام، فعقيدة هذه الطائفة {أي الرافضة} في جل سادات هذه الأمة لا تخرج عن أمرين: - إما نسبة الجهل إليه تعالى، أو العبث في هذه النصوص التي أثنى بها على الصحابة رضوان الله عليهم وتقدس ربنا وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وكلاهما مصيبة كبرى، وذلك لأنه تعالى إن كان عالماً بأنهم سيكفرون فيكون وعده لهم بالحسنى ورضاه عنهم عبثاً، والعبث في حقه تعالى محال،{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان، آية 38]، وإن كان تعالى غير عالم بأنهم سيكفرون ومع ذلك أثنى عليهم ووعدهم بالحسنى فهو جهل، والجهل عليه تعالى محال، ولا خلاف بين كل من يؤمن بالقرآن وله عقل سليم أن نسبة الجهل أو العبث إليه تعالى كفر بواح.(1) "
(ج) من سب الصحابة رضي الله عنهم، ورماهم بالكفر أو الفسق، فقد تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم وآذاه؛ لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم، ومن المعلوم أن تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم كفر وخروج عن الملة.(2) "
صـ431
أخرج الخطيب البغدادي – بسنده – عن أبي زرعة (3)
__________
(1) إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة ص 75 = باختصار .
(2) انظر : أصول اللالكائي (حاشية المحقق) 7/1238 ، فتاوي السبكي 2/575 ، والرد على الرافضة لمحمد بن عبد الوهاب ص 8 ، وصحابة الرسول للكبيسي ص 337 .
(3) أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي ، الإمام الحافظ ، نشأ في الري ، له رحلات ، ومؤلفات جمة ، من أحفظ الناس للحديث ، وأعلمهم به وكان صاحب عبادة وزهد ، توفي سنة 264هـ .
انظر : طبقات الحنابلة 1/199 ، وسير أعلام النبلاء 13/65 .(212/197)
قال: - " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة.(1) "
ومن أشنع أنواع السب: أن يقذف إحدى أمهات المؤمنين، لما في الوقيعة في أعراضهن من التنقص والمسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - كما سبق ذكره ? -
ساق اللالكائي (2) بسنده أن الحسن بن زيد (3)، ولما ذكر رجل بحضرته عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فأمر بضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور، آية 26].
فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه.(4) "
صـ432
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص 63 ، 64 .
(2) أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري الرازي الشافعي ، إما حافظ له مصنفات ، نصر السنة ، توفي في الدينور سنة 418 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 17/419 ، شذرات الذهب 3/211 .
(3) الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل العلوي ، ظهر سنة 250 هـ ، وكثر جيشه ، واستولى على جرجان ، واستفحل أمره ، توفي سنة 270 هـ .
انظر : البداية والنهاية 11/6 ، وسير أعلام النبلاء 13/136 .
(4) انظر : أصول اللالكائي 7/1269 .(212/198)
وأخرج اللالكائي ? بسنده ? عن محمد بن زيد (1) أنه قدم عليه من العراق رجل ينوح بين يديه فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود، وضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا وممن يتولانا، فقال: - هذا سمى جدي قرنان (2) استحق عليه القتل فقتلته (3).
إضافة إلى ذلك فإن هذا السب يستلزم اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم ينجح في دعوته، ولم يحقق البلاغ المبين، وقد زعم من لا خلاق له من الدين والعلم، أن جمهور الصحابة رضي الله عنهم قد ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت على الإيمان إلا القليل، وقد يؤول هذا الأمر إلى اليأس من إصلاح البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
(د) أن سب الصحابة رضي الله عنهم، والطعن في دينهم، هو طعن في الدين، وإبطال للشريعة، وهدم لأصله، لعدم توافر النقل المأمون له.
وإليك هذه القصة التي تبين ذلك: -
قال عمر بن حبيب (4)
__________
(1) هو محمد بن زيد بن محمد العلوي ، تولى الحكم بعد وفاة أخيه الحسن بن زيد عام 270هـ ، كانت في أيامه حروب وفتن ، وكان شجاعاً ، أديباً ، حسن السيرة ، توفي مقتولاً بجرجان 287 هـ .
انظر : - الكامل لابن الأثير 7/504 ، والأعلام 6/132 .
(2) في الأصل : قرتان ، وقال المحقق : لم يتبين لي معناها (اللالكائي 7/1270) والصحيح ما أثبته كما نقله ابن تيمية في الصارم المسلول ص 67 ومعنى قرنان : - " هو الذي يشارك في امرأته كأن يقرن به غيره ، وهو نعت سوء في الرجل الذي لا غيرة له " لسان العرب13/338 .
(3) انظر أصول اللالكائي 7/1270 .
(4) عمر بن حبيب العدوي البصري ، ولي قضاء البصرة ، ومات بها سنة 207 هـ .
انظر : سير أعلام النبلاء 9/490 ، شذرات الذهب 2/17 .(212/199)
: - " حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة تنازعها الحضور، وعلت أصواتهم، فاحتج أحدهم بحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة
صـ433
والخصومة، حين قال قائلون منهم: - لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل، صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه بيده والسيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.(1) "
__________
(1) تهذيب الكمال 2/1004 ، 1005 .(212/200)
وقال ابن عقيل الحنبلي في هذا المقال: " الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف، وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم... فإذا قال قائل: - إنهم أول ما بدأوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة، وابنته في إرثها، وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفي.
فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم.
فإذا قالت الرافضة: إن القوم استحلوا هذا بعده، خابت آمالنا في الشرع؛ لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم. فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول، وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذوي العقول،
صـ434
ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه، فراعوه مدة الحياة، وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة، ولم يبقى على دينه إلا الأقل من أهله، فطاحت الاعتقادات، وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل، فهذا من أعظم المحن على الشريعة.(1) "
وقال الذهبي: - " فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وبيان فضائلهم ومناقبهم وحبهم...
إلى أن قال ? والطعن في الوسائط طعن الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق، ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته...(2) "
__________
(1) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 107 , 108 .
(2) الكبائر ص 285 .(212/201)
وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن القول بارتداد الصحابة عدا خمسة أو ستة نفر: - " هدم لأساس الدين؛ لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر، وقع الشك في القرآن والأحاديث... فهؤلاء أشد ضراراً على الدين من اليهود والنصارى، وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه، فإنها توجب إبطال الدين والشك فيه، وتجوز كتمان ما عورض به القرآن، وتجوز تغيير القرآن...(1) "
ويقول محمد صديق حسن خان (2): - " والعجب كل العجب من علماء الإسلام وسلاطين هذا الدين كيف تركوهم {أي الرافضة} على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ونهايته، فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة ومخالفتها، طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من
صـ435
طريقهم، واستذلوا أهل العقول الضعيفة والإدراكات الركيكة بهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة ورفع أحكامها عن العباد.(3) "
(هـ) إن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم تضليل الأمة المحمدية، ويتضمن أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.(4) "
كما أن سبهم إنكار لما قام الإجماع عليه، قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة للنصوص المتواترة من الكتاب والسنة في بيان علو مقامهم وعظيم شأنهم.(5) "
صـ436
__________
(1) الرد على الرافضة ص 13 = باختصار .
(2) محمد صديق بن حسن الحسيني البخاري القنوجي ، عالم ، أمير ، نشأ في الهند ، وشارك في أنواع من العلوم ، وله مؤلفات كثيرة ، توفي سنة 1307 هـ .
انظر : التاج المكلل ص 541 ، ومعجم المؤلفين 10/90 .
(3) الدين الخالص 3/404 .
(4) انظر الصارم المسلول ص 587 ، والأعلام لابن حجر الهيتمي ص 380 .
(5) انظر صحابة الرسول للكبيسي ص 337 .(212/202)
المبحث الثاني
الاستهزاء بالعلماء والصالحين
1- في مطلع هذا المبحث نشير إلى منزلة العلماء والصالحين، وواجبنا نحوهم فالعلماء لهم المنزلة اللائقة بهم، فقد رفعهم الله تعالى وميزهم عن غيرهم، فقال سبحانه: - {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة، آية 11] وقال تعالى: - {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر، آية 9] واستشهد سبحانه بأولي العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده، فقال تعالى: - {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران، آية 18].
وعن أبي الدرداء (1) رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ افر.(2) "
__________
(1) أبو الدرداء عويمر الخزرجي ، صحابي جليل ، شهد أحداً ، ولاه معاوية قضاء الشام في خلافة عمر ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مات سنة 32هـ .
انظر : الإصابة 4/747 ، وسير أعلام النبلاء 2/335 .
(2) أخرجه أحمد 2/407 وأبو داود ح (3641) والترمذي ح(2646) وابن ماجه ح (223) ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب للمنذري 1/33 .(212/203)
قال ابن القيم: - " قوله: - {إن العلماء ورثة الأنبياء} هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته، إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء، كانوا أحق الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم، فإن الميراث إنما يكون
صـ437
لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدرهم والدينار، فكذلك هو في ميراث النبوة، والله يختص برحمته من يشاء، وفيه أيضاً إرشاد وأمر للأمة بطاعتهم واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم وإجلالهم... وفيه تنبيه على أن محبتهم من الدين وبغضهم مناف للدين، كما هو ثابت موروثهم، وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كما هو في موروثهم، قال علي رضي الله عنه: - محبة العلماء دين يدان به.(1) "
ومما قاله ابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء و?-الذي سبق ذكره -: -
"وإنما يبغض المؤمن والعالم عصاة الثقلين؛ لأن معصيتهم لله اقتضت تقديم أهوائهم على محبة الله وطاعته، فكرهوا طاعة الله وأهل طاعته، ومن أحب الله وأحب طاعته، أحب أهل طاعته، وخصوصاً من دعا إلى طاعته وأمر الناس بها وأيضاً فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درت البركات، ونزلت الأرزاق، فيعيش أهل الأرض كلهم، حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركته...
وقد ظهر بهذا أن محبة العلماء العاملين من الدين، وفي الأثر المعروف:-
" كن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً لهم، ولا تكن الخامسة فتهلك.(2) "
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/66 = باختصار يسير .
(2) قال الهيثمي : - أخرجه الطبراني في الثلاثة والبزار ، ورجاله موثقون "
انظر : مجمع الزوائد (1/122) .(212/204)
قال بعض السلف: سبحان الله! لقد جعل الله لهم مخرجاً، يعني أنه لا يخرج عن هذه الأربعة الممدوحة إلا الخامس الهالك، وهو من ليس بعالم، ولا متعلم، ولا مستمع، ولا محب لأهل العلم وهو الهالك، فإن من أبغض أهل العلم، أحب هلاكهم، ومن أحب هلاكهم فقد أحب أن يطفأ نور الله في الأرض، ويظهر فيها المعاصي والفساد، فيخشى أن لا يرفع له مع ذلك عمل، كما قال سفيان الثوري وغيره من السلف.(1) "
صـ438
واحترام العلماء وتوقيرهم هو إجلال لله تعالى كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري (2) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط.(3) "
وعن عبادة بن الصامت (4)رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - " ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه (5) "
__________
(1) شرح حديث أبي الدرداء ص 30 – 32 = باختصار .
(2) هو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري ، صحابي جليل ، وكان من قراء الصحابة ، وولي الإمارة والقضاء في خلافة عمر ، وشارك في الفتوحات ، صاحب صيام وصلاة، توفي سنة 42 هـ .
انظر : الإصابة 4/211 ، وسير أعلام النبلاء 2/380 .
(3) أخرجه أبو داود ح (4843) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/44 .
(4) عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري ، صحابي جليل ، أحد النقباء يوم العقبة ، شهد المشاهد كلها بعد بدر ، وحضر الفتوحات ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ، تولى الإمارة والقضاء في الشام ، مات بالرملة سنة 34 هـ .
انظر : الإصابة 3/625 ، وسير أعلام النبلاء 2/5.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/122) ، وحسنه الألباني .
انظر : صحيح الجامع الصغير (5319) ، وصحيح الترغيب والترهيب 1/45 .(212/205)
وقال طاووس رحمه الله: - من السنة أن يوقر العالم (1)
وما أجمل ما كتبه الآجري في وصف العلماء حيث قال رحمه الله:-
" إن الله عز وجل وتقدست أسماؤه اختص من خلقه من أحب فهداهم للإيمان كما اختص من سائر المؤمنين من أحب، فتفضل عليهم، فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين، وعلمهم التأويل، وفضلهم على سائر المؤمنين، وذلك في كل زمان وأوان، رفعهم بالعلم وزينهم بالحلم، بهم يعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، فضلهم عظيم، وخطرهم (2) جزيل، ورثة الأنبياء،
صـ439
وقرة عين الأولياء حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكرون الغافل، ويعلمون الجاهل، ولا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف عنهم غائلة، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.(3) "
وأما الصالحون فهم أولياء الله تعالى من المقتصدين أصحاب اليمين والسابقين المقربين، قال الله تعالى في وصفهم وجزائهم: - {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62}الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ {63}لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس، آية 62، 64]
فهؤلاء الأولياء تجب محبتهم ومودتهم ونصرتهم كما قال تعال:- {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [المائدة، آية 55].
__________
(1) انظر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وفضله 1/129 .
(2) خطرهم : أي شرفهم وقدرهم ،
انظر : المصباح المنير ص 208 ومختار الصحاح ص 180 .
(3) أخلاق العلماء ص 81 – 83 = باختصار .(212/206)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى قال: - " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " (1)
يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث:- " قوله عز وجل " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب " يعني فقد أعلمته بأني محارب له، حيث كان محارباً لي بمعادة أوليائي... فأولياء الله تجب موالاتهم، وتحرم معاداتهم، كما أن أعداءه تجب معاداتهم، وتحرم موالاتهم، قال تعالى: - {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} [الممتحنة، آية 1] وقال:- {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة، آية 55، 56]، ووصف أحباءه الذين يحبهم
صـ440
ويحبونه بأنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين (2) "
وبهذا يعلم أن الواجب تجاه العلماء والصالحين هو محبتهم ومودتهم، وتوقيرهم وإجلالهم، كما جاءت به الشريعة، دون غلو وإفراط.
2- ولا شك أن الاستهزاء بالعلماء أو الصالحين يضاد محبتهم وإجلالهم، فالاستهزاء بهم يعني السخرية بهم والاستخفاف بهم.(3) "
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك الرقاق (11/340) . ح (6502)
(2) جامع العلوم والحكم 2/334 = باختصار .
(3) انظر : لسان العرب 1/183 ، والمصباح المنير ص 787 .(212/207)
قال الآلوسي: - " الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وذكر الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وبالإشارة والإيماء... وأصل هذه المادة الخفة، يقال: ناقة تهزأ به أي: تسرع وتخف.(1) "
إن الاستهزاء بأهل العلم والصلاح صفة من صفات الكافرين، وخصلة من خصال المنافقين، كما قرر ذلك القرآن في آيات كثيرة.
يقول الله تعالى: - {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة، آية 212].
وقال سبحانه: - {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ {103} تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ {104} أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ {105} قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ {106} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ {107} قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ {108} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ {110} إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون، آية 103، 111].
__________
(1) روح المعاني 1/158 = باختصار .(212/208)
وقال سبحانه:- {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30}وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31}وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ {32} وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين، آية 29- 33].
صـ441
وقال تعالى في شأن المنافقين: - {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ {14} اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة، آية 14،? 15].
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة، آية 79].
ولقد حرص أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وأذنابهم من منافقي هذا الزمان على تشويه سمعة العلماء، وزعزعة مكانتهم في نفوس الأمة المسلمة.
فمما جاء في البروتوكول السابع عشر من بروتوكولات اليهود:-
" وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين (غير اليهود) في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً.(1) "
__________
(1) بروتوكولات حكماء صهيون / ترجمة محمد خليفة التونسي ص 187 .(212/209)
وسعى هؤلاء في سبيل ذلك سعياً حثيثاً، فشنوا الحملات المسعورة، وأعدوا المخططات الرهيبة من أجل الكيد لهذا الدين والصد عنه، عن طريق الطعن في حملة الإسلام ودعاته وعلمائه، وقد آتت هذه المؤامرات ثمارها النكدة كما هو مشاهد في واقع الأمة، وتولت وسائل الإعلام في بلاد المسلمين وغيرها كبر هذه الهجمة الشرسة على علماء الأمة (1)، فظهر الاستهزاء بالعلماء والصالحين على وسائل الإعلام المختلفة، وتطاول الأقزام من أهل الشبهات والشهوات على مقامات أهل العلم والصلاح باسم حرية الرأي والفكر!، واستهزئ بأهل الصلاح والديانة تحت مظلة محاربة التطرف والتشدد!
وساعد على استفحال هذا المنكر أسباب كثيرة، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، نذكر أيضاً من تلك الأسباب:-
غلبة الجهل بدين الله تعالى بين المسلمين، سواء كان الجهل بحرمة المسلم وعظيم حقه ومنزلته، أو الجهل بحكم الاستهزاء بأهل العلم والصلاح. وسبب
صـ442
آخر وهو تنحية شرع الله تعالى في بلاد المسلمين... فلو أن حد الردة? مثلاً? أقيم على من يستحقه... فلن يتطاول سفيه على فتاوى أهل العلم، كما هو واقعنا الآن، ولن يسخر مريض قلب من استقامة أهل الديانة وطهرهم، والله حسبنا ونعم الوكيل.
إن الاستهزاء بالعلماء والصالحين على ضربين:-
__________
(1) انظر : - المشايخ والاستعمار لحسني عثمان ، والقول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين لعبد السلام آل عبد الكريم ، والاستهزاء بالدين وأهله لمحمد القحطاني .(212/210)
أحدهما:- الاستهزاء بأشخاصهم، كمن يستهزئ بأوصافهم الخلقية أو الخلقية، وهذا محرم لقوله تعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات، آية 11].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: - " ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال " الكبر بطر الحق وغمص الناس (1) " ويروى وغمط الناس.
والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى، وأجب إليه من الساخر منه المحتقر له... (2) "
والضرب الآخر: - الاستهزاء بالعلماء لكونهم علماء، ومن أجل ما هم عليه من العلم الشرعي، فهذا كفر؛ لأنه استهزاء بدين الله تعالى، وكذا الاستهزاء بأهل الصلاح من أجل استقامتهم على الديانة، واتباعهم للسنة، فالاستهزاء ? هاهنا ? متوجه إلى الدين والسنة.
ومن المناسب هاهنا أن نورد تعقيباً لابن حجر الهيتمي على ما قاله أحد علماء الأحناف ? عند ذكره لنواقض الإيمان ? فقال هذا الحنفي (3)
أو قال: إيش مجلس الوعظ، او العلم لا يثرد (4)، أو وعظ على سبيل
صـ443
__________
(1) أخرجه مسلم ك الإيمان (1/93) . ح (91)
(2) تفسير ابن كثير 4/213 .
(3) لم يذكر ابن حجر الهيتمي اسم هذا العالم .
(4) لا يثرد من قولهم " ثرد الخبز : أي فتنه ثم بله بمرق (انظر اللسان 3/102) ، وظاهر العبادة السابقة : العلم لا يثرد ... الاستهزاء بالعلم واحتقاره .(212/211)
الاستهزاء، أو ضحك على وعظ العلم، أو قال: إيش هذا القبيح الذي خففت شاربك، أو قال بئسما أخرجت السنة.(1) " أهـ كلامه
فعقب ابن حجر قائلاً:- " ما ذكره في إيش مجلس الوعظ.. الخ، إنما يتجه إن أراد الاستهزاء، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ والعلم.
وما ذكره في الوعظ استهزاء إنما يتجه إن أراد الاستهزاء بالواعظ وكذا بالوعظ من حيث هو وعظ، أما لو أراد الاستهزاء بالواعظ، أو بكلماته، لا من حيث كونه واعظاً فلا يتجه الكفر حينئذ، وكذا يقال في الضحك على الوعظ.(2) "
ولما كان الاستهزاء بالعلماء والصالحين محتملاً للضربين المذكورين آنفاً، صار محلاً للخلاف (3)، وبهذا التفريق بينهما يزول الإشكال، ويرتفع الخلاف.
3- وأما وجه كون هذا الاستهزاء يناقض الإيمان، فلما يلي:-
(أ) أن الله عز وجل جعل الاستهزاء بالمؤمنين استهزاء بالله تعالى وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم(4)، فقال تبارك وتعالى:-
{قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66].
فقد جاء في سبب نزول هذه الآيات عن عبد الله بن عمر (5) رضي الله عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً (6)
__________
(1) الإعلام لابن حجر ص 372 ، 373 .
(2) الإعلام لابن حجر ص 372 ، 373 .
(3) انظر روضة الطالبين للنووي 10/68 ، والإعلام لابن حجر ص 362 .
(4) انظر فتاوي اللجنة الدائمة 2/14، 15 .
(5) عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي ، صحابي جليل ، أسلم مع أبيه ، روى أحاديث كثيرة ، عرف بالزهد والورع ، وكثرة التعبد وتحري السنة ، مات سنة 73 هـ .
انظر : الإصابة 4/181 ، وسير أعلام النبلاء 3/203 .
(6) أي : أوسع بطوناً ،
انظر : الفائق في غريب الحديث للزمخشري 2/69 .(212/212)
، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس:
صـ444
كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقاً بحقب (1) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنكبه الحجارة، وهو يقول: - يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}(2) "
ونورد جملة من كلام أهل العلم في بيان ذلك: -
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله ? في هذا الشأن " وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو بعمل يعمل به... ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله.(3) "
وسئل الشيخ حمد بن عتيق- رحمه الله - عن معنى قول الفقهاء: من قال يا فقيه بالتصغير يكفر.. فكان من جوابه: - " اعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله، أو رسوله، أو كتابه فهو كافر، وكذا إذا أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء، واستدلوا بقوله تعالى: - {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66].
__________
(1) الحقب : حبل يشد به رحل البعير إلى بطنه .
انظر : المرجع السابق 1/300 .
(2) أخرجه الطبري في تفسيره 10/104 ، وانظر الصحيح المسند من أسباب النزول لمقبل الوادعي ص 77 .
(3) قرة عيون الموحدين ص 217 .(212/213)
وسبب النزول مشهور، وأما قول القائل: فقيه، أو عويلم، أو مطيويع ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه أو العلم أو الطاعة، فهذا كفر أيضاً ينقل عن الملة فيستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً.(1) "
صـ445
وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (2): - " قوله تعالى: - {أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ..} الآيات أي فليس لكم عذر؛ لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب، وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها إيماناً بالله ورسوله، وتعظيماً لآياته، وتصديقاً وتوقيراً، والخائض واللاعب منتقص لها، ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله.(3) "
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة ما يلي:-
" سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة، والاستهزاء بالمتمسك بها نظراً لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة، هذا كفر إذا صدر من مكلف، وينبغي أن يبين له أن هذا كفر، فإن أصر بعد العلم فهو كافر، قال الله تعالى: - {قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة، آية 65، 66](4) "
(ب) ذكر الله عز وجل أن الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين سبب في دخول نار جهنم، وعدم الخروج منها.
فعندما ينادي أهل النار قائلين:- {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون، آية 107].
__________
(1) الدرر السنية 8/242 = باختصار يسير .
(2) عبد الرحمن بن محمد قاسم العاصمي القحطاني ، من علماء نجد المعاصرين ، له مؤلفات كثيرة ، جمع فتاوى ابن تيمية ، ورتب فتاوى علماء نجد ، توفي عام 1392 هـ .
انظر : علماء نجد 2/414 .
(3) حاشية ابن قاسم على كتاب التوحيد ، ص 323 .
(4) فتاوى اللجنة الدائمة 1/256 ، 257 .(212/214)
يقول الله تعالى جواباً عنهم:- {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ {108} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون، آية 108،? 110].
وتوضيحاً لذلك نسوق أقوال بعض المفسرين لهذه الآيات
فمما قاله أبو السعود رحمه الله: - " وقوله تعالى: - {إنه} تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن {كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} [وهم المؤمنون.. {يقولون} في الدنيا {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ؛ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ، وتتشاغلون باستهزائهم " حتى أنسوكم " أي الاستهزاء بهم {ذكري} من فرط اشتغالكم باستهزائهم {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غاية الاستهزاء.(1)
ويقول الآلوسي: - قيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتكم؛ لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم.
وقيل: - خلاصة معنى الآية إنه كان فريق من عبادي يدعون، فتشاغلتم بهم ساخرين، واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم.
وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم، كما نبه عليه أولاً في قوله تعالى {مِّنْ عِبَادِي} وختمه بقوله تعالى {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ} إلى قوله تعالى: - {هُمُ الْفَائِزُونَ} (2)
__________
(1) تفسير أبي السعود 4/87 = باختصار يسير .
(2) روح المعاني 18/69 = باختصار يسير .(212/215)
ومما سطره الشنقيطي عند تفسيره لهذه الآيات: - {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ..} إلى قوله تعالى {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} حيث قال رحمه الله:-
" قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته، وقوله في هذه الآية {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي} الآيتين. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة على أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول: - {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار...
وحتى في قوله: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي..} حروف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم
صـ447
النار والعياذ بالله.(1) "
(ج) أن الاستهزاء بالعلماء والصالحين لأجل ما هم عليه من العلم الشرعي، واتباعهم للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، هو في حقيقته استهزاء بآيات الله تعالى، وسخرية بشرائع دين الله عز وجل، ولا شك أن هذا الاستهزاء كفر يناقض الإيمان، يقول الله تعالى: - {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية، آية 9]، ولم يجيء إعداد العذاب المهين إلا في حق الكفار.(2) "
يقول ابن حزم: - " صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر.(3) "
__________
(1) أضواء البيان 5/827 ، 828 = باختصار .
(2) انظر الصارم المسلول لابن تيمية ص 52 .
(3) الفصل 3/299 ، وانظر المحلى 13/00 5 – 502 .(212/216)
4- ونختم هذا المبحث بجملة من أقوال العلماء في تلك المسألة.
يقول القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى: - {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا..} الآية {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي اشتغلتم بالاستهزاء عند ذكري {وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} استهزاء بهم، وأضاف الإنساء إلى المؤمنين؛ لأنهم كانوا سبباً لاشتغالهم عن ذكره، وتعدى شؤم استهزائهم بالمؤمنين إلى استيلاء الكفر على قلوبهم..
ويستفيد من هذا: التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء، والمساكين، والاحتقار لهم، والإزراء عليهم والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل.(1) "
وجاء في الفتاوى البزازية: - " والاستخفاف بالعلماء لكونهم علماء استخفاف بالعلم، والعلم صفة الله تعالى منحه فضلاً على خيار عباده ليدلوا خلقه على شريعته نيابة عن رسله، فاستخفافه بهذا يعلم أنه إلى من يعود.(2) "
صـ448
وجاء أيضاً:- " رجل يجلس على مكان مرتفع أو لا يجلس عليه، لكن يسألونه عن مسائل بطريق الاستهزاء، ويضربونه بما شاؤا وهم يضحكون كفروا.(3) "
" ويقول ابن نجيم: - " ويكفر بجلوسه على مكان مرتفع والتشبه بالمذكرين ومعه جماعة يسألون من المسائل ويضحكون منه، ثم يضربونه بالمخراق (4)، وكذا يكفر الجميع لاستخفافهم بالشرع، وكذا لو لم يجلس على مكان مرتفع، ولكن يستهزئ بالمذكورين ويتمشى والقوم يضحكون، وبقوله لا تذهب وإن ذهبت تطلق امرأتك استهزاء بالعلم والعلماء جواباً لمن قال إلى مجلس العلم، جواباً أين تذهب.(5) "
ويقول أيضاً:- " ولو صغر الفقيه أو العلوي قاصداً الاستخفاف بالدين كفر، لا إن لم يقصده.(6) "
__________
(1) تفسير القرطبي 12/154 = باختصار .
(2) الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى العالمكيرية) 6/336 .
(3) المرجع السابق 6/337 .
(4) المخراق : - المنديل يلف ليضرب به
انظر : مختار الصحاح ص 173 .
(5) البحر الرايق 5/132 .
(6) المرجع السابق 5/134 .(212/217)
ويقول ? في كتاب آخر -: - " الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر.(1) "
ويقول ملا علي قاري: - " وفي الظهيرية من قال لفقيه أخذ شاربه: ما أشد قبحاً قص الشارب ولف طرف العمامة تحت الذقن يكفر؛ لأنه استخفاف بالعلماء يعني وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهم السلام؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم السلام، وقص الشارب من سنن الأنبياء عليهم السلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء.
وفي الخلاصة من قال: قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافاً يعني بالعالم أو بعلمه فذلك كفر.
ونقل عن الأستاذ نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبه بالمعلم على وجه السخرية، وأخذ الخشبة، وضرب الصبيان كفر، يعني لأن معلم القرآن من جملة علماء الشريعة فلاستهزاء به وبمعلمه يكون كفراً.
ص449
وفي المحيط ذكر أن فقيهاً وضع كتابه في دكان وذهب، ثم مر على ذلك الدكان، فقال صاحب الدكان: ههنا نسيت المنشار، فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار، فقال صاحب الدكان: النجار بالمنشار يقطع الخشب، وأنتم تقطعون به حلق الناس، أو قال حق الناس، فشكى الفقيه إلى الإمام الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل، فأمر بقتل ذلك الرجل؛ لأنه كفر باستخفاف كتب الفقه.
وفي التتمة: من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بد منها كفر، ومن ضحك من المتيمم كفر. (2) "
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن بعض الناس يسخرون بالملتزمين بدين الله ويستهزئون بهم فما حكم هؤلاء؟
__________
(1) الأشباه والنظائر ص 191.
(2) شرح الفقه الأكبر ص 260 – 262 = باختصار ، وانظر تهذيب ألفاظ الكفر لمحمد اسماعيل الرشيد ص 26(212/218)
فأجاب: - " هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق، فإن الله قال عن المنافقين: - {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ التوبة، آية 79].
ثم إن كانوا يستهزئون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع، فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة، والاستهزاء بالشريعة كفر، أما إذا كانوا يستهزئون بهم يعنون أشخاصهم، وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفرون بذلك؛ لأن الإنسان قد يستهزىء بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله لكنهم على خطر عظيم. (1)
__________
(1) المجموع الثمين 1/65 ، وانظر الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للدوسري ص 63 ، والمنافقون في القرآن لعبدالعزيز الحميدي ص 384 .
* الترك يعد فعلاً وعملاً ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ، قال تعالى : " " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الأثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " " المائدة ، آية 63 فسمى الله عز وجل عدم نهي الربانيين والأحبار لهم صنيعاً ، والصنع فعل . وقال تعالى : " " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " " فسمى عدم تناهيهم عن المنكر فعلاً . وقال صلى الله عليه وسلم : " عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها ، فوجدت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق ، ووجدت في مساويء أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن " أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب النهي عن البصاق في المسجد ، في الصلاة وغيرها 1/390 ، رقم الحديث (553) .
انظر تفصيل هذه المسألة : - روضة الناظر لابن قدامة ص 54 ، والموافقات للشاطبي 4/58، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 42، والقواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص 62، وشرح الروضة للشنقيطي ص 38، وأفعال الرسول لمحمد الأشقر 2/47-50.(212/219)
"
ص450
الفصل الثاني
النواقض العملية
المبحث الأول " ترك الصلاة*
1 - في مستهل هذا المبحث نشير بإيجاز إلى أهمية شأن الصلاة، وعظيم منزلتها، وخصائصها، ولقد كفانا الإمام محمد بن نصر المروزي مؤنة الحديث عن منزلة الصلاة، حيث ألف رحمه الله كتاباً مستقلاً بعنوان "تعظيم قدر الصلاة" (1)، ولذا سنورد جملة من كلامه في هذا المقام.
يقول الإمام محمد بن نصر: - " ومما دل الله تعالى به على تعظيم قدر الصلاة ومباينتها لسائر الأعمال؛ إيجابه إياها على أنبيائه، ورسله، وإخباره عن تعظيمهم إياها، فمن ذلك أنه جل وعز قرب موسى نجياً، وكلمه تكليماً، فكان أول ما افترض عليه بعد افتراضه عبادته إقام الصلاة، ولم ينص له فريضة غيرها، فقال، تبارك وتعالى مخاطباً لموسى بكلماته ليس بينه وبينه ترجمان: - {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {13} إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه، آية 13]. فدل
ص451
ذلك على عظم قدر الصلاة، وفضلها على سائر الأعمال، إذ لم يبدأ مناجيه وكليمه بفريضة أول منها. (2) "
ويقول أيضاً:- " ومدح الله عباده المؤمنين، فبدأ بذكر الصلاة قبل كل عمل، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1}الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون، آية 1 , 2] فمدحهم في أول نعتهم بالخشوع فيها، ثم أعاد ذكرها في آخر القصة إعظاماً لقدرها، في القربة إليه، ولما أعد للقائمين بها، المحافظين عليها من جزيل الثواب، ونعيم المآب فقال: - {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون آية 9 – 11].
__________
(1) طبع هذا الكتاب سنة 1406 هـ في مجلدين ، بتحقيق الدكتور عبدالرحمن الفريوائي
(2) تعظيم قدر الصلاة 1/96(212/220)
ولم نجد الله عز وجل مدح أحداً من من المؤمين بمواظبته على شيء من الأعمال مدح من واظب على الصلوات في أوقاتها، ألا تراه كيف ذكرها مبتدأة من بين سائر الأعمال،
قال تعالى: - {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج، آية 19-21] ثم لم يبرئ أحداً من هذين الخلقين المذمومين من جميع الناس قبل المصلين، فقال: - {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج، آية 22، 23].
ثم أعاد ذكرهم في آخر الآية، بذكر آخر فقال: - {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {34} أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج، آية 34، 35].
وقال {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [فاطر، آية 29]، في كل ذلك يبدأ بمدح الصلاة قبل سائر الأعمال، تبعها ما تبعها من سائر الطاعات، فكرر الثناء عليهم، ومدحهم بالمحافظة عليها، ليدوموا عليها، كل ذلك تأكيداً لها وتعظيماً لشأنهما (1) "
ويقول أيضاً: - " إن الصلاة لم تزل مفتاح شرائع دين الإسلام وعقده لا تزول عنه أبداً، ولم تزل مقرونة بالإيمان في دين الملائكة والأنبياء والخلق أجمعين، لم يكن لله عز وجل دين بغيرها قط، وسائر الفرائض ليس كذلك.
-إلى أن قال – فهي أشهر معالم التوحيد مناراً بين ملة الإسلام، وملة الكفر، لن يستحق دين الإسلام ومشاركة أهل الملة، ومباينة ملة الكفر إلا بإقامتها، فإن تركتها العامة انطمس منار الدين كله، فلا يبقى للدين رسم، ولا علم يعرف به.(2) "
__________
(1) المرجع السابق 1/135 , 136 .
(2) المرجع السابق 2/1002 ، 1003 .(212/221)
ومما دونه ابن القيم في هذا الصدد:- " إن الصلاة قد اختصت من سائر الأعمال بخصائص ليست لغيرها، فهي أول ما فرض الله من الإسلام، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم نوابه ورسله أن يبدؤوا بالدعوة إليها بعد الشهادتين فقال لمعاذ: " ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة (1) "، ولأنها أول ما يحاسب عليها العبد من عمله، ولأن الله فرضها في السماء ليلة المعراج، ولأنها أكثر الفروض ذكراً في القرآن، ولأن أهل النار لما يسألون: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر، آية 42]لم يبدؤوا بشيء غير ترك الصلاة، ولأن فرضها لا يسقط عن العبد بحال دون حال ما دام عقله معه بخلاف سائر الفروض، فإنها تجب في حال دون حال، ولأنها عمود فسطاط الإسلام، وإذا سقط عمود الفسطاط وقع الفسطاط، ولأنها آخر ما يفقد من الدين، ولأنها فرض على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والحاضر والمسافر، والصحيح والمريض، والغني والفقير...(2)"
2- وإذا انتقلنا إلى مسألة ترك الصلاة، فينبغي أن يعلم أن هذا الترك له ضروب متعددة، فمنه ما هو كفر، ومنه ما ليس بكفر، ومنه ما هو مختلف فيه فمن ترك الصلاة نسياناً فلا يكفر بإجماع الأمة (3)، وأما الترك الذي يعد كفراً، فمنه ما يلي:-
(أ) من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، وكذا إن جحد
صـ453
وجوبها ولم يترك فعلها.(4)
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك الزكاة (3/357) ، ح (1496) ومسلم ، ك الإيمان (1/50) ، ح (19) .
(2) كتاب الصلاة ص 31 , 32 ، وانظر رسالة الصلاة للإمام أحمد بن حنبل ص 14 – 22 ، ومجموع الفتاوي لابن تيمية 3/427.
(3) انظر معالم السنن للخطابي 7/45 ، والمجموع للنووي 3/16 .
(4) انظر مقدمات ابن رشد ص 100 ، والمجموع للنووي 3/16 ، والمغني لابن قدامة 3/351 ، ومجموع فتاوي ابن تيمية 20/96 ، 22/40 .(212/222)
(ب) من ترك الصلاة استكباراً أو حسداً... فهذا كافر بالاتفاق.
وقد بين ابن تيمية هذه الحالة بياناً كافياً فقال:-
" أن لا يجحد وجوبها، لكنه ممتنع من التزام فعلها كبراً، أو حسداً، أو بغضاً لله ولرسوله، فيقول أعلم أن الله أوجبها على المسلمين، والرسول صادق في تبليغ القرآن، لكنه ممتنع عن التزام الفعل استكباراً، أو حسداً للرسول، أو عصبية لدينه، أو بغضاً لما جاء به الرسول، فهذا كافر بالاتفاق، فإن إبليس لما ترك السجود المأمور به لم يكن جاحداً للإيمان، فإن الله تعالى باشره بالخطاب، وإنما أبى واستكبر وكان من الكافرين، وكذلك أبو طالب كان مصدقاً للرسول فيما بلغه، لكنه ترك اتباعه حمية لدينه، وخوفاً من عار الانقياد، واستكباراً عن أن تعلو أسته رأسه، فهذا ينبغي أن يتفطن له. ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها فيكون الجحد عنده متناولاً للتكذيب بالإيجاب، ومتناولاً للامتناع عن الإقرار والالتزام، كما قال تعالى:- {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام، آية 63]، وقال تعالى: - {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل، آية 14]. وإلا فمتى لم يقر ويلتزم فعلها قتل وكفر بالاتفاق.(1) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 20/97 ، 98 ، وانظر : الصارم المسلول ص 521 ، 522 .(212/223)
(ج) من ترك الصلاة استخفافاً واستهانة بها فهو كافر، " فقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الرجل يدع الصلاة استخفافاً ومجوناً، فقال: سبحان الله إذا تركها استخفافاً ومجوناً فأي شيء بقي، فقيل له: إنه يسكر ويمجن، قال: هذا تريد تسأل عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: - " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة (1) " قلت: - ترى أن تستيبه، فأعدت عليه، فقال: إذا تركها استخفافاً ومجوناً فأي شيء بقي.(2) "
صـ454
وقال الإمام أحمد في رسالة الصلاة:- " فكل مستخف بالصلاة مستهين بها هو مستخف بالإسلام مستهين به، وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة.(3) "
(د) من ترك الصلاة وأصر على تركها حتى يقتل فهو كافر اتفاقاً، فإن من امتنع من الصلاة حتى يقتل، لم يكن في الباطل مقراً بوجوبها، ولا ملتزماً بفعلها.
وقد فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة، فدعي إليها وامتنع واستتيب مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قتل هل يموت كافراً أو فاسقاً؟ على قولين.
فهذا فرض باطل، فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل معتقداً لفرضية الصلاة وعقوبة تاركها، ومع ذلك يصبر على القتل ولا يسجد لله سجدة.(4)
يقول ابن تيمية – عن هذه المسألة وأشباهها:-
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد ، جمع عبد الإله الأحمدي 2/37 .
(3) ص 15 ، 16 .
(4) انظر مجموع فتاوي ابن تيمية 7/219 ، 22/48 ، 35/106 .(212/224)
" وهي فروع فاسدة، فإن كان مقراً بالصلاة في الباطن، معتقداً لوجوبها، يمتنع أن يصر على تركها حتى يقتل، وهو لا يصلي، هذا لا يعرف من بني آدم وعادتهم، ولهذا لم يقع هذا قط في الإسلام، ولا يعرف أن أحداً يعتقد وجوبها، ويقال له إن لم تصل وإلا قتلناك، وهو يصر على تركها، مع إقراره بالوجوب، فهذا لم يقع قط في الإسلام.(1) "
وتحدث ابن تيمية – في موضع آخر – عن هذه المسألة المفترضة، وبيان صلتها بالإرجاء فقال: - " لا يتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه، مقراً بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزماً لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع، حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمناً في الباطن قط، ولا يكون إلا كافراً، ولو قال أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها، كان هذا القول مع هذه الحال كذباً منه...
فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن، زالت عنه الشبهة من هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن
صـ455
الفعل لا يقتل، أو يقتل مع إسلامه، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية، والتي دخلت على من جعل الإدارة الجازمة مع القدرة التامة لا يكون بها شيء من الفعل، ولهذا كان الممتنعون من قتل هذا من الفقهاء بنوه على قولهم في " مسألة الإيمان "، وأن الأعمال ليست من الإيمان.(2) "
__________
(1) مجموع الفتاوى 22/48 .
(2) مجموع الفتاوى 7/615 = باختصار .(212/225)
ويستنكر ابن القيم عدم تكفير من تلبس بهذه الحالة، فيقول:-" ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها، ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: - تصلي، وإلا قتلناك، فيقول: - اقتلوني، ولا أصلي أبداً، ومن لا يكفر تارك الصلاة، يقول: هذا مؤمن مسلم يغسل، ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، أفلا يستحي من هذا قوله من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة.(1) "
(هـ) من ترك الصلاة معرضاً عنها، لا مقراً بوجوبها، ولا منكراً فهو كافر، كما بين ذلك ابن تيمية بقوله:-
" أن يتركها {أي الصلاة} ولا يقر بوجوبها، ولا يجحد وجوبها، لكنه مقر بالإسلام من حيث الجملة، فهل هذا من موارد النزاع، أو من موارد الإجماع؟ ولعل كلام كثير من السلف متناول لهذا، وهو المعرض عنها لا مقراً ولا منكراً، وإنما هو متكلم بالإسلام فهذا فيه نظر، فإن قلنا: يكفر بالاتفاق، فيكون اعتقاد وجوب هذه الواجبات على التعيين من الإيمان لا يكفي فيها الاعتقاد العام، كما في الخبريات من أحوال الجنة والنار، والفرق بينهما أن الأفعال المأمور بها، المطلوب فيها الفعل لا يكفي فيها الاعتقاد العام، بل لابد من اعتقاد خاص بخلاف الأمور الخبرية، فإن الإيمان المجمل بما جاء به الرسول من صفات الرب وأمر المعاد يكفي فيه مالم ينقض الجملة بالتفصيل... بخلاف الشرائع المأمور بها فإنه لا يكتفي فيها بالجمل، بل لابد من تفصيلها علماً وعملاً.(2) "
صـ456
3 - أما من تعمد ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً، وهل هو كافر أو مسلم؟ ففيه قولان، وهذه المسألة محل خلاف طويل بين أهل العلم، وسنورد أقوالهم وأدلتهم ومناقشتها على النحو التالي:-
__________
(1) كتاب الصلاة ص 62 ، 63 .
(2) مجموع الفتاوى 20/98 , 99 .(212/226)
القول الأول:- قال بتكفير تارك الصلاة جمع من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وكثير من أئمة العلم وأهله.
يقول محمد بن نصر المروزي عن هذا القول: - " وهذا مذهب جمهور أصحاب الحديث.(1)
ويقول ابن حزم: - " فروينا عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ومعاذ بن جبل وابن مسعود وجماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – وعن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية رحمة الله عليهم، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة، والتابعين ضي الله عنهم، أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها، فإنه كافر ومرتد، وبهذا يقول عبد الله بن الماحشون صاحب مالك، وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره.(2) "
وقال ابن قدامة: - واختلفت الرواية هل يقتل لكفره أو حداً؟ فروي أنه يقتل لكفره كالمرتد، فلا يغسل ولا يكفن ولا يدفن بين المسلمين، ولا يرثه أحد، ولا يرث أحداً، اختارها أبو إسحاق بن شاقلا، وابن حامد، وهو مذهب الحسن، والنخعي، والشعبي، وأيوب السختياني، والأوزاعي، وابن المبارك، وحماد بن زيد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن...(3) "
وقال النووي: - " من تركها بلا عذر تكاسلاً وتهاوناً فيأثم بلا شك، ويجب قتله إذا أصر، وهل يكفر؟ فيه وجهان، حكاهما المصنف {الشيرازي} وغيره، أحدهما يكفر، قال العبدري: وهو قول منصور الفقيه من أصحابنا وحكاه
صـ457
المصنف في كتابه في الخلاف عن أبي الطيب بن سلمة من أصحابنا.(4) "
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 2/ 636 .
(2) الفصل 3/274 ، وانظر المحلى 2/326 ، 327 ، والشريعة للآجري ص 133 – 135 وأصول اللالكائي 2/816 – 829 ، والإبانة الكبرى لابن بطة 2/669 – 683 ، والتمهيد لابن عبد البر 4/225 .
(3) المغني 3/354 ، وانظر الإنصاف للمرداوي 1/404 ، 405 .
(4) المجموع 3/17 .(212/227)
وقال ابن تيمية: - " وإن كان التارك للصلاة واحداً فقد قيل إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي، وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب، فإن تاب وصلى، وإلا قتل، وهل يقتل كافراً أو مسلماً فاسقاً؟ فيه قولان، وأكثر السلف على أنه يقتل كافراً، وهذا كله مع الإقرار بوجوبها.(1)
وأما القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة فكثير من الفقهاء.
قال ابن قدامة: - " والرواية الثانية: يقتل حداً، مع الحكم بإسلامه، كالزاني المحصن، وهذا اختيار أبي عبد الله ابن بطة، وأنكر قول من قال إنه يكفر... وهذا قول أكثر الفقهاء، وقول أبي حنيفة ومالك، والشافعي.(2) "
وقال النووي – عن هذا القول -: - " وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور.(3) "
(أ) أدلة الفريق الأول:-
استدل القائلون بتكفير تارك الصلاة بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب:-
1. فقوله تعالى: - {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ {35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {36} أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ {37} إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ {38}أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [– إلى قوله – {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم، آية 35 – 43].
صـ458
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/308 ، وانظر 28/359 ، 360 ، 7/303 ، 611 ، 20/97 – وكتاب الصلاة لابن القيم ص 33 ، وجامع العلوم والحكم لابن رجب 1/147 .
(2) المغني 3/355 ، وانظر الإنصاف للمرداوي 1/404 ، 405 .
(3) المجموع 3/17 ، وانظر طرح التثريب شرح التقريب للعراقي 2/147 ، ومقدمات ابن رشد ص 101 ، والتمهيد لابن عبد البر 4/230 .(212/228)
يقول ابن تيمية: - " إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار، كقوله {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {42} خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} (1) "
ويقول ابن القيم: - " فوجه الدلالة من الآية: - أنه سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين، وأن هذا الأمر لا يليق بحكمته، ولا بحكمه، ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين، فقال: - " يوم يكشف عن ساق " وأنهم يدعون إلى السجود لربهم – تبارك وتعالى – فيحال بينهم وبينه، فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا، وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي البقر (2)، ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين.(3) "
2 - قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ {38}إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ {39}فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ {40}عَنِ الْمُجْرِمِينَ {41}مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42}قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ {43}وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ {44} وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ {45} وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ {46}حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر، آية 38 – 47]
يقول محمد بن نصر المروزي: - أولا تراه أبان أن أهل المعاد إلى الجنة المصلين، وأن المستوجبين للإياس من الجنة المستحقين للتخليد في النار من لم يكن من أهل الصلاة بإخباره تعالى عن المخلدين في النار حين سئلوا {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ {42}قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر، آية 42].(4)
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/611 .
(2) صياصي البقر : أي قرونها . انظر اللسان 7/52 ، ومفردات الأصفهاني ص 429 .
(3) كتاب الصلاة ص 37 ، 38 .
(4) تعظيم قدر الصلاة 2/1007 .(212/229)
وقال ابن القيم: - " قد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين، وتارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر، وقد قال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ {47}يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر، آية 47 , 48]
وقال تعالى: - {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}
صـ459
[المطففين، آية 29]، فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين.(1) "
3- قوله تعالى:- {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم، آية 59].
ومعنى أضاعوا الصلاة أي تركوها، كما اختاره ابن جرير وغيره (2)، وأما المقصود بغي، فقد ساق الإمام محمد بن نصر بسنده عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن صخرة زنة عشر عشروات (3) قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم تنتهي إلى غي وأثام،
فقلت: وما غي وأثام؟ قال: - بئران في أسفل جهنم، يسيل فيها صديد أهل جهنم.(4) "
__________
(1) كتاب الصلاة 38 .
(2) انظر تفسير ابن جرير 16/66 ، وابن كثير 3/125 ، وفتح القدير للشوكاني 3/339 .
(3) عشروات : - جمع عشراء : وهي الناقة التي أتى عليها من وقت الحمل عشرة أشهر . (انظر اللسان 4/572 ، ومختار الصحاح ص 434) .
(4) تعظيم قدر الصلاة 1/119 ، 120 ، وأخرجه الطبري (16/75) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/389) : " وفيه ضعفاء قد وثقهم ابن حبان وقال يخطئون " وقال المنذري في الترغيب (4/231) : - " رواه الطبراني والبيهقي مرفوعاً ، ورواه غيرهما موقوفاً عن أبي أمامة وهو أصح . " وقال محقق كتاب تعظيم قدر الصلاة – الفريوائي – (1/121) وله شاهد من حديث أبي هريرة ، وبريدة ، وأبي موسى ، وأنس ، وخلاصته أن الحديث صحيح لشواهده . "
وانظر " الصحيحة للألباني (1612) .(212/230)
يقول ابن القيم: - " فوجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه جعل هذا المكان من النار لمن أضاع الصلاة، واتبع الشهوات، ولو كان مع عصاة المسلمين، لكانوا في الطبقة العليا من طبقات النار، ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو في أسفلها، فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام، بل من أمكنه الكفار، ومن الآية دليل آخر وهو قوله تعالى: - {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا {59} إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} فلو كان مضيع الصلاة مؤمناً، لم يشترط في توبته الإيمان، وأنه يكون تحصيلاً للحاصل.(1)"
صـ460
4- قوله عز وجل: - {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة، آية 11].
فمفهوم هذه الآية أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من إخوان المؤمنين، ومن انتفت عنهم أخوة المؤمنين، فهم من الكافرين؛ لأن الله تعالى يقول: - {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات، آية 10]، فالأخوة الدينية لا تنتفي بالمعاصي وإن عظمت، ولكن تنتفي بالخروج عن الإسلام.(2)
5- قوله سبحانه وتعالى: - {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى {31} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة، آية
31, 32].
يقول محمد بن نصر المروزي: - " فالكذب ضد التصديق، والتولي ترك الصلاة وغيرها من الفرائض، ثم أوعده وعيداً بعد وعيد فقال: - {أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى} [القيامة 34، 35].(3) "
__________
(1) كتاب الصلاة ص 41 .
(2) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/613 ، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 41 ، 42 ، وأضواء البيان للشنقيطي 4/311 ، ورسالة الطهارة والصلاة لابن عثيميين ص 58 .
(3) تعظيم قدر الصلاة 1/129 .(212/231)
ويقول ابن القيم – عن هذه الآيات -: - " فلما كان الإسلام تصديق الخبر، والانقياد للأمر، جعل سبحانه له ضدين: عدم التصديق، وعدم الصلاة، وقابل التصديق بالتكذيب، والصلاة بالتولي فقال: - "} وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فكما أن المكذب كافر، فالمتولي عن الصلاة كافر، فكما يزول الإسلام بالتكذيب يزول بالتولي عن الصلاة.(1) "
6.قوله تبارك وتعالى: - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون، آية 9].
قال عطاء بن أبي رباح: - " هي الصلاة المكتوبة.(2) "
يقول ابن القيم: - " ووجه الاستدلال بالآية أن الله حكم بالخسران المطلق لمن ألها ماله وولده عن الصلاة، والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار، فإن
صـ461
المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه، فآخر أمره إلى الربح، يوضحه أنه سبحانه وتعالى – أكد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد:
الأول: إتيانه به بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه دون الفعل الدال على التجدد والحدوث.
الثاني: - تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم فإنك إذا قلت: زيد العالم الصالح، أفاد ذلك إثبات كمال ذلك، بخلاف قولك عالم صالح.
الثالث: - إتيانه – سبحانه – بالمبتدأ والخبر معرفتين،وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ كما في قوله تعالى: - {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة، آية 5]، وقوله تعالى - {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة، آية 254].
__________
(1) كتاب الصلاة ص 42 ، وانظر فتاوى ابن تيمية 7/612 ، 613 .
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/7 = 76) ، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/129) ، وانظر الدر المنثور للسيوطي (8/180).(212/232)
الرابع: - إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر، وهو يفيد مع الفصل فائدتين أخريين: قوة الإسناد، واختصاص المسند إليه بالمسند، كقوله تعالى:-
{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج، آية 64] وقوله: - {وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [ المائدة، آية 76]. (1) "
7. قوله تعالى: - {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ {46}وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ {47}وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ {48} وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات، آية 46 – 49].
يقول ابن القيم: - " توعدهم على ترك الركوع، وهو الصلاة إذا دعوا إليها، ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب، فإنه سبحانه وتعالى إنما أخبرهم عن تركهم لها، وعليه وقع الوعيد.
على أنا نقول: لا يصر على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله سبحانه أمر بها أصلاً، فإنه يستحيل – في العادة والطبيعة – أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب، وهو مع ذلك مصر على تركها، هذا من المستحيل قطعاً، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها، فحيث لم يكن في قلبه ما يأمره بها، فليس في قلبه شيء من الإيمان.
صـ462
__________
(1) كتاب الصلاة ص 42 ، 43 .(212/233)
ولا تصغ إلى كلام من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها، وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد، والجنة والنار، وأن الله فرض عليه الصلاة، وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها، وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته، وعدم الموانع المانعة له من الفعل،و هذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق، وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم، وهذا من أمحل المحال أن يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة، ولا ترك معصية.(1) "
8- قوله تعالى: - {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم، آية 31].
فبين عز وجل أن علامة أن يكون من المشركين ترك إقامة الصلاة.(2) "
وأما أدلتهم من السنة فنوردها كما يأتي:-
1- ساق الإمام مسلم (3) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.(4) "
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحد بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، فمن أدى الصلاة فهو مسلم، ومن تركها فهو كافر.
يقول البيهقي (5): - " ليس من العبادات بعد الإيمان الرافع للكفر عبادة سماها الله
صـ463
__________
(1) المرجع السابق ، ص 43 ، 44 .
(2) انظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/1005 ، 1006 ، وفتح الباري 2/7 .
(3) أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، الإمام ، الحافظ ، صاحب " الصحيح " ، كان من أوعية العلم ، له مصنفات ، توفي بنيسابور سنة 261 هـ .
انظر سير أعلام النبلاء 12/557 ، طبقات الحنابلة 1/337 .
(4) سبق تخريجه .
(5) أبو بكر أحمد بن الحسين الخراساني ، الحافظ الفقيه ، صاحب المصنفات الكثيرة ، كان متقناً لعلوم جمة ، وزاهداً ورعاً ، مات سنة 458 هـ .
انظر طبقات الشافعية 4/8 ، وسير أعلام النبلاء 18/163 .(212/234)
عز وجل إيماناً، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تركها كفراً إلا الصلاة.(1) "
وقد جاء الكفر – في هذا الحديث – معرفاً، فدل على التخصيص والعهد، وكما قال ابن تيمية:-
" ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً، حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: - " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة " وبين كفر منكر في الإثبات.(2) "
ويقول الشوكاني: - - في بيان حكم تارك الصلاة – والحق أنه كافر يقتل، أما كفره فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل وبين جواز إطلاق هذا الإسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق.(3) "
ويقول الشنقيطي عن هذا الحديث: - " وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر؛ لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافراً.(4) "
2- وعن بريدة بن الحصيب (5)رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر "(6) "
صـ464
__________
(1) شعب الإيمان للبيهقي 3/33 .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم 1/208
(3) نيل الأوطار 2/13 .
(4) أضواء البيان 4/311 .
(5) بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي ، صحابي جليل ، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة ، وغزا خراسان في زمن عثمان ، ومات في مرو سنة 63 هـ .
انظر : الإصابة 1/286 ، وسير أعلام النبلاء 2/469.
(6) أخرجه أحمد 5/346 ، والترمذي في الإيمان ح (2621) وقال " هذا حديث حسن صحيح غريب " ، والنسائي في الصلاة (1/187) ، وأخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/6) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/226) . وانظر : تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/877 – 880) .(212/235)
يقول العراقي في شرح هذا الحديث: - " الضمير في قوله " وبينهم " يعود على الكفار أو المنافقين، معناه بين المسلمين والكافرين والمنافقين ترك الصلاة... والمراد أنهم ما داموا يصلون فالعهد الذي بينهم وبين المسلمين من حقن الدم باق...(1) "
ومما قاله المباركفوري (2) في شرح هذا الحديث: - " والمعنى أن العمدة في إجراء أحكام الإسلام عليهم تشبههم بالمسلمين في حضور صلاتهم، ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة، فإذا تركوا ذلك كانوا هم والكفار سواء.(3) "
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة حداً يميز المسلمين عن غيرهم من الكفار، ويشهد لهذا ما جاء في الحديث الآخر عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعاً قال: - " بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك (4) "
3- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: - " من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها، لم تكن له نوراً، ولا برهاناً، ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف (5) "
صـ465
__________
(1) طرح التثريب شرح التقريب 2/145 .
(2) محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري ، من علماء الحديث في بلاد الهند ، قرأ في العلوم المختلفة ، وله مؤلفات ، توفي سنة 1353 هـ .
…انظر : معجم المؤلفين 5/166.
(3) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 7/369 .
(4) أخرجه اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (4/822) وقال : إسناده صحيح على شرط مسلم ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/227) ، وانظر : تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/879 ، 880 ) .
(5) أخرجه أحمد (2/169) وابن حبان ح (1448) ، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/292) إلى الطبراني في الكبير والأوسط ، وقال : - " رجال أحمد ثقات .(212/236)
قال ابن القيم: - " وإنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر لأنهم من رؤوس الكفرة، وفيه نكتة بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة... إما أن يشغله ماله، أو ملكه، أو رئاسته، أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رئاسة وزارة فهو مه هامان، ومن شغله عنها تجارته مع أبي بن خلف.(1) "
وقال الشنقيطي: " وهذا الحديث أوضح دلالة على كفر تارك الصلاة؛ لأن انتفاء النور والبرهان والنجاة، والكينونة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف يوم القيامة أوضح دليل على الكفر كما ترى.(2)"
4 - وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بسبع: - لا تشرك بالله شيئاً، وإن قطعت أو حرقت، ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً، فمن تركها عمداً فقد برئت منه الذمة (3) "
يقول ابن القيم: - " ولو كان باقياً على إسلامه، لكانت له ذمة الإسلام.(4) "
5- وجاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه الطويل، قوله صلى الله عليه وسلم: - " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد.(5) "
__________
(1) كتاب الصلاة ص 46 ، 47
(2) أضواء البيان 4/313 .
(3) أخرجه ابن ماجه في الأشربة ، ح (4034) ، واللالكائي 2/823 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/885 – 891 ، وقال البوصيري : " إسناده حسن ، وشهر بن حوشب [أحد رجال هذا الحديث] مختلف فيه " ، وصححه الألباني لشواهده في صحيح الترغيب والترهيب 1/227 – 229 .
(4) كتاب الصلاة ص 487 .
(5) أخرجه أحمد (5/231) ، والترمذي ح (2616) وقال " حسن صحيح " ، وابن ماجه ح (3973) وصححه ابن القيم في كتاب الصلاة (ص47) ، وصححه الألباني في تخريجه لكتاب الإيمان لابن أبي شيبة (1) ، وصحيح الجامع الصغير (5012) .(212/237)
يقول الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله -: - "ألست تعلم أن الفسطاط (1) إذا سقط عموده، سقط الفسطاط، ولم تنتفع بالطنب ولا بالأوتاد، وإذا قام عمود
صـ466
الفسطاط انتفعت بالطنب والأوتاد؟(2) "
6- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا.(3) "
فهذا دليل على أن من لم يصل صلاتنا، ويستقبل قبلتنا فليس بمسلم.(4)
وقال ابن القيم – عن هذا الحديث -: -
" ووجه الدلالة فيه من وجهين:-
أحدهما: أنه إنما جعله مسلماً بهذه الثلاثة، فلا يكون مسلماً بدونها.
الثاني:- أنه إذا صلى إلى الشرق، لم يكن مسلماً حتى يصلي إلى قبلة المسلمين، فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية.(5) "
7- وعن محجن الديلي (6) رضي الله عنه: أنه كان في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى، ثم رجع ومحجن في مجلسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ قال بلى يا رسول الله، ولكني قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جئت فصل مع الناس، وإن كنت قد صليت.(7)
__________
(1) الفسطاط : بيت الشعر (المصباح المنير ص 567) .
(2) رسالة الصلاة ص 16 ، وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 48 ، وجامع العلوم والحكم 1/146 ، 2/146 .
(3) أخرجه البخاري ، ك الصلاة (1/496) ح (391) .
(4) انظر التمهيد لابن عبد البر 4/1228 .
(5) كتاب الصلاة ص 48 ، 49 .
(6) محجن بن أبي محجن الديلي ، صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعد من أهل المدينة
انظر : الإصابة 5/779 .
(7) أخرجه مالك في الموطأ (1/132) ، وأحمد (4/34) ، والنسائي (2/87) والحاكم (1/244)، وصححه الألباني في الجامع الصغير ح (480) .(212/238)
يقول ابن عبد البر: - " في هذا الحديث وجوه من الفقه: أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم لمحجن الديلي: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ وفي هذا – والله أعلم – دليل على أن من لا يصلي ليس بمسلم، وإن كان
ص467
موحداً، وهذا موضع اختلاف بين أهل العلم، وتقرير هذا الخطاب في هذا الحديث: أن أحداً لا يكون مسلماً إلا أن يصلي، فمن لم يصل فليس بمسلم (1) "
ويقول ابن القيم: - " فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة، وأنت تجد تحت ألفاظ الحديث أنك لو كنت مسلماً لصليت، وهذا كما تقول: مالك لا تتكلم ألست بناطق؟ ومالك؛ لا تتحرك ألست بحي؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة، لما قال لمن رآه لا يصلي: ألست برجل مسلم. (2) "
8 - وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء. (3) "
وفي رواية المسلم (4): " قالوا: - كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم (5) بهم (6) ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: - فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض "
يقول ابن تيمية: - فدل ذلك على أن من لم يكن غراً محجلاً، لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من أمته. (7) "
__________
(1) التمهيد 4/224
(2) كتاب الصلاة ص 50
(3) أخرجه البخاري ، ك الوضوء (1/235) . ح (136) ، ومسلم ، ك الطهارة (1/216) ح (246) .
(4) ك الطهارة (1/218) ح (249)
(5) دهم : جمع أدهم وهو الأسود
(6) بهم : قيل السود ، وقيل : الذي لا يخالط لونه لوناً سواه ، بل يكون خالصاً .
(7) مجموع الفتاوى 7/612(212/239)
9 - وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث على بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ (1) لم تحصل من
ص468
ترابها (2) وقال فقسمها بين أربعة نفر بين عينية بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: - ألا تأمونني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً، قال فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة (3)، كث اللحية محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، فقال: " ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله " قال ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: - يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: - لا لعله أن يكون يصلي (4) "
وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: - " إني نهيت عن قتل المصلين (5) "
__________
(1) في أديم مقروظ : أي في جلد مدبوغ بالقرظ ، والقرظ حب معروف يخرج في غلف كالعدس من شجر العضاء ، (عن تعليق محمد فؤاد عبدالباقي على صحيح مسلم 2/742)
(2) لم تحصل من ترابها : أي لم تميز ولم تصف من تراب معدنها . (المصدر السابق)
(3) ناشر الجبهة : أي مرتفعها (المصدر السابق)
(4) أخرجه البخاري ، ك المغازي (8/67) ، ح (4351) ومسلم ، ك الزكاة (2/742) ، ح (1064) .
(5) أخرجه أبو داود ك الأدب ، ح (4928) ، والدار قطني 2/54 ، 55 ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/918 ، وصححه الألباني في الجامع الصغير 1/332 رقم (2502) .(212/240)
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الصلاة مانعاً من قتل من همّ الصحابة بقتلهم لما رأوا فيهم من احتمال كفرهم، ولو لم يكونوا مقيمين للصلاة لم يمنع الصحابة من ذلك، كما هو ظاهر الحديثين، ولكان قتلهم إياهم لأجل أنهم كفار ليس لدمائهم عصمة، ولا يقال هنا أن تارك الصلاة يقتل حداً لا كفراً، بدلالة هذين الحديثين السابقين، فإنهما لا يدلان على ذلك، وإنما يدلان على خلافه، والذي يبين ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: - " لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. (1) "
ص469
وليس تارك الصلاة من أصحاب الحدود من المسلمين، بل لا يكون ذلك إلا في الزاني المحصن وليس قاتل نفس، فلم يبق إلا أن يكون إباحة دم تارك الصلاة من أجل ردته. (2)
10 - عن عوف بن مالك (3) رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويعلنونكم، قيل: - يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة … (4) "
وعن أم سلمة (5)
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك الديات (12/201) ح (6878) ، ومسلم . ك القسامة ، (3/1302) ، ح (1676) .
(2) انظر ضوابط التكفير لعبدالله القرني ص 206، 207
(3) عوف بن مالك الأشجعي ، صحابي جليل ، أسلم عام خيبر ، وشهد الفتح ، ونزل حمص ، مات سنة 73هـ .
…انظر : الإصابة 4/743، وسير أعلام النبلاء 2/487.
(4) أخرجه مسلم ك الإمارة (3/1481) ح (1855) ، وأحمد (6/24 ، 28)
(5) أم سلمه هند بنت أبي أمية المخزومية ، أم المؤمنين ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، من المهاجرات الأول ، ولها أولاد صحابيون ، توفيت سنة 68 هـ .
…انظر : سير أعلام النبلاء 2/201، الإصابة 8/221.(212/241)
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: - " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: - لا، ما صلوا (1) "
و" ما " في قوله " ما صلوا " مصدرية ظرفية، أي لا تقاتلوهم مدة كونهم يصلون، ويفهم منه أنهم إن لم يصلوا قوتلوا. (2)
وجاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: - " دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن
ص470
تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. (3) "
فدل مجموع هذه الأحاديث أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان؛ لأنه إذا لم يجز الخروج على الأئمة إلا إذا كفروا كفراً بواحاً، ثم جاز الخروج عليهم إذا تركوا الصلاة، دل ذلك على أن ترك الصلاة من ذاك الكفر.(4) "
11- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
" إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار.(5) "
__________
(1) أخرجه مسلم ، ك الإمارة (3/148) ح (1854) ، والترمذي ، ك الفتن ، ح (2265)
(2) انظر أضواء البيان للشنقيطي 4/315
(3) أخرجه البخاري ك (الفتن (13/5) ح (7055، 7056) ، ومسلم ك الإمارة (3/1470) ح (1709) .
(4) انظر أضواء البيان للشنقيطي 4/311، 315 ، وضوابط التكفير للقرني ص 208 .
(5) أخرجه مسلم ، ك الإيمان (1/87) ح (81) ، وأحمد 2/443 .(212/242)
" قال إسحاق [بن راهويه] : واجتمع أهل العلم على أن إبليس إنما ترك السجود لآدم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان في نفسه خيراً من آدم عليه السلام، فاستكبر عن السجود لآدم فقال - {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف، آية 12].
فالنار أقوى من الطين، فلم يشك إبليس في أن الله قد أمره، ولا جحد السجود، فصار كافراً بتركه أمر الله تعالى، واستنكافه أن يذل لآدم بالسجود له، ولم يكن تركه استنكافاً عن الله تعالى، ولا جحوداً منه لأمره، فاقتاس قوم ترك الصلاة على هذا.
قالوا: تارك السجود لله تعالى، وقد افترضه عليه عمداً، وإن كان مقراً بوجوبه، أعظم معصية من إبليس في تركه السجود لآدم؛ لأن الله افترض الصلوات على عباده، اختصها لنفسه، فأمرهم بالخضوع لهم بها دون خلقه، فتارك الصلاة أعظم معصية، واستهانة من إبليس حين ترك السجود لآدم عليه السلام، فكما وقعت استهانة إبليس، وتكبره عن السجود لآدم موقع الحجة، فصار بذلك كافراً، فكذلك تارك الصلاة، عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.(1)
صـ471
وأما دلالة الإجماع على كفر تارك الصلاة، فإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فعن سليمان بن يسار قال: أن المسور بن مخرمة أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ طعن، دخل عليه هو وابن عباس رضي الله عنهم، فلما أصبح من غد، فزعوه، فقالوا: الصلاة، ففزع، فقال: نعم، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى والجرح يثعب دماً.(2) "
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة 2/934 .
(2) أخرجه مالك في الموطأ (1/40) ، والآجري في الشريعة (ص134) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/892 – 896) ، واللالكائي (2/825) ، وصححه الألباني في تحقيقه وتخريجه لكتاب الإيمان لابن أبي شيبة رقم (103) .(212/243)
يقول ابن القيم: - " فقال هذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه.(1)"
وقال محمد بن نصر المروزي: - " ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتل من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك.(2) "
وعن عبد الله بن شقيق العقيلي (3) قال: - " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.(4) "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: - " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه غير الصلاة.(5)
صـ472
قال الشوكاني معلقاً على أثر عبد الله بن شقيق " والظاهر من الصيغة أن هذه المقالة اجتمع عليها الصحابة؛ لأن قوله: " كان أصحاب رسول الله، جمع مضاف، وهو من المشعرات بذلك.(6) "
__________
(1) كتاب الصلاة ص 50 . ويقول الشيخ ابن عثيمين في رسالته عن الطهارة والصلاة (ص59) : " والحظ النصيب وهو هنا نكرة في سياق النفي ، فيكون عاماً لا نصيب لا قليل ولا كثير . "
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/925 .
(3) أبو عبد الرحمن عبد الله بن شقيق العقيلي ، تابعي جليل من أهل البصرة ، وثقه جمع من المحدثين ، وكان رجلاً صالحاً مجاب الدعوة ، مات سنة 108 هـ .
انظر : تهذيب التهذيب 5/253 ، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/81 .
(4) أخرجه الترمذي ، ك : الإيمان ح (3622) ، وأخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (2/905) ، وقال النووي في المجموع (3/19) : "إسناده صحيح " ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/227) رقم (564)
(5) أخرجه الحاكم (1/7) وقال الذهبي : - إسناده صالح " ، وانظر أصول اللالكائي 4/829 .
(6) نيل الأوطار 2/16 .(212/244)
" وقال إسحاق بن راهوية: - قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة عمداً كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.(1) "
(ب) أدلة الفريق الآخر:-
واستدل القائلون بعدم تكفير تارك الصلاة بجملة من الأدلة، نذكرها على النحو التالي:-
1- قوله تعالى: - {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء، آية 48].
2- وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " خمس صلوات افترضهن الله، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه.(2) "
وفي رواية: " فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن.. الحديث (3) "
وهذا الدليل أجود ما اعتمدوا – كما يقول ابن تيمية (4)-
صـ473
__________
(1) تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر 2/930 ، وانظر التمهيد لابن عبد البر 4/226 .
(2) ،4 أخرجه أحمد 5/319 ، ومالك في الموطأ ، صلاة الليل ، باب الأمر بالوتر (1/123) وأخرجه أبو داود ، ك الصلاة ، الوتر ح (325) وأخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/951 – 956) ، وصححه النووي في المجموع (3/20) ، وقال العراقي في طرح التثريب (2/148) " إسناده " صحيح ، وصححه الألباني في الجامع الصغير، ح (3238) .
(4) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/614 .(212/245)
قال الطحاوي: - " دل أنه لم يخرج بذلك عن الإسلام فيجعله مرتداً مشركاً؛ لأن الله تعالى لا يدخل الجنة من أشرك به لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} [المائدة، آية 73]، ولا يغفر له لقوله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء، آية 48].(1) "
وقال ابن عبد البر عن هذا الحديث: - " وفيه دليل على أن من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله، إذا كان موحداً مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مقراً، وإن لم يعمل.(2) "
وقال الزرقاني (3): " وفيه – يعني حديث عبادة المذكور – أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يتمتم عذابه، بل هو تحت المشيئة بنص الحديث.(4) "، ولو كان كافراً لم يدخله تحت المشيئة (5).
3- وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعاً:- يدرس الإسلام كما يدرس وشي (6) الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
قال صلة بن زفر لحذيفة: - ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفه، ثم ردها عليه ثلاثاً،
صـ474
__________
(1) مشكل الآثار 4/226 .
(2) التمهيد 23/290 .
(3) أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي ، محدث ، فقيه ، أصولي عاش في القاهرة ، له مؤلفات ، توفي بالقاهرة سنة 1122هـ .
انظر / معجم المؤلفين 10/124 .
(4) شرح الموطأ 1/255 .
(5) انظر المغني لابن قدامة 3/357 ، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 7/614 ، وأضواء البيان للشنقيطي 4/318 .
(6) كما يدرس وشي .. : - أي كما يمحي ويزول نقش الثوب
انظر : المصباح المنير ص 228 ، 826 .(212/246)
كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار ثلاثاً.(1) "
4- وعن أبي ذر الغفاري (2) رضي الله عنه قال: - قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي من صلاة العشاء، فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون فلما رأى قيامهم وتخلفهم، انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه، فصلى فجئت خلفه، فأومأ إلي بيمينه، فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود، فقام خلفي وخلفه، فأومأ إليه بشماله، فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل رجل منا بنفسه، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو، فقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة، فبعد أن أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة، فقال ابن مسعود: - لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ، فقلت بأبي أنت وأمي، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن، لو فعل هذا بعضنا وجدنا عليه (3)، قال دعوت لأمتي، قال: فماذا أجبت؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة … الحديث (4) "
__________
(1) أخرجه ابن ماجه ح (4049) وقال البوصيري : - إسناده صحيح ، والحاكم 4/473 وصححه ووافقه الذهبي ، وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (13/16) : سنده قوي " وصححه الألباني في " الصحيحة " (87) .
(2) هو جندب بن جنادة الغفاري ، صحابي جليل ، كان زاهداً ، صادق اللهجة ، من السابقين الأوائل إلى الإسلام ، توفي بالربذة سنة 31 هـ .
انظر : الإصابة 7/125 ، وسير أعلام النبلاء 2/46 .
(3) وجدنا عليه : - أي غضبنا عليه ،
انظر : المصباح المنير ص 803 .
(4) أخرجه أحمد (5/170) ، وأخرج بعضه النسائي ، ك الافتتاح ، باب ترديد آية (2/138) . وابن ماجة ، ح(1350) ، وقال الهيثمي في المجمع (2/273) : - " رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات "(212/247)
5- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- " الدواوين عند الله ثلاث: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله عز وجل: - {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} [المائدة، آية 73].
صـ475
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه، أو صلاة تركها، فإن الله – عز وجل – يغفر ذلك، ويتجاوز عنه إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً، فظلم العباد بعضهم بعضاً القصاص لا محالة.(1) "
6- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضي بين الناس في الدماء (2) "
وجاء من حديث أبي هريرة قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - " إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه، ثم ترفع سائر الأعمال على ذلك.(3) "
__________
(1) أخرجه أحمد (6/240) ، والحاكم (4/575) وقال : صحيح الإسناد .
(2) أخرجه النسائي ، ك تحريم الدم (7/77) ، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/209) ، وصححه الألباني في " الصحيحة " (1748) .
(3) أخرجه أحمد 2/290 ، وابن ماجة ، ك : إقامة الصلاة ، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة (1/458) ، وأخرجه البغوي في شرح السنة (4/159) (رقم 1019) وقال " حديث حسن " ، وصححه الألباني في " الصحيحة " (1358) .(212/248)
يقول الشوكاني: - أثناء شرحه لهذا الحديث – " والحديث يدل على أن ما لحق الفرائض من النقص كملته النوافل، وأورده المنصف [المجد ابن تيمية] في حجج من قال بعدم الكفر؛ لأن نقصان الفرائض أعم من أن يكون نقصاً في الذات، وهو ترك بعضها، أو في الصفة وهو عدم استيفاء أذكارها، أو أركانها وجبرانها بالنوافل، شعر بأنها مقبولة مثاب عليها، والكفر ينافي ذلك.(1) "
ويقول الشنقيطي: - " وجه الاستدلال بالحديث المذكور على عدم كفر تارك الصلاة أن نقصان الصلوات المكتوبة وإتمامها من النوافل يتناول بعمومه ترك بعضها عمداً، كما يقتضيه ظاهر عموم اللفظ كما ترى. (2) "
صـ476
7- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! إنه سيكون بعدي أمراء، يميتون الصلاة (3)، فصل الصلاة لوقتها، فإن صليت لوقتها كانت لك نافلة، وإلا كنت قد أحرزت صلاتك (4) (5) " فهذا دليل على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها غير كافر.
__________
(1) نيل الأوطار 2/18 , 19 .
(2) أضواء البيان 4/319 .
(3) يميتون الصلاة : - أي يؤخرونها فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه )تعليق محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم 1/448) .
(4) أحرزت صلاتك : أي حصلتها وصنتها لها (المرجع السابق) .
(5) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار ( 1/448 رقم _648) ، والترمذي الصلاة ح (1760) ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة ، باب ذكر الأخبار التي احتجت به هذه الطائفة التي لم تكفر بترك الصلاة 2/939 – 951 .(212/249)
8- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسئل ويدعو حتى صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق، قال: علام جلدتموني؟ إنك صليت صلاة واحدة بغير طهور، ومررت، على مظلوم فلن تنصره.(1) "
قال الطحاوي: " في هذا الحديث ما قد دل أن تارك الصلاة لم يكن بذلك كافراً؛ لأنه لو كان كافراً، لكان دعاؤه باطلاً، لقوله تعالى: {وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر، آية 50](2) "
9- وعن أبي شميلة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء فاستقبله رهط من الأنصار يحملون جنازة على باب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: مملوك لآل فلان كان من أمره، قال: أكان يشهد أن لا إله إلا الله؟ قالوا نعم ولكن كان وكان، فقال: أما كان يصلي فقالوا: كان يصلي ويدع: فقال لهم:
صـ477
ارجعوا به فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه وادفنوه، والذي نفسي بيده لقد كادت الملائكة تحول بيني وبينه.(3) "
10- وعن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " إن للإسلام صوى (4)
__________
(1) أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار 4/231 ، وقال المنذري في الترغيب (3/190) : - " رواه أبو الشيخ بن حبان في كتاب التوبيخ . " وانظر التمهيد لابن عبد البر 23/299 .
(2) مشكل الآثار 4/231 .
(3) أخرجه الخلال في جامعه ، كما قاله ابن قدامة في المغني 3/357 .
(4) الصوى جمع صوة وهي أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي يستدل بها على الطريق .
انظر : لسان العرب 14/472 مادة " صوو" .(212/250)
، ومناراً كمنار الطريق، منها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئاً، فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن كلهن فقد ولى الإسلام ظهره.(1) "
11- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا، فوالذي نفسي بيده ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار.
قال: يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، ويجاهدون معنا فأدخلتهم النار.
قال: فيقول اذهبوا، فأخرجوا من عرفتم منهم. فيأتونهم، فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم … فيخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون ربنا قد أخرجنا من أمرتنا.
قال: ثم يعودون فيتكلمون، فيقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا. ثم يقول: ارجعوا فمن كان في قلبه وزن نصف دينار، فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة، فيخرجون خلقاً كثيراً.
صـ478
قال: فيقولون: ربنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير، قال ثم يقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفع المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين. قال: فيقبض قبضة من النار – أو قال قبضتين – ناساً لم يعملوا لله خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً.
__________
(1) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الإيمان (3) ، وأخرجه الحاكم (1/27) وقال : هذا حديث صحيح عل (شرط البخاري ، وصححه الألباني في " الصحيحة " (333) .(212/251)
قال: فيؤتى بهم إلى ماء ما يقال له: الحياة، فيصب عليهم … - إلى أن قال صلى الله عليه وسلم -: فيقال لهم: ادخلوا الجنة … الحديث (1) "
قال الشيخ ناصر الدين الألباني عن هذا الحديث: - " فالحديث دليل قاطع على أن تارك الصلاة إذا مات مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، أنه لا يخلد في النار مع المشركين، ففيه دليل قوي جداً أنه داخل تحت مشيئة الله تعالى في قوله: - {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء، آية 48] (2) "
12- واحتجوا بجملة من عمومات الأحاديث: - كقوله صلى الله عليه وسلم: - " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.(3) "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.(4) "
وما جاء في معناهما …(5)
صـ479
__________
(1) أخرجه أحمد ( 3/94) ، والنسائي (998) ، ابن ماجة ح (60) ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة ح (276) . وقال الألباني : " إسناده صحيح على شرط الشيخين ، وللحديث متابعات كثيرة .
انظر رسالة حكم تارك الصلاة للألباني ص 30 – 32 ، والشفاعة للوادعي ص 130 – 158 .
(2) حكم تارك الصلاة للألباني ص 35 .
(3) أخرجه البخاري ، ك أحاديث الأنبياء (6/474) ح (3435) ومسلم ، ك الإيمان (1/57) ح (28) .
(4) أخرجه البخاري ، ك العلم (10/93) ، ح (99) .
(5) انظر : التمهيد لابن عبد البر 23/296 – 299 ، والمغني لابن قدامة 3/356 ، والمجموع للنووي 3/20 ، وطرح التثريب للعراقي 2/148 ، ونيل الأوطار للشوكاني 2/19 .(212/252)
13- واحتجوا بالإجماع قائلين:- " لا نعلم في عصر من الأعصار أحدا من تاركي الصلاة ترك تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه، ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فرق بين زوجين لترك صلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة، ولو كان كافراً لثبتت هذه الأحكام كلها، ولا نعلم بين المسلمين خلافاً في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام.(1) "
وأجاب هذا الفريق عن أدلة مكفري تارك الصلاة بأجوبة منها:-
1- قالوا: تحمل أحاديث تكفير تارك الصلاة على كفر النعمة، كقوله صلى الله عليه وسلم: - " من تعلم الرمي، ثم تركه، فهي نعمة كفرها (2) "
وقوله: -: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (3)
وقوله: - " من حلف بغير الله فقد كفر " (4)
وبعضهم يقول – كالشوكاني – إن كفر تارك الصلاة إنما هو كفر دون كفر، فلا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة واستحقاق الشفاعة.(5) "
2- إن الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة كحديث جابر وبريدة رضي الله عنهما إنما هي على سبيل التغليظ والزجر الشديد لا على الحقيقة، فظاهرها غير مراد (6)
ص480
__________
(1) المغنى 3/357 , 358 ، وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/956 ، والمجموع للنووي 3/20 .
(2) أخرجه أبو داود ح ( 2513) ، والنسائي (6/185) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (18 , 6) .
(3) تقدم تخريجه .
(4) أخرجه الترمذي وحسنه ح (1535) ، وأبو داود ح (3251) ، والحاكم (1/18 ، 4/297) وصححه ووافقه الذهبي .
(5) انظر هذا الجواب : مشكل الآثار للطحاوي 4/227 ، وكتاب الصلاة لابن القيم ص 51 – 53 ، والعواصم لابن الوزير 9/79 ، ونيل الأوطار 2/20 .
(6) انظر هذا الجواب : المغني لابن قدامة 3/358 ، فتح الباري 2/32 ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/41 .(212/253)
3- إن مثل هذه النصوص محمولة على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل. قال النووي: - وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده.(1) "
4- المراد من هذه الأحاديث من استحل ترك الصلاة، أو تركها جحوداً بلا عذر.(2)
(ج) أجوبة المكفرين عن أدلة الآخرين:-
وقد أجاب القائلون بتكفير تارك الصلاة عن أدلة الآخرين بما يلي:-
1- أما حديث عبادة بن الصامت: - " خمس صلوات.. الحديث " فهذا الوعد الكريم إنما هو بالمحافظة عليها، والمحافظة: فعلها في أوقاتها كما أمر، قال تعالى: - {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} [البقرة، آية 238] وعدم المحافظة يكون مع فعلها بعد الوقت، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق، فأنزل الله آية الأمر بالمحافظة عليها وعلى غيرها من الصلوات.
وقد دل الكتاب والسنة، واتفاق السلف على الفرق بين من يضيع الصلاة فيصليها بعد الوقت، والفرق بين من يتركها. ولو كانت بعد الوقت لا تصح بحال، لكان الجميع سواء ,
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا، ولم يحافظوا عليها (3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: - " ومن لم يفعل فليس له على الله عهد.. " معناه: أنه لم يأت بهن على الكمال، وإنما أتى بهن ناقصات من حقوقهن، كما جاء مفسراً في بعض الروايات: " ومن جاء بهن، وقد انتقص من حقهن شيئاً، جاء وليس له عند الله
ص481
__________
(1) المجموع 3/20 ، وانظر هذا الجواب : مسلم بالنووي 2/71 ، وأحكام القرآن لابن العربي 1/41 ، وطرح التثريب للعراقي 2/147 .
(2) انظر : هذا الجواب : التمهيد لابن عبد البر 4/236 ، ومسلم بالنووي 2/71 ، وطرح التثريب للعراقي 2/147
(3) انظر الفتاوى لابن تيمية 7/614 , 615 ، 22/19 .(212/254)
عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء رحمه (1) "
قال محمد بن نصر المزوري: - "فمن أتى بذلك كله كاملاً على ما أمر به، فهو الذي له العهد عند الله تعالى بأن يدخله الجنة، ومن أتى بهن، لم يتركهن، وقد انتقص من حقوقهن شيئاً، فهو الذي لا عهد له عند الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا بعيد الشبه من الذي يتركها أصلاً لا يصليها. (2) "
2- وأما حديث حذيفة – والذي جاء فيه -: "تنجيهم لا إله إلا الله " فهو محمول على زمن الفترات، حيث تضمن هذا الحديث الإخبار عما يحصل في آخر الزمان من محو الإسلام، ورفع القرآن حتى لا يبقى منه آية، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، فيغفر الله لهؤلاء مالا يغفر لغيرهم ممن قامت عليهم الحجة، وظهرت آثار الرسالة في وقتهم، وقد أشار ابن تيمية إلى زمانه، وما كان عليه الكثير من الناس من الوقوع في أنواع الكفر فقال – عنهم -: -
"وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنه الفترات، يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويغفر الله فيه لمن لمم تقم الحجة عليه، ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه، كما في الحديث المعروف: " يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة، ولا صياماً ولا حجاً.. الحديث (3) "
فإذا كان هؤلاء معذورين مع وجود أهل العلم، ووجود القرآن والسنة بين أظهرهم...فكيف لا يعذر بترك الصلاة ونحوها من كان في زمان يمحى فيه الإسلام، ويرفع فيه القرآن فلا يبقى منه في الأرض آية؟
__________
(1) أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة 2/968 ، وانظر بقية الروايات الأخرى في نفس الكتاب 2/968 – 971 ، وانظر التمهيد لابن عبدالبر 23/293 و294
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/971
(3) مجموع الفتاوى 35/165 .(212/255)
فينبغي مراعاة أحوال الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولعل مما يؤكد ما ذكرناه أن راوي الحديث السابق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما رأى رجلاً لا يتم
ص482
الركوع والسجود، قال: - " ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً صلى الله عليه وسلم (1) "
يقول ابن حجر: - " واستدل به على تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى (2)"
فتأمل تنوع الجوابين لاختلاف الزمان والحال والله أعلم
3- وأما استدلالهم بحديث أبي ذر مرفوعاً:- " إنه سيكون بعدي أمراء يميتون الصلاة.. الحديث "، فقد أجاب محمد بن نصر عن استدلالهم بما يلي: - " ليس في هذه الأخبار التي احتججتم بها دليل على أن تارك الصلاة عمداً، حتى يخرج وقتها لا يكفر، متعمدين لتركها حتى يذهب وقتها. إنما قال في حديث عبادة (3) يكون عليكم أمراء يشغلهم أشياء عن الصلاة، فإنما أخروها عن الوقت الذي كانت تصلى فيه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين... فكانوا يؤخرونها عن وقت الاختيار إلى وقت أصحاب العذر.. ولا يؤخرونها حتى يخرجوا من وقت أصحاب العذر كله، فلم يكونوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت كله، إنما كانوا يؤخرونها عن وقت الاختيار، ويصلون في آخر وقت العذر، فلذلك لم يثبت عليهم الكفر.(4) "
__________
(1) أخرجه البخاري ك الأذان (2/275) ح (791) .
(2) فتح الباري 2/275 ، ويجب التنبيه هاهنا أن قول الصحابي : سنة محمد أو فطرته له حكم الرفع – على القول الراجح كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح 2/275 -
(3) حديث : - إنه سيكون بعدي أمراء " رواه اكثر من صحابي
(4) تعظيم قدر الصلاة 2/957 – 963 = باختصار .(212/256)
وأجاب ابن تيمية قائلاً: " وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، " صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة (1) " وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر، والعصر إلى وقت الاصفرار، وذلك مما هو مذمومون عليه، ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس، فإن هؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم،
ص483
ونهى عن قتال أولئك، فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء يفعلون ويفعلون، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: - " لا، ما صلوا "وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها، وأمر أن نصلي في الوقت، وتعاد معم نافلة، فدل على صحة صلاتهم، ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم. (2)"
- واستكمالاًً لأجوبة القائلين بتكفير تارك الصلاة، نضيف ما يلي: -
4- أما استدلالهم بقوله تعالى: - {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، فقد تقرر بالأدلة أن ترك الصلاة كفر وشرك، كما جاء في حديث جابر مرفوعاً: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة "، فيكون ترك الصلاة داخلاً في عموم الآية من جهة الدلالة على أن ذلك مما لا يغفره الله تعالى، وبهذا نصدق بجميع تلك النصوص، ويتحقق إعمالها دون إهمالها. (3)
5- وأما احتجاجهم بحديث أبي ذر مرفوعاً: "لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة " ففي سنده قدامة بن عبدالله بن عبدة البكري، قال عنه ابن حجر: - "مقبول (4) "، وفي سنده جسرة بنت دجاجة، قال البيهقي: فيها نظر، وقال البخاري في تاريخه: - وعند جسرة عجائب (5).
__________
(1) أخرجه مسلم ك المساجد ومواضع الصلاة ، (1/449) ح (648)
(2) منهاج السنة النبوية 5/210 ، 211 ، وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 26
(3) انظر لمزيد من التفصيل في الجواب عن الاستدلال بهذه الآية : - رسالة ضوابط التكفير للقرني ص 209 .
(4) تقريب التهذيب 2/124
(5) انظر ميزان الاعتدال للذهبي 1/399(212/257)
وقد أورد ابن خزيمة هذا الحديث بصيغة تشعر بعدم صحته، فعقد باباً بعنوان: - " باب إباحة ترديد الآية الواحدة في الصلاة مراراً عند التدبر والتفكر في القرآن إن صح الخبر "، ثم ساق الحديث المذكور (1)
ويمكن أن يقال: أن الحديث علق ترك الصلاة بأمر ممتنع لا يمكن الاطلاع عليه، فمن المعلوم أن "لو" حرف امتناع لامتناع، وبهذا نعلم أن هذه الرواية قد قيدت بوصف يمتنع معه ترك الصلاة.
ص484
6. وأما احتجاجهم بحديث عائشة: - "الدواوين ثلاثة... ففيه صدقة بن موسى وقد ضعفه الجمهور (2). " قال يحي بن معين: - ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالقوي (3) "
وفيه يزيد بن بابنوس، قال عنه الذهبي: فيه جهالة. (4)
وضعف الألباني هذا الحديث. (5)
ولو صح الحديث فيحمل على من يقع أحياناً في ترك صلوات، دون أن يتركها بالكلية، ويشهد لذلك لفظ الحديث حيث جاء فيه: "" من صوم يوم تركه أو صلاة تركها "
7- وكذا يقال بالنسبة لحديث عبدالله بن مسعود: " أول ما يحاسب به العبد الصلاة.. الحديث "فإن مناط التكفير لتارك الصلاة إنما هو الترك المطلق، بحيث يترك الصلاة جملة، وأما ترك بعض الصلوات فلا يكون كفراً، كما يدل عليه ظاهر الحديث، وسيأتي مزيد تفصيل – إن شاء الله – لهذه المسألة.
__________
(1) انظر صحيح ابن خزيمة 2/124
(2) انظر : مجمع الزوائد للهيثمي 10/348
(3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4/432
(4) انظر الحاكم مع التلخيص 4/575 ، 576 ، وانظر التهذيب 11/316
(5) انظر : شرح العقيدة الطحاوية ص 367(212/258)
بل إن بعض مرويات هذا الحديث تكاد تشهد بكفر تارك الصلاة، فعن أنس مرفوعاً "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله. (1) "
فجعل صلاح الصلاة وصحتها شرطاً في صلاح سائر الأعمال وصحته، وأن فسادها شرط في فساد باقي الأعمال.
ولذا قال الإمام أحمد بن حنبل: - " وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: - " أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون منه
ص 485
الصلاة (2) " وجاء في الحديث " إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن تقبلت منه تقبل من سائر عمله، وإن ردت عليه صلاته رد سائر عمله. (3) " فصلاتنا آخر ديننا، وهي أول ما نسئل عنه غداً من أعمالنا، فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام، فكل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه... (4) "
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط 2/512 ح (1880) ، وقال الألباني في "الصحيحة" (1358) : - "وأخرجه الضياء في المختارة 2/209 ... وهو حديث صحيح بمجموعة طرقه . " وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي 1/213 رقم (185) والهيثمي في المجمع 1/291 ، 292 .
(2) أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق ص 28 ، والضياء في المختارة 1/495 ، وصححه الألباني في الصحيحة (1739)
(3) لم أعثر عليه بهذا اللفظ ، وقد جاءت أحاديث كثيرة بمعناه ، انظر مجمع الزوائد 1/291 ، 292
(4) رسالة الصلاة ص 17 ، وانظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 32(212/259)
8- وأما حديث: " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة.. الحديث (1) " ففي سنده عاصم بن بهدلة تكلموا في حفظة... (2) وقال ابن حجر: - " صدوق، وله أوهام (3) " وفيه: جعفر بن سليمان الضبعي، صدوق زاهد، لكنه كان يتشيع. (4)
إضافة إلى ذلك، فقد جاء في رواية هذا الحديث: - صليت صلاة واحدة بغير طهور " فهو إذن ليس تاركاً للصلاة بالكلية بتركه الوضوء، وإنما هي صلاة واحدة بغير طهور " فهو إذن ليس تاركاً للصلاة بالكلية بتركه الوضوء، وإنما هي صلاة واحدة...وهناك فرق ظاهر بين من تركها بالكلية... ومن ترك صلاة واحدة وقد يفعل بعض المسلمين ذلك، فيصلي بغير وضوء، فيكون مستحقاً للذم والعقاب، وقد يفعله مع اعترافه بالذنب فلا يكفر، كما ظن بعض الأحناف عندما أطلقوا كفر من صلى بغير طهارة (5)، ولكن لو فعله على سبيل الاستهانة والاستخفاف
ص486
فهو كافر (6) فكيف بحال هذا الرجل الذي كان مداوماً على الوضوء والصلاة.. لكنه صلى صلاة واحدة بغير وضوء؟ وأما قوله: - إن دعاء الكافرين داخل في قوله تعالى: - {وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر، آية 50] فلا يستجاب لهم، فهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فقد يدعو الكافر ربه فيستجاب له، كما جاء ذلك في آيات كثيرة من القرآن.
__________
(1) هذا الحديث أورده المنذري في الترغيب (3/190) بصيغة التمريض ، وكذا الذهبي في الكبائر ص 147
(2) انظر التهذيب 5/38 - 49
(3) التقريب 1/383
(4) انظر : التهذيب 2/95 – 98 ، والتقريب 1/131
(5) انظر مثلاً رسالة البدر الرشيد الحنفي في الألفاظ المكفرات ص 29
(6) انظر منهاج السنة النبوية 5/204 ، وانظر حكم تارك الوضوء في كتاب الصلاة لابن القيم ص 27 ، 28 .(212/260)
قال تعالى: - {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {40}بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام، آية 40، 41].
وقال سبحانه: - {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت، آية 65]
وأما دعاء الكافرين لغير الله تعالى فهو ضلال، كما هو ظاهر الآية التالية: - {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [الرعد، آية 14].
كما ينبغي مراعاة الفرق بين حياة البرزخ كما جاء في الحديث الذي استدلوا به، ودخول دار الجزاء (الجنة أو النار) كما في الآية: - {وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر، آية 50] ففي البرزخ قد يقع التكليف كما في سؤال الملكين، وكذا في عرصات القيامة يدعون إلى السجود، وأما بدخول دار الجزاء فينقطع التكليف، كما في الآية. (1)
إضافة إلى ذلك فهذا الحديث – المتكلم على سنده ومتنه – معارض لحديث صحيح صريح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: -
" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: - صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده (2) "
صـ487
__________
(1) انظر مختصر الفتاوي المصرية لابن تيمية ص 645 ، 646
(2) أخرجه مسلم ، ك الوصية (3/1255) ح (1631) ، والترمذي ح (1376)(212/261)
9- وأما الحديث الذي أخرجه الخلال وفيه أن مولى للأنصار مات وكان يصلي ويدع، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله والصلاة عليه ودفنه.. فهذا الحديث في سنده مقال.. فأبو شميلة مختلف في صحبته...
وقد ذكر الذهبي وابن حجر وغيرهما قصة تدل على صحبته، لكن في سندها محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. (1)
وفيه عبدالوهاب بن عطاء، قال عنه ابن حجر: - صدوق، ربما أخطأ (2)
وضعف الألباني هذا الحديث في "الضعيفة". (3)
ولو صح الحديث فلا دلالة فيه على أن الترك المطلق للصلاة لا يعد كفراً، وهذا المولى كان يصلي ويدع، فلم يكن تاركاً للصلاة بالكلية، وفرق بين من يحافظ على تركها، ومن يصلي ويدع فهو غير محافظ على فعلها والله أعلم.
10 - وأما حديث " إن للاسلام صوى ومناراً كمنار الطريق... الحديث. "فليس في دلالة ظاهرة على عدم كفر تارك الصلاة... ولقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن من ترك من ذلك شيئاً فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن المعلوم أن تلك "المنارات" متفاوته، فمنها ما تركه يناقض الملة كالإيمان بالله تعالى، ومنها ما تركه ينافي كمال الإيمان الواجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها ما تركه يعد تفويتاً لكمال الإيمان المستحب كالسلام.
__________
(1) انظر الإصابة 7/208 ، وتجريد الصحابة للذهبي 2/178
(2) انظر : التهذيب 6/451 – 453 ؛ والتقريب 1/528
(3) انظر : كتابه : - " حكم تارك الصلاة " ص 64 ، حيث ذكر أنه ضعيف ، وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة (6036)(212/262)
11 – وأما استدلالهم بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الشفاعة، وكذا عمومات الأحاديث الأخرى.. فهذه من نصوص الوعد، التي لابد من الإيمان بها، وضمها إلى ما يقابلها من نصوص الوعيد، فالذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب، قد تبين سبحانه أنه مشروط بأن لا يتوب، فإن تاب، تاب الله عليه، وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه، فهكذا الوعد له تفسير وبيان فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله وكذب
ص488
الرسول فهو كافر باتفاق المسلمين، وكذلك إن جحد شيئاً مما أنزل الله... (1)
فاستدلالهم بعموم الأحاديث التي فيها من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وما جاء في معناها، ولم يشترط إقامة الصلاة لذلك... لا دلاله فيها على أن تارك الصلاة لا يكفر؛ لأن المراد بقول لا إله إلا الله تحقيق شروطها وترك نواقضها، وقد تقرر بالأدلة أن ترك الصلاة كفر، فلا اعتبار بمجرد الإقرار بالشهادتين مع عدم أداء الصلاة. (2)
ومثل هذه الأحاديث التي قد يكون فهمها مشكلاً أو مشتبهاً على البعض، فإنه يجب ردها إلى الأحاديث الواضحة المحكمة، فنصوص الكتاب والسنة يصدق بعضها بعضاً.
ويقال – أيضاً – إن هذه العمومات يمكن تخصيصها بأحاديث كفر تارك الصلاة. (3)
يقول ابن الوزير: - " ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع، واضطر إلى التحكم والتلون من غير حجة بينة. (4) "
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/270 ، 271 = باختصار يسير ، وانظر كتاب التوحيد لابن خزيمة 2/869 .
(2) انظر تفصيلاً : نيل الأوطار 2/20 ، وضوابط التكفير للقرني ص 209 ، 210
(3) انظر : أضواء البيان للشنقيطي 4/320 ورسالة في الطهور والصلاة لابن عثيمين ص 60
(4) إيثار الحق على الخلق ص 383(212/263)
وقد عقد إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد باباً بعنوان: - " باب ذكر الدليل أن جميع الأخبار التي تقدم ذكري لها إلى هذا الموضع في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج أهل التوحيد من النار إنما هي ألفاظ عامة مرادها خاص. " ثم أورد أدلته على ذلك (1)
بل إن في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره من أحاديث الشفاعة لعصاة الموحدين ما يدل على أن تارك الصلاة كافر... فقد قال صلى الله عليه وسلم
ص489
وسلم: - " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود. (2) "
فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله. (3)
وقد استنبط ابن أبي جمرة من هذا أن من كان مسلماً، ولكنه كان لا يصلي لا يخرج إذ لا علامة له. (4)
وإن كانوا يحتجون برواية " لم يعملوا خير قط " على عدم كفر تارك الصلاة، في نفس الوقت يدفعون توهم من زعم أن المراد بالخير المنفي تجويز إخراج غير الموحدين من النار، كما قال ابن حجر: - " ورد ذلك بأن المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين، كما تدل عليه بقية الأحاديث (5) "
فكذا يقال أيضاً أن هذا الخير المنفي ما زاد على فعل الصلاة كما جاءت بذلك النصوص.
وقال ابن خزيمة: - " هذه اللفظة" لم يعملوا خيراً قط " من الجنس الذي يقول العرب: ينفي الاسم عن الشيء لنقصه على الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل، لم يعملوا خيراً قط، على التمام والكمال.. (6) "
__________
(1) انظر : كتاب التوحيد 2/727 - 734
(2) أخرجه البخاري ك الأذان (2/293) ح (806)
(3) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/612
(4) انظر فتح الباري 11/457
(5) المرجع السابق 13/429
(6) كتاب التوحيد 2/732(212/264)
12 - وأما دعواهم الإجماع – على فرض صحتها – فهي منقوضة ومردودة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم كما نقله أبو هريرة رضي الله عنه، وعبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله، فالإجماع على مراتب، وأقواها إجماع الصحابة رضي الله عنهم. (1).
ص490
وقولهم لا نعلم بين المسلمين خلافاً لا يعد إجماعاً (2)، ونفي العلم ليس علماً بالنفي.
إضافة إلى ذلك فإنه قد يصعب القطع بأن فلاناً لا يصلي تماماً، خاصة أن من ادعى أنه صلى في أهله وبيته، قبل منه، كما دل عليه حديث محجن – وقد تقدم – وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لمحجن: - " ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ قال محجن: بلى يا رسول الله، ولكني صليت في أهلي "
وقد استنبط ابن عبدالبر من هذا الحديث أن من أقر بالصلاة وإقامتها أنه يوكل إلى ذلك إذا قال إني أصلي؛ لأن محجناً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد صليت في أهلي، فقبل منه. (3)
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: - " من قيل أنه لا يصلي فكذبهم صدق. (4) "
وقال النووي: - " إذا أراد السلطان قتله، فقال: صليت في بيتي ترك (5) "
إن الترك للصلاة – والذي يعد ناقضاً من نواقض الإيمان – لا يتحقق في المعين إلا بالإصرار على تركها، والأصل في المسلم فعل الصلاة حتى يثبت ما يناقض ذلك، فمن أظهر أداء الصلاة فهو المسلم حكماً وظاهراً، وقد يكون مؤمناً عند الله، وقد يكون منافقاً كافراً، فليس كل من قيل عنه أنه كافر، تجرى عليه أحكام الكفر. (6)
__________
(1) انظر المغني في أصول الفقه للخبازي ص282 ، وفتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم 3/7
(2) انظر أعلام الموقعين لابن القيم 1/30 ، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 90
(3) انظر : التمهيد 4/224
(4) الأم 1/390
(5) روضة الطالبين 2/147
(6) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/617(212/265)
يقول ابن تيمية: - " إن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين علي الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً، ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام. (1) "
ص491
وأما قولهم: إن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتداً لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام..
فقد أجاب عند محمد بن نصر المروزي بقوله: -
" إن الكافر الذي أجمعوا على أنه لا يؤمر بقضاء ما ترك من الصلاة هو الكافر الذي لم يسلم قط، ثم أسلم، فإنهم أجمعوا على أنه ليس عليه قضاء ما ترك من الصلاة في حال كفره... فأما من أسلم ثم ارتد عن الإسلام، ثم رجع فإنهم قد اختلفوا فيما ضيع في ارتداده من صلاة وصيام وزكاة وغير ذلك، فكان الشافعي يوجب عليه قضاء جميع ذلك. (2) "
ثم قال: - " فإذا ترك الرجل صلاة متعمداً حتى يذهب وقتها فعليه قضاؤها، لا نعلم في ذلك اختلافاً، إلا ما يروى عن الحسن، فمن أكفره بتركها استتابه، وجعل توبته، وقضاءه إياها رجوعاً منه إلى الإسلام، ومن لم يكفر تاركها ألزمه المعصية، وأوجب عليه قضاءها. (3) "
وقال أبو الوفاء ابن عقيل: - " من كان كفره بترك الصلاة، لا بترك كلمة الإسلام، فهو إذا عاود فعل الصلاة صارت معاودته للصلاة إسلاماً. (4) "
وقال ابن تيمية: - " من كفر بترك الصلاة: الأصوب أن يصير مسلماً بفعلها، من غير إعادة الشهادتين؛ لأنه كفره بالامتناع كإبليس. (5) "
والآن ننتقل إلى مناقشة أجوبة القائلين بعدم التكفير لأدلة الفريق الأول.
__________
(1) مجموع الفتاوي 7/716 ، وانظر مجموع الفتاوى 6/429 ، 24/287
(2) تعظيم قدر الصلاة 2/980
(3) المرجع السابق 2/996
(4) بدائع الفوائد لابن القيم 3/212
(5) الاختيارات الفقهية ص 32(212/266)
1- فأما حملهم أحاديث تكفير تارك الصلاة على كفر النعمة، فهذا غير مستقيم، ولا يخفى ما فيه من تكلف..فهل يسوغ أن يكون معنى حديث جابر بين الرجل وبين كفر النعمة ترك الصلاة؟ لقد بين الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله فساد هذا القول عند أهل اللغة، ثم علل ذلك قائلاً: - " وذلك أنهم (أي العرب) لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر عن
ص492
نفسه بالعدم، وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد منّ الله عليه بالسلامة وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن ونشر المصائب فهذا الذي تسميه العرب كفراناً إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، ينبئك عن ذلك مقالة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: - " إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير – يعني الزوج – وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: - ما رأيت منك خيراً قط (1) "
فهذا ما في كفر النعمة (2) "
وأما قولهم إنه كفر دون كفر، فقد سبق بيان أن الكفر جاء معرفاً كما في حديث جابر مما أفاد التخصيص والعهد، وفرق بين هذا وبين كفر منكر...
إضافة إلى ذلك فإن حديث بريدة مرفوعاً "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " قد جعل الصلاة حداً فاصلاً بين المسلمين عن غيرهم، ولا يتصور أن يكون كفراً دون كفر؛ لأنه لا يكون حداً فاصلاً بين المسلمين والكافرين، فهناك من المسلمين من يقع في مثل هذا الكفر، وإن لم يكن مؤمناً بإطلاق. (3)
2- وأما قولهم إن الأحاديث الواردة في تكفير تارك الصلاة إنما هي على سبيل التغليظ والزجر الشديد لا على الحقيقة فظاهرها غير مراد.
__________
(1) أخرجه البخاري ك الإيمان (1/83) ح (29) ، ومسلم ك الإيمان (1/86) ح _79)
(2) الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 88
(3) انظر رسالة ضوابط التكفير ص 203(212/267)
فالجواب أن يقال: هذا كلام فيه إجمال وإيهام، فلا شك أن هذه الأحاديث فيها تغليظ وتخويف، وهي على الحقيقة، نؤمن بذلك ولا نكذب، ونمرها كما جاءت ونأخذ بظاهرها المفهوم منها، وإذا كان عامة السلف الصالح يقرون أحاديث الوعيد – فيما دون الكفر – ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود قائلها صلى الله عليه وسلم (1)، فكيف ساغ لهؤلاء صرف نصوص تكفير تارك الصلاة عن ظاهرها، وجعله وعيداً لا حقيقة له!
إن الإيمان بالنصوص الشرعية – ومنها نصوص الوعيد – يوجب التسليم لها والانقياد، كما يقتضي إجلالها وتعظيمها، وقد التزم سلف الأمة هذا النهج،
ص493
" فقد قال الرجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " ليس منا من لطم الخدود (2)، " وليس منا من لم يوقر كبيرنا (3) " وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: - من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. (4) "
__________
(1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 7/674
(2) أخرجه البخاري ، ك الجنائز ، (3/166) ، ح (1297) ، ومسلم ، ك الإيمان ، (1/99) ، ح (165)
(3) أخرجه الترمذي ، وقال حسن غريب ، ك البر والصلة ، باب ما جاء في رحمة الصبيان ، حديث (1921) ، وابن ماجة ، ك الأدب ، باب في الرحمة ، حديث (4943) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/44 و45)
(4) السنة للخلال 3/579 ، وانظر تعظيم قدر الصلاة 1/487(212/268)
" ولما ذكر عبدالله بن المبارك – رحمه الله – حديث: - " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن... (1)، فقال فيه قائل: ما هذا! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان (2) أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. (3) "
ومما يحسن إيراده في هذا الموضع ما قاله ابن تيمية: -
" ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله.. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد انه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصودة معرفة ما أراده الرسول بكلامه. (4) "
ص494
وعلى كل فإن الاسترسال مع قول من قال إن هذا وعيد للتغليظ ولا حقيقة له، قد يؤؤل إلى تعطيل الشريعة وإبطال العقاب... (5)
وقد نبه جمع من أهل العلم لخطورة ذلك.
فقال أبو عبيد القاسم بن سلام – جواباً عمن حمل نصوص الوعيد على التغليظ: - " وأما القول المحمول عل التغليظ فمن أفظع ما تأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب؛ لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها، كان ممكناً في العقوبات كلها.(6) "
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك المظالم (5/119) ، ح (2475) ، ومسلم ، ك الإيمان (1/76) ح (100)
(2) أي كثيرو الكلام والتشكي (لسان العرب 13/28)
(3) تعظيم قدر الصلاة 1/504 ، 505
(4) مجموع الفتاوي 7/36 ، 37 = باختصار
(5) انظر مجموع الفتاوي لابن تيمية 19/150
(6) الإيمان لأبي عبيد ص 88(212/269)
وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: - " المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن من يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده. وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده. (1)"
وقال ابن حزم: - " وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه، ولعل وعيد الكفار أيضاً كذلك، ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه؛ لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها إذ لعلها ندب، ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد، وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام؛ لأنه تكذيب لله عز وجل. (2) "
وقال القاسمي – معلقاً على ما قاله الزمخشري عن حديث: " آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى.. (3) ": للتغليظ: -
" قول الزمخشري " فللتغليظ" يوجد مثله لثلة من شراح الحديث وغيرهم وقد بحث فيه بعض محققي مشايخنا بقوله: - هذا الجواب لا يرتضيه من عرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم غفلوا عما يستلزمه هذا الجواب مما لا يرتضيه
ص495
أدنى عالم أن ينسب إليه، وهو الإخبار بخلاف الواقع لأجل الزجر. انتهى، وقال بعض المحققين: عليك أن تقر الأحاديث كما وردت، لتنجو من معرة الخطر. (4) "
3 - وأما قولهم: إن مثل هذه النصوص محمولة على أن شارك الكافر في بعض أحكامه وهو وجوب القتل... فالجواب أن يقال: - ما المسوغ لاستحلال دم تارك الصلاة وهو ليس بكافر عندكم؟
لقد تقرر – شرعاً – أن قتل المسلم لا يستباح إلا بإحدى ثلاث:- ترك دين، وإراقة الدم المحرم، وانتهاك الفرج المحرم.
__________
(1) السنة لعبدالله بن الإمام أحمد 1/377
(2) الإحكام لابن حزم 1/283
(3) أخرجه البخاري بمعناه ك الإيمان (1/89) ح (33) ، ومسلم ك الإيمان (1/78) ح (107)
(4) تفسير القاسمي 3/536 ،537(212/270)
فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - " لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث: - الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (1) "
فتارك الصلاة ليس قاتلاً، ولا زانياً محصناً، فلم يبق إلا أن يكون إباحة دمه من أجل ردته.
يقول ابن حزم – وهو ممن يرى عدم كفر تارك الصلاة – جواباً عن القائلين بقتل تارك الصلاة دون كفره:-
" أما مالك والشافعى فإنهما يريان تارك الصلاة مسلماً؛ لأنهما يورثان ماله، وولده، ويصليان عليه، ويدفنانه مع المسلمين... فإذا ذلك كذلك فقد سقط قولهما في قتله؛ لأنه لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو نفس بنفس، وتارك الصلاة متعمداً لا يخلو أن يكون كافراً. أو يكون غير كافر، فإن كان كافراً فهم لا يقولون بذلك... فإذا ليس كافراً، ولا قاتلاً، ولا زانياً محصناً.. فدمه حرام بالنص.(2) "
4 - أما قولهم إن المراد بهذه الأحاديث من استحل ترك الصلاة، أو تركها جحوداً... فجوابه أن يقال:- إن هذه الأحاديث – كحديث جابر وبريدة ونحوهما... قد علقت الكفر بترك الصلاة، فمناط الحكم بالكفر فيها ترك الصلاة، وقد يكون هذا الترك جحوداً، أو تهاوناً وكسلاً.
ص496
__________
(1) سبق تخريجه ص 468
(2) المحلى 13/438 = خص .(212/271)
فمن قال إن تارك الصلاة لا يكفر إلا إذا كان جاحداً لوجوبها، فقد جعل مناط الحكم في هذه المسألة غير ما حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه على هذا التأويل لا فرق بين الصلاة وغيرها، فلا تكون إقامتها عهداً وحداً يعرف به المسلم من الكافر؛ لأن من ترك شيئاً من شعائر الإسلام وفرائضه الظاهرة جحوداً لوجوبها فهو كافر بالإجماع، فجحد الوجوب لا يختص بالصلاة وحدها، مع أن الصحابة رضي الله عنهم قد جعلوا ترك الصلاة هو مناط الكفر دون بقية الأعمال، كما حكى ذلك عنهم أبو هريرة رضي الله عنه وعبد الله بن شقيق العقيلي رحمه الله.(1)
ومن المناسب – في خاتمة هذه المناقشة – أن نشير إلى أن بعض القائلين بعدم تكفير تارك الصلاة، قد سلكوا في بعض استدلالهم مسلك الإرجاء.
فهم يقولون – مثلاً – إن الكفر جحود التوحيد، وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول، وهذا يقر بالوحدانية شاهداً أن محمد رسول الله، مؤمناً بأن الله يبعث من في القبور، فكيف يحكم بكفره؟ والإيمان هو التصديق، وضده التكذيب، لا ترك العمل، فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد؟(2)
وجواباً عن ذلك نقول: - قد تقرر عند أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، فليس تصديقاً فحسب، ومن ثم فإن مقابله هو الكفر قول وعمل، فقد يكون الكفر قولاً قلبياً، وقد يكون عملاً قلبياً، وتارة قولاً باللسان، وتارة عملاً بالجوارح كما سبق تفصيله وبيانه بالأدلة (3)
ويقول أيضاً: - يلزم من تكفير تارك الصلاة أن يكفر القاتل والشاتم للمسلم، وأن يكفر الزاني، وشارب الخمر...(4)
ص497
__________
(1) انظر تفصيل هذا الجواب : - الفتاوى لابن تيمية 7/614 ،والدرر السنية 4/102 ، ورسالة ضوابط التكفير للقرني ص 205 .
(2) انظر كتاب الصلاة لابن القيم ص 37 .
(3) انظر : المبحث الأول من تمهيد الرسالة .
(4) انظر التمهيد لابن عبد البر 4/236 .(212/272)
والجواب: - أن هذا اللازم يلزم المبتدعة عموماً... سواء كانوا وعيدية أو مرجئة والذين جعلوا الكفر خصلة واحدةً، بناء على ظنهم الفاسد أن الإيمان شيء واحد يزول كله بزوال بعضه، وقد دلت النصوص أن الكفر مراتب وشعب متفاوتة، كالإيمان، فمن شعب الكفر ما يخرج من الملة، ومنها مالا يخرج من الملة.
(د) الترجيح: -
بعد هذا العرض التفصيلي لأدلة الفريقين واستدلالاتهم ومناقشتها، يظهر أن أدلة القائلين بتكفير تارك الصلاة أصح وأقوى. (1)
إلا أن الراجح – في نظري – ولعله القول الوسط بين الطرفين، وبه تجتمع الكثير من أدلة الفريقين، وهو أن يقال: إن ضابط ترك الصلاة الذي يعد كفراً – ها هنا – هو الترك المطلق الذي هو بمعنى ترك الصلاة من حيث الجملة الذي يتحقق بترك الصلاة بالكلية، أو بالإصرار على عدم إقامتها، أو بتركها في الأعم الأغلب، وليس مناط التكفير – ها هنا – مطلق الترك للصلاة بحيث يلزم أن نكفر كل من ترك صلاة واحدة أو بعض صلوات (2)
ويشهد لذلك جملة من الأدلة، منها ما يلي: -
قوله تعالى: - {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم، آية 59]
فالمراد من تضييع الصلاة – هاهنا – تركها بالكلية كما قاله محمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير. (3)
2 - وقوله صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم -: - "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة" فهذا الحديث صريح في الفرق بين الترك المطلق، وبين مطلق الترك.. يقول ابن تيمية رحمه الله: -
ص498
__________
(1) انظر : أضواء البيان للشنقيطي 4/322
(2) انظر : رسالة ضوابط التكفير ص 211
(3) انظر : تفسير الطبري 16/66 ، وتفسير ابن كثير 3/125(212/273)
"فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها... (1) "
ثم قال: - " فإن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة... (2) "
ويقول في موضع آخر: - " فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة بن الصامت – ثم ساق الحديث المذكور - (3) "
3- قوله صلى الله عليه وسلم: - " إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه (4) "
والانتقاص هنا عام يتناول ترك الأداء لبعض الصلوات... وهذا من مطلق الترك الذي لا يعد كفراً، ومن ثم صارت مقبولة، وأكملت بالتطوع، والله أعلم.
ص499
المبحث الثاني
السحر وما يلحق به
1 - من المعلوم يقيناً عند أهل الإيمان أن النفع والضر بيد الله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو سبحانه المتفرد بالخلق والتدبير والنفع والضر، فلا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
__________
(1) مجموع الفتاوي 7/615
(2) المرجع السابق 7/616
(3) المرجع السابق 22/49 ، وانظر مجموع الفتاوى 6/429 ، والصارم المسلول ص 554
(4) تقدم تخريجه(212/274)
قال سبحانه: - {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام، آية 59]
وقال عز وجل: - {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {85}قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86}سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون، آية 84 – 89]
ومن ثم فلا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له، فالدعاء والسجود والخوف والرجاء وسائر الطاعات كلها لله وحده لا شريك له.
قال تعالى: - {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [ الأنعام، آية 162].
وفي هذا المبحث سنتحدث عن السحر وما يلحق به؛ لأنه يضاد الإيمان وينافيه، وهو محل خلاف بين أهل العلم هل يعد كفراً أم لا؟
ومما يؤكد أهمية هذا الموضوع وجود ظاهرة السحر بأنواعه المختلفه في غالب الأمم، كما دل ذلك قوله تعالى: - {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات، آية 52].
ولذا يقول ابن تيمية: - " اسم الساحر معروف في جميع الأمم... (1) "
__________
(1) النبوات ص 272 ، وانظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 210 ت : محمد الأصفر(212/275)
فقد وجد السحر عند أهل فارس، وعند قدماء المصريين، وكذا في الهند، وبلاد اليونان، كما أن اليهود لما انحرفوا فأعرضوا عن كتاب الله تعالى... أقبلوا
ص500
على السحر، واتبعوا ما تتلو الشياطين كما قال سبحانه: -
{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ....} [ البقرة، آية 101، 102].
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله -: - " لما كان من العوائد القدسية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به ولم ينتفع، ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن، ابتلي بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاه، ابتلي بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان ومن ترك الذل لربه، ابتلي بالذل للعبيد، ومن ترك الحق ابتلي بالباطل.
كذلك هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلو الشياطين وتختلق من السحر... (1) "
وبالفعل هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله تعالى، وانحرفوا عن عبادة الله وحده، عوقبوا بعبادة الشيطان عن طريق السحر، فتعرضوا للخذلان والحرمان، وأنواع الضنك والشقاء في الدنيا والآخرة، وقد أشار إلى ذلك ابن تيمية بقوله:-
__________
(1) تفسير السعدي 1/118(212/276)
" إن الكثيرين من أرباب السحر ممن يدخل فى الباطل الخفي الدقيق، ويحتاج إلى أعمال عظيمة، وأفكار عميقة، وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات، ومفارقة الشهوات والعادات، ثم آخر أمرهم الشك بالرحمن، وعبادة الطاغوت والشيطان، والفساد في الأرض، والقليل منهم من ينال غرضه، الذي لا يزيده من الله إلا بعداً، وغالبهم محروم مأثوم، يتمنى الكفر والفسوق والعصيان، وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمنى الطغيان، سماعون للكذب، أكالون للسحت، عليهم ذلة المفترين.(1)
ص501
وفي هذا العصر، عصر التقدم المادي... تزداد ظاهرة السحر نفوذاً وانتشاراً، فأكثر شعوب العالم تقدماً مادياً تجري فيها طقوس السحر على نطاق واسع وبطرق متنوعة كأمريكا وفرنسا وألمانيا، بل إن السحر قد واكب هذا التطور المادي، فأقيمت الجمعيات والمعاهد لتعليم السحر سواء عن طريق الانتظام، أو الانتساب، كما نظمت المؤتمرات والندوات في هذا المجال.
إضافة إلى ذلك فإن بلاد المسلمين – عموماً – تنتشر فيها مظاهر السحر وأنواعه بسبب ضعف الإيمان بالله تعالى، وظهور الجهل بأحكام الشريعة، وسذاجة الكثير من المسلمين وجهلهم بحل هؤلاء السحرة المشعوذين، وتعطيل أحكام الله تعالى في هؤلاء السحرة (2).
2- السحر في لغة العرب هو كل ما لطف مأخذه ودق، وأصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، وسحره بمعنى خدعه، وسحره بكلامه: استماله برقته، وحسن تركيبه (3)
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 5/62 ، 63 = باختصار يسير ، وانظر مجموع الفتاوى 29/384 ، 385 .
(2) انظر لمعرفة أحوال السحرة في هذا العصر :-
عالم السحر والشعوذة لعمر الأشقر ص 55 –68 ، وتكملة المجموع لمحمد المطيعي 21/90 , 91 والسحر والمجتمع لسامية الساعاتي ، والعرافون الدجالون لياسين العجرمي .
(3) انظر اللسان 4/348 ، والمصباح المنير ص 317 ، وترتيب القاموس المحيط 2/528 ، ومختار الصحاح ص 288 .(212/277)
وأما تعريفه اصطلاحاً فإن السحر ليس نوعاً واحداً يمكن حده بحد يميزه عن غيره وقد أشار الشافعي رحمه الله إلى ذلك بقوله: - " والسحر اسم جامع لمعان مختلفة.(1) "
وكما قال الشنقيطي: - " واعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعاً لها مانعاً لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافاً متبايناً.(2) "
فعرف أبو بكر الجصاص السحر بقوله: - " كل أمر خفي سببه، وتخيل
ص502
على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع.(3) "
وقال ابن العربي – في معنى السحر -: - " كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى، وتنسب إليه في المقادير والكائنات.(4) "
وقال ابن قدامة: - " السحر هو عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله.(5) "
إلى غير ذلك من التعريفات المختلفة.(6)
وسبب ذلك الاختلاف: كثرة أنواع السحر، واختلاف صوره.. حتى جعله الفخر الرازي ثمانية أقسام (7)، وبعضهم جعله أكثر من ذلك (8).
__________
(1) الأم 1/391 .
(2) أضواء البيان 4/444 .
(3) أحكام القرآن للجصاص 1/42 .
(4) أحكام القرآن لابن العربي 1/31 ، وانظر الشرح الصغير للدردير 6/146 ، والخرشي على خليل 7/63.
(5) المغني 8/150 ، وانظر المبدع في شرح المقنع 9/188 ، وشرح منتهى الإرادات 3/394 .
(6) انظر كتاب السحر بين الحقيقة والخيال لأحمد الحمد ص 13 – 16 .
(7) انظر تفسير الرازي 3/228 – 236 ، وانظر المفردات للراغب ص 331 .
(8) انظر : - الفروق للقرافي 4/137 – 149 ، ومفتاح دار السعادة لطائش كبري زاده 1/340 – 346 ، وأضواء البيان للشنقيطي 4/452 –455 ، وكتاب السحر للحمد ص 18-36 .(212/278)
إضافة إلى توسع بعض العلماء في إطلاق السحر على كثير من الأحوال استناداً للمعنى اللغوي، فبعضهم يطلق السحر على النميمة، والكلام البليغ، وكذا الحركات القائمة على خفة اليد ومهارة الأداء.
وأمر ثالث أوجب هذا الاختلاف، وهو تنوع السحر من ناحية حقيقته أو تخييله، من ثم فبعض العلماء يقول: إن السحر حقيقة، ومنهم من يقول إنه تخييل، والصحيح في ذلك: - أن منه ما هو حقيقة، فيفرق بين المرء وزوجه، ولذا أمر الله تعالى بالاستعاذة به سبحانه من السواحر، فدل ذلك على أن للسحر حقيقة، وبعض السحر تخييل لا حقيقة له. (1).
وقد نبه الإمام القرافي رحمه الله إلى ضرورة تحديد معنى السحر وتمييزه عن غيره فقال: - " أطلق المالكية وجماعة الكفر على الساحر، وأن السحر كفر،
ص503
ولا شك أن هذا قريب من حيث الجملة، غير أنه عند الفتيا في جزئيات الوقائع يقع فيهم الغلط العظيم المودي إلى هلاك المفتي، والسبب في ذلك أنه إذا قيل للفقيه ما هو السحر وما حقيقته حتى يقضي بوجوده على كفر فاعليه يعسر عليه ذلك جداً، فإنك إذا قلت له السحر والرقى والخواص والسيميا والهيميا وقوى النفوس شيء واحد، وكلها سحر، أو بعض هذه الأمور سحر، وبعضها ليس بسحر، فإن قال: الكل سحر، يلزمه أن سورة الفاتحة سحر؛ لأنها رقية إجماعاً، وإن قال: لكل واحدة من هذه خاصية تختص بها، فيقال: بين لنا خصوص كل واحد منها، وما به تمتاز، وهذا لا يكاد يعرفه أحد من المتعرضين للفتيا. وأنا طول عمري ما رأيت من يفرق بين هذه الأمور، فكيف يفتي أحد بعد هذا بكفر شخص معين أو بمباشرة شيء معين بناء على أن ذلك سحر، وهو لا يعرف السحر ما هو (2) "
__________
(1) انظر تفصيل هذه المسألة في كتاب السحر لأحمد الحمد ص 37 - 88
(2) الفروق للقرافي 4/135(212/279)
إلى أن قال: - " إن الكتب الموضوعة في السحر، وضع فيها هذا الاسم [السحر] على ما هو كذلك كفر ومحرم، وعلى ما ليس كذلك، وكذلك السحرة يطلق لفظ السحر على القسمين، فلابد من التعرض لبيان ذلك. (1) "
ثم قال أيضاً: - " وللسحر فصول كثيرة في كتبهم يقطع من قبل الشرع بأنها ليست معاصي ولا كفراً، كما أن لهم ما يقطع بأنه كفر فيجب حينئذ التفصيل كما قال الشافعي رضي الله عنه، أما الإطلاق بأن كل ما يسمى سحراً كفر فصعب جداً. (2) "
وصدق رحمه الله تعالى، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، فلابد للناظر في هذه المسألة أن يفصل ويميز ويفرق بين السحر الذي يعد كفراً، وما ليس كذلك... وبهذا التفصيل والتمييز يزول الإشكال ويرتفع الخلاف كما سيأتي إن شاء الله.
3 – قبل أن نورد الخلاف، يجب أن نتذكر أن السحر – بمعناه الاصطلاحي – محرم بالكتاب والسنة والإجماع.(3)
ص504
قال تعالى: - {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة، آية 102].
وقال سبحانه: - {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه، آية 69].
__________
(1) المرجع السابق 4/137
(2) المرجع السابق 4/141
(3) انظر الفتاوى لابن تيمية 35/171 ، ومختصر الفتاوى المصرية ص 151 ، والإعلام للهيتمي ص 391 ، وحاشية ابن عابدين 4/240(212/280)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: - " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. (1) "
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: - " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، مصدق بالسحر (2) "
وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كان لداود نبي الله عليه السلام من الليل ساعة يوقظ فيها أهله، فيقول: - يا آل داود قوموا فصلوا فإن هذه ساعة يستجيب الله فيها الدعاء إلا لساحر أو عشار (3) (4) "
وإليك الخلاف في مسألة كفر الساحر، وأقوال العلماء فيها، والتحقيق في ذلك
ص505
قال ابن هبيرة (5)
__________
(1) أخرجه البخاري ، ك الوصايا (5/393) ح (2766) ومسلم ، ك الإيمان (1/92) ح (89)
(2) أخرجه أحمد (4/399) ، وقال الهيثمي في المجمع (5/74) : - " رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات " "
(3) العشار : - هو الذي يأخذ من أموال الناس ضريبة باسم العشر على عادة الجاهلية (عن الفتح الرباني وشرحه بلوغ الأماني لأحمد البنا)
(4) أخرجه أحمد (4/22) ، وانظر المسند (4/218) ، وقال المنذري في الترغيب (4/31) : - "رواه أحمد عن علي بن زيد عنه ، وبقية رواته محتج بهم في الصحيح ، واختلف في سماع الحسن من عثمان " وقال أحمد البنا في الفتح الرباني (15/16) : - " أخرجه الطبراني في الأوسط ، وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح إلا أن فيه على بن زيد وفيه كلام وقد وثق "
(5) أبو المظفر يحي بن محمد بن هبيرة الشيباني العراقي الحنبلي ، صاحب التصانيف الوزير العادل ، كان ديناً خيراً عاقلاً كريماً ، توفي سنة 560هـ.
…انظر: ذيل طبقات الحنابلة 1/251، وسير أعلام النبلاء 20/426.(212/281)
: - " اختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: - يكفر بذلك، إلا أن من أصحاب أبي حنيفة من فصل ذلك، فقال إن تعلمه ليتقه أو ليتجنبه فلا يكفر بذلك، وإن تعلمه معتقداً لجوازه أو معتقداً أنه ينفعه فإنه يكفر، ولم ير الإطلاق، وإن اعتقد أن الشياطين تفعل ما يشاء فهو كافر، وقال الشافعي: - إذا تعلم السحر قلنا له صف سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر بمثل ما اعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر (1) "
أما القائلون بتكفير الساحر، فنورد أمثلة من أقوالهم على النحو التالي:-
يقول ملا علي قاري الحنفي: - " ثم قول بعض أصحابنا بأن السحر كفر مؤول، فقد قال الشيخ أبو منصور الماتريدي القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ يجب البحث عنه، فإن كان رد ما لزمه في شرط الإيمان (2) فهو كافر وإلا فلا، فلو فعل ما فيه هلاك إنسان، أو مرضه، أو تفريق بينه وبين امرأته، وهو غير منكر لشيء من شرائط الإيمان لا يكفر، لكنه يكون فاسقاً ساعياً في الأرض بالفساد. (3) " ويقول الدردير المالكي: - " فقول الإمام (4) رضي الله عنه: - إن تعلم السحر وتعليمه كفر، وإن لم يعمل به، ظاهر في الغاية إذ تعظيم الشياطين ونسبة الكائنات
ص506
__________
(1) الإفصاح عن معاني الصحاح 2/226 ، وانظر المحلى لابن حزم 13/469 ، وتفسير القرطبي 2/47 ، 48 .
(2) يعني بشرط الإيمان : إقرار اللسان ، لأن القول الظاهر – عند أبي منصور – شرط لثبوت أحكام الدنيا ، والإيمان هو التصديق فحسب .
انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 7/510 وشرح العقيدة الطحاوية 2/459 .
(3) شرح الفقه الأكبر ص 220
(4) لعله الإمام مالك بن أنس رحمه الله(212/282)
إليها لا يستطيع عاقل يؤمن بالله أن يقول فيه: إنه ليس بكفر (1) "
وقال الخرشي: - " والمشهور أن تعلم السحر كفر، وإن لم يعمل به (2).
وقال ابن قدامة: - " إن تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم، قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، وروي عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يكفر (3) (4) "
وقال مرعي الكرمي: - " فساحر يركب المكنسة فتسير به في الهواء، أو يدعي أن الكواكب تخاطبه كافر، كمعتقد حله، لا من يسحر بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر، ويعزر بليغاً. (5) "
وجاء في الإنصاف: - "الساحر الذي يركب المكنسة، فتسير به في الهواء ونحوه، كالذي يدعي أن الكواكب تخاطبه يكفر ويقتل، هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب... وعنه: لا يكفر..
فأما الذي يسحر بالأدوية، والتدخين، وسقي شيء يضر، فلا يكفر ولا يقتل، ولكن يعزر. هذا المذهب...(6) "
وأما الفريق الآخر، فهذا الإمام الشافعي – رحمه الله – يقول: - " والسحر اسم جامع لمعان مختلفة، فيقال للساحر صف السحر الذي تسحر به، فإن كان ما يسحر به كلام كفر صريح استتيب منه، فإن تاب وإلا قتل وأخذ ماله فيئاً، وإن كان ما يسحر به كلاماً لا يكون كفراً، وكان غير معروف ولم يضر به أحد نهي عنه، فإن عاد عزر، وإن كان يعمل عملاً إذا عمله إذا قتل المعمول به، وقال عمدت قتله، قتل به
ص507
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/302 ، وانظر الشرح الصغير 4/146 ، وبلغة السالك 6/146.
(2) الخرشي على مختصر خليل 7/63.
(3) غالب الروايات عن الإمام أحمد تنص على قتل الساحر ، ومنها روايات تنص على كفره وروايات أخرى لا تكفره
انظر : المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد في العقيدة 2/60 ، 69 ، 101 – 107
(4) المغنى 8/150
(5) غاية المنتهى 3/344 وانظر : المبدع 9/188 ، وشرح منتهى الإرادات 3/394
(6) الإنصاف للمرداوي 10/349 ، 350 = باختصار .(212/283)
قوداً، إلا أن يشاء أولياؤه أن يأخذوا ديته...(1) "
وإذا تأملنا القولين فلا اختلاف معنوي بينهما، فعند التفصيل يزول الاشكال وتجتمع الأدلة، وكما قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله – " وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف، فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب، ولهذا سماه الله كفراً في قوله: - {إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة، آية 102]
وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر، وإن سمي سحراً فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحراً، ولكنه يكون حراماً لمضرته، ويعزر من يفعله تعزيراً بليغاً.(2) "
وقال الشنقيطي: - " التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل، فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة البقرة فإنه كفر بلا نزاع،كما دل عليه قوله تعالى: - {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها، فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر.(3) "
وللإمام النووي رحمه الله تعالى عبارة جامعة في حكم السحر حيث قال: -
" قد يكون (السحر) كفراً، وقد لا يكون كفراً بل معصيته كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا، وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب...(4) "
ص508
__________
(1) الأم 1/391 ، 392 .
(2) تيسير العزيز الحميد ص 384 = باختصار .
(3) أضواء البيان 4/456
(4) صحيح مسلم بالنووي 14/176 .(212/284)