الذات أعلى ممن اتصف بأسماء الصفات، وقد أخبر عن اتصافه باسم الحق -وهو الثابت بذاته، المثبت لغيره1- فلا يمكن أن يتغير عما ذهب إليه".
رأي القشيري والسهروردي:
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري في شرحه للأسماء الحسنى: "إن العبد لا يجوز أن يتصف بصفات ذات الحق كما زعم بعضهم: أن العبد يكون باقيا ببقاء الحق، سميعا بسمعه، بصيرا ببصره2، وهذا خروج عن الدين، وانسلاخ عن الإسلام بالكلية، وهذه البدعة أشنع من قول النصارى: إن الكلمة القديمة اتحدت بذات عيسى عليه السلام، وهي توازي قول [73] الحلولية".
وقال السهروردي في الباب الحادي والستين من عوارفه في الكلام على المحبة، ما حاصله: "إن المحبة: التخلق بأخلاق الله، ومن ظن من الوصول غير ما ذكرنا، أو تخايل له غير هذا القدر، فهو متعرض لمذهب النصارى في اللاهوت والناسوت3" وقال: "علم البقاء والفناء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو من المغاليط والزندقة4.
وحدة الأديان عند ابن الفارض:
وعلى هذا الأصل المخبث الخبيث -وهو الاتحاد بين جميع الكائنات،
ـــــــ
1 من هذا الغير؟ إن كان خلقا، فقد أقروا بأن الحق غير الخلق، وهذا نقيض دعواهم، وإن كان هو الحق نفسه، فقد أثبتوا أن ربهم يغاير نفسه، محتاج إلى من يمنحه الثبوت والوجود، وهذا أيضا نقيض دعواهم، فهم ينكرون الغيرية، ويسمونه الوجود المطلق.
2 يعني: ما يدين به الصوفية، وهو أن سمع الله وبصره عين سمع العبد وبصره، إذ الحق عندهم عين الخلق.
3 انظر ص353 عوارف المعارف ط العلامية، وقد سبق لنا بيان فرق النصارى.
4 ص362 عوارف المعارف.(191/240)
وأنه لا غير, ولا غيرية في شيء من الوجود- فرع صحة كل دين1؛ لأن الفاعل عنده إنما هو الله، فأبطل دين الإسلام القائل بأن كل ما عداه2 باطل، فصار المحامي له3 خاذلا لمن ينصره4، فإن من كفر ابن الفارض ساع جهده في نصر دين الإسلام، وتأييد النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وأغلب المحامين له يعتقدون أن دين الإسلام -القائل بضلال ما عداه- هو الحق، ويسعون في نصر من يصوب كل ملة، ويصحح كل نحلة، وهم لا يشعرون أنه قال في تصويب جميع الأباطيل. شعر.
شعره في وحدة الأديان:
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار من ألف حجة
فما عبدوا غيري، وإن كان قصدهم ... سواي، وإن لم يعقدوا عقد نيتي
رأوا ضوء نوري مرة، فتوهمو ... ه نارا فضلوا في الهدى بالأشعة
وإن خر للأحجار في البد5 عاكف ... فلا وجه6 للإنكار بالعصبية
فقد عبد الدينار معنى منزه ... عن العار بالإشراك7 بالوثنية
ـــــــ
1 هذا قول حق، فالصوفية آمنوا بوحدة الأديان -سماويها ووضعيها- لإيمانهم بوحدة الوجود، فرب الصوفية عين المسلم وعين المشرك وعين المجوسي، ولذا قالوا: الإسلام عين الشرك عين المجوسية عين البهائية، ولذا أيضا قالوا بنفي العذاب في الآخرة، إذ الإله لا يمكن أن يعذب نفسه!!.
2 في الأصل: عدا.
3 أي: لابن الفارض.
4 أي: لمن ينصر الإسلام.
5 بهامش الأصل "البد": بيت الأصنام وهو صحيح.
6 في الأصل: فلا تعد بالإنكار، وهي كما في الديوان.
7 في الأصل: في الإشراك.(191/241)
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار توراة الكليم لقومه ... يناجي بها الأحبار في كل ليلة
وما احتار من للشمس عن غرة1 صبا ... وإشراقها من نور إسفار غرتي
وقد بلغ الإنذار عني2 من بغى ... وقامت بي3 الأعذار في كل فرقة
فما زاغت الأبصار من كل ملة ... ولا راغت الأفكار في كل نحلة
قال شراحه: "إنه مهد في هذه الأبيات أعذار كل فرقة، وأن كل صاحب ملة ونحلة -وإن بطل سعيه- على نصيب من الهدى، فعباد النار غير مؤاخذين من جميع الوجوه، بل من وجه دون وجه، ولا لوم على أحد، بل لكل واحد وجه، ومحمل خير يحمل عليه، فكل يعمل على شاكلته، وكذا عابد الأصنام. قالوا: لا تنكر عليه، فإن أنكرت، لم يكن إنكارك إلا تعصبا؛ لأنك لا تنكر على المقبل على الدنيا، مع أنه أقوى شركا من عابد الصنم, وقالوا: كما أن القرآن نور المساجد، فكذلك الإنجيل نور المعابد. وقالوا نحو هذا في التوراة، وفي عابد الشمس: أنه بإثباته عين الألوهية لم يكن ناقصا، فقام له عذر من وجه من الوجوه. وذلك كاف للكريم" ولا يقول بشيء من هذا مسلم4.
معاندته للتوحيد الحق:
وقد عاند التوحيد الحق في قوله:
ـــــــ
1 في الأصل: غيره.
2، 3 في الأصل: مني-ب.
4 بل لا يقول به يهودي أو نصراني، والبهائية على خبث معتقدهم، ورغم أنهم امتداد للصوفية لا يقولون بهذا، وإنما القائل به في كل أمة هم الصوفية.(191/242)
ولو أنني وحدت ألحدت1 وانسلخـ ... ـت من آي جمعي مشركا بي صنعتي
قالوا في شرحه: "لو أنني أثبت وحدة الذات الحق المطلوب المحبوب، ونفيت كثرة نسبه عنه، كما أثبتت ونفت المنزهة2، وبعض الفلاسفة، لكنت مائلا عن سنن الاستقامة؛ لأني أثبت لنفسي وغيري وجودا يقابل وجود الحق" وهذا عين الإلحاد والشرك، فليس وراء هذا كفر، فإن كان هذا مما يفهمه المنازع3، كما يفهم الذاب عن الشارع، فقد علم منابذته لله، ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كان لا يفهمه، ويدعي أن له معنى حسنا، فيكفيه أنه يخوض بالجهل فيما هو أخطر الأشياء، وهو أصول الدين الذي في الزلة فيه ذهاب الروح والدين، وهو معاند بمنازعته لقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66], {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونٌَ} [البقرة: 168, 169]، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
ـــــــ
1 يرى في التوحيد الحق الذي جاء به الرسل جميعا عن الله إنه إلحاد، وهذا هو دين الصوفية سلفهم وخلفهم، ألا تسمع عواء الصوفية تحت قباب الطواغيت، وهم يقيئون صلوات ابن بشيش التي يقول فيها: "زج بي في بحار الأحدية، وأنشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع، ولا أجد, ولا أحس إلا بها" يرون توحيد الرسل أوحالا من الطين، ويدعون الله أن ينشلهم منها؟ ومتى يدعون، والليل لما يهتك كله السحر عن مهده!! هذا لأن التوحيد الحق يثبت لله وحده الربوبية والإلهية، أما الصوفية فيدعون أن يكون حتى الدراويش منهم أربابا وآلهة، وهذا معنى قولهم: "وأغرقني في عين بحر الوحدة" بلا يريدون أن يكونوا وجودا مطلقا "وزج بي في بحار الأحدية".
2 الذين ينزهون الله سبحانه عن مشابهة خلقه، ويثبتون له سبحانه، ما أثبت لنفسه من صفات.
3 أي: المنازع في كفر ابن الفارض.(191/243)
وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الاعراف: 33] {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36].
ويكون1 تابعا لمجرد العصبية، وحمية الجاهلية، مع أنك لا تجد من يحامي عنه إلا منهمكا في الفسوق والبغي والعقوق، أو قريبا منه، تبعا له في قوله:
دعوته إلى المجون
وينبيك عن شأني الولدي وإن نشأ ... بليدا بإلهام كوحي وفطنة
ويعرب عن حال السماع بحاله ... فيثبت للرقص انتفاء النقيصة
ولا تك باللاهي عن اللهو جملة ... فهزل الملاهي جد نفس مجدة
وإياك والإعراض عن كل صورة ... مموهة، أو حالة مستحيلة
قالوا في شرحه: "إن الطفل يبين بحاله من الإصغاء إلى المناغي عن حال أهل السماع والرقص، فيثبت بهذا انتفاء النقص خلافا لما قاله المحجوبون، ولما كان سماع الطفل ورقصه بريا عن الشهوة والرئاء2 كان معربا عن صحة حال سماع الواجدين، ورقصهم3 وهزل الملاهي جد نفس مجدة، فلا تكن غافلا.
ـــــــ
1 أي: المنازع في كفر ابن الفارض، وهو معطوف على قوله قبل: يخوض بالجهل.
2 في الأصل: الرئا.
3 يدعو ابن الفارض -متوهج المجون- إلى إلهاب شهوات النفس، واستشارة غرائزها الجامحة بالرقص العربيد والغناء الطافح بالشهوة، ويلح في هذه الدعوة الآثمة، إذ الرقص في دينه معارج الروح إلى أفق رحموت ملكوت الأحدية!! بل يوقن أن الرقص والغناء فيض إلهي يجب أن تتلقاه أرواح العارفين بالبهجة والنشوة!! وأمس كان يدعو عبد المرأة والشهوات إلى مثل هذا فيستنكر منهم هذا الإثم بعض العلماء، وتثور بها بعض الجماعات الدينية، بل -واعجب معي بعض الصوفية، غير أنهم- إذا قيل لهم: إن ابن الفارض =(191/244)
عنه، فإنه فائض من الأسماء الإلهية، وما يفيض من الحق إلا ما هو حق لا باطل.
الباطل إله الصوفية:
ولذلك قال ابن عربي "لا تنكر الباطل في طوره، فإنه بعض ظهوراته"1 فقد أفاد هذا أنهم يعتقدون: أن الباطل هو الله، ولو لم يكن في هذا إلا أنه2 يدعو إلى البطالة والخلاعة والضلالة، لكان كافيا في استهجانه [75] ومنابذته للدين.
وقد نقل شيخنا حافظ العصر ابن حجر في لسان الميزان أنه كان لهذا الناظم جوار في البهنسة موظفات للغناء والضرب بآلات الملاهي، وكلما ماتت واحدة منهن اشترى بدلها أخرى، وكان يذهب إليهم في بعض الأوقات، فيسمعهن، ويرقص على غنائهن، ويرجع3.
المناضل عن ابن الفارض:
فالمناضل عنه مسارع إلى شكله، ومضارع لمن كان فعله كفعله، كما قال علي
ـــــــ
= شيطان هؤلاء، وداعيتهم إلى التلطخ بهذه الردغة, أقلقوا مضاجع الليل بالاستغفار أن ذكر سلطان العاشقين أمامهم بسوء!! في حين أن دعوته أدهى شرا ما يدعو إليه المجان عبيد الغواني، فهو يصور الرقص تنفث به المرأة سم الجريمة، والغناء تتجاوب معه أحط الغرائز، والعشق يرويه دم الأعراض، يصور كل هذه الموبقات على أنها سبحات الإشراق الأسمى, وفيض إلهي يصل العارف بالملأ الأعلى يجعل اقتراف ذلك الإثم مظاهر تبتل، ومحراب تأله وتعبد، على حين يصفها المجان بأنها علائم حضارة، ودلائل مدنية! فأي الدعوتين أطغى شرا، وأخبث كفرا؟!
1 أي: بعض تعينات الإله الصوفي.
2 يعني: ابن الفارض.
3 ذكر الحافظ في اللسان: أنه نقل هذا عن كتاب التوحيد للشيخ عبد القادر القوصي.(191/245)
رضي الله عنه بعد قدومه الكوفة بثلاثة أيام: "قد عرفنا خياركم من شراركم، قالوا: كيف؟ وما لك عندنا إلا ثلاثة أيام، قال: كان معنا خيار وشرار، فانضم خيارنا إلى خياركم، وشرارنا إلى شراركم" وحديث: "الأرواح جنود مجندة" 1 الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أعدل شاهد لذلك ويتعين على كل مسلم إنكار ما أنكره الشرع من مثل هذا.
قوله يوجب إراقة دمه:
وقد اعترف هو أن ما قاله موجب لإراقة الدم، وأنه قاله في الصحو والإفاقة لا في السكر والجذبة، فقال:
وثم أمور ثم لي كشف سترها ... بصحو مفيق عن سواي تغطت
بها لم يبح من لم يبح دمه وفي الإ ... شارة معنى ما العبارة حدت
قالوا في شرحه: "أي انكشفت لي أمور وأسرار بواسطة الصحو الذي حصل لي بعد السكر والإفاقة، وهي متغطية عن غيري من المحجوبين، ولم يظهر تلك الأسرار إلا من أباح دمه للمحجوبين2، فإنهم يقتلون العارفين الذين باحوا بأسرار التوحيد3" وقد صرح بأن ما يقوله حقيقة لا مجاز، فقال:
عليها مجازي سلامي، فإنما4 ... حقيقته مني علي تحيتي
ـــــــ
1 نص الحديث: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" ولم يروه الشيخان -كما ذكر- عن أبي هريرة، وإنما رواه عنه مسلم وأبو داود، أما البخاري، فرواه عن عائشة رضي الله عنها.
2 يعني: المعتصمين بكتاب الله، والمستمسكين بظواهر الشريعة المؤمنين بالله وحده ربا، وبالخلق عبيدا لله رب العالمين.
3 أسرار التوحيد عندهم: اعتقاد أن الله سبحانه عين خلقه، وعن هذه المرتبة يقول الغزالي: إنها سر، وإفشاء سر الربوبية كفر.
4 في الأصل: لإنما، وهي في الديوان كما أثبتها.(191/246)
قال الشراح: "أي: على حضرة المحبوبة سلامي في قولي: التحيات إلى آخره؛ مجاز لأنها عيني، لا غيري، فحقيقة السلام مني، وإلي" وقد مثلوا كون التشخص مجازيا، والإطلاق حقيقيا بأن الروح الكلي الذي هو الإله عندهم كالبحر، والأشخاص الناشئة عنه مثل البخار الصاعد من صورته البخارية ثم في صورة السحابية، ثم يرجع إلى الماء، ويختلط بالحبر، فيصير إياه، وهو بخار وسحاب حقيقة، وتلك الصورة العارضة مجاز1!!
فأين هذا الانهماك في اللذة قولا وفعلا، والانقياد للهوى عقدا وحلا، من رتبة الولاية التي يدعيها المتعصبون له، التي من شرطها الإعراض عن الانهماك في اللذات الدنيوية ومن رتبة الولاية التي يدعيها هو؟
ـــــــ
1 مراده من هذا: إثبات أن المغايرة بين الحق والخلق مغايرة وهمية، أو اسمية، أو صورية، ويشبهها بالمغايرة بين الماء المطلق، وبينه في حال تعينه بصورة بخارية, أو سحابية. فالكل حقيقة واحدة، هي الماء، ولكنها تعينت مرة في صورة بخار، وأخرى في صورة سحاب، وكذلك الذات الإلهية عندهم، فإنها هي وذوات الخلق واحد في الحقيقة، كثير بالاعتبار، فهوية الحق قبل التعين تسمى وجودا مطلقا، أو حقا، ثم سميت خلقا بعد التعين، فهما واحد في الحقيقة، غيران بالنسب والإضافات. يقول التلمساني:
البحر لا شك عندي في توحده ... وإن تعدد بالأمواج والزبد
فلا يغرنك ما شاهدت من صور ... فالواحد الرب ساري العين في العدد
وأقول: هذا المثل حجة على الصوفية، فالماء لا يصير بخارا من نفسه، بل بتأثير شيء آخر خارج عنه يخالفه في حقيقته: هو الحرارة، وكذلك في صيرورته سحابا، فالمؤثر في هذه الصيرورة شيء غير الماء يخالفه في الحقيقة، فالمثل إذا يثبت وجود غيرين هما غير الماء حقيقية وصورة. والصوفية ينكرون الغيرية والكثرة، والمثل كما رأيت يثبتهما، ويثبت أيضا أن الماء في صيروراته يخضع لمؤثر خارجي، وهذا يستلزم كون رب الصوفية يتأثر بغير حقيقي خارجي. فما ذلك المؤثر، أو من هو؟(191/247)
ومن هنا تعلم أنهم1 لا أرضوه، ولا أرضوا الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أحدا من المؤمنين، فإنه هو لا يرضى إلا أن يكون خليعا، وهم يقولون: متقيد، وهو يقول: أن ما قاله مبيح للدم، وهم يقولون: لا يبيحه، وهو يقول: إنه عاقل صاح، وهم يقولون: مجنون [76] سكران، وهو يقول: إن ما قاله: حقيقة، وهم يقولون: مجازا2، ولا يقدرون على تخريجه على المجاز وهو لا يرضى إلا أن يكون هو الله، وينهى عن ذكره بغير.
لماذا يزجر عن تكنيته بكنية، أو تلقيبه بلقب
وألغ الكنى عني ولا تلغ أكلنا3 ... بها، فهي من آثار صيغة صنعتي4
وعن لقبي بالعارف ارجع فإن ترى التـ ... ـنابذ بالألقاب في الذكر تمقت
قال شراحها: "أي: أسقط الكنى عني، ولا تستعمل اللغو في إطلاقها على حال كونك عييا5 عن الكلام في تعريف مقامي، فإنها من آثار مصنوعاتي، إذ الإنسان صاغها، وهو من جملة مصنوعاتي التي أوجدتها، وارجع عن إطلاقك علي اسم العارف؛ لاتحادي بذات من لا يطلق عليه هذا الاسم".
فلم يدع جهدا في زجرهم عن تسميته بالعارف، ولم يدع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبسا في أمرهم بتكفيره، وهم6 يعصون كلا من الأمرين,
ـــــــ
1 يعني: شارح التائية.
2 الحق أن أكثر الشراح للتائية يدينون بأن قول ابن الفارض في الاتحاد والوحدة حقيقي، لا مجازي. والقائلون بالمجاز قلة من منافقي الصوفية خشية على السحت الذي يأكلون به مال اليتامى والأيامى.
3 يقصد: الإنسان.
4 لا تلغ: لا تكلم باللغو. والألكن: الثقيل اللسان في التكلم.
5 في الأصل: عيبا.
6 أي: اتباع ابن الفارض.(191/248)
ولا يرجعون عن شيء من المنهيين، فيا خسارتهم بما ضروا به أنفسهم فيما لا ينفعهم، كما قال تعالى فيمن يعبد الله على حرف: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 12، 13].
زعمة أنه عرج إلى السماء:
وادعى العروج إلى الله، والوصول إلى مقام: أو أدنى،1 فقال:
ومن أنا إياها، إلى حيث لا إلى ... عرجت، وعطرت الوجود برجعتي
قالوا في شرحه: "عرجت من مقام: أنا إياها -وهو ابتداء الاتحاد- ومن قولهم: أنا الحق2، ولا إله إلا أنا فاعبدني3، إلى أن وصلت إلى مقام لا نهاية فيه، وعطر الوجود برجوعه، لاتصافه بصفات الرحمن4، واتحاده. بذات الملك الديان".
ـــــــ
1 يقرر المؤلف ما زعمه ابن الفارض من العروج إلى السماء، ووصوله إلى مقام "أو أدنى" المشار إليه بقوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} ويعني به ابن الفارض: الدنو من الله، لا من جبريل كما هو الحق. والكمشخانلي الصوفي يشرح هذا المقام في كتابه: جامع الأصول في الأولياء، فيقول: "هو مقام القرب الأسمائي باعتبار التقابل بين الأسماء في الأمر الإلهي، المسمى: بدائرة الوجود، كالإبداء والإعادة والعروج والفاعلية والقابلية، وهو الاتحاد بالحق مع بقاء التمييز والاثنينية الاعتبارية. هناك الفناء المحض، والطمس الكلي للرسوم كلها" ومن هنا تدرك لم ادعى ابن الفارض أنه وصل إلى هذا المقام ثم رجع منه، إذ لم يرتض حتى الاثنينية الاعتبارية، أو بقاء التمييز بينه وبين الله سبحانه بوجه ما. وكيف يرتضيه وهو يفتري أنه هو الله ذاتا وصفة وخلقا؟.
2 كفر الحلاج.
3 قول طيفور الشهير بالبسطامي عن نفسه.
4 يزعم أنه عاد من مقام أو أدنى -وقد ذكرت مرادهم منه- رحمانا. =(191/249)
والبيت الذي بعده أشد كفرا1، ثم قال:
ولي عن مفيض الجمع عند سلامه ... علي بأو أدنى إشارة نسبة
قالوا في شرحه: "إنه لما فني في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بقي به حصة بمشاركته في قبول عين السلام من حيث عين ذلك المقام -وهو مقام: أو أدنى-
ـــــــ
= وقد اختاروا تسميته بهذا الاسم بالذات، لأن الرحمن عندهم: "اسم الحق باعتبار الجمعية الأسمائية التي في الحضرة الإلهية: الفائض منها الوجود وبقية الكمالات على جميع الممكنات" فهو مرادف للوجود المطلق، وقد سبق البيت الذي نقله المؤلف عن ابن عربي من الفصوص، والذي يقول فيه:
فكن حقا، وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا
وهكذا يتغالى الصوفية في الزندقة حتى ليأبى الواحد منهم أن يقال عنه: إنه إله تعين في صورة خلقية، ولا يحب إلا أن يقال عنه: إنه هو الوجود المطلق، أو هوية الحق قبل أن تتعين في شيء ما، حتى في الحقيقة المحمدية.
1 هذا البيت هو.
وعن أنا، إياي لباطن حكمة ... وظاهر أحكام أقيمت لدعوتي
ويريد الزنديق بهذا: أنه نال كل مراتب التوحيد، حتى بلغ المرتبة الأخيرة منه فالأولى: فناء عين التفرقة وبقاء أثرها. وصاحب هذه المرتبة يقول: أنا الحق, أو أنا الله. ولكن هذه قضية ذت محمول وموضوع، والحمل يستلزم الاثنينية نعم هو حمل صوري لأن المحمول عين الموضوع. ولكن اختلاف لفظيهما يوهم الغيرية. لذا يرفض الزنديق هذه المرتبة. الثانية: فناء التفرقة عينا وأثرا.
وصاحب هذه المرتبة يقول: أنا أنا. ولكن ما زال ثم قضية فيها محمول وموضوع ولذا يرفض الزنديق هذه المرتبة أيضا. الأخيرة: وهذه لا تسعف فيها العبارة، ولا تومئ إليها إشارة، وغاية ما يستطيع العارف عندهم هو أن يقول عن نفسه: أنا فحسب، غير مدرك بإدراك ما, ولا شاعر بشعور ما: أن هنالك ما يمكن أن يحمل عليه، أو يوضع له، إذ ما ثم غير ولا سوى. هذا هو مراد الزنديق. غير أنه يزعم أنه رضي وتنزل إلى مرتبة التعين في الخلق، ليبرز مكنون قدرته، وإمكانيات وجوده المطلق الأول.(191/250)
فإنه جل جناب هذا المقام من أن يطلع عليه إلا واحد بعد واحد، فالواحد السابق هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والواحد اللاحق به:1 أنا إن شاء الله تعالى من جهة غرقي في لجيته" ا. هـ.
وقال عياض في أواخر الشفاء: وكذلك -أي: يكفر- من ادعى مجالسة الله تعالى، والعروج إليه، ومكالمته، أو حلوله في أحد الأشخاص، كقول بعض المتصوفة2.
لا شيء على من يكفر ابن الفارض:
وأما من أنكر عليه لأمثال ما رأيته من الألفاظ الصريحة بالنص في الكفر، فلا شيء عليه بإجماع المسلمين بقاعدة من كفر مسلما متأولا، فلا أضل ممن ترك طريقا مضمون السلامة، واتبع طريقا أخف أحواله أنه مظنون العطب والملامة [77] ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، على تقدير تسليم أن يكون لهم فيما هم فيه مصلحة، ولي فيه -والله- مصلحة بوجه، فقد اعترف كل من يحامي له أن ظاهر كلامه منابذ للكتاب والسنة, وإلا لما احتاجوا إلى ادعاء تأويله، مع أن الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ما سلك فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجه3, قد أنكر التأويل لغير كلام المعصوم4، ومنع منه رضي الله عنه، وأرضاه، وأهلك كل
ـــــــ
1 يعني: ابن الفارض لأنه يتكلم بلسانه.
2 ص298 جـ2 الشفاء ط تركيا.
3 إشارة إلى الحديث المتفق عليه بين البخاري ومسلم، وفيه: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لعمر: "إيها يابن الخطاب! والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك" والفج: الطريق الواسع، أو المكان المتخرق بين الجبلين.
4 بل ما ثبت عن عمر، ولا عن غيره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان =(191/251)
من خالفه وأرداه، وبسيف الشرع قتله وأخزاه، فقال فيما رواه عنه البخاري في كتاب الشهادات من صحيحه: "إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن الوحي قد انقطع, وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر خيرا أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، والله يحاسبه في سريرته. ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة" وقد أخذ هذا الأثر الصوفية، وأصلوا عليه طريقهم. منهم صاحب العوارف استشهد به في عوارفه، وجعله من أعظم معارفه، فمن خالف الفاروق رضي الله عنه كان أخف أحواله أن يكون رافضيا خبيثا، وأثقلها أن يكون كفارا عنيدا، وهذا الذي سماه الفاروق رضي الله عنه: ظاهرا هو الذي يعرف في لسان المتشرعة بالصريح، وهو ما قابل النص والكناية والتعريض، وقد تبع الفاروق رضي الله عنه على ذلك -بعد الصوفية- سائر العلماء، لم يخالف منهم أحد كما نقله إمام الحرمين1 عن الأصوليين كافة، وتبعه الغزالي، وتبعهما الناس. وقال الحافظ زين الدين العراقي أنه أجمع عليه الأمة من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل الاجتهاد الصحيح، وكذا قال الإمام أبو عمرو ابن عبد البر2 في التمهيد، وأصله إمامنا الشافعي رضي الله في كتاب
ـــــــ
= تأويلهم لشيء ما من كلام المعصوم، وإنما كان الجميع يفهمون ما جاءهم عن الله ورسوله بمعانيه التي هي له في لغة العرب, لا بما اصطلحت عليه الفلسفة أو التصوف أو الكلام. فما عرف شيء من هذه الضلالات، ولا في عهد أصحابه. وقريب من الذكر تلك الضربات الهادية الشافية التي أنزلها عمر على رأس من جاء يسأله عن معنى الذاريات، إذ استشعر من وراء السؤال فكرا يهمس فيه الشك.
1 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي الجويني من زعماء الأشاعرة. ولد سنة 419هـ ولقب بإمام الحرمين. لأنه جاور بمكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي. توفي سنة 478هـ.
2 هو يوسف بن عبد البر بن محمد حافظ المغرب. قال عنه ابن حزم "لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله. ولد سنة 368هـ وتوفي سنة 463هـ".(191/252)
الرسالة لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم أن يكون ألحن1 بحجته، فأقضي له" الحديث رواه الستة عن أم سلمة رضي الله عنها في أمثال كثيرة, وقال الأصوليون: "كافة التأويل -إن كان لغير دليل- كان لعبا، وما ينسب إلى بعض المذاهب من تأويل ما هو ظاهر في الكفر فكذب أو غلط منشؤه سوء الفهم، كما بينت ذلك بيانا شافيا في غير هذه الرسالة، وإنما أولنا كلام المعصوم2؛ لأنه لا يجوز عليه الخطأ، وأما غيره، فيجوز عليه الخطأ سهوا وعمدا.
المتوقف في تكفير الصوفية:
ولا يسع أحدا أن يقول: أنا واقف أو ساكت لا أثبت، ولا أنفي؛ لأن ذلك يقتضي الكفر؛ لأن الكافر من أنكر ما علم من الدين بالضرورة. ومن شك في كفر مثل هذا كفر [78] ولهذا قال ابن المقري في مختصر الروضة: "من شك في اليهود والنصارى وطائفة [ابن3] عربي فهو كافر".
وحكى القاضي عياض في الباب الثاني من القسم الرابع من الشفاء: "الإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود، وكل من فارق
ـــــــ
1 أي: أفطن لها، ونص الحديث: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع،، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار" فأين من هذا الهدى والحق ضلال الصوفية وباطلهم. إذ يزعمون أن حقائق الأشياء تنكشف لهم على ما هي عليه، وأنهم يتصرفون في البواطن، وأن شيوخهم يتكلمون عن سرائر دراويشهم وهم ساكتون؟
2 هذا على دين من يأخذون بالتأويل ممن يجعلون العقل حاكما على النقل، وقد سبق الرد على هذا.
3 ليست بالأصل والسياق يوجبها.(191/253)
دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم, أو شك. قال القاضي أبو بكر: لأن التوقيف والإجماع [اتفقا1] على كفرهم، فمن وقف في ذلك، فقد كذب النص أو2 التوقيف، أو شك [فيه3] والتكذيب، أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر4" ا. هـ.
وقال الإمام حافظ الدين النسفي في كتابه العمدة في أصول الدين: "التوقف باطل؛ لاقتضائه الشك، والشك فيما يفترض اعتقاده كالإنكار" ومن العجب أنهم يعاندوننا، لأننا لا نؤول لمن يجوز عليه الزلل، وينصرون من يتعصبون له، وهو5 لا يؤول المتشابه من كلام المعصوم، بل يجريه على ظاهره6 خلافا لإجماع الأمة7 مع تأدية ذلك إلى إبطال الشرع، ويدعون
ـــــــ
1، 3 ساقطتان من الأصل، وأثبتهما عن الشفاء.
2 في الأصل: و. وهي في الشفاء كما أثبتها.
4 ص267جـ2 الشفاء.
5 يعني: ابن الفارض.
6 كان واجبا أن يقول: بل يجريه على ما يشهد الحس له من مظاهر بالنسبة إلى الخلق، أو على ما يشاء الهوى الصوفي، فابن الفارض -ككل صوفي- لا يقترف هذا، فحسب، بل يجرد اللفظ من دلالته ومعناه في العربية، ويفتري له معنى يهدف به إلى مساندة زندقته، وأحيانا يفصل بعض أجزاء الكلام عن بعض كمن يفصل "لا إله" عن "إلا الله". وأحيانا يقيس شأن الخلاق الخبير على شأن خلقه، ويحكم على الرب بما يحكم به على العبد، ومثاله ما افتراه من أن الله سبحانه يتلبس بصورة الخلق قياسا على شأن جبريل حين ظهر بصورة دحية والأعرابي. هذا بعض ما يمسخ به الصوفية وجه الحق!!
7 قوله هذا يجافي الحق، ويجانب الصواب، فالإجماع الذي يعتد به -إن كان لا بد مع النص إجماع- هو إجماع الصحابة والتابعين. وقد أجمع هؤلاء جميعا -ومن بعدهم الأئمة المهتدون- على إجراء ما تلقوه عن الله سبحانه ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ظاهره، أي: على ما له من دلالة ومعنى في العربية، إذ لا يراد بالظاهر غير هذا، أما أن يراد بالظاهر كيفياته الحسية، فهذا ليس من دين أهل الحق، ولا من الحق في شيء. أقول هذا لأن البقاعي يعني بالمتشابه آيات الصفات وأحاديثها، وهذا رأي ساقط الاعتبار، لم يدن به إلا عبيد الفلسفة ومخانيث الكلام.(191/254)
الإسلام، فما أحقهم بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 88، 89] إلى هذا من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلام حملة1 شريعته من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم دعوتا {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 22].
الرأي في شعر ابن الفارض:
وأما المحامون له، فإنهم داعون إلى شاعر لم يؤثر عنه قط شيء غير ديوان شعر لم يمدح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه بقصيدة واحدة، بل هو كفر وضلالة وخلاعة وبطالة، وقد علم ذم الله، وذم رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للشعر والشعراء إذا كان حالهم مثل هذا، كما قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 224-227] وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما رواه الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا [حتى يريه2] خير من أن يمتلئ شعرا3" وذلك إذا انفرد بالشعر
ـــــــ
1 في الأصل: جملة، والسياق يوجب ما أثبته.
2 يرى من الورى، وهو داء يفسد الجوف. وهذه الزيادة لم ترد في رواية أبي داود. وهي كذلك ساقطة من الأصل.
3 لم يروه الستة عن بن عمر، وإنما رواه البخاري عنه، ورواه الشيخان =(191/255)
كهذا الرجل، فإنه ليس شيء ينفع الدين أصلا، وليس له من الشعر إلا ما عادى به الإسلام، وأهله، وأذاهم غاية الأذى، وأوقع به بينهم1 العداوة والبغضاء؛ لأنه ملأه كفرا وخلاعة، وصدا عن الدين وشناعة، فقد حاد به الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [ 79] وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]. فنحن في غاية السلامة، إن شاء الله تعالى، لما قدمت. وأما من يحامي عنه، فهو دائر بين اعتقاد ما تضمنه كلامه، وذلك هو الكفر الموجب للسيف في الدنيا، والخلود في النار في الأخرى، وبين الذب2 عنه مع الجهل لما قال، وذلك موجب لموادة من حاد الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الموجبة لعداوتها الجارة إلى كل شقاء.
ـــــــ
= وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة. والمقصود والله أعلم: الشعر الذي يمجد الرذيلة، ويفسد الخلق والدين، وينابذ القيم الروحية، ويصرف النفس عن الحق من الكتاب والسنة. أما الشعر الذي يستلهم الإيمان والحكمة، ويصور المثل العليا، ويمجد قيم الحق والخير والمحبة، ويستحث النفوس على الجهاد في سبيل الحق. هذا الشعر من هواتف النفس المؤمنة، وليس بذي مذمة ولا مبغضة، ودليلي قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من الشعر حكمة" رواه البخاري وأبو داود عن أبي بن كعب، ورواه الترمذي عن ابن مسعود، وأيضا ما روته عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما, ينافح عن رسول الله, ثم يقول: "إن الله يؤيد حسانا يروح القدس ما نافح -أو فاخر- عن رسول الله" أخرجه البخاري -واللفظ له- وأبو داود والترمذي، كلهم عن عائشة رضي الله عنها.
1 يعني: بين المسلمين.
2 في الأصل: الذنب. والسياق يوجب ما أثبت.(191/256)
تواتر الخبر بتكفير العلماء له:
هذا مستندنا، وهو قطعي1 من جميع وجوهه، تواتر لنا تواترا معنويا نسبة العلماء له إلى الكفر، وتواترا حقيقيا أن التائية نظمه، ونحن على القطع بأنها صريحة في القول بالاتحاد بالذات والصفات، وما يتبع ذلك من تصويب جميع الملل والنحل إن لم يكن نصا فيه، وعلى القطع بأن ذلك كفر، والقائل به كافر، وقد انتقيت من التائية ما يقارب أربعمائة وخمسين بيتا شهد شراحها البررة والكفرة أن مراده منها صريح الاتحاد، وما تفرع عليه من تصويب جميع الأباطيل في مجلد سميته الفارض2.
ـــــــ
1 في الأصل: قطيعي. وهو خطأ في النحو.
2 ورد بهامش الأصل ما يأتي: "قال المصنف رحمه الله في كتابه: الفارض في تكفير ابن الفارض: ثم إنه لا ينبغي الاغترار بما قاله ابن بنته في ديباجة الديون فإنه رجل مجهول لا تقبل روايته، ولا سيما وهو شهد بحده، ولا سيما إذا كانت شهادته مخالفة بشهادة الأئمة بكفره، وعلى تقدير صحة ذلك لا يدل على صلاح إلا إن كان الجاري ذلك على يده متابعا للكتاب والسنة، فإن الخوارق ربما كانت لكفره امتحانا من الله لعباده، وينبغي لكل مسلم أن يجعل قصة الدجال نصب عينيه، فإنه يظهر على يديه من الخوارق شيء كثير مع علمنا بأنه أكفر الكفرة، فأي لبس بعد هذا؟ مع أنه قد كثر ضلال الضلالة بمن ظهر على يديه شبه خارقة، وقد علم أن ذلك قد يكون من الشياطين، وقد ضبط العلماء -ولله الحمد- أمر الخوارق وبينوا حقه من باطله، فمن ظهر على يده شيء من الخوارق. وكان عارفا بالله وصفاته مواظبا [على] الطاعات. مجتنبا للمعاصي. معرضا عن الانهماك في الـ[ملذات] والشهوات. فذلك ولي. والخارق كرامة. وما كان على يد مخالف للشرع فهو إهانة له بالاستدراج له, و[لا] يغتر به. هذا الدجال نشهد أنه أكفر الكفرة مع أنه تظـ[هر على] يده الخوارق العظيمة. منها مسير جبال الثريد معه وو.. الأرض كذلك. ومنها تمثل الشياطين بصور أقارب من أرا[د الله] فتنته يدعونهم إلى متابعته. ومنها. أنه يقول للشمس: قفي [فتقف] ويقول لها: سيري =(191/257)
لا عبرة بقول حفيد ابن الفارض:
ولا مستند لمن ينابذنا إلا ما أثبته ابن بنته في ديباجة الديوان من الزور والبهتان، وهو نكرة لا يعرف، ولو أنه شهد على أحدهم بدينار لم تقبل شهادته حتى يعدله العدول الموثوق بهم، ولا معدل له، ولا لجده، ممن هو خبير بحالهما أصلا، فصار المحامون له لا مستند لهم إلا سند قريش في منابذة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في التوحيد حين قالوا: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًَّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص: 7]، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].
وكل من هكذا يوشك أن يقول عند سؤال الملكين في قبره ما قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن المنافق، أو المرتاب: "هاه [هاه]1. لا أدري. سمعت
ـــــــ
= فتسير. ويقول للسماء: أمطري. فتمطر. وللأرض: أنبتي: فتنبت. إلى غير ذلك ممن يضل الله به من [يشاء من] عباده، وأعظمه إحياء ميت" انتهى من هامش الأصل: وما بين هذين [ ] ساقط من الأصل، ورأيت السياق يوجبه فأثبته. وأقول: حديثه عن الخوارق تظهر على يد الأولياء حديث القرون التي كانت تعيش تحت سطوة التهاويل، إنما الكرامة هي أن يكون الله مع عبده المؤمن نصرا وتأييدا وحفظا.
1 وردت مرة واحدة في الأصل، بيد أنها ذكرت مرتين في الحديث الذي رواه أبو داود عن البراء بن عازب "وهاه هاه" كلمة تقال في الضحك وفي الإيعاد، وللتوجع. وهو أليق بمعنى الحديث كما قال المنذري، وحديث السؤال في القبر أخرجه -غير أبي داود- الشيخان وأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان وأبو حاتم.(191/258)
الناس يقولون شيئا، فقلته" على أنه لو ثبت ما في ديباجة الديوان لم يفد ولاية، فإن العلماء قسوا الخوارق إلى معجزة وكرامة، ومعونة وإهانة. وأشار إلى ذلك الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر، انظر إلى ما ورد للدجال من الخوارق1، وهو أكفر الكفرة.
بم يكون الإنسان وليا؟:
إنما يفيد الولاية بذل المجهود في متابعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن بذل جهده في [80] اتباع السنة، قلنا: إنه ولي، فإن خيل بعض المحلولين منهم أحدا ممن ظهر له الحق بقوله: التسليم أسلم!! فليقل له: هذا خلاف ما أمر به صاحب الشرع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكتاب والسنة: من جهاد أعداء الله، والبغض في الله، من ذلك حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المتفق عليه في تسليته عن التخلف عن أصحابه بمكة: "ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون" على أن التسليم لأهل الشريعة وأهل الطريقة2 المجمع عليهم الذين رموا هذا الرجل بالكفر، ورأسهم الفاروق رضي الله عنه بمنعه من التأويل أجدر بإيجاب السلامة. وقد قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهما:
ـــــــ
1 ما سيظهر على يد الدجال أخبرنا به المعصوم, وإنه لفتنة سيبتلي بها الله عباده ويميز بها بين المؤمن والكافر، أما ما يزعمه هؤلاء، فلم يروه إلا كذاب، أو منافق، أو صوفي، وإنها لشعبذة يقترفها أولئك ابتغاء سلب مال أيم، أو أرملة، أو يتيم! ولا ينخدع بها إلا النوكى مخابيل الأحلام.
2 لا. بل الواجب هو الاعتصام بالكتاب والسنة، والتسليم لهما، وتأييد كل من يذود عنهما، ثم من أهل الطريقة؟! أليسوا هم أولئك الأدعياء الكذبة الذين ابتدعوا هذه البدع الصوفية كلها، تأييدا للمتآمرين على الإسلام من مجوس ويهود ونصارى؟!(191/259)
"إن لم تكن الفقهاء أولياء لله، فليس لله ولي1" نقله عنهما النووي في تبيانه عن الخطيب البغدادي، ودليله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28], {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]. فقد أرشد الله تعالى إلى أن الولي هو العالم، وأن العالم هو العامل بعلمه.
دفاع وادعاء:
وإن قالوا: أنت تبغض الصوفية، فقل: هذه مباهتة. إنما أبغض من كفره من أجمعنا على أنهم صوفية، مثل الجنيد، وسري2 وأبي يزيد3،
ـــــــ
1 ما من شك في أن الإمامين الجليلين يقصدان بالفقيه: ذلك المؤمن العالم الذي يستمد فقهه من الكتاب والسنة، ويبذل الجهد في سبيل دعوة المسلمين إلى اتباع الكتاب والسنة، لا ذلك الذي تدفعه عصبية حمقاء إلى عبادة مذهب خاص، ودعوة الناس إلى الاقتداء بغير رسول الله, والتدين بكتاب غير كتاب الله سبحانه مثل هذا هو من يسميه الناس اليوم وقبل اليوم بالفقيه، وإنه لفقيه ضلالة، وداعية إلى اتخاذ عبيد الله أربابا من دون الله.
2 هو سري بن المغلس السقطي، خال الجنيد. ومن قوله: "كل ما أنا فيه فمن بركات معروف الكرخي" توفي سنة 257هـ, فهل قائل هذه الكلمة يعتبر مسلما؟.
3 هو طيفور بن عيسى البسطامي المتوفى سنة 261هـ ومن قوله: "سبحاني ما أعظم شاني، تالله، إن لوائي أعظم من لواء محمد، ولأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة" انظر ترجمة المناوي لأبي يزيد ولطائف المنن والأخلاق جـ1 ص125، 126 وعجيب من المؤلف أن يستشهد بمثل هذا الزنديق على تكفير صوفي، وهو زعيمهم الذي ألهبهم جرأة وقحة على جلال الربوبية وكبرياء الإلهية، وهو القائل أيضا: "رفعني الله مرة بين يديه وقال: إن خلقي يحبون أن يروك، فقلت: زيني بوحدانيتك، وألبسني أنانيتك، وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هناك" اللمع ص382.(191/260)
وأبي سعيد الخراز، والأستاذ أبي القاسم القشيري، والشيخ عبد القادر الكيلاني والشيخ شهاب الدين عمر السهروردي صاحب العوارف، فإن بعضهم قال: طريقنا, مشبك بالكتاب والسنة، فمن خالفهما، فليس منا، وبعضهم جعل أثر عمر رضي الله عنه أصلا، وبنى عليه طريقهم، وبعضهم قال: من قال: إن الشريعة خلاف الحقيقة فهو زنديق، ومن قال: إن المراد بمحبة الله تعالى، ووصوله إليه غير كمال المتابعة للكتاب والسنة، أو بمحبة الله غير إكرامه بحسن الثواب؛ فهو زنديق1، إلى غير ذلك مما حدوه، فتعداه من عاديتمونا بسببهم
ـــــــ
1 الخبير بحال الصوفية -سلفهم وخلفهم- والمتأمل في كتبهم يوقن أن الصوفية منذ نشأت، وهي حرب دنيئة -خفية أو مستعلنة- على الإسلام. هذا القشيري الصوفي القديم "ولد سنة 376هـ وتوفي سنة 465هـ" هذا هو يقول في رسالته عنهم "ارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة. وركنوا إلى اتباع الشهوات.
وادعوا أنهم تحروا عن رق الأغلال. وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدانية" ص2، 3 الرسالة للقشيري. هذه شهادة عليهم في القرن الرابع الهجري من رجل يعدونه المثل الأعلى للصوفية العملية المعتدلة، وإنها لتدل على أن الصوفية من قديم تواصوا بالكيد للإسلام، وإنا لا تخدعنا هذه الشفوف من النفاق الصوفي، إذ هم السم الناقع يتراءى شهدا مذابا. فالقائلون بما هلل له البقاعي هم عين القائلين بما يخنقك منهم يحموم الزندقة، فالقشيري نفسه يقول في مقدمة رسالته عن أهل الطريقة: "جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه" يفضل الصوفية على السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم يقول: "وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق" وماذا بقي لله إذا كان هؤلاء غياثا للخلق؟ وماذا للصحابة من طوالع الأنوار ومعادن الأسرار إذا كان هؤلاء وحدهم كذلك؟ ثم يقول: "ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية =(191/261)
بل أنتم بعد بغضكم للصوفية نابذتم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بموالاتكم من نابذ شريعته، ونحن نذب عنها وأنتم تناضلون عمن يهدمها من غير فائدة في ذلك، وتقولون: إنهم أرادوا بكلامهم الذي ظاهره قبيح غير ظاهره، ولو قال أحد من الناس لأحد منكم كلمة توهم نقصا "كالعلق" الذي قال أهل اللغة أن معناه: الشيء النفيس1؛ عاداه، وإن حلف له أنه ما قصد ذما، وإن كرر ذلك كانت القاصمة، فتحرر بذلك أن نابذتم أهل الدين من الفقهاء والصوفية2 المجمع
ـــــــ
= وأشهدهم مجاري أحاكم الربوبية" إذا فهم عند القشيري أعظم مقاما من خليل الله إبراهيم، ومن محمد عليه الصلاة والسلام؟! فتأمل في الأستاذ القشيري، وفي قوله، وفيما خلفه في رسالته، ثم اسمع إليه ينقل في رسالته: "لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا، المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه" انظر مقدمة الرسالة وص146منها. وهذه زمزمة قديمة بزندقة الاتحاد ووحدة الشهود.
1 في القاموس: "العلق: بالكسر" النفيس من الشيء.
2 وضع الصوفية بجانب الفقهاء من المؤلف يوحي بأن هناك طريقان: طريق الفقهاء، وطريق الصوفية، ويوحي بأن الدين فقه وتصوف، وأن الطريقين مختلفان، وأن الفقه والتصوف متغايران. فما طريق الفقهاء، وما طريق الصوفية؟ وما الفقه، وما التصوف؟ إن كان أحدهما عين الآخر بطلت التسمية، وإن كان غيره، استلزم النقص في أحدهما، أعني استلزم أن يكون أحدهما لا يمثل الشريعة الإسلامية في كل أصولها وفروعها. والصوفية يزعمون أنهم يمثلون الجانب الروحي والحقائق الباطنة في الإسلام. ويدمغون الفقهاء بأنهم علماء الرسوم. في حين يقول الفقهاء عن الصوفية: إنهم يتحللون من تكاليف الشريعة بهذه الدعوى!! فأي الفريقين على بينة من قوله؟ لا بد من العودة إلى الكتاب والسنة لنحكم على قيم الأشياء بما حدد القرآن من مفاهيم لهذه القيم، وثمت نجد أمين الله جبريل يسأل الرسول: ما الإسلام؟ ثم: ما الإيمان؟ ثم: ما الإحسان؟ ونجد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجيب إجابة واضحة صريحة لا لبس فيها ولا غموض، محددا هذه الحقائق العليا تحديدا جليا مشرقا، فلنجعل قلوبنا ونياتنا وأعمالنا مظهرا لها في صدق وإخلاص ولندع تلك التفريعات، والتقسيمات، والتسميات، لنستمد معارفنا عن الدين من الكتاب والسنة، فلا تستبد بنا حيرة، ولا يعصف بنا شك ولا يستعبدنا بعض خلق الله.(191/262)
عليهم بالتأويل في جانب الله تعالى، ومنعتم مثله في حقكم، فأف لهذا عقلا، فكيف بالنظر إلى [81] الدين؟
وجوب الكشف عن زندقة الصوفية وبيانها:
وإن قالوا: لا تجرب بالإنكار عليه في نفسك، فليقل: وإن تركت الإنكار عليه، كنت أيضا مجربا في نفسي بمنابذة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي رواه مسلم عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" وفي حديث آخر لمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل1" وقد صرح العلماء بأن من خاف
ـــــــ
1 بات المنكر عند بعض الناس هو النهي عن المنكر، ولبعدهم عن الكتاب والسنة حالت في أذهانهم قيم الأشياء، فالدعوة إلى الحق عندهم رغاء بالباطل، والاعتصام بالكتاب والسنة جمود ينافي قانون التطور، والمحافظة على تراث الإسلام الروحي مادية صماء، والحكم بما أنزل الله رجوع إلى وحشية القرون الوسطى، وانتباذ لسماحة القانون الإنساني. هذا في ناحية قيم الخير، أما في ناحية الشر، فالإلحاد حرية فكرية، والعصبية المذهبية تقديس للأئمة، وعبادة القبور والجيف محبة لأولياء الله، والمجوسية قداسة روحانية، ومعارج ربانية، وهي الصوفية، والتبرج المتلطخ بدماء الأعراض مدنية حديثة، وأمس قبل ثورة الجيش على الطغيان كانت مساندة الطاغوت والسجود له ولاء واجب مقدس!! هذا فهم المسلمين لقيم الأشياء, يؤازرهم في هذا -ويا أسفاه- بعض العلماء، أو من يسميهم الناس بهذا. ثم تعال، وانظر إلى ما كان يحدث من قبل. حاولت بعض الحكومات في عهد الطاغية تعديل قانون الانتخاب!! فماذا حدث؟ قامت قيامة من يسمون أنفسهم بفقهاء القانون، وتنادوا بالويل والثبور!! في حين كان كل رئيس حكومة =(191/263)
على أحد أنه يقع في هلكة يجب عليه إنذاره, ولو كان في الصلاة {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].
الجاهلية في الصوفية:
على أنهم تابعون في هذا التحريف سنة الجاهلية في قولهم لنوح عليه السلام ما أجابهم عنه بما حكاه تعالى عنه في قوله: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] ثم قولهم لهود عليه السلام، وقوله لهم ما حكاه تعالى بقوله: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ، ِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54-56] ثم قولهم لإبراهيم عليه السلام كذلك: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ1 أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ
ـــــــ
= يعتدي في كل لحظة على كتاب الله، وينتهك الحرمات في جرأة مستعلنة وقحة، ويستعبد عباد الله للطاغية الظلوم الغشوم، ويقدم للطاغوت قرابينه: فضيلة مذبوحة، أو رذيلة تغري بإثمها، أو عرضا كان يرف حياء، ويتألق قدسية. كان كل هذا يحدث وغيره. فما كنت ترى من الشيوخ والصوفية إلا ابتهالا إلى الله أن ينصر الطاغية، كانوا كلما استنجد بهم الطاغوت لمساندته هبوا سراعا هبوب الوثنية إلى هبل، يحلون له ما حرم الله، ويرتلون بين يديه طقوس العبادة، وعلى فمه تتلمظ الفواحش، وعلى أنيابه مزق من الأعراض. ويقولون له: حفظك الله ذخرا يا أمير المؤمنين!! فيا أبطال الثورة على الطاغوت: إن أسمى ما تحققون من خير هو الجهاد في سبيل أن يفهم الناس قيم الأشياء على حقيقتها، فيؤمنوا بالخير خيرا، وبالشر شرا، وثمت تجدون محكومين يتجاوبون مع الحاكمين في صدق ومحبة، وفي الكتاب والسنة الحق، وهدى الدين والدنيا.
1 ساقط من الأصل.(191/264)
وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ، وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 80-83]
وقال كفار قريش لزنيرة الرومية رضي الله عنها لما أسلمت2، فعميت: "ما أعماها إلا اللات والعزى فرد الله عليها بصرها، وقالت ثقيف: "والله لا يستطيع أحد أن يخرب اللات، فلما أخربوها، قالوا: والله ليغضبن الأساس" وقال اليهود لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه: "لو كان نبيا ما مات صاحبه" إلى أمثال هذه الترهات.
دفع اعتراض:
وإن قالوا، استخفافا لضعفاء العقول: إن هذا الرجل3 له ما يزيد على مائتي سنة ميتا، فما للناس يقلقونه في قبره؟ تلك أمة قد خلت. فقل, بعد التأسي بفعل الله بفرعون وأضرابه: هذا الكلام [82] لنا عليكم، فإنه
ـــــــ
1 ساقط من الأصل.
2 أسلمت في أول الإسلام، وعذبها المشركون عذابا شديدا، فاشتراها الصديق ثم أعتقها وقد عميت، فقال المشركون: أعمتها اللات والعزى لكفرها بهما فقالت: وما يدري اللات والعزى من يعبدهما، إنما هذا من السماء، وربي قادر على رد بصري، فأصبحت من الغد، وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد. "عن الإصابة لابن حجر، وأسد الغابة لابن الأثير".
3 يعني: ابن الفارض.
4 يريد: أنه لو كان ذم الموتى مذموما مطلقا ما ذم الله في القرآن آزر أبا إبراهيم، وابن نوح، وامرأته، وامرأة لوط، وفرعون، وهامان، وقارون، =(191/265)
لو كان حيا لظن أن الكلام فيه لعداوة، أو حظ من الحظوظ الدنيوية، وحيث انتفت التهم كلها, كان الكلام بسبب ما خلفه من كلامه الذي أقر الذابون عنه أن ظاهره خبيث حتى احتاجوا إلى تأويله، فلو تركوا كلامه، تركنا الكلام فيه، فمن غض منه, علمنا أنه ما غض -مع معاداة أكثر الناس- إلا ذبا عن حمى الشريعة خوفا على الضعفاء من الاغترار بهذه الظواهر، ومن حامى عنه، كان ذلك قرينة دالة على أنه يعتقد ما ظهر من كلامه، وإن قالوا: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير" رواه النسائي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا. قيل: حتى يكون من موتانا1، وإن قالوا: "لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا" رواه البخاري عنها أيضا مرفوعا. قيل: هذا إذا كان في أمرهم شك بدليل {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 2، ونحن لم نسبه، بل أخبرنا بما وصفه به العلماء الذي ثبتت ولايتهم تحذيرا من كلامه3، واتباعا لحديث البخاري عن أنس
ـــــــ
= ممن حادوا الله ورسوله. أما وقد جاء في القرآن ذلك، فنعلم قطعا أنه يجب ذم الشرك، وكل مشرك. وبيان حاله حتى نأمن من الفتنة به على غير الخبير بحاله. وما مثل كفر ابن الفارض وابن عربي وأمثالهما من الصوفية كفر. وما مثل خطرهما على المسلمين خطر. فلا يمنع هلاكهما من بيان حالهما، وذم معتقدهما، والتحذير منهما، ومن أمثالهما. وإن كانوا في توابيت من فضة، وتحت قباب من ذهب، وكان لهم ملايين الدراويش!!.
1 أي: من المسلمين الذين لم نسمع منهم في صراحة قول الكفر. ولم نر منهم في جلاء فعل الكفر. ولم يخلفوا وراءهم كتبا تطفح بالوثنية والزندقة. كأمثال طواغيت الصوفية. فإن كان من هؤلاء وجب على كل مسلم بيان معتقده، وتحذير المسلمين منه، ودمغهم بما دمغ الله به كل فاجر كفار.
2 يعني: لو كان ذم الموتى مطلقا غير جائز ما ذم الله في كتابه الحكيم: أبا لهب ونحن اليوم -وقد تقضت قرون كثيرة على هلاك أبي لهب- ما زلنا، وسنظل حتى قيام الساعة نقرأ قول الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}.
3 أي: من كلام ابن الفارض، والمؤمن الحق ليس في حاجة إلى شهادة عالم يشهد على مثل ابن الفارض بالكفر، فشعر الصوفية وكتبهم تنزو بقيح الوثنية المجرمة، وتشهد عليهم أنهم فئة يبغضون الله ورسوله ويحبون القبور، ورمم القبور!! وبهذه الشهادة التي لا يمكن الطعن فيها، نحكم عليهم بما حكم الله به على إبليس وفرعون، وعباد العجل والأوثان، والمجرمين من قوم لوط.(191/266)
رضي الله عنه -رفعه- "مرو بجنازة فأثنوا عليها شرا، فقال: "وجبت" واتباعا لإجماع الأمة في جرح من يستحق الجرح. هذا من فوائد قولنا، فليذكر الخصم للدفع عنه فائدة واحدة لنفعه، أو لنفع الدين, أو أحد من المسلمين!! وإن قالوا: ما لأهل زمانه ما أنكروا عليه؟ قيل: قد أنكروا عليه، كما مضى بيانه، وإن قالوا: ما لهم ما قتلوه؟ قيل: منعهم اختلاف الأغراض، كما منع ذلك في الباجريقي، وكما ترى الآن من هذا التجاذب، على أن القتل أيضا لا يفيد قطع التعنت من المتعنتين، فقد أجمع أهل زمان الحلاج الذي هو رأس هذه الطائفة الاتحادية1 بعد فرعون، وهم أتباع طريقته على قتله على الزندقة، كما نقله القاضي عياض في آخر كتابه الشفاء الذي هو من أشهر الكتب وأعظمها, ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري رأس الصوفية في زمانه في الرسالة عن أحد مشياخنا عمرو2 بن عثمان المكي تكفيره للحلاج وذلك في باب "حفظ قلوب المشايخ3 وقتل بسيف الشرع، وأنت تجد الآن هذه الطائفة، وأتباعهم من
ـــــــ
1 هو حلولي وليس اتحاديا.
2 توفي سنة 291هـ.
3 نص ما ذكره القشيري "ومن المشهور أن عمرو بن عثمان المكي رأى الحسين بن منصور الحلاج يكتب شيئا، فقال: ما هذا؟ فقال: هو ذا أعارض القرآن، فدعا عليه، وهجره. قال الشيوخ: إن ما حل به بعد طول المدة كان لدعاء ذلك الشيخ عليه" والقشيري لم يذكر هذا انتقاصا من مقام الحلاج، وإنما ذكره تأييدا لما يهدف إليه الصوفية، وهو استعباد قلوب أتباعهم لأهوائهم، ألا تراه يقرر أن الحلاج لم يحل به القتل إلا من دعاء شيخه عليه، لا لأنه كان يعارض القرآن، فغضب الله عليه! وألا تراه يرويه في باب "حفظ قلوب المشايخ"؟ =(191/267)
العامة، يعتقدون فيه اعتقادا عظيما، وينابذون أهل الشريعة، وذلك يدل على أنهم إنما يقولون: تؤول تقية، وخوفا من السيوف المحمدية، وأنهم يعتقدون الكلام على ظاهره، فاستوى حينئذ القتل على الزندقة وعدمه {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33].
نصيحة:
ولا تهتموا أيها الأخوان بكثرة كلام أتباع الشيطان، وهجائهم لنا بالإثم والعدوان، فهم: إنما يقولون ذلك في الغيبة، ولهم عليه الإثم والخيبة، فإن الله تعالى قد ضمن النصرة، وإن كان مع المبطل الكثرة. روى [83] الشيخان عن معاوية رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون, وحتى يقاتل بقيتهم الدجال" وفي رواية: "وهم بالشام" ، وقال [تعالى]: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]
ـــــــ
= ولذا يقول في رسالته: "من رضي عنه شيخه لا يكافأ في حال حياته، لئلا يزول عن قلبه تعظيم ذلك الشيخ، فإذا مات الشيخ أظهر الله عز وجل عليه ما هو جزاء رضاه ومن تغير عليه قلب شيخه لا يكافأ في حال حياة ذلك الشيخ، لئلا يرق له، فإنهم مجبولون على الكرم، فإذا مات ذلك الشيخ، فحينئذ يجد المكافأة بعده" ويقول: "من خالف شيخه لم يبق على طريقته، ومن صحب شيخا من الشيوخ ثم اعترض عليه بقلبه، فقد نقض عهد الصحبة، ووجبت عليه التوبة! على أن الشيوخ قالوا: حقوق الأستاذين لا توبة عنها!!" انظر ص150، 151 من الرسالة للقشيري في باب حفظ قلوب المشايخ. ولكن أرأيت إلى الأستاذ القشيري كيف يقرر وجوب التوبة حتى على من همس في قلبه اعتراض على شيخه, بل يقرر أن التوبة من هذا لا تقبل! ولذا يقول الشعراني" من أشرك بشيخه شيخا آخر فكأنما أشرك بالله" يريد الصوفية سلفا وخلفا أن يكون الناس عبيد أهوائهم ونزواتهم، ويخوفونهم بغضب العبيد، لا غضب رب العالمين، ويشرعون لهم، أن الغاية من الإيمان إرضاء هوى الشيوخ، لا إرضاء مالك الملك سبحانه!!(191/268)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11] إلى أن قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 12-14].
وقد قلت في حالنا وحالهم.
نصرنا سنة المختار حقا ... فهاجينا لذاك1 الأكافر
وراموا نصر شاعرهم فخابوا ... وضلل سعيهم في نصر شاعر
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88 ]، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51, 52]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ, إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 171-182].
قال منشؤها سيدنا الشيخ الإمام العالم العامل العلامة أبو الحسن برهان الدين إبراهيم البقاعي الشافعي نفع الله المسلمين بعلومه: إني فرغت [من] هذه الرسالة
ـــــــ
1 لعلها: ذياك أو لذلكم. فبهذا يستقيم وزن البيت.(191/269)
في مقدار يوم، وكان فراغي منها ليلة الأحد ثامن عشرين شهر رجب الفرد الحرام سنة ثمان وسبعين وثمانمائة في مسجد "دلر رجمه العبد1" بالقاهرة والحمد الله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
وفرغ من كتابتها الفقير إلى رحمة ربه، سليمان بن عبد الرحيم في شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وأربعين وتسعمائة للهجرة النبوية.
[زاد الناسخ، أو غيره بعد هذا]:
وممن يقول بكفر ابن عربي غير مصنف هذه الرسالة أيضا من العلماء الشيخ إبراهيم بن داود الآمدي2 والشيخ أبو بكر بن قاسم الكناني3 والشيخ الفاضل سليمان بن يوسف الياسوفي4 الدمشقي، والإمام الجليل علي بن عبد الله الأردبيلي5، والعلامة محمد بن خليل عز الدين الحاضري الحلبي الحنفي الفاضل محمد بن علي الدكالي6 ثم المصري، والشيخ الصالح موسى بن محمد الأنصاري 7 الشافعي قاضي حلب، وكلهم ذكر الشيخ برهان الدين إبراهيم البقاعي عن شيخه شهاب الدين أحمد بن حجر في تراجمهم ما فيه الكفاية من فضلهم وحذقهم، وعلمهم وزهدهم وورعهم، وإنما أردت ذكر أسمائهم، ليعلم أن من قال بكفر
ـــــــ
1 كذا بالأصل.
2 أسلم على يد ابن تيمية، وكان دينا خيرا فاضلا. توفي سنة 797هـ.
3 ولد سنة 666هـ قال عنه الذهبي: دين حسن المحاضرة.
4 ولد سنة 739هـ تقريبا، كان شافعيا، ثم حبب إليه الحديث، فأقبل عليه بكليته، وسلك طريق الاجتهاد. توفي سنة 789هـ معتقلا بقلعة دمشق.
5 ولد سنة 667 قال عنه الذهبي: حصل جملة من كتب الحديث، وشغل في فنون وهو عالم كبير حسن الصيانة. مات بالقاهرة سنة 746هـ.
6 هو أبو أمامة ابن النقاش. وقد سبقت ترجمته.
7 ولد سنة 748هـ, ولي قضاء حلب عن الظاهر برقوق. وتوفي سنة 803هـ(191/270)
هذا الضال جماعة من العلماء غير واحد ليحذر من مذهبه من لا يعرفه تحقيقا، ويعلم أن جماعة من العلماء لا يتفقون على ضلالة، وهؤلاء من المتأخرين دون من لم يذكرهم من المتقدمين، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام، وصاحب المواقف وغيرهما، وكذلك الشيخ الجليل أفضل المتأخرين علامة زمانه الشيخ علاء الدين البخاري، وقد عمل في الرد على ابن عربي غبي وبيان كفره رسالة شافعية مسماة: "بفاضحة الملحدين، وناصحة الموحدين"". ومن أراد البحث والرد على هذه الطائفة، فليطالعها، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين".
فرغت من نسخها وتحقيقها والتعليق عليها يوم الخميس 4 من صفر سنة 1372هـ الموافق 23 من أكتوبر سنة 1952م بمدينة القاهرة والحمد لله أولا وآخرا.
وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد خاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين.
عبد الرحمن الوكيل
عضو جماعة أنصار السنة المحمدية
وكان الفراغ من الطبع والتصحيح بمطبعة السنة المحمدية يوم الخميس 18 من رجب سنة 1372هـ الموافق 2 من إبريل سنة 1953م.
وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله المصطفى، ورسوله المجتبى: محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.(191/271)
الفهارس:
فهارس مصرع التصوف
3 مقدمة الكتاب
17 البقاعي في سطور
18 خطبة الكتاب
19 عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام
19 منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم.
20 مثالهم في زندقتهم
21 احتجاج الصوفية بقصة الخضر.
22 القول في صرف الكلام عن ظاهره
23 حكم من ينطق بكلمة ردة
24 بيان ما هو من المقالات كفر
33 الباطنية
35 من هو الزنديق؟
37 إفك وبهتان ابن عربي على الرسول
37 دفع هذا الافتراء
38 إيمان ابن عربي بأن الله إنسان كبير
39 آدم عند الصوفية
40 زعمه أن الحق مفتقر إلى الخلق
41 التنزيه والتشبيه
42 بم يعرف الله عند الصوفية
46 تكفير الصوفية لنوح
49 الدعوة إلى الله مكر عند الصوفية
52 تكفير العراقي لابن عربي
53 كل شيء عند الصوفية رب وإله
54 الرأي في ابن الفارض وتائيته
58 تمجيد الصوفية لعبادة الأصنام
62 الحق عين الخلق عند الصوفية
66 الوحدة المطلقة دين ابن عربي
66 لا يعتذر عن الصوفية بالتأويل
67 خطر صرف الكلام عن ظاهره
68 صلة الخلق بالحق عند الصوفية
70 الطبيعة هي الله عند
71 دين ابن الفارض
74 العبد عين الرب عند الصوفية
75 النار عين الجنة عندهم
76 مثل من تفسير ابن عربي للقرآن
78 رد علاء الدين البخاري
79 رأي العضد والجرجاني
81 رأي السعد التفتازاني
83 زعم أن الحق يتلبس بصورة الخلق
86 أمر ابن الفارض باتباع شريعته
88 تكذيب صريح للقرآن
89 إفك على الله
92 تمجيد الصوفية للمجرمين(190/273)
93 زعمهم أن هوية الحق عين أعضاء العبد وقواه
94 تفسيرهم لما عذب الله به قوم هود
95 زعم ابن عربي أنه اجتمع بالأنبياء
96 ظن الصوفية بالله سبحانه
98 الكون هو رب عند الصوفية
99 لِم يقول الصوفية بوحدة الأديان؟
100 الوحدة عند ابن الفارض
103 الكثرة عين الوحدة
104 فعل الرب عين فعل العبد عند الصوفية
105 ما الخلق؟
106 زعم ابن عربي: أن التفاضل لا يستلزم التغاير
108 الضال مهتد، والكافر مؤمن عنده
109 لن يعذب كافر عنده أيضا
111 الحق عنده سار في عناصر الطبيعة
111 رد العراقي على وحدة الأديان
112 الشرائع أوهام عند الصوفية
112 ليس لله وجود عندهم
113 الداعي عين المجيب عندهم
116 الحق عين كل معلوم عندهم
120 تمجيد الصوفية لعبادة العجل
121 بعض ما كفر به العراقي ابن عربي
122 آيات تشهد بكفر ابن عربي
123 شرك الصوفية أخبث الشرك
124 تعليلهم لإنكار موسى على السامري
125 الهوى رب عند الصوفية
126 وحدة الأديان عند ابن الفارض
127 الإله الصوفي مجلى صور العالم
127 حكم ابن عربي بإيمان فرعون ونجاته
129 رد هذه القرية
130 سؤال فرعون وجواب موسى
132 فرعون عند الصوفية رب موسى وسيده
134 حكم من ينسب ربوبيته إلى فرعون
134 تحريم التأويل
135 رأي ولد العراقي في الفصوص والتائية
137 رأي السكوتي
140 أوهام الصوفية، في الحكم بإيمان فرعون
141 افتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم
142 التثليث عند الصوفية
143 رب الصوفية امرأة(190/274)
146 الأنوثة صفة الإله الصوفي
147 الإله الصوفي بين التقييد والإطلاق
149 دعاء ومباهلة
150 المكفرون لابن عربي
155 فتوى الجزري
156 رأي أبي حيان
157 رأي التقي السبكي والفارسي والزواوي
158 رأي البكري
159 مسألة الوعيد
161 فتوى البالسي وابن النقاش
165 رأي ابن هشام وابن خلدون
168 رأي الشمس العيزري
169 رأي ابن الخطيب والموصلي
170 رأي البساطي
174 البساطي وشرحه للتائية
176 رأي ابن حجر والبلقيني وغيرهما
177 مقتل الحلاج
178 رأي الذهبي
179 رأي ابن تيمية وغيره من العلماء
182 رأي علاء الدين البخاري
183 تحقيق معنى الكافر والملحد والزنديق والكافر
186 بعض مصطلحات الصوفية
190 أسطورة الكشف
195 رأي الحافظ تقي الدين الفاسي
197 مكر الصوفية
198 آيات ثبات الإيمان في القلب
200 هوان الدين عند الأكثرية
201 من هم الأولياء؟
203 رأي ابن أيوب في الحلاج وابن عربي(190/275)
فهارس تحذير العباد :
207 مقدمة
208 آيات سلي الله بها نبيه
209 الرأي في سلف الصوفية
212 منابذة الصوفية للنقل والشرع
213 موقف العلماء من ابن عربي وابن الفارض
214 المكفرون لابن الفارض
216 موقف شيوخ المذاهب من ابن الفارض
217 تواتر نسبة ابن الفارض إلى الكفر
218 الضلال عند الصوفية خير من الهدى(191/275)
218 رب ابن الفارض أنثى
219 تفضيل الزنديق نفسه على الرسل
219 الخلاعة سنة ابن الفارض
221 ذمه للرسل وللشرائع
223 تفضيله أتباعه على الرسل, وزندقته على شرعة الله
224 الصلة بين التصوف والنصرانية
226 زعمه أن صفات الله عين صفاته
229 زعمه أن الله سبحانه يصلي له
230 رب الصوفية في صور العاشقات
233 ثباته على اعتقاد الوحدة
234 استدلاله على زندقته
236 يدين ابن الفارض بتلبس الله بصورة خلقه
240 رأي القشيري والسهروردي
240 وحدة الأديان عند ابن الفارض
241 شعره في وحدة الأديان
242 معاندته للتوحيد الحق
244 دعوته إلى المجون
245 الباطل إله الصوفية
245 حكم المناضل عن ابن عربي
246 قول ابن الفارض يوجب إراقة دمه
248 زجره لمن يكنيه أو يلقبه
249 زعمه أنه عرج إلى السماء
251 حكم من كفر ابن الفارض
253 حكم المتوقف في تكفير الصوفية
255 الرأي في شعر ابن الفارض
257 تواتر الخبر بتكفير العلماء له
258 نفي كلام حفيده فيما أثبته
259 أصل الولاية الحقة
260 دفاع وادعاء
263 وجوب الكشف عن زندقة الصوفية وبيانها
264 الجاهلية في الصوفية
265 دفع اعتراض واه
268 نصيحة البقاعي ختم بها كتابه(191/276)
معنى
إقامة الحجة
……عبد الله بن عبد الرحمن ابا بطين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى في رده على ابن البكري : فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي ، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله ، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله ، لأن الزنا والكذب حرام لحق الله تعالى ، وكذلك التكفير حق لله تعالى فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله وأيضا فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها ، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر إلى أن قال : ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين ينفون أن يكون تعالى فوق العرش : أنا لو وافقتكم كنت كافرا لأني أعلم أن قولكم كفر ، وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال .. إلخ .
أفتونا : ما معنى قيام الحجة أثابكم الله بمنه وكرمه ؟ .
الجواب :
الحمد لله رب العالمين .
تضمن كلام الشيخ رحمه الله مسألتين :
إحداهما : عدم تكفيرنا لمن كفرنا وظاهر كلامه أنه سواء كان متأولا أم لا ، وقد صرح طائفة من العلماء أنه إذا قال ذلك متأولا لا يكفر .
ونقل ابن حجر الهيثمي عن طائفة من الشافعية أنهم صرحوا بكفره إذا لم يتأول ، فنقل عن المتولي أنه قال : إذا قال لمسلم يا كافر بلا تأويل كفر ، قال وتبعه على ذلك جماعة واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) والذي رماه به مسلم فيكون كافرا قالوا : لأنه سمى الإسلام كفرا ، وتعقب بعضهم هذا التعليل فقال : هذا المعنى لا يفهم من لفظه ولا هو مراده .(192/1)
إنما مراده ومعنى لفظه : إنك لست على دين الإسلام الذي هو حق ، وإنما أنت كافر دينك غير الإسلام وأنا على دين الإسلام . وهذا مراده بلا شك لأنه إنما وصف بالكفر الشخص لا دين الإسلام فنفى عنه كونه على دين الإسلام ، فلا يكفر بهذا القول وإنما يعزر بهذا السب الفاحش بما يليق به ، ويلزم على ما قالوه أن من قال لعبد : يا فاسق . كفر لأنه سمى العبادة فسقا ، ولا أحسب أحدا يقوله ، وإنما يريد أنك تفسق وتفعل مع عبادتك ما هو فسق لا أن عبادتك فسق . انتهى
…
وظاهر كلام النووي في شرح مسلم يوافق ذلك ، فإنه لما ذكر الحديث قال : وهذا مما عده العلماء من المشكلات فإن مذهب أهل الحق أن المسلم لا يكفر بالمعاصي ، كالقتل والزنا وكذا قوله لأخيه يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام ثم حكى في تأويل الأحاديث وجوها :
الأول : أنه محمول على المستحل ، ومعنى ( باء بها ) بكلمة الكفر وكذا ( حارت عليه ) في رواية أي رجعت عليه كلمة الكفر فباء وحار ورجع بمعنى واحد .
الثاني : رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره .
الثالث : أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين ، وهذا نقله القاضي عياض عن مالك وهو ضعيف لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع .
الرابع : معناه أنه يؤول إلى الكفر فإن المعاصي ـ كما قالوا ـ بريد الكفر ، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر . ويؤيده رواية أبى عوانة في مستخرجه على مسلم ( فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر ) .
الخامس : فقد رجع بكفره ، وليس الراجع حقيقة الكفر بل التكفير كونه جعل أخاه المؤمن كافرا ، فكأنه كفّر نفسه ، إما لأنه كفر من مثله وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان الإسلام . انتهى(192/2)
وقال ابن دقيق العيد في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن دعى رجلا بالكفر وليس كذلك إلا حار عليه ) أي رجع عليه . وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين ، وليس هو كذلك , وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا في العقائد وحكموا بكفر بعضهم بعضا .
ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني أنه قال : لا أكفر إلاّ من كفرني ، قال وربما خفي هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح .
والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعى رجلا بالكفر وليس كذلك رجع عليه الكفر ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) .
وكان هذا المتكلم أي أبو إسحاق يقول : الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المكفِّر وإما المكفَّر فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا وأنا قاطع أني لست بكافر ، فالكفر راجع إليه . انتهى
وظاهر كلام أبي إسحاق أنه لا فرق بين المتأول وغيره والله أعلم . وما نقله القاضي عن مالك من حمله الحديث على الخوارج موافق لإحدى الروايتين عن أحمد في تكفير الخوارج ، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة واستحلوا دماءهم وأموالهم متقربين بذلك إلى الله تعالى ، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل ، لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم لتأويلهم وقالوا من استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر . وإن كان استحلاله ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر والله أعلم وأحكم .
المسألة الثانية : إن تكفير الشخص المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها .. إلخ .(192/3)
يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة وقد صرح بذلك في موضع آخر . ونقل عقيل عن الأصحاب أنه لا يعاقب . وقال إن عفو الله عن الذي كان يعامل لأنه لم تبلغه الدعوة وعمل بخصلة من الخير ، واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) قال في شرح مسلم : خص اليهود والنصارى لأن لهم كتابا ، قال : وفي مفهومه أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور .
قال : وهذا جار على ما تقرر في الأصول ( لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح ) . انتهى
وقال القاضي أبو يعلى في قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } في هذا دليل على أن معرفة الله تعالى لا تجب عقلا ، وإنما تجب بالشرع وهو بعثة الرسل وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك لم يقطع عليه بالنار . انتهى
وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر أنه يعاقب اختاره ابن حامد واحتج بقوله تعالى { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } والله أعلم .
فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة فلا يعذر بعدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلا عذر له بعد ذلك بالجهل ، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم ، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون ، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم .(192/4)
وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر ، والشك هو التردد بين شيئين كالذي لا يجزم بصدق الرسول ولا كذبه ، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه ونحو ذلك كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها ، أو لا يعتقد تحريم الزنا أوعدم تحريمه ، وهذا كفر بإجماع العلماء ، ولا عذر لمن كان حاله هكذا بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته لأنه لا عذر له بعد بلوغها له وإن لم يفهمها ، وقد أخبر الله عن الكفار إنهم لم يفهموا فقال : { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا } وقال : { انهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون} .
…
فبين سبحانه أنهم لم يفقهوا فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار كما في قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } .
قال الشيخ أبو محمد موفق الدين ابن قدامة رحمه الله تعالى ـ لما أنجز كلامه في مسألة : هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ ورجح أنه ليس كل مجتهد مصيب بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين ، قال : وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم إلى أن قال ... وأما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا وكفر بالله تعالى ورد عليه وعلى رسوله ، فإنّا نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه ، وذمهم على إصرارهم وقاتل جميعهم ، يقتل البالغ منهم ونعلم أن المعاند العارف ممن يقل ، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه .(192/5)
والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى : { ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } { إن هم إلا يظنون } وقوله : { ويحسبون أنهم على شيء } { ويحسبون أنهم مهتدون } { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } وفي الجملة ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينحصر في الكتاب والسنة . انتهى
…
فبين رحمه الله تعالى أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى ، وهذا من أظهر الباطل .
…
فقول الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى : إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة . يدل كلامه على أن هذين الأمرين وهما التكفير والقتل ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا بل على بلوغها ففهمها شيء وبلوغها شيء آخر ، فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة ، وهذا بين البطلان بل آخر كلامه رحمه الله يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور التي تخفى على كثير من الناس ، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة ، كالجهل ببعض الصفات .
…(192/6)
وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد والإيمان بالرسالة فقد صرح رحمه الله تعالى في مواضع كثيرة بكفر أصحابها وقتلهم بعد الاستتابة ، ولم يعذرهم بالجهل مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور إنما هو الجهل بحقيقتها فلو علموا أنها كفر تخرج عن الإسلام لم يفعلوها ، وهذا في كلام الشيخ رحمه الله تعالى كثير كقوله في بعض كتبه : فكل من غلا بنبي أو رجل صالح وجعل فيه نوع من الإلهية مثل أن يدعوه من دون الله ، نحو أن يقول : يا فلان أغثني أو اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو اجبرني أو توكلت عليك وأنا في حسبك وأنت حسبي ، ونحو هذه الأقوال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل .
…
وقال أيضا : فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم ، كفر إجماعا .
…
وقال : من اعتقد أن زيارة أهل الذمة في كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد ، وإن جهل أن ذلك محرم ، عرف ذلك فإن أصر صار مرتدا .
وقال : من سب الصحابة أو واحدا منهم أو(1)اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره .
…
وقال أيضا : من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفر قليلا لا يبلغون بضعة عشر أو أنهم فسقوا فلا ريب في كفر قائل ذلك بل من شك في كفره فهو كافر . انتهى
فانظر كيف كفر الشاك ، والشاك جاهل فلم ير الجهل عذرا في مثل هذه الأمور .
__________
(1) * هذا على حسب النسخة المطبوعة لمكتبة ( السلام العالمية ) ، وهو تصحيف والصواب بدلا من ( أو ) الاقتصار على حرف الواو فقط ، وهذا هو المشهور من كلام شيخ الاسلام رحمه الله ذكر ذلك في آخر كتاب ( الصارم ) : أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله . . . إلخ اهـ .(192/7)
وقال رحمه الله في أثناء كلام له : ولهذا قالوا من عصى مستكبرا كإبليس كفر بالاتفاق ومن عصى مشتبها لم يكفر عند أهل السنة ، ومن فعل المحارم مستحلا فهو كافر بالاتفاق ، قال : والاستحلال اعتقاد أنها حلال وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها ، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو الرسالة ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة ، وتارة يعلم أن الله حرمها ثم يمتنع من التزام هذا التحريم ويعاند فهذا أشد كفرا ممن قبله . انتهى
وكلامه رحمه الله في مثل هذا كثير . فلم يخص التكفير بالمعاند مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه أو فعلوه كفر ، فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء لأن منها ماهو مناقض للتوحيد الذي هو أعظم الواجبات ، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء السلف .
وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم مع العلم أنهم غير معاندين .
ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى : من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس أو جحد حل الخبز ونحوه أو جحد تحريم الخمر ونحوه أو شك في ذلك ، ومثله لا يجهله كفر ، وإن كان مثله يجهله عرف ذلك ، فإن أصر بعد التعريف كفر وقتل ولم يخصوا الحكم بالمعاند . وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة أقوالا وأفعالا يكون صاحبها بها مرتدا ولم يقيدوا الحكم بالمعاند .
…(192/8)
وقال الشيخ أيضا : لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمر كقدامة وأصحابه وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل صالحا على ما فهموه من آية المائدة قال تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ...} اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون ، فإن أصروا على الاستحلال كفروا ، وإن أقروا به جلدوا ، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق فإن أصروا كفروا .
…
وقال أيضا : ونحن نعلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء والأموات ـ لا الأنبياء ولا غيرهم ـ لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعانة ولا بغيرهما ، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت ولا إلى ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول . انتهى
فانظر إلى قوله لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول ، ولم يقل حتى يتبين لهم وتتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة .
…
وقال أيضا لما أنجز كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس من الكفر والخروج عن الإسلام قال : وهذا كثير غالب لا سيما في الأعصار والأمصار التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق ، فلهؤلاء من عجائب الجهل والظلم والكذب والكفر والنفاق والضلال مالا يتسع لذكره المقال .(192/9)
وإذا كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين الإسلام بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين أو غيرهم ، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين ، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك ، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين ، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك أو يعودون ، إلى أن قال : وبلغ من ذلك أن منهم يصنفون في دين المشركين والردة عن الإسلام كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه ، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين وإن كان قد تاب عنه وعاد إلى الإسلام . انتهى
فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة فقال في المقالات الخفية التي هي كفر : قد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة .
فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية . فيكفر بالأمور الظاهر حكمها مطلقا ، وبما يصدر منها من مسلم جهلا ، كاستحلال محرم أو فعل أو قول شركي بعد تعريف ، ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا كالجهل في بعض الصفات فلا يكفر الجاهل بها مطلقا وإن كان داعية ، كقوله للجهمية : أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال .
وقوله ( عندي ) يبين أن عدم تكفيرهم ليس أمرا مجمعا عليه لكنه اختياره .
وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب . فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن أو نفي الرؤيا أو الرفض و نحو ذلك وتفسيق المقلد .(192/10)
قال المجد ابن تيمية رحمه الله : الصحيح أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية فإنا نفسق المقلد فيها ، كمن يقول بخلق القرآن أو أن علم الله مخلوق ، أو أن أسماءه مخلوقة أو أنه لا يرى في الآخرة ، أو يسب الصحابة تدينا ، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد ، وما أشبه ذلك ، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه ويناظر عليه فهو محكوم بكفره . نص أحمد على ذلك في مواضع . انتهى
فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم ، والشيخ رحمه الله يختار عدم كفرهم ويفسقون عنده .
ونحوه قول ابن القيم رحمه الله تعالى فإنه قال : وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ، ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ، ويثبتون مالم يثبته الله ورسوله كذلك ، وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم .
وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب ، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة ، وقالوا : هم مباينون للملة . انتهى
وبالجملة فيجب على من نصح نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله ، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين ، وقد كفينا بيان هذه المسألة كغيرها بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين .
فالواجب علينا الاتباع وترك الابتداع كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ( اتبعوا ولا تبتدعوا ، فقد كفيتم ) وأيضا فما تنازع العلماء في كونه كفرا فالاحتياط للدين التوقف وعدم الاقدام مالم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم .(192/11)
وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والاجماع على كفره ، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب و السنة مع الاجماع بأنه مسلم .
ومن العجب أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة أو البيع لم يفتي بمجرد فهمه واستحسان عقله ، بل يبحث عن كلام العلماء ويفتي بما قالوه فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطرا على مجرد فهمه واستحسانه ؟ ، فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين ، ومنحته من تينك البليتين .
نسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
تم تنزيل هذه المادة من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info(192/12)
مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي
الدكتور/ محمود يوسف الشوبكي
أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب الفكرية
في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بغزة
مقدمة
أهمية دراسة التصوف
1- موضوعه وثمرته
2- فضله
المبحث الأول - التعريف بالتصوف
1- تعريف التصوف في اللغة
2- أصل كلمة صوفية واشتقاقها
3- معنى التصوف اصطلاحاً
1- التصوف بمعنى الزهد
2- التصوف بمعنى الأخلاق
3- التصوف بمعنى الصفاء
4- التصوف بمعنى المجاهدة
5- التصوف التزام بالشريعة
6- التصوف بمعنى التسليم الكامل لله
7- التصوف بمعنى الإخلاص " الغاية وجه الله "
8- التصوف بمعنى الارتباط الروحي بالله
9- التصوف ترك التكلف والشكليات
10- التصوف بمعنى الطريق المخصوص للسالكين
4- مصطلح التصوف بين القبول والرفض
المبحث الثاني - نشأة التصوف وأطواره
1- نشأة التصوف
2- الأطوار التي مر بها التصوف
الطور الأول : طور التسامي عن الحياة المادية
الطور الثاني : طور التشبه بالسابقين
الطور الثالث : طور دخول الألفاظ الموهمة
الطور الرابع : طور التحرر من التكاليف الشرعية
الطور الخامس : تبلور الطرق الصوفية
الطور السادس : طور ظهور المجذوبين
3- تأثر الصوفية بالفكر الغريب
1- تأثر التصوف باليهودية
2- تأثر التصوف بالنصرانية
3- التأثر بالديانات الهندية
4- التأثر بالفلسفة الصينية
5- التأثر بالفلسفة اليونانية
6- التأثر بعقائد الفرس
4- موقف العلماء من التصوف
المبحث الثالث - المراتب والمصطلحات
1- مراتب الصوفية وألقابهم
1 - الغوث
2 - الأوتاد
3 - القطب
4 - الأبدال " البدلاء "
5 - النجباء
2- مصطلحات الصوفية
1 - الكشف
2 - الفيض الإلهي
3 - وحدة الوجود
4 - الاتحاد
5 - الحلول
6- الوقت
7 - المقام
8 - الحال
9 - القبض والبسط
10- التواجد والوجد والوجود
11- الفناء والبقاء
12- الغَيبة والحضور
13- المحاضرة و المكاشفة و المشاهدة
14- الشريعة والحقيقة
15- الحقيقة المحمدية(193/1)
3- علوم الصوفية بين الهبة والاكتساب
المبحث الرابع - أقسام التصوف
أولاً : التصوف السني
مصادر التصوف السني
من أعلام التصوف السني
ثانياً : التصوف البدعى
أقسام البدعة
من أبرز رجال التصوف البدعي
ثالثاً : التصوف الفلسفي (الباطل)
من أبرز رجال التصوف الفلسفي
الخاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد :
فإن خير الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن شر الأمور محدثاتها، وإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
قال الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ويقول الله تعالى : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) وقال أيضاً : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
إنَّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن تصور الشيء إلا بعد التعرف عليه من خلال معرفة مقدماته وأساسياته، وهذا البحث مقدمات في التصوف، ضمنته أهم الموضوعات التي يحتاج إليها الدارسون للتصوف.
وقد قسمت هذا البحث إلى أربعة مباحث :
المبحث الأول : في تعريف التصوف واشتقاقه وقبول التسمية أو رفضها.(193/2)
المبحث الثاني : تحدثت فيه عن نشأة التصوف والأطوار التي مر بها عبر التاريخ، والمؤثرات والأفكار التي تأثر بها.
المبحث الثالث : وفيه مراتب الصوفية وألقابهم ومصطلحاتهم، وعلومهم هل هي كسبية أو وهبية ، وموقف العلماء من التصوف.
المبحث الرابع : وهو في أقسام التصوف، وأبرز رجالات التصوف في كل قسم من أقسامه.
وحرصت في ذلك كله على الاختصار الذي لا يخل بالمعنى مع تفسير عبارات الصوفية الغامضة وتوضيحها.
أسأل الله تعالى أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل وأن يعصمني من الزلل وأن يجعل بحثي هذا جهداً مخلصاً له مقبولاً عنده، كما أسأله سبحانه أن أكون قد وفقت في تحقيق الغرض الذي كتبته لأجله.
والله ولي التوفيق...
أهمية دراسة التصوف
قد يتساءل بعض الناس ما دام التصوف يشتمل في كثير من الأحيان على البدع والضلال والإنحراف فما هي أهمية هذه الدراسة ولماذا ندرسه؟ فأقول : إن لدراسة التصوف أهمية خاصة ، وأسباباً لها وجاهة ومن ذلك(1) :
1- إن التصوف يمثل جزءاً كبيراً في تراث المسلمين وفي تاريخهم فالدارس للحضارة الإسلامية وللتاريخ الإسلامي سوف يواجه بمساحة واسعة لهذا الجانب البارز في حياة المسلمين باختلاف الأزمنة والأمكنة لذا لا بد من دراسته والتعرف عليه والوقوف على سليمه من سقيمه.
2- كان التصوف ولا يزال أسلوباً ومنهجاً يدين به الكثير من الناس على مستوى الأفراد والجماعات ويتمثل ذلك بالطرق الصوفية المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين، فلا بد من دراسة ذلك لبيان النافع من الضار والهدى من الضلال، ولإصلاح ما يمكن إصلاحه من ذلك ورفض ما لا سبيل لقبوله، ولدراسة النظرات الصوفية المختلفة ونقدها نقداً بناءً.(193/3)
3- يرى كثير من الناس أن التصوف يمثل الجانب الروحي عند المسلمين ويزعم بعضهم أنه السبيل لتحقيق سعادة الإنسان ولقبوله حلول ذات الله تعالى فيه أو اتحاده به أو ليصبح الإنسان الكامل الذي دعا إليه الجيلي في كتابه الإنسان الكامل.
وهو السبيل إلى صحة الإنسان النفسية وعلاجه من أمراض القلوب، كما أنه يقود إلى معرفة أسرار الوجود وخفايا النفوس.
4- إن كثيراً من الناس في المجتمعات الغربية والإسلامية يجدون في التصوف أياً كان طريقاً للهرب من الحياة المادية المتخمة بالشهوات إلى الزهد والبعد عن الماديات، وقد جعل ذلك جاذبية خاصة للمتمردين على الحياة المادية والبعد عن الرذائل طمعاً فيما عند الله عز وجل.
وإن كان السبيل القويم في ذلك هو طريقة الموازنة بين متطلبات الجسد وتطلعات الروح وليس الانغماس في الترف أو تركه بالكلية، قال صلى الله عليه وسلم : " صم وأفطر وقم ونم فإنَّ لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً "(2).
5- للناس توجهات مختلفة فبعضهم مالوا إلى النظرية العقلية وهم الفلاسفة والمتكلمون وبعضهم الآخر مالوا إلى النظرية المادية التجريبية وهم التجريبيون والدهريون، واهتم الفقهاء بالأحكام الشرعية والصوفية ومالوا إلى النظرية الوجدانية القلبية أو الباطنية، فاستكمالاً لدراسة النظريات المختلفة لا بد من دراسة التصوف.
6- يرى كثير من الناس في التصوف طريقاً للهرب من أعباء الحياة ومشكلات العمل، وعزلة عن الناس نتيجة الفشل الاجتماعي، وتكاليف الحياة الأسرية، وطريقاً أسهل للكسب وخاصة صوفية الأرزاق.
7- كما يجد بعضهم في التصوف طريقاً للهرب من التكاليف الشرعية والواجبات الدينية وطريقاً للإباحية والمنكرات.(193/4)
8- يجد كثير ممن يسعى إلى التقديس وإلى جمع الأتباع والخدم في التصوف طريقاً سهلاً، وذلك لما يعمقه كثير من مشايخ الصوفية في المريدين من ضرورة الطاعة المطلقة للشيخ وخدمته وتقديمه على كل شيء.
9- وبعض الساسة يجدون في التصوف طريقاً لجلب الاتباع عن طريق مشايخ الطرق الصوفية لما لهم عليهم من سلطان كبير، كما يجدون في اللجوء إلى المشايخ في الليل تكفيراً عما اقترفته أيديهم من معاصي في النهار.
10- تشتمل كتب الصوفية على كثير من الغرائب سواءً في الألفاظ أو القصص أو الأخبار وهذا يستهوي كثيراً من الناس، فلا بد من دراسة التصوف لنخلص من ذلك كله إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل.
11- إذا رأى بعضهم أن التصوف حق لا باطل فيه ولا بد منه، فنحن ندرسه لاقتفاء حقه، وإذا رأى بعضهم أن التصوف باطل لا حق فيه فنحن ندرسه لتجنب باطله والتحذير منه ورضي الله عن حذيفة بن اليمان الذي كان يقول : " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني "(3).
لذا يجب علينا أن نبحث في التصوف وأن نبين ذلك للناس وخاصة للمتخصصين وأن ننصح من اختاره طريقاً وأن نبين له ما ينبغي أن يكون عليه من الحق وما يجب أن يبتعد عنه من الباطل.
1- موضوعه وثمرته
إن غاية التصوف أن يرتقي بالإنسان إلى تهذيب السلوك الإنساني، وكيفية السمو والإرتقاء بالنفس البشرية بالتزكية والتصفية، عن طريق علاج أمراض القلوب، وتصحيح المفاهيم والتصورات، وتقويم الجوارح وفق ضوابط الشريعة، والسمو الأخلاقي عن ملذات الدنيا وشهواتها للفوز برضى الله تعالى، ونيل سعادة الدارين.
ويسعى المتصوف إلى الوصول إلى مرتبة المراقبة وإلى مرتبة الإحسان حتى يكون رقيبه منه ورقيبه فيه ورقيبه عليه وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.
2- فضله(193/5)
للتصوف فضل عظيم فهو " من أشرف العلوم لتعلقه بمعرفة الله تعالى "(4) وليس ذلك فحسب ، بل هو يتصل بصحة عبادة الإنسان ربه عن طريق متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ (5) وعن طريق إخلاص العبادة لله تعالى حيث يقول ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (6).
وكذلك لأنه يقوم على أصول خمس(7) وهي :
1- تقوى الله في السر والعلن.
2- اتباع السنة في الأقوال والأفعال.
3- الإعراض عن الخلق.
4- الرضا بما قسم الله تعالى.
5- الرجوع إلى الله في السر والعلن.
المبحث الأول - التعريف بالتصوف
1- تعريف التصوف في اللغة :
- ورد في الصحاح أن الصوف للشاة ، ويقال كبش صاف أي كثير الصوف.
- وصاف السهم عن الهدف مال وعدل ، والمضارع منه يصوف ويصيف(8).
- ويرى صاحب المصباح المنير أن كلمة صوفية كلمة مولدة لا يشهد لها قياس ولا اشتقاق في اللغة العربية(9). وعلى هذا تكون كلمة تصوف مبتدعة محدثة وغير معروفة عند العرب الأوائل ولا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
2- أصل كلمة صوفية واشتقاقها
إن الذين تحدثوا عن التصوف والصوفية اختلفوا في أصل الكلمة واشتقاقها وكذلك اختلفوا في نسبة الصوفية اختلافاً كبيراً ، وإن المؤيدين والمعارضين للتصوف لم يتفقوا على نسبة للتصوف، كما أن الصوفيين أنفسهم لم يتفقوا على شيءٍ من ذلك ، وأحاول جاهداً ذكر أقوالهم في ذلك وأدلتهم والاعتراضات على ذلك.
1 - ذهب الكلاباذي إلى أن أصل الصوفية ينتسبون إلى الصفاء وأنهم سموا صوفية لصفاء أسرارهم وشرح صدورهم وضياء قلوبهم(10).(193/6)
والذي ذهب إلى ذلك نظر إلى حال الصوفية الأوائل ولم ينظر إلى الاشتقاق اللغوي لذلك يرى القشيري أن هذه النسبة غير صحيحة لغة لأننا لو نسبنا أحداً إلى الصفاء لقلنا صفائي(11).
كما أن صفاء القلوب ونقائها ومعرفة الباطن لا يعلمه إلا الله عز وجل، وادعاء الصوفية ذلك تزكية لأنفسهم والله عز وجل يقول (فلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى)(12)
وخيار الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم لم يكن أحدهم ليزكي نفسه بل كان يعمل العمل ويسأل الله القبول ويخشى عدم القبول.
وقد قال زكي مبارك إن نسبة التصوف إلى الصفاء ليس إلا حذلقة من بعض الصوفية(13).
2 - وقال آخرون إن الصوفية نسبة إلى أهل الصفة وهم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينزلون في مكان خلف الحجرات في المسجد النبوي وعرف المكان باسمهم وكانوا متفرغين للعبادة وللمجاورة وهم فقراء المهاجرين الذين ليس لهم مأوى.
وهذا الكلام لا يستقيم بالنظر إلى الاشتقاق اللغوي لأن النسبة إلى أهل الصُفَّة صُفي وليس صوفي(14).
ثم إن مكان أهل الصفة لم يكن مخصصاً للعبادة بل كانوا يذهبون للعبادة والصلاة في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النزلاء ينزلون فيه حيث لا مأوى لهم ولا عمل يرتزقون منه فكان أحدهم إذا وجد عملاً وبيتاً وزوجةً ترك مكان الصفة وذهب إلى عمله وهو ليس خاصاً بأحد بل هو مكان لعامة المسلمين وآحادهم.
ولم يكن انتسابهم إليه شرفاً لذلك كانوا يزيدون وينقصون وكان بعضهم لا يطول مقامه فيه بل بحسب ما يتيسر له العمل والبيت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم بما يكون عنده من طعام.(193/7)
وادعاء بعض المتصوفة أن اشتقاق التسمية من صُفَّة المسجد إنما يهدف إلى ربط نشأة التصوف بعهد النبي صلى الله عليه وسلم وكأن النبي قد أقرهم على منهجهم في الاعتزال والتجرد والتواكل وهذا مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم في التوكل والجد والاجتهاد وطلب الرزق، وسنته وتعاليمه خير شاهد على ذلك.
3 - وقيل إن التصوف نسبة إلى الاتصاف بالصفات الحميدة وترك الصفات الذميمة(15) ويرى عبد الله الأمين أن هذه النسبة لم تلق من الاستحسان ، فضلاً عن عدم الاستقامة العلمية ما حصرها في نطاق الرأي الضعيف الذي لم ينظر إليه تاريخياً(16).
والنسبة إلى الصفات ليس صوفي بل صفاتي، والصفاتية(17) المراد بها مثبتةُ الصفات فالبعض يطلقها على المشبهة ويطلقها المؤولة والنفاة على كل من أثبت الصفات بما فيهم السلف الصالح.
4 - نسبة الصوفية إلى " سوفيا " اليونانية ومعناها الحكمة، والقائلين بذلك حجتهم أن القوم كانوا طالبين للحكمة حريصين عليها فأطلقت عليهم الكلمة وعربت أو حرفت فأصبحت صوفية وصوفي(18).
وأكد البيروني هذه النسبة لأن فكرة القول بالوحدة ظهرت فيهم وردَّ هذا القول زكي مبارك في كتابه التصوف الإسلامي.وأكد محمود عبد الرؤوف القاسم على هذه النسبة بالنظر إلى المعتقدات الفلسفية التي يعتقدها الصوفية. ومن حيث ظهورها في زمن الترجمة في نهاية القرن الثاني والقرن الثالث الهجريين. وإنها نشأت في العراق بلد الترجمة وفي زمنها وهو الزمن الذي تفشت فيه الكلمات اليونانية واستعملت في مختلف الفنون(19).
ولكن الصوفية أنفسهم لا يقبلون أن ينسبوا إلى اليونان لما يجعل للخصوم عليهم سبيلاً حيث ينسبونهم إلى الفكر اليوناني القديم بما فيه من ضلالات وانحرافات.(193/8)
ولأن الكلمة اليونانية " سوفيا " قصد بها فلاسفة اليونان المنهج الذي قوامه البحث النظري المجرد في الوجود للوقوف على حقائقه ومهيته مما لا يتصل بالسلوك العملي إلا قليل، أما التصوف الإسلامي فإنه ذو طابع عملي(20).
5 - وقيل نسبة إلى الصوفانة وهي نبات أي بقلة زغباء قصيرة صحراوية وذلك لاكتفائهم بالقليل من الطعام ولو من نبات الصحراء وهذا غير سليم بمقتضى اللغة لأنه لو نسب إليها لقيل صوفاني وليس صوفي(21).
ولو سألت الصوفية عن هذه النسبة فلن يقر بها أحد، هذا إذا علم معنى الصوفانة فإن عامتهم يجهلونها.
6 - وقيل أنهم ينتسبون إلى الصفوة باعتبارهم صفوة الله من خلقه وأنهم النخبة المصطفاة من الأمة. وهذا القول مردود لأنهم لو نسبوا إلى الصفوة لقيل في اشتقاق اللغة صفوي(22).
7 - قيل أيضاً أنهم منسوبون إلى الصف الأول المقدم في الصلاة والمقدم بين يدي الله عز وجل وهذا غير مستقيم لغة، فلو نسبوا إلى الصف لقيل صَفِّي(23).
8 - وقيل إنه نسبة إلى رجل جاهلي يقال له صوفة ـ وهو الغوث بن مر بن آد بن طنجة ابن إلياس بن مضر، وذلك أن أم الغوث نذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة وتجعلنه ربيط الكعبة فكان أول من انفرد لخدمة الكعبة وتبعه أناس في الجاهلية فمن تشبه به فهم الصوفية(24).
- وهذه النسبة مستبعدة لأن الصوفية لا يقبلون أن ينتسبوا إلى رجل جاهلي أو قبيلة جاهلية.
- ولو صحت هذه النسبة لكان الانتساب إلى الإسلام أولى من الانتساب إلى الجاهلية والشرك.
- ولو صحت هذه النسبة لكانت معروفة في عهد الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
- كما أن هذه القبيلة وهؤلاء القوم غير مشهورين ولا معروفين لا عند المسلمين ولا عند متصوفيهم وإن كان ابن الجوزي رحمه الله يميل إلى صحة ذلك إلا أن ابن تيمية رحمه الله ضعف هذه النسبة(25).(193/9)
9- وذهب قوم إلى أن الصوفية نسبة إلى الصوف وذلك لأن النسبة إلى الصوف صوفي وممن رجح هذا القول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في الفتاوي والسهروردي(26) وابن خلدون(27) وحجتهم(28) على صحة هذه النسبة :
- إن الصوف لباس الأنبياء وخاصة سيدنا محمد وعيسى عليهما السلام وهو لباس الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والصوفية المتقدمين رحمهم الله تعالى.
- وإن لبس الصوف هو أقرب إلى التواضع والخمول والذل يقول ابو فراس الحمداني مخاطباً سيف الدولة.
يا واسع الدار كيف توسعها……ونحن في صخرة نزلزلها
يا ناعم الثوب كيف تبدله……ثيابنا الصوف ما نبدلها(29)
- وإن الصوفية كانوا يعرفون هذه النسبة فقد دخل أبو محمد بن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن بشار وعليه جبة صوف فقال له أبو الحسن : يا أبا محمد صوف قلبك أو جسمك(30) وقال النضر بن شميل لبعض الصوفية تبيع جبتك الصوف ؟ فقال إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد(31).
- " وإن نسبتهم إلى لبس الصوف تنبئ عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعوا إليه النفس بالهوى من الملبوس الناعم، ويكون اللابس خشناً مثل الملبوس في خشونته.
- وإن لبس الصوف أمر ظاهر والحكم بالظاهر أسلم وأولى في نسبتهم إلى حال أو مقام لأنه أمر باطن ، وأيضاً لأن القول بأنهم صوفية للبسهم الصوف أبعد عن الرياء وأقرب للتواضع.
- وإن هذا الرأي قد سلم مما توجه إلى غيره من الآراء فإنه يوافق قواعد اللغة من حيث النسبة والاشتقاق لأنه يقال تقمص لمن لبس القميص وتصوف إذا لبس الصوف(32).
ويرد عليهم بعدة أمور :(193/10)
- " بأن لبس الصوف ليس فيه فضيلة وليس في الانتساب إليه شرف وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس الصوف والقطن والكتان وقد جاء في البخاري(33) عن أنس " كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلبس الحبرة وجاء في شرحها لابن حجر في فتح الباري قال ابن بطال : إن الحبرة بردة من برود اليمن تصنع من قطن،وتكون مزينة ،من التحبير وهو التزيين.
- بل قد أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد(34) عن عائشة رضي الله عنها أنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم بردة سوداء فلبسها فلما عرق ووجد ريح الصوف قذفها ، قال وكان يعجبه الريح الطيبة(35). وهذه الأحاديث يقلب للصوف ظهر المجن.
- وأما قولهم بأن عيسى عليه السلام كان لا يلبس إلا الصوف فهو قول مأخوذ من مصادر غير صحيحة ومن كتب أهل الكتاب المحرفة.
- إن لبس الصوف هو لبس الرهبان وأهل الصوامع ، ولا رهبانية في الإسلام وكثير من الزهاد الأوائل كان يذم لبس الصوف لذلك.
ومن ذلك ما ورد في تلبيس إبليس"(36) بأن حماد بن أبي سليمان رأى رجلاً عليه ثوب صوف فقال له " ضع عنك نصرانيتك هذه ".
وقال أبو العالية لرجل آخر لبس الصوف " إنما هذه ثياب الرهبان ".
ورأى سفيان الثوري رجلاً لبس الصوف فقال " لباسك هذا بدعة ".
وينكر ابن الجوزي أن يكون للمرقعة الصوفية أصل في السنة وهي التي يزعمون أن النبي عليه السلام ألبسها لعلي رضي الله عنه.
- ولم يرد أن أبا بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم كانوا مختصين بلبس الصوف دون غيره من الثياب.
- إن لبس الصوف مدعاة إلى التظاهر بالتنسك والتقشف والزهد وهذا من الرياء فقد قال محمد بن محمد الكتاني لأصحاب المرقعات " إخواني إن كان لباسكم موافقاً لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وإن كانت مخالفة لسرائركم فقد هلكتم ورب الكعبة(37).
- وقال الجنيد إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب(38).(193/11)
- ورحم الله ابن الجوزي الذي عاب على الذين خربوا بواطنهم وتظاهروا بالزهد والتقشف فقال " كان الزهد في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب " ، وكان الزهد حرقة فصار اليوم خرقة ، " ويحك صوف قلبك لا جسمك وأصلح نيتك لا مرقعتك "(39).
- ويرى الإمام القشيري في الرسالة القشيرية(40) أن التصوف اسم عَلَم على طائفة الصوفية بغض النظر عن اشتقاق الكلمة والأصل الذي أخذت عنه. والذي أراه أن التصوف نشأ نشأةً إسلامية مستقاة من النصوص الشرعية في الزهد وترك الدنيا وملذاتها، ثم مع مر الأيام تأثر بعض الصوفية وأصحاب الطرق بالفكر الغريب المستقى من الفلسفة اليونانية والأديان القديمة وذاك ما سنبينه عند الحديث عن نشأة التصوف وتأثره بالفكر الغريب.
والراجح في هذه الأقوال هو نسبتهم إلى الصوف لأنه حكم بالظاهر وتصح لغة ،أو قول الإمام القشيري وهو من أوائل الصوفية فهو أعلم بشؤونهم.
3- معنى التصوف اصطلاحاً
إذا أردنا أن نعرف التصوف في الاصطلاح فلا بد من الرجوع إلى أقوال الصوفية في ماهية التصوف وكذلك أقوال أصحاب الطرق.
ومنذ نشأة الصوفية إلى يومنا هذا حدث في التصوف تشعبات كثيرة وانحرافات عن منهج الأوائل وكثرت أقوالهم في حقيقة التصوف إلى ما يزيد على ألف قول، وكل قول من هذه الأقوال يشير إلى أهم جانب في التصوف عند قائله سواءً بالنظر إلى الطريقة أو الخلق أو الغاية، أو بالنظر إلى حاجة الصوفي أو من حوله وبالنظر إلى حاله والخطأ الذي يريد أن يقومه ولا تخلو أقوالهم من جانب في الجوانب التالية(41) :
1- التصوف بمعنى الزهد :
- قال سمنون : التصوف أن لا تملك شيئاً ولا يملكك شيء(42).
- وقال معروض الكرخي : التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق(43).
- وقال النوري : التصوف من لا يتعلق بشيءٍ ولا يتعلق به شيء.
- وقال ذو النون المصري : الصوفي من لا يتعبه طلب ولا يزعجه سلب(44).
2- التصوف بمعنى الأخلاق :(193/12)
- قال أبو محمد الجريري : التصوف الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دنى.
- وقال الكتاني : التصوف خُلق فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الصفاء(45).
3- التصوف بمعنى الصفاء :
- قال سهل بن عبد الله : الصوفي من صفا من الكدر ، وامتلأ من الفكر ، وانقطع إلى الله عن البشر واستوى عنده الذهب والمدر.
- وقال بشر الحافي : الصوفي من صفا لله قلبه.
- وقال الشبلي : التصوف الجلوس مع الله بلا هم(46).
4- التصوف بمعنى المجاهدة :
- قال الجنيد : التصوف عنوة لا صلح فيها. والمراد بالعنوة الجد والتعب والمراغمة.
- وقال عمرو بن عثمان المكي : التصوف أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت(47).
5- التصوف التزام بالشريعة :
- قال أبو حفص : حسن آداب الظاهر عنوان حسن آداب الباطن لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو خشع قلبه لخشعت جوارحه".
- وقال الجنيد : التصوف بيت والشريعة بابه.
- وقال محمد بن أحمد المقرئ : التصوف استقامة الأحوال مع الله.
- وقال أبو عمر بن الجنيد : التصوف الصبر تحت الأمر والنهي(48).
6- التصوف بمعنى التسليم الكامل لله :
- قال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي : التصوف الإعراض عن الاعتراض.
- وقال رويم : التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده.
- وقال أبو يعقوب المزايلي عن التصوف : حال تضمحل فيه معالم الإنسانية(49).
7- التصوف بمعنى الإخلاص " الغاية وجه الله " :
- قال الجنيد : التصوف أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة.
- وقال ذو النون المصري : أهل التصوف هم قوم آثروا الله عز وجل على كل شيء ، فآثرهم الله على كل شيء.
- وقال أبو الحسين النوري : التصوف ترك نصيب النفس جملة ليكون الحق نصيبها(50).
8- التصوف بمعنى الارتباط الروحي بالله :
- قال أبو نصر الحصري : الصوفي الذي لا تقله أرض ولا تظله سماء.(193/13)
- وقال أبو الحسن الخرقاني : ليس الصوفي بمرقعته وسجادته ، ولا برسومه وعاداته بل الصوفي من لا وجود له.
- ونُسب إلى الجنيد قوله : التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به(51).
9- التصوف ترك التكلف والشكليات :
- قال الجنيد : إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن باطنه خراب.
وقال حماد الدينوري : التصوف أن تظهر الغنى وأن تؤثر أن تكون مجهولاً حتى لا يعرفك الخلق وأن تكف عن كل ما لا خير فيه(52).
10- التصوف بمعنى الطريق المخصوص للسالكين :
- قال الجنيد : الصوفية هم أهل بيت واحد ، لا يدخل فيهم غيرهم.
- وقال أبو سليمان الداراني : التصوف أن تجري على الصوفي أعمال لا يعلمها إلا الحق وأن يكون دائماً مع الحق على حال لا يعلمها إلا هو(53).
وبالنظر في الأقوال المتقدمة نجد أن كل تعريف من تعريفات أئمة التصوف والمنتسبين إليه يشير إلى جانب من الجوانب، وهذه الجوانب مجتمعة تشير إلى جوانب عظيمة من جوانب هذا الدين فالتصوف السني ينبغي أن يتوفر فيه جميع ما ذكر من زهد وإخلاص ومجاهدة وخلق كريم وتسليم لرب العالمين والتزام بشرعه وترك للتكلف، وأن يلتزم المنتسب إلى الله تعالى بالعبادة الدائمة لله عز وجل كما أمر، والبعد عن كل ما نهى الشارع عنه، وعن البدع المضلة وعن الفكر الغريب والفلسفات الباطلة.
ويترجح لدينا بعد عرض تلك التعريفات تعريف ابن خلدون للتصوف لأنه يدل دلالة واضحة على معاني التصوف المتعددة وعلى أحوال الصوفية واهتماماتهم وهو " العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والإنفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة "(54).
4- مصطلح التصوف بين القبول والرفض(193/14)
ذهب صاحب كتاب " أبو حامد الغزالي والتصوف " (55) إلى وجوب إلغاء كلمة التصوف وذلك لأنها محدثة ولم تكن معروفة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأن الإمام ابن تيمية رحمه الله حين قيل له إن ابن سينا من فلاسفة الإسلام فقال " ليس للإسلام فلاسفة " (56).
وذكر مآخذ كثيرة وانحرافات وقع فيها الصوفية وقال إن في إلغاء الكلمة سلامة للدين وحفظاً للناس من خطرها.
وقال إذا قبلنا التسمية فتحنا باباً للشر بأن يقال معتزلة الإسلام وشيوعية الإسلام... الخ.
وأقول بأن كلمة التصوف وهي كلمة معروفة منذ أواخر القرن الثاني وشاعت في القرن الثالث للهجرة إلى يومنا هذا وقد ملئت بها الكتب والمكتبات ولا يملك أحد إلغاءها ولا يستطيع ذلك إن أراده.
وقد استعمل كلمة التصوف شيخ الإسلام ابن تيمية وامتدح بعضاً من أئمة التصوف، وتكلم في ألفاظهم المستعملة ، ورد على المنحرفين منهم ، وقال نقبل ما عندهم من حق ونحثهم عليه ونرد باطلهم ونزجرهم عنه.
وكل اسم تسمى به جماعة ما لم يكن يدل على الباطل ومرتبط به منذ نشأته، وما لم يكن مرتبطاً بفكر غريب فلا عبرة بالاسم ويهمني المسمى فإذا كان المسمى برمته باطلاً وجب نبذه وإلا نقبل الاسم ونقوِّم المسمى فليس التصوف كله باطلاً.
فإن كنت لا أشجع على التصوف ولا أحث عليه ولا أقبل الانتساب إليه وأدين الله بعقيدة السلف الصالحين فإني أعمل بقوله تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(57)، وقوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(58). وقال تعالى : (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)(59).
المبحث الثاني - نشأة التصوف وأطواره
1- نشأة التصوف(193/15)
لم يكن التصوف معروفاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا في عصر التابعين رحمهم الله ، وإن كانت حقيقته معروفة ، لأن جل ما يصبوا إليه المرء هو الانتساب إلى الصحابة رضي الله عنهم ثم إلى التابعين رحمهم الله وكفى بالمرءِ شرفاً أن ينتسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم بالاتباع.
وفي القرن الأول لم يكن يعرف اسم التصوف، بل كان أهله يعرفون باسم الزهاد والنساك والبكائين وليس باسم الصوفية، وكان اعتقادهم صافياً وإيمانهم نقياً خالصاً وما كان ابتعادهم عن الدنيا إلا لارتياعهم من عذاب الآخرة، وهرعوا إلى الكهوف والمغاور ورؤوس الجبال حيث الوحدة الصافية والانعزال عن صخب الحياة المادية(60).
ثم بعد مضي عصر الصحابة والتابعين وفي أواخر القرن الثاني الهجري بدأ لفظ الصوفية يظهر ، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (164ـ241هـ) وأبو سليمان الداراني المتوفى سنة 215هـ وقيل إن أول من بني دويرة للصوفية هو بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد المتوفى بعد الخمسين ومائة للهجرة. وهو من أصحاب الحسن البصري وكان ذلك في البصرة (وإن أول من عرف باسم صوفي في المجتمع الإسلامي هو أبو هاشم الصوفي المتوفى قبل منتصف القرن الثاني الهجري) (61) (ويقول عمر رضا كحالة ورد لفظ (الصوفي) لقباً مفرداً في النصف الثاني للهجرة إذ نعت به جابر بن حيان الكوفي وأما صيغة الجمع (الصوفية) فإنها ظهرت فيما انتهى إليه عمر رضا كحالة عام 199هـ)(62).
2- الأطوار التي مر بها التصوف
إذا أهملنا ظهور اللفظ ونظرنا إلى حقيقة التصوف وهو والترفع عن الملذات فنستطيع أن ندخل عصر الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فيكون هو الطور الأول.
الطور الأول : طور التسامي عن الحياة المادية :(193/16)
ويكون هذا الطور هو عصر الصحابة وهو يتناول القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني عصر كبار التابعين ، وهذا العصر مليء بأخبار زهد الصحابة رضي الله عنهم، وأبرز رجال هذا الطور الخلفاء الراشدون ، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ،وكذلك عبد الله بن عباس ، وأبو عبيدة رضي الله عنهم وغيرهم كثير فهم الذين كان يتنزل القرآن بين ظهرانيهم ويتلوه عليهم سيد البشر عليه الصلاة و السلام قال تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (63) ويبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ويأمرهم قائلا "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" (64).
وإذا رجعنا إلى كتاب حياة الصحابة للكندهلوي ونظرنا في زهد الرسول صلى الله عليه وسلم وزهدأصحابه رضي الله عنهم لوجدنا ترفعهم عن الدنيا وتزودهم فيها للآخرة ما يفوق الوصف.
والملاحظ أن عصر الصحابة رضي الله عنهم كان عصر التوازن بين متطلبات الروح ومتطلبات الجسد، وبين الدنيا والآخرة، وبين الخلوة والمخالطة، فهم مع ترفعهم عن الانخراط والانغماس في متاع الدنيا إلاّ أنهم لم يعزفوا عن الدنيا بالكلية لأن الإسلام يدعو إلى التوازن والتوسط في الأمور جميعها بلا إفراط ولا تفريط.
ولم يدع الإسلام إلى الغلو والتنطع ولا إلى التفرغ الكامل للزهد والاعتكاف عن الجهاد بل هناك نصوص كثيرة تخالف هذا الاتجاه منها : قال تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا) (65) قال صلى الله عليه وسلم : " صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً "(66).
وحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال : ما هذا الحبل ؟ قالوا لزينب، إذا فترت أمسكت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا … حلوه … ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد "(67).
الطور الثاني : طور التشبه بالسابقين :(193/17)
وهذا الطور يبدأ في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري والقرن الثالث. وامتاز هذا الطور بالحرص على الاتباع دون الابتداع وعلى رأس هذا الطور ظهر إبراهيم بن أدهم ت 161 هـ وهو يغزو في بلاد الروم.
- وأبو سليمان داوود بن نصر الطائي ت 165هـ وقد انشغل بالعلم والفقه واشتهر بالخلوة والعبادة(68).
- ومن أعظم الذين ظهروا في هذا العصر رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية أم الخير المشهورة بالزهد والصلاح الداعية إلى حب الله لذاته وقد توفيت عام 185هـ (69).
- ومن أهم أشعارها في حب الله :
إني جعلتك في الفؤاد محدثي *** وأبحت جسمي من أراد جلوس
فالجسم مني للجليس مؤانس *** وحبيب قلبي في الفؤاد أنيس(70)
ومن أقوالها المشهورة ما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته فأكون كالأجير السوء عبدته حباً له وشوقاً إليه(71).
وقالت أيضاً :
أحبك حبين حب الهوى *** وحباً لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى*** فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له *** فكشفك للحجب حتى أراك
فما الحمد في ذا وفي ذاك لي*** ولكن لك الحمد في ذا وذاك(72)
- والفضيل بن عياض توفي في مكة 187هـ ، وشقيق البلخي توفي 194هـ.
الطور الثالث(73) : طور دخول الألفاظ الموهمة :
وقد امتد من القرن الثالث إلى أواسط القرن الرابع حيث ظهر في هذا الطور أبو يزيد البسطامي ت 261هـ وهو أول من تكلم في الفناء وقد قال : " لا حال للعارف فقد محيت رسومه وفنيت هويته لهوية غيره " وقد تكلم بالمكاشفة وأنكر الناس عليه ألفاظه(74).
ومن رجال هذا الطور أبو محمد سهل التستري (75) ت 283هـ وكان زاهداً معروفاً وكان يذكر الله بقلبه أحياناً دون نطق وكان على عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري لذا فقد نحى بالزهد منحى كلامياً.
الطور الرابع : طور التحرر من التكاليف الشرعية :
وهذا الطور بدأ في القرن الرابع الهجري وعلى رأسه الحسين بن منصور الحلاج ت 309 هـ.(193/18)
- وكان الحلاج رجلاً محتالاً مشعوذاً وكان يعرف علم الكيمياء وخواص المواد وكان من خداعه أنه يدفن في الطرقات أواني فيها ماء وأخرى فيها طعام فإذا طلب أحد أتباعه ماءً قال له أحفر هاهنا وإذا طلب طعاماً قال أحفر هاهنا (76) وكان قد سجن في بغداد ثم أخرج من السجن وقتل بعد مناظرة العلماء له.
- ومن رجال هذا الطور أبو بكر محمد بن موسى الواسطي ت 331 هـ وكان يدعو إلى التأمل في الله وعدم ذكره باللسان ، ويعتبر ذكر اللسان غفلة * أكثر من غفلة اللاهين (77) ويعتبر هذا الطور من أخطر الأطوار التي مر بها التصوف لأنه أدى إلى ظهور فكرة التخلي عن العبادات الظاهرة وإلى التحلل من التكاليف والأوامر والنواهي، وبسببه ظهرت الإباحية التي أثرت فيما بعد في كثير من الطرق الصوفية ، حتى أصبحت في عصرنا هذا بعض الصوفية يجتمعون في حلقات للذكر بألفاظ موهمة وبحركات تؤدي إلى فقد الوعي واختلاط الرجال بالنساء أثناء الذكر أعاذنا الله وإياكم من الوقوع فيما نهانا الله تعالى عنه.
الطور الخامس : تبلور الطرق الصوفية :
وكان ذلك في القرن الخامس الهجري وما بعده ومن أبرز أعلام هذه الحقبة محي الدين عبد القادر الجيلاني "الجيلي" ويرفع الشعراني نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولد الجيلاني سنة 471هـ ( - وقيل غير ذلك - ) في جيلان وقدم بغداد وهي دار التصوف سنة 488هـ وتوفي سنة 561هـ وإليه تنسب الطريقة القادرية (78)، ونسب إليه أتباعه كثير من الكرامات، فقالوا كان يسير في الهواء وعلى رؤوس الناس ، وكان يخاطب الجن ويهديهم.
ومن مشاهير هذا الطور أيضاً أحمد بن أبي الحسين الرفاعي من بني رفاعة وإليه تنسب الطائفة الرفاعية البطائحية نسبة إلى مولد أحمد الرفاعي بالبطائح (79).
وظهرت بعد ذلك الشاذلية ومؤسسها هو أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي نسبة إلى شاذلة في تونس توفي سنة 656 (80).(193/19)
وتنسب إليه الطريقة الشاذلية، وانتشرت طريقته في مصر واليمن ومراكش وغرب الجزائر.
وكذلك ظهر في هذا الطور أحمد البدوي، ولد بفارس سنة 596هـ ، ورحل إلى العراق واستقر بمصر بطنطا حتى وفاته سنة 634هـ وهو من أكبر أولياء مصر عند الصوفية، امتاز بالفروسية وانقطع عن العباد وامتنع عن الزواج، وإليه تنسب الطريقة الأحمدية حيث انتشرت طريقته في جميع أرجاء مصر ولها فروع متعددة يمتازون بشاراتهم وهي العمامة الحمراء (81).
وظهر في هذه الحقبة إبراهيم الدسوقي (623- 667) هـ وإليه تنسب الطريقة الدسوقية التي تقوم على الخروج عن حظوظ النفس والهوى، والدعاء إلى المحبة بين الناس والتسليم المطلق من المريد للشيخ وعدم استحباب الخلوة إلاّ في حضرة الشيخ (82).
وقد صحب ظهور الطرق الصوفية القول بالكرامات، كما ظهرت وفشت البدع كبدع الأذكار والقبوريين.
الطور السادس : طور ظهور المجذوبين :
وقد ظهر هؤلاء المجاذيب في القرنين التاسع والعاشر الهجريين وهم أقسام :
1- منهم المتظاهرون بذلك الذين يخفون أهدافاً دينية أو سياسية لينجوا من قبضة السلاطين والشرطة والقضاة وأكثر هؤلاء ظهوراً كان بمصر.
2- تطور بعض هؤلاء إلى حالات مرضية نفسية وعصبية دائمة أدت بهم إلى اكتئاب دائم وكانوا يؤذون الناس.
3- وأناس حصلت لهم أزمات نفسية مؤقتة ، وحين تحصل لهم هذه الحالات كانوا يقومون بأعمال جنونية لفقدهم الإرادة.
وأمثال هؤلاء في التاريخ الإسلامي كثير، منهم أبو الخير الكليباني توفي سنة 910هـ وسمي بذلك لأنه كان يأمر الناس بشراء اللحم وإطعامه للكلاب وكان يفعل ذلك. وأحمد المجذوب توفي بعد سنة 920هـ وكان يقيم عند الباعة ويصرخ قائلاً يا مالي ومال السلطان ولا يتركهم حتى يعطونه من المال والطعام (83).
3- تأثر الصوفية بالفكر الغريب(193/20)
إن الدارس للمذاهب والأفكار والفلسفات والأديان على اختلافها يجد تقارباً و تشابهاً بين جوانب من الفكر الصوفي المنحرف وبين تلك الأفكار والمذاهب على اختلافها.
" ففي عهد الخلافة العباسية في القرن الثالث الهجري حين سيطرت حياة البذخ والترف، وانتشار العلوم، خصوصاً الفلسفية التي أبرزتها الترجمة، ووضعتها في متناول الجميع، ودخلت على الفكر الإسلامي، وفتحت الباب على مصراعيه أمام تدفق معتقدات وفلسفات ومذاهب لاهوتية غريبة عن الإسلام، كالزرادشتية (84) والمانوية (85) والمزدكية (86) والديصانية (87) والمرقونية (88) وغيرها، وكان المجتمع الفكري مزيجاً من فلسفة اليونان، وزهد الهنود، وزندقة الفرس والشك المسيحي، وانتشر المفسرون والمتحدثون والفقهاء والمتكلمون والفلاسفة والملاحدة، وأدت حرية العقل التي دعت إليها المعتزلة إلى البلبلة الفكرية" (89).
ومن مظاهر هذا التأثر والتشابه ما يلي :
1- تأثر التصوف باليهودية :
كان ما يعرف بالتنبؤ مشهوراً بين اليهود وكان لمتصوفة اليهود مراكز تسمى المسفايات وكانت مراكزهم هذه منتشرة في كل البلاد التي تواجد فيها اليهود وفتحها الإسلام، وحارب الإسلام الكهانة فكانت تمارس الكهانة اليهودية في الغرف المظلمة وحاول هؤلاء الكهنة واستطاعوا تعليم الكهانة والتصوف إلى بعض المسلمين الذين نشروا هذه الأفكار بدورهم (90).
وقد ظهر أحد الكهان وهوالحارث الدمشقي الذي سمى نفسه نبياً في زمن عبد الملك ابن مروان (91).
كما يوجد هناك تشابه بين ذكر الصوفية البدعي وما دعا إليه العهد القديم حيث جاء فيه " ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه برقص بدف وعود ليرنموا … هللو يا، سبحوا الله في قدسه، سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف ورقص، سبحوه بأوتار ومزمار، سبحوه بسنوج الهتاف " (92).(193/21)
وكان التنبؤ ظاهرة معروفة لدى اليهود، وكذلك الكهانة والتنجيم، وقد ظهر ذلك في الصوفية وإن كان بأسماء أخرى مثل المعرفة الصوفية وطرقها التي هي ادعاء علم الغيب عن طريق الكشف وغيره.
ولا يخفى على أحد تأثر الشيعة من الفكر اليهودي في مسألة تقديس الأئمة وتناسخ الجزء الإلهي في بعض البشر وقال بعض فرق الشيعة في علي رضي الله عنه بذلك التناسخ، ومن ثم انتقل ذلك من هؤلاء أو أولئك إلى التصوف فظهر فيهم الغلو في المشايخ وأصحاب الطرق والأولياء.
2- تأثر التصوف بالنصرانية :
دخل الإسلام البلدان وخاصة الشام، وكان الرهبان منتشرين في الصحاري والجبال حيث يقيمون صوامعهم فتأثر أتقياء الأمة وزهادها بهم، وكان في أول الأمر التأثر باللباس، وكثرة العبادات من الذكر والصلوات والصيام. فتأثرت الصوفية بذلك وانتقلت الرهبنة النصرانية مثل العزوف عن ملذات الحياة الدنيا وعن الزواج، ولبس الثياب البالية والمرقعة إليهم. حتى تسمى بعض أتقياء الأمة بالرهبان أمثال الصحابي الجليل أويس القرني رضي الله عنه الذي لقب براهب الأمة، والمردار أحد شيوخ المعتزلة سمي براهب المعتزلة، وأبو بكر المخزومي - ت94هـ - راهب قريش، والدارمي - ت 243هـ - راهب الكوفة (93).
ولقد تمسك كثير من الصوفية بقصص الزهد التي تنسب إلى المسيح عيسى عليه السلام والحواريين والاستشهاد بأعمال الرهبان ورجال الدين النصارى، والصوامع والخلوة.
وكذلك تأثروا بالدعوة إلى التسامح والحب الإلهي والمحاسبة الشديدة للنفس وتعذيبها والاعتراف للشيخ ورجل الدين بالذنب وطلب العفو والغفران منه (94).(193/22)
وتأثر التصوف من النصرانية بفكرة المعرفة والشهود والتأمل والفناء، ومن ذلك ما ذهب إليه القديس (برنار) حيث يرى أن الحياة المسيحية الصوفية تنحصر في اتباع طريق النجاة، وطريق النجاة في نظره بأن يقوم العابد الزاهد بالبحث والتأمل في نفسه ثم في العالم ثم في الإله، ينتهي أولاً إلى الشهود والذي هو الإدراك اليقيني البعيد عن أي ريب في الحقيقة، وأخيراً ينتهي إلى الغيبوبة التي يكون الروح فيها شاغرة بنفسها فتسمو إلى مرتبة الاستمتاع بالصلة الإلهية، ولعل ذلك الإحساس أصل فكرة الفناء.
ويرى المتأله (أميرسون) أن المعرفة تكون بواسطة الزهادة أكثر منها بواسطة البحث الإنساني، وهي مناهج التأمل المرتبط بالتقدم الروحي ثم تنتهي إلى الاتصال بالله (95).
ويبين الدكتور/ حسن عاصي (96) أن التشابه بين النصرانية والصوفية في ثلاثة مفاهيم وهي :
أ ) الفقر : وقد ورد ذكره في انجيل لوقا " طوبى لكم أيها المساكين فإن لكم ملكوت الله، طوبى لكم أيها الجياع الآن فإنكم ستشبعون " 1/106.
ب) التوكل : وهو من مقامات الصوفية وجاء في إنجيل متى " لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما تلبسون …. انظروا إلى طير السماء فإنها لا تزرع ولا تحصد ولا تحزن وأبوكم السماوي يقوتها، أفلستم أنتم أفضل منها " 6/25- 26.
ج) الحب الإلهي : واستدل على ذلك بقوله " العابد يقف أمام معبوده، يخاطبه مخاطبة العاشق معشوقه والحبيب محبوبه ".
3- التأثر بالديانات الهندية :
لقد عرفت الهند الكهانة قبل المسيحية بثمانية قرون، وعرف المسلمون الهند في مطلع القرن الثاني الهجري عن طريق التجارة، وعن طريق السياحة الهندية التي كانت مشتهرة عند الهنود الذين تركوا الدنيا والملذات حيث ساحوا في العراق وغيرها من بلاد الإسلام " (97).
والمطلع على أديان الهند يجد كثيراً من الفكر الشبيه بالفكر الصوفي وهذا بعضاً من ذلك :
أ ) التأمل والحلول :(193/23)
يوجد تشابه كبير بين معتقدات البراهمة وهم حكماء الهنود والصوفية، فإن الكهنة الهنود عن طريق التأمل يصبون إلى الوصول إلى الكمال الروحي الذي يؤدي في النهاية إلى الحلول في الله تعالى بزعمهم (98).
ب) التناسخ والفناء :
وإن كانت البوذية تأثرت بالبراهمة في فكرة الفناء غير أن النرفانا الكبرى هي من الفكر البوذي حيث يرى البراهمة أن الروح تخرج إلى جسد آخر ، ولكن النرفانا الكبرى تعني الفناء المطلق وهو عودة الروح إلى منشئها لتحل في الله تعالى بزعمهم (99).
ج) اليوغا ( تعذيب الجسد ) :
واليوغا الهندية هي عبارة عن رياضات شاقة فيها تعذيب للجسد للوصول إلى قتل الشهوة، وتحرير النفس من رغباتها وتعويد الجسد على الهدوء، وأحياناً يكررون بعض الألفاظ (الذكر عندهم).
د ) وحدة الوجود :
ويعتقدون كما تشير كتبهم القديمة أن جميع أشكال الحياة من الحياة الإلهية إلى حياة أصغر الخلائق هي ذات واحدة وهي ماثلة في كل مخلوق وهي فكرة (وحدة الوجود) (100).
هـ) المظهر العام :
إن الذي يذهب إلى الهند يجد عندهم لباس الخرقة والمرقعات، واستعمال السبح ذات الأعداد الكبيرة من الأمور المشتهرة بينهم.
و ) القدرات والمعجزات :
يزعم صاحب كتاب بيتنجل في سياق حديثه عن التدين الهندي، أن الرجل إذا اشتغل بالرياضات وتهذيب النفس يمنح القدرة على ثمانية أشياء وهي :
1- التمكن من تلطيف البدن حتى يخفى عن الأعين، وقال بهذا كثير من الصوفية حيث زعموا أن الولي عندهم يشاهد في أدنى الأرض، وبعد قليل في أقصاها وقد يشاهد في مكانين معاً.
2- التمكن من تخفيف البدن حتى يستوي عنده وطء السوائل والوحل والتراب.
3- التمكن من تعظيمه حتى يُرى في صورة هائلة عجيبة، وهذا ما تزعمه الصوفية من أن أحدهم يكبر حتى يملأ الغرفة.(193/24)
4- انطواء المسافات بينه وبين المقاصد الشاسعة، وهذا ما يزعمه بعض الصوفية من أن أحدهم يصلي الصبح في المدينة والظهر في مكة والعصر في بيت المقدس، أو أنه يتحرك في لحظات من نجد إلى عرفة ويرجع وينقل لهم أخبار الحجيج.
5- التمكن من الإرادات ، أي فعل ما يريد.
6- التمكن من علم مايروم (يريد) ، أي يحصّل العلم الذي يريده.
7- التمكن من الترأس على أي طائفة ، أي إذا أراد أن يكون رئساً على طائفة ما فيستطيع تحقيق ذلك.
8- خضوع المرؤوسين وطاعتهم وهذا واضح عند الصوفية فيستطيع الشيخ جعل المريد يطيعه طاعة مطلقة حتى وإن كانت في معصية الله " (101).
مثال للتصوف الهندي :
من أمثلة التصوف الهندي (راما كريشنا) وهو رجل هندوسي كغيره من جحافل الوثنيين الذين يقدسون الماء والتراب والحيوان، ويعد من أعظم نساك الهند حيث كان لحياته أثر كبير في تغلغل السمو الروحي أعماق القلوب.
ويقول عنه الأديب الفرنسي الكبير (روما رولان) : إن راما كريشنا تتويج لجهود آلاف السنين في سبيل ترقية الحياة الباطنية لمئات الملايين من الهنود، إذ كان هذا الرجل المنعش الوحيد للهند الحديثة (102).
ومما تقدم نتبين تأثر الصوفية بكثير من المعان الموجودة في الفلسفة الهندية ولا نستطيع أن ننكر اتصال المسلمين بالهند منذ عصر الإسلام الأول كما تقدم.
4- التأثر بالفلسفة الصينية :
ظهرت الحكمة الصينية قديماً في القرن السابع قبل الميلاد حيث عاش المفكر لأوتسة في ذلك القرن وهو زاهد متقشف يرفض المتع البشرية ويريد الإصلاح لقومه، ويدعو إلى ترك العمل والتخلي عن الشهوات وحاجات الجسد المادية، وقد عاصر أيضاً حكيم الصين الأكبر (كونفوشيوس)، وقد كان مفكراً عمليا ومصلحاً إجتماعياً (103).(193/25)
وحين عجز لاؤتسه (لي آره) عن إصلاح قومه ويئس من ذلك نزع إلى العزلة والهجرة، وحين طلب منه رجل أن يترك له كتاباً ترك له كتاب (تأوته) وهذا الإسم يتكون من مقطعين : (تآو) ومعناها الطريق الروحي (ته) النعمة أو اللطف الإلهي.
وهذه الكلمة تآو ذات دلالة صوفية وهي كلمة قديمة تشتمل على الأخلاق، وفلسفة الحياة، وعلة الوجود، ونظام الطبيعة الخالد (بزعمهم)، وهي عندهم علة العلل المتجلية في الخالق والمرئية في العالم.
وقد أكسب لاؤتسه هذه الكلمة معاني جديدة حين زعم أن الإنسان يستطيع الإتصال بالتأو عن طريق التجرد من الشهوات وعن طريق الرياضة الصوفية وترك الزهو وهجر الشعور الذاتي، فبذلك ينجو من شرك المادة (الجسد) ويترفع عن حواجز المكان والزمان ويكون بلوغ التآو في مراحل ثلاث : -
أ – تزكية النفس وتطهيرها.
ب- الإشراق
ج- الإتصال والاتحاد (104).
ونلاحظ أن هذه الأفكار والمعاني وجدت في التصوف سواءً بسواء فالعزلة وتعذيب الجسد وفكرة اللطف واعتزال الشهوات والطهارة والتزكية والاتحاد، فقد مُلئت كتب التصوف بها.
كما نلاحظ أن الإشراق الصيني هو فكرة شبيهة بالكشف عند الصوفية، كما أن الإتصال والإتحاد شبيه بالفناء عند الصوفية.
5- التأثر بالفلسفة اليونانية :
لقد كان للفلسفة اليونانية تأثير واضح في التصوف وخاصة أن الإفلاطونية الحديثة كان لها شيوع واضح ما بين النهرين وفي حران. وكذلك انتشرت في بلاد الشام ومصر والعراق وفارس وبعض الهند حين سيطر اليونان بقيادة الاسكندر بن فليب المكدوني على تلك البلاد وامتزجت ثقافتهم بتلك الثقافات منذ القرن الثالث قبل الميلاد (105).
وإن بعض المؤرخين والمتخصصين يرجع الصوفية إلى أصل يوناني باعتبارها مأخوذة من كلمة سوفيا وهي بمعنى الحكمة باليونانية وهذا ما يعترض عليه الصوفيون.(193/26)
ومن أبرز عناصر الفكر اليوناني الغنوصية، والإشراقية وقد أثر ذلك في التصوف فقد دعا إلى التقشف ودعا إلى اتصال النفس بالملأ الأعلى، إذ يعتقد بوجود عالم روحاني نوراني فوق عالم الطبيعة لا يدرك العقل حسنه وبهاؤه، ويبلغ الإنسان ذلك العالم إذا تطهرت نفسه من علائق هذا العالم المادي، فتغدو زكية إذا تبرأت من العجب والتكبر والرياء والحسد (106).
والأفلاطونية الحديثة تحتوي على كثير من الفكر الصوفي إن صح التعبير – حيث يعتقدون بنظرية الفيض الإلهي وكذلك يقولون بالعقل الأول والنفس الكلية والهيولي والنفوس الجزئية وهي من مراتب الوجود عندهم وهذا ما يقول به بعض الصوفية كما عند ابن عربي، وكذلك نظرية الكشف والشهود والمعرفة.
ومن الأفكار التي أثرت في التصوف أفكار (ديونيسوس) ومن أبرز آرائه ما يسمى (التأله) وهو أن المعرفة الحقيقية تحصل بعد تطهير القلب من رجاساته، والتحرر من عبودية الجسد ونبذ الدنيا ولذائذها، والخشوع والصمت والتأمل وعند ذلك فقط يصل الإنسان إلى مشاهدة الله والإتصال به (107).
وكذلك تأثر التصوف بالغنوصية وهي كلمة يونانية بمعنى المعرفة وتطورت الكلمة حتى أخذت معنى اصطلاحياً وهو التوصل عن طريق الكشف والذوق إلى المعارف العليا دون الإستناد إلى البراهين العقلية (108).
كما نقلت وترجمت إلى العربية كثير من الكتابات اليونانية ومنها كتب (إسطفانوس برصديلي) وهو راهب غنوصي سرياني عاش بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد وقد انتشرت ترجمات كتبه انتشاراً واسعاً عند ظهور التصوف الإسلامي (109).
وهذا يدل دلالة واضحة على تأثر التصوف بالفلسفات اليونانية ومن الكلمات والمعاني الكثيرة التي كانت سائدة في الفكر اليوناني، واستعملت استعمالاً كثيراً في الفكر الصوفي المعرفة، والذوق، والكشف، الأزلية، والحقيقة، وحقيقة الحقائق، والكلمة، والعلة والمعلول ، ووحدة الوجود.
6- التأثر بعقائد الفرس :(193/27)
لقد ظهر في بلاد فارس الفكر الصوفي منذ زمن بعيد حيث سادت عندهم فكرة صدور كل شيء عن الله ورجوعه إليه وأن الموجود بحق هو الله.
وظهر الزهد والرهبنة في الديانة المانوية، والنهي عن ذبح الحيوان في الديانة المزدكية وكذلك ساعد دخول عدد كبير من الفرس في الدين الإسلامي على نقل تلك الأفكار بقصد حسن أو سيء وإن كثيراً من مشاهير الصوفية كانوا من أصول فارسية أمثال إبراهيم ابن أدهم ومعروف الكرخي، وشقيق البلخي، وحاتم الأصم، وسهل التستري، وأبو يزيد البسطامي والحلاج والسهروردي (110).
ولقد كان الفرس قبل الإسلام يدينون بالزرادشتية (الماجوسية) المبنية على وحدة الوجود، منحدرة من اتحاد أو حلول بين انبثاقات صادرة عن الهين اثنين (النور والظلمة) وكان مذهب الأكثرية المجوسية يرجع المبدأين (النور والظلمة) إلى كائن أعلى واحد منه انبثق الوجود، ثم جاءت المانوية متفقة مع الزردشتية في أصل العقيدة (111).
4- موقف العلماء من التصوف
أ - طائفة من الناس نظرت إلى مساوئ القوم وأغمضت العيون عن محاسنها فقالوا بضلال الصوفية وردوا كلامهم سواءً ما وافق الكتاب والسنة أو خالفهما وهذه الطائفة كما يقول ابن القيم (حجبت عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم) (112).
ب - وطائفة أخرى نظرت إلى محاسن القوم وصدق معاملتهم وشفافية نفوسهم وحسن عبادتهم فأقبلت على علوم الصوفية وكتبهم وقصائدهم وقصصهم دون تمحيص مغمضة العيون عن عيوب القوم ومساوئهم، وهؤلاء كما يقول ابن القيم (حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم عن رؤية شطحاتهم ).(193/28)
ج - وطائفة ثالثة وهم كما يسميهم ابن القيم أهل العدل والإنصاف الذين يقبلون من القوم ما يجدونه حسناً موافقاً للكتاب والسنة ويردون ما خالف الكتاب والسنة ويردون على شطحات القوم ، وهذا الموقف هو الذي يجب أن يقفه كل مسلم فلا تحملنا حسنات القوم على قبول خطئهم وتحسينه. كما يجب أن لا تحملنا سيئات القوم على رد حق ذهبوا إليه أو قالوا به، بل الحكم العدل الذي بيننا هو الكتاب والسنة (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (113)، ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (114).
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل العدل والإنصاف المتمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث - المراتب والمصطلحات
1- مراتب الصوفية وألقابهم (115)
يعتقد الصوفية بأن كبار أوليائهم لهم رتب وألقاب خاصة وهذه الرتب والألقاب درجات وهى كالتالي : -
1 - الغوث :
ولا يكون إلاغوث واحد وهو في مكة المكرمة. وهو الذي يغيث الله به أهل الأرض في رزقهم ونصرهم ، ويطلق عليه البعض القطب الغوث (116).
ويرى آخرون (117) أن الغوث يطلق على القطب حينما يلتجىء إليه الناس والبعض يطلق عليه قطب الأقطاب.
والاعتقاد بالغوث الغائب الحاضر من الشرك، فإن الله هو المغيث وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه.
ويقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله إن لفظ الغوث والغياث لا يستحقه إلاّ الله تعالى فهو غيّاث المستغيثين وعليه فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره، لا بملك مقرب ولا نبي مرسل، ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم - التي يطلبون بها كشف الضر عنهم - إليهم ونزول الرحمة بهم … فهو كاذب ضال مشرك (118).
2 - الأوتاد :
وعددهم أربعة أوتاد ، وهم الذين يثبت الله بهم الإيمان في قلوب الناس كما تثبت الجبال الأرض.(193/29)
وسموا أوتاداً تشبيهاً لهم بالجبال التي يثبت الله بها الأرض قال تعالى (والجبال أوتادا ) (119).
ويكون كل واحد منهم في جانب من جوانب الأرض الأربعة أي أنهم في المشرق والمغرب والشمال والجنوب (120).
وقال أحد المهاويس : إن مصر يحرسها أربعة ولولاهم لأصبحت في خبر كان قلت له (والكلام للكاتب)، إحك لي. قال : الدسوقي والبدوي يحرسان الوجه البحري والأسيوطي والقناوي يحرسان الوجه القبلي.
قلت له : إن الوجه القبلي أكبر من الوجه البحري ونحن في حاجة إلى عدد أكبر من ذلك فقال لي : على كل حال يوم الخميس حيث تعقد كل يوم خميس رئاسة رئيسة الديوان السيدة زينب، سوف أعرض عليها طلبكم وسوف ألح على المجلس أن يلبي طلبكم يا صعايدة (121). إنه كلام يدل على السذاجة وعدم العلم بل الجهل بالخالق وبربوبيته على خلقه.
3 - القطب :
والأقطاب عددهم سبعة أقطاب : الواحد قطب وسمي بذلك لأنه يكون قطب في القطر الموجود فيه كقطب الرحى ، وبوجوده تحفظ البلاد ، والمراد بالقطب هو الذي يحفظ الله به الشيء كقطب الدين وقطب القرية ، وكل من دار عليه أمر من أمور الدنيا أو الدين فهو قطب.
ويعتبر الجرجانى القطب أعلى منزلة عند الصوفية لأنه يعتبر الغوث قطباً والقطب هو موضع نظر الله في كل زمان وهو يسرى في الكون وأعيانه الظاهرة والباطنة سريان الروح في الجسد (122).
4 - الأبدال " البدلاء " :(193/30)
وعددهم أربعون بدلاْ، وسموا بالأبدال لأنهم ثابتون من حيث العدد كلما توفى أحدهم يسر الله تعالى واحداً غيره ، وقيل : هم الذين أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بالحسنات ، وهم بالشام ، واستدلوا على ذلك بحديث منقطع الإسناد- كما يذكر ذلك ابن تيميه وهو عن علي رضى الله عنه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، يسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب) (123).
ويرى الجرجانى ان البدلاء سبعة رجال، من سافر منهم يترك جسداً على صورته حياً بحياته، ظاهراً بأعمال أصله بحيث لا يعرف أحد أنه فقد وذلك هو البدل لا غير، ويقول إن الأربعين الموجودين في الشام هم النجباء وليس الأبدال (124).
5 - النجباء :
وعددهم ثلاثمائة ، وهم في الشام ، وتزعم الصوفية أن الأعمال وسؤال الحاجات ترفع إلى الأبدال ثم إلى الأقطاب ثم إلى الأوتاد ثم إلى الغوث الذي يقوم بقضاء الحاجات. والنجباء مشغولون بحمل أثقال الخلق وخاصة التي لا تفي القوة البشرية بحملها (125).
ويزعم أصحاب هذه المعتقدات أن أصحاب هذه الألقاب هم من الأولياء الذين لا تخلو منهم الأرض فهم موجودون في كل زمان وفى كل مكان. ويعتقد هذه المعتقدات كثير عن أصحاب الطرق الصوفية.
* فإذا كان الأمر كذلك فمن حد لهؤلاء الأولياء حداً ، والولاية ثابتة بالكتاب والسنة ، فكيف حصرها الصوفية في هذه الأعداد والتحديد يحتاج لدليل شرعي.
* ثم إن هذه الألفاظ والمسميات لم ترد على ألسنة السلف الصالح ، والذين ذكروهم من الأوائل كابن تيمية رحمه الله إنما ذكرهم على سبيل الذم والنقد.
* وإن زعم زاعم أن الأرض لا تخلو من هؤلاء فلم لم يحدثنا عنهم الرسول محمد صلى الله علية وسلم ، وهو الذي لم يترك خيراً إلا دلنا عليه ولا شراً إلا حذرنا منه.(193/31)
* وهل وجودهم مقتصر على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فان كان مقتصراً عليها فكيف يزعمون أن الأرض لا تخلو منهم؟. وان كانوا فيمن قبله فأين هم في قوم نوح وإبراهيم وموسى و عيسي عليهم و علي نبينا أفضل الصلاة و السلام ؟ ولمَ لمْ يحدثنا محمد صلى الله عليه وسلم عنهم ؟.
* وكيف هم في الشام و فتحها جاء متأخراً عن عهد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؟ وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الشام وفضل اليمن و غيرها من البقاع و لم يذكر في فضل الشام و جود هؤلاء الأولياء المزعومين.
* وكيف ترفع حوائج الناس عن طريق هؤلاء ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا. إن الذي تدعون أقرب إلي أحدكم من عنق راحلته " (126).
و يقول تعالي : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (127).
ثم إن هذه الأسماء على هذا العدد والترتيب والطبقات ليست حقاً في كل زمان، بل يجب القطع بأن هذا على عمومه باطل.
فإن المؤمنين يكثرون تارة ويقلون أخرى، ويقل فيه السابقون المقربون تارة ويكثرون أخرى، وينتقلون في الأمكنة ليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى، ومن يدخل منهم في السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة.(193/32)
وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة ثم أقل من أربعين ثم أقل من سبعين ثم أقل من ثلثمائة، فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد ومن الممتنع أن يكون منهم الكفار، ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين بل من الصديقين السابقين المقربين من لا يحصى عدده إلاّ رب العالمين ، لا يحصون ثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون الثلاثة الفاضلة كان أيضاً في القرون الخالية من أولياء الله المتقين بل من السابقين ومن جعل لهم عدداً محصوراً لازماً فهو من الظالمين عمداً أو خطأً " (128).
2- مصطلحات الصوفية
1 - الكشف :
وهو الاطلاع على ما وراء الحجب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً أو شهوداً (129) أو هو اطلاع أحد المتحابين المتصافين صاحبه على باطن أمره وسره (130).
أو هو ما يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب (131). ويعني هذا أن الكشف هو العلم اليقيني الذي ينكشف فيه للصوفي العلوم والمعارف انكشافاً تاماً لا يبقى معه ريب ولا شك، لذلك نجد أن بعض الصوفية جاءوا بمعان جديدة للقرآن والسنة والآثار وزعموا أنهم يأخذون ذلك عن الله مباشرة وليس عن الموتى بزعمهم، وقالوا إن علماء الشرائع يأخذون ميتاً عن ميت وهم يأخذون عن الحي الذي لا يموت.
2 - الفيض الإلهي :
وينقسم إلى قسمين :
أحدهما : الفيض الأقدس : وهو تجلى الواحد أو التجلي الذاتي الموجب لوجود الأشياء واستعداداتها في الحضرة العلمية " في العالم المعقول ".
ثانيهما : الفيض المقدس : وهو تجلى الواحد أو التجلي الموجب لظهور الأعيان في الخارج.
فالأول : وجودها في العلم والعقل والثاني : وجودها في الخارج مع لوازمها وتوابعها (132).
3 - وحدة الوجود :(193/33)
تنسب نظرية وحدة الوجود إلى ابن عربي الذي جعل الله والخلق شيئاً واحداً وجعل الإنسان والإله في مرتبة واحدة. حيث تقوم هذه النظرية في مدلولها البسيط على أن كل الموجودات التي في الكون رغم كثرتها وتعددها شيءٌ واحد وهذا الشيء هو الله سبحانه فالله يظهر ويتجلى في صور متعددة بزعمهم (133).
والمراد بها أيضاً أن الله هو الحق، وليس هناك إلا موجود واحد هو الموجود المطلق وهو الله فليس غيره في الكون، وأما العالم فهو مظهر من مظاهر الذات الإلهية، والعالم ليس له وجود في ذاته لأنه صادر عن الله بالتجلي (134).
4 - الاتحاد :
يعني أن الإنسان يتحد بالله، وفي حالة الاتحاد قد يفقد الشيء ذاتيته أو بعض أوصافها أو خصائصها وفيه تكون الذاتان أكثر تداخلاً وأكثر قرباً. وتنسب هذه النظرية للبسطامي.
وهو شهود الوجود الواحد المطلق ، فالكل يتحد بالحق من حيث كون كل شئ موجوداً به، معدوماً بنفسه ،لا من حيث أن له وجوداً خاصاً انحل به فإنه محال (135).
5 - الحلول :
الحلول يعني أن الله تعالى حل في جميع أجزاء الكون في البحار والجبال والصخور والأشجار والإنسان والحيوان. مع بقاء عنصر كل من الطرفين – اللذين حل أحدهما في الآخر – على حالته الأولى فمن زعم أن الإله حل في البقرة فإن البقرة ما زالت هي هي تحلب وتؤدي وظائفها كما هي (136).
الفرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود :
الحلول يعني وجود شيء داخل شيء آخر دون أن يفقد أحدهما طبيعته أو هويته أو ذاتيته أو ماهيته فتحل الذات الإلهية في الذات الإنسانية فيحل على حد تعبيرهم اللاهوت في الناسوت.
أما الاتحاد فيكون أكثر قرباً وامتزاجاً وتداخلاً، وقد يفقد الشيء الممتزج ذاته أو بعض صفاته وخصائصه.
أما وحدة الوجود فتعني أن الله هو الموجود وما سواه فناء وأن الأشياء في الأصل كلها شيء واحد ولكنه قد يظهر بمظاهر متعددة فيظهر الله تعالى في صور الكائنات المتعددة (137).
6- الوقت :(193/34)
يقول أبو على الدقاق : " الوقت ما أنت فيه ،" فإن كنت في سرور فوقتك السرور ، وكذلك الحزن ، ويعنى هذا أن الوقت هو الحاضر ، وكما يقال الوقت بين زمانين أي الماضي والمستقبل.
لذا يرون التفكير في الوقت الماضي هو ضياع وقت حاضر، والانشغال بالمستقبل " الغيب " كذلك.
ويرون الموت هو ضياع الوقت ، لأن العمر وقت وقيل في هذا المعنى :
ليس من مات فاستراح بميت ***إنما الميت ميت الأحياء (138)
وقال الجرجانى : الوقت عبارة عن حالك ، وهو ما يقتضيه استعدادك (139) وهذا بنفس المعنى الذي ذهب إليه الدقاق.
7 - المقام :
والمراد بالمقام المنزلة التي يقيم عليها المتأدب ، وهو ما يشتغل به العبد من الآداب والمعاملات والمجاهدات في ظاهره وباطنه وشرطه ألا يرتقى إلى مقام آخر حتى يستوفى ما هو فيه ، فإنه من لا قناعة له لا يصح له التوكل ، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم ، ومن لا توبة له لا تصح له الإنابة ، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد (140).
ومن أمثلة المقام التوبة والصبر والشكر والزهد والخوف والرجاء والتوكل والرضا ، فقد كان مقام آدم عليه السلام التوبة ، ومقام نوح عليه السلام الزهد ، ومقام إبراهيم عليه السلام التسليم ، ومقام موسى عليه السلام الإنابة ، ومقام داوود عليه السلام الحزن ، ومقام عيسى عليه السلام الرجاء ، ومقام يحيى عليه السلام الخوف ، ومقام محمد صلى الله عليه وسلم الذكر (141).
ونحن لا نقرهم على هذا فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا يقيمون على جميع الأحوال سالفة الذكر.
8 - الحال :
والحال معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب ، مثل طرب أو حزن أو بسط أو قبض ، أو شوق أو انزعاج أو هيبة (142).
وقيل إن الحال تدوم ، وقيل إنها عرضة للزوال ، والصواب أن الحال قابلة للزوال ، قبل زوالها تسمى حالاً ، وعندما تزول تسمى وارداً ، والوارد هو كل ما يرد على القلب من المعاني الغيبية ، من غير تعمد.(193/35)
فالأحوال مواهب ، والمقامات مكاسب ، والأحوال تأتى من الجود ، والمقامات تحصل ببذل المجهود (143).
وعلى ذلك فالمقام ثابت ومستقر بخلاف الحال فإنه متغير ومتحول وزائل وقد يتصف المريد به في وقت دون آخر فإذا تكرر حدوثه للمريد فقد يستقر ويصبح مقاماً.
ومن أمثلة الحال : المحبة والشوق والأنس والقبض والبسط والبقاء والفناء والمكاشفة والمشاهدة والغيبة والحضور.
ملاحظة : نلاحظ أن الهجويري ذكر الخوف والحزن في المقامات وهي في الحقيقة أحوال لأنها غير متكلفة.
9 - القبض والبسط :
وهما حالتان تردان على العبد ، تقربان من الخوف والرجاء ، أو يسببهما الخوف والرجاء ، بمعنى أن العبد يرتقى من حال الخوف والرجاء إلى حال القبض والبسط.
يقول الجنيد : الخوف من الله يقبضني، و الرجاء منه يبسطني.
و الخوف و الرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب ، والقبض و البسط يتعلقان بأمر حاضر في الوقت ويغلب علي قلب العارف من وارد غيبي (144).
10- التواجد والوجد والوجود :
التواجد استدعاء الوجد بنوع من الاختيار ، وليس لصاحبه كمال الوجد لأنه غير متكلف.
والمواجيد جمع وجد ، والوجد ما يصادف القلب ، ويرد عليه بلا تكلف ولا تصنع ، وقيل هي بروق تلمع ثم تخمد سريعاً والوجود فقدان العبد بمحاق (بزوال) أوصاف البشرية ووجود الحق لأنه لا بقاء للبشرية عند ظهور سلطان الحقيقة (145) ، فالتواجد بداية ، الوجود نهاية ، والوجد واسطة بين البداية والنهاية.
يقول الحسين النورى : أنا منذ عشرين سنة بين الوجد والفقد ، إذا وجدت ربى فقدت قلبي ، وإذا وجدت قلبي فقدت ربى.
وفى هذا المعنى يقول الشاعر :
وجودي أن أغيب عن الوجود ***بما يبدو عليَّ من الشهود
والوجد والتواجد هو نتيجة سماع شيء مثير للوجدان كالقرآن والمدائح والغناء ، فعند السماع يحصل لهم هيجان وثوران ،وتمايل ورقص وحركات بهلوانية حتى يفعل الواحد منهم أفعالاً لا يستطيعها في غير هيجانه (حضوره).(193/36)
يقال إن جهماً الدقي في حال هيجانه أخذ شجرة فاقتلعها من جذورها (146).
11- الفناء والبقاء :
والفناء هو سقوط الصفات الذميمة ، والبقاء بروز الأوصاف المحمودة ، والفناء والبقاء متلازمان، فمن فني عن شهوته بقى بإخلاصه وعبوديته ، ومن فني عن الدنيا بزهده فيها بقى بصدق إنابته (147). وفناء الجهل ببقاء العلم ، وفناء المعصية ببقاء الطاعة وفناء الغفلة ببقاء الذكر (148).
والفناء مقرون بالبقاء ، و هو أن تثبت إلهية الحق تعالى في قلبك ، و تنفي إلهية ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه ، و بخشيته عن خشية ما سواه فالنفي هو الفناء والإثبات هو البقاء ومن بقي بطاعته عن طاعة ما سواه هو البقاء وحقيقته أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه (149).
12- الغَيبة والحضور :
و الغيبة هي غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق لانشغال الحس بما ورد عليه من تذكر ثواب أو عقاب روي أن الربيع بن خيثم كان يذهب إلى ابن مسعود رضي الله عنه فرأى الحديدة المحماة في كير أحد الحدادين فغشي عليه ،فلما أفاق من غيبته " حضر " سئل عن ذلك فقال : تذكرت كون أهل النار في النار.
وسبب ترك أبي حفص النيسابورى الحداد حرفته أنه سمع أية من القران ، فورد على قلبه وارد غفل فيه عن إحساسه فأدخل يده في النار و أخرج الحديدة المحماة دون أن يتألم، فلما رأى ما ظهر علية ترك حرفته.
فالغيبة تكون عن الخلق و الحضور بالحق ، لتغلب ذكر الله على قلبه (150) والسكر هو الإحساس بالانبساط حال غيبته و إن كان سكره مستوفيا لم يشعر بشيء حال سكره ، و الصحو هو الإفاقة من السكر الذي كان فيه.
و السكر لا يكون إلا لأصحاب المواجيد.
13- المحاضرة و المكاشفة و المشاهدة :
المحاضرة حضور القلب عن دوام الفكر وتواتر البرهان واستيلاء سلطان الذكر، والمكاشفة حضوره بنعت البيان بغير افتقار إلى التأمل ودوام الفكر والمشاهدة حضور الحق(193/37)
من غير بقاء تهمة " شك " والمعنى أن تتوالى أنوار التجلي على قلبه من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو قدر تتابع البرق واتصاله في الليلة الظلماء فتصبح كضوء النهار فكذلك القلب إذا دام به التجلي فإنه يرى الحق من غير شك. لذا قال النوري : لا يصح للعبد المشاهدة ما دام حياً.
وقال الجنيد صاحب المحاضرة مربوط بآياته ، و صاحب المكاشفة مبسوط بصفاته ، وصاحب المشاهدة ملقى بذاته، صاحب المحاضرة يهديه عقله ، و صاحب المكاشفة يدنيه علمه وصاحب المشاهدة تمحوه معرفته (151).
وسئل الشبلى عن المشاهدة فقال : من أين لنا مشاهدة الحق وإن الحق لنا شاهد (152) وقال الجرجانى : المحاضرة حضور القلب مع الحق في الاستفاضة من أسمائه تعالى (153).
ونستطيع أن نجمل ذلك فنقول المحاضرة حضور القلب نتيجة الفكر والتأمل، والمكاشفة أن تنكشف له الغيوب فتحصل له المعرفة والمعلومات دون تفكر ولا تأمل، المشاهدة أن يشاهد العبد الغيوب عياناً.
14- الشريعة والحقيقة :
الشريعة أمر بالتزام العبودية ، والحقيقة مشاهدة الربوبية فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبولة وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة إنباء عن تعريف الحق، فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده، فالشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدر، وأخفى وأظهر (154).
ويقول الهجويري : الشريعة بدون حقيقة رياء، والحقيقة بدون شريعة نفاق والشريعة مكاسب والحقيقة مواهب (155).
يقول أبو على الدقاق : " إياك نعبد " حفظ للشريعة " وإياك نستعين " إقرار بالحقيقة ويذهب البعض إلى أن الشريعة علوم الظاهر المستمدة من الكتاب والسنة (156) وعلم الحقيقة هو علم الباطن وهو العلم اللدنى المستمد من الله تعالى كعلم الخضر عليه السلام إذ قال تعالى : (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) (157). لذا نجد الصوفية عن طريق علم الحقيقة (158) نسخوا الشريعة بغير حق.(193/38)
15- الحقيقة المحمدية :
تعني أن النور المحمدي أشرق قبل أن يكون الخلق، ومنه خلق الكون وما حوى ، فهو أول شيء فاض عن الله سبحانه وتعالى، ثم ما زال يظهر ويتسلسل هذا النور في الأنبياء إلى أن وصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان محمد خاتم الأنبياء بهذا المعنى ولذا بُدىءَ به الأمر وختم، وكان محمد صلى الله عليه وسلم أكمل تجلى خلقي ظهر فيه الحق فهو الإنسان الكامل الذي حاز خلاصة الكون كله وأصبح مقابلاً للذات الإلهية (159).
3- علوم الصوفية بين الهبة والاكتساب
المراد بالعلوم الوهبية هي العلوم التي يحصلها الإنسان بلا جهد وذلك بتحصيلها من الله تعالى مباشرة ، وبعضهم يسميها العلوم اللدنية مستدلين بقوله تعالى : (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا).
والمراد بالعلوم الكسبية هي التي يحصلها الإنسان عن طريق التعلم والقراءة والكتابة وعن طريق التلقي من المشايخ والعلماء.
والناظر في كتب الصوفية الأوائل والكتب التي تتحدث عنهم يجد كثيراً من الأقوال المنسوبة لشيوخهم تبين أن علومهم من قبيل الكسبية المستمدة من الكتاب والسنة فمن أقوال شيوخهم :
قول القشيري : " اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد ، وصانوا بها عقائدهم من البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة " وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله : " كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل ".
وقال الجنيد بن محمد : " من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة. " وقال : " الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم " (160).
وقال أبو حمزة البغدادي : " لا دليل على الطريق إلى الله إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله وأقواله وأفعاله ".(193/39)
هذه الأقوال تدل على ما كان عليه أولئك الشيوخ ومتقدمو الصوفية ولكن الذين جاءوا بعدهم ومتأخروهم أدخلوا أموراً على التصوف تخالف ما كان عليه أوائلهم.
وحقيقة " التصوف إيمان ثم علم ثم عمل ، وذلك يكون متقدم على علوم الصوفية بالضرورة …… فأما العلم السابق عن العمل فكسبي يأتي من جانب الإنسان وما يبذله في تحصيله من جهد ويقوم على الدليل والبرهان.
أما العلم الحاصل بعده – فهو العلم الوهبي – وهو ما يطلق عليه الصوفية اسم (المعرفة) أو العرفان. الذي تحصل فيه المشاهدة والعيان فيتميز أنه وهبي من لدن الله تعالى" (161).
وإلى هذه يشير الإمام أبو حامد الغزالي إلى العلم الكسبي والوهبي فيقول : " أما العلم فهو العلم بالأمور الدنيوية والآخروية والحقائق العقلية …… وهي تتحصل له - أي العلوم الكسبية – بالتجارب والفكر ، والناس في هذا مراتب لا تحصى يتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها.
ثم يتحدث بعد ذلك عن العلوم الوهبية وهي التي " تحصل لبعض القلوب بإلهام إلهي على سبيل المبادأة والمكاشفة …… وهي درجات …… وأقصى الرتب رتبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي تنكشف له كل الحقائق أو أكثرها من غير اكتساب وتكلف ، بكشف إلهي في أسرع وقت (162). ويقول عبد الحليم محمود : إن المشاهدة الصوفية ليست ثقافة كسبية ولا يتأتى التحدث عن مصادرها الخارجية أياً كانت هذه المصادر … لأن المعرفة الصوفية استمداد من مصدر النور والهداية (163).
من أقوال الصوفية في العلم الوهبي واعتراضهم على العلوم الكسبية قول أبي يزيد البسطامي لعلماء عصره : أخذتم علمكم من علماء الرسوم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت.
وقد أرسل ابن عربي رسالة إلى الفخر الرازي صاحب التفسير يقول فيها : اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك أن الرجل لا يكتمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ (164).(193/40)
وإذا كان طريق تحصيل العلوم الشرعية المكتسبة هي الكتاب والسنة وتلقي العلوم المتعلقة بهما من العلماء كالتفسير وشروح كتب السنن ، فإن طريق تحصيل العلوم الوهبية تكون عن طريق : -
1- الكشف : ويقول عنه الغزالي : هو العلم اليقيني الذي تنكشف فيه العلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ولا يتسع القلب لتقدير ذلك (165) وهو كما سبق تعريفه الاطلاع على ما وراء الحجب من المعاني الغيبية.
2- الذوق : وهو نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه ويفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره (166).
3- الوجد : وهو ما يصادف القلب دون تكلف.
4- الإلهام : وهو ما يلقى في الروع بطريق الفيض أو هو ما وقع في القلب من علم (167).
أو هو الإطلاع على أسرار الغيب بعين البصيرة في عالم المثال بلا شك ولا شبهة اطلاعاً غيبياً (168).
5- الفراسة : وهي معرفة حال الإنسان عن طريق النظر إليه وذلك بقياس حاله على أمثاله من خلال التجربة أو من خلال ما يراه الناظر ، أو من خلال ما يجده في نفسه، أو هي قدرة المؤمن التقي على توسم الخير أو الشر بمن حوله من الأشخاص والكائنات. ويستدلون على ذلك بالحديث (اتق فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) (169).
6- الرؤى المنامية : واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) (170) وفي رواية الرؤيا الصالحة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم، أو تُرى له " (171).
وهذه الأمور جميعها عرضة للوقوع في الخطأ لذا يجب أن يكون الفاصل في ذلك هو الكتاب والسنة ، لأن كل علم يحصل للإنسان من غير طريقهما قد يكون من قبيل الضلال والباطل والأحوال الشيطانية والأوهام والتخيلات.
ولقد دخل للتصوف كثير من البدع والضلالات بسبب الكشف والرؤية والإلهام ……(193/41)
المبحث الرابع - أقسام التصوف
لقد قسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله التصوف إلى قسمين : وكل قسم ينقسم إلى ثلاثة أقسام، حيث جعل القسم الأول منها بالنظر إلى جهة العمل ثلاثة أقسام ، وبالنظر إلى جهة الاعتقاد ثلاثة أخرى.
فالثلاثة الأولى منها كما يلي (172) : -
1- صوفية الحقائق : والتصوف عندهم عبارة عن حقائق وأحوال وحدود وسيرة، ومن لوازم التصوف عندهم صفاء الباطن والظاهر ، وصفاء الباطن بالبعد عن الأمراض القلبية ، كالبغض والحقد والحسد …… وصفاء الظاهر بكثرة العبادات والنوافل والبعد عن الملذات والشهوات. وهم أفضل الناس بعد الأنبياء ، وذلك لحرصهم على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم درجات ومقامات بحسب عبادتهم والتزامهم.
2- صوفية الأرزاق : وهم الذين تركوا السعي على الرزق وكسب المعاش واكتفوا بما يجود به الناس عليهم من الصدقات ، وعليهم توقف الأوقاف الخيرية ، وتبنى لهم التكايا ، وبعضهم يعزف عن الزواج ، وهم حريصون على الزهد والعبادة وتظهر عليهم الذلة والمسكنة بخلاف أرباب صوفية الحقائق الذين يكسبون أرزاقهم بالعمل والسعي وراء الرزق.
3- صوفية الرسم : وهم قوم اقتصروا على الانتساب إلى الصوفية ، وتزيوا بزي الصوفية ، وحرصوا على لبس المرقعات ، وهم لا يلتزمون بطريقة صوفية ولا يتابعون شيوخهم ، ولا يحرصون على العبادات ولا يزهدون في الدنيا كسابقيهم.
والناظر إليهم يظنهم زهاداً ، ومن تعامل معهم ونظر إلى أعمالهم ، وجدهم ليسوا من التصوف في شيء.
وأما الثلاثة الأخرى ، " أي من جهة الاعتقاد " فهم كما يلي (173) :(193/42)
1- السلفية : وهم الزهاد الذين آمنوا بما آمن به السلف وساروا على نهجهم. حيث قال عنهم ابن تيمية رحمه الله : والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ يوافق ما كان عليه السلف وقد نقل عن كثير منهم بالأسانيد المتصلة ما يدل على تمسكهم بالكتاب والسنة وعقيدة السلف وهم أمثال الجنيد بن محمد والفضيل بن عياض وسهل بن عبد الله التستري وأبو سليمان الداراني وغيرهم كثير.
2- الأشعرية : ويقصد بهم الذين سلكوا طريق أبي الحسن الأشعري من مشايخ الصوفية القائلين بأن الله يتكلم بلا حرف ولا صوت والذين يؤولون الصفات الخبرية ، مع أن بعضاً من مشايخ الصوفية كانوا ينكرون على من اتبع طريقة الكلاّبية والأشاعرة ، حيث نقل عن القشيري قوله : فإن هؤلاء المشايخ مثل أبي العباس القصاب له من التصانيف المشهورة في السنة ومخالفة طريقة الكلابية والأشعرية ما ليس هذا موضعه ، وكذلك سائر شيوخ المسلمين من المتقدمين والمتأخرين ، الذين لهم لسان صدق في الأمة.
3- الحلولية والاتحادية : وهم الذين يقولون بالحلول والاتحاد بحيث تكون أحد الذاتين وعاءً للأخرى ، وحقيقة مذهبهم أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ، وليس وجودها غيره، ولا شيء سواه ، ويقصدون أن الأول هو وجود الحق " الحال " والثاني وجود المخلوق " المحل ". وأمثال هؤلاء محي الدين بن عربي ، والحلاَّج ، وابن سبعين.
وهؤلاء القوم يقرب قولهم من قول الجهمية الذين يقولون إن الله في كل مكان.
ولكني رأيت أن أقسم التصوف إلى ثلاثة أقسام بالنظر إلى أعمالهم وعقائدهم وسلوكهم خلال التاريخ ، والتقسيم الذي ذهبت إليه دمجت فيه جميع الأقسام المتقدمة التي ذهب إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والأقسام الثلاثة هي : -(193/43)
1- التصوف السني : ويدخل فيه صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق والصوفية السلفية والأشعرية لأن الأشاعرة من أهل السنة وقد أكد ذلك ابن تيمية في أكثر من موضع في الفتاوي الكبرى مع مآخذه على الصوفية والأشاعرة ورده على أخطائهم.
2- التصوف البدعي : ويدخل فيه كثير من صوفية الأرزاق وصوفية الرسم ، وكثير من أصحاب الطرق والقبوريين.
3- التصوف الفلسفي : ويدخل فيه القائلون بوحدة الوجود والحلولية والاتحادية.
وقد يكون تسمية التصوف (التصوف السني) مثيراً للجدل وقد يعترض عليه بعض أهل العلم اعتراضات تدل على عدم الرضا ولكني استمزجته واستنبطته من تقسيمات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أولاً : التصوف السني
والمراد بهذا النوع من التصوف هو ما كان قرين الزهد والتقلل من متاع الدنيا وملذاتها وهو امتداد لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وإن كان هذا الزهد لم يعرف باسم التصوف إلا في أواخر القرن الثاني الهجري فإن أصله ومعناه وحقيقته
كان معروفاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حث على ذلك القرآن الكريم في كثير من أي الكتاب الحكيم قال تعالى : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (174).
وقال تعالى : (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (175).(193/44)
وكذلك كثر ذكر الزهد في كتب الحديث والسنن وكثرت أبوابه، والناظر فيها يجدها قد اشتملت على أبواب كثيرة مثل باب الزهد في الدنيا ، باب فضل الجوع ، باب القناعة والعفاف، باب فضل البكاء من خشية الله …… والناظر في هذه الكتب يجد كثيراً من الأحاديث والآثار الواردة في الزهد ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع (176) وقوله صلى الله عليه وسلم " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك " (177).
لذا لم يكن مستغرباً أن يزهد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في دنياهم، ولا تابعوهم والسلف الصالحين.
ولم يكن الزهد عن قلة المال وإنما الزاهد هو من جاءه المال فزهد فيه وأنفقه ولم يجعله كل همه.
مصادر التصوف السني :
1- القرآن الكريم :
والقرآن الكريم هو الأساس الذي يستمد منه كل علم شرعي شرعيته، وعليه يعتمد أهل الحق في التمسك بحقهم. كما أن القرآن الكريم هو الكتاب الخاتم وهو الكامل الشامل كما قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينًا) (178).(193/45)
لذلك لم يهمل القرآن الدعوة إلى الزهد والتقلل من متاع الحياة الدنيا التي يضرب لها مثلاً بقوله : (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (179).
وقال أيضاً : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً) (180).
2- السنة النبوية :
والمصدر الثاني من مصادر هذا الدين هو السنة النبوية ، لذا فإن الناظر في كتب السنن وفى شمائل النبي صلى الله عليه وسلم يجدها مليئة بالدعوة إلى الزهد واليك بعض المختارات من بستان النبوة الذي يعج ويحفل بوصف الدنيا ودنوها لطالبيها وأنها مزرعة الآخرة ولا تغنى عن الآخرة شيئاً.
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة، وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " (181).
وقال : فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " (182).
وقال مبيناً تعاسة من تمسك بها وشغل نفسه بها : "تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وان لم يعط لم يرض " (183).(193/46)
و قال : " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء " (184).
وكان يقول : آلا إن الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالم ومتعلم (185).
ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا ، كيف لا وقد كانت تأتيه مرغمة فيردها إلى من هو دونه وينفقها، وقد قال : لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني أن لا تمر على ثلاث ليال وعندي منه شيء أرصده لدين (186).
ويقول النعمان بن بشير رضي الله عنه يصف حال النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك عنه قال : لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما يجد من الدقل " ( رديء التمر) "ما يملأ به بطنه " (187).
وفى حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على حصير فأثرّ في جنبه فقال له أصحابه رضى الله عنهم : يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً. فقال : " مالي وللدنيا ؟ ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " (188) وعن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليالٍ حتى قبض. وفي رواية أخرى " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض " (189).
وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ، ولا عبداً ولا أمةً ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه ، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة " (190).
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا أن نتأسى به ونقتفي أثره (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِر) (191).
3- آثار الصحابة والتابعين :
عند الرجوع إلى أحوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين نرى فيهم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بترك متاع الدنيا وزخرفها.(193/47)
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين وليَّ الخلافة دفع كل ما له في بيت مال المسلمين، فلما سئل عن ذلك قال : كنت أتجر فيه فلما وليتموني شغلتوني عن التجارة (192) وحين وليَّ الخلافة خرج إلى السوق ليعمل فقال له الصحابة رضي الله عنهم : نفرض لك ففرضوا له قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم، فكان له برداه للصيف والشتاء إن أخلقهما " أي قَدِمَا " وضعهما وأخذ مثلهما وظهره إذا سافر ، ونفقته على أهله كما كان ينفق عليهما قبل أن يُستخلف، فقال أبو بكر رضي الله عنه قد رضيت (193).
وكان عمر رضي الله عنه على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه فحين فتحت عليه الدنيا كلمتاه عائشة وحفصة رضي الله عنهما في تغيير جبته التي كانت فيها اثنتا عشرة رقعة ويقدم له طعام يأكل منه وأضيافة، فأبا وقال إن له أسوة بصاحبيه فلا يجمع بين أُدمين إلا الملح والزيت، ولا أكل لحماً إلا في كل شهر ينقضي ما انقضى من القوم (194) ولما قدم له ما ء قد شيب بعسل فقال : إنه لطيِّب وقال : ( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ) (195). فأخاف أن تكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه " (196).
وفي البداية والنهاية لابن كثير أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج بسيفه إلى السوق وقال : من يشتري مني سيفي هذا فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً ما بعته (197).
ورضي الله عن أبي الدرداء إذ يقول : والذي نفس أبي الدرداء بيده ما أحب أن لي اليوم حانوتاً على باب المسجد ، لا يخطئني فيه صلاة ، أربح فيه كل يوم أربعين ديناراً وأتصدق بها كلها في سبيل الله. قيل له : يا أبا الدرداء وما تكره في ذلك؟ قال : شدة الحساب (198).
والمتبع لقصص الصحابة في الحلية ، وكنز العمال ، والبداية والنهاية ، وكتب السنن يجد الشيء الكثير من ذلك وكذلك قصص التابعين.
من أعلام التصوف السني :(193/48)
1- إبراهيم بن أدهم (199) بن منصور البلخي التميمي كنيته أبو اسحق، كان أبوه من ملوك * خراسان وكان موسراً ، وعاش مترفاً منعماً ، وقد خرج إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه للصيد فسمع صوتاً يناديه فالتفت إليه فلم ير شيئاً وتكرر ذلك معه ، ثم قال له المنادى : ما لهذا خلقت ولا بذا أمرت فعزم أن لا يعصي الله تعالى بعد ذلك ورجع إلى بيته فترك فرسه وعمد إلى أحد رعاة أبيه فأخذ منه جبةً وكساءً وتخل عن ثيابه وترك المتع.
خرج إلى العراق والى الشام طلباً للعمل وللرزق الحلال وتجول فيها وكان يأكل من عمل يده ، كان يعمل بالحصاد وجني الثمار وحفظ البساتين والحمل والطحن ، وكان إذا أنهى عمله قبل أن ينام ينادي في الناس من يريد أن يطحن ؟ فيأتيه الناس فيطحن لهم بلا كراء.
أخذ عن كثير من علماء العراق والحجاز ، وكان قد تفقه ، وكان يشترك مع الغزاة في قتال الروم. وكان يتكلم الفصحة ولا يلحن في العربية ، وكان إذا وقف سفيان الثوري في مجلسه يعظ أوجز مخافة الزلل.
كان يلبس في الشتاء فرواً لا قميص تحته، وفى الصيف لا يتعمم ولا يحتذي، وكان يصوم في السفر والإقامة.
ولما سئل كم لك في الشام ؟ قال : أربعة وعشرون عاماً ، ولما سئل ما جاء بك إليها قال : لأشبع من خبز الحلال.
عمل في أحد البساتين سنين ، فجاءه صاحب البستان وطلب منه رماناً حلواً فجاءه به فوجده حامضاً فقال له : تأكل فاكهتنا سنين ولا تميز الحلو من الحامض. فأقسم أنه ما أكل فاكهتهم ولا يميز الحلو من الحامض.
وجاءه عبد لأبيه يحمل له عشرة آلاف درهم ، ويخبره أن أباه قد مات في بلخ وخلف له مالاً كثيراً، فاعتق العبد ووهبه الدراهم ولم يعبأ بمال أبيه.
هذا هو إبراهيم بن أدهم الذي ترك الدنيا ومتاعها طلباً لبحبوحة الجنة وقد توفى رحمه الله سنه 161هـ –778 م. وأخباره كثيرة وفيها اختلاف في مسكنه ونسبته ووفاته.
2- عبد الله بن المبارك (200) :(193/49)
هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي بالولاء التميمي المروزي ، يكنى بأبي عبد الرحمن وهو شيخ الإسلام ، كان من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ المذكورين بالزهد وقد جمع الحديث والفقه والعربية ، وأيام الناس والشجاعة والتجارة، والمحبة عند الفرق، كان من سكان خراسان ولد سنة 118 هـ، سمع سفيان الثوري وشعبه والأوزاعي والليث بن سعد، أفنى عمره في الأسفار حاجاً وتاجراً ومجاهداً ، كان سخياً ، وكان يقضي الدين عن المدينين، ويسعى في فك المحبوس، له كتاب في الجهاد وهو أول من صنف فيه.
مات بهيت على الفرات منصرفاً من غزو الروم سنة 181هـ.
قال الأوزاعى : لو رأيت ابن المبارك لقرت عينك.
وقال سفيان الثوري : لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر.
قال ابن المبارك : زيادة دنياكم بنقصان آخرتكم ، وزيادة آخرتكم بنقصان دنياكم. وكان يقول : أحب الصالحين ولست منهم ، وأبغض الطالحين وأنا شرٌ منهم.
وقال : الصمت أزين للفتى من منطق في غير حينه ، والصدق أجمل بالفتى في القول عندي من يمينه.
وسئل ابن المبارك مَنْ الناس ؟ قال العلماء : فمن الملوك ؟ قال : الزهاد. فمن سفلة الناس ؟ قال : الذين يعيشون بدينهم.
3- الفضيل بن عياض (201) :
الفضيل بن عياض التميمي من بني يربوع ولد بخراسان ، قدم الكوفة وهو كبير كان ثقة ثبتاً فاضلاً عابداً ورعاً ، وكان من شدة الخوف نحيفاً.
كان كثير الحديث وسمع الحديث من منصور بن المعتمر وغيره ، وروى عنه ابن المبارك والشافعي وبشر الحافي وغيرهم. ثم تعبد وانتقل إلى مكة وكان لا يقبل هدايا الدولة.
وتوفى بمكة المكرمة سنة 187هـ في خلافة هارون الرشيد وكان ذلك يوم عاشوراء، وقد نيف على الثمانين عاماً. قال هارون الرشيد : ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل. وقال إبراهيم بن الأشعت : كان الفضيل إذا ذكر الله ، أو(193/50)
ذُكر عنده ، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكي حتى يرحمه من بحضرته. وقال : كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة يعظ ويذكر ويبكي كأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة فإذا وصلنا المقبرة جلس كأنه بين الموتى.
قال عبد الله بن المبارك : إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
وللفضيل أقوال كثيرة في كتب التراجم منها :
" من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة "
" ليس من عبد أُعطي شيئاً من الدنيا إلا كان نقصاناً له من الدرجات في الجنة "
" ليست الدار دار إقامة وإنما أُهبط آدم إليها عقوبة "
" لو خيرت لاخترت أن أعيش كلباً وأموت كلباً ولا أرى يوم القيامة "
وكان رحمه الله يكثر من صلاة الليل فيلقى إليه حصير فإذا غلبته عيناه استلقى عليه ثم يفيق يصلي ……
4- معروف الكرخي (202) :
هو معروف بن فيروز " الفيرزان " الكرخى أبو محفوظ ولد في كرخ بغداد ونشأ فيها، كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدبهم فكان يقول له : قل ثالث ثلاثة فيقول : بل هو الواحد فيضربه معلمه ضرباً مبرحاً فهرب وأسلم على يد على بن موسى الكاظم. وكان أبواه يقولان ليته يرجع على أي دين فنتبعه فرجع إليهما مسلماً فأسلما. وكان مولى من موالي علي بن موسى الكاظم وكان يحجبه فكثر الزحام فضغطه الناس فتكسرت أضلاعه فمات ببغداد سنة 200هـ.
لما حضرته الوفاة قيل له : أوصى. فقال : أوصى بقميصي إذا مت فتصدقوا به أريد أن أخرج منها عرياناً كما دخلتها.(193/51)
وقبره ببغداد مشهور ويزار ويستشفع به ويتبرك به ويستسقى به " وهذا لا يصح " وكان رحمه الله مشهوراً بالصلاح مستجاب الدعوة حريصاً على الحق ، ذات يوم مر بسقاء يقول رحم الله من يشرب وكان صائماً فشرب طمعاً ببركة دعائه. قال رجل لمعروف الكرخى : ما شكرت معروفي. فقال : وقع معروفك من غير محتسب عند غير شاكر. وقال معروف الكرخى : " طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق ".
ثانياً : التصوف البدعى
وهذا التصوف خليط من التصوف الإسلامي والتصوف الجاهلي، وقد يكون رجاله أهل علم وأصحاب نوايا حسنة ، وأثرت فيهم العادات السائدة في عصرهم وخاصة ما فيها من بدع.
بعضهم حاول إصلاح الطرق فلم يستطع فاضطروا إلى تأويل أعمالهم التي هي في الظاهر مخالفة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليوهموا الناس بأنها لا تعارض النصوص الشرعية وليسلموا من الطعون والانتقادات الموجهة إليهم.
وهؤلاء القوم ليس لهم تطلع لإقامة دين الله تعالى في الأرض بل هم يشغلون أنفسهم بأمور أهمها : -
1- الاشتغال بالأذكار والأوراد وغالباً ما تكون طريقتهم في الذكر غير مطابقة للسنة بل تشتمل على بعض البدع ، كأن يكون الذكر بصورة جماعية ، ويسبق بعضهم بعضاً مما يجعل المسبوق يترك بعض الكلمات التي تخل بالمعنى، إضافة إلى الحركات المصطنعة التي يحدثونها أثناء الذكر من التمايل والقفز والتراقص.
كما أن أورادهم غالباً ما تشتمل على الاستشفاع والتوسل بالأولياء والصالحين والاستعانة بالمقبورين ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم بالدعاء.(193/52)
2- التربية والتزكية عن طريق النوافل، فهم غالباً يحرصون على الإكثار من صيام التطوع فبعضهم يتحرى صيام المندوبات والبعض يصوم زيادة على ذلك. وكذلك الصلوات فهم يكثرون من صلاة النافلة وقيام الليل بل يجعلوا لكل ليلة قيامًا مخصوصاً وتلاوة مخصوصة، ولا يجوز تخصيص يوم أو ليلة بعبادة مخصوصة إلا بدليل.
3- البيعة يهتم كثير من أصحاب الطرق الصوفية البدعية بأخذ البيعة من المريد وتكون البيعة على الطاعة المطلقة لشيخه، دون الاعتراض عليه.
والطاعة المطلقة لا تصح إلا للمعصوم عليه السلام وكل بيعة لغيره يجب أن تكون مقيدة في حدود عدم المعصية لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه " لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف " (203).
أبرز ما يميز هذا النوع من التصوف هو الوقوع في البدع.
أقسام البدعة :
البدعة تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة :
1- البدعة الحسنة أو السنة الحسنة وهي تكون في الجوانب الحياتية والتقدم العلمي التجريبي وفى الأمور التي تخضع للمصالح المرسلة "المصالح العامة التي لا نص فيها " كعمل صندوق للصدقات وبناء المستشفيات والمدارس التعليمية وما شابه ذلك.
2- البدعة السيئة وهى كل محدثة في دين الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم " إياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة " (204).
وقد وقع الصوفية في كثير من البدع والشركيات منها.
ما يكون من غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت فيقضون الحاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم ويحفظون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم، فإن هذه من خصائص الربوبية (205).
والذين يجعلون مع الله نداً يدعونه كما يدعو الله تعالى ويسألونه الشفاعة كما يسألون الله تعالى ، ويحبونه كما يحبون الله تعالى.
وقد حذر صلى الله عليه وسلم مما هو أدنى من ذلك فحين قيل له عليه السلام " ما شاء الله وشئت ". قال : أجعلتنى لله عدلاً (نداً) ؟ بل ما شاء الله وحده (206).(193/53)
ومن ذلك أيضاً التبرك بالأماكن والأشخاص والأشجار وغير ذلك ، وقد طلب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم شيئاً من ذلك وهم حديثو عهد بكفر وذلك حين خرجوا لغزوة حنين فمروا " بشجرة " بسدرة للمشركين يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قالوا : اجعل لنا شجرة كذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون) (207) ، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم" (208).
ومن ذلك الذبح للأولياء والصالحين ، وتقديم القرابين لهم ، والذبح عند قبورهم. وقد نهى الله تعالى عن ذلك وحذر من الوقوع في ذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَريكَ له) (209).
وقال تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (210) وقال صلى الله عليه وسلم " لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والده ، ولعن الله من أوى محدثاً ، ولعن الله من غير منار الأرض " (211).
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الذبح عند الأوثان أو في أماكن يقام فيها عيد جاهلي وذلك حين سُئل عن رجل نذر أن يذبح إبلاً بأحد الأماكن فقال صلى الله عليه وسلم : هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ فقالوا : لا، قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" (212).
ومنها الاستعاذة بالمقبورين والصالحين من الأولياء الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. والاستعاذة معناها الالتجاء والاعتصام والتحرز والهرب من شيءٍ تخافه إلى من يعصمك منه (213).(193/54)
وقد أمرنا المولى عز وجل أن نستعيذ به قال تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (214) وقال أيضاً : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) (215) وقال : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (216) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (217).
ومنها الاستغاثة بغير الله تعالى والاستغاثة طلب الغوث لإزالة الشدة كالاستنصار طلب النصرة ، والاستغاثة تمتاز عن الدعاء بأنها لا تكون إلا من المكروب قال تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) (218).
فقد وقع كثيرٌ من الصوفية والعوام في ذلك فمنهم من يدعو شيخه عند اشتداد الكروب فيقول : يا علي ، ويا عبد القادر ، ويا بدوي …… وأدى الغلو إلى أكثر من ذلك منهم من يسألهم الجنة وغفران الزلات …… حتى زعم أحدهم أن شيخة يجلس عند النار فلا يدع أحداً استغاثه يدخلها …… ونسجوا كثيراً من القصص المكذوبة فزعموا أن فلاناً استغاث شيخه فأغاثه ، أو دعا الولي الفلاني فأجابه أو فرج كربته (219) (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (220).
وممن وقع في ذلك البوصيري حيث قال :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به…سواك عند حلول الحادث العمم
ولا يضيق رسول الله جاهك بي…إذ الكريم تحلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي……محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي …فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم (221)
فقد وقع البوصيري بأخطاء كثيرة في أشعاره هذه منها : -
1- إنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الخطوب إلا الرسول عليه السلام وليس ذلك إلا لله.
2- تضرع للرسول عليه السلام وناداه ودعاه وطلب منه أموراً لا تطلب إلا من الله عز وجل.(193/55)
3- طلب منه الشفاعة عندما يريد الله تعالى الانتقام ولا يمنع ذلك أحد. قال تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (222).
4- ادعى أن له ذمة لأن اسمه محمد وهذا غير صحيح لأنه ليس بين الرسول عليه السلام ومن اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، وكم من الطغاة من سماه أهله بمحمد.
5- زعم أنه لا خلاص له إلاّ إذا تفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ بيده يوم القيامة، والخلاص والنجاة يوم القيامة تكون بفضل الله عليه.
وكذلك البرعي وقع في شيء من ذلك في قوله :
أرجوك في سكرات الموت أن تشهدني……كيما يهون إذ الأنفاس في صعد
وإن نزلتُ ضريحاً لا أنيس به……فكن أنيس وحيد فيه منفرد
وقال أيضاً :
يا سيدي يا رسول الله يا أملي……يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني
هبني بجاهك ما قدمت من زلل……جوداً ورجح بفضل منك ميزاني
واسمع دعائي واكشف ما يساورني……من الخطوب ونفّس كل أحزاني
فأنت أقرب من ترجى عواطفه……عندي وإن بعدت داري و أوطاني (223)
فقد وقع البرعي بأبياته هذه في أخطاء عدة منها : -
1- انه يستغيث بالرسول عليه السلام ويطلب حضوره عند موته ليهون عليه سكرات الموت وهذا ليس إلا لله عز وجل.
2- وطلب من الرسول عليه السلام أن يؤنس وحشته في قبره وليس للعبد أنيس إلا العمل الصالح.
3- وطلب منه أن يرجح ميزانه يوم القيامة ولا يرجح الميزان إلا الإخلاص والعمل الصالح
4- وطلب منه عليه السلام أن يكشف عنه الضر والكربات ويهون عليه الحزن والخطوب.
5- وهو الذي يرجو عاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم مهما بعدت الدار … والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرجى بعد موته.
6- زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أقرب من يرجى، والله تعالى هو القريب المجيب وليس الحبيب محمد عليه السلام بعد وفاته.(193/56)
ومن الأخطاء التي وقع فيها القوم التوسل (224). والتوسل هو اتخاذ الوسيلة وهي الطريقة التي توصل إلى المطلوب " المرغوب".
الوسائل نوعان كونية وشرعية :
1- الوسيلة الكونية : وهي كل سبب طبيعي يوصل إلى المقصود بخلقته التي خلقه الله بها ويؤدي إلى المطلوب بما أودعه الله فيه من سنن كالماء فهو الوسيلة إلى ري الظمآن والطعام هو الوسيلة لحصول الشبع للجائع ، والملابس تحفظ الإنسان من حرارة الشمس وبرد الشتاء، واستعمال الزراعة والري للحصول على الغذاء والزواج وسيلة لحصول الذرية وهي مشتركة بين المؤمن والكافر من غير تفريق … ويشترط لاستعمالها شرطان أن تكون مباحةً شرعاً، وثبت بالتجربة وغالب الظن تحقق المطلوب بها.
2- والوسيلة الشرعية : وهي كل سبب يوصل إلى المقصود عن طريق ما شرعه الله تعالى وبينه في كتابه وسنة نبيه وهي خاصة بالمؤمن المتبع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- فالوضوء والغسل والتيمم وسيلة لحصول الطهارة ، والامتناع عن الطعام وسيلة لحصول الصيام والنطق بالشهادتين والعمل بمضمونها وسيلة لحصول مرضاة الله تعالى والفوز برحمته ودخول الجنة، وإتباع السيئة الحسنة وسيلة إلى محو السيئة، وقول الدعاء المأثور بعد الأذان وسيلة إلى نيل الشفاعة، وصلة الرحم وسيلة لطول العمر وسعة الرزق. ويشترط فيها ثبوتها بالشرع الحنيف.
فهذه القضايا السابقة تحقق تلك الغايات والمقاصد عن طريق الشرع وحده، لا عن طريق العلم والتجربة أو الحواس، فنحن لم نعلم أن صلة الرحم تطيل العمر وتوسع الرزق إلا من قوله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه " (225).
التوسل المشروع لا يتم إلا بأحد أنواع ثلاثة : -
1- التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته.
2- التوسل بعمل صالح قام به الداعي.
3- التوسل بدعاء رجل صالح (226).
النوع الأول : التوسل باسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته :(193/57)
قال الله تعالى : (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) ومنه ما ورد في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أحد أدعيته "اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي " (227).
وفي الحديث من كثر همه فليقل " اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي " إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجاً " (228).
وفي الحديث ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني " (229).
النوع الثاني : التوسل إلى الله بصالح الأعمال :
وهو أن يتوسل الإنسان بصالح أعماله إلى الله عز وجل لأن هناك مناسبة بين توسل الإنسان إلى الله وبين عمله الصالح الذي أخلص به لوجه الله تعالى والدليل على صحة ذلك ما ورد في القرآن الكريم قال تعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (230) وقال تعالى : (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (231).
وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " انطلق ثلاثة رجال ممن كان قبلكم ، فآواهم المبيت إلى غار فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار.
فقالوا : والله لا ينجينا من هذه الصخرة إلا أن ندعوا الله بصالح أعمالنا.(193/58)
فقال أحدهم : كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً ، فعاقني طلبُ يوماً ، فلم أرح عليهما حتى ناما ، فحلبت لهما غبوقهما ، فجئتهما به فوجدتهما نائمين ، فتحرجت أن أوقظهما ، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فقمت والقدح بيدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما..
اللهم … إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه.
وقال الثاني : " اللهم لقد كانت لي ابنة عم ، كانت أحب الناس إليَّ ، فراودتها عن نفسها فامتنعت ، حتى ألمت بها سنة من السنين ، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت ، حتى إذا قدرت عليها ، قالت : لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه ، فتحرجتُ من الوقوع عليها وانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ ، وتركت المال الذي أعطيتها إياه.
اللهم … إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
ثم قال الثالث : " اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم ، غير رجل واحد منهم ، ترك أجره وذهب ، فثمرت أجره ، فجاءني بعد حين ، فقال يا عبد الله أدِّ إليَّ أجرتي، فقلت له : إن أجرتك هي كل ما ترى من الإبل والغنم والبقر والرقيق ، فقال : يا عبد الله لا تستهزئ بي ، فقلت : إني لا أستهزئُ بك ، ورويت له القصة ، فأخذ ذلك كله فاستاقه ، ولم يترك منه شيئاً.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فأفرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة فخرجوا من الغار يمشون … وهذا حديث صحيح (232).
وهذا الحديث يدل على صحة أعمالهم فيها وإن الله قبلها وقبل دعاءهم وتوسلهم بصالح أعمالهم.
النوع الثالث : التوسل بدعاء الصالحين :(193/59)
وهو كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تعالى فيحب أن يتقرب إلى الله بسبب قوي، فيذهب إلى رجل حيث يعتقد فيه الصلاح والتقوى والعلم والفضل فيطلب منه أن يدعو له ربه أن يكشف عنه الضر ويفرج كربه.
ومن ذلك توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدعاء العباس رضي الله عنه والاستسقاء به حيث قال : " اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، فيسقون " (233).
والمراد أن عمر رضي الله عنه كان يقول للعباس رضي الله عنه قم فاستسق لنا ربك فيدعو لهم فيسقيهم الله تعالى.
ومن ذلك أن معاوية رضي الله عنه دعا يزيد بن الأسود يستسقي لهم فدعا لهم ودعا الناس فسقاهم الله (234).
وأما الشفاعة فهي شبيهة بالتوسل وليس لأحد أن يشفع عند الله تعالى إلا بإذنه لقوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه ) (235) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم عن شفاعته بأن الله عز وجل يحد له حداً ويقول له اشفع في هؤلاء فيشفع …… وأما الشفاعة في الدنيا فيجوز للإنسان أن يشفع شفاعة حسنة. ولا تصح الشفاعة في ظلم ولا في حد من حدود الله لقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد مستنكراً " أتشفع في حد من حدود الله ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " (236).
والشفاعة في الآخرة لا تطلب إلا من الله تعالى فليس لأحدنا أن يطالب أو يرجو الشفاعة من أحد حتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يطلب ذلك من الله تعالى فيقول اللهم ارزقنا شفاعته.
وأما ما ورد في حديث الضرير حين توضأ وصلى ركعتين ، وكان من دعائه بعدهما عن محمد صلى الله عليه وسلم اللهم شفع فيَّ محمداً وشفعني فيه ، فالمراد من قوله اللهم تقبل دعاءه لي ودعائي له ، فيكون المراد أيضاً طلب استجابة دعاء كلٍ منهما من الله عز وجل.(193/60)
وأما الأحاديث الأخرى الواردة وتشمل على السؤال بحق النبي ، أو بجاه النبي أو بحق السائلين فلا يقوى منها حديث لدرجة الصحة ، فكلها بين الضعيف والموضوع.
من أبرز رجال التصوف البدعي :
1- البوصيري : هو محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري كنيته أبو عبد الله ولقبه شرف الدين ، وهو شاعر مليح المعاني حسن الديباجة. والبوصيري نسبة إلى " أبو صير " من أعمال بني سويف بمصر ، وأمه منها ، وأصله من المغرب ، وتوفى بالإسكندرية. عاش بين عامي 608– 696هـ ، 1212– 1296م. له ديوان شعر وأشهر أشعاره البردة.
وسميت البردة بهذا الاسم – كما زعموا - لأن البوصيري أصيب بشلل نصفي ، فأنشدها فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فألقى عليه بردته فبرئ ، وكان بعض الفقراء إذا مرض قرأ البردة فبرئ والله أعلم (237). وهذا لا يصح شرعاً لاشتمال البردة على مغالطات شرعية وعقدية ولا يصح عقلاً.
2- البرعي : وهو عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي اليماني ، وهو شاعر متصوف من سكان اليمن ، درس العلم وأفتى ودَرَّسَ ، له ديوان شعر مطبوع أكثره في المدائح النبوية ، ينسب إلى برع بتهامة ، توفيَّ سنة 803هـ – 1400م (238).
ثالثاً : التصوف الفلسفي (الباطل) :
وهو التصوف الذي اختلط بالفلسفات القديمة حتى غلبت عليه أفكار الفلاسفة كالفلسفة الإشراقية والزرادشتية وهو أيضاً يشتمل على رهبانية النصاري ، ودردشة الهنادكة ، ودخل إليه الشرك أيضاً عن طريق تأثره بالفلسفة اليونانية والرومانية والفارسية.
وأصحاب هذا النوع من التصوف تحللوا من شريعة الإسلام ومبادئه ووقعوا في جاهلية عمياء حيث وقعوا في الخرافات والأكاذيب وابتعدوا عن الدعوة إلى الله والوعظ والإرشاد وانقطعوا لاستقبال الهبات والنذور من جهلة القوم (239). وأبرز الأفكار التي ظهرت عند هؤلاء القوم هي وحدة الوجود والحلول والاتحاد والاعتماد على العلوم الكشفية.(193/61)
والملاحظ أن هذا النوع من التصوف لا يستمد أصوله وأفكاره من مصادر إسلامية لذلك قوبل بمعارضة شديدة من العلماء والأئمة كالغزالي في كتابه المنقذ من الضلال ، ابن تيمية في فتاويه ، ابن القيم في مدارج السالكين ، وابن الجوزي في تلبيس إبليس.
من أبرز رجال التصوف الفلسفي :
1- الحلاّج (240) :
هو الحسين بن منصور الحلاج الفارسي ولد بفارس سنة 244هـ البيضاوي البغدادي ، جدهُ زاردشتي ، صوفي متكلم وله اتصال بالقرامطة له شطحات كثيرة ، وأقوال سقيمة منها قوله " ما في الجبة إلا الله " " وأنا الحق " ولا يؤمن بفريضة الحج يقول أبو بكر بن الصولي عنه رأيت الحلاج وخاطبته فرأيت جاهلاً يتعاقل وغبياً يتبالغ وفاجراً يتزاهد …… وكان مع جهله خبيثاً ، وكان متشدداً وعنيداً ومغالياً ويكتنفه كثير من الغموض وقد قتل مصلوباً بفتوى من علماء عصره سنة 309هـ.
2- ابن الفارض (241) :
هو عمر بن علي بن المرشد بن علي الحموي الأصل المصري ولد سنة 576هـ ، شاعر صوفي لقب بسلطان العاشقين اشتغل بفقه الشافعية أخذ الحديث عن ابن عساكر، وأخذ عنه الحافظ المنذري ، حبب إليه سلوك طريق الصوفية كان يعتزل الناس ويأوى إلى المساجد المهجورة والأماكن الخربة.
توفى بالقاهرة سنة 632هـ ، وله ديوان شعر وشعره ينعق بالاتحاد الصريح.
3- ابن عربي (242) :(193/62)
هو محي الدين بن محمد بن على بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطائي ، الحاتمي ، صوفي ومتكلم وفقيه وأديب ومفسر ، ولد بالأندلس سنة 560هـ كان يلقب بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، له أراء سقيمة أنكرها عليه كثيرٌ من أهل عصره واتهموه بالزندقة وعمل بعضهم على قتله خاصة في مصر، وحرم الشيخ جلال الدين السيوطي النظر في كتبه، له مؤلفات كثيرة منها الفتوحات المكية ، وفصوص الحِكَم ، من أقواله : الوجود كله واحد ، وجود المخلوقات عين وجود الخالق ، وجود الله هو الوجود الحقيقي ، وجود العالم هو الوجود الوهمي، ويبني ابن عربي على وحدة الوجود وحدة الأديان وغير فكرة التوحيد بقوله ليس في الوجود على الحقيقة إلا الله ولا معبود في الواقع إلا الله وقد قال عن نفسه كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت. وكانت وفاته عام 638هـ بدمشق ودفن فيها وله قبر يزار في أيامنا هذه.
4- ابن سبعين (243) :
هو عبد الحق بن محمد بن نصر الاشبيلي المرسى القرمطي ، ولد سنة 614 وتوفى سنة 669 هجرياً ، وتوفى منتحراً ، قيل أنه فصد الدم من يديه وتركه ينزف حتى تصفى فمات.
وهو صوفي وحكيم درس العربية وآدابها بالأندلس.
من أقواله السقيمة " لقد كذب ابن أبي كبشة حين قال لا نبي بعدي.
ومن مؤلفاته أسرار الحكمة – الحروف الوضعية في الصور الفلكية – جواهر السر المنير.
ولا تخلو مؤلفاته من الأقوال الباطلة كان يكثر من القول بوحدة الوجود في مؤلفاته ومواعظه.
5- شهاب الدين السهروردي (244) :
هو أبو الفتوح شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، الملقب بالشيخ المقتول، ولد عام 549هـ في مدينة ميديا المعروفة باسم سهرورد من أعمال زنجان من فارس (العراق العجمي)، تنقل في البلدان، تتلمذ على يد عبد الكريم الجيلي " الجيلاني " شيخ فخر الدين الرازي، طالع كتب ابن سينا وتصوف وتقرب من الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين الأيوبي وحضر مجالسه.(193/63)
اختلف الفقهاء مع السهروردي لقوله (إن الله قادر على أن يخلق نبياً بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأمر صلاح الدين ابنه الملك الظاهر بقتله لانحلال عقيدته، وكان ذلك عام 587هـ ، كان مستوى القامة يميل إلى سماع الموسيقى، يحتقر من يتقرب إلى السلطان والأبهة الدنيوية، سليط اللسان، لا يحترم الفقهاء والشيوخ، وكان أحياناً يرتدي الخرقة الصوفية والثياب المهلهلة؛ وكان رديء الهيئة ذريء الخلقة لا يغسل له ثوباً ولا يقص ظفراً ولا شعراً.
وكان أوحد زمانه في العلوم الحكمية، جامعاً للفنون الفلسفية بارعاً في الأصول الفقهية، مفرط الذكاء، فصيح العبارة، علمه أكبر من عقله، من أقواله حرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السموات.. اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف.
وله كثير من المؤلفات بعضها مطبوع مثل : هياكل النور، رسالة في اعتقاد الحكماء، حكمة الإشراق وبعضها مخطوط مثل : المشارع والمطارحات، التلويحات، مقامات الصوفية.
وذكر ابن خلدون الاختلاف في اسمه هل هو يحيى أم أحمد أم عمر والمترجم عنده أنه يحيى وذلك لأن جماعة من أهل الفن كتبوه بهذا الاسم.
الخاتمة
وبعد … فقد توصلت والحمد لله تعالى إلى النتائج التالية : ـ
أولاً : إن الباحث لا يستطيع أن يقف على تعريف أو اشتقاق متفق عليه بين أهل الفن وأصحاب المذاهب الصوفية، بل هم في ذلك طرق ومذاهب شتى.
ثانياً : إن التصوف مر بأطوار شتى وكل فترة زمنية امتازت عن الأخرى ببعض المستجدات مع العلم أن الأطوار كلها لم تنته بعد بل هنالك من الناس من لا زالوا متأثرين بالطور الأول، وآخرون متأثرون بالأطوار الأخرى.
ثالثاً : نلاحظ من خلال هذا البحث أن الصوفية لهم مصادرهم والمؤثرات التي تأثروا بها فغالبهم يعتبر العلوم وهبيه يحصلون عليها عن طريق الرياضات والكشف والذوق والرؤى المنامية، مبتعدين بذلك عن الهدي النبوي متبعين للأفكار والمعتقدات التي تأثروا بها.(193/64)
رابعاً : نتبين أن التصوف والصوفية ليسوا مدرسة واحدة بل هم مدارس وطرق وجماعات متباينة الفكر والتوجه، وإن كان يجمعها كلها البعد عن الملذات والشهوات والمتع الزائلة.
خامساً : لا يمكن أن يعامل جميع الصوفية معاملة واحدة ولا يمكن أن يجمعهم حكم عام بل كل واحدٍ وكل طريقة منهم تدرس على حدة، حتى نعرف ما عندهم من الحق والباطل، ونحكم عليهم بناءً على ذلك، فكلما كانوا أقرب إلى السنة كانوا أقرب إلى الحق، وكلما كانوا أبعد عن السنة كانوا أقرب إلى الضلال.
وأسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأسأل الله العلي القدير أن يهدينا سبل السلام إنه على كل شيء قدير.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. محمود يوسف الشوبكي
24 صفر 1423هـ
7 مايو 2002م
الهوامش
(1) بتصرف عن أصول التصوف/ عبد الله حسين زروق، المركز القومي للإنتاج الإعلامي، 1995م – 1415هـ، ص7- 9.
(2) صحيح البخاري فتح الباري ، دار الفكر، حديث رقم 1975، كتاب الصوم، باب حق الجسد في الصوم. 4/217- 218.
(3) صحيح البخاري فتح الباري ، حديث رقم 3606 ، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام ، 6/615.
(4) مجموع الفتاوى 11/27- 28.
(5) آل عمران : الآية 31.
(6) الكهف : الآية 110.
(7) انظر : ابن تيمية وموقفه من أهم الفرق والديانات : د. محمد حرب، عالم الكتب، ط1، 1407هـ- 1987م، ص178.
(8) انظر : الصحاح للجوهري 4/1388 ، 1389، مطابع دار الكتاب العربي ، والقاموس المحيط 3/169، ولسان العرب 11/102- 103 ، ومعجم مقاييس اللغة 3/322.
(9) المصباح المنير ، المطبعة العثمانية 1/161.
(10) التعرف لمذهب أهل التصوف ، ط دار الكتب العلمية - بيروت. ، ص24
(11) الرسالة القشيرية ، ط دار الكتاب العربي - بيروت. ، ص127، ص127
(12) النجم : الآية 32.
(13) التصوف الإسلامي ، زكي مبارك، ط ، المكتبة العصرية – لبنان، ص54.(193/65)
(14) تلبيس إبليس : ابن الجوزي ، ط دار الوعي، ص183.
(15) نشأة التصوف الإسلامي : د.إبراهيم بسيوني، ط ، دار المعارف بمصر عام 1969، ص11.
(16) دراسات في الفرق والمذاهب القديمة والمعاصرة : عبد الله الأمين، دار الحقيقة – بيروت، ط1 ، 1406- 1986، ص239.
(17) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ، تحقيق : محمد سيد كيلاني ، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط 1396- 1976، 1/92، نشأة الفكر الفلسفي/ علي سامي النشار، دار المعارف، ط2 ، 1/265.
(18) انظر : نشأة الفلسفة الصوفية : عرفان عبد الحميد، ص108، ط8 ، المكتب الإسلامي ينقل عن نيكلسون مؤلف دائرة معارف القرن العشرين.
(19) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ : محمود عبد الرؤوف القاسم، ط1، 1408هـ – 1987م، ص739- 749.
(20) انظر : أصول التصوف : د. عبد الله حسن زروق ، المركز القومي للإنتاج الإعلامي ، إبريل 1995م، ذي القعدة 1415هـ ، ص22.
(21) تلبيس إبليس 161، دار الكتب العلمية، وانظر : لسان العرب ط بولاق الأولى11/102،.
(22) مجموع الفتاوي 11/6.
(23) مجموع الفتاوي 11/6.
(24) تلبيس إبليس 161، دار الكتب العلمية، وانظر : لسان العرب ، ط بولاق الأولى11/102.
(25) الفتاوي 11/6،7 ، وتلبيس إبليس 161.
(26) عوارف المعارف للسهروردي، مطبعة السعادة 1/211.
(27) مقدمة ابن خلدون، ط4 ، ص468.
(28)انظر : كتاب التجانية، دراسة في ضوء الكتاب والسنة : علي بن محمد دخيل الله دار طيبة، الرياض، ص22،23.
(29) ديوان أبي فراس، ص243، دار صادر بيروت.
(30) تلبيس إبليس 198.
(31) المرجع السابق 182.
(32) دراسات في التصوف الإسلامي : طه عبد السلام خضير ومحمد مصطفى، ص6- 7.
(33) أخرجه البخاري ، حديث رقم 5813 ، كتاب اللباس ، باب البرود والحبرة والشملة ( الفتح 10/277 )(193/66)
(34) زاد المعاد ، ابن قيم الجوزية ، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنائوط ، ط1 مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1399هـ - 1979م 1/144.
(35) أخرجه أبو داود مراجعة محمد محي الدين عبد الحميد ، دار الفكر ، حديث رقم 474 ، كتاب اللباس ، باب في السواد ، 4/54.
(36) تلبيس إبليس : ابن الجوزي، 194،195،196.
(37) المرجع السابق 190.
(38) الرسالة القشيرية دار الكتاب العربي127،.
(39) نقلاً عن عبد الرحمن دمشقية أبوحامد الغزالي والتصوف، دار طيبة، ط2 ، ص132.
(40) انظر : الرسالة القشيرية، ص183.
(41) انظر في هذا الموضوع : كتاب مدخل إلى التصوف الإسلامي : د. السيد عقيل بن على المهدلي، ط2، دار الحديث، ص62- 80.
(42) الرسالة القشيرية 2/552.
(43) عوارف المعارف 313.
(44) مدخل الى التصوف ،المهدلي ص 67
(45) السابق ص69.
(46) السابق ص 70.
(47) السابق ص71.
(48) السابق ص72.
(49) السابق ص 73.
(50) السابق ص74.
(51) السابق ص76.
(52) السابق ص77.
(53) السابق ص79.
(54) مقدمة ابن خلدون، دار القلم ، ط5 ، 1984م – 1419هـ ، ص467.
(55) انظر : أبو حامد الغزالي والتصوف/عبد الرحمن بن محمد دمشقية 133- 140.
(56) مجموع الفتاوي 9/186.
(57) النحل : الآية 125.
(58) آل عمران : الآية 159.
(59) المائدة : الآية 8.
(60) انظر : ابن تيمية وموقفه من أهم الفرق والديانات في عصره محمد حربي ، عالم الكتب ، ط1 ، 1407هـ – 1987م ، ص182.
(61) الكشف عن حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ : محمود عبد الرؤوف القاسم، ص745، وفي كتابه الفلسفة الإسلامية وملحقاتها المطبوع في دمشق، عام 394- 1974.
(62) دراسات في الفرق والمذاهب القديمة المعاصرة : عبد الله الأمين، ص243 ، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 11/5- 29 ، المنقد من الضلال للغزالي ، ص215- 216.
(63) الحديد : الآية 20.(193/67)
(64) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي "كن في الدنيا كأنك غريب" حديث رقم (6416) فتح الباري 11/233.
(65) القصص : الآية 77.
(66) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب : حق الجسم في الصوم. ح 2، ص 697، حديث رقم 1975 فتح الباري 4/217- 218.
(67) صحيح مسلم ترقيم محمد فواد عبد الباقي، حديث رقم 784، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن، 1/541.
(68) وفيات الأعيان 1/249.
(69) التصوف في الإسلام : عمر فروخ ، دار الكتاب العربي – بيروت، سنة 1981م، ص62.
(70) الكواكب الدرية 1/109.
(71) الكواكب الدرية 1/109.
(72) حلية الأولياء 9/348.
(73) هذا الطور يعتبره محمد فروخ الطور الثاني وهو التشبه بالسابقين.
(74) القشيري 17،18 الشعراني 1/84.
(75) الوفيات 1/309.
(76) ابن الأثير 8/129 ، وفيات 2/145.
*وهذا القول من غرائب الصوفية لأن سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وسلف الأمة كانوا يذكرون الله بألسنتهم وقد أمرت النصوص الشرعية بذلك " فاذكروني أذكركم " " من ذكر الله في ملأ ذكره الله في ملأ خير من ملئه ".
(77) القشيري 32.
(78) انظر الشعراني 1/140.
(79) المرجع السابق 1/156، ووفيات الأعيان 1/171- 172.
(80) الشعراني 2/13- 14.
(81) انظر : الموسوعة الميسرة ، ص348.
(82) الموسوعة الميسرة ، ص348.
(83) للاستزادة عن أحوالهم يراجع طبقات الصوفية للشعراني، المجلد الثاني، فهو مليء بأخبارهم.
(84) وهم أصحاب الحكيم وزادشت بن يورشب ومقره فارس يعتقدون أن للعالم أصلين النور والظلمة يقال لهم كهنة النار يقولون بالعقل الكلي.
(85) أصحاب ماني بن فاتك الحكيم يعتقدون أن العالم مصنوع من أصلين أزليين النور والظلمة يقتسمان الخير والشر والصلاح والفساد، ظهرت في منتصف القرن الثالث الميلادي، امتدت هذه الديانة حتى بلاد الشام والترك.(193/68)
(86) ظهر مزدك عام 484م واصل تعاليم ماني ولكنه أيام الإشتراكية في الزوجات والأموال ويعتقدون أن أركان الكون ثلاثة الماء والأرض والنار، ولها مدبر الخير والشر.
(87) وهم أصحاب ديصان قالوا بأصلين النور والظلمة، وأن النو يفعل الخير قصداً واختياراً، وأن الظلام يفعل الشر طبعاً واضطراراً، النور حي عالم قادر فيه الخير والحسن، والظلام ميت وعاجز.
(88) وهم أثبتوا أصلين النور والظلمة، ثم قالوا بأمرٍ ثالث دون النور وفوق الظلمة، والنور هو الله تعالى، والزواج عندهم فقط لإنتاج الأولاد وما سوى ذلك فهو حرام.
(89) انظر : دعوة التوحيد الدرزية/ سليمان سليم علم الدين ، ط1 ، بيروت 1998م، ص329.
(90) انظر : الكشف عن حقيقة الصوفية/ محمود عبد الرؤوف قاسم، ص750- 751.
(91) السابق، ص755.
(92) العهد القديم سفر المزامير، مزمور 149/33 و 81 , 149- 150.
(93) انظر : التصوف الإسلامي : حسن عاصي ، ط1 ، 1414هـ – 1994م، ص30 ، والتصوف الإسلامي : عبد الرحمن بدوي، ص104.
(94) انظر : دعوة التوحيد الدرزية، ص342- 345 ، وانظر : إحياء علوم الدين فإنه مليء بقصص تنسب للمسيح والرهبان، ولا يتسع المجال لسردها.
(95) انظر : ركائز الإيمان بين العقل والقلب : محمد الغزالي ، ص144.
(96) انظر : التصوف الإسلامي : حسن عاصي ، ص59.
(97) انظر : التصوف الإسلامي : د. حسن عاصي ، ص52.
(98) انظر : أبو حامد الغزالي والتصوف : عبد الرحمن دمشقية ، ص143.
(99) السابق والصفحة.
(100) التصوف الإسلامي : د. محمد عاص، ص52، دعوة التوحيد الدرزية، ص335.
(101) انظر : أبو حامد الغزالي والتصوف، ص141- 142.
(102) ركائز الإيمان : محمد الغزالي ، دار القلم، دمشق،ن ط1، 1400- 1985، ص140.
(103) انظر : الصوفية في الإسلام : سميح عاطف الزين ، ص34- 35، التصوف في الإسلام : عمر فروخ، بيروت، 1981، ص43.(193/69)
(104) انظر : عيون الأنباء في طبقات الأطباء : ابن أبي أصيبعة (بيروت) ص67 وما بعدها ، نقلاً عن التصوف الإسلامي : حسن عاصي، ط1، مؤسسة عز الدين، بيروت، 1414هـ- 1994م ، ص55- 56.
(105) الكشف عن حقيقة الصوفية : محمود عبد الرؤوف قاسم، ص749.
(106) عيون الأنباء ، ص67 ، نقلاً عن التصوف الإسلامي : حسن عاصي ، ص55- 56.
(107) انظر : التصوف الإسلامي : د. حسن عاصي ، ص57.
(108) أبو حامد الغزالي والتصوف : عبد الرحمن دمشقية ، ص138.
(109) ركائز الإيمان : محمد الغزالي ، دار القلم، دمشق،ن ط1، 1400- 1985، ص140.
(110) انظر : دعوة التوحيد الدرزية ، ص346.
(111) انظر : الكشف عن حقيقة الصوفية : محمود عبد الرؤوف القاسم ، ص749.
(112) مدارج السالكين 2/39،40.
(113) النساء : الآية 59.
(114) المائدة : الآية 8.
(115) التصوف والصوفية : ابن تيمية ، ص44.
(116) الفكر الصوفي في الإسلام : عبد الرحمن عبد الخالق : ص363.
(117) التعريفات : للجرجانى، ص163.
(118) مجموعة الرسائل والمسائل، ابن تيمية ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط2 ، 1412هـ – 1992م ، 1/59.
(119) سورة النبأ، آية 7.
(120) التعريفات : للجرجانى، ص39 ، وانظر : مجموعة الرسائل والمسائل ابن تيمية ، 1/62.
(121) كرامات أولياء الله الصالحين : علي عبد العال الطهطاوي ، مكتبة الصف القاهرة، ط1، 1421هـ- 1992، 1/62.
(122) السابق ص177
(123) مسند الإمام الأحمد ، طبع ونشر دار الفك العربي ، ضعفه الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع الصغير رقم 1405.
(124) التعريفات : للجرجانى، ص23 ، 239.
(125) السابق ، ص239.
(126)أخرجه مسلم - كتاب الذكر والدعاء - باب استحباب خفض الصوت للذكر - حديث رقم 2704 ، 4/2076.
(127) سورة البقرة آية186.
(128) مجموعة الرسائل والمسائل ، 1/58- 59.
(129) التعريفات : للجرجانى، ص184.
(130) مدارج السالكين : ابن القيم، 3/221.(193/70)
(131) بيان تلبيس الجهمية : ابن تيمية، 1/263.
(132) التعريفات : للجرجانى، ص169.
(133) انظر : أصول التصوف، عبد الله زروق ، ص78.
(134) المعجم الفلسفى : جميل صليبا 2/569، والفكر الصوفي : عبد الرحمن عبد الخالق، ص115.
(135) السابق 1/35 ، التعريفات، ص 8 ، أصول التصوف : عبد الله زروق ، ص77.
(136) انظر : حقائق عن التصوف : عبد القادر عيسى، المطبعة الوطنية – عمان، ط 4، 1401هـ – 1981م، ص540. التصوف في الميزان : مصطفى غلوش ، ص67.
(137) انظر : التصوف في الميزان ، د. مصطفى علوش ، دار نهضة مصر القاهرة ، ص67.
وأصول التصوف : عبد الله حسن زروق ، ص76.
(138) الرسالة القشيرية : ص55،56.
(139) التعريفات : للجرجاني، ص254.
(140) الرسالة، ص57، الموسوعة الميسرة، ص346.
(141) كشف المحجوب للهجويري ، ص616.
(142) انظر : التعريفات : للجرجاني، ص81 ، 249.
(143) التعريفات : للجرجاني ، ص172 ، الرسالة القشيرية، ص58، 59.
(144) الرسالة القشيريه، ص67 ، التعريفات : للجرجاني، ص169.
(145) التعريفات : للجرجاني، ص270.
(146) الرسالة القشيرية ، ص34.
(147) الرسالة القشيريه، ص67 ، التعريفات : للجرجاني، ص169.
(148) اللمع للسراج - دار الكتب الحديثه - نشره عبد الحليم محمود سنه 1960، ص284.
(149) مدارج السالكين : ابن القيم، ط المنار، 3/312.
(150) الرسالة القيشريه، ص69 ، 70، التعريفات : للجرجاني، ص163.
(151) انظر : الرسالة القيشرية ص75 ، الحركة الصوفية في الإسلام ، د. محمد علي أبو ريان ، دار المعرفة الجامعية ، 1995 ، ص140.
(152) المرجع السابق، ص 48.
(153) التعريفات : للجرجاني، ص205.
(154) الرسالة للقشيري، ص82.
(155) كشف المحجوب للهجويري ، ص627.
(156) الرسالة للقشيري ، ص83.
(157) سورة الكهف اّية 65 ،.
(158) وانظر ، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب ، ص345.
(159) انظر : دعوة التوحيد الدرزية ، ص388.(193/71)
(160) الاستقامة : ابن تيمية 1/82- 97، نقلاً عن مجلة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، عدد 41 ، سنة 1415هـ ص157.
(161) دراسات في التصوف : د. طه عبد السلام خضير ، د. محمد مصطفى، ص27.
(162) إحياء علوم الدين : للغزالي، ت 505هـ، ج3 ، ص8 ، باختصار دار الفكر بيروت.
(163) حاشية المنقذ من الضلال : للغزالي، ص 241.
(164) الطبقات الكبرى : أبو المواهب عبد الوهاب الشعراني، ط1 ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ، 997 – 1418، ص11.
(165) المنقذ من الضلال : للغزالي، ص89 – 90.
(166) التعريفات، ص104.
(167) التعريفات، ص34.
(168) جامع الأصول في الأولياء : أحمد الكمشخانوي، دار إحياء الكتب العربية، ص206.
(169) أخرجه الطبراني/ المعجم الكبير للطبراني 8/102 ، رقم الحديث 7497 ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، إسناده حسن 10/268.
(170) أخرجه البخاري عن عبادة بن الصامت، كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة رقم الحديث 6987، فتح الباري 12/373.
(171) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة ، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، حديث رقم 479 ، 1/348.
(172) انظر : الصوفية والفقراء : لابن تيمية، ص24،25.
(173) انظر : الاستقامة : لابن تيمية، 1/82- 88.
(174) فاطر : آية 5.
(175) العنكبوت : آية 64.
(176) أخرجه مسلم. كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب فناء الدنيا ، حديث رقم 2858 ، 4/2139.
(177) أخرجه البخاري. عن ابن عمر رضي الله عنه، كتاب الرقاق، باب قول النبي كن في الدنيا كأنك غريب، حديث رقم 6416، فتح الباري 11/233.
(178) المائدة : آية 3.
(179) يونس : الآية 24.
(180) الكهف : الآية 45- 46.
(181) أخرجه مسلم. عن أبي سعيد الخدري، كتاب الذكر والدعاء، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، حديث رقم 2742، 4/2098.
(182) أخرجه البخاري. كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة ، حديث رقم 3158، فتح الباري 6/257، 258.(193/72)
(183) أخرجه البخاري. كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو ، حديث رقم 2887، فتح الباري 6/8.
(184) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين في كتاب الرقاق، وقال صحيح الإسناد، 4/341- 342، رقم الحديث 7847.
(185) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب، كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا، حديث رقم 232، 4/561.
(186) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب قول النبي، ما أُحب أن لي مثل أحد ذهباً، رقم الحديث 6445، 4/228.
(187) أخرجه مسلم. كتاب الزهد والرقاق، حديث رقم 2977، 4/2284.
(188) أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح. كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه، حديث رقم 2377، 4/588- 589.
(189) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقاق، حديث رقم 2970، 4/2281.
(190) أخرجه البخاري. كتاب الوصايا، باب الوصايا، حديث رقم 2739، البخاري مع الفتح 5/356.
(191) الممتحنة : آية 6.
(192) كنز العمال 3/132.
(193) السابق، 3/130.
(194) منتخب كنز العمال 4/408.
(195) الأحقاف : آية 20.
(196) حياة الصحابة، 2/269.
(197) البدآية والنهآية : لابن كثير، 8/3.
(198) كنز العمال، حديث رقم 8588، 3/726- 727.
(199) الأعلام : للزركلى 1/31، حلية الأولياء 7/367 ، فوات الوفيات 1/3.
* بحث بعض المستشرقين فلم يجد ملكاً في بلخ إسمه أدهم فشكك فيه. بل نفى أن يكون هناك متصوف مسلم يدعى إبراهيم بن أدهم بل زعم أن قصته ملفقة على قصة بوذا، ولعل المراد أن أبوه من ملوك خراسان، أي من الملوك والموسرين بها. انظر : الموسوعة الصوفية، ص16.
(200) الإعلام للزركلى 4/115 ، الحلية 8/ 162 - 171 ، تاريخ بغداد 10/ 152- 159.
(201) الطبقات الكبرى 5/500، رقم الترجمة 1249 ، حلية الأولياء، المكتبة السلفية 8/84- 139 ، تذكرة الحفاظ 1/245، رقم الترجمة 232.(193/73)
(202) الأعلام 7/269، طبقات الصوفية، ط3 ، مطبعة المدني، 1406هـ- 1986م، ص83- 90 ، وفيات الأعيان، دار الثقافة، بيروت، تحقيق : إحسان عباس، 5/231- 233، ترجمة رقم 729.
(203) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء، حديث رقم 1840، 3/1469.
(204) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، حديث رقم 2676، 5/44..
(205) تيسير العزيز الحميد، ص28.
(206) أخرجه أحمد عن ابن عباس، حديث رقم 1844، 1/282.
(207) الأعراف : آية 138.
(208) أخرجه أحمد في مسنده عن أبي واقد الليثي، حديث رقم 21956، 5/258..
(209) سورة الأنعام : الآية 162.
(210) الكوثر : الآية 271.
(211) أخرجه مسلم ، كتاب الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله، حديث رقم 1978، 3/1567.
(212) أخرجه أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، حديث رقم 3313، 3/238.
(213) تيسير العزيز الحميد 187.
(214) فصلت : الآية 36.
(215) المؤمنون : الآية 97- 98.
(216) الفلق : الآية 1.
(217) الناس : الآية 1.
(218) الأنفال : الآية 9.
(219) انظر : تيسير العزيز الحميد 185.
(220) الأحقاف : الآية 5.
(221) تيسير العزيز العمد 187.
(222) الزمر : الآية 19.
(223) تيسير العزيز الحميد 191.
(224) انظر : كتاب التوسل، أنواعه وأحكامه : محمد عيد العباس، المكتب الإسلامي، بيروت، ط5 ، 1406هـ – 1986م، ص 17ـ24.
(225) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق، حديث رقم 2067، 2/10.
(226) المرجع السابق، ص46.
(227) أخرجه النسائي، كتاب السهو، الباب نوع آخر، حديث رقم 1306، سنن النسائي ، ط1، بيروت، 1406- 1986، 3/55.
(228) أخرجه الحاكم في المستدرك/ دار الكتب العلمية، بيروت، ط1 ، 1411- 1990، كتاب الدعاء والتكبير، حديث رقم 1877/77 ، مجلد 1/590.(193/74)
(229) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من شر ما عمل، حديث رقم (2717)، صحيح مسلم، تعليق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية 4/2086.
(230) سورة آل عمران ، الآية : 16.
(231) سورة آل عمران ، الآية : 53.
(232) أخرجه البخاري، كتاب المزارعة، باب إذا زرع بمال قوم ، حديث رقم 2333، فتح الباري 5/16.
(233) أخرجه البخاري كتاب الجمعة، باب سؤال الناس الإمام الإستسقاء، حديث رقم 1010، فتح الباري 2/494.
(234) أخرجه ابن عساكر بسند صحيح في تاريخ دمشق 65/113.
(235) البقرة : الآية 255.
(236) أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف، رقم الحديث 1688، 3/1315.
(237) الأعلام : للزركلي 6/139، فوات الوفيات : للكتبي، تحقيق : إحسان عباس، ترجمة رقم 456 ، ج3، ص368. الموسوعة الصوفية : عبد المنعم الحفني، ط1، 1412ـ 1992م، دار الرشاد القاهرة، ص70- 7.
(238) الأعلام 3/343.
(239) انظر : مبادئ الإسلام : للمودودي، 133ـ 134.
(240) المنتظم : ابن الجوزي، 6/160- 164، تاريخ بغداد 8/112، وفيات الأعيان 1/405- 407، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض، ص343.
(241) وفيات الأعيان 3/126- 127، لسان الميزان 4/317- 319، الموسوعة الصوفية 311- 313.
(242) سير النبلاء للذهبي 13/231، فوات الوفيات : للكتبي، 3/435- 440، الموسوعة الصوفية 286- 291.
(243) انظر : الطبقات الكبرى، للشعراني، ص286 ، وفيات الأعيان 1/274، شذرات الذهب 5/321 وما بعدها.
(244) انظر : وفيات الأعيان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان ، تحقيق : د. إحسان عباس دار الثقافة بيروت 6/268- 270. الأعلام للزركلي دار العلم للملايين 8/140.(193/75)
ألا له الخلق والأمر
مفهوم القدر والحرية
عند أوائل الصوفية
إعداد
الشيخ/ محمود بن عبد الرازق
توزيع
مكتبة الإحسان
بالجمالية ــ دقهلية
ت : 731912
* كتب للمؤلف *
1- توحيد العبادة ومفهوم الإيمان - الطبعة الأولى نفدت ــ مطبعة التقدم - المنيرة - القاهرة .
2- توحيد الصفات بين اعتقاد السلف وتأويلات الخلف - الطبعة الثانية دار نور الإسلام للنشر والتوزيع - المنصورة .
3- القواعد السلفية فى الصفات الربانية - الطبعة الثانية مطبعة دار الوفاء - المنصورة .
4- محنة الإمام فى صفة الكلام - الطبعة الأولى - توزيع مكتبة الإحسان بالجمالية دقهلية .
5- مفهوم القدر والحرية عند أوائل الصوفية - الطبعة الأولى توزيع مكتبة الإحسان بالجمالية دقهلية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رقم الإيداع بدار الكتب 8814 / 1995
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الترقيم الدولىI . s . b. n /
977 - 272 - 794 - 5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطبعة الأولى
سنة 1995م / 1416هـ
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
توزيع
مكتبة الإحسان
بالجمالية ــ دقهلية
ت : 731912
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد ... فإنه من رحمة الله سبحانه وتعالى وعظيم لطفه بخلقه أن جعل الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالات السماوية ، وجعلها سبحانه وتعالى كاملة صافية نقية لا يزيغ عنها إلا هالك قال تعالى :(194/1)
{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا } (1) .
وكتب ـ تبارك اسمه وتعالى جده ـ السعادة فى الدارين لأتباع هذه الرسالة الذين قدروها حق قدرها وقاموا بها على وفق ما أراد الله وعلى هدى نبى الله صلى الله عليه وسلم ، فكان منهم خير القرون ومن جاء بعدهم ممن زكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله : ( خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) .
قال عمران بن حصين راوى الحديث : ( فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ) (1) .
ــــــــ
1- المائدة / 3 .
وبعد خير القرون كانت الفترة الزمنية التى لفتت أنظار الباحثين بما حوته من متغيرات فى الفكر الإسلامى وتأصيل للمناهج المختلفة لدى الطوائف الإسلامية حيث تشابكت فيها الأفكار وتعددت الطوائف وبدأت الشوائب تتسرب إلى النبع الإسلامى .
فقام كل باحث يأخذ شريحة من هذه الفترة يفحصها ويرد الأمور إلى نصابها ويقرر النتائج عنها ، ومما ميز الله به هذا الدين أن جعله محفوظا على الدوام منهجا ثابتا لا يتغير وواقعا مرئيا تقام به الحجة على العباد ، فقال تعالى فى حفظ منهجه :
{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم فى وجوده واقعا مستمرا إلى قيام الساعة :
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ومن صحب النبى أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه حديث رقم (4650) وأخرجه مسلم فى كتاب فضائل الصحابة ، باب فصل الصحابة ثم الذين يلونهم حديث رقم (2535) وأخرجه أبو داود فى كتاب السنة ، باب فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رقم (4657) والترمذى فى كتاب الفتن ، باب ماجاء فى القرن الثالث حديث رقم (2222) .
2- الحجر / 9 .(194/2)
( إنه سيكون فى أمتى كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبى وأنا خاتم النبيين لانبى بعدى ، ولا تزال طائفة من أمتى على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتى أمر الله تبارك وتعالى ) وفى رواية : ( لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك ) (1) .
وقد جعل الله الاختلاف مقدرا فى سننه الكونية ومحلا للابتلاء بين العباد فقال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (2) .
وعلى الرغم من ذلك نهانا عنه وحذرنا منه وأمرنا بالاعتصام بمنهجه المتمثل فى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقال جل ذكره :
{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } (3) .
وقال أيضا : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة ، باب قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق ) حديث رقم (1924) وأبو داود فى كتاب الفتن ، باب ذكر الفتن ودلائلها برقم (4252) وابن ماجه فى كتاب الفتن ، باب ما يكون من الفتن برقم (3952) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 5 ص 278 وأخرجه الحاكم فى المستدرك وصححه حـ 4 ص 456 ، ص 457 .
2- هود / 118 : 119 .
3- آل عمرا ن / 103 .
أو يصيبهم عذاب أليم } (1) .
فمن جانب السنن الكونية حدث الاختلاف بين الأمة ، ومن جانب التكليف والعلم كلفنا الله سبحانه وتعالى بأخذ الأسباب فى خدمة الكتاب والسنة .(194/3)
وقد حاولت فى هذه البحث الذى تقدمت به لنيل درجة الماجستير أن أبين موقف أوائل الصوفية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومدى تأثيرهم وإسهامهم سلبا أو إيجابا فى الحفاظ على العقيدة الإسلامية ، وذلك من خلال مفهومهم للقضاء والقدر ومدى حرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله ، كما حاولت من خلال البحث إظهار المخالفات التى وقعوا فيها والتى نتجت عنها سلبيات الواقع الصوفى المنتشرة فى البلاد الإسلامية قديما وحديثا .
* أهمية الموضوع :
من المؤسف أن الواقع الصوفى فى الماضى والحاضر قد اختلط بالشطح والبدع والخرافات ودعاء الأموات وتشييد الأضرحة والعكوف على قبور الصالحين وشد الرحال إليهم ، وانتشار الطرق الصوفية بشكل
يجر إلى البدعة ويخرج عن معنى الترابط والوحدة فى متابعة النبى صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النور / 63 .
وقد ظهرت أمور غريبة لا تتفق وروح الإسلام امتدت قرونا طويلة تحت شعار التصوف وانصبت فى أرض الواقع ، فازدادت المخالفات باسم التصوف ووقف الناس مواقف متعدده بين منكر ومتحامل بالحق أو الباطل ، كل ذلك والعيون ترقب الأمة الإسلامية وتتربص بها من الداخل والخارج بغية فى تشويه فكرها وتشتيت شملها ومن ثم كانت أهمية الموضوع ممثلة فى الجوانب الآتية :
1- الوقوف على الحقائق الفكرية لمنهج الصوفية فى الفترة التى تلت خير القرون إذ أنها تمثل منعطفا خطيرا فى تاريخ الأمة الإسلامية .
2- واقعية الموضوع وأثره فى تصحيح الحياة الصوفية المعاصرة من خلال تقديم دراسة علمية نزيهة للمؤيدين أو المعارضين للتصوف بغية التجرد للوصول إلى الحقيقة .
3- الوقوف على مكانة الأوائل وسلوكهم ومنهجهم فى الحياة بذكر مالهم وما عليهم ليتأسى الناس بالفضيلة والأخلاق الحميدة .
4- العمل على كشف الشخصيات الصوفية التى أسهمت فى إثراء الفكر الصوفى بصفة خاصة والفكر الإسلامى بصورة عامة .(194/4)
5- تقديم رؤية إسلامية صحيحة وواضحة لأخطر القضايا الفكرية وهى قضية القضاء والقدر وعلاقتها بأفعال العباد من خلال معالجة الصوفية الأوائل لها .
6- إخراج المعانى الصوفية التى تخدم الإسلام وخاصة مفهوم الحرية بالمنظور الذى يعالج ويصحح مفهوم الحرية عند الشباب المسلم فى العصر الحاضر ، فالحرية عندهم ترتبط بالعبودية إرتباطا وثيقا لا ينفصل .
7- كشف المعانى الدخيلة على التراث الإسلامى فى الفترة التى تلت خير القرون ، والوقوف على مدخل القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود وغير ذلك من المعانى التى قبحها مشايخ الصوفية .
8- العمل فى سبيل الفهم الصحيح الذى يدعو إلى وحدة الصف المسلم ونبذ المغالاة ورد الشباب المسلم إلى طريق الاعتدال من خلال نظرة الأوائل للحياة وفهم الغاية منها .
* منهج البحث :
يلتزم هذا البحث منهجا تبدو معالمه فيما يلى :
[1- استقراء تراث الصوفية فى الفترة الزمنية التى تلت عصر خير القرون وهى على وجه التقريب من بداية القرن الثالث الهجرى إلى نهاية القرن الرابع ، ثم التحليل والوصف فى عرض القضايا التى تتصل بموضوع الدراسة والبحث تحليلا يشمل التركيز على محتوى النصوص التى ثبتت عنهم ليكون الحكم حكما سليما معبرا بحق
عن رأى الصوفية .
[2- الاعتماد على الشخصيات الصوفية البارزة التى تركت بصمات واضحة فى مجال التصوف سواء بالدعوة أو الكتابة والتصنيف وتقرير القضايا المعينة مع الاستشهاد بأقوال الآخرين كلما أمكن .
[3- اعتبار الصوفى الذى أدرك جزءا مناسبا من القرنين الهجرين الثالث والرابع شخصية مؤثرة فى البحث يمكن الاستعانة برأيه وبما أدلى به فى إتمام الموضوع .
[4- إخراج المادة العلمية فى كل مبحث فى أفكار محددة جامعة للموقف الصوفى مع الاستعانة ببعض الأشكال والرسومات البيانية التى تجسد الفكرة وتقرب المراد إلى القارئ .(194/5)
[5- الرجوع المستمر إلى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والتعليقات السلفية لمقارنة الرأى الصوفى بالمنهج الإسلامى الصافى ومدى قربه أو بعده منه .
[6- البعد عن التهويل والتهوين والإفراط والتفريط فى عرض القضايا والاقتصار على التجرد فى طرح الحقائق الموصولة للحكم وبسط المقدمات الموصولة للنتائج مع الترجمة المختصرة والمركزة لكل شخصية صوفية عند الموضع المناسب وتخريج الآيات والأحاديث على منهج أهل الحديث .
* خطة البحث : وقد جاء البحث مرتبا على هذا النحو :
* المقدمة وقد اشتملت على مايأتى :
* سبب اختيار البحث 0 * أهمية الموضوع 0
* منهج البحث 0 * خطة البحث 0
* الباب الأول : دراسة تمهيدية فى واقع الصوفية ومفهوم القدر والحرية 0
ويشتمل على فصلين :
* الفصل الأول : واقع التصوف والصوفية فى القرنين الثالث والرابع الهجريين 0
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : التصوف نسبته ومعناه 0
ب ــ المبحث الثانى : دراسة العوامل التى أسهمت فى ظهور التصوف 0
جـ ــ المبحث الثالث : موضوع التصوف وأهم قضاياه 0
* الفصل الثانى : دراسة فى مفهوم القدر و الحرية وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : الحرية لغة وشرعا 0
ب ــ المبحث الثانى : الحرية فى تاريخ الفكر الإسلامى 0
جـ ــ المبحث الثالث : الحرية ومنهج الحياة الإسلامية 0
الباب الثانى : الحرية من الجانب الاعتقادى
مفهوم القضاء والقدر وعلاقته بالحرية عند أوائل الصوفية
ويشتمل على فصلين :
* الفصل الأول : موقف أوائل الصوفية من صفات الله وعلاقته بموضوع القدر والحرية
وقد اشتمل على أربعة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : منهج أوائل الصوفية فى فهم المسائل الاعتقادية 0
ب ــ المبحث الثانى : موقف أوائل الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل 0
جـ ــ المبحث الثالث : إفراد الله بالفاعلية أساس العقيدة عند أوائل الصوفية 0(194/6)
د ــ المبحث الرابع : مراتب الإيمان بالقدر عند أوائل الصوفية 0
* الفصل الثانى : الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية عند أوائل الصوفية 0
وقد اشتمل على خمسة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : مفهوم الذات الإنسانية عندأوائل الصوفية 0
ب ــ المبحث الثانى : الإرادة الحرة وأصالتها فى الذات الإنسانية 0
جـ ــ المبحث الثالث : دوافع الإرادة وبواعثها عند أوائل الصوفية 0
د ــ المبحث الرابع : موضوع الاختيار البشرى ومجاله عند أوائل الصوفية 0
و ــ المبحث الخامس : العلاقة بين المشيئة الإلهية والإرادة الإنسانية 0
* الباب الثالث : الحرية من الجانب العملى السلوكى
وقد اشتمل على فصلين :
* الفصل الأول : الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية وقد اشتمل على أربعة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : الاستطاعة من مقومات الحرية عندأوائل الصوفية 0
ب ــ المبحث الثانى : الاستطاعة وعلاقتها بالعلل والأسباب 0
جـ ــ المبحث الثالث : العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الانسانية 0
د ــ المبحث الرابع : العلة من خلق الأواسط والأسباب عند أوائل الصوفية 0
* الفصل الثانى : الحرية ومنهج العبودية وقد اشتمل على أربعة مباحث :
ا ــ المبحث الأول : العقل والعلم من مقومات الحرية 0
ب ــ المبحث الثانى : الحرية فى الاصطلاح الصوفى 0
جـ ــ المبحث الثالث : المقامات الصوفية وإرادة الحرية 0
د ــ المبحث الرابع : الأحوال الصوفية وثمرة الحرية 0
* الخاتمة : وقد اشتملت على ما يأتى :
ا ــ أهم نتائج البحث 0 ب ــ التوصيات التى تتصل بموضوع الرسالة 0
* وختاما ... أسأل الله أن يجعل عملى خالصا لوجهه صائبا وفق كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
وكتبه الشيخ / محمود بن عبد الرازق بن على
غرة ربيع الأول من عام 1416 هـ
الباب الأول
دراسة فى مفهوم الحرية وواقع الصوفية
ويشتمل على فصلين
الفصل الأول
واقع التصوف والصوفية فى القرنين
الهجريين الثالث والرابع(194/7)
الفصل الثانى
دراسة فى مفهوم الحرية
الفصل الأول
واقع التصوف والصوفية فى القرنين
الهجريين الثالث والرابع
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول :
التصوف نسبته ومعناه
المبحث الثانى :
دراسة العوامل التى أسهمت
فى ظهور التصوف والصوفية
المبحث الثالث :
موضوع التصوف وأهم قضاياه
*** المبحث الأول ***
التصوف نسبته ومعناه
من الطبيعى أن نلجأ إلى اللغة محاولين معرفة معنى هذه اللفظة ونسبة اشتقاقها فقد قيل :
إن التصوف نسبة إلى الصوف ، وذلك لأنه لباس خشن بعيد عن النعومة والليونة وقد كان يلبسه الأنبياء والصالحون وهو لباس الصوفية ومرتبط بالزهد فى أذهانم ، فتصوف إذا لبس الصوف (1) .
وفى هذا يذكر السهروردى البغدادى فى عوارف المعارف أن اختيارهم للبس الصوف كان لتركهم زينة الدنيا وقناعتهم بسد الجوعة وستر العورة واستغراقهم فى أمر الآخرة وهذا الاختيار ملائم ومناسب من حيث الاشتقاق لأنه يقال : تصوف إذا لبس الصوف كما يقال : تقمص إذا لبس القميص .
ولأن ذلك أبين فى الإشارة إليهم وأدعى إلى حصر وصفهم إذ لبس الصوف كان غالبا على الأنبياء والمتقدمين من سلفهم فحالهم حال المقربين (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر قضية التصوف المنقذ من الضلال للدكتور عبد الحليم محمود ص 31 طبعة دار المعارف ، االقاهرة سنة 1985 بتصرف .
2- عوارف المعارف للسهروردى تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف حـ 1 ص 211 طبعة دار الكتب الحديثة القاهرة سنة 1971.
وهذه النسبة رجحها كثير من العلماء وهى صحيحة من حيث اللغة وإن كان القوم لم يختصوا بلبس الصوف وحدهم بل كان يلبسه غيرهم يقول ابن خلدون : ( والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف وهم فى الغالب مختصون بليسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس فى لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف ) (1) .(194/8)
وقيل : إنه نسبة إلى أهل الصفة وهم جماعة من فقراء المهاجرين الذين كانوا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لمشاكلتهم الصوفية فى حالهم فهم الذين نزل فيهم قوله تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا } (2) .
وهذه الأوصاف قائمة بالاثنين إذ أن أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا فقراء مهاجرين فى سبيل الله عاكفين على الزهد والعبادة والتقشف والنسك ، فلما كانت طائفة الصوفية متلبسين بأوصاف أهل الصفة نسبوا إليهم ، وقد انتقد القشيرى وغيره هذه النسبة لمخالفتها مقتضى اللغة (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مقدمة ابن خلدون تحقيق د/ على عبد الواحد وافى ، لجنة البيان العربى الطبعة الأولى سنة1960م ، حـ 3 ص 1062 . 2- الكهف / 52 .
3- انظر السابق حـ3 ص 1074 ، وانظر عوارف المعارف حـ 1 ص 212 والرسالة القشيرية حـ2 ص 555 ، اللمع لأبى نصر السراج الطوسى ص 41 .
وقيل : إنما سموا صوفية لأنهم بين يدى الله تعالى فى الصف الأول وذلك لارتفاع هممهم وتعلقهم به وإقبال أسرارهم وقلوبهم عليه ووقوفهم بكليتهم بين يديه تعالى وذلك لأنهم لم تمتلكهم الدنيا حتى وإن ملكوها ، فلا يفوتهم فضل الصف الأول (1) .
وقيل : إنه نسبة لبنى صوفة قبيلة من العرب لها صلة وثيقة بالبيت الحرام فلهذه الرابطة التى تتم بين القوم وبين بيوت الله تعالى نسب الصوفية إلى بنى صوفه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وهذا إن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف ، لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك ، ولو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب فى زمن الصحابة رضى الله عنهم والتابعين وتابيعهم أولى ، ولأن غالب من تكلم باسم الصوفية لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة فى الجاهلية ولا وجود ــــــــــــــــــــــــ(194/9)
1- انظر عوارف المعارف حـ 1 ص 218 وأصول الملامتية وغلطات الصوفية مقدمة التحقيق للدكتور عبد الفتاح أحمد الفاوى ص 23 طبعة مطبعة الإرشاد القاهرة سنة 1405 هـ 1985 م وانظر قضية التصوف المنقذ من الضلال للدكتور عبد الحليم محمود ص 31 .
لها فى الإسلام (1) .
وكثير من الصوفية أنفسهم نسبوا التصوف إلى الصفاء لآن مجاهداتهم ورياضاتهم إنما تنشد الصفاء فهم من أجل ذلك صوفية .
قال بشر بن الحارث : الصوفى من صفا لله قلبه (2) .
وسئل سهل التسترى من الصوفى ؟
فقال : من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر (3) .
وقال بعضهم (4) :
تنازع الناس فى الصوفى واختلفوا : جهلا وظنوه مأخوذا من الصوف
ولست أنحل هذا الإسم غير فتى : صافى فصوفى حتى سمى الصوفى
فهم يحاولون أن يصفوا أنفسهم بمرتبة إيمانية لا تضاهى كما جاء فى أوصاف السابقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 11 .
2- انظر تاريخ التصوف الإسلامى من البداية حتى نهاية القرن الثانى للدكتور عبد الرحمن بدوى ص 123 وما بعدها طبعة وكالة المطبوعات الكويت سنة 1975 م .
3- عوارف المعارف حـ 1ص 207 .
4- الدر الثمين والمورد المعين للشخ محمد بن محمد المالكى حـ 2 ص 169 طبعة مصطفى البابى الحلبى القاهرة سنة 1373 هـ 1960 م .
( يدخل من أمتى سبعون ألفا بغير حساب ثم وصفهم وقال : هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكوون ولا يكتون وعلى ربهم يتوكلون ) (1) .
وأيا كان قولهم إلا أن واقع الصوفية يختلف كثيرا مع دعوتهم وحالهم ، ولكن ما نرجحه فى نسبة التصوف هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال :(194/10)
( هؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة وهى لباس الصوف فقيل فى أحدهم صوفى وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال ) (2) .
أما سبب ظهور التصوف وارتباط لفظ التصوف بهم فهذا مبين فى المبحث الآتى .
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الطب برقم (5270) ومسلم فى كتاب البر الصلة برقم (2586) والترمذى فى كتاب صفة القيامة برقم (2446) .
2- الصوفية والفقراء ص 30 .
*** المبحث الثانى ***
دراسة العوامل التى أسهمت فى
ظهور التصوف والصوفية
اختلف الناس فى تاريخ نشأة الصوفية فمنهم من يذكر أن هذا الإسم لم يكن فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم و إنما كان فى زمن التابعين .
وينقل السهروردى عن الحسن البصرى أنه قال : رأيت صوفيا فى الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه وقال : معى أربعة دوانيق يكفينى ما معى .
وقيل :لم يعرف هذا الإسم قبل المائتين من الهجرة العربية (1) .
ويذكر أبو نصر عبد الله بن على السراج الطوسى المتوفى سنة 378هـ أن هذا الإسم معروف من قبل ذلك بل يذهب إلى أنه لفظ جاهلى عرفته العرب قبل ظهور الإسلام (2) .
وأيا كان الخلاف فى تاريخ النشأة إلا أن التصوف لم يظهر فى عهد الصحابة والتابعين بالصورة المتميزة والمستقرة بعد القرن الثانى الهجرى ــــــــــــــــــــــــ
1- عوارف المعارف حـ 1 ص 208 .
2- اللمع لأبى نصر السراج الطوسى تحقيق د. عبد الحليم محمود ، طه عبد الباقى سرور الطبعة الأولى سنة 1960 دار الكتب الحديثة بمصر ص 41 .
غير أن المقدمات التى أسهمت فى ظهوره واستقراره كانت مثار جدل واختلاف بين الباحثين ، ويمكن القول بأن الأمور الأساسية التى أسهمت بشكل فعال فى إظهار التصوف وإبرازه فى هيكل مميز يعرف به عن سائر الطوائف تتمثل فى الأمور الآتية :
الأمر الأول :(194/11)
هو رد الفعل الطبيعى لحياة الترف التى تأثر بها المسلمون بعد عهد الخلفاء الراشدين من جهة ، والفتن والمنازعات السياسية المتكررة من جهة أخرى ، فبعد مقتل عثمان بن عفان رضى الله عنه بدأ عصر مشحون بالصراعات والفتن الداخلية أسفرت عن موقعة الجمل ثم صفين ثم مقتل على بن أبى طالب رضى الله عنه وتولى بنى أمية للخلافة ثم كانت سلسلة الفتن والصراعات بين الأمويين ومعارضيهم من الشيعة وأبناء على ثم مقتل الحسين بكربلاء والأحداث التى لابست خروجه لمقابلة بن زياد وقتاله .
كل هذه الأحداث أوجدت فى نفوس المسلمين نوعا من رد الفعل الذى كان نتيجته عزوف بعضهم عن المشاركة فى مجريات أمور الدولة واعتزال المجتمع تصونا عما فيه من الفتن وطلبا للسلامة ، فقوى اتجاه الزهد وظهر بكثرة فى الكوفة والبصرة (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر العواصم والقواصم لابن العربى ص 80 : 86 بتصرف .
هذا فضلا عن أن دولة بنى العباس تغلغلت فيها روح الترف والبذخ فى كثير من بيوت الأمراء وغيرهم ، مما أتاح للإكثار من المتعة والإغداق فى الملذات وإشباع الفضول الفكرى والأدبى من الحضارات الأخرى المستجلبة من تراث الأمم الغابرة (1) حتى ظهرت المعتزلة بما خلفته من جراح وأفكار عصفت بالأمة الإسلامية وقتها ، ومن وقف على طبقات المعتزلة علم قدر ما كانوا عليه من العدد والمكانة المرموقة بين الخلفاء العباسيين (2) .
ومن ثم كان التصوف بخصائصه الأخلاقية عاملا من عومل الجذب فى الاتجاه المضاد للصورة السابقة .
غير أنه فى القرنين الثالث والرابع الهجريين لم يكن مقصورا على البصرة والكوفة كما كان شأن الزهاد والعباد فى القرنين الأوليين ، وإنما تجاوز إلى أغلب بلاد الممالك الإسلامية كفارس والشام وجزيرة العرب فقد انتشرت الصوفية فى هذه الأنحاء من العالم الإسلامى ، وكان لهم ــــــــــــــــــــــــ(194/12)
1- انظر من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة للدكتور محمد السيد الجليند ص19 : 23 بتصرف .
2 - طبقات المعتزلة للقاضى عبد الجبار ص 132، وفيات الأعيان لابن خلكان حـ1 ص 67 وما بعدها ، وتاريخ الطبرى حـ 8 ص 290 وما بعدها ، موقف الصوفية من العقل حتى نهاية القرن الرابع للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ص 22 .
مشايخ وطوائف وطرق ينتسب إليها المريدون فى مختلف البلاد ، غير أن مذهبهم لم يصب من النمو والازدهار فى أى من البلاد ما أصاب بغداد التى كان ينمو فيها سريعا وحظه من الصبغة العلمية عظيما (1) .
الأمر الثانى :
السمة الظاهرة للمجتمع الإسلامى فى عصر النبوة وما بعده فقد كان الصوف منتشرا فى لباس المسلمين فى عصر الصحابة والتابعين وكان مرتبطا على الأغلب بالفقر وقلة اليد وقد دلت على ذلك مجموعة من الأحاديث النبوية منها :
ا ــ حديث جرير بن عبد الله البجلى رضى الله عنه إذ قال : جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم وقد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطؤا عنه حتى رؤى ذلك فى وجهة صلى الله عليه وسلم .. إلى آخر الحديث (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحياة الروحية فى الاسلام للدكتور مصطفى حلمى ص 124 بتصرف طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1984 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب الزكاة ، باب الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار برقم (70 ) وفى كتاب العلم ، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن برقم (1017) .
ب ــ حديث أبى بردة بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال : قال أبى : لوشهِدتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم إذا أصابتنا السماء حسبت أن ريحنا ريح الضأن إنما لباسنا الصوف (1) .(194/13)
جـ ــ حديث نافع بن عقبة رضى الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة ، فأتى النبى قوم من المغرب عليهم ثياب الصوف فوافقوه عند أكمة فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد (2) .
فهذه الأحاديث تدل على أن لبس الصوف فى عهده صلى الله عليه وسلم ارتبط غالبا بالفقر والعجز والضيق ولم يكن يوجد أو يتيسر لكل واحد منهم القطن أو غيره ، وهذا المعنى لاحظه الصوفية بعد زمنه صلى الله عليه وسلم ، فنسبوا أنفسهم إليه بغية التواضع فى الخلق والتعبد والزهد والبعد عن ملذات الدنيا وأصبح لبس الصوف مشتهرا بين الصوفية ومميزا لهم ، وقد ساد ذلك بين الناس إلى درجة أن الإمام مالك رحمه الله يعتبره مظهرا للشهرة بالزهد .
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه مسلم فى كتاب اللباس ، باب التواضع فى اللباس برقم (2801) وأبو داود كتاب اللباس ، باب فى لبس الصوف والشعر رقم (4032) والترمذى كتاب صفة القيامة ، باب لبس الصوف برقم (3562) وأحمد حـ 4 ص 419 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب الفتن وأشراط الساعة ، حديث رقم (2900) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 338 .
قال ابن بطال : كره مالك لبس الصوف لمن يجد غيره لما فيه من الشهرة بالزهد لأن إخفاء العمل أولى ، ولم ينحصر التواضع في لبسه بل فى القطن وغيره مما هو دون ذلك (1) .
وهذه النسبة يؤيدها السراج الطوسى فى قوله : فكذلك الصوفية عندى نسبوا إلى ظاهر اللباس ، ولم ينسوا إلي نوع من أنواع العلوم والأحوال التى بها مترسمون ، لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المساكين المتنسكين (2) .
الأمر الثالث :
الذى ساعد فى إتمام البناء الصوفى فى القرنين الهجريين الثالث والرابع هو الطابع المميز للذات الصوفية ويتجلى ذلك فيما يأتى :(194/14)
ا ــ وجود مظاهر جديدة للزهد ولم تكن موجودة فى عصر الصحابة والتابعين إذ ظهرت جماعة من المسلمين لهم نمط معين من الحياة اليومية خاصة فى الكوفة والبصرة يتميزون بها عن عامة المسلمين وربما بدأت هذه الظاهرة فى أواخر القرن الأول الهجرى (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر فتح البارى بشرح صحيح البخارى حـ 1 ص 269 ، وانظر الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 21 ، 31 .
2- اللمع ص 40 .
3- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 31 .
فهذا إبراهيم بن أدهم (1) الذى كان سليل الملوك يترك بلده وأهله ويقيم فى غار بنيسابور تسع سنوات كاملة من عمره بعيدا عن الناس ويهيم فى الصحراء أربعة عشر عاما ، وهذا السلوك لا يوافق سنة النبى صلى الله عليه وسلم فى زهده وتحرره من قيود الحياه ، بل هو ابتداع ومظهر جديد لم يكن بين الصحابة رضوان الله عليهم .
وهذا بشرا الحافى (2) يلقب بالحافى لأنه ذهب يوما إلى الإسكاف
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر ترجمته فى حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبى نعيم الأصفهانى حـ 7 ص367 مطبعة السعادة ، القاهرة سنة 1351 هـ ، الطبقات الكبرى للشعرانى حـ 1 ص81 طبعة بولاق سنة 1914 م وانظر الرسالة القشيرية لأبى القاسم القشيرى تحقيق الدكتورعبد الحليم محمود ، محمود بن الشريف حـ 1 ص54 ، تهذيب الكمال فى أسماء الرجال ليوسف الدمشقى حـ 1 ص 349 طبعة دار الكتب المصرية التاريخ الكبير للبخارى حـ 1 ص 200 طبعة حيدر أباد ، فوات الوفيات للكتبى حـ1 ص3 طبعة بولاق ، تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار حـ 1 ص 44 .(194/15)
2- انظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ 8 ص 336 وما بعدها ، وفيات الأعيان حـ1 ص112 صفة الصفوة لابن الجوزى حـ2 ص183 ، شذرات الذهب فى أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلى حـ2 ص60 طبعة مكتبه القدس بالقاهرة سنة 1350 هـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادى حـ 7 ص 67 مطبعة السعادة القاهرة سنة 1349هـ وانظر سير أعلام النبلاء للذهبى حـ7 ص244 طبعة دار الكتب المصرية ، البداية والنهاية لابن كثير حـ 10 ص 297 المطبعة السلفية سنة 1351 هـ .
ليصلح حذاءه فأغلظ الإسكاف القول له فقذف بشر بنعليه وأقسم ألا ينتعل طول حياته كى لا يحتاج إلى مخلوق .
وكان الأولى به أن يذهب إلى غيره أو يتولى إصلاح الحذاء بنفسه ولا يخالف السنة بترك الانتعال طول الحياة .
كما نجد ما هو أسوأ من ذلك لأبى الحسين النورى حيث يصعد قنطرة ويرمى ثلاثمائة دينار فى الماء واحدا واحدا ثمن عقار بيع له وهو يقول : ( حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا ) (1) .
ونلتقى أيضا بين صوفية القرن الثالث بمن يحرم على نفسه أكل ما أباح الله من الطعام حتى إنه ليقول لمريد من مريديه قد مد يده إلى قشر البطيخ : ( أنت لا يصلح لك التصوف الزم السوق ) (2) .
وغير ذلك من الأقوال والأفعال التى تدعو إلى إعجاب العامة والدهماء فى مقابل جهلهم بالسنة ، مما ساعد على شد الناس فى ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص492 ، صفة الصفوه حـ2 ص294 ، حلية الأولياء حـ10 ص250 تاريخ بغداد حـ5 ص130 ، سير أعلام النبلاء حـ 9 ص156 .
2- هو أبو تراب النخشبى واسمه عسكر بن حصين من مشايخ خرسان توفى فى البادية ، وقيل نهشته السباع سنة 245 هـ ، انظر الرسالة القشيرية حـ2 ص84 حلية الأولياء حـ10 ص45 ، طبقات الشافعية لتقى الدين السبكى حـ2 ص55 المطبعة الحسينية ، القاهرة سنة 1324 هـ ، طبقات الشعرانى حـ1 ص96 شذرات الذهب حـ2 ص 108 .(194/16)
التأسى بها رغبة فى التميز ، حتى عرف الصوفية بذلك بين العامة وأصبح مظهرا مألوفا عند الناس .
ومما يدل على ذلك أيضا ما ذكره رويم بن أحمد البغدادى حيث عطش عطشا شديدا فاستسقى جارية فقالت : ويحك صوفى يشرب بالنهار فاستحى منها ونذر ألا يفطر أبدا (1) .
فما استقر فى أذهان الناس عن الصوفية وارتباطهم بالأحوال العجيبة فى الزهد دفع رويما إلى التلبس بهذه الأوصاف .
ب ــ وجود نمط جديد من الألفاظ والمصطلحات التى لم يؤلف استعمالها من قبل فى عهد الصحابة والتابعين أضفى على الصوفية أثرا واضحا فى تكوين جماعتهم واستقرار منهجهم (2) .
فقد رُوى عن مالك بن دينار والحسن البصرى وشقيق البلخى أنهم ذهبوا لزيارة رابعة العدوية فى مرضها .
فقال لها الحسن : ليس بصادق فى دعواه من لم يصبر على ضرب مولاه
فقالت رابعة : هذا كلام يشم فيه رائحة الأنانية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- رويم بن أحمد البغدادى ت سنة 303 هـ انظر فى ترجمته الرسالة حـ1 ص 27 وانظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ10 ص296 صفة الصفوة حـ2 ص 49 ، طبقات الشعرانى حـ1 ص603 ، المنتظم فى تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزى حـ6 ص136 ، تاريخ بغداد حـ8 ص430 ، والبداية والنهاية حـ1 ص125 .
2- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 32 .
فقال شقيق : ليس بصادق فى دعواه من لم يشكر على ضرب مولاه
فقالت رابعة : يجب أن يكون أحسن من هذا .
فقال مالك : ليس بصادق فى دعواه من لم يتلذذ بضرب مولاه .
فقالت رابعة : يجب أن يقال أحسن من هذا .
فقالوا لها : تكلمى أنت يا رابعة .
فقالت : ليس بصادق فى دعواه من لم ينس الضرب فى مشاهدة مولاه (1) .(194/17)
فكانت مثل هذه الإشارات والألفاظ الغريبة الجديدة التى لم تكن من قبل سببا فى إثارة الصوفية بعد ذلك لأن يتكلموا بما هو غامض وأبعد فى الوصول إلى المعنى المراد حتى ظهر كم كبير من المصطلحات والألفاظ الجارية فى كلامهم استحوزت على أبواب وفصول لشرحها فى كتب التصوف وغيرها (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 33 وانظر تذكرة الأولياء حـ 1 ص 71 ، 72 ، نشأة التصوف فى الاسلام للدكتور قاسم غنى ص 48 .
2- انظر على سبيل المثال ماأفرده السراج الطوسى فى اللمع بشرح الألفاظ الجارية فى كلام الصوفية من ص409 : 458 والأبواب التى أفردها الكلاباذى فى التعرف لمذهب أهل التصوف والقشيرى فى الرسالة والهجويرى فى كشف المحجوب وغيرهم فى شرح هذه الكلمات الغامضة وتبسيط معناها للقارئ العادى .
ومن ثم فقد ساعد هذا النمط الجديد فى إبراز الصوفية بصورة متميزة عن الآخرين .
حـ ــ أن التصوف لم يتعد المرحلة الفردية التى كانت فى القرنين الهجريين الأول والثانى فقط وإنما تجاوز إلى شئ أخر وهو أن الصوفية أخذوا ينظمون أنفسهم طوائف وطرقا يخضعون فيها لنظم خاصة بكل طريقة ، وكان قوام هذه الطرق طائفة من المريدين يلتفون حول شيخ مرشد يوجههم ويبصرهم على الوجه الذى يحقق لهم من وجهة نظره كمال العلم وكمال العمل ، فانتقل التصوف من المرحلة الفردية إلى مرحلة العمل الجماعى المنظم ويذكر ابن تيمية أن أول من بنى دويرة للصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد وعبد الواحد من أصحاب الحسن البصرى ت (177هـ) .
ثم توالت بعد ذلك الطرق الصوفية المتعددة ، كل طائفة تلزم شيخا تتتلمذ على يديه (1) .
وقد صنف الهجويرى من هذه الطوائف المحاسبية والقصارية والطيفورية والجنيدية والنورية والسهلية وغيرهم (2) .
ومن ثم كانت الطرق الصوفية فى القرن الثالث الهجرى قد ذاع أمرها وكثر طالبوها ووصلت إلى درجة عالية من الاستكمال والاستقرار ــــــــــــــــــــــــ(194/18)
1- الصوفية والفقراء ص 21 ، ميزان الاعتدال للذهبى حـ 2 ص 672 .
2- كشف المحجوب للهجويرى ص 209 وما بعدها .
كما أن التنقل المستمر للصوفية فى البلاد الإسلامية المختلفة ورحيل المريدين إليهم ساعد على إيجاد رابطة قوية بين مختلف الطرق الصوفية ولا سيما فى إحداث لغة خاصة بهم يتفاهمون بواسطتها ويعبرون بها عن أحوالهم النفسية وأهدافهم الروحية (1) .
د ــ ومن أهم الأمور التى أثرت فى نشأة الحياة الصوفية بطابعها المتميز إنشاء التراث الصوفى ، فكما أن المؤلفات ظهرت فى مختلف العلوم وكانت سببا هاما فى تأصيلها وتميزها كذلك كانت علوم التصوف فنجد الحارث المحاسبى يملأ الواقع الصوفى وقتها بمؤلفاته المتعددة وعلى رأسها كتابه الرعاية ، وكذلك الحكيم الترمذى وأبا سعيد الخراز وسهلا بن عبد الله التسترى ، ثم ظهر بعد ذلك الكلاباذى بكتابه التعرف لمذهب أهل التصوف ، وقوت القلوب لأبى طالب المكى ، واللمع للسراج الطوسى ثم طبقات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى .
وجاء بعد ذلك القشيرى وصنف الرسالة والهجويرى الذى ألف كشف المحجوب وتتابعت حركة التأليف والتصنيف فكان للتراث ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف فى الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه تأليف للدكتور عبد اللطيف العبد ص 92 الطبعة الأولى سنة 1986م ، دار الثقافة العربية ، وانظر الطرق الصوفية فى مصر نشأتها ونظمها ص 259 طبعة سنة 1978م مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة .
الصوفى مكانة كبيرة بين بقية العلوم .
كل هذه الأسباب جعلت من القرنين الثالث والرابع عصرا بهيا للاستقرار الصوفى فى منهجهم وطريقتهم وأحوالهم ومقاماتهم ، وإذا كان هذان القرنان مسرحا للفوضى السياسية والفكرية التى عمت البلاد الإسلامية ، فإن جهد الباحثين لا ينقطع فى كشف الغموض وتحليل الأحداث وأثرها فى بناء الأمة أو هدمها .(194/19)
وقد كان للصوفية باع كبير فى الرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة فى مسائل الاعتقاد وغيرها ، كما أن لهم شطحات مؤثرة فى أفكار العامة والدهماء ساعدت على انتشار البدعة والغلو فى معنى العبادة ومثلت النواه التى اجتمعت حولها كل أفكار الهدم فى التصوف الدخيل والمؤثرات الأجنبية .
ولعل البحث فى مسألة القدر والحرية يكشف عن طبيعة الصوفية وحقيقتهم فى هذه الحقبة من الزمن بما لهم وما عليهم .
*** المبحث الثالث ***
موضوع التصوف وأهم قضاياه
رغم أن أقوال المشايخ فى موضوع التصوف لا تكاد تحصى إلا أنها متقاربة المعنى وتدور فى فلك واحد ، ويذكر السهروردى البغدادى فى عوارفه أنه رغم الاختلاف فى تعريف التصوف فإن هناك قاسما مشتركا بوجوده يكون التصوف ، فالصوفى عنده هو الذى يطهر القلب من شوائب النفس على الدوام ولا يكون ذلك عنده إلا بدوام افتقاره إلى مولاه ، فبدوام الافتقار كلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها المرء ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه قال تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط } (1) .
وهذه القوامة لله على النفس هى التحقق فى موضوع التصوف (2) .
وأصل التصوف عندهم الاجتهاد فى تحقيق مقام الإحسان على وجهه الأكمل بحيث يتحقق ما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه :
( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- المائدة / 8 . 2- عوارف المعارف حـ 1 ص 132.
3- أخرجه البخارى فى كتاب التفسير ، باب { إن الله عنده علم الساعة } برقم (4777) ومسلم فى كتاب الإيمان رقم (10) النسائى فى كتاب الإيمان وشرائعه برقم (4991) وأحمد فى االمسند حـ 2 ص426 .(194/20)
وبيان ذلك أن الصفاء عندهم موطنه القلب وهو نابع منه ولذا انصب موضوع التصوف فيه ، بحيث يدور على الاجتهاد فى تحقيق الكمال الممكن لصلاح القلب عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب ) (1) .
وإذا علم هذا فإنه من البديهى وعلى وجه الافتراض أن يبدأ الصوفى رحلته بأعمال الظاهر وأحكامها علما وعملا فمن لم يعمل بالظاهر فلا صلة له بالباطن ، ومن ثم فإن صدق التوجه مشروط بما يرضاه الحق سبحانه وتعالى وما لايرضاه ولا يصح مشروط بدون شرطه .
قال رويم بن أحمد : التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه برقم (52) ومسلم فى كتاب المسقاه باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم (1598) وأبو داود فى كتاب البيوع ، باب فى اجتناب الشبهات برقم (3329) والترمذى فى كتاب البيوع ، باب ترك الشبهات (1205) والنسائى فى كتاب الأشربة برقم (5710) وابن ماجه فى كتاب الفتن ، باب الوقوف عند الشبهات (3984) وأحمد حـ 4 ص 267 .
2- اللمع ص 45 .
وقال إمام الطائفة فى عصره الجنيد بن محمد : ( التصوف أن يميتك الحق عنك ويحييك به ) (1) .
وقال عمرو بن عثمان المكى : التصوف يكون العبد فى كل وقت مشغولا بما هو أولى فى ذلك الوقت (2) .
* أهم القضايا الصوفية :
وعن أهم القضايا التى شغلت أوائل الصوفية ودارت بينهم من خلال كتبهم ومروياتهم فيتمثل أغلبها فيما يأتى :
1- العقيدة والمنهج :
لما كان جهد الصوفية قائما على إصلاح الباطن وطهارة القلب فإن أغلب الذين كتبوا فى التصوف من الصوفية ؟ الأوائل أفردوا أبوابا وفصولا لذكر معتقدهم ومنهجهم وموقفهم من الوحى ومصدر الاعتقاد وعلاقة العقل بالنقل .(194/21)
فهذا الحارث المحاسبى يجلى بوضوح معتقده فى الله وأنه فى السماء على العرش ويرد على القائلين بوحدة الوجود (3) ويبين منهجه فى التلقى والمعرفة من خلال فهم ماهية العقل (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص45 . 2- السابق ص45 .
3- انظر كتاب فهم القرآن للحارث المحاسبى ص 367 .
4- انظر ماهية العقل للحارث المحاسبى ص 237 .
وهذا سهل بن عبد الله التسترى يذكر اعتقاده على وجه التفصيل ويرد على أهل الفرق والدعاوى فى الأحوال (1) .
ويقول الشيخ الكبير أبو عبد الله بن خفيف : ( هذا معتقدى ومعتقد الأئمة السادة والعلماء القادة الذين قبلى وفى زمانى من أهل السنة والجماعة ، ثم قال : ويعتقد أن أخبار الآحاد توجب العمل ولا توجب العلم وأخبار التواتر توجب العلم والعمل ، والعقل لا يحسن ولا يقبح والشرع حاكم على العقل والناس على العدالة حتى يظهر الجرح ثم يفصل اعتقاد أهل السنة والجماعة ) (2) .
ويشرح الكلاباذى قولهم فى التوحيد وموقفهم من الأسماء والصفات وقولهم فى الرؤية والقدر وخلق الأفعال ثم يبن منهجهم فى معرفة الله والأمور الغيبية بصفة عامة وأن مصدرها الوحى وأن العقل لا يمكنه بمفرده التعرف على أوصاف الخالق سبحانه وتعالى ، قال الكلاباذى فى الباب الحادى والعشرون : قولهم فى معرفة الله تعالى : أجمعوا على أن الدليل على الله هو الله وحده ، وسبيل العقل عندهم سبيل العاقل فى حاجته إلى الدليل ، لأنه محدث والمحدث ل ايدل إلا على مثله .
وقال رجل للنورى : ما الدليل على الله ؟
قال : الله .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر كتابه الرد على أهل الفرق والدعاوى فى الأحوال .
2- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 340 .
قال : فما العقل ؟
قال : العقل عاجز والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله (1) .
ويذكر المكى فى قوت القلوب كتبا وفصولا فى بيان معتقد أهل السنة والجماعة (2) .(194/22)
ومن الإنصاف أن يذكر المرء أن أقوالهم فى أمور الاعتقاد خاصة التى تتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله وأمور القدر وتوحيد الربوبية حجة فى بيان منهج أهل السنة والجماعة والرد على المخالفين من الطوائف المختلفة .
وقد احتج كثير من السلف بأقوالهم ونقلوا الكثير عنهم فى مؤلفاتهم وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية (3) .
2- أعمال القلوب والجوارح .
تعد أعمال القلوب والجوارح من القضايا التى شغلت حيزا واسعا فى تراث أوائل الصوفية فلقد بلغ الجهد مبلغه فى دراسة أعمال القلوب ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 78 ، ص 79 وقارن بين قول النورى هذا فى تقديم النقل وبين قوله المناقض للشرع ( حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا ) انظر ص 27 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 123 وما بعدها .
3- انظر ما نقله عنهم فى الفتوى الحموية ص 36 وما بعدها وانظر فى تفصيل ذلك كتاب ابن تيمية والتصوف للدكتور مصطفى حلمى وكتاب التصوف فى تراث ابن تيمية للدكتور الطبلاوى محمود سعد .
على وجه الخصوص ممثلة فى الأحوال الإيمانية والمقامات والنوازع والخواطر الداخلية التى تطرأ من قبل النفس والعدو أو الروح والملك ولا يكاد يخلو كتاب من كتبهم من تفصيل ما لهذه الأمور ، فوصل اهتمامهم بعبوديات القلب إلى حد يفصلون فيه خفايا الأمور فى التوبة والورع والزهد والصبر والتوكل والرضا والقرب والمحبة والخوف والرجاء واليقين والمراقبة وغير ذلك من أعمال القلوب ويفصلون درجات كل موطن من هذه الأعمال ويظهرون جوانبه وأبعاده وفى المقابل ينبهون على ما يفسد القلب من الرياء وسوء أفعال النفس والعجب والكبر والغرور والحسد والحقد وغير ذلك ، وكل منهم يدلى بدلوه من واقع إيمانه وتجربته الشخصية بما يكشف هذه الأمور ويجليها حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يسمى مؤلفه المسائل فى أعمال القلوب والجوارح كالحارث المحاسبى أو قوت القلوب كأبى طالب المكى .(194/23)
ويمكن القول أن نسبه اهتمام الصوفية الأوائل بعبوديات القلب إلى سائر موضوعاتهم قد حازت الصدارة إذا ما قورنت بالموضوعات الأخرى .
فهم ما برحوا يوالون القلب بالتنقيب والتحليل والدراسة الرعاية والعناية وقد جاء اهتمامهم بعبوديات الجوارح حفاظا على سلامة القلب من ناحية ، إذ أنهم يعتبرونها ساحة للمنازلة والإقبال على الله والإعراض عمن سواه ، وتحقيقا للعبودية فى ظاهر البدن من ناحية أخرى .
ويمكن القول أن أغلب الصوفية شددوا على أنفسهم بلا هوادة فى هذا الجانب إلى درجة الإفراط والمغالاه ومخالفة الحد النبوى ، حتى إنهم تعاملوا مع المستحبات والمندوبات على أنها واجبات وفرائض فيذكر السراج الطوسى أن العامة لهم أن يقلدوا علماءهم ويسألوا فقهاءهم ويعتمدوا على أقاويلهم من الرخص والسعات والفتوى والتأويلات التى أوسع الله تعالى للخلق ، أما المتصوفة وأهل الخصوص فلا يسعهم التخلف عن استعمال الآداب ، والاهتمام والتكلف لأحكام الصلاة وأحكام فرائضها وسننها وفضائلها ونوافلها وآدابها ، لأنهم ليس لهم شغل غير ذلك ، ولا ينبغى أن يهمهم أمر أكثر من اهتمامهم بأمر الصلاة (1) .
وفى الزكاة والصدقات والعمل والمكاسب والتصرف فى الأسباب والصوم والحج والاجتماعات والضيافات واللباس والأسفار والذكر والسماع وجميع آداب اللسان حالهم أشد وجهدهم أعظم .
3- التربية الروحية .
وأعنى بها عملية تكييف المريد وتشكيله على يد شيخه ليرقى إلى ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 203 .
المراتب الصوفية ، وقد نال هذا الجانب حيزا كبيرا من الجهد الصوفى فى البداية حيث وضعوا القواعد والأسس التى ينهجها المبتدئ وفق نظام يحدده الشيخ المعين ، ولا شك أن هذا العامل ما زال قائما بصورة سيئة من خلال المناهج المختلفة فى الطرق الصوفية وأورادها .(194/24)
وقد كان من الأوائل من يرى أن المريد يبدأ بتصحيح الاعتقاد فيما بينه وبين الله تعالى ويحاول أن يكون اعتقاده صاف عن الظنون والشبه خال من الضلالة والبدع صادر عن البراهين والحجج .
ويقبح بالمريد عندهم أن ينتسب إلى مذهب من المذاهب ليس على هذه الطريقة ولا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين ، لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى ، وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخه أن يلقنه شيئا من الأذكار ، بل يجب أن يقدم التجربة له ، فإذا شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحينئذ يشترط عليه أن يرضى بما يستقبله فى هذه الطريقة من فنون تصريف القضاء ، فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما لا يستقبله من الضرر والذل والفقر والأسقام والآلام ، وأن لا يجنح بقلبه إلى السهولة ، ولا يترخص عند هجوم الفاقات وحصول الضرورات ، ولا يؤثر الدعة ، ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شر من فترته (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ2 ص 731 .
ومنهم من يضع أسسا معدودة يحتمها على المريد فيذكر أن المريد لا بد له من سبع خصال :
1- الصدق فى الإرادة وعلامته إعداد العدة .
2- ولا بد له من التسبب إلى الطاعة وعلامة ذلك هجر قرناء السوء
3- ولا بد له من المعرفة بحال نفسه وعلامة ذلك استكشاف آفات النفس .
4- ولا بد له من مجالسة عالم بالله وعلامة ذلك إيثاره على ما سواه .
5- ولا بد له من توبة نصوح فبذلك يجد حلاوة الطاعة ويثبت على المداومة ، وعلامة التوبة قطع أسباب الهوى والزهد فيما كانت النفس راغبة فيه .
6- ولا بد له من طعمة حلال لا يذمها العلم وعلامة ذلك الحلال حلول العلم فيه يكون بسبب مباح وافق فيه حكم الشرع .
7- ولا بد له من قرين صالح يؤازره على ذلك وعلامة القرين الصالح معاونته على البر والتقوى وتهيئه إياه عن الإثم والعدوان .(194/25)
فهذه الخصال السبع عنده قوت الإرادة لا قوام لها إلا بها ويستعين على هذه السبع بأربع هن أساس بنيانه وبها قوة أركانه :
أولها الجوع ثم السهر ثم الصمت ثم الخلوة .
فهذه الأربع سجن النفس وضيقها وضرب النفس وتقييدها بهن
يضعف صفاتها وعليهن تحسن معاملاتها (1) ولا يكاد يخلو كتاب من كتبهم من ذكر ما لطريقة الشيخ فى تأديب المريد وتربيته الروحية .
5- التنبيه على الشطحات التى وقع فيها أدعياء التصوف .
حفاظا على طريقة الصوفية فإن كثيرا من المشايخ ما برحوا يردون أغاليط المنتسبين إليهم أو من ضل منهم عن طريقة أهل السنة والجماعة ويتجلى هذا فى كتاب اللمع لأبى نصر السراج الطوسى وما نقله السلمى عنه فى أصول الملامتية وغلطات الصوفية ، فقد نقل أقول المشايخ على وجه التفصيل فى ذكر من غلط من المترسمين بالتصوف ومن أين يقع الغلط ؟ ثم صنف طبقاتهم وتفاوتهم فى الغلط ورده عليهم بأدلة النقل والعقل وأقوال المشايخ ، ولا تخلوا ردودهم أيضا من وجود أغاليط ملحوظة (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب ص 94 .
2- انظر اللمع ص 516 وما بعدها ، وانظر أصول الملامتية وغلطات الصوفية تحقيق الدكتور عبد الفتاح الفاوى ص140 وما بعدها .
الفصل الثانى
دراسة فى مفهوم الحرية
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول :
الحرية لغة وشرعا .
المبحث الثانى :
الحرية فى تاريخ الفكرالإسلامى .
المبحث الثالث :
الحرية ومنهج الحياة الإسلامية .
*** المبحث الأول ***
الحرية لغة وشرعا
تنبئ هذه الكلمة بتصاريفها فى اللسان العربى عن معانى كثيرة ترجع إلى معنى الخلوص والتحرر من القيود وعدم الإكراه أو الضغط على إرادة الإنسان .
يقول الراغب الأصفهانى : ( حررت القوم إذا أطلقتهم وأعتقتهم عن أسر الحبس ، والتحرر جعل الإنسان حرا والحر خلاف العبد ) (1) .
قال تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } (2) .(194/26)
والرقبة اسم للعضو المعروف جعل فى التعارف علما على المملوك إذ أنه مقيد بإدارة سيده وعتق الرقبة إخراجها للحرية ورفع القيود عنها (3) .
وقد جاء الإسلام فى وقت انتشر فيه الرق فرغب فى الحرية والعتق صونا لآدمية الإنسان وتحريرا لإرادته التى منحه الله إياها .
قال الإمام البغوى فى قوله تعالى :{ فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- المفردات للراغب الأصفهانى تحقيق محمد السيد كيلانى طبعة الحلبى ص11.
2- النساء / 29.
3- السابق ص 201 .
4- البلد 12:11 .
قوله : { فلا اقتحم العقبة } يعنى لم يقتحم العقبة فى الدنيا أى لم يتحمل الأمر العظيم فى طاعة الله ، ثم فسر اقتحام العقبة بفك الرقاب ومنحها الحرية (1) .
وفى الحث على حرية الإرادة والترغيب فى العتق يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما ، فإن الله عز وجل جاعل وقاء كل عظم من عظامه عظما من عظام محرره من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل قاء كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار يوم القيامة ) (2) .
فالمعنى السائد للحرية بين العرب ما يقابل الرق والعبودية .
وهناك بعض المعانى التى تقابل معنى الحرية وتحقيق الرغبة استخدمت فى الشرع منها :
1- الإكراه : ويعنى سلب الإرادة وتحقيق الرغبة ولذلك اشترط الفقهاء
ــــــــــــــــــــــــ
1- شرح السنه للبغوى تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط ، طبعة المكتب الإسلامى حـ 9 ص 251 .
2- أخرجه أبو داود فى سننه فى كتاب العتق باب أى الرقاب أفضل رقم الحديث (3965) والنسائى فى كتاب الجهاد ، باب ثواب من رمى فى سبيل الله برقم (3144) وابن ماجه فى كتاب الجهاد ، باب الرمى فى سبيل الله برقم (2812) .(194/27)
أن يكون العاقد فى البيع حرا مختارا فى بيع متاعه ، فإذا أكره على بيع ماله بغير حق فإن البيع لا ينعقد لقوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) (2) .
فحرية التصرف والاختيار من الأمور الأساسية فى البيع والشراء والرضى فى الإنسان يعنى علامة الكمال فى تحقيق حريته ومن ثم فلا بد من القبول والإيجاب فى العقود وفى الحديث : ( البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النساء / 92 . 2- انظر معرفة السنن والآثار عن الإمام الشافعى تصنيف البيهقى ، طبعة دار الكتب العلمية حـ 7ص 326 ، والمغنى بالشرح الكبير لموفق الدين بن قدامه طبعة دار الكتاب العربى حـ 4 ص 3 ، والحديث أخرجه ابن ماجه فى سننه كتاب الطلاق حديث رقم (16) والبيهقى فى سننه حـ 10 ص 60 والحاكم فى المستدرك حـ 2 ص 98 وابن عدى فى الكامل حـ 2 ص 758 والخطيب البغدادى فى التاريخ حـ 7 ص 377 .
3- أخرجه البخارى فى كتاب البيوع ، باب كم يجوز الخيار حـ 3 ص 83 ومسلم فى كتاب البيوع ، باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين حديث رقم (1531) وأبو داود فى سننه كتاب البيوع والإجارات ، باب فى خيار المتبايعين حديث رقم (3454) والنسائى فى البيوع باب وجوب الخيار للمتابعين حديث رقم (4470) والترمذى فى البيوع حديث (1254) وأخرجه ابن ماجه فى كتاب التجارات باب البيعان بالخيار مالم يفترقا حديث رقم (2181) .
2- الحجر : وهو المنع والتضييق على المديون أو السفيه والحد من حرية التصرف فيما يملك ، قال الإمام الشافعى رحمه الله : الحجر ثابت على اليتامى حتى يجمعوا بين خصلتين :(194/28)
البلوغ والرشد لقوله تعالى :{ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } (1) ويختبر اليتيم فإذا أحسن التصرف فى ماله وأصلحه رفع عنه الحجر (2) .
3- وفى معنى الإكراه والحجر الغصب : وهو الاستيلاء على حقوق الغير قهرا وهو نوع من السلب لحرية الإنسان وآدميته ولذلك فإن الشرع حرمه ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنو لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } (3) .
وفى الحديث : ( إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النساء / 6 . 2- الأم للإمام للشافعى حـ 3 ص 215 ومعرفة السنن والآثار حـ 4 ص 457 . 3- النساء / 29 .
4- أخرجه مسلم فى كتاب الحج ، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم حديث رقم (1218) وأبو داود فى كتاب المناسك ، باب صفة حجة النبى صلى الله عليه وسلم برقم (1905) والنسائى فى كتاب الحج ، باب الجمع بين الظهر والعصر بعرفه برقم (2713) وابن ماجه فى كتاب المناسك ، باب حجة النبى صلى الله عليه وسلم برقم (3074) .
ويقسم ابن منظور الحرية إلى ضربين :
الضرب الأول : من لم يجر عليه حكم الشئ كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } (1) .
الضرب الثانى : من لم تتملكه الصفات الذميمة من الحرص والشره على المقتنيات الدنيوية ، وإلى العبودية التى تضاد ذلك أشار النبى صلى الله عليه وسلم بقوله : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة ) (2) .
وعلى الضرب الثانى بنى الصوفية اصطلاحهم فى إطلاق اسم الحرية على من خلع عن نفسه أمارات الشهوة ومزق سلطانها بسيوف المخالفة كل ممزق (3) .
ومن ثم فالحرية تقابل العبودية عند الصوفية بناء على المعنى اللغوى
ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 178 .(194/29)
2- جزء من حديث أبى هريرة رضى الله عنه ، أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد باب الحراسة فى الغزو فى سبيل الله برقم (1887) وأخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب فضل الضعفاء والخاملين برقم (2622) وانظر لسان العرب لابن منظور طبعة دار المعارف القاهرة حـ 2 ص 829 .
3- اللمع للسراج الطوسى ص 450 وانظر الحرية فى الإسلام تأليف محمد الخضر حسين طبعة دار الاعتصام القاهرة سنة 1982 ص 15 .
القيود وأوصافها ، إذ الحرية تعنى التخلص من القيود التى تحد من حركة الإنسان فى أقواله وأفعاله فى تناسب مطرد بحيث تظهر نسبة الحرية فى الإنسان إذا حددت نسبة القيود فيه ، ويقسم الراغب الأصفهانى هذه القيود على أربعة أضرب فى معنى العبودية :
[1- عبد بحكم الشرع وهو الإنسان الرقيق الذى يصح بيعه وابتياعه نحو قوله تعالى : { العبد بالعبد } (1) وقوله تعالى : { وعبدا مملوكا لا يقدر على شئ } (2) .
[2- عبد بالإيجاد وطبيعة الخلقة وذلك ليس إلا لله وأياه قصد بقوله تعالى : { إن كل من فى السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا } (3) .
[3- عبد بالعبادة والخدمة فى تطبيق شرع الله والالتزام بهديه وهو المقصود بقوله تعالى { إن عبادى ليس لك عليهم سلطان } (4) وبقوله : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } (5) فكل هذه المعانى تدل على التزامهم بمنهج الله وشرعه .
[4- عبد للدنيا وأعراضها وهو المعتكف على خدمتها ومراعاتها ، وإياه ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 178 .
2- النحل / 75 . 3- مريم / 93 .
4- الحجر / 42 . 5- الفرقان / 63 .
قصد النبى بقوله فى الحديث السابق : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ) (1) .
والحرية فى ارتباطها بمعنى العبادة على ضربين :(194/30)
ا ــ حرية اختيار لفعل دون آخر وهى مجال الإرادة البشرية والناس بهذا الاعتبار كلهم عبيد لله إذ أنهم خلقوا خاضعين لهذه الفطرة ، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة : ( ياعبادى إنى حرمت الظلم على نفسى ) (2) .
ب ــ حرية تحرر من الأفعال المذمومة بوصف الشرع إلى الأفعال المحمودة وعلى هذا الاعتبار يصح أن يقال : ليس كل إنسان عبدا لله أو مسلما (3) .
وفى المعنى الأول اتسع المجال للبحث بين الفلاسفة والمتكلمين فى إثبات الحرية الإنسانية أونفيها عبر التاريخ البشرى ، وفى المعنى الثانى كانت وقفة أوئل الصوفية فى إخراج مصطلح جديد لمعنى الحرية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- المفردات للراغب الأصفهانى ص 319 بتصرف والحديث تقدم تخريجه ص 22 .
2- جزء من حديث أبى ذر الغفارى رضى الله عنه ، أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة برقم (2577) وأخرجه الترمذى فى كتاب صفة القيامة برقم (2495) وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه برقم (2072) و ابن حبان فى صحيحه ، انظر الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان حديث رقم (619) .
3- المفردات بتصرف ص 318 .
*** المبحث الثانى ***
الحرية فى تاريخ الفكر الإسلامى
تعتبر مسألة القدر وعلاقته بالحرية الإنسانية من الموضوعات الهامة التى شاع الجدل حولها قديما وحديثا لدى الفرق والطوائف الإسلامية المختلفة فبعد ظهور هذه الفرق أضحت هذه المسألة حجر الزاوية فى فكر كل فرقة وعقيدتها إذ أنها تعكس أثرا واضحا على منهج التفكير فى الحياة .
وقد ظهرت وجهات نظر متتعددة ومختلفة وأدلى كل منهم بدلوه إيزاء هذه المسألة وقد كان السؤال الذى يطرح نفسه بإلحاح ويمثل جوهر الموضوع لدى كل فرد هو : إذا كان قدر الله شاملا لكل شئ وقضاؤه نافذا لا محالة فلم يحاسب الإنسان على أفعاله وهى مقدرة ومسجلة قبل أن يفعلها ؟(194/31)
* أولا : مذهب الجبرية : ويذكر القرآن منطق المشركين المغالطين فى محاولتهم التنصل من المسؤلية المتعلقة بالاختيار الحر وتجاهلهم للإرادة الإنسانية وفعلها مستندين إلى الرجوع بكل شئ وكل حادث وكل فعل إلى مشيئة الله كعلة أولى ووحيدة ومباشرة لشركهم وكفرهم .
قال تعالى فى شأنهم : { سيقول الذين أشركوا لوشاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم
حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم الله فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن إن أنتم إلا تخرصون } (1) .
{ وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } (2) .
والملاحظ فى رد الله سبحانه وتعالى على قول المشركين الذين يحتجون بالجبر أنه يصفهم بالجهل والكذب ، لأن إفراد الله بالخلق والفاعلية لا يتعارض ولا يتنافى مع إثبات الإرادة الإنسانية وفاعليتها باعتبارها إرادة مختارة ، حيث أن هذه الإرادة ومدى فاعليتها وحدود عملها ومجال اختيارها كل ذلك بمشيئة الله وإذنه وقدره ، وحيث أن الله هو الذى أضلهم ولكن بناء على اختيارهم للضلال وإيثارهم له على ضده ولذلك قال فى الرد عليهم وعلى المنكرين للحرية والاختيار :
{ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } (3) ومعنى أن لله الحجة البالغة أن الناس لن يستطيعوا يوم القيامة الاحتجاج بالجبر (4)
والقول بالجبر عند المشركين قديم كما ورد فى القرآن الكريم إلا أنه ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنعام / 148 . 2- الزخرف /20 .
3- الأنعام / 149 .
4- زاد المسير فى علم التفسير لأبى الفرج جمال الدين ابن الجوزى ، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله ، طبعة دار الفكر سنة 1987م حـ 3 ص 99 .
نشأ على المستوى الفكرى أو فى مجال علم الكلام مرتبطا بنشأة التأويل العقلى فى المتشابه من آيات القرآن وأحاديث السنة ، فالمؤسس الأول للجبرية على المستوى الفلسفى هو الجهم بن صفوان (1) .(194/32)
ويذكر الدكتور على سامى النشار أن طائفة المجبرة نشأت فى الأصل على يد الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان أثناء حكم بنى أمية (2) حيث اتخذوا من القول بالجبر منطلقا عقيديا يبررون به أعمالهم السياسية (3) .
ويقسم الشهرستانى الجبرية إلى نوعين : الجبرية الخالصة وهى التى لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا ، الجبرية المتوسطة وهى التى تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة فى الفعل (4) .
والجهمية من الصنف الأول فالإنسان عندهم معدوم الفعل والحرية ــــــــــــــــــــــــ
1- مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده حـ 3 ص 33 .
2- انظر فى ذلك نشأة الفكر الإسلامى للدكتور على سامى النشار ، طبعة القاهرة سنة 1969 حـ 1 ص 329 .
3- المحيط بالتكاليف للقاضى عبد الجبار تحقيق عمر عزمى ، ص 422 والمنية والأمل لأحمد بن المرتضى ، تحقيق نوما آرنولد طبعة حيدر آباد سنة 1902م ص 30 .
4- الملل والنحل للشهرستانى تحقيق محمد السيد الكيلانى طبعة القاهرة سنة 1961م حـ 1 ص 87 .
ويخلق الله فيه الأفعال كما يخلقها فى سائر الجمادات ونسبة الأفعال إليه على المجاز كما يقال : زالت الشمس ودارت الرحى وأثمرت الشجرة (1) .
* ثانيا : مذهب القدرية :
وفى مقابل مذهب الجبرية يذكر القرآن الكريم طائفة ظنت أن القوانين الطبيعية التى أوجدها الله فى الكون ورتب نظام الحياة الدنيا عليها تعلو على القدرة الإلهية ، فنسبت إليها الفاعلية أصالة دون الله سبحانه وتعالى إذ يقول فى شأنهم :
{ وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون } (2) .(194/33)
فهؤلاء نسبوا الفاعلية للأشياء والأحياء على وجه الحقيقة وليس لله عز وجل ، فنتيجة الألفة والتكرار للقوانين والسنن الطبيعية وتتابع الأسباب والعلل وظهور نتائجها على الدوام بحركات رتيبة منتظمة أوحت إلى هؤلاء أن فى الطبيعة التى يحيا فيها الإنسان قوة فاعلة من دون الله ومن ثم ظهر اتجاه ينادى أنه لا قدر والأمر أنف .
ويكاد يجمع مؤرخو الفرق أن معبدا الجهنى ( توفى بعد 80 هـ ) ــــــــــــــــــــــــ
1- الفرق بين الفرق للبغدادى ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان ص 211 .
2- الجاثية / 24 .
هو أول من قال من المسلمين بنفى القدر والفاعلية الإلهية وكان ذلك فى آخر أيام الصحابة (1) .
وكان لهؤلاء أثر كبير فى ظهور مذهب المعتزلة القدرية بالصورة المستقلة وفى ثوبهم المتميز بالأصول الخمسة ولذلك صنفوهم على رأس طبقاتهم من أهل الاعتزال (2) .
وقد كانت مسألة خلق أفعال العباد من المسائل العظام فى التاريخ الفكرى للأمة الإسلامية ، فالمعتزلة اتفقوا على أن الاستطاعة صفة جوهرية للإنسان وأنها مصدر أول لأفعاله تحدث بها الأفعال دون تدخل للقدرة الإلهية خلقا أو تسيرا ، ورفض أكثرهم القول بأن الله قوى أحدا على الكفر وأقدره باعتباره خالقا لكل شئ مستدلين بقوله تعالى :
{ وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر ميزان الاعتدال فى نقد الرجال للذهبى حـ 2 ص 141 وشفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ، طبعة دار الفكر القاهرة سنة 1978م ص 139 .
2- نشأة الفكر الإسلامى د. على سامى النشار حـ 1 ص 313 .
3- النساء / 97 وانظرالمنية والأمل لابن المرتضى ص 15 ومقالات الإسلاميين حـ 1 ص 81 والفرق بين الفرق ص 153 ، والملل والنحل حـ1 ص 66 .
ويجمع المعتزلة إلا قليلا منهم على أن الاستطاعة البشرية محدثة للفعل وليست مكتسبة له (1) .
ثالثا : المذهب السلفى :(194/34)
وقد دارت الدائرة بين الجبرية والقدرية كعقيدتين متقابلتين ومنحرفتين فى مسألة القدر والحرية من ناحية ، وبين السلف الصالح من ناحية أخرى ، حيث يؤكد السلف أن القرآن الكريم يثبت فى وضوح وجلاء بالنصوص العديدة وجود وجهين لأفعال البشر :
الأول : هو كون الفعل مخلوقا لله ومقدرا بمشيئته وواقعا ككل شئ فى الكون بفاعليته تعالى كقوله : { ألا له الخلق والأمر } (2) .
{ الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل } (3) .
الوجه الثانى : وهو كون هذا الفعل فى نفس الوقت مختارا للعبد ومكتسبا باسطاعته ومفعولا بفاعليته منسوبا إليه بهذا الاعتبار .
فقال تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم } (4) وقال : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } (5) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مقالات الإسلاميين حـ 1 ص 81 .
2- الأعراف / 54 .
3- الزمر / 62 .
4- التكوير /28 .
5- آل عمران / 97 .
وقال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } (1) .
ففرقوا بين أمر الله الكونى المتعلق بالربوبية وأمره التشريعى المتعلق بالعبودية ، ومن ثم فالفعل البشرى إذا وقع باختيار الإنسان ونيته مخالفا للشرع أو لأمر الله التشريعى كان معصية وشرا .
ووجه الشر هنا ليس منسوبا لله إلا أن الله هو خالق الفعل سواء كان خيرا أو شرا ، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق لكل شئ حتى معاصى العباد وهو الذى أقدرهم على فعلها لأنه تعالى شاء أن يبتليهم فقال : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } (2)
وقال سبحانه وتعالى : { تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شئ قدير الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور } (3) .(194/35)
ومن ثم تصبح الاستطاعة البشرية والأشياء الطبيعية وأفعالهما المخلوقة لله كلها أفعال وتأثيرات احتمالية يتساوى بها جميعا وقوع الشر والخير ، أما حركة الأفلاك والنجوم والشمس والقمر وسائر ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 286 .
2- الإنسان / 2 .
3- الملك / 1 ، 2 .
الأجرام السماوية فلها حركة اضطرارية جبرية كما أرادها الله لها بالأمر الكونى ، فليس أمامها إلا فعل واحد وحركة واحدة مطردة ينبئ ماضيها عن مستقبلها بدقة فائقة شأن الملائكة المكرمين الذين قال الله فيهم : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (1) .
فأفعالهم ذات اتجاه واحد ولا يوجد حيالها سوى احتمال واحد بخلاف الانسان فهو فى كل موقف يبتلى فيه يجد أمامه احتمالين عليه أن يختار ويفعل واحدا منهما ولا يمكن الجمع بينهما ، على ذلك فالطريق الذى سلكه السلف الصالح والذى يعتمد فى جوهره على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعد أمرا وسطا للجمع بين آراء الجبرية والقدرية (2) .
ولئن كان القدرية قد قالوا ليس فى الإمكان أبدع مما كان تنزيها لله فى فعله من أن يفعل ما هو قبيح أو ناقص أو معيب أو شر ، بل ورغبة منهم فى القول بأن الله سبحانه وتعالى بوصفه الموجود الكامل المطلق الواحد الأحد فى كماله لا يخلق أو يفعل إلا مخلوقا تاما أو فعلا حسنا ــــــــــــــــــــــــ
1- التحريم / 6 .
2- انظر فى ذلك شفاء العليل ص 280 وما بعدها ، مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن القيم مكتبة المتنبى القاهرة حـ 1 ص 226 ، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى تحقيق محمد ناصر الدين الألبانى ص 219 ، قوت القلوب لأبى طالب المكى حـ 2 ص 17 .
وخيرا اعتقادا منهم فى قوله تعالى : { الذى أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } (1) .(194/36)
وقوله : { فتبارك الله أحسن الخالقين } (2) .
إلا أنهم تغافلوا عن لازم قولهم وهو نفى المشيئة المطلقة عن الله لأنه مادام لا يخلق ولا يفعل إلا الأصلح ، فهو لا يختار بين ممكنات باعتبار أن الأصلح دائما واحد ، كما أنه يضيق مجال الفاعلية الإلهية من حيث يجعل خلق العالم بهذه الكيفية التى هو عليها واجبا على الله وحتما عليه فى فعله كما أنه يحد من القدرة حيث يجعل خلق غير العالم محال عليه كما يجعل فعل ما لا يحدث محال على قدرته كذلك ، كل ذلك نتيجة لمذهب المعتزلة فى الصلاح والأصلح .
وفى مقابل مذهب المعتزلة القدرية رفع أصحاب الجبر شعارهم فقالوا : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن إطلاقا للمشيئة الإلهية وتحقيقا للقدرة ووصفا للفاعلية الإلهية بما يليق بها ، وهذا وإن كان ــــــــــــــــــــــــ
1- السجدة / 7 : 9 .
2- المؤمنون / 14 .
حقا إلا أن الاكتفاء به يلزم أصحابه بنسبة ما يقع فى العالم من شرور وقبائح لله ، وقد وجدنا أن ذلك واقع من الناس وبفعلهم وإن كان بمشيئة الله وقدره (1) .
والحقيقة التى أثبتها السلف الصالح حيال هذا الأمر أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهو ما يحدث بالأمر الكونى وواقع الربوبية وأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان لتحقيق الوضع الأمثل لابتلاء الإنسان فى الحياة الدنيا وتكليفه بالأمر الشرعى من قبل الله لتحقيق العبودية كما قال سبحانه :
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (2) .
فالشعاران اللذان رفعهما الفريقان صحيحان بنص القرآن وليسا متعارضين بل إن اللبس والغموض والاضطراب فى هذه الحقيقة عند كل طائفة يكمن فى أن كلا منهما يتمسك بشعاره ويرفض الآخر .
وفى حديث النبى صلى الله عليه وسلم عندما سأله سراقة بن
ــــــــــــــــــــــــ(194/37)
1- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص 228 وما بعدها مختصرا وانظر اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع لأبى الحسن الأشعرى ص 115، وانظر الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ، دار الجبل بيروت لبنان حـ 3 ص201 وما بعدها ، تاريخ المذاهب الإسلامية للإمام محمد أبو زهرة طبعة دار الفكر العربى ص121 .
2- الذاريات / 56 .
مالك بن جشعم فقال : يارسول الله أنعمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فيما يسثقبل ؟
فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ؟
قال : ففيم العمل ؟
قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم :
{ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } (1) .
فالمتأمل فيه يجد الطريقين المتقابلين فى مسألة القدر والحرية ويجد المخرج من هذا التناقض ، فالله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفى ذات الوقت جعل الإنسان حرا مختارا بالقدر الذى يدينه ويحمله المسئولية عن أفعاله الخلقية كل ذلك فى نسق فكرى واحد نزل به الوحى ، تظهر فيه الغاية من خلق الحياة الدنيا والآخرة قال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس
ــــــــــــــــــــــــ
1- الليل / 5 : 10 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب القدر ، باب جف القلم على علم الله برقم (6596) ومسلم فى كتاب القدر ، باب كيفية الخلق برقم (2647) وأخرجه أحمد حـ 1ص82 ، حـ4ص431 وابن حبان فى التقريب حـ 2 ص 45 برقم (334) والترمذى فى القدر ، باب ما جاء فى الشقاء والسعادة برقم (2136 ) .
أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } (1) .(194/38)
وقد نتج عن التفاوت فى علاج هذه القضية كم كبير من التراث الفكرى الإسلامى والأقرب فيهم إلى الحق هو الأقرب فى التمسك بمجموع الأدلة فى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولقد كان لكثير من أوائل الصوفية فى هذه المسألة وقفة سلفية تآزرت مع الفقهاء والمحدثين فى وقوفهم أمام المخالفين لكتاب الله سوف تتضح بإذن الله من خلال هذا البحث ، وقد يكون الشائع عن أوائل الصوفية أنهم يرغبون فى إخراج أنفسهم من عواق الحياة بهجرها والزهد فيها وايثارهم للخلوة والبرارى والصحارى عن التفاعل معها والخوض فيها كما هو الحال فى صوفية اليوم ، إلا أن أوائل الصوفية على الرغم من شطحاتهم ومخالفاتهم لهم جانب لا ينكر فى خدمة العقيدة السلفية ، فلهم إبداعات قيمة فى عرض مسألة القدر وعلاقته بالحرية الإنسانية تسفر عن فهم دقيق لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــــــــــ
1- هود / 118 ، 119 .
*** المبحث الثالث ***
الحرية ومنهج الحياة الإسلامية
إذا كانت الحرية تعنى استقلال الإرادة الإنسانية وحريتها فى اختيار أفعالها ، فإن الوجه المقابل لاستكمالها أن يعين للإنسان حد لا يتجاوزه وأن توضع نظم تمنع التعدى على حريات الآخرين فالحرية وسيلة وليست غاية إذ الغاية تكمن فى تحقيق الكمال الإنسانى المتمثل فى عبوديته لله سبحانه وتعالى كما قال جل ذكره : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (1) .
ولقد حوى دين الإسلام من نظم الحياة لجميع أفرادها كل ما يحتاجه الإنسان من تشريع فى علاقته مع ربه ومع ملائكته وأنبيائه ومع أفراد نوعه من بنى البشر ، فبين لنا القرآن الكريم وفصلت لنا السنة النبوية كل ما يلزم الإنسان فى حياته اليومية من نظم تحقق الكمال الإنسانى فى اختياره وحريته ، وذلك فى مقابل النظم والتشريعات المكتسبة من التجربة واستحسان العقول فى الفلسفات الأخرى .
* الحرية فى المجال السياسى :(194/39)
ففى تنظيم العلاقة بين الراعى والرعية نجد أفكارا شتى عند السياسيين كل يدلى بدلوه ليحقق كمال الحرية من وجهة نظره وأقربهم ــــــــــــــــــــــــ
1- الذاريات / 56 .
إلى الحق أقربهم إلى النظم الإسلامية التى وضعها الله سبحانه وتعالى .
فالمبادئ الأساسية التى كفلها الإسلام فى ذلك :
1- الحرية السياسية لكل أفراد المجتمع أو حق الأمة فى اختيار الحاكم .
2- حق الأمة فى مراقبته ومحاسبته على أعماله .
3- مبدأ الشورى .
أما طريقة الاختيار للحاكم ، فإن الذى اتبعه الصحابة هو أن يبابيع أهل الحل والعقد الإمام أو الخليفة الذى تم الاتفاق عليه ، وأهل الحل والعقد هم أئمة المسلمين وفقهاؤهم ورؤساء عشائرهم وأمراء أجنادهم وذو الشوكة والمكانة والرأى فيهم (1) .
والبيعة ( هى العهد على الطاعة فقد كان المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر فى أموره وأمور المسلمين ) (2) .
وقد تولى الخلفاء الراشدون ـ وعهدهم هو العهد الذى يمثل مبادئ القرآن أصدق تمثيل ـ بطريق البيعة من أهل الحل والعقد .
وقد قرر ابن خلدون حق الإمام فى تعيين خلفه على المسلمين مستندا ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر غياث الأمم فى التياث الظلم لإمام الحرمين أبى المعالى الجوينى تحقيق ودراسة الدكتور مصطفى حلمى والدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد ص 46 طبعة دار الدعوة الإسكندرية مصر سنة 1979 .
2- المقدمة لابن خلدون تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافى حـ 2 ص719 طبعة لجنة البيان العربى .
بتولية عمر بن الخطاب ، ولكن كلامه فيه نظر ، إذ أنه أغفل التفرقة بين الترشيح والتعيين حيث رشح أبو بكر عمر ولم يعينه ، وحيث تم تنصيبه ببيعة أهل الحل والعقد بعد وفاة أبو بكر رضى الله عنه (1) .(194/40)
أما حق الأمة فى محاسبة الحاكم ، فقد نص على ذلك أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء فى خطبتهم الأولى بعد مبايعة الناس لهم بالخلافة كما أن ما حدث من عامة المسلمين لعثمان بن عفان خير دليل على ذلك ، وإن كانوا قد جاروا عليه باستخدامهم هذا الحق فى غير موضعه ودون مبرر معقول ومقبول .
والحق الثالث للناس على الراعى حق الشورى لقوله تعالى : { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم } (2) فبين أن تلك صفة لازمة للمجتمع المؤمن كالصلاة وسائر الطاعات ومن ثم أمر نبيه أن يعامل المسلمين فى أمورهم بهذا المبدأ : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر } (3) .
هذه الحقوق الثلاثة للرعية على الراعى مقابل حقه عليهم فى السمع والطاعة ما دام لا يأمر بمعصية تحقق المساواة التامة بين الناس من جهة وبينهم وبين الفئة الحاكمة من جهة أخرى ، وأساس هذه المساواة هى ــــــــــــــــــــــــ
1- الحرية فى الإسلام للدكتور على عبد الواحد وافى ص98 .
2- الشورى / 38 .
3- آل عمران : 159 .
حياتهم جميعا وفق شريعة الله تحقيقا للعبوديه ، و ذلك لأن المساواة الحقة بين أفراد مجتمع ما فى القيمة الإنسانية لا تكون إلا تحت لواء شرع ونظام ومنهج حكيم منزل عليهم من ربهم (1) .
* الحرية الدينية :
وقد راعى النظام الإلهى فى فطرة الناس الحرية التامة لكل فرد من الرعية فى اختيار دينه ذلك لأن الحرية هى الوسيلة لتحقيق كيان الفرد فى نفسه وفى مجتمعه ، ومن ثم فلا إنسانية بدون حرية ولذلك فإن التشريع القرآنى يكفل للفرد ضمانات صلبة وراسخة لحريته حيال المجتمع ، فجعل لكل فرد حق الاختيار فى كل أمور حياته وآخرته هزيلها وخطيرها مادام هذا الاختيار لا يتضمن اعتداء ظالما على غيره ومن ثم فحرية اختيار الإيمان بالله أو الشرك به حق لكل إنسان يتحمل نتائجه : { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها } (1) .(194/41)
ــــــــــــــــــــــــ
1- السياسة الشرعية ونظام الدولة الإسلامية فى الشؤن الدستورية والخارجية والمالية للشيخ عبد الوهاب خلاف ص25 وما بعدها بتصرف ، طبعة دار الأنصار القاهرة سنة 1977 م .
2- الكهف : 29 .
وذلك لأنه مخلوق حر والحرية مكون أساسى فى طبيعته التى خلقه الله بها فما دام ذلك حقه الذى أعطاه الله له ، فليس من حق أحد أو أى سلطة أن تسلبه منه حتى لو كان ذلك لصالح الإيمان والإسلام .
فلو أكره حاكم أحدا من رعيته على الإسلام لكان ذلك اعتداء منه على حق المكره الذى كفله الله له ، ورفض منه لارادة الله ومشيئته فى خلقه وذلك واضح صريح فى قوله تعالى لرسوله مبينا أنه ليس من حقه أن يكره أحدا على الإيمان : { ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } (1) .
فما دام الله قد شاء أن يكون الناس أحرارا مختارين بين الإيمان والكفر فمن يكره إنسانا على الإيمان وهو مصر على الكفر أو الشرك ، فقد خالف مشيئة الله واعتدى على حق هذا الإنسان الذى وهبه الله له .
أما ماورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله فمن قالها فقد عصم منى دماءه وماله ) (2) فذلك لا يعنى إكراه الناس على الإيمان ــــــــــــــــــــــــ
1- يونس 99 . 2- حديث متواتر رواه البخارى فى كتاب الزكاه ، باب وجوب الزكاة برقم (1399) ومسلم فى كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله برقم (21 ) وأبوداود فى كتاب الزكاة برقم (1556) والترمذى فى كتاب الإيمان برقم (2609) والنسائى فى كتاب المحاربة برقم (3983) وابن ماجه فى كتاب السنة والفتن برقم (3927) .(194/42)
بالقتال ، ولكن المقصود بالناس هنا من وقف فى طريق الدعوة يتصدى لها من أصحاب السلطان الجائرين فى الأرض المكرهين للناس على الضلال والشرك ، الحاكمين بينهم بشريعتهم وأهوائهم ، ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد النصر أعطى عهدا لأهل إيليا بالأمان والحرية التامة فى أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسائر ملتهم ولا يضار أحد منهم (1) .
وكذلك عهد عمرو بن العاص لأهل مصر وجميع من عهد نص على حرية العقيدة وإقامة الشعائر (2) .
ومن ثم فمهمة الجيوش الإسلامية المجاهدة تتمثل فى إزالة هذا الحاجز المانع حتى يستطيع المسلمون تبليغ رسالة الله التى كلفهم بتبليغها وحتى تبلغ كلمة الله آذان الأمم والشعوب وبعد ذلك يكون من حق كل منهم أن يؤمن أو لايؤمن ، وذلك التشريع السياسى العام فى حرية العقيدة ينسحب على تشريع الحرية العقيدية بين الزوجين ، فلا يسمح الإسلام للمسلم المتزوج باليهودية أو النصرانية أن يجبرها على ترك دينها أو أن يمنعها من آداء شعائرها التعبدية فى كنيستها ، بل تذهب بعض مذاهب الفقه الإسلامية إلى وجوب مصاحبة الزوج المسلم للزوجية ــــــــــــــــــــــــ
1-البداية والنهاية حـ 7 ص 65 طبعة دار الفكر العربى سنة 1387هـ .
2- السياسة الشرعية ونظام الدولة الإسلامية ص36 .
الكتابية إلى كنيستها أو بيعتها للصلاة إذا أرادت (1) .
ولقد أثار مخالفو الإسلام من مستشرقين وغيرهم شبهات حول انتشار الإسلام نتيجة الفتوحات الإسلامية زاعمين أن من أسلم من مواطنى البلاد المفتوحة إنما أسلم تحت السيف ، ولكن ذلك افتراء مناف للصحة والصواب فلم تكن حقيقة الحروب الإسلامية سوى تحرير للناس من أوضاع ونظم ظالمة غاشمة تستعبد الشعوب للحكام من دون الله .(194/43)
وأصدق تعبير وأوضحه على هذا المبدأ الهام هو قول ربعى بن عامر لملك الفرس عندما سأله عن سبب غزو المسلمين لبلاده قبل موقعة القادسية قال : ( إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ) (2) ولن تتحقق الحرية على وجهها الأمثل إلا بهذا التحرير .
* الحرية فى المجال الاقتصادى :
وتعنى حرية الإنسان فى التملك للأرض التى منحه الله إياها واستغلاله لثرواتها ومنتجاتها ، وتعبيد كل ما عليها من نبات وحيوان ومعادن لمعاشه ومتاعه المشروع وهى شعبة أخرى من شعب الحرية ــــــــــــــــــــــــ
1- الحرية فى الإسلام من سلسلة كتاب اقرأ د . عبد الواحد وافى ص 61.
2- البداية والنهاية حـ 3 ص 123 .
الإنسانية بعد الحرية السياسية والعقيدية ولا تقل خطرا عنهما (1) .
ويقدم الإسلام نظامه الاقتصادى الإسلامى المحكم كمنهج لضمانها لكل فرد فما دام الناس كلهم مستخلفون فى الأرض فقد أطلقت التشريعات الاقتصادية الإسلامية طاقات العمل عند كل الأفراد فى المجتمع للاستغلال والبناء والتعمير والإنتاج وفى شتى ضروب النشاط الاقتصادى .
فأباح الإسلام الملكية الفردية تمشيا مع الفطرة الإنسانية وإطلاقا للطاقات البشرية إلى آخر مدى مقدر لها وجعل هذه الملكية هى الأجر الطبيعى والمكافأة العادلة لمن يعمل ويجتهد لاستخراج الأرزاق للناس من الأرض .
ومن الطبيعى أن تفاوت الناس فى مواهبهم الموروثة التى خلقهم الله بها يستتبع تفاوتا بينهم فى طاقة كل منهم على العمل والإنتاج واستغلال الأرض ومن ثم يستتبع ذلك فروقا بينهم فى ملكياتهم ولا يمنع الإسلام ذلك ، ولكنه يجعله مسموحا بشروط البشرية فوجود أغنياء فى المجتمعات البشرية أمر قد أراده الله وشاءه لابتلاء الناس .(194/44)
ولكن الذى يحتمه التشريع الاقتصادى الإسلامى حماية للحرية الاقتصادية لأفراد المجتمع هو أن يكون للفقراء والمساكين واليتامى والعجزة حق فى مال هؤلاء الأغنياء بقدر كثرة هذا المال وتلك هى ــــــــــــــــــــــــ
1- الحرية فى الإسلام من سلسلة كتاب اقرأ ص 72 .
الزكاة ، ذلك أن الإسلام فى مقابل إطلاق أيدى الناس أصحاب الطاقات البناءة والعاملة فى ثروات الأرض يمتلكون من خيراتها ما يشاؤون وما يستطيعون يجعل لهؤلاء الذين لا يملكون وسائل الإنتاج والقدرات الجسدية والذهنية والعقلية من العجزة واليتامى والمساكين وأبناء السبيل وكل من أقعدته ظروفه الجبرية عن الكسب يجعل لهم حقا فى مال الأغنياء لأن ما يكسبه المستطيعون نتيجة عملهم واستغلالهم لثروات البر والبحر إنما هو رزق مقدر من الله للجميع .
ويتضح لنا ذلك الأمر بمعرفة مفهوم الملكية فى الإسلام باعتباره الأساس الفلسفى للنظام الاقتصادى الإسلامى .
وينبثق مفهوم الملكية فى الإسلام من حقيقة كبرى تتمثل فى أن المالك الحقيقى للأرض هو الله وأن الملكية الموهوبة للإنسان ليست ملكية مطلقة دائمة وحقيقية بل هى مؤقتة لعلة تنتهى بالموت أو فناء الدنيا كما قال تعالى : { له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون } (1) .
وقال سبحانه : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الزمر /44 .
2- الأنعام / 94 .
* الحرية فى المجال الاجتماعى :
أما الحرية الاجتماعية والتى تعنى كون المواطنين جميعا سواء فى الحقوق والواجبات بلا تميز طبقى أو تفاوت بينهم من حيث القيمة الإنسانية ، فالقرآن والسنة يشملان من النصوص العديدة ما يثبت ذلك بوضوح وجلاء .
وتنبثق فلسفة النظام الاجتماعى فى الإسلام من خلال حقيقة كبرى يبينها قوله تعالى : { وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتكم } (1) .(194/45)
فالابتلاء علة وجود التفاوت والدرجات بين الناس فى المجتمع فى شتى المجالات ، وهذه مشيئة الله سبحانه وتعالى حيث خلقهم متفاوتين فى المواهب وسعة النفوس والعقول ، وما عليه كل منهم من الجمال والصحة وأحوال البيئة والظروف الخاصة لكل أسرة ولكل فرد .
ولكن هذه الحالات الاجتماعية بين الناس ليست سوى حالات مؤقتة ومتنوعة يخلق الله العباد فيها تحقيقا للابتلاء ، وبذلك يوجب الشرع على الخادم حب مخدومه وطاعته وآداء واجبه نحوه باعتبار أن ذلك أمر الله ومشيئته لابتلائه ، كما يوجب فى الوقت عينه حب المخدوم لخادمه ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنعام / 165 .
وحسن المعاملة واحترام آدميته وآداء حقه عليه غير منقوص باعتباره إنسانا مثله بل باعتباره أخا له وباعتبار أنه مبتلى كذلك .
ومن ثم فليس الإسلام طبقات بين الناس بمفهوم الطبقات الاجتماعية وإنما هى درجات ، ويستحيل أن يخلو مجتمع ما من الدرجات التى تعرف فى علم الاجتماع بالسلم الاجتماعى الذى يأخذ الشكل الهرمى .
وتلك الأسس تحقق الوحدة الاجتماعية بين أفراد المجتمع بالحب والإخاء ويصبح كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله :
( ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر و الحمى ) (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الأدب ، باب رحمة الناس والبهائم برقم (6011) ومسلم فى كتاب البروالصلة برقم (2586) .
Cairo Universty
Faculty of Dar El - Ulum
Department of Islamic Philosophy
MS. C. Thesis
The Concept Of Freedom In Mysticism
In The Third And Fourth Higrah Centuries
By
Mahmod Abdoh Abd Elrazix Ali
Undar Superisor
Prof. Dr. Abdo El Fattah El Ffawy
Prof. Of Islamic Philosophy
1994/1995(194/46)
الباب الثانى
مفهوم القضاء والقدر وعلاقته بالحرية
عند الصوفية
ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : موقف الصوفية من صفات الله
وأثره فى موضوع القدر والحرية
الفصل الثانى: الحرية وأصالتها فى الذات
الإنسانية عند الصوفية
الفصل الأول
موقف الصوفية من صفات الله وأثره
فى موضوع القدر والحرية
ويشتمل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : منهج الصوفية فى فهم المسائل العقائدية
المبحث الثانى : موقف الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل
المبحث الثالث : إفراد ا لله بالفاعلية أساس عقيدة القضاء والقدر
المبحث الرابع : مراتب القدر عند مشايخ الصوفية
*** المبحث الأول ***
منهج الصوفية فى فهم المسائل العقائدية
قضية الحرية وعلاقتها بالقدر من أهم القضايا التى جاءت بها الرسالات السماوية والتى عرضها القرآن الكريم وذلك لأنها تحدد علاقة الإنسان بربه وتفسر الغاية من وجوده فى الحياة ، كما أنها من أوائل المسائل الفكرية التى سببت النزاع بين الطوائف الإسلامية ، ومع أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما المصدر الغيبى الوحيد لجميع الحقائق الكونية والمبادئ التشريعية ومنها حقيقة العلاقة بين القدر والحرية ، إلا أن الفرقة قائمة بين الفرق المختلفة والمتباينة فى تاريخ الفكر الإسلامى حول التوفيق بين العقل والنقل حيال المشكلة .
والسبب الواضح فى إحداث هذه الفرقة يظهر إذا علمنا أن المعرفة الإنسانية موضوع ومنهج ، فالموضوع هو مادة البحث ومصدر المعرفة والمنهج هو السبيل الفكرى والخطوات الذهنية التى يتبعها العارف فى مساره بقصد تحصيل المعرفة ، إذا علم ذلك فإن علة اختلاف الفرق والمدارس الفكرية تكمن فى المنهج الذى تتبعه كل فرقة .(195/1)
ولما كان المنهج محددا لهوية الطائفة المعنية ومميزا لها عن الآخرين فلابد من إدراك المعالم الرئيسية للمنهج الصوفى فى فهم المسائل الاعتقادية بصفة عامة ومنهجهم فى موضوع البحث بصفة خاصة وذلك لتتضح الهوية الصوفية ومدى قربهم أو بعدهم من المنهج النبوى فى معالجة القضية ، وإحقاقا للحق يجب أن نفرق بين المنهج الذى سلكه صوفية التوحيد وهم أغلب المشايخ فى الفترة التى تلت عصر خير القرون وبين صوفية الحلول والاتحاد ووحدة الوجود الذين عكروا على أوائل الصوفية نقاوتهم من الشرك وجوهر العقيدة ، فكثير من الصوفية فى القرون الأولى سلكوا منهجا سلفيا فى أغلب أمورهم خدموا به دينهم وردوا به على أهل البدع لا سيما فى باب الصفات والتأويل العقلى المتعسف للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، وقد استدل غير واحد من السلف بأقوالهم واحتج بها على مذهب السلف الصالح (1) .
فمن غير الأنصاف أن نشرك هؤلاء فى وصف واحد يجمعه التصوف مع من ضل عن طريق الحق واتبع نوعا من الفلسفة الخارجة عن الإسلام وحقيقته ممن قالوا بالحلول أو وحدة الوجود ، من أجل ذلك يمكن القول أن أغلب أوائل الصوفية لا يختلفون فى منهجهم عن منهج السلف فى باب الاعتقاد حيث سلكوا منهجا تتضح معالمه فيما يأتى :
[1] - التسليم للوحى فيما ثبت من نصوص الصفات وغيرها من المسائل الغيبية بمعنى أنهم أعطوا الوحى قدسيته والأولية التامة أو الصدارة فى إثبات الاعتقادات المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله لعلمهم أن الحقائق الغيبية التى وردت فى القرآن والسنة فوق مستوى ــــــــــــــــــــــــ
1- انظرعلى سبيل المثال مانقله الذهبى عن مشايخ الصوفية فى كتاب العلو للعلى الغفار ، وما كتبه الدكتور الطبلاوى محمود سعد عن التصوف فى تراث ابن تيميه .
العقل البشرى ، ولايستطيع أن يعرفها معرفة تفصيلية بنفسه وإنما دوره حيالها هو التلقى والفهم والتصديق .(195/2)
قال الجنيد بن محمد : ( الطرق كلها مسدودة إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتبعين سنته وطريقته ، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه كما قال : { لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة } (1) وقال أيضا : كل توحيد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو زندقة (2) لأن العقل عندهم لا يعتبر فى مستوى الوحى إذ أن الأمور الغيبية كالحديث عن الله وملائكته والجن والسماوات وأمور الآخرة من الأمور التى لا يستطيع العقل اقتحامها بمفرده ونصيبه منها إذا اجترأ عليها بمفرده الحيرة والندم (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1-الأحزاب /21 والجنيد هو أبو القاسم الجنيد بن محمد الخراز القواريري ، أصله من نهاوند ومنشأه بالعراق وكان فقيها من أئمة القوم وسادتهم توفى سنة 297هـ انظر ترجمته فى صفة الصفوة لابن الجوزى حـ 2 ص 235 ، الرسالة القشيرية حـ 1 ص 105 ، حلية الأولياء حـ 2ص 255 ، وفيات الأعيان حـ 1 ص 146 ، طبقات الشافعية حـ 2 ص 28 ، تاريخ بغداد حـ 7 ص 241 ودائرة معارف البستانى حـ6 ص 367 ، سير أعلام النبلاء حـ 9 ص 155 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 98
2- مقولتا الجنيد فى حلية الأولياء حـ 01 ص 257 ، وتلبيس إبليس ص 10 والرسالة القشيرية حـ 1ص 106 والاعتصام للشاطبى حـ 1 ص 95 والأمر بالإتباع والنهى عن الابتداع للسيوطى ص 53 .
3- انظر قوت القلوب حـ 2 ص 124 ، حلية الأولياء حـ 10 ص 255 .
ولذلك قال الجنيد : ( إذا تناهت عقول العقلاء فى التوحيد تناهت إلى الحيرة ) (1) .(195/3)
فالمناهج العقلية والأنسقة الفكرية ، ينطلق من خلالها مفكروا الفرق إلى البحث فى القرآن والسنة وهى فى أذهانهم كفروض يعملون على إثباتها ، فإن وجدوا بين الآيات ما يؤيد هذه المقررات والفروض فبها ونعمت ، وإن لم يجدوا قاموا بتأويل الآيات والأحاديث تأويلا متعسفا لا تحتمله النصوص ، أو قاموا بردها بزعم أنه من رواية الآحاد التى لا يثبت بها اليقين فى الدين ، هذا الواقع المعبر عن مذهب الجهمية والمعتزلة ، نبه الصوفية على خطورته وأثره السيئ فى هدم دين الله إذ يقول المكى (1) فى بيان اعتقاد الصوفية وطريقتهم تجاه الوحى :
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر التعرف لمذهب التصوف للكلاباذى ص 78 ، 79 .
2- هو محمد بن على أبو طالب المكى نشأ بمكة ورحل إلى البصرة ثم بغداد ، قال ابن الجوزى : كان زاهدا عابدا جمع الناس عليه فى الوعظ فخلط فى كلامه ، وحفظ عنه أنه قال : ليس على المخلوق أضر من الخالق ، فبدعه الناس وهجروه ، فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك ، وكان رجلا صالحا مجتهدا صنف كتابا سماه قوت القلوب ذكر فيه أحاديث لا أصل لها توفى سنة 386 هـ انظر ترجمته فى المنتظم حـ41 ص 385 وتاريخ بغداد حـ 2 ص 89 .
قلت : ما كتبه المكى فى قوت القلوب يدل على اعتقاد أهل السنة والجماعة فى كثير من المسائل كما سنرى أما الصوره التى ذكرها ابن الجوزى عن الرجل فالله أعلم بها
( فإنا قوم متبعون نقفوا الأثر غير مبتدعين بالرأى والمعقول نرد به الخبر ) (1) .
وقال أيضا : ( وفى رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام من قبل أن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلو شرائع الدين وأحكام الإيمان ، فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول فى كل ما نقلوه ، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من إخبار الصفات فالكذب مردود القول فى كل ما جاء به ) (2) .(195/4)
فمصدر المعرفة بالله هو ما جاء عن الله بالخبر الصحيح وعمل العقل هو التلقى والفهم والتصديق والإجابة ، ولا شك أن الصوفى حينما يخضع عقله لقول الله إيمانا منه بأن كل الحق فيه فهو فى الواقع يحرره ولا يقلل من شأنه ، لأن الاستسلام لله وحده تحرر واستعلاء على ما سواه ، أما إذا حاولنا معرفة الحقائق الغيبية من خلال الأصول الذهنية كما فعلت المعتزلة وغيرها فالنتيجة الحتمية هى الانحراف ، وبمزيد من التوضيح يمكن القول أن المعتزلة كانت أصولهم الخمسة تمثل النسق الفكرى الذى يضعونه فى المقدمة ، فالتوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والوعد والوعيد ، هذه الأصول هى السمة المميزة لمن سلك طريق الاعتزال ، ولا يستحق ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر قوت القلوب حـ 2 ص 124 .
2- السابق حـ 2 ص 124 .
أحد أن يطلق عليه لفظ معتزلى من وجهة نظرهم إن لم تكن تلك الأصول مبنى لاعتقاده وأساسا لفكره .
ولما دخلوا بتلك الأصول المبنية بمادة العقل على كتاب الله كانت النتيجة أن ظهر مذهب التأويل العقلى لنصوص الوحيين بالمعانى الباطنة التى تحمل النصوص غير ما تحتمل حتى بدت تفسيراتهم نوعا من العبث فى كتاب الله ، وما ذلك إلا أن اللفظ المنطوق والنص المكتوب قهرهم وتعارض مع أصولهم فعجزت أصابعهم أن تمتد إليه بتغير الألفاظ فعطلوا المعنى تحت ستار التأويل .
ولذلك فإن طريقة الصوفية تتفق مع الطريقة السلفية من حيث التسليم للوحى وتقديمه على العقل وذم الكلام .
قال عبد الله بن خفيف الشيرازى (1) :
ــــــــــــــــــــــــ(195/5)
1- هو محمد بن خفيف بن اسفكشاد الضبى الشيرازى ، أمه نيسابورية وأقام بشيراز كان من الأمراء ثم تفقه وتصوف وتزهد ، صحب أبا عمر والدمشقى والحريرى ورويما ولقى الحلاج ، وعليه كثير من المآخذ من خلال سيرته إن كان اعتقاده الذى نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية اعتقادا سلفيا ، وسيرته كتبها أبو الحسن على بن محمد الديلمى ، توفى سنة 371 هـ .
انظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ 1 ص 385 والرسالة القشيرية حـ 1 ص 184 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 142، شذرات الذهب حـ 3 ص 76، طبقات الشافعية حـ 2 ص 150 ، المنتظم حـ 7 ص 112 .
( والعقل لا يحسن ولا يقبح والشرع حاكم على العقل ) (1) .
وقال أبو طالب المكى : باب ذكر العلم وطريقة السلف وذم ما أحدثه المتأخرون من الكلام ..ثم تابع كلامه فقال : وقد ظهرت مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأى والهوى والعقل والقياس وذهب علم اليقين وغابت معرفة الموقنين من علم التقوى (2) .
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيميه اتفاق طوائف السلف والأئمة من أهل الحديث والصوفية فى ذمهم العلم الكلام وطريقه الجهمية والمعتزلة فى تعطيل الصفات (3) .
[2] - جواز إعمال العقل والفكر فى الرد على الخصوم بما يؤدى إلى إفحامهم وإظهار الدين ، فإذا كان الصوفية قد حذروا من علم الكلام فإن الكلام المنهى عنه عندهم هو كلام المبتدعة من الجهمية والمعتزلة ، فقد خافوا على الضعفاء من أتباعهم أن يعلق بأذهانهم من كثرة الخوض فيه فلا يستطيعون الخلاص منه .
ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير أبى عبد الله محمد بن خفيف الشيرازى ، لأبى الحسن على بن محمد الديلمى تحقيق دكتور إبراهيم الدسوقى شتا ، طبعة مجمع البحوث الإسلامية ص 359 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 146 وما بعدها .
3- انظر التصوف فى تراث ابن تيميه د0 الطبلاوى سعده ، الفصل الثانى ، الاتفاق بين السلفية ومشايخ الصوفية فى ذم الكلام والمتكلمين ص 74 : 86 .(195/6)
أما استخدام الكلام أداه يقاوم بها الصوفى ويدافع عن دينه فهذا ثابت فى كلام الأئمة .
وخير دليل على ذلك الحارث بن أسد المحاسبى (1) إذ أن كتبه تذخر باستخدام العقل لخدمة الشرع والذود عنه فيقول رحمه الله :
( ألا فمن رغب منكم فى العقل وأراد السبيل فى اكتسابه ، فإن أفضل ما تستفيد بالعقل أن تطيع الله فيما افترض عليك وتتجنب ما حرم الله عليك ، فمتى فعلت ذلك أخذت من العقل بنصيب فبذلك جاءت الإخبار أن العاقل من أطاع الله ولا عقل لمن عصاه ) (2) .
ويبين المحاسبى دور العقل حيال النص فيذكر أن قوما من المتكلمين قالوا :
العقل هو صفوة الروح ولبه ، ولا نقول بذلك إذ لم نجد فيه كتابا مسطورا ولا حديثا مأثورا ، إنما العقل غريزة جعلها الله فى قلوب ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى من أهل البصرة من علماء مشايخ الصوفية ، له تصانيف كثيرة أهمها كتاب الرعاية لحقوق الله ، وهو أستاذ أكثر البغداديين فى عصره مات سنة 243هـ ، انظر ترجمته فى حلية الأولياء حـ 1 ص 73 ، طبقات الشافعية حـ 2 ص 37 ، ميزان الاعتدال حـ ا ص 110 ، تاريخ بغداد حـ 8 ص 211 سير أعلام النبلاء حـ 2 ص 110 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص87
2- الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث المحاسبى ، تحقيق محمد عثمان الخشت ، مكتبة القرآن طبعة 1984م ص 10 .
الممتحنين من عباده أقام به على البالغين الحجة فهو غريزة لا يعرف إلا بفعاله فى القلب والجوارح ولا يقدر أحد أن يصفه بغير فعالة (1) .
فأنكر تعريف العقل بغير دليل وأنشأ كلاما يصف به العقل ولا يعارض الدليل .(195/7)
وقد حدث أن الإمام أحمد أنكر على الحارث المحاسبى اشتغاله بالكلام مما يوهم أن المحاسبى كان على غير طريقة السلف ، والحقيقة أنه أنكر عليه أسلوبه فى الدفاع عن أهل السنة من خلال علم الكلام ونقل شبهات المخالفين ثم الرد عليها ، فلعل الشبهة التى ينقلها تكون أقوى من رده فيحدث عكس ما يريد ، فلم تكن حملته عليه شكا فى عقيدته لأنهما يتفقان فى المصدر والمسلك ولا أدل على ذلك من اسشهاد شيخ الإسلام ابن تيمة بكلامه فى كتابه الفتوى الحموية وغيرها (2) .
ويذكر الشيخ سلامه العزامى أن الذى سلك علم الكلام من مشايخ الصوفية إنما أراد بذلك نصرة أهل السنة واستخراج الأصول الدينية من ــــــــــــــــــــــــ
1- القصد والرجوع إلى الله للمحاسبى ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار التراث العربى ، طبعة 1980م ص 11 ، أعمال القلوب والجوارح للمحاسبى ص 46 .
2- انظر تفصيل ما حدث بين أحمد والمحاسبى فى المنقذ من الضلال لأبى حامد الغزالى ص 34، 35 وتاريخ بغداد حـ 8 ص 114 ، قوت القلوب ص 168 ميزان الاعتدال حـ 1 ص 200 ، أستاذ السائرين الحارث ابن أسد المحاسبى ، للدكتور عبد الحليم محمود ص 17 ، 18 .
الكتاب والسنة للرد على المبتدعة من القدرية والجهمية وغيرهم ، وذلك لما استفحل جدلهم وقويت شوكتهم وقد كان من آثار ذلك ظهور كتب التوحيد والعقائد (1) .
وهذا المنهج سلكه الكلاباذى (2) فى التعرف فى أكثر من موضع عنده ذكره لاعتقاد الصوفية فيذكر فى قولهم فى القدر وخلق الأفعال لله تحت قوله تعالى : { إنا كل شئ خلقناه بقدر } (3) .
وأجمعوا أن الله خالق أفعال العباد كلها كما أنه خالق لأعيانهم ، ثم يتحول إلى متكلم ماهر فيبين أن الأفعال أكثر من الأعيان ، فلو كان الله خالق الأعيان والعباد خالقى الأفعال ، لكان الخلق أولى بصفة المدح فى الخلق من الله تعالى ولكان خلق العباد أكثر من خلق الله .... إلي آخر ـــــــــــــــــــــــ(195/8)
1- البراهين الساطعة فى رد بعض البدع الشائعة للشيخ سلامة العزامى ص 181 182 ، وانظر دراسات فى الفلسفة الإسلامية د . محمود قاسم ص 72 ، 73 .
2- هو محمد بن إبراهيم بن يعقوب الملقب بتاج الدين الكلاباذى البخارى ، من أهل بخارى كان حنفيا فى الفقه وصوفيا فى المسلك ، له مشاركة فى مختلف العلوم وله كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف ، وهو من أوائل الكتب فى هذا الباب وقالوا فيه : لولا التعرف ما عرف التصوف ، توفى سنة 380 هـ انظر ترجمته فى كشف الظنون لحاجى خليفة حـ 6 ص 155 طبعة سنة 1858م والأعلام للزركلى حـ 2 ص 23 .
3- القمر / 49 .
ما ذكر (1) .
وعلى الوتيرة نفسها نجد أن المكى فى قوت القلوب يستخدم العقل فى إثبات صفة الكلام وخلق الأفعال لله عز وجل مؤيدا بذلك منهج السلف الصالح (3) .
وهم بذلك يقررون أن العقل الذى خلقه الله وأبدعه فى الإنسان لا يتعارض مع النقل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
[3] - الأمر الثالث فى المنهج الصوفى أنهم بدءوا طريقهم فى معرفة العقيدة بالتزام التوحيد أولا بمعنى أنهم أفردوا الله بذاته وصفاته وأفعاله عن ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم وكل المقاييس التى تحكمهم ليثبتوا بذلك أن النصوص الواردة فى صفات الله على ظواهرها ، وأنها لا تدل على التشبيه وإنما تدل عليه وحده دون سواه .
فالمعتزلة تنكروا لصفات الله ظنا منهم أن إثباتها يدل على التشبيه وظواهرها هى المستخدمة فى حق البشر ، فتحاملوا عليها بالتعطيل والتأويل بغير دليل تحقيقا للتوحيد أو الأصل الأول من أصولهم ، فشبهوا صفات الله تعالى بصفات المخلوقين وأخضعوها للأقيسة العقلية التى تحكمهم فى عالم الشهادة ، ثم عطلوا صفات البارى حتى ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 60 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 126 .
لا يخضع لهذه الأقيسة ليخرجوا من شبهة التشبيه بزعمهم (1) .(195/9)
ولكن أوائل الصوفية شأنهم فى ذلك شأن السلف الصالح حيث أخرجوا ذات الله وصفاته وأفعاله بداية من المقاييس التى تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم على عكس طريقة المعتزلة وهذا هو مقصدنا بأنهم بدأوا بالتوحيد أولا .
يقول الجنيد : ( التوحيد إفراد القديم عن الحدث ) (2) .
يقول الهجويرى معقبا : ويعنى ذلك أنه لا يجوز لك اعتبار القديم محلا للحادث ومقاييسه ، ولا الحادث أن يكون محلا للقديم (3) .
فما يحكم المخلوق من أقيسة لا يصلح أن يطبق على ذات الله وصفاته وأفعاله عندهم ، وهذا حق يدل عليه منطق العقل ، ولذا يفصح الجنيد عن المعنى السابق بقوله :
( التوحيد هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديتة ، وأنه الواحد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، بنفى الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل لقوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (4) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- الإبانة عن أصول الديانة ص 106 ، الانتصار للخياط ص 126 .
2- كشف المحجوب للهجويرى ص 334 ، والرسالة القشيرية حـ 1 ص 28 ، 29
3- السابق ص 334 .
4- الشورى / 11 ، وانظر التعرف لمذهب أهل التصوف ص 33 .
فهذه الأية جعلها الجنيد أساسا لاعتماده الكلى فى إبراز اعتقاده حيث تضمنت التوحيد وإفراد المتوحد أولا ثم إثبات الصفات ثانيا على ما يليق بجلال الله وعظمته .
سئل أبو على الروذبارى (1) عن التوحيد فقال :
التوحيد فى كلمة واحدة كل ما تصوره الأوهام والأفكار فالله سبحانه وتعالى بخلافه لقوله تعالى : { ليس كمثله شى وهو السميع البصير } (2) .
فاعتمد الروذبارى فى اثبات التوحيد على منع العقل من العمل فى إدراك كيفية الذات والصفات والأفعال ، لأن العقل تحكمه المقاييس والله لا يقاس على شئ من خلقه ، وما جاء شئ فى الوحى يخبر عن كيفية الذات والصفات وكل ما ورد إنما هو فى إثبات حقائق الصفات وذلك بناء على قوله تعالى :(195/10)
{ ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء } (3)
ـــــــــــــــــــــــ
1- هو أحمد بن محمد بن القاسم الروذبارى ، من أهل بغداد سكن مصر ومات فيها من أصحاب أبى القاسم الجنيد وكان عالما فقيها حافظا للحديث توفى سنة 322 هـ انظر حلية الأولياء حـ 10 ص 356 ، البداية والنهاية حـ 11 ص 181 ، المنتظم حـ 2 ص 272 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 296 ، صفة الصفوة حـ 2 ص 256 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 124 ، تاريخ بغداد حـ ا ص 329 .
2- الشورى / 11 ، وانظر الرسالة القشيرية حـ 1 ص 329 . 3-البقرة / 255 .
يقول المكى : ( ونعتقد نفى التشبيه والتكييف عن الأسماء والصفات إذ لا كفوء للموصوف فيشبه به ولا مثل له فيجنس منه ولا نشبه ولا نصف (1) ولا نمثل ونعرف ولا نكيف ) (2) .
فالصوفية يعتبرون نصوص الصفات على ظاهرها وأنها موضوعة للدلالة على الخالق لا على المخلوق ، فهو منفرد بها لا يشاركه فيها غيره كما بين المكى أنه لا كفوء للموصوف فيشبه به .
[4] - إثبات الصفات على الحقيقة لا على المجاز .
ولئن كان التوحيد الذى قرره أهل الاعتزال أدى إلى أن تنكروا لأخبار الصفات بناءا على الأصل الفكرى القائل بأن إثبات الصفات شئ زائد على ذات الله لم يكن من قبل (3) .
فإن الصوفية بعد اثباتهم للمباينة بين الخالق والمخلوق وإفرادهم له بالتوحيد أثبتوا الصفات على مراد الله وعلى الحقيقة لا على المجاز
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوله : ولا نصف عنى به تفويض العلم بكيفية الصفة إلى الله ، فهو يثبتها وجودا وينفى العلم بها إلزاما ، لأنه لن يتمكن من وصفها لقوله تعالى : { ولا يحيطون به علما } ولا يعنى بقوله ولا نصف تفويض المعنى الذى دلت عليه النصوص لأن هذا لازمه أن القرآن بلا معنى .
2- قوت القلوب حـ 2 ، ص 124 .(195/11)
3- نهاية الإقدام فى علم الكلام للشهر ستانى طبعة اكسفورد سنة 1934م ص 83 ، 84 ، المنية والأمل لابن المرتضى ص 35 ، أصول الدين لعبد القادر البغدادى طبعة اسطنبول ص 138 .
وعلموا أنه لا يصف الله أعلم بالله من الله ولا أعلم بالله من رسول الله وفى هذا يقول المكى : ( ولا يشبه بالقياس والعقل ولكن يعتقد اثبات الأسماء والصفات بمعانيها وحقائقها ) (4) .
فنبة المكى أن المعنى الذى تحمله النصوص معلوم واضح فهو وارد بلغة العرب وأنه دل علىحقيقة ثابتة وإن لم نعلم كيفيتها ، فالصفات عنده على الحقيقة لا على المجاز .
ويؤكد الكلاباذى أن الصفات التى أثبتها أهل التصوف حتى عصره هى صفات حقيقية ، وإن له سبحانه وتعالى سمعا وبصرا ووجها ويدا على الحقيقة ليس كالأسماع والأبصار والأيدى والوجوه (2) .
يقول الكلاباذى :
( ومن جعل صفة الله وصفه له من غير أن يثبت لله صفة على الحقيقة فهو كاذب عليه وذاكرا له بغير وصفه .. فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفة قائمة به ليست ببائنة عنه ) (3) .
ويستدل فى رده على المعتزلة القائلين :عالم بعلم هو ذاته ، وأن الصفات هى عين الذات بقوله تعالى : { أنزله بعلمه } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 2 ص 124 .
2- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 05 .
3- السابق ص 51 .
4- النساء / 166.
وبقوله : { فلله العزة جميعا } (1) .
وهم بذلك يبرزون منهج السلف الصالح ويتكاتفون معهم فى نصرته جاء رجل إلى الإمام مالك رحمه الله فقال يا أبا عبد الله :
{ الرحمن على العرش استوى } (2) كيف استوى ؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : ( الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وأنت صاحب بدعة وأمر به فأخرجوه ) (3) .(195/12)
فمنهج الصوفة الأوائل لا يختلف فى شئ عن مذهب الامام مالك لأنه فرق فى كلامه كما فرق الصوفية بين إثبات حقيقة الصفة وكيفيتها التى تليق بالله من خلال المعنى الذى دل عليه النص وبين جهلنا بتلك الكيفية ، ومن ثم كان غضبة على السائل لكونه سأل عن كيفية الاستواء لامعناه .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : ( لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لايتجاوز القرآن والحديث ــــــــــــــــــــــــ
1- فاطر / 10 وانظر السابق ص 51 .
2- طه / 5 .
3- مختصر العلو للعلى الغفار ص 264 .
وقيل له : الله فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال : نعم وهو على عرشه ولا يخلو شئ من علمه ) (1) .
وقد جمع ابن تيميه بين أئمة السلف ومشايخ الصوفية فى نص واحد فيقول :
( وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق فى الأمة مثل سعيد بن المسبب والحسن البصرى وعد منهم مالكا والشافعى وأحمد وبشرا الحافى والجنيد بن محمد وسهلا بن عبد الله التسترى وعمر بن عثمان المكى ، وأمثال هؤلاء المشايخ ، كل هؤلاء متفقون على أن الله سبحانه ليس هو خلقه ولا جزءا من خلقه ولا صفة لخلقه ، بل هو سبحانه متميز بنفسه بائن بذاته المعظمة ) (2) .
فأثنى على عدد كبير من مشايخ الصوفية الأوائل وعدهم من أئمة السلف الصالح وأن عقيدتهم ومنهجهم واحد وهو الاقتداء والالتزام بما فى الكتاب والسنة ، وأقوالهم هى أقوال سلف الأمة (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبى القاسم اللالكائى ص 165 .
2ــ كتاب توحيد الربوبية لابن تيمية ص 474 .
3- انظر الاستقامة لابن تيمية حـ 1 ص 142 ، وانظر الفتوى الحموية ص 35 37 ، 38 ، 42 .
ومن ثم نلخص الى القول بأن المنهج الصوفى السلفى مبنى على الأمور الآتية :
1- التسليم للوحى وتقديم النقل على العقل عند التعارض .(195/13)
2- دور العقل حيال النقل هو التلقى والفهم وجواز عمله فى إبراز معانى النصوص ومقاصدها فالعقل مطية للنقل وحامل له .
3- إفراد ذات الله وصفاته وأفعاله عن المقاييس التى تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم .
4- إثبات الصفات على مراد الله ورسوله على الحقيقة لا على المجاز وبلا تفويض فى معانى النصوص .
5- الكف عن طلب الكيفية التى دلت عليها النصوص ، لأن هذا خارج عن مداركنا والخوض فيه قول على الله بلا علم وهو من أعظم الحرمات عند الله
*** المبحث الثانى***
موقف الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل
سبق القول فى المبحث الأول بأن الصوفية أثبتوا صفات الله عز وجل وأفردوها عن الأقيسه والقوانين التى تحكم صفات المخلوقين مستدلين بقوله تعالى :
{ ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (1) .
وفى هذا المبحث يدور الكلام حول الموقف الصوفى من قدم صفات الذات وصفات الأفعال لما له من أثر واضح فى بيان مفهوم القدر وطلاقة الفاعلية الإلهية ، فالقول بقدم صفات الأفعال طرح عند البعض مشكلة فكرية مضمونها : أن قدم صفات الأفعال كالخلق والرزق والمنع والعطاء يستتبع قدم صفات المخلوقين المفعولين مما يؤدى إلى تعدد القدماء (2) .
والموقف الصوفى تجاه هذه المشكلة موقف واضح ، فمشايخ الصوفية لا يفرقون فى إثبات الصفات بين القدم فى صفات الذات والقدم فى صفات الأفعال ولا يلزم من ذلك القول بقدم المفعولات .
يقول سهل بن عبد الله التسترى :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الشورى /11 .
2- مقالات الإسلاميين للأشعرى حـ 1 ص 164 .
( الوحدانية فى الأصل أنه كان ولم يكن شئ فهو فرد علم وشاء وقضى فقدر ووفق وخذل وتولى وعصم وأثاب وعاقب والأعمال تنسب إلى العباد والبداية منه والتمام عليه ) (1) .
فالأشياء كلها بعلم الله وقدرته وليست هى العلم والقدرة ولكنها بعلم وقدرة .
ويخاطب التسترى من أنكر قدم صفات الأفعال فيقول :(195/14)
يقال لمن أنكر هذا : أخبرنى عن الله أهو تام كامل ؟
فإن قالوا : نعم .
فيقال لهم : فهو مع تمامه وكماله هو أول وهو حى وهو عالم وهو قادر ؟
فلابد من قولهم : نعم .
فيقال لهم : هذه صفات الذات والأشياء كلها داخلة فى هذه وهذه الأفاعيل كلها فى القدرة فهو حى عالم قادر جل ثناؤه (2) .
وفكرة التسترى قائمة على أن المخلوقات كانت معلومة فى علم الله فى الأزل ، ثم شاء الله أن يكتبها فى اللوح المحفوظ فكتبها ، وبهذا تم القضاء ، فلما خلقها بقدرته تم القدر ، ومن ثم كان كل شئ ــــــــــــــــــــــــ
1- المعارضة والرد على أهل الفرق وأهل الدعاوى فى الأحوال ، لسهل بن عبد الله التسترى ، تحقيق الدكتور محمد كمال جعفر ص 80 طبعة دار الإنسان سنة 1980م
2- السابق ص 81 .
داخلا فى العلم .
فالقضاء عنده علم وكتابة ومشيئة ، والقدر علم وكتابة ومشيئة وخلق ، فمرد الأشياء إلى العلم والعلم صفة ذات وهو قديم بقدم الله .
ولهذا لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن القرآن وموقفه من خلقه قال للسائل : ( أخبرنى عن العلم ، فإذا كان العلم مخلوقا كان القرآن مخلوقا وإذا كان العلم صفة من صفات الله غير مخلوق ، كان كلام الله كذلك ) .
لأن القرآن كان فى علم الله فى الأزل وكتبه فى اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما قال تعالى : { إنه لقرآن كريم فى كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } (1) فاللوح فيه كلمات الله وكلام الله غير مخلوق وإن كان مكتوبا .
فاحتج على قدم صفات الأفعال بقدم صفات الذات مؤيدا بذلك منهج التسترى فى الاحتجاج (2) .
ويكشف الغزالى عن فكرة التسترى فى إثبات صفات الأفعال والرد على من قال :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الواقعة / 77 : 79 .
2- انظر طبقات الشافعية حـ 2 ص 27 ، حيلة الأولياء حـ 9 ص 161 ، البداية والنهاية حـ 10 ص 270 ، والعواصم والقواسم لابن الوزير حـ 4 ص 361 .(195/15)
إن إثباتها يستلزم حدوثها ، بحجة أنه لاخلق فى الأزل فكيف يكون خالقا فى الأزل ؟
فيقول : إن السيف يسمى صارما قبل القطع وحال القطع ، وهو فى الأول صارم بالقوة وفى الثانى صارم بالفعل ، فالبمعنى الذى يسمى به السيف فى الغمد صارما يصدق اسم الخالق على الله تبارك وتعالى فى الأزل (1) .
فالله وله المثل الأعلى ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ، ولا فرق بين صفة هى صفة ذات أو صفة هى صفة فعل .
وخلق المخلوقات لا يزيد فى صفات الله شيئا لم يكن من قبل ، فهو المسمى بالخالق قبل الخلق وحال الخلق وبعد فنائهم ، كما أنه منفرد بالربوبية قبل خلق العالمين ، وحال خلقهم وبعد فنائهم .
ويؤكد الكلاباذى أن جمهور الصوفية وكبار مشايخهم على أنه لا يجوز أن يحدث لله تعالى صفة لم يستحقها فيما لم يزل ، وأنه لم يستحق اسم الخالق لخلقه الخلق ، ولا لإحداث البراي ة استحق اسم البارى ولا بتصويره الصور استحق اسم المصور ، ولوكان كذلك لكان ناقصا فيما لم يزل وتم بالخلق (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الاقتصاد فى الاعتقاد للإمام حامد الغزالى ص 158 .
2- التعرف على مذهب أهل التصوف ص 53 .
ومن الحجج التى أوردها على ذلك أيضا :
1- أنه لما ثبت أنه سميع بصير قادر خالق بارئ مصور وأن ذلك مدح له فلو استوجب ذلك بالخلق والمصوَّر والمبرَئ لكان محتاجا إلى الخلق والحاجة أمارة الحدث .
2- أن ذلك يوجب التغيير والزوال من حال إلى حال فيكون غير خالق ثم يكون خالقا ، وغير مريد ثم يكون مريدا ، وذلك نحو الأفول الذى انتفى منه خليله إبراهيم عليه السلام فقال : { لا أحب الآفلين } (1) .
3- أن الخلق والتكوين والفعل صفات لله تعالى ، وهو بها فى الأزل موصوف ، ومعلوم أن الفعل غير المفعول وكذلك التخليق والتكوين ، لو كانا جميعا واحدا ، لكان كون المكونات بأنفسها لأنه لم يكن من الله إليها معنى سوى أنها لم تكن فكانت (2) .(195/16)
ومن ثم ينفى الكلاباذى نسبة حدوث تغيير فى الذات الإلهية عند بدء الخلق وكل ما يشترط لتحقيق الفعل موجود فى الأزل .
ويرد الصوفية المرجع فى الخلق إلى المشيئة الإلهية المطلقة لقوله تعالى : { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (3)
ولقوله : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (4)
ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنعام / 76 وانظر السابق ص 53 . 2- السابق ص 53 .
3- مريم / 35 . 4- يس / 82 وانظر المعارضة والرد ص 58 .
ولعل ذا النون المصرى (1) قد بين الفرق الواضح الدقيق بين ذات الله عز وجل وبين صفاته من ناحية وبين صفاته وبين مخلوقاته من ناحية أخرى حين قال :
( إن الله عز وجل صانع كل شئ بقدرته ، وعلة كل شئ صُنْعُه ولا علة لصنعه ) (2) .
فقوله : صانع كل شئ بقدرته وعلة كل شئ صنعه تلاشى به إلزامات المعتزلة حيث جعل علة وجود الأشياء هى صنع الله عز وجل وخلقه لها ، وليس الإله علة وجود الأشياء ، فنفى بذلك أن تكون ذات الله سبحانه وتعالى علة ، كما هو الحال عند المعتزلة حيث قالوا : خالق بذاته مريد بذاته ، ونسب العلة إلى صفاته الفاعلة القديمة (3) .
وقوله : ولا علة لصنعه تلاشى به إلزامات الفلاسفة الذين فهموا ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم المصرى ، كان أبوه نوبيا ، ثم نزل بأخميم من ديار مصر فأقام بها وأتى بأشياء غريبة فى التصوف امتحن بسببها ، توفى سنة 245هـ ، انظر تاريخ بغداد حـ 8 ص 393 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 107 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 81 ، حلية الأولياء حـ 9 ص 331 .
2 - الرسالة حـ 1 ص 35 .
3 - انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى حـ 1ص 263 وما بعدها فى بيان رأى المعتزلة .
الذات الإلهية من خلال مفهوم العلية الطبيعية (1) .
ففرق بين الشئ وبين فعل الله ، ففعل الله صفة من صفاته قديم بقدم الذات وليست الذات علة لصفاته وفعله وصنعه .(195/17)
ومن ثم فرق ذو النون المصرى بين صفات الذات وصفات الفعل من ناحية ورفض أن تكون الذات علة لصفاته من ناحية أخرى لأن الصفات قديمة ملازمة للذات .
كما أنه رفع أى ضرورة عن الفاعلية الإلهية عندما رفض أن يكون ثمة علة لصنعه غير صفات الأفعال وإرادة الله فى خلقه .
وعلى كل حال فإن جمهور أوائل الصوفية الصوفية على القول بقدم صفات الذات والأفعال ولا يلزم من ذلك قدم المفعولات ، ولا عبرة بسلوك بعض الصوفية مذهب الاعتزال أو غيره حيث يقرر الكلاباذى أن بعضهم منع أن يكون الله تعالى لم يزل خالقا وقال : إن ذلك يوجب كون الخلق معه فى القدم (1) وقد تقدم جواب التسترى وموقف أغلب المشايخ من هذه القضية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر فى بيان موقف الفلاسفة الرسالة العرشية لابن سينا ص 10 : 12 ، وانظر تهافت الفلاسفة لأبى حامد الغزالى ص 37 ، 38 ، الطبعة الثالثة ، دار المعارف القاهرة سنة 1972م وانظر التعليقات ص 20 وهى رسالة من رسائل الفارابى ضمن أحد عشر رسالة ، طبعة دار المعارف العثمانية ، حيدرآباد الهند سنة 1926م .
2- التعرف ص 54 .
* صفات الأفعال وأبدية المفعولات :
وبالرغم من تصريح الصوفية بأن البقاء لله وحده ، فإنهم لا ينكرون بقاء بعض المخلوقات معه أبدا .
وقد قدم الكلاباذى صفة البقاء على الأزلية حين قال : ( باق أول ) (1) .
وهنا تظهر مشكلة فكرية حول صفة البقاء ، فلا شك أن بقاء أهل الجنة والنار أبدا يبدو لأول وهلة متعارضا مع إفراد الله عز وجل بالبقاء وإذا كان مشايخ الصوفية قد رفضوا رفضا قاطعا إشراك غيره معه فى الأزلية ، فإن ذلك يستتبع ضرورة رفضهم مشاركة غيره معه فى الأبدية مما يوحى بالتعارض مع نصوص القرآن والسنة الخاصة ببقاء أهل الخلدين أبدا .(195/18)
لقد كانت هذه المسألة مثار خلاف بين فرق الإسلام وبين طائفة المعتزلة حول مفهوم الأبدية لأهل الجنة والنار فى القرآن الكريم حتى فهمها البعض بطول الأمد وليس البقاء اللانهائى (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 47 .
2- مقالات الإسلاميين حـ 2 ص 53 ، 55 .
ولعل أبا القاسم النصرباذى (1) قد وفق فى تقديم الحل المقنع والنابع من القرآن والسنة حين فرق بين ما يبقى ببقاء الله عز وجل وبين ما يبقى بإبقائه فقال :
( الجنة باقية بإبقائه ، وذكره ورحمته ومحبته لك باق ببقائه ، فشتان بين ما هو باق ببقائه وبين ما هو باق بإبقائه ) (2) .
فالجنة مخلوقة لله عز وجل وكائنة بأمره ورهن المشيئة الإلهية باعتبار المشيئة صفة تخصيص بين ما يبقى وما لا يبقى ، ومن ثم فإن أوائل الصوفية يعتبرون خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله وإرادته .
فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية بل من طبيعتها جميعا كمخلوقات حادثة فى الزمان الفناء فالخلود المحدث ليس فى ذاته وإنما هو و بمدد دائم ومستمر ـــــــــــــــــــــــــ
1- هو إبراهيم بن محمد بن محمويه شيخ خراسان فى وقته نشأ فى نيسابور وكان عالما بالسيرة والتاريخ ومن أكابر مشايخ الصوفية فى عصره ، مات بمكة سنة 367هـ.
انظر شذرات الذهب حـ 3 ص 58 ، والمنتظم حـ 7 ص 89 ، تاريخ بغداد حـ6 ص 169 ، اللباب فى تهذيب الأنساب حـ 3 ص 225 .
2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 41 .
لا ينقطع من الله تعالى (1) .
وهذا هو ما عبر عنه النصرباذى فى قوله : الجنة باقية بإبقائه .
أما صفات الله عز وجل ومنها رحمته وذكره ، فهى باقية ببقائه سبحانه وتعالى حيث البقاء صفة ذاتية له ، كما أن الأزلية صفة ذاتية لله تعالى .(195/19)
فالنصرباذى فرق بين صفات الأفعال الإلهية وبين مخلوقات الله عز وجل وهو فى هذا لا يعبر عن رأيه فى تلك المسألة فقط ، وإنما يعبر عن رأى أغلبالأوائل من الصوفية ، حيث يعقب القشيرى على كلامه بقوله :
( وهذا الذى قاله الشيخ أبو القاسم النصرباذى ، هو غاية التحقيق فإن أهل الحق قالوا : صفات ذات القديم سبحانه وتعالى باقيات ببقائه تعالى ) (2) .
فنبه على هذه المسألة وبين أن الباقى سبحانه وتعالى باق ببقائه بخلاف ما قاله مخالفو أهل الحق ، لأنهم قالوا : لا يبقى شئ ببقائه (3)
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر سيرة الشيخ الكبير عبد الله خفيف الشيرازى ص 356 حيث ذكر اعتقاد مشايخ الصوفية فى هذه القضية .
2- الرسالة حـ 1 ص 42 .
3- انظر تعليق الدكتور عبد الحليم محمود على الموضوع فى الرسالة حـ 1 ص 42 .
فنفوا صفات الحق سبحانه وتعالى .
وفى هذا يفرق القرآن الكريم بين نوعين من البقاء :
الأول : فى قوله تعالى : { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (1) .
وقوله : { كل شئ هالك إلا وجهه } (2) .
والثانى : فى قوله تعالى : { وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى بهم يتوكلون } (3) .
وقوله : { والآخرة خير وأبقى } (4) .
وقوله : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } (5) .
فالأيات الأولى دلت على صفة من صفات الذات وهى صفة الوجه ودلت على بقاء الصفة ببقاء الذات ، فأثبتت بقاء الذات بصفاتها وفناء ما دونها أو إمكانية فنائه ، إذ أن الله هو الأول والآخر وهو قبل كل شئ وبعد كل شئ .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرحمن /26: 27 .
2- القصص /88 .
3- الشورى / 36 .
4- الأعلى / 17 .
5- طه / 127 .
قال ابن كثير فى الآية الأولى والثانية : أخبر الله بأنه الدائم الباقى الحى القيوم الذى تموت الخلائق ولا يموت ، فعبر ببقاء الوجه عن بقاء الذات لأن الوجه من صفات ذاته سبحانه وتعالى (1) .(195/20)
أما الآيات الآخرى فبقاء المخلوقات فيها لا لذاتها ولكن بعطاء من الله لإكرام أهل طاعته وإنفاذ عدله فى أهل معصيته (2) ولذلك يقول سبحانه : { إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاءا من ربك عطاءا حسابا } (3) .
ويضيف النصرباذى فرقا آخر بين صفة الفعل وصفة الذات يغلب عليه الطابع الوجدى بالإضافة إلى ما سبق من تفريقه النابع من النظر العقلى فى الأدلة فيقول :
( أنت متردد بين صفات الذات وصفات الفعل ، وكلاهما صفته ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر تفسير القرآن العظيم لأبى الفدا إسماعيل بن كثير ، طبعة دار إحياء الكتب العربية حـ 3 ص 403 .
2- انظر هذه المسألة فى الاعتبار ببقاء الجنة والنار للسبكى فى الرد على ابن تيمية وابن القيم القائلين بفناء النار ، تحقيق وتقديم الدكتور طه الدسوقى حبيشى ص 32 ، 33 .
3- النبأ / 34 : 36 .
تعالى على الحقيقة ، فإذا هيمك فى مقام التفرقة قرنك بصفات فعله وإذا بلغك إلى مقام الجمع قرنك بصفات ذاته ) (1) .
فجعل تعامل العبد مع الله عز وجل من خلال صفات أفعاله مقاما من المقامات ، ومعرفة صفات الذات مقاما أعلى فى التوحيد والتحقيق من معرفة صفات الأفعال ، ومن المعلوم أن مبنى هذه التفرقة قائم على تفريقه بين صفات الذات وصفات الأفعال من ناحية وبين صفات الأفعال وآثارها المتمثلة فى المخلوقات من ناحية آخرى .
وهذا الأصل هو الذى رفض به جمهور الأوائل من الصوفية القول بقدم العالم وغير ذلك من المنزلقات الفكرية المؤدية إلى وحدة الوجود ولذلك نجد لأئمة التصوف فى العصر الأول أقوالا يرفضون بها الحلول والإتحاد سواء بتصور إمكانية اتحاد النفس الإنسانية بالذات الإلهية أو بتصور جواز حلول الإله فى العالم .
يقول الجنيد بن محمد مستنكرا ذلك :(195/21)
( متى يتصل من لا شبيه له ولا نظير له بمن له شبيه ونظير ؟! هيهات هذا ظن عجيب إلا بما لطف الطيف فلا إدراك ــــــــــــــــــــــــ
1- الصوفية الأوائل يقصدون بمقام التفرقة العبادة حال النظر إلى الأسباب والاشتغال بها لكسب الضروريات التى تقيم الأبدان كالأخذ بالأسباب حال التوكل وما شابه ذلك ، ويقصدون بمقام الجمع النظر إلى مدبر الأسباب والتغافل عنها حال الصلات وبعض أنواع العبادة الأخرى ، انظر السابق حـ 1 ص 42 .
ولا وهم ولا إحاطة إلا شارة اليقين وتحقيق الإيمان ) (1) .
فهو ينفى الاتصال بين ذات الله وبين غيره من الذوات نفيا قاطعا سواء من جهة ذاته أو من جهة غيره ، ويجيز الاتصال بين الخلق وبين الله ويحصره فى الصفات الإلهية ، أما اتصال المشاعر والوجدان فيحدد له صفة اللطف الإلهية التى يمن الله بها على المؤمنين بما يشعرون بوجوده ويتمثلون عظمته ويحيون برحمته .
ويورد الجنيد الدليل على هذا الاعتقاد فيقول :
( وإن الدليل على ذلك لموجود ، أليس قد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : قال الله عز وجل : ولا يزال يتقرب إلى عبدى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به (2) فإذا كان سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ، فكيف تصف ذلك بكيفية أو تحده بحد تعلمه ؟ ولو ادعى ذلك مدع لأبطل دعواه ، لأنا لا نعلم ذلك كائنا بجهة من الجهات تعلم أو تعرف ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 43
2- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق ، باب التواضع برقم (650) وابن ماجه برقم (3989) وأبو نعيم فى الحلية حـ 1ص 252 .
3- كتاب الفناء للجنيد مخطوط شهيد على رقم 1374 ص 55 : 58 ، نشره الدكتور محمد كمال جعفر فى كتابه التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 303 .
فالاتصال الذى يثبته الجنيد هو اتصال بين الصفات الإلهية وبين الخلق
دون الحلول يقول فى بيان معنى الحديث :(195/22)
( إنما معنى ذلك أنه يؤيده ويوفقه ويهديه ويشهده ما شاء كيف شاء بإصابة الصواب وموافقة الحق ، وذلك فعل الله عز وجل فيه ومواهبه له منسوبة إليه ) (1) .
* معية الله لخلقه فى مجال الصفات دون الذات :
ويرفض الجنيد فهم المعية من خلال الذات ويثبت أنها معية الصفات والأفعال ويفسرها على معنين :
[1] - مع الأنبياء بالنصر والكلاءة ويستدل لذلك بقوله تعالى : { قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى } (2) .
[2] - مع العامة بالعلم والإحاطة ويستدل لذلك بقوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } (3) .
فقصر المعية على الصفات دون أن ينسبها إلى الذات ، وأبطل بذلك القول بالحلول والإتحاد والمماسة أو القول بوحدة الوجود إبطالا تاما (4) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 305 .
2- طه /46 .
3- المجادلة / 7 .
4- الرسالة القشيرية حـ 1 ص44 .
ويذكر السراج الطوسى أن الذى وقع فى القول بالحلول غلط لأنه لم يحسن أن يميز بين أوصاف الحق وأوصاف الخلق ، لأن الله تعالى لا يحل فى القلوب وإنما يحل فى القلوب الإيمان به والتصديق والتوجه له والمعرفة به ، وهذه أوصاف مصنوعاته من جهة صنع الله بهم ، لا هو بذاته أو صفاته يحل فيهم ، ثم يقول : ( والله تعالى موصوف بما وصف به نفسه كما وصف به نفسه ) (1) لقوله تعالى : { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (2) .
ولعل أعمق ما وصلنا عن أوائل الصوفية بشأن الحديث عن صفات الأفعال أقوال أبى محمد سهل بن عبد الله التسترى ، حيث يحاول توضيح مفهوم الربوبية والفاعلية الإلهية من خلال مفهوم الكلام كصفة لله عز وجل (3) وحيث تتم مفعولاته بكلمة كن الإلهية .
فالفرق بين كلام الله وبين كلام الخلق أن كلام الخلق موضوع باتفاق واصطلاح ، وهى صيغة تحدث فى الهواء جزاءا جزا ثم تتقدم وتنفذ ولا تثبت البتة (4) .
ــــــــــــــــــــــــ(195/23)
1- اللمع لأبى نصر السراج الطوسى تحقيق د. عبد الحليم محمود ، طه عبد الباقى سرور ، دار الكتب الحديثة بمصر سنة 1380 / 1960م ص 542 .
2- الشورى / 11 .
3- من التراث الصوفى للدكتور محمد كمال جعفر ص 360 .
4- السابق ص 367 من رسالة الحروف لسهل بن عبد الله التسترى .
فكلام الخلق ليس له وجود ذاتى مستقل عن غيره فلا يبقى بينما كلام الله تعالى أسفر عن أعيان قائمة وأنوار روحانية ساطعة (1) .
ومعنى ذلك أن كلمات الله عز وجل موجودات قائمة فى الوجود باقية بمشيئة الله تعالى ، وهذا القول من شأنه أن يثير لدينا مسألة العلاقة بين صفات الله عز وجل وبين أفعاله حيث قد يُتوهم من أول وهلة أن التسترى يوحد بين الصفة : أى الكلمة ، وبين الفعل : أى المخلوق ، من حيث أن الكلمة : كن تصير بعد أن يقولها الله تعالى لشئ كائنا حسب المشيئة ولكن التسترى يشرح مذهبه بما ينفى عنه هذه الشبهة نفيا تاما فيقول :
إن الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه له صفة انفرد بها عن الأشياء وهى صفة ذاته ويفسرها قوله تعالى : { لم يلد ولم يولد ولم يكن
له كفوا أحد } (2) والثانية هى التى بها فعل وبها أوجد وبها تسمى الله (3) .
وتوضيحا لقول التسترى يقرر الدكتور كمال جعفر أن سهلا يؤكد بهذا القول التفرقة بين صفات الذات وصفة الفعل ، ثم يبين أهمية هذه التفرقة حيال العلاقة بين الله وخلقه بقوله :
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 368 .
2- الصمد / 3 : 4 .
3- السابق ص 368 .
( وعن طريق هذه التفرقة استطاع التسترى بحق أن يثبت وجود علاقة أساسية بين كل المخلوقات وبين الله تعالى من خلال صفاته لا من خلال ذاته ) (1) .
لقد فهم أوائل الصوفية التوحيد بأنه انفراد الله عز وجل بفعل الوجود بنفس الدرجة التى فهموا بها انفراد ذاته بالأزلية ، وبالمثل فسروا الشرك بأنه إشراك فاعل حقيقى آخر معه فى الوجود .
يقول المكى :(195/24)
( وعند أهل المعرفة أن لا فاعل حقيقية إلا الله عز وجل لأن حقيقة الفاعل هو الذى لا يستيعن بغيره لا بآلة ولا سبب ، وعندهم أن فعلا لا يأتى من فاعلين وإلا كان شركا ) (2) .
وهذا الفهم للتوحيد وإن كان يثير مسألة هى جوهر مشكلة القدر والحرية وهى كيف تصدر المعاصى من العباد ؟ ولماذا يحاسبون عليها إن لم تكن فاعليتهم خاصة ومستقلة وحقيقيه ؟
إلا أننا نرجئ ذلك لمبحث آخر فما نود إثباته الآن بيان موقف الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل ويمكن تلخيص موقفهم فى ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 369 .
2- قوت القلوب لأبى طالب المكى حـ 2 ص 12 .
النقاط الآتية بناء على ما تقدم :
1- أوائل الصوفية لا يفرقون بين القدم فى صفات الذات والقدم فى صفات الأفعال .
2- أن الصفات صفات الذات وصفات الفعل هى صفات حقيقية قائمة بالذات وليست هى عين الذات كما هو الحال عند المعتزلة ، ولا الذات علة للصفات كما هو الحال عند الفلاسفة فالصفات لا تخضع للقوانين والأسباب .
3- أن الله متصف بها قبل أن يخلق الخلق ولا يلزم من قدمها وجود مفعولات لا أول لها
4- أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان بإبقاء الله ومشيئته عز وجل فالبقاء ليس من طبيعتهما .
5- أنهم رفضوا القول بالحلول سواء باتحاد النفس بالذات الإلهية أو بجواز حلول الإله فى العالم ، ويثبتون الاتصال بين الإله والخلق من خلال الصفات فقط دون الذات .
6- أن بعض أوائل الصوفية خالفوا ومالوا إلى رأى المعتزلة لكن ما تقدم يمثل رأى الأغلبية .
*** المبحث الثالث ***
إفراد ا لله بالفاعلية أساس عقيدة
القضاء والقدر عند مشايخ الصوفية
يؤسس أوائل الصوفية مفهوم القدر على توحيد الربوبية وإفراد الله بصفاته المطلقة كالعلم والإدارة والقدرة ، بحيث يستحيل حدوث شئ أو فعل بدون علمه أو قدرته يقول القشيرى فى بيان اعتقاد الصوفية :(195/25)
( فلا يخرج عن قدرته مقدور ولا ينفك عن حكمه مفطور ولا يعذب عن علمه معلوم يفعل ما يريد ويذل لحمكه العبيد ولا يجرى فى سلطانه إلا ما شاء ولا يحصل فى ملكه غير ما سبق به القضاء ، ما علم أنه يكون من المحدثات أراد أن يكون وما علم أنه لا يكون مما جاز أن يكون أراد ألا يكون ) (1) .
ولا شك أن ما ذكره القشيرى يعتبر أساسا للعقيدة الصحيحة فى القضاء والقدر ولا يختلف فى كثير أو قليل عن كتاب الله أو اعتقاد أهل السنة والجماعة بالسنة لهذا الأصل الكبير من أصول الإيمان .
ـــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ1 ص51 انظر فى المعنى الذى أورده القشيرى عن الصوفية الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للمحاسبى ص 21 ، 32 سيره الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 344 قوت القلوب حـ 1 ص 125 , 126 ماهية العقل للحارث المحاسبى ص 237 والرعاية لحقوق الله للمحاسبى ص 33 ، 34 .
وعلى الرغم من أن أغلب الطوائف التى خاضت فى قضية القدر والحرية وأفعال العباد يقررون أن كل شئ بقضاء وقدر إلا أنهم يختلفون بعد ذلك حول مفهوم القضاء والقدر اختلافا يتنوع أثره قربا أو بعدا عن عقيدة السلف الصالح .
فكما هو معلوم مما سبق أن الخلاف الجوهرى كائن فى مسألة هامة ورئيسية فى الموضوع وهى مسألة أفعال الشرور والمعاصى ، حيث يبدو للناظر أن القول بنسبة أفعال الشر إلى فاعلة على الحقيقة يعنى خروج هذه الأفعال عن مجال قدرة الله عز وجل وقضائه ، لأنه نهى عنها وأمر بخلافها ، كما يبدو فى نفس الوقت أن القول بنسبة المعاصى إلى القدر الإلهى المحيط الشامل ينسب هذه الأفعال إلى الفاعلية الإلهية على الحقيقة ، وإلى الفاعلية الإنسانية على المجاز ، فيكون الإنسان مسيرا فى أفعاله لا مخيرا وهذا ينفى مسئوليتة ، ومن ثم ينشأ أمام الناظر تعارض بين الجزاء فى الآخرة وبين العدالة الإلهية .(195/26)
هذا هو لب المشكلة التى انقسم بسببها أهل الطوائف المختلفة وهم كما سبق بين طرفين ووسط كل يقرب أو يبعد عن موقف أهل السنة والجماعة ، فماذا كان موقف الصوفية الأوائل ؟
لقد كان الموقف الصوفى لأوائل الصوفية مماثلا لموقف السلف تماما حينما قرروا أن كل شئ بقضاء الله وقدرته حتى أفعال العباد فالله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالربوبية فله الخلق والأمر والملك لايشركه فى ذلك أحد كما قاله سبحانه وتعالى : { لا يملكون مثقال ذرة فى السماوات والأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } (1) .
وقال سبحانه : { ألا له الخلق والأمر } (2) .
ويذكر المكى معقبا أن من شروط صحة إيمان العبد أن يصدق بجميع أقدار الله تعالى خيرها وشرها أنها من الله تعالى سابقة فى علمه جارية فى خلقه بحكمه ، فلا حول لهم عن معصيته إلا بعصمته ، ولا قوة لهم على طاعته إلا برحمته ، وأنهم لا يطيقون ما لهم إلا به ، ولا يستطعيون لأنفسهم ضرا ولا نفعا إلا بمشيئة الله (3) .
وليست معاصى العباد واقعة بقضاء الله ومشيئته وعلمه وحفظه فقط ، بل هى واقعة وحادثة بخلقه أيضا فلا خالق إلا الله ، يقول القشيرى فى بيان اعتقاد الصوفية : فهو سبحانه وتعالى خالق لأكساب العباد خيرها وشرها مبدع ما فى العالم من الأعيان والآثار قلها وكثرها كما قال سبحانه وتعالى :
{ ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- سبأ / 22 .
2- الأعراف / 54 .
3- قوت القلوب حـ 2 ص 126 .
4- طه / 50 .
ويمكن القول أن أوائل الصوفية يجمعون على خلق الله عز وجل لأفعال العباد بما فيها المعاصى حيث يفرد الكلاباذى فصلا بعنوان قولهم فى القضاء والقدر وخلق الأفعال وذلك لأن نقطة الخلاف بين الفرق حول مشكلة الجبر والاختيار أو القدر والحرية ، وصلت خلال القرن الثالث الهجرى إلى مسألة خلق أفعال العباد ، هل هى من خلق الفاعلية الإلهية أو من إحداث الفاعلية الإنسانية ؟(195/27)
وقد اتفق أهل السنة والجماعة على إفراد الله عز وجل بالخلق كأساس للتوحيد فى حين قرر القدرية والمعتزلة نسبة حدوث أفعال العباد إلى فاعليتهم وخاصة المعاصى والشرور (1) وكان ذلك منهم تقريرا للمسئولية وإثباتا للعدل الإلهى .
وفى هذا الفصل يسجل الكلاباذى رأى الصوفية حتى نهاية القرن الرابع الهجرى وأنهم على التمسك بموقف السلف مصرين على إفراد الله عز وجل بالخلق والأمر فيقول :
( أجمعوا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد كلها ، كما أنه خالق لأعيانهم وأن كل ما يفعلونه من خير وشر فبقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ولولا ذلك لم يكونوا عبيدا ولا مربويين ولا مخلوقين ) (2) .
ـــــــــــــــــــــــــ
1- لبيان مذهب المعتزلة فى ذلك ، انظر مقالات الإسلاميين حـ 1 ص 298 .
2- التعرف لمذهب التصوف ص 60 .
فقارن بين الربوبية وإفراد الله بالخالقية من ناحية وبين العبودية بخضوع العبيد لقضاء الله وقدره من ناحية أخرى .
وهو يبرهن على ذلك بأدلة نقلية وعقلية :
1- أما دليله النقلى فيستدل بقوله تعالى : { قل الله خالق كل شئ } (1) وبقوله تعالى : { إنا كل شئ خلقناه بقدر } (2) وبقوله تعالى : { وكل شئ فعلوه فى الزبر } (3) .
ويعلق الكلاباذى على الدليل النقلى بتوضيح وجه الاستدلال فيقول : ( فلما كانت أفعالهم أشياء ، وجب أن يكون الله خالقها ولو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله عز وجل خالق بعض الأشياء دون جميعها ولكان قوله : { خالق كل شئ } كذبا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) (4) .
2- أما دليله العقلى الذى يستدل به على أن الآثار مخلوقة لله عز وجل كالأعيان سواء بسواء فهو يتمثل فى أن الأفعال أكثر من الأعيان فلو كان الله خالق الأعيان والعباد خالقى الأفعال لكان الخلق أولى بالمدح من الله تعالى ولكان خلق العباد أكثر من خلق الله وقد قال الله ـــــــــــــــــــــــ
1- الرعد / 71 .
2- القمر / 49 .
3- لقمر / 52 .
4- التعرف ص 60 .(195/28)
تعالى : { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار } (1) .
فأثبت توحيد الربوبية وإفراد الله بالفاعلية ونفى أن يكون خالقا غيره ، وهذا الدليل العقلى دعا الإمام البخارى رحمه الله أن يفرد له بابا فى كتاب التوحيد من صحيحه فقال : باب { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } (2) .
قال ابن حجر : المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى ، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أندادا لله وشركاء له فى الخلق ، وهو يرد بذلك على الجهمية والمعتزلة مما يعكس بوضوح الوحدة والترابط فى اتجاه الخط السلفى لأوائل الصوفية نحو هذه القضية (3) .
ويثبت سهل بن عبد الله التسترى شمول العلم الإلهى وإحاطته وطلاقة القدرة الإلهية لتشمل كل حدث فى الوجود حتى معاصى العباد بناءا على قوله تعالى :
{ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرعد / 17 وانظر التعرف ص 60 .
2- انظر فتح البارى باب فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون حـ 13 ص 50 .
3- انظر فتح البارى حـ 13 ص 500 وانظر خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطل للإمام البخارى فى المقارنة بمذهب السلف ص 26 : 28 .
4- يس / 82 .
فالكن الأعظم كما يسميها سهل بن عبد الله هى أرادة الله الشاملة المطلقة المحيطة بكل ما سوى البارى تعالى ، وقد عبر الكتور كمال جعفر تعبيرا وجيزا حينما قال عن اعتقاد سهل بن عبد الله : ( فالله جل شأنه عليم لا يخفى عن علمه شئ عادل لا ينسب إليه الجور وهو سبحانه المرجع والمعول فى كل شئ ) (1) .
ويقرر التسترى أن المعاصى شئ ، وكل شئ محدد مقدر ، فالمعاصى هى الأخرى مقدرة ومحددة (2) ولقد حفظ لأكثر شيوخ الصوفية الأوائل ما يفيد إيمانهم بشمول القدر وإحاطته .
يقول ذو النون المصرى : ( ليس فى السموات العلى ولا فى الأرضين السفلى مدبر غير الله ) (3) .(195/29)
بل لقد وصل الإيمان بتوحيد الربوبية وإفراد الله بالخلق والتدبير الإلهى لكل شئ إلى حد اعتبارهم كل شئ مجرد موضوع لأحكام القدرة الإلهية ليس إلا فقد روى عن أبى عثمان المغربى (4) ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى ص 262 . 2- السابق ص 262 .
3- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 35 . 4- هو سعيد بن سلام المغربى من قرية بناحية قيروان يقال لها : كركنت ، أقام بمكة فترة طويلة وكان شيخ الحرم ، سافر إلى نيسابور ومات بها سنة 372 هـ انظر ترجمته فى اللباب فى تهذيب الإنسان حـ 3 ص 36 شذرات الذهب حـ 3 ص 81 تاريخ بغداد حـ 9 ص 112 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 143 الرسالة القشيرية حـ1 ص191 .
وقد سئل عن الخلق فقال : ( قوالب وأشباح تجرى عليهم أحكام القدرة ) (1) .
وجعل الحنيد الإيمان بهذا المبدأ أصلا من أصول التوحيد بل هو مرتبط عنده بمراتب اليقين ، حيث سئل عن التوحيد ؟
فقال : هو اليقين .
فقال السائل : بين لى ما هو ؟
قال : هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك له ، فإذا فعلت ذلك فقد وحدته (2) .
وهذه العبارة الأخيرة تدل على اعتقاد الجنيد فى شرك من ينسب لغير الله تبارك وتعالى فعلا حقيقيا على سبيل الخلق والإحداث ، وذلك لأن التوحيد عنده هو الاعتقاد بانفراد الله عز وجل بالفعل وحده حتى بالنسبة لخلق المعاصى والذنوب وإن كان لا يبيح الاحتجاج بها على القدر .
والجنيد ومعه سائر المعتدلين من أوائل الصوفية لا يقصدون بإفراد الله عز وجل بالفاعلية كشرط للتوحيد مجرد الاعتقاد النظرى فى هذا المبدأ بل هو يعنى الحياة العملية والسلوكية التى يعبد الله بها ويتحرر له ممن
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 38 .
2- السابق حـ 1 ص 40 .
سواه وفق هذا المبدأ علاوة على الاعتقاد النظرى ، وقد عبر الجنيد عن ذلك لما سئل عن توحيد الخاصة فقال :(195/30)
( التوحيد هو أن يكون العبد شبحا بين يدى الله ، تجرى عليه تصاريف تدبيره ، فى مجارى أحكام قدرته فى لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوى الخلق له ) (1) .
وهذا الفناء ليس فناء ذات العبد فى ذات الله فقد ثبت عنه فيما سبق النفى القاطع لهذا المفهوم (2) وإنما يقصد فناء إرادة الصوفية فى إرادة الله الشرعية بالطاعة التامة له ، وفناء شعور العبد بأى باستطاعة أو قوة أو حول ذاتى له ، لتيقنه أن كل الحول والقوة لله عز وجل وحده ثم صدور السلوك من العبد موافقا لهذا اليقين ونابعا منه ومبينا عليه .
هذا هو لب التوحيد عند الجنيد وأغلب الأوائل من مشايخ الصوفية الذين تمسكوا بالكتاب والسنة .
غير أن التوحيد عند الصوفية يتميز عن مفهوم التوحيد عند المتكلمين والفلاسفة بشرط هام وضعهوه لأنفسهم ، وهو الاستجابة السلوكية الموافقة له علاوة على عدم مخالفته لأصول الإيمان فى الكتاب والسنة .
لقد كان تأكيد الجنيد على ضرورة القول بخلق الله عز وجل وفعله لكل شئ حتى معاصى العباد كتاكيده هو وأغلب الصوفية فى عصره ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ1 ص 40 .
2- انظر ص 106 .
بإفراد الله بالأزلية سواء بسواء ، فيعرف الموحد بأنه ما لم يشرك مع الله أحدا فى تدبيره وحكمه وعلمه وأمره وقضائه وخلقه ورزقه وعطائه ومنعه كما قال تعالى تهديدا لمن أشرك معه غيره فيما له : { واعلموا أن الله برئ من المشركين ورسولُه } (1) .
ويقول : ( من أشرك مع الله فيما لله غير الله فالله ورسوله بريئان منه ) (2) .
وهكذا جعل الجنيد إفراد الله عز وجل بالخلق وشمول التدبير أصلا من أصول التوحيد تؤدى مخالفته إلى الشرك ، سواء كان ذلك شركا جليا أو خفيا إلا أنه عقب على القول السابق بما يدل على أن خفاءه دقيق يلزم منه الاحتياط والتمييز فى القول والفعل فأورد حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى قال فيه :(195/31)
( الشرك أخفى فى أمتى من دبيب النمل على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التوبة / 3 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 96 .
3- الحديث أخرجه أبو بعلى ص 19 ، 20 انظر مسند أبى يعلى طبعة المكتب الإسلامى ، وابن المنذر فى الدر المنثور حـ 4 ص 541 ، ورواه أحمد فى المسند حـ4 ص 403 وزاد فى الدر المنثور : ( الشرك أن تقول : أعطانى الله وفلان ، والند أن يقول الانسان : لولا فلان لقتلنى فلان ) .
وينسب الواسطى أفعال العباد جميعا إلى فاعلية الله عز وجل فيقول :
( لما كانت الأرواح والأجساد قائمة بالله وظهرت لا بذواتها كذلك قامت الخطرات والحركات بالله لا بذواتها ، وإذا كانت الحركات فرع عن الأجساد والخطرات فرع عن الأرواح ، فإن أكساب العباد كلها مخلوقه لله ) (1) .
ويعلق القشيرى على هذا الكلام بقوله : صرح بهذا الكلام أن أجساد العباد مخلوقة لله عز وجل فكما أنه لا خالق للجواهر إلا الله فكذلك لا خالق للأعراض إلا الله (2) .
ويلاحظ الباحث بوضوح التزام أغلب مشايخ الصوفية الأوائل بالمنهج القرآنى فى ذلك ، حيث وحدوا الله وأفرادوه بالخلق والتدبير مما يفتح باب الإيمان بالمعجزات والكرامات حيث يصبح تفسير الأمور الخارقة للعادة والسنن الجارية بنسبتها إلى الربوبية كنسبة الأمور الموافقة للسنن سواء بسواء ، ومن ثم يزداد المؤمنون إيمانا برؤيتها وإن كانوا يتلقونها كما يتلقون الأمور الموافقة للسنن باعتبار أن الجميع من فعل الله وليس من فاعل غيره ، بل قد يحصل لصاحب هذا التصور عن طرق التأمل والاعتبار نتائج معينة وحقائق إيمانية تتصل بالآيات الكونية الجارية بمقتضى السنن بنفس الدرجة التى يحصل عليها من مشاهدة المعجزة
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 2 ص 38 .
2- السابق حـ 2 ص 38 .(195/32)
وربما كان ما يحصل من السابق أكثر مما يحصله من اللاحق كما قال تعالى : { إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات وا لأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } (1) .
مما تقدم نصل إلى أن الصوفية قد استطاعوا بحسب الاعتقاد الذى أسسوا عليه مفهوم التوحيد إرساء الأسس الفكرية الحقيقية التى يمكن أن يقوم عليها مفهوم الربوبية والفاعلية الإلهية خالصة من كل قيد رافضين أدنى ضرورة على فعله سبحانه وتعالى ، فأكدوا بذلك على طلاقة المشيئة والفاعلية الإلهية إذ أنها الأصل الذى ينبنى عليه مفهوم القضاء والقدر فى الإسلام .
ولاشك أن ذلك سيكون له أثره الواضح فى وصول هؤلاء الشيوخ إلى التصور الصحيح للقضاء والقدر واتخاذ الموقف الصحيح إيزاءه .
ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران 190 / 191 .
*** المبحث الرابع ***
مراتب الإيمان بالقدر عند مشايخ الصوفية
سبق فى المبحث الثالث أن الصوفية يؤسسون مفهوم القدر على صفات الله المطلقة وإفراده بالربوبية والخلق والتدبير , وفى هذا المطلب يدور البحث حول المراتب المتدرجة التى بها يكون السبيل لظهور الأشياء أو العالم إلى الوجود .
وهنا نجد أن أوائل الصوفية سلكوا طريقا يعتمد على الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية إيزاء هذه القضية ، فالشيخ الكبير سهل بن عبد الله التسترى يقرر فى مراتب الإيمان بالقدر أنها تبدأ بالعلم ثم الكتاب ثم القضاء والقدر،ولا يخرج الخلق من القدر ، والعلم الأصل لا يخرج منه أحد ، والكتاب فيه يمحو ما يشاء ويثبت ، والقضاء هو الحكم الذى يثبت ، والقدر إظهاره فى الخلق (1) .(195/33)
[1] - فأول هذه المراتب التى ذكرها سهل بن عبد الله التسترى هى العلم ويقصد به علم الله الذى أنشأ فيه المخلوقات فى الأزل ، فهو العلم المحيط الشامل بكل شئ من الموجودات ، وعلم ما كان وما يكون من الخلق قبل أن يخلقهم وعلمه تعالى بأرزاقهم وآجالهم
ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا ومذهبا وتجربة للدكتور محمد كمال جعفر ص 276 نقلا عن الشرح والبيان لما أشكل من كلام سهل لأبى القاسم الصقلى مخطوط رقم 727 كوبرولو بتركيا ص 211 أ .
وأحوالهم وأعمالهم فى جميع حركاتهم وسكناتهم وعلمه تعالى بأهل الشقاوة والسعادة أو أهل الجنة والنار (1) .
والعلم عنده صفة ذاتية لله سبحانه قديمة أزلية وباقية ببقائه ، والمشيئة عنده تلى العلم فهى أقرب صفة من الذات بعد العلم ومن ثم فهى مرتبة تلى العلم (2) بيدأ أن العلم والمشيئة سران لله عز وجل لا يطلع عليهما أحد من خلقه ولا يوجد شئ مطلق خارج العلم المحيط ولا يقع أى شئ إلا بالمشيئة المطلقة ، وهما سران لأنهما صفتان قديمتان للذات .
قال سهل بن عبد الله : ومعنى { رب العالمين } سيد الخلق المربى لهم والقائم بأمرهم ، المصلح المدبر لهم قبل كونهم وكون فعلهم المتصرف لهم لسابق علمه فيهم كيف شاء لما شاء ، وأراد وحكم وقدر وشرع من أمر ونهى لا رب لهم غيره (3) .
ويلى العلم والمشيئة ، الإرادة والقدرة وهما ليسا سرين كالعلم والمشيئة لأنهما من صفات الأفعال ، ولذلك فإن آثارهما وما يتم بهما ظاهر فى الوجود فهما علنيان باديان ، بيد أن ثمة فرق بينهما وهو أن
ــــــــــــــــــــــــ
1- تفسيرالقرآن العظيم لأبى محمد سهل بن عبد الله التسترى ص 16 طبعة ، دار الكتب العربية الكبرى مصر ص 113 .
2- السابق ص 9 .
3- السابق ص 7 وانظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث بن أسد المحاسبى ص 31 .
الإرادة تسبق القدرة فى الأثر لا فى الوجود (1) .(195/34)
[2] - المرتبة الثانية لظهور الأشياء إلى الوجود هى الكتابة ، وفيها تسجل الأحكام الصادرة بمشيئة الله فى الكتاب وعند ذلك يتم القضاء الغيبى الذى يتحول بالخلق والإنشاء إلى قدر ، فالأحكام الإلهية الصادرة بمقتضى المشيئة هى ما دون فى الكتاب وهو مظهر للإرادة ، وهذه الأحكام قابلة للمحو والإثبات لا من حيث ذاتيتها ولكن من حيث وسائل تنفيذها واتخاذها المكان المناسب للظهور ولا يكون التغيير فى قدر الله تعالى حيث يتحدد القدر بالعلم والمشيئة وهما صفتان للذات فلا يجوز التغيير فيهما (2) .
سئل سهل بن عبد الله عن معنى قوله تعالى : { وإياى فاتقون } قال : أراد بذلك وصولهم إلى موضع علمه السابق فيهم ، لعمرى إن المعرفة أدرجت فى أوطانها ليجرى عليهم ما كان من علم الله سابقا فيهم ، فلا بد من إظهاره على أوصافه ) (3) .
فالقضاء والقدر بعد الإرادة ، والمحو والإثبات يكون فى التدوين ومن ثم يكون سبيل ظهور الأشياء فى الوجود أو خروجها إليه متدرجا بحيث يبدأ بالعلم ثم الكتاب ثم القضاء والقدر .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 725 .
2- السابق ص 725 وانظر فى معنى كلام التسترى قوت القلوب حـ1 ص127.
3- التفسير، لسهل بن عبد الله ص 12 .
ويستدل المكى على هذه العقيدة السابقة بالأدلة النقلية ويورد الآيات التى تدل على العلم السابق كقوله تعالى :
{ قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } (1) .
ثم يقول بعدها :
( وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : سبق العلم وجف القلم وقضى القضاء وتم القدر بالسعادة من الله تعالى لأهل طاعته وبالشقاء من الله تعالى لأهل معصيته ) (2) .(195/35)
كما يستدل التسترى بقوله تعالى : { كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (3) على أنه إذا كان فى علمه السابق الأزلى أمر قضاه فأراد إظهاره فى القدر قال له كن فيكون يضيف قائلا (4) :
ـــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 33 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 126 ، والحديث ثابت بمعناه وبألفاظ أخرى كثيرة انظر صحيح البخارى كتاب الجنائز ، باب موعظة المحدث عند القبر حـ 2 ص 120 ومسلم فى كتاب القدر ، باب الخلق برقم (2647) والترمذى فى كتاب التفسير باب من سورة الليل برقم (3341) وابن ماجه فى المقدمة ، باب القدر برقم (78) والنسائى فى كتاب الجنائز ، باب الصلاة على الصبيان حديث رقم (1949) .
3-آل عمران / 47 .
4- تفسير القرآن لسهل بن عبد الله ص 25 .
قضى قبل خلق الخلق ما هو خالق : خلائق لا يخفى عليه أمورها
هواها ونجواها ومضمر قلبها : وقبل الهوى ماذا يكون ضميرها
1- فالعلم هو الأصل الذى لا يخرج منه أحد ولا يخالف فى الكون حادث فكل ما هو كائن وما سيكون مطابق لما فى العلم .
2- وأما الكتاب فهو ما يسجل فيه العلم ، وما يتم من محو وإثبات فهو فى علم الله الشامل ومدون فى الكتاب أنه سيمحى أو سيثبت .
3- وأما القضاء فهو الذى يثبت بعد مرحلة المحو والإثبات ويستصدر منه الحكم الإلهى فى تكوين شئون المخلوقات .
[4] - أما القدر فهو إظهاره فى الخلق حيث أن العلم والمشيئة هما أصل القضاء والقدر فإن الله يخلق ما يشاء ويختار ، فيخص البعض بالفضل دون البعض ، ويصطفى فى الخلق من مخلوقاته وعباده من يشاء دون أن يكون من العبد سبب ، لكى يعرف هذا الفضل ويدعوا هذا حتى يتفضل عليه بما تفضل على غيره وإذ أعطى الله عبدا ولم يعط أخر فليس هذا ظلما منافيا للعدل الإلهى لأنه لم يمنعه شيئا هو له (1) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا ومذهبا وتجربة ص 276 .(195/36)
ويذكر الدكتور جعفر فى كتابه التصوف أن أوائل الصوفية وعلى رأسهم سهل بن عبد الله لا يقبلون أى مذهب فى القدر إلا أن يفى بالمبادئ الآتية (1) :
1- علم الله فى الأصل .
2- عدله فى الفرع .
3- سلطانه فى النهاية .
4- عدم الاسغناء عنه فيما بين ذلك .
وإذا كانت المشكلة الصعبة التى واجهت الفكر البشرى هى كيفية انتقال العالم من كونه معلومة فى علم الله المحيط الشامل ، وكونه مرادا له بالمشيئة المطلقة إلى كونه موجودا فى العيان وكذلك الأمر بالنسبة للشئ الجزئى ، فإن سهل بن عبد الله قد وضع حلا لهذه المسألة لا ينقصه العمق والتوفيق الى حد كبير ، مع حرص التسترى على الالتزام بآيات القرآن الكريم .
وهذا الحل يعبر فيه سهل بن عبد الله عن آيات الخلق القرآنية بكلمة كن ولكى نتعرف على الحل علينا أن نتذكر تفريق سهل بن عبد الله الذى سبق فى المبحث الثانى بين صفات الذات وصفات الفعل من ناحية ، وتفريقه تبعا لذلك بين علم الله اللانهائى كصفة ذاتية وبين ــــــــــــــــــــــــ
1- الشرح والبيان لما أشكل من كلام سهل بن عبد الله ص 211 تقلا عن السابق ص 276 .
مراداته ومعلوماته المنفصلة عن غيبه أى المنفصلة عن علمه المحيط بإرادته من ناحية أخرى ، ومن ثم فإن هذا المنفصل عن العلم اللانهائى محدود باعتبار دخوله الزمان .
وأساس هذا الحل أن التسترى فهم كلمة كن الالهيه التى نقلت مراد الله من الغيب الى الشهادة على نحوين :
الأولى : الكن الأعظم .
الثانية : الكن الخاصة لكل موجود جزئى .
وتعبر الأولى فى مفهوم التسترى عن مشيئة الله وعلمه الكلى للمخلوقات ، وكل موجود جزئى له كن الخاصة به ، وكلمات الله بهذا المعنى أدت إلى ظهور المخلوقات فى الوجود خلال الزمان ، وإن كانت كلمات الله قديمة ويسميها التسترى القوة المفصلة أى المظهرة للمخلوقات .(195/37)
فعلم الله المحيط بالمخلوقات ومشيئته الكلية للموجودات هى الكن الأعظم وإرادته وقدرته بالنسبة للشئ الجزئى هى الكن المفصلة للشئ المظهرة إياه فى الوجود المحققة له فى العيان .
وعلاوة على أن هذه الفكرة كانت أساسا للتفريق بين فاعلية الله عز وجل وأثار هذه الفاعلية أى المخلوقات ، فإنها تعتبر فى نفس الوقت حلا ناجحا للمشكلة العويصة التى نحن بصددها وهى كيفية نزول الأمر الإلهى القديم ثم تحققه فى الواقع الحادث ؟
وذلك لأن حدوث الشئ أو نفاذ الحدث فى الكون ليس بمقتضى مشيئة أولى للإله ثم بمقتضى الأسباب بعد ذلك وإنما هو بمقتضى إرادة إلهية خاصة لكل حدث أو لكل شئ فى الكون ، فكل شى وكل حدث من فعل الله عز وجل ومن خلقه وليس للأسباب أو الاستطاعات المخلوقة أى دور فى الخلق والإحداث سوى أنها أدوات للقدرة الإلهية وهذا ما جعل مفهوم التوحيد عند أوائل الصوفية مفهوما راسخا يعبر عن العقيدة الاسلامية فى القضاء والقدر (1) .
وقد تقدم فى المبحث السابق قول الجنيد : ( التوحيد هو اليقين وهو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك فإذا فعلت ذلك فقد وحدته ) (2) .
ولقد عبر التسترى بتفصيله السابق فى انتقال المقادير من الغيب إلى الشهادة عند عقيدة القرآن والسنة فالكن الأعظم فى مفهوم التسترى تعبر عن علم الله ومشيئته فى تقدير أمر المخلوقات ، وهو ما دون فى اللوح المحفوظ من نوعى التقدير الأزلى والميثاقى .
قال تعالى : { ألم تر أن الله يعلم ما فى السموات والأرض إن ذلك فى كتاب إن ذلك على الله يسير } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى للدكتور كمال جعفر ص 258 بتصرف .
2- انظر ص 119 .
3- الحج / 70 .
وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم إلا فىكتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } (1) .(195/38)
قال ابن كثير فى تفسيره : ( يخبر سبحانه وتعالى عن قدره السابق فى خلقه قبل أن يبرأ البرية أنه ما من مصيبة تحدث فى الآفاق أو فى النفوس إلا كتبها فى اللوح المحفوظ ، وقوله : { من قبل أن نبرأها } أى من قبل أن نخلق الخليقة (2) .
ثم أورد حديث مسلم : ( قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء ) (3) .
وفى حديث أبى داود : ( أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال : رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شئ حتى تقوم الساعة ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديد / 22 : 23 .
2- تفسير القرآن العظيم لابن كثير حـ 4 ص 314 .
3- الحديث رواه مسلم فى القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام برقم (2653) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 169 والترمذى فى القدر برقم (2156) والبيهقى فى الأسماء والصفات ص 374 .
4- رواه أبو داود فى كتاب السنة ، باب القدر رقم الحديث (4700) والحاكم فى المستدرك حـ 2 ص 454 ، والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 7 ص 190 والحديث صححه الشيخ الألبانى انظر صحيح الجامع حديث رقم (2014) .
فدلت الآيات والأحاديث على أن الله تبارك وتعالى قدر كل شئ سيحدث فى الكون سواء كان خلقا أو فعلا ، وسواء كان الفعل جبريا أو اختياريا ، إضافة إلى أن ذلك مكتوب ومدون تدوينا سابقا على الحدوث فى التقدير الأزلى واللوح المحفوظ .
وأما مراد التسترى بالكن الخاصة لكل موجود جزئى فيطابق أنواع التقدير والتدوين الأقل عموما من الكن الأعظم أو التقدير الأزلى والكلى للمخلوقات .
[1 ــ سواء كان تقديرا خاصا بعمر كل إنسان عند خلقه فى الرحم كما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أم سعيد ) (1) .(195/39)
[2 ــ أو كان تقديرا أخص حيث تدون فيه المقادير سنويا مما يخص أحوال العباد كما جاء فى قوله تعالى :
ـــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد ، باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين برقم (7454) ومسلم فى كتاب القدر باب كيفية خلق الأدمى فى بطن أمه برقم (2643) والدرامى فى الرد على الجهمية ص 81 ، وأبو داود برقم (4708) والترمذى برقم (2137) وأحمد فى المسند حـ 1 ص 382 .
{ إنا أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا عندنا أنا كنا مرسلين } (1) فيها يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وغير ذلك من تقديرات (2) .
[3 ــ أو كان تقديرا يوميا أخص مما تقدم من أحوال التقدير الجزئى كما جاء فى قوله تعالى : { يسأله من فى السماوات والأرض كل يوم هو فى شأن } (3) .
ويروى ابن جرير الطبرى فى معنى قوله : { كل يوم هو فى شأن } حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سئل ما ذاك الشأن ؟ فقال :
( أن يغفر ذنبنا ويفرج كربنا ويرفع أقواما ويضع آخرين ) (4) .
ويذكر ابن كثير أن هذا الحديث روى موقوفا وقد ذكره البخارى على أنه من كلام أبى الدرداء .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الدخان / 4 .
2- هكذا روى عن ابن عمر ومجاهد وأبى مالك والضحاك وغير واحد من السلف انظر فتح القدير للشوكانى حـ 4 ص 570 .
3- الرحمن / 29 .
4- انظر تفسير ابن جرير الطبرى حـ 6 ص 113 .
يقول ابن كثير : وبهذا المعنى فسر جمهور السلف الآية (1) .
وكل هذه المعانى تؤيد رأى التسترى فى نزول الأقدار على ضربين ضرب عام وضرب خاص .
لقد أقر أوائل الصوفية بأخص خصائص الربوبية فى القرآن الكريم وهو انفراد الله سبحانه وتعالى بالعلم الأزلى اللانهائى والمشيئة المطلقة حتى وصف بعض الصوفية مشيئة الله المطلقة لكونها مع العلم سران للذات ، وصفوها بأنها عرش الذات (2) .(195/40)
وذلك مع اعتقادهم أنه من كمال الربوبية اللائقة به مباشرة الله سبحانه وتعالى للكون المخلوق بإرادته وتنظيمه سواء كان لكل موجود على حدة أو للعالم أجمع ، وذلك يتم بقدرته وأمره النازل إلى العباد فى حياتهم الزمنية .
فأمر الله سبحانه وتعالى إنما ينزل بمقتضى إرادة إلهية لكل حدث أو لكل شئ فى الكون ، فكل شئ وكل حدث من فعل الله عز وجل ومن خلقه وليس للأسباب أو الاستطاعات المخلوقة أى دور فى الخلق والإحداث ، إلا باعتبار الغاية من خلقها ، فوجود العلل الغيبية أو العلل الطبيعية ليس سوى أدوات وآلات للقدرة الإلهية يتم بها قضاء الله ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير حـ 4 ص 273 ، وفتح القدير الشوكانى حـ 5 ص 139 ، وزاد المسير فى علم التفسير لابن الجوزى حـ 8 ص 32 .
2- انظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 275 .
وقدره ، وهى جميعا جنود لله تعالى تفعل بمشيئته وفاعليته دون استقلالها عن المشيئة والقدرة الإلهية ، هذا مع قدرته تعالى على الفعل بدونها كالفعل بها سواء بسواء .
ويذكر المكى أننا لا يمكن عقلا أن ننسب لمن يضرب بالسوط الضرب للسوط دونه ، وإنما الفعل منسوب للفاعل لأن السوط ليس سوى أداة يصدر تأثيره عنه حسب قصد الفاعل وإرادته (1) .
وبذلك يمكن القول أن الصوفية تجنبوا الإلزامات الشنيعة التى ترتبت على مفهوم القدر عند الفلاسفة العقليين كابن سينا حيث جعل مفهوم القدر هو إيجاب الأسباب للمسببات ، فزعم فى رسالته سر القدر أن فعل الإله لا يتم إلا بالأسباب والمسببات وهذه الأسباب والمسببات مقدرة ومرتبة ومنظمة منذ الأزل (2) .
وذلك يعنى أن كل ما يحدث وما سيحدث لازم وفيه حتمية لنفاذ القضاء ، وعدم جوازه تغييره وتلطيفه أو محوه وإثباته .(195/41)
وهذا التصور يجعل الأسباب والاستطاعات الحادثة مشاركة لله فى فعله وخلقه ، بل وصل الأمر بهؤلاء الفلاسفة إلى عزو الخلق والربوبية للأفلاك والكوكب والأجرام السماوية دون الله (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .
2- رسالة فى سر القدر ص 3 : 7 .
3- القضاء والقدر فى الاسلام للدكتور فاروق الدسوقى حـ 1 ص 386 .
ويذكر الدكتور كمال جعفر أن هذا ما رفضه الصوفية الأوائل وعلى رأسهم سهل بن عبد الله حيث أدى فهمه لكلمة كن على هذين النحوين السابقين إلى حل جذرى لهذه المشكلة ، فهو علاوة على إثباته القدر الشامل المحيط فإنه يثبت أيضا العناية الإلهية للكون شامله ومحيطه ويثبت الربوبية أو الفاعلية كاملة مطلقة للكلى كما هى للفردى والجزئى سواء بسواء ، فيتغير بذلك مفهوم العلاقة بين الفاعلية الإلهية والأسباب الطبيعية تماما بحيث تصبح هذه الأسباب مفعولة وليست فاعلة ، ومخلوقة وليست خالقة .
وهذا هو مفهوم القدر عند الصوفية وفى الإسلام حيث أطلق القرآن الفاعلية الإلهية وأثبت حكم الله عز وجل لقدره وهيمنته على سننه فإثبت الله عز وجل لنفسه المحو والإثبات فى القضاء على نحو لا ينسب له التغيير فى القدر أو فى علمه وصفاته وذلك فى قوله تعالى :
{ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } (1) .
يقول الدكتور جعفر بعد ذلك : وهذا يدع مجالا واسعا لتأكيد فكرة الإحتمال وتفنيد الحتمية الصارمة وهو ما يعنيه بعضهم من قوله عن الله عز وجل : ( يمحو الأسباب ويثبت الأقدار ) (2) .
وإذا عدنا إلى المبادئ الصوفية الأربعة لحل مشكلة القدر نجد أن ــــــــــــــــــــــــ
1- الرعد / 39 .
2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 275 .
الدكتور جعفر يفسر الأول بقوله : ( إن الله جل شأنه عليم لا يعزب عن علمه شئ ) فيجعل علمه فى الأصل هو شمول العلم ولا نهائيته .(195/42)
والثانى بقوله : ( عادل لا يمكن أن ينسب إليه الجور ) ففعل الإنسان لمعاصيه نابع من ذاته وإن كان هذا الفعل من خلق الله عز وجل ككل شئ فى الوجود .
ويفسر أيضا المبدأين الثالث والرابع بقوله : ( وهو سبحانه المرجع والمعول فى كل شئ ) (1) .
فليس ثمة مشكلة كما مر بنا بالنسبة لخضوع كل شئ فى الكون لقدر الله المحيط ، ولكن المشكلة بالنسبة للإنسان الذى يترتب على سلوكه حساب فى الآخرة ثوابا وعقابا ، فماذا يقول سهل بن عبد الله بالنسبة للمعاصى والشرور الإنسانية هل هى من قدر الله وقضائه أم لا ؟
وهنا يتفق التسترى مع سائر السلف فى إثبات عموم القدر حتى يشمل أفعال العباد والسلوك الإنسانى الخلقى بما فى ذلك المعاصى ويستخدم التسترى لفظ القيام ليعبر به عن سلطان الله ونفاذ أمره وانطلاق صفاته وهو يستمد هذا المصطلح من القرآن الكريم حيث يقول تعالى فى سورة الرعد :
{ أمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى للدكتور كمال جعفر ص 249 .
2- الرعد / 33 .
فقيام الله عز وجل على كل نفس بما كسبت سواء كان خيرا أو شرا طاعة أو معصية هو تفسير للمبدئين الثالث والرابع من مبادئ القدر عند الصوفية وهو سلطانه فى النهاية وعدم الاستغناء عنه فيما بين البدء والمنتهى (1) .
ومن ثم تكون معاصى العباد بقدر الله وخلقه وليست واقعة بغير مشيئته أو مخالفة لإرادته التكوينية ، والتسترى يدخل أية الإشهاد فى مفهوم القدر حيث يقول : ( خلق الله الخلق على معرفته وابتلاهم بنفسه ) (2) فيفهم الإشهاد فى قوله تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } (3) أن الله ابتلاهم بنفسه فى عالم الذر وزودهم بذلك بإيمان فطرى ثم أرسل لهم الرسل بقوله تعالى :
{ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (4) .
وقوله : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } (5) .(195/43)
فاتصل العلم السماوى النازل بالوحى ، بالعلم الفطرى المغروس فى النفوس بالإشهاد ، وهو سبحانه وتعالى قبل ذلك قد قهرهم بقدرته ـــــــــــــــــــــــ
1- السايق ص 251 .
2- السابق ص 258 بتصرف .
3- الأعراف / 172 .
4- الإسراء / 15 .
5- المائدة / 48 .
وانفذ فيهم مشيئته وأجرى عليهم أحكامه وهو القائم عليهم بملكه فإذا انصرف الإنسان عن إيمانه الفطرى باختياره فهو بالأمر الكونى لله عز وجل ، والله مقيم على نفسه بما كسبت من كفر ومعصية ويدين الإنسان على أنه اكتسب الكفر باستطاعته واختياره وذلك ما سنعرضه تفصيلا فى الباب الثالث إن شاء الله .
ولكن هذه الاستطاعة وهذا الاختيار كفيلان بإدانة الإنسان ومسئوليته عن فعله الخلقى ، وإذا كان خلق الفعل لله فإن النية التى هى مصدر الخير والشر فى الفعل منسوبة عند سهل بن عبد الله أصالة للعبد وعليها يجازى بذلك (1) .
مما يدفعنا إلى دراسة الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية فى الفصل الثانى من هذا الباب ، ولاشك أن هذه المبادئ الأربعة التى بنى عليها الصوفية الأوائل مفهومهم للقدر نابعة من التوحيد الخالص ولا تختلف عن اعتقاد السلف الصالح أهل السنة والجماعة .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر السابق ص 258 بتصرف .(195/44)
الفصل الثانى
الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية عند الصوفية
وقد اشتمل على خمسة مباحث
المبحث الأول : مفهوم الذا ت الإنسانية عند أوئل الصوفية .
المبحث الثانى : الإرادة الحرة وأصالتها فى الذات الإنسانية .
المبحث الثالث : دوافع الإرادة وبوعثها عند الصوفية .
المبحث الرابع : موضوع الاختيار البشرىومجاله عند الصوفية
المبحث الخامس : العلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة
الإنسانية الحادثة .
*** المبحث الأول ***
مفهوم الذا ت الإنسانية
عند الصوفية
سبق القول بأن أوائل الصوفية يقررون أن كل شئ بقضاء وقدر حتى أفعال العباد ومعاصيهم ، فهى مخلوقه لله سبحانه وتعالى ، وفى هذا الفصل نرى موقفهم من أصالة الحرية فى الذات الإنسانية ، فهل يعنى ما سبق فى الفصل الأول أن الإنسان محمول على فعله مجبر فيه مستكرة عليه أم أن له اختيارا وقدرة يلزم منهما وجود المسألة والحساب فى الدنيا والآخرة ؟!
هذا ما سنعرفه من مادة البحث فى هذا الفصل ، ونبدأ أولا بعرض نظرة الصوفية الأوائل لمفهوم الذات الإنسانية حتى نتمكن من تحديد مكانة الإنسان عندهم .
فالصوفية الأوائل كان لهم من الذات الإنسانية موقفا يختلف عن المذاهب الفلسفية والنظرية ، وذلك لأنهم لم يطلبوا معرفة نظرية للنفس على غرار مقصد الفلاسفة ومنهجهم ، بل اهتموا بالمعرفة التى لا غنى عنها للنفس لتقديم السلوك الخلقى واجتياز الطريق إلى الله ، ولذلك كان لهم موقفا أكثر من كونه دراسة ومذهبا لها ، يقول الدكتور أبوالوفا التفتازانى :
( إن أسمى غايات التصوف إنما تكمن فى تهذيب النفس وضبط الإرادة على منهج العبودية وإلزام المرء بمكارم الخلاق حتى ينفسح الطريق أمام السالكين نحو ربهم ليصللوا إلى مرضاته فى الدنيا والآخرة ) (1) .(196/1)
ومع ذلك فإن هذا الموقف ينبثق عندهم بالضرورة من مفهوم خاص للنفس وخصائصها وينبنى عليه تعامل خاص للصوفى مع نفسه ، كما يمكن القول بأن الموقف الصوفى من الذات الإنسانية ظهر منه فى النهاية مذهب خاص فى النفس ، سرى فى كتاباتهم وركزوا عليه باهتمام بالغ إذ كانت النفس الإنسانية شغلهم الشاغل ومراقبتها دأبهم المستمر .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مدخل إلى التصوف الإسلامى د . أبو الوفا التفتازانى ص 9 طبعة دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة سنة 1983م .
قلت : كلام التفتازانى محمول على الصوفية الأوائل لأنه إذا كانت هذه غاية التصوف عند المعاصرين من الصوفية ، فما موقف الدكتور التفتازانى من الطرق الصوفية بما حوته من أمور الشرك والعكوف على قبور الصالحين فى كل مكان واتشار البدع بكل أشكالها وأنواعها وهو شيخ مشايخ الطرق الصوفية ؟! وما موقفهم من المخالفات الصريحة التى لا يختلف عليها اثنان من وجود الأضرحة والقبور فى المساجد فى المدن والقرى ودعائها وعبادتها بالقلب والسان والجوارح ؟! هل هذه الأفعال توصل إلى مرضاة الله ؟! وهل الغاية من التصوف عند الأوائل هى ما يسعى إليه هؤلاء الجاهلون الذين يعملون لتدمير الإسلام فى قلوب الناس بالإصرار على هذا الشرك وتلك البدع ؟!
وقد غلب عليهم إثبات جانبين للنفس الإنسانية :
أحدهما : حسن طيب .
والآخر : شرير قبيح .
وهذا المبدأ ينبثق عندهم من قوله تعالى : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } (1)
ولكن يبدو أن عناية الأوائل بجانب الفجور والهوى ومكمن الشهوات فى النفس كان أعظم من عنايتهم بجانب التقوى حتى يمكن القول إن بعضهم تناسوا هذا الجانب وتجاهلوه ، وليس ذلك من قبيل الحط من شأن النفس وطبيعتها والإجحاف بما فيها من خير ، ولكن من قبيل البعد عن مزالق الغرور وبقصد إنكار الذات والرجوع بالفضل كله لله عز وجل ، ولذلك بين القشيرى مراد الصوفية بالنفس فى قوله :(196/2)
( فهم إنما أرادوا بالنفس ما كان معلولا من أوصاف العباد ومذموما من أخلاقهم وأفعالهم ) (2) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- الشمس / 8 1 وانظر تاريخ التصوف الإسلامى للدكتور قاسم غنى ص421 ترجمه عن الفارسية صادق نشأت ، طبعة النهضة المصرية القاهرة سنة 1390هـ .
2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 44 لاشك أن النفس المذكورة فى القرآن وصفت بأنها مطمئنة تارة ولوامة تارة وأمارة بالسوء تارة أخرى فليست كلها شر وإن كان أوائل الصوفية يلحقون النفس المطمئنة بالروح الممثلة لجانب الخير إلا أن الالتزام بالنص القرآنى أولى .
ويصور الهجويرى النفس البشرية على أنها حيوان دنىء يجب على الصوفى أن يحذر منه فيقول :
( النفس كلب باغ وجلد الكلب لا يطهر بالدباغ ) (1) .
ولقد عرض الدكتور كمال جعفر مفهوم النفس عند سهل بن عبد الله التسترى باعتباره معبرا عن مذهب أغلب الصوفية فى القرن الثالث الهجرى ، بل يعتبر مذهبه تفسير للمبدأ الأساسى الذى فهم معظم الصوفية بعده الذات الإنسانية من خلاله ، فهو يقرر أن مصدر الخير فى الإنسان هو روحه ومصدر الشر والهوى نفسه ، وكل منهما ينقسم إلى مراتب ، ولا يعنى ذلك انقسام الذات الإنسانية ، بل هى ذات واحدة بدرجات متعددة ، فالروح عليا وسفلى وأسمى نقطة فى الروح يسميها الروح النورى ذات الأصل الإلهى المباشر ، وأسفل نقطة فى الروح يمنحها هذا الصوفى يسميها تسمية غريبة وهى نفس الروح أى النقطة التى تنتهى عندها الروح وتبدأ بعدها أوصاف النفس (2) .
وتعتبر النفس العليا هى حلقة الاتصال بين الروح وبين النفس الحيوانية السفلى وهى مأوى الميول الحيوانية والشيطانية التى تظهر فى شهوة البطن والفرج واللهو واللعب ، والميول السحرية الإبليسية التى تظهر فى
ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب للهجويرى ص 258 .
2- من قضايا الفكر الإسلامى انظر تفريق بين مسرة بين النفس والروح ص 326 .
المكر والخداع والاستعلاء والاستكبار (1) .(196/3)
ومجاهدة أوائل الصوفية لأنفسهم ترمى إلى علاج كل ميل من هذه الميول فمنهاجهم وطرقهم كلها تقوم على أساس عدم الاستجابة لهذه الميول والعمل على تقويمها وعلاجها ومثال ذلك ما يذكره المحاسبى فى محاسبة النفس وأنها على وجهين :
أحدهما : بالنظر إلى مستقبل الأعمال .
والثانى : بالنظر إلى ما استدبره الإنسان منها .
فأما المحاسبة فى مستقبل الأعمال فقد دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها علماء الأمة وفى كتاب الله تعالى :
{ واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه } (1) .
وهذا تحذير منه لنا وتنبيه على ما ذكره تعالى فى كل ما نأتى وما ندع ، واتقائه فى آداء فرائضه واجتناب نواهيه (2) .
وأما المحاسبة فيما مضى من الأعمال فيستدل لها المحاسبى بقوله تعالى :
{ وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 326 .
2- البقرة / 235 .
3- الرعاية لحقوق الله لأبى عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى تحقيق د . عبد الحليم محمود ص 48 طبعة دار المعارف .
4- النور / 31 .
ويذكر القشيرى أن المعلولات من أوصاف العبيد على ضربين :
أحدهما : ما يكون كسبا له كمعاصيه ومخالفته .
والثانى : أخلاقه الدنيئة فهى نفسها مذمومة .
فإذا عالجها العبد ونازلها تنتفى عنه بالمجاهدة ، فالميل الحيوانى يعالج بالإيمان ، والشيطان يعالج بالعباد وكثرة التنفل ، والميل الإبليسى يمكن أن يداوى باللجوء إلى الله وهكذا (1) .
ومن ثم يرمى الصوفى من عمله إلى القضاء على التنازع المتعدد فى الاتجاهات الكائنة فى ذاته وإيجاد الانسجام الخلقى أو على الأقل التخفيف من الصراع الدائر بين هذين المبدأين بمراتبهما (2) .(196/4)
وعندما يتم للإنسان ذلك ينمحى الشر من نفسه ويقضى على الفجور فيها وترقى نفسه وتنتقل من كونها نفسا أمارة بالسوء إلى كونها نفسا لوامة ثم نفسا مطمئنة ، ويعتبر أوائل الصوفية الأنانية وحب الذات هما مصدر الشر فى الإنسان ، وبالتالى يعتبر مصدر الشر فى الوجود هو إبليس لعنه الله ، وذلك لحبه لذاته وأنانيته والركون إلى نفسه دون الاستعانة بالله أو الخضوع له .
والروح تمثل الانسان بما ينبغى أن يكون ، بينما النفس تمثله بما هو ـــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 262 .
2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 97 .
كائن (1) .
وهدف الصوفى فى الحياة ، هو الانتقال من ذاته الكائنة فى النفس وأنانيتها وفجورها إلى الاستضاءة بالروح باعتبارها المستوى الانسانى الأمثل ومصدر التكريم الانسانى ، ومن ثم فالصوفى يرى كمال الذات الانسانية فى الارتفاع بالخلق القويم والنجاة من أسفل السافلين .
وهذه الحالة تتمل فى المكانة التى خلق الله آدم عليها عند الامتداد الغيبى للوجود الانسانى فى الزمان حيث أسجد له ملائكته بعد أن نفخ فيه من روحه .
فالروح هى مبرر تكريم الانسان وارتفاعه إلى هذا القمة السامية بين المخلوقات ، والتى عبر عنها القرآن الكريم بالخلافة فى الأرض ، وقد سجدت الملائكة تسليما له بالخلافة واستجابة لأمره سبحانه وتعالى وامتنع الشيطان أن يقر له بها ظلما وعلوا ، قال سهل بن عبد الله فى قوله تعالى : { وإذا قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون } (2) .
قال : إن الله تعالى قبل أن يخلق أدم عليه السلام قال للملائكة : إنى ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 97 .
2- البقرة / 30 .(196/5)
جاعل فى الأرض خليفة ، وخلق آدم عليه السلام من طين العزة من نور محمد صلى الله عليه وسلم (1) وأعلمه أن نفسه الأمارة بالسوء أعدى عدو له ، ويستطرد التسترى فيذكر أن الله خلق النفس وجعل فيها خواطر وهمّا وإرادة وأمرها بإدامة الافتقار إليه .
فإن أبدى عليها طاعة قالت : أعنى .
وإن حركت إلى معصية قالت : اعصمنى .
وإن حركت إلى نعمة قالت : أوزعنى .
وإن قال لها اصبرى على البلاء قالت : صبرنى .
ـــــــــــــــــــــــ
1- خلق الله آدم عليه السلام من طين مكون من ماء اختلط بالتراب كما قال تعالى { وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فاقعوا له ساجدين } ص / 71 ، 72 .
أما القول بأن آدم عليه السلام خلق من نور محمد من طين العزة فهو باطل لانعدام الدليل وتعارضه مع الأدلة الصحيحة ، وكل ما ورد فى كون النبى صلى الله عليه وسلم هو أول ما خلق الله ، كالحديث الذى يروى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أنه قال : ( قلت يارسول الله : بأبى أنت وأمى أخبرنى عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء ، قال : إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك ياجابر ، ثم خلق منه كل خير وخلق بعده كل شئ ) وما فى معناه فهو باطل لا يصح ، انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتهر على ألسنة الناس ، للعجلونى ص 263 وما بعدها .
ولا يساكن قبله أدنى وسوسة لها دون الرجوع عنها إلى ربه .
وقد جعل الله طبع النفس فى الأمر ساكنا وفى النهى متحركا وأمر الإنسان بأن يسكن عند المتحرك ، ويتحرك عند الساكن بلا حول ولا قوة إلا بالله ، أى لا حول له عن معصيته إلا بعصمته ولا قوة له على طاعته إلا بمعونته (1) .(196/6)
ثم أدخل الله الإنسان ممثلا فى آدم عليه السلام وزوجته تجربة لتحقيق الذات إذ خلقه وكيفه على نحو يحقق ذلك ، ليصل إلى أقصى كمال ممكن من خلال محبة الله له ورضاه عنه ، فأمره بدخول الجنة والأكل منها رغدا حيث شاء ، ونص عليه فى النهى الأكل من الشجرة التى تسبب له الهلاك .
{ وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } (2) .
ويفسر التسترى كيف ظهر حب النفس وكان سببا فى الهلكة عندما دبر الانسان لصالحه فيقول :
( فلما دخل الجنة ورأى ما رأى قال : لو خلدنا وإنما لنا أجل
ــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير سهل بن عبد الله ص 10 بتصرف .
2- البقرة / 35 .
مضروب إلى غاية معلومة ، فأتاه إبليس من قبل مساكنه قبله بوسوسه نفسه فى ذلك فقال :
هل أدلك على شجرة الخلد التى تتمناها فى هذه الدار وهى سبب البقاء والخلود وملك لا يبلى ) (1) .
فكان الشيطان عاملا مساعدا للنفس فى إتمام المعصية وإحداث النسيان .
ويقول التسترى : ( ألحق الله به وسوسة العدو لسابق علمه فيه وبلوغ تقديره وحكمه العادل عليه ، وأول نسيان وقع فى الجنة نسيان آدم عليه السلام وهو نسيان عمد لا نسيان خطأ وهو المراد من تركه لعهد الله ) (2) .
والتسترى يقرر بذلك الامتداد الغيبى للإنسان فى الزمان قبل وجوده فى الحياة الدنيا وأنه لا يحيا فى الدنيا بمعزل عن السابق أو اللاحق لها فوجوده الوضعى الذى نحسه محصور بين وجودين غيبيين والعالم المشهود ليس سوى صفحة بين عالمين غيبيين ، وأن الحكمة الإلهية اقتضت ذلك لما سبق فى تقدير الله وعلمه من ابتلائهم واستخلافهم فى الأرض .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 10 .
2- السابق ص 10 .
قال أبو سعيد الخراز (1) :(196/7)
( إن الله إنما أهبط آدم عليه السلام إلى الدنيا عقوبة ، وجعلها سجنا له حين أخرجه من جواره وصيره إلى دار التعب والاختيار فمن ملك من أهل الصدق شيئا من الدنيا فهو معتقد أن الشئ لله عز وجل لا له إلا من طريق حق ما خوله الله تعالى ، وهو مبلى به حتى يقوم بالحق فيه ) (2) .
فالخلافة فوق أنها وظيفة الإنسان الكونية وتحقيقها يمثل الكمال الإنسانى فى إثبات الذات إلا أن الصوفى لا يعمل لتحقيق هذه المكانة الدنيوية فقط وإنما لكونها سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى وهو محبة الله ورضاه ، ولا يكون ذلك عنده إلا باخضاع النفس للروح والخلوص بها من دار الابتلاء إلى دار البقاء فى الآخرة وبهذا يكون تحقيق الذات الإنسانية عند مشايخ الصوفية الأوائل .
ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز ، بغدادى النشأة والمنبت ولد فى أوائل القرن الثالث الهجرى ، وهو من أئمة القوم وجلة مشايخهم ، وقيل : إنه أول من تكلم فى علم الفناء ، صحب ذا النون ونظراءه وتوفى سنة 277 هـ وقيل سنة 279 هـ ، انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 117، الرسالة القشيرية حـ 1 ص 276 ومرآة الجنان حـ 2 ص 223 ، تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام حـ 16 ص 22 .
2- الطريق إلى الله أو كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز ص 33 .
سئل الجنيد بن محمد عن غاية السائرين فقال :
( إنه الظفر بنفوسهم ) (1) .(196/8)
وتحقيق الذات الإنسانية بهذا المفهوم يأخذ معنى لدى أوائل الصوفية مخالفا عن نظيره عند الآخرين ، حيث أن تحقيق هذه الذات لا يكون ببروزها ولا يعنى ذلك استقلالها واعتدادها بنفسها ، كما أن ذلك لا يكون بتعقلها للحقائق الكونية واستطالة الانسان فيها ، ولكن تحقيق الذات الإنسانية عند الصوفية يكون بالتحرر مما سوى الله وترك العبد لنفسه فيتحرر من قيودها ويؤدى العبودية على الوجه اللائق ، ولذلك فإن التسترى يشير إلى المعنى الذى يحصل بدخول آدم إلى الجنة وخروجه منها ، فيذكر أن فعل آدم صار علما وسنة فى ذريته إلى يوم القيامة ، ولم يرد الله تعالى معانى الأكل فى الحقيقة وإنما أراد معانى مساكنه الهمة مع شئ هو غيره .
فآدم عليه السلام لم يعتصم من الهمة والفعل فى الجنة فلحقه ما لحقه . من أجل ذلك وكذلك من ادعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظرا إلى هوى نفسه فيه ، لحقه الترك من الله عز وجل مع ما حل عليه من نفسه ، إلا أن يرحمه فيعصمه من تدبيره ، وينصره على عدوه وعليها ، فأهل الجنة معصمون فيها من التدبير الذى كانوا به فى دار الدنيا لأن آدم لم ــــــــــــــــــــــــــــــ
1- رسائل الجنيد ضمن كتاب التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 303 .
يعصم من مساكنة قلبه تدبير نفسه بالخلود (1) .
فليس للإنسان عدو أشد من نفسه ، وهو يرى أن البلاء يكمن فى الانفرادية التى هى أصل الأنانية (2) .
ومن ثم فإن الذات الإنسانية فى مفهوم أوائل الصوفية وجدت فى الدنيا كامتداد لما سبق فى الغيب وتنتقل بعدها إلى خالقها ، كل ذلك للقيام بواجبها فى الدنيا على النحو الذى يرضى الله سبحانه ، فإن فعلت فقد وصلت إلى الكمال فى تحقيق الذات وتحقيق الهدف من وجودها .
وهذه الحقيقة يقررها أبو سعيد الخراز فى قوله :
( فأيقن القوم أنهم وأنفسهم لله تعالى ، و كذلك ما خولهم وملكهم فإنما هو له ، غير أنهم فى دار اختبار وبلوى وخلقوا للإختيار والبلوى فى هذه الدار ) (3) .(196/9)
ثم يروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين سمع : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير القرآن العظيم لسهل بن عبد الله ص11 .
2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 98 .
3- كتاب الصدق ص 33 .
4- الإنسان / 1 .
قال : ياليتها ما تمت ؟! يعنى قبل قراءة : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه } (1) فهمهم عمر وعجز فى التلاء عجزا .
يقول أبو سعيد : ( ومعنى قول عمر رضى الله عنه ياليتها ما تمت يعنى لم يخلق حين سمع الله يقول : { لم يكن شيئا مذكورا } وذلك من معرفة عمر رضى الله عنه بواجب حق الله ، وقدر أمره ونهيه وعجز العباد عن القيام به ، وقيام الحجة لله تعالى عليهم عند تقصيرهم وما تواعدهم به إذا ضيعوا ) (2) .
* ويمكن أن نلخص ما سبق فى النقاط الآتية :
1- أن الإنسان له وجود غيبى قبل الزمان والمكان .
2- أن الإنسان مستخلف فى الأرض وتحقيق الذات يكمن فى طاعة الله والقيام بما أوجب عليه .
3- أن مصدر الخير فى الإنسان روحه ومصدر الشر نفسه .
4- أن نفسه الأمارة بالسوء أعدى عدو له .
5- أنه فى الجنة معصوم من التدبير الذى كان به فى الدنيا .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الإنسان / 2 .
2-كتاب الصدق ص 33 .
وهذا الإجمال يتطلب دراسة الموقف الصوفى لأوائل الصوفية من إمكانية تحقيق الإنسان لدوره الأساسى فى الدنيا وكيف كيفه الله لتحقيقه ؟ مما يدفعنا إلى البحث عن أصالة الحرية فى الذات الإنسانية ومقومات الاختيار فيها وعلاقة الإرادة الإنسانية الحادثة بالإرادة الإلهية المطلقة ، وكيف تتحقق المساءلة ويتم توقيع الجزاء مع عدم المساس بعدل الله سبحانه وتعالى ؟ وهذا ما سيتضح من الأبحاث الأتية فى هذا الفصل إن شاء الله .
*** المبحث الثانى ***
الإرادة الحرة وأصالتها فى الذات الإنسانية(196/10)
أجمع أوائل الصوفية على أن الإنسان حر مختار لأفعاله ليس بمستكره عليها وأنها من خلق الله وتقديره قال الكلاباذى : ( وأجمعوا على أن حركة المرتعش خلق الله فكذلك حركة غيره ، غير أن الله خلق لهذا حركة واختيارا وخلق للأخر حركة ولم يخلق له اختيارا ) (1) .
ويستدل الكلاباذى على حرية الإرادة الإنسانية بالسلوك الخلقى الذى يكتسب الإنسان به الإيمان والكفر والطاعة والمعصية وهذا السلوك يستحيل الجبر فيه فيقول :
( والله خلق لهم الاختيار والاستحسان والإرادة للإيمان والبغض والكراهية والاستقباح للكفر ، قال تعالى : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } ) (2) .
فموضوع الاختيار البشرى هو الأفعال الخلقية التى يحاسب عليها الإنسان فى الدنيا بإقامة الحدود وفى الآخرة بالجزاء ، فهذا الاختيار هو أساس المسؤلية عند الصوفية وأساس الكسب فى أفعال الإنسان .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 62 .
2- الحجرات / 7 .
ويذكر الكلاباذى أنهم أثبتوا للإنسان أفعالا اختيارية وأخرى جبرية وأن كل ما يحاسب عليه الإنسان هو اختيارى ، لأن الإجبار عندهم هو أن يستكره الفاعل على إتيان ما يكرهه ويترك الذى يحبه وهذه الصفة ليست فى اكتسابهم الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، بل اختار المؤمن الإيمان وأحبه واستحسنه وآثره على ضده وكره الكفر وأبغضه واستقبحه ولم يرده وآثر عليه ضده (1) .
كما ينقل إجماعهم على ذلك بقوله : ( وأجمعوا أنهم مختارون لأكسابهم مريدون لها ، ليسوا بمحمولين عليها ولا مجبرين فيها ولا مستكرهين عليها ، فمعنى قولنا مختارون : أن الله خلق لنا اختيارا فانتفى الإكراه وليس ذلك على التفويض ) (2) .(196/11)
ومن ثم فإننا نستطيع القول بأن الركيزة الأساسية التى قام عليها الاختيار فى الذات الإنسانية عند الصوفية هى الإرادة الحرة ، فالإرادة لها شأن كبير فى تراث أوائل الصوفية وكتاباتهم تدل على اعتقادهم أصالتها فى الذات الإنسانية ، فهم أهل إرادة لله تارة ، وأهل تجرد عن الإرادة لما سواه تارة أخرى ، وما آداب المريدين إلا توجيه لتلك الإرادة فى العمل على مرضاه الله .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق 65 .
2- السابق 66 .
يقول الحكيم الترمذى فى وصف الصوفية : أهل الإرادة على ضربين :
1- منهم من سار فى طريقه إلى ثواب الله يؤدى فرائضه ويتجنب نواهيه ومحارمه ثم يتطوع من أنواع البر ما تهيأ له .
2- ومنهم من سار إلى الله ليعبده فيؤدى فرائضه ويتجنب محارمه ثم يتحرر من آفات الدنيا وحبها بقطع العلائق من باطنه (1) .
ويستدل القشيرى بقوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه } (2) .
على أن الصوفية أثبتوا للمريدين اختيارا به ساروا فى طريق القرب إلى الله (3) .
والإرادة عندهم سابقة على الفعل بحيث يمكن اعتبارها علته والدافع لوقوعه يقول القشيرى :
( إنما سميت هذه الصفة إرادة ، لأن الإرادة مقدمة على الفعل وعلى كل أمر ، فما لم يرد العبد شيئا لم يفعله ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- آداب المريدين للحكيم الترمذى تحقيق الدكتور عبد الفتاح عبد الله بركه ص 33 : 34 .
2- الأنعام / 52 .
3- الرسالة القشيرية حـ 2 ص 433 .
4- السابق حـ 2 ص 433 .
ولعلهم كانوا يقصدون بالنية توجيه الإرادة للعمل إلى هدف واحد مع اختلاف الأعمال والعبادات ، هذا الهدف هو إرضاء الله ومحبته ولذلك قالوا :
( إن النية هى روح العمل وقلب المؤمن ، فالنية أو القصد إنما يجئ تمام الأعمال على شبيه أول القصد منه ) (1) .
* الفرق بين النية وحديث النفس :(196/12)
ويسمى الحارث المحاسبى الإرادة وعملها قبل ظهور الفعل على الجوارح : اعتقاد القلب ، ويفرق بينه وبين حديث النفس مستدلا بقوله تعالى :
{ لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } (2) .
فكسب القلب هو ماعقده داخله بفعل الإرادة ، ويأتى العمل فى الجوارح تبعا لها فإن تخلف العمل فى الجوارح مع قيام الإرادة ، فإنها عقد القلب وهو مؤاخذ بها ، ويذكر المحاسبى الدليل على ذلك وهو ماورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار قيل :
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 175 .
2- البقرة / 225 .
يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال : لأنه أراد قتل صاحبه ) (1) .
يقول المحاسبى معقبا : ( ألا ترى أنه بإرادة قلبه قتل صاحبه شهد له النبى صلى الله عليه وسلم بالنار ولم يقتل وقد نوى ، والله عز وجل يؤاخذه بباطنه وبعقد قلبه إذا كان مقيما على الفعل مصرا على ذلك ) (2) .
فالإرادة عند المحاسبى محلها القلب وهى التى تكسب العمل معنى الخير والشر والصلاح والفساد وهذا الاعتقاد هو مادل عليه قوله تعالى :
{ كل نفس بما كسبت رهينة } (3) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ، باب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا برقم (31) ومسلم فى كتاب الفتن ، باب إذا توجه المسلمان بسيفيهما برقم (2888) والنسائى فى كتاب تحريم الدم ، باب تحريم القتل حـ 7 ص 125 ، والبيهقى حـ 8 ص 190 وأحمد حـ 5 ص 48وابن ماجه برقم (3965) .
2- القصد والرجوع إلى الله ، للحارث بن أسد المحاسبى ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ص 92 : 93 ، وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 161 .
3- المدثر / 38 .(196/13)
ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه ) (1) .
فالنية هى فعل القلب واعتقاده وهى فى باطن الإنسان وجذور القلب وهى موضع النظر والعمل فى متابعة الملائكة لأفعالها ففى الحديث :
( إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وأن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنه وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإذا عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ) (2) .
فالحديث دل على أن الأعمال مبنية على فعل الإرادة ، وفعل الإرادة
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان ، باب من هاجر فله ما نوى برقم (54) ومسلم فى كتاب الإمارة ، باب إنما الأعمال بالنية برقم (1907) وأبو داود فى كتاب الطلاق ، باب فيما عنى به الطلاق والنيات برقم (2201) والنسائى فى كتاب الطهارة ، باب النية فى الوضوء برقم (58) وابن ماجه فى كتاب الزهد باب النية برقم (4227) وابن الجارود فى المنتقى برقم (64) والدارقطنى فى سننه حـ 1 ص 50 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد ، باب يريدون أن يبدلوا كلام الله برقم (7501) وأخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ، باب إذا هم العبد برقم (128) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 2 ص 242 .
هو أساس صلاح القلب أو فساده كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ألا إن فى الحسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب ) (1) .
وأما حديث النفس عند المحاسبى فهو مختلف عن الإرادة ، حيث ينشأ عن الخواطر التى تدور فى القلب وغالبا ما تكون من الفكر والروية ، وقد مثل له بحديث بن مظعون حيث قال :
يارسول الله نفسى تحدثنى أن أطلق خوله .
فقال : مهلا ، فإن من سنتى النكاح .
قال : نفسى تحدثنى أن أجب نفسى .
قال : مهلا ، إن خصاء أمتى دؤب الصيام .(196/14)
قال : نفسى تحدثنى أن أترهب بنفسى .
قال : مهلا ، رهبانية أمتى الحج والجهاد .
قال : نفسى تحدثنى أن أترك اللحم .
قال : مهلا ، فإنى أحبته ولو أصبته لأكلته ولو سألته ربى
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب البيوع ، باب الحلال بين والحرام بين برقم (2051) وأبو داود فى كتاب البيوع ، باب اجتناب الشبهات برقم (3329) والنسائى فى كتاب البيوع باب اجتناب الشبهات حـ 7 ص 241 ، وأحمد حـ 4 ص 270 .
لأطعمنى ) (1) .
يقول المحاسبى : ألا ترى أن قول النبى صلى الله عليه وسلم : مهلا حيث يقول عثمان : نفسى تحدثنى فحديث النفس إنما هو تروّيه والدليل على أنه تروّيه أنه لم يفعل ولم يمض فيما حدث به نفسه ، إذ لم يستوطن اعتقاد الفعل بقلبه ولم تسكن النفس إلى ذلك وإنما يحل بقلبه خطرات بغير استيطان (2) .
ويذكر المحاسبى أن هذه الإرادة لها وجهة واحدة بين طريقين معروضين أمامها فإذا توجهت إلى أحدهما ، ستفارق الآخر حتما ومحال أن يجمع بين نيتين ، فلا يكون قلب مصرا على معصية الله ومستعملا بكمال طاعته ، والدليل على ذلك عنده هو قوله الله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- حديث عثمان بن مظعون ورد بألفاظ أخرى وهو حسن لغيره ، انظر الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان حـ 1 ص 185 ومصنف عبد الرزاق برقم (10375) ورواه البزار بإسناد صحيح برقم (1458) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 268 والبيهقى فى مجمع الزوائد حـ 4 ص 301 وأخرجه ابن سعد فى الطبقا ت حـ 3 ص 394 .
2- القصد والرجوع إلى الله ص 95 .
3- الأحزاب / 4 .
فإذا كان القلب مشتغلا بالإصرار عمى عن البصيرة ، ولا يرى حسنا تتوق إليه النفس رغبة فى ربه ، ولا قبحا يتجنبه رهبة منه ، فتجره أسباب الفتنة إلى مصارع الهلكة (1) .
والنية عند أوائل الصوفية ركن من أركان الإيمان وهى عقد القلب كما سبق ويلزم فيها الإخلاص لقبول العمل يقول أبو سعيد الخراز :(196/15)
( إن الإخلاص الذى أمر به الله عز وجل فى قوله تعالى :
{ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } (2) .
هو أن يكون العبد يريد الله عز وجل بجميع أعماله وأفعاله وحركاته كلها ظاهرها وباطنها لا يريد بها إلا الله وحده ) (3) .
فإرادة العبد لمرضاة الله تنفى الشرك ، ولذلك جعل المحاسبى الإخلاص فرض فى جميع الأعمال ، فعندما سئل عن كونه فرضا أو فضيلة ؟
قال : الإخلاص لله عز وجل فرض لازم لجميع الأعمال لأن الله عز وجل يقول :
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 95 .
2- الكهف / 110 .
3- كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز ص 17 .
{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } (1) .
فكل من داخله إعجاب أو رياء أو حب محمدة أو كراهية مذممة فى اسقاط المنزلة ، فليس بمخلص فى عمله لأن الله عز وجل لا يقبل إلا ماكان خالصا لوجهه ) (2) .
ويضيف المحاسبى فى كتابه الرعاية تفصيلا دقيقا فى بيان الإخلاص ونفى الرياء وأن إرادة العبد هى الفيصل فى ذلك ، فالرياء عنده ينافى إرادة العبد لمرضاة الله ، وصلاح النية يكمن فى إرادته للحق ، فالنية هى الممثلة لقيمة العمل وأصلها الإرادة ، والعمل مع فساد النية مردود على صاحبه ويجازى المرء عن نيته إذا تخلف عمل الجوارح بحصول العجز وفقد الاستطاعة كمن أتم العمل سواء بسواء .
ويضرب المحاسبى لذلك مثلا برجل عزم من الليل أن يقتل النفس التى حرم الله ، أو يفعل فاحشة بحرمة مسلم ، أو يكفر بالله إذا هو أصبح ونوى ذلك بقلبه وعزم بإرادته ثم مات على تلك النية وذلك الإصرار حشره الله على ما عقده عليه ونوى ، فإذا حل الإصرار عن القلب وعزم على عدم الفعل وندم على ما كان منه فهو تائب إلى الله عز وجل مأجور .
ــــــــــــــــــــــــ
1- البينة / 5 .
2- القصد والرجوع إلى الله ص 93 ، 94 وانظر الرعاية لحقوق الله ص 132 .
ودليله فى ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم :(196/16)
( يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ، قالت عائشة : كيف يخسف بأولهم وآخرهم ، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم ، قال : يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم ) (1) .
وقد تعارف مشايخ الصوفية فى أواخر القرن الثالث الهجرى على مصطلح ( القصود ) ومعناه عندهم صدق الإرادات والنيات المقرونة بالنهوض إلى الله (2) .
قال أحمد بن أبى الحوارى (3) : ( من قصد فى قصوده ـــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الحج ، باب هدم الكعبة برقم (1595) وأخرجه مسلم فى كتاب الفتن ، باب اقتراب الفتن برقم (2882) وأبو داود فى كتاب المهدى برقم (4289) وانظر الرعاية لحقوق الله ص 127 والقصد والرجوع إلى الله ص 94 .
2- اللمع ص 446 ، 447 وكشف المحجوب ص 472 ، 473 .
3- هو أحمد بن ميمون المكنى بأبى الحسن من أهل دمشق ، قال عنه الجنيد : ريحانة الشام ، طلب العلم ثلاثين سنة ثم حمل كتبه إلى البحر فأغرقها ، وكان من الزاهدين الورعين ، مات سنة 230 هـ انظر الرسالة القشيرية حـ 1 ص 105 ، حلية الأولياء حـ 1 ص 32 ، صفة الصفوة حـ 4 ص21 ، طبقات الشعرانى ص 96 ، مرآة الجنان حـ 2 ص 153 ، تهذيب التهذيب حـ 1 ص 49 .
قلت : من أغرق كتب العلم فى البحر فكيف يكون ريحانه .
غير الحق فقد عظمت استهانته بالحق ) (1)
فالإنسان مثاب فى المقام الأول على إرادته وما ينشأ عنها من قصود ورغبات ونيات ، أما الحركات والسكنات التى تحدث فى أعمال الجوارح وتنشأ عنها الأفعال ، فهى عندهم فعل الله وخلقه سواءا كانت طاعة أو معصية وهى تابعة لإرادة العبد ونيته ، والنية هى التى تكسب العمل النسبة إلى معانى الخير أو الشر .(196/17)
وهذا الفهم الصوفى لأوائل الصوفية يوفق بين كون الأفعال مخلوقة لله من جهة وكون العبد مسؤلا عن فعله مكتسبا له مجازى عليه من جهة أخرى ، فالأفعال مخلوقة لله وهى على حالة محايدة لا هى بالخير ولا هى بالشر ، فإذا تلبست بها إرادة العبد ظهر معنى لأفعال الحلال والحرام .
ولبيان الفكرة من المنطق الصوفى لأوائل الصوفية نضرب مثلا بمباشرة الرجل للمرأة فهو فعل واحد ، ولكنه يكون حلالا يؤجر عليه المرء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( وفى بضع أحدكم صدقة ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 447 .
2- أخرجه الإمام مسلم فى كتاب الزكاة ، باب فضل النفقة على الأقربين والزوج والأولاد برقم (53) وأبو داود فى كتاب التطوع برقم (13) وأحمدحـ5 ص167 .
وتارة يكون زنا يعاقب عليه كما قال تعالى :
{ الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } (1) والفاصل بين هاتين الحالتين نية العبد وموافقة الفعل لمنهج الله .
ويشترط الصوفية الأوائل شرطين لكى يكون العمل مقبولا يحمل معنى الخير وطاعة الله :
أحدهما : مطابقة العمل للشريعة وأحكام الدين .
والثانى : توجيه الإرادة وإخلاص القصد لله بحيث يكون مبتغاه من العمل مرضاة الله ولا شئ سوى مرضاة الله.
ويحبط العمل عندهم إذا خلا من أحد هذين الشرطين (2) .
ويذكر الهجويرى فى كشف المحجوب أن أوائل الصوفية يرون اختيار الله لهم هو الذى يفصل فى معنى الخير والشر ، ويجب أن يتفوق مراد الله على مرادهم لأنفسهم ، فيرضون بكل ما اختاره لهم من خير أو بعد عن الشر (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النور /2 .
2- القصد والرجوع إلى الله ص 68 .
3- كشف المحجوب ص 470 .
سئل أبو اليزيد البسطامى (1) عن الأمير فقال : ( هو من لا اختيار له ، ومن كان اختيار الله اختياره ) (2) .(196/18)
فالإرادة التى يتم بها الفعل منسوبة إلى العبد أصالة وهى مناط الثواب والعقاب ، ويفرد الصوفية فصولا فى كتبهم عن الرياء واستجلاب رضا الناس والحكام وإرضاء النفس وغير ذلك ، كبدائل لابتغاء مرضاة الله أمام الاختيار الإنسانى ، وذلك كله يوضح اعتقادهم باختيار الانسان بين طاعة الله وبين معصيته ، أى بين الحلال والحرام وبين الخير والشر .
ويكثر الصوفية الأوائل من الكلام عن مراحل النية كالهمة والإرادة والعزيمة والتفرقة بين الرياء والمداهنة والمجاملة والنفاق وخصوصا فى كتاب المحاسبى الرعاية لحقوق الله ، وهذا الكتاب فى جمتله دستور
ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامى ، كان جده مجوسيا ، أسلم ومعه ثلاثة إخوه كلهم زهاد عباد ، وكان أجلهم حالا ، وهو من أهل بسطام ، ورد عنه كلام بديع فى اتباع السنة ، وورد عنه أيضا كلام شنيع كقوله : ما فى الجبة إلا الله وغير ذلك والشأن فى صحته إليه ، انظر حلية الأولياء حـ 10 ص 33 ميزان الاعتدال حـ 1 ص 481 مرآة الجنان حـ 2 ص 173 والبداية والنهاية حـ 11 ص 35 طبقات الأولياء لابن ملقن ص 397 وإحياء علوم الدين لأبى حامد الغزالى حـ 4 ص 356 ، 357 .
2- كشف المحجوب ص 470 .
عميق يحمل الفهم الدقيق للخواطر النفسية والطريقة المثلى للإيمان العميق والاتصال الوثيق مع الله تعالى وعنوان الكتاب نفسه دليل على ذلك وكذلك كتاب الوصايا .
وهذان الكتابان الى جانب ما خلفه التسترى والمكى وغيرهما من تراث يشير بصورة واضحة إلى أهمية العوامل والدوافع النفسية والوجدانية فى الحياة الصوفية عند الأوائل من ناحية وأهمية النظرة إلى الضروريات والأسباب الواقعه فى حياتهم فى تشكيل مفهوم الحرية الإنسانية من ناحية أخرى .
يقول الدكتور كمال جعفر : وخلاصة الدراسات النفسية والأخلاقية فى هذا الميدان أن فى الإنسان مبدأين يتصارعان :
[1- مبدأ يدعوا إلى التسفل وقد أمر الإنسان بمخالفته .(196/19)
[2- مبدأ يدعو إلى الترقى وقد أمر الإنسان بمعاضدتة .
والناجح فى الحياة الروحية من أعطى المبدأ الثانى اليد العليا (1) .
ويربط أغلب الأوائل من مشايخ الصوفية ربطا محكما بين تطبيق الشرع والالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبين مبدأ الترقى ، حين يصرون على أن النجاح لا يكون إلا بتطبيق شريعة الله عز وجل وعدم مخالفة الكتاب والسنة ، حيث أنه لايوجد مصدر ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 95 ، 96 .
للخير عندهم سوى طاعة الله وتطبيق شريعته .
ومن ثم فالشر والعمل بخلاف ما أمر به الوحى ولغير وجه الله عز وجل هو شرك خفى أو شرك ظاهر أو كفر أو معصية ، ويغلب الشر على الفعل بمقدار غلبه الكفر والمعصية على الإيمان والطاعة فيه ، فليس للشر معنى عقلى مستقل فى الوجود بل هو ما حرمه الله وكذلك الخير كل ما أمر الله به .
ولقد أحسن الجنيد حينما لخص ذلك فى عبارة واحدة فقال :
( الطرق كلها مسددة على الخلق إلا من اقتفى أثر النبى صلى الله عليه وسلم ، فإن طرق الخيرات مفتوحة عليه ) (1) .
ومن ثم يرفض أوائل الصوفية القول بإيجاب المعارف العقلية وينفون قدرة العقل البشرى وحده على معرفة الخير والشر ، ومعرفة ما يؤدى إلى كل منهما من الأفعال ، حيث لا يوجد خير بالذات ولا يوجد شر بالذات ، بل أوامر الله خير ونواهيه شر ، ومن ثم وجب معرفة ذلك من الوحى وليس من العقل وحده .
فمصدر الشر إذا عند مشايخ الصوفية هو اختيار العبد وإرادته من الفعل غير مرضاة الله أو مخالفته لأوامر الله التشريعية ، وحيث أن الإرادة الإنسانية أصيلة عند العبد وهو مسؤل عنها فإن أوائل الصوفية ــــــــــــــــــــــــ
1- سبق تخريجه انظر ص 78 .
نزهوا الله بذلك عن فعل الشر أو إرادته له إرادة شرعية من حيث أنه نهى عنه وإن كان الفعل مخلوقا له .(196/20)
ومما تقدم فى المبحث الأول نجد أن أوائل الصوفية قرروا أن الفعل من حيث كونه مخلوقا لله عز وجل هو فعل محايد ليس شرا ولا خيرا وإنما الذى يصبغ عليه الصبغة الخلقية هو كسب العبد له حسب اختيار ونية معينة .
فإن كان الكسب للفعل ابتغاء مرضاة الله وهو واقع حسب شرعه ومنهجه فإنه يصبح طاعة وخيرا ، فالذى جعله خيرا هو نية العبد وكسبه وإن كان الكسب لفعل ابتغاء الدنيا وحسب الهوى ورغبة للنفس وفجورها مخالفا لحكم الله وأوامره التشريعية كان شرا .
وهنا يظهر التوافق بين اعتقاد أهل السنة والجماعة ومشايخ الصوفية الأوائل فى إبرازهم لحقيقة القرآن كما هى دون مخالفة فى هذا الباب ففى قوله تعالى :
{ من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الإسراء / 18 : 20 .
فالاعتقاد الذى حملته هذه الآيات يشهد بسلامة الاعتقاد الصوفى للأوائل إذ أنها دلت على عدة أمور :
1- إثبات الإرادة الإنسانية حرة وأصيلة فى العبد يختار بها أحد الطريقين المعروضين أمامه ، طريق ممثل فى العاجلة أو الدنيا وآخر ممثل فى الآخرة .
2- أن الله يخلق الفعل فى العبد بناءا على اختياره وإرادته حيث نسب تحقيق المراد للإنسان أو عدم تحقيقه إلى نفسه وحسب مشيئته فى الابتلاء فقال تعالى : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } فليس كل ما يريده الإنسان ويتمناه يحققه الله بعد تمنيه مباشرة ، كالمثل الذى ضربه المحاسبى وذكر فيه إرادة القاتل القتل وموته قبل ذلك فحوسب على نيته .
3- أن الله سبحانه وتعالى يمد الكافر والمؤمن بالفعل على السواء فيعطى الكافر القدرة على أفعال الكفروالإيمان ويعطى المؤمن القدرة على أفعال الإيمان والكفر تحقيقا للابتلاء .(196/21)
* الصوفية وإسقاط الإرادة :
أخطأ بعض السالكين من أوائل الصوفية وظنوا أن الطريقة الكاملة للتصوف ألا يكون للعبد إرادة أصلا وليس هذا ما عناه مشايخ الصوفية لما نادوا بالتجرد عن الإرادة كقول أبى يزيد البسطامى :
( أريد ألا أريد ، لما قيل له : ماذا تريد ؟ ) (1) .
ويعلق ابن تيمية على العبارة السابقة بقوله :
( والواقع أن عبارة أبى يزيد البسطامى تبين أنه قد أراد ) (2) .
ويقول : ( بعض الصوفية حملوا كلام المشايخ الذين يمتدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة والاختيار مطلقا ، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين إذ أنهم لا يسوغون للسالك ولو طار فى الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهى الشرعيين ) (3) .
وتتضح هذه الفكرة إذا علمنا أن أوائل الصوفية يحاولون فى منهجهم السعى إلى مرضاة الله ومن ثم فإنه من المفترض أن يختاروا لأنفسهم ما اختاره الله لهم ودعاهم إليه فينبذوا الدنيا ويفضلوا الآخرة كما قال تعالى : { والآخرة خير وأبقى } (4) .
ولشدة الالتزام المتوقع بهذا الطريق بدا عليهم وكأنهم مسلوبى الإرادة متجردين عنها تماما يحركهم الله كيف شاء شرعا وكونا ولذلك يقول القشيرى :
ـــــــــــــــــــــــ
1- التنوير فى إسقاط التديبر ص 110 .
2- كتاب السلوك لابن تيمية ص 494 .
3- السابق ص 516 .
4- الأعلى / 17 .
( المريد فى عرف هذه الطائفة من لا إرادة له فمن لم يتجرد عن إرادته لا يكون مريدا ) (1) .
وإن دل ذلك على شئ فإنما يدل على مدى إثبات الصوفية لأصالة الإرادة فى الذات الإنسانية يقول الواسطى : ( أول مقام المريد : إرادة الحق سبحانه وتعالى بإسقاط الإرادة ) (2) .(196/22)
فالذين نظروا إلى أن المشايخ فرغوا من الإرادة مطلقا ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب ، وأن هذا المقام هو أكمل المقامات التى أدت بالأوائل إلى منزلتهم الرفيعة جانبوا الصواب تماما ، لأنهم لا يعنون التحلل من أوامر الشرع بإسقاط الإرادة أو الاحتجاج بالقدر ، وإنما أرادوا كمال الانضباط .
وخير دليل على ذلك من كلامهم ما ذكره أبو بكر الدقاق حيث قال : ( لا يكون المريد مريدا حتى لا يكتب عليه صاحب الشمال عشرين سنة ) (3) .
ويقصد بذلك استقامة المريد العابد بإرادته واختياره على الطريق الذى اختاره الله له والمتمثل فى الالتزام بأحكام العبودية وكثرة التطوع ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة ص 433 .
2- السابق ص 473 .
3- الرسالة حـ 2 ص 434 .
والتنفل إلى أن يبلغ درجة لا يجد الملك الموكل بكتابة السيئات شيئا يكتبه عليه مدة عشرين عاما على تقدير الدقاق ، وعلى هذا أيضا يحمل قول أبى يزيد السابق : ( أريد ألا أريد ) أى أريد الالتزام بالأمر والنهى فى طريق التكليف ولا أريد غير ذلك .
فملازمته لطريق الله إنما يكون بقوة الإرادة وأصالة الاختيار فيه وصدق الباعث من الإخلاص فى القصد بالهمة والعزيمة .
ويفرد السراج الطوسى بابا فى كتابه اللمع يرد به على من غلط فى عين الجمع وظن أن المقام هو مقام القول بالجبر حتى يصل إلى شهود أفعال الربوبية فقال :
( وجماعة غلطوا فى عين الجميع فلم يضيفوا إلى الخلق ما أضاف الله تعالى إليهم ولم يضيفوا أنفسهم بالحركة فيما تحركوا فيه وظنوا أن ذلك منهم احترازا حتى لا يكون مع الله شئ سوى الله ) (1) .
فبين أن ذلك أداهم إلى الخروج من الملة وترك حدود الشريعة لقولهم أنهم مجبرون على حركاتهم حتى اسقطوا اللائمة عن أنفسهم عند مجاوزة الحدود ومخالفة الإتباع (2) .
ويذكر السراج أن من هؤلاء من أخرجه ذلك إلى الجسارة على ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 549 .
2- السابق ص 549 .(196/23)
التعدى والبطالة وطمعته نفسه على أنه فيما هو عليه مجبور (1) .
وقد يظن بعض الصوفية أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهى يكون فى السلوك والبداية ، أما النهاية فلا تبقى إلا إرادة القدر وهذا ضلال بين وخروج عن الطاعة والعبادة مما يؤدى بهم إلى أن يكونوا من أعوان الفجار والكفار حيث شهدوا القدر معهم ولم يشهدوا الأمر والنهى الشرعيين (2) .
وهؤلاء بعض الملاتية الذين يفعلون المعاصى والمنكرات ويقولون لا ملامة .
وقد نقل الهجويرى كثيرا من أفعالهم وبين خطأهم فى ذلك (3) إلا أن الأصل فى إسقاط الإرادة عند المستقيمين من المشايخ يختلف عن المنحرفين فى فهمها وقد سئل سهل بن عبد الله عن رجل يقول : أنا مثل الباب لا أتحرك إلا أن يحركونى ؟
فقال سهل : ( هذا لا يقوله إلا أحد رجلين : إما رجل صديق وإما رجل زنديق ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 549 .
2- كتاب السلوك ص 499 .
3- كشف المحجوب 260 : 265 وانظر الفتوحات لابن عربى حـ 3 ص 46 .
4- اللمع ص 549 .
فالأول عنده صديق لأنه اختار اختيار الله له فلا يتزحرج عنه ويرجع فى كل شئ إلى الله ، والتزم الأمر على ما ينبغى من المتابعة وحسن الطاعات والقيام بشرط الأدب وسلوك المنهج على حد الاستقامة .
والثانى عنده زنديق لأنه احتج بالقدر على المعصية واسقط اختياره مطلقا تحت ستار القدر فأزال اللائمة عن نفسه فى ركوب المآثم بغواية الشيطان وتسويله وتأويله الباطل (1) .
ومن جملة ما تقدم فى هذا المبحث نخلص إلى القول بأن أوائل الصوفية يقررون فى إرادة الإنسان الأمور الآتية :
أولا : وجود الإرادة الحرة كمصدر أصيل لأفعال الإنسان ، وأنها ذاتية منه بمعنى أنها مصدر أول وأصيل لكل الحركات والسكنات فى أعمال القلوب والجوارح ومصدر للنيات والرغبات والقصود وجميع الاختيارات الإنسانية .(196/24)
ثانيا : أن هذه الإرادة إرادة مختارة وليست مجبرة أو مسيرة فالأسلوب العام الذى سلكه أوائل الصوفية يثبت الاختيار ويؤكده ، فهم يطرحون أمام الإرادة الإنسانية طريقين يختار العبد بينهما ، طريق يؤدى إلى الدنيا بصفة عامة وطريق يؤدى إلى الآخرة ، ودور هذه
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 550 بتصرف .
الإرادة يكاد ينحصر فى الاختيار بين الأفعال التى يحصل بها الصوفى الدنيا أو الأفعال التى يفوز بها بالآخرة .
ثالثا : وجود الضدين اللازمين والضروريين لصحته عقلا حيث أثبتوا وجود شيئين مطروحين فى آن واحد إذا مال إلى أحدهما حتما سيفارق الآخر ، فهما فعلان أو سلوكان يدل اختيار العبد لأحدهما دون الآخر على رغبة فيه تجاهه وإرادة وإيثار وحب .
رابعا : أن الإرادة الإنسانية اختيارها ليس اختيارا مطلقا فلا يستطيع أن يختار على التفويض بين جميع الأشياء فى آن واحد وإنما الاختيار محدود بطريقتين لحظة حدوثه ، وهذا ما استدل له المحاسبى بقوله تعالى (1) : { ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه } (2) .
خامسا : أن منهج أغلب الأوائل فى التجرد عن الإرادة إنما هو مقصد شرعى يؤدى إلى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويثبت أصالة الإرادة فى الإنسان مع إعلان أغلبهم البراءة ممن استغل اسقاط الإرادة فى التحلل من الشرع والاحتجاج بالقدر على الجبر وفعل المعاصى .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر القصد والرجوع إلى الله ص 95 .
2- الأحزاب / 4 .
سادسا : اتفاق المبادئ بين أوائل الصوفية وأهل السنة فى كون الدليل الشرعى هو الحجة فى هذا الباب ، وهذا بين واضح من خلال ما تقدم وما ذكره ابن تيمية وأبوعثمان الصابونى وغيرهما (1) .
ــــــــــــــــــــــــ(196/25)
1- انظر عقيدة أصحاب الحديث لأبى عثمان الصابونى ص 78 ، وما بعدها ضمن مجموعة بعنوان عقيدة الفرقة الناجية ، إعداد عبد الله حجاج القاهرة سنة 1400 هـ وانظر الصفدية لشيخ الإسلام ابن تيمية حـ 1 ص 55 وما بعدها ، والاستقامة لابن تيمية حـ 1 ص 86 : 102 .
*** المبحث الثالث ***
دوافع الإرادة وبواعثها عند الصوفية
وصلنا مما سبق إلى أن أوائل الصوفية اتفقوا على إثبات الإرادة الإنسانية حرة وأصيلة فى ذات الإنسان ، ومن الأمور التى ينبغى ذكرها إظهارا لمفهوم الحرية من الناحية الاعتقادية عند أوائل الصوفية ، تأصيل الدوافع التى تسبق الإرادة وأثرها عليها ، تلك الدوافع التى أجاد الصوفية فى إبرازها تحت تفصيلهم للخواطر وتحليلها .
فمن مقومات الحرية عندهم وجود الإرادة الحرة بين نماذج مزدوجة من الخواطر ، إما أنها تهيئ الإنسان إلى فعل الخير أو المفاضلة بين أنواعه وإما تحضه على فعل الشر أو المفاضلة بين أنواعه .
وقد أفرد أبو طالب المكى فصلا مستقلا لتفصيل هذه الخواطر فى كتابه قوت القلوب واستدل لها بقوله تعالى : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } (1) .
يقول المكى مبينا المعنى : ( أى ألقى فيها وقذف فيها ) (2) .
وهذه الخواطر مبنية عند أوائل الصوفية على ركنين اثنين هما :
[1] - وجود نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين :
ـــــــــــــــــــــــ
1- الشمس / 7، 8 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 113 ، وانظر الرسالة حـ 1 ص 393 .
أحدهما : يسمونه بالروح وهى عندهم نازع الخير ومكنه ومستقره وبأثرها تظهر التقوى وتظهر فطرته المؤمنة الموحدة .
والثانى : النفس وهى مكمن الشهوات ومستقرها ونازع الشر فى الذات الإنسانية وبأثرها يظهر الفجور (1) .(196/26)
ولقد سبق القول بأن اهتمام أوائل الصوفية بجانب النفس أعظم من عنايتهم بجانب الروح والتقوى ، وذلك بهدف البعد عن الغرور وإنكار الذات والرجوع بالفضل إلى الله تعالى ، غير أنهم ركزوا على الخواطر ومتابعتها ومعرفة بواعثها ومنابعها ، ليتمكنوا من الثبات على الطريق فنازعا الخير والشر حظيا باهتمام بالغ لديهم .
والصوفية الأوائل يعتبرون صفاء الروح ومخالفة النفس هما رأس التصوف والعبادة (2) .
فالصوفى عندهم هو الذى تحررت روحه من كدورة البشرية ، وصفت من الآفات النفسية ، وخلصت من الهوى .
يقول أبو الحسين النورى : ( التصوف ترك كل حظ للنفس والصوفية هم الذين صفت أرواحهم فصاروا فى الصف الأول بين ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا د. كمال جعفر ص 98 بتصرف .
2- انظر التصوف فى الإسلام د. عبد اللطيف محمد العبد ص 75 .
يدى الحق ) (1) .
ويقرر سهل بن عبد الله أن مصدر التقوى والخير فى الإنسان هو روحه ومصدر الشر والهوى نفسه وكل منهما ينقسم إلى مراتب ودرجات خاصة ، وهو لا يعنى بتقسيم النفس أو الروح تجزئتهما ، بل يعنى فقط وجود درجات فى نطاق الوحدة لكل منهما ، فالنفس واحدة ولكن لها درجات والروح واحدة ولكن لها درجات (2) .
وهذان النازعان عند أوائل الصوفية من دوافع الإرادة المؤثر فى سلوكها ويشكلان ملتقى الخواطر التى تجول فى داخل الإنسان ، يقول المحاسبى : ( فاعرف نفسك فإنك لم ترد خيرا قط ، مهما قل إلا وهى تنازعك إلى خلافة ولا عرض لك شر قط إلا كانت هى الداعية إليه ، ولا ضيعت خيرا قط إلا لهواها ، ولا ركبت مكروها قط إلا لمحبتها ، فحق عليك حذرها لأنها لا تفتر عن ــــــــــــــــــــــــ(196/27)
1- كشف المحجوب ص 232 ، وانظر الرسالة حـ 1 ص 393 والنورى هو أحمد بن محمد أبو الحسين النورى بغدادى المنشأ والمولد خرسانى الأصل توفى سنة 295هـ انظر فى ترجمته ، تاريخ بغداد حـ 5 ص 93 ، البداية والنهاية حـ 11 ص 106 المنتظم حـ 6 ص 77 ، صفة الصفوة حـ 2 ص 294 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص26 ، حلية الأولياء حـ 10 ص 294 .
2- من التراث الصوفى لسهل بن عبد الله التسترى د.كمال جعفر ص 236 .
الراحة إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة ) (1) .
[2] - الركن الثانى الذى يسهم فى تشكيل الخواطر عند الصوفية هو إيمانهم بوجود هاتفين يهتفان للإنسان بفعل الخير أو فعل الشر لحظة الاختيار :
1- هاتف يهيب به أن يفعل الخير ويزينه له ويسمى عندهم بالملك .
2- هاتف يزين للإنسان أن يفعل الشر ويحضه عليه ويسمى عندهم بالعدو أو الشيطان .
والروح والنفس فى ذات الإنسان هما النازعان المقابلان لهذين الهاتفين من حيث اتفاق الروح مع الملك فى الدعوة إلى الخير واتفاق النفس مع العدو فى الدعوة إلى الشر .
يقول المكى فى وصف النازعين والهاتفين فى القلب : ( فمن السواء والتعديل والازدواج والتقويم ، أدوات الظاهر وأعراض الباطن وهى حواس الجسم والقلب ، فأدوات الجسم هى الصفات الظاهرة وأعراض القلب هى المعانى الباطنة ، قد عدلها الله بحكمته وسواها ـــــــــــــــــــــــ
1- الرعاية لحقوق الله ص 261 وانظر الصدق لأبى سعيد الخراز فى توافقه مع المحاسبى ص 25 ، 26 .
على مشيئته وقومها اتقانا بصنعته ، أولها النفس والروح وهما مكانان للقاء العدو والملك وهما شخصان ملقيان للفجور والتقوى ) (1) .
ويستند المكى إلى الدليل الشرعى فى إثبات الهاتفين فيستدل بقوله صلى الله عليه وسلم :
( ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ، قالوا : وإياك يارسول الله ؟ قال : وإياى لكن الله أعاننى عليه فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير ) (2) .(196/28)
وبقوله : ( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاذ بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك فإيعاذ بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله تعالى فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 114 ، وانظر كتاب الصدق ص 27 .
2- السابق حـ 1 ص 114 ، والحديث أخرجه مسلم فى كتاب صفات المنافقين باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس برقم (2814) وأحمد فى المسند حـ 1 ص 385 ، والدارمى فى سننه حـ 2 ص 306 ، والبخارى فى التاريخ الكبير حـ 4 ص 239 .
3- السابق حـ 1 ص 114 والحديث أخرجه الترمذى فى كتاب التفسير حـ3 ص104 والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 8 ص 225 وأخرجه الطبرانى فى الكبير برقم (7223) .
وهذان الهاتفان كما دل الحديث ليس لهما جبر أو ضغط على الإرادة فى الإنسان فلا يلزمانها بفعل معين دون آخر ، وإنما دورهما فقط يكمن فى الإيعاذ والوسوسة والدعوة إلى فعل معين دون آخر .
أما الإرادة فهى التى تمضى الفعل وتحرك الجسد ، يقول المكى :
وروينا عن الحسن رحمه الله أنه قال : ( إنما هما همان يجولان فى القلب ، هم من الله تعالى وهم من عدوه ، فرحم الله عبدا وقف عند همه فما كان لله أمضاه وما كان من عدوه يجاهده ) (1) .
فالدور الذى يثبته أوائل الصوفية للشيطان هو الوسوسة فقط ، ومن ثم نرى عندهم تفسيرا مقبولا لعبودية الإنسان للشيطان من خلال اتباعه لما يطرحه من أفكار ، وبهذا أيضا يظهر سلطان الشيطان عليه .
وقلما يخلو تراث أوائل الصوفية بوجه عام من وصف الحذر من العدو والطريقة المثلى فى مقاومته ، وقد أجاد المحاسبى فى عرضه مجموعة من الأبواب لتحليل الحذر من العدو (2) يظهر من خلاصتها أن هذه الأفكار والوساوس التى يطرحها الشيطان إنما هى ابتلاء للعبد يجب عليه أن يردها ما استطاع وأفضل طريق لذلك هو الاشتغال بذكر الله .(196/29)
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 115.
2- انظر الرعاية لحقوق الله ص 150 وما بعدها .
يقول المحاسبى فى وصف أفضل طريق يمكن الإنسان من القضاء على نوازع العدو وخطراته : ( فهم فى الاشتغال بربهم دائبون ، وبالحذر إذا عرض الخاطر متيقظون ، وبقوة الاشتغال بالله يسهل عليهم فحص الخواطر إذا عرضت بفتنة ، فسلموا أو غنموا واتبعوا واستقاموا ) (1) .
* التفاعل بين النازعين والهاتفين وعلاقة ذلك بالإرادة :
ويرى الباحث فى تراث أوائل الصوفية مدى التفاوت والتفاعل بين النوازع والخواطر وعلاقتها بالإرادة :
فتارة تختلف اللمتان من الملك والعدو ويتفاوت الإلهام والوسوسة فى طرح معانى الخير والشر ، فلربما تقدمت لمة العدو بالأمر بالشر وتقدح بعدها لمة الملك نصرة للعبد وتثبيتا على الخير وعناية من الرب تعالى فينتهى عن ذلك وعلاقة ذلك بالإرادة أنه يجب على العبد أن يعصى الخاطر الأول ويطيع الخاطر الثانى .
ولربما تقدم إلهام الملك بالأمر بالخير ثم يقدح بعده خاطر العدو بالنهى عنه والتثبيط فيه بالتأخير ، محنة من الله تعالى للعبد لينظر كيف يعمل وحسدا من العدو ، فعليه أن يطيع الخاطر الأول ويعصى الخاطر الثانى .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 163 .
ثم تدق الخواطر من إلهام الملك بالخير ومن وسوسة العدو بالشر وقد يتفاوت ذلك من ضعف خاطر الخير لقوة الرغبة فى الدنيا ، ومن قوة خاطر الشر لقوة الشهوة والهوى ، وفى المزيد والنقص منهما والتقديم والتأخير بهما لتفاوت الأحكام والإرادة من الحاكم (1) .
ويتساءل المحاسبى عما إذا كان الشيطان يعلم ما تحدث به النفس فيعارضها بالصد عن الخير ؟
ويقرر أن الشيطان طالت مقارنته للإنسان وتفقده لأحواله ، حتى لم يخف عليه حاله فعرف مطالبه ومذاهبه فعند كل خير صده عنه ، هذا من غير علم منه بما يحدث غير أنه علم أن خيرا قد أحدثه العبد وكذلك يعلم أن شرا قد أحدثه لا يعلم أى خير ولا أى شر (2) .(196/30)
ويرى المكى أن خلق الإنسان بازدواجية فى الخواطر ووجود الإرادة الحرة بينهما وتركيبه بهذا الوضع أية من آيات الله الكونية تدل على حكمته سبحانه وتعالى فى تعديل الإنسان بما يحقق الغاية من خلقه وابتلائه فى الدنيا ، ويستدل المكى لذلك بقوله تعالى : { يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذى خلقك فسواك فعدلك فى أى صورة ما
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر تفصيل ذلك فى قوت القلوب حـ 1 ص 122 : 125 .
2- انظر تفصيل ذلك فى أعمال القلوب والجوارح للحارث المحاسبى ص 80 : 83
شاء ركبك } (1) .
وبقوله : { لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم } (2) .
فكانت صورة التعديل والتقويم عند المكى أن جعل الله زوجين من الخواطر كبواعث للإرادة الإنسانية فى حثها على تحريك البدن إلى الطاعة أو المعصية .
ونجد لسهل بن عبد الله التسترى تحليلا للعلاقة بين الإرادة وبواعثها فى إظهار التوفيق الربانى للعبد المؤمن أو الإضلال الذى لا ينافى عدله سبحانه وتعالى ، فيقرر أنه إذا كانت هذه الخواطر عن أواسط الهداية وهى الملك والروح ، كانت تقوى وهدى ورشدا وكانت من خزائن الخير ومفتاح الرحمة قدحت فى قلب العبد نورا أدركه الحفظة ، وهم أملاك اليمين فأثبتوها حسنات .
وإن كانت الخواطر عن أواسط الغواة وهم العدو والنفس كانت فجورا وضلالا ، وهى من خزائن الشر ومعالق الأعراض قدحت فى القلب ظلمة ونتنا أدرك ذلك الحفظة من أملاك الشمال فكتبوها سيآت .
وكل هذا إلقاء من خالق النفس ومسويها وجبار القلوب ومقلبها حكمة منه وعدلا لمن شاء ، ومنة وفضلا لمن أحب كما قال : { وتمت
ــــــــــــــــــــــــ
1- الانفطار / 6 : 8 .
2- التين / 4 .
كلمة ربك صدقا وعدلا } (1) أى بالهداية صدقا لأوليائه ما وعدهم من ثوابه وبالإضلال عدلا على أعدائه ما أعد لهم من عقابه (2) .(196/31)
ويبين سهل بن عبد الله أن الله إذا أراد إظهار شئ من خزائن الغيب حرك النفس بلطيف القدرة فتحركت بإذنه فقدح من جوهرها بحركتها ظلمة تنكت فى القلب همة سوء ، فينظر العدو إلى القلب وهو مراصد ينتظر والقلوب له مبسوطة والنفوس لديه منشورة يرى ما فيها وما كان من عمله المتبلى به المصرف فيه ، فإذا رأى همة قدحت فى النفس فأحدثت ظلمة فى القلب ظهر مكانه فقوى بذلك سلطانه (3) .
والهمة عند التسترى ترد على واحد من ثلاثة معان لا تحصى فروعها لأن هم العبد على قدر بغيته :
1- هوى وهو عاجل حظ النفس .
2- أمنية وهذا عن الجهل الغريزى .
3- دعوى حركه أو سكون وهو آفة العقل ومحبة القلب .
فأى هذه الثلاثة قدح فى القلب فهو وسوسة نفس وحضور عدو ترد بأحد ثلاثة أصول بجهل أو غفله أو طلب فضول دنيا ، والأفضل ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنعام / 115 .
2- من التراث الصوفى ص 172 ، وقوت القلوب حـ 1 ص 123 .
3- من التراث الصوفى ص 175 .
عنده مجاهدة النفس والعدو عن إمضائها وحبس الجوارح عن السعى فيها ، فإن أمرح قلبه فى ذكرها أو نشر خطواته فى طلبها ، كن حجابا بين قلبه وبين اليقين ، وإن كن وردن بمباحات فالأفضل له أن ينفيها عن قلبه كيلا يكون قلبه موطنا للغفلات ، كل ذلك يندرج عند سهل بن عبد الله تحت أصل كبير هو الابتلاء من الله تعالى بالتقليب والامتحان منه فى التصريف .
ويفسر لنا هذا الصوفىكيف يريد الله تعالى سلامة هذا العبد الذى أشرف على الهلاك والبعد بتسليط العدو عليه وتسويل النفس له فيقول :(196/32)
( فيطهِّر القلب عند الابتلاء ويهدى النفس بنور إيمانه إلى الله تعالى ويسر الالتجاء إليه ويخفى التوكل عليه عائدا لائذا مخلصا له ، فهناك توكل عليه فكان حسبه وعندها فوض الأمر إليه فوقاه الله مكر عدوه وجعل له مخرجا ونجاة ، فينظر الله تعالى إلى القلب نظرة تخمد النفس وتمحق الهمة وتخنس العدو لسقوط مكانه ، وتذهب لخنوسه شدة سلطانه ، فيصفوا القلب بقوة القهار العزيز الجبار ، فيخاف العبد مقام الرب ويفزع من الخطيئة ويهرب منها ويستغفر الله ويتوب ) (1) .
وفى المقابل يبين سهل بن عبد الله فى تحليل عميق أن الله تعالى إذا ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى ص 174 ملخصا ، وقوت القلوب حـ 1 ص 124 .
أراد إظهار خير وإلهام تقوى من خزائن الملكوت حرك الروح وهى نازع الخير فيه بخفى اللطف فتحركت بأمره جلت قدرته ، فقدح من جوهرها نور سطع فى القلب فأنتج همة عالية .
وكما قسم الهمة فى الشر إلى ثلاثة أقسام قسم همة الخير فى المقابل كذلك لأن همة كل عبد فى الخير عنده والتى هى مبلغ علمه ومنتهى مقامه ثلاثة أنواع :
1- مسارعة إلى أمر بفرض أو ندب لفضل يكون عن عمل فى حال العبد .
2- علم يكون فطنة له ظهر عليه من مكاشفة غيب من ملك أو ملكوت .
3- تحمل مباح من تصرف يعود صلاحه عليه واستراحة النفس بما أبيح له يكون نفعه لغيره أو ما يباح من ترويحات من الأفكار لقلبه الغائص فى البحار يكون تخفيفا لكربه .
فهذه مرافق للعبد باختيار من المعبود وحكمة من الحكيم ، وفى كلها رضاه سبحانه وتعالى ، ويرى التسترى أن إمضاءها أفضل للعبد وبعضها أفضل من بعض (1) .
ثم يقول التسترى : ( وهذه الأصول الستة من الخير والشر هى ـــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 176 .
الفرق بين لمة الملك وبين لمة العدو ، وبين إلهام التقوى وإلهام الفجور التى هى النية والوسوسة وهما الاختيار و الاختبار ، ويتفاوت العباد فى مشاهدتها على حسب علوهم فى اليقين ) (1) .(196/33)
وعلى الوتيرة نفسها قسم أبو طالب المكى بواعث الإرادة من الخواطر إلى ستة أقسام :
1- خاطر النفس وخاطر العدو وهذان لا يعدمهما عموم المؤمنين وهما مذمومان محكوم لهما بالسوء ولا يردان الا بالهوى وضد العلم
2- خاطر الروح وخاطر الملك وهذان لايعدمهما خصوص المؤمنين وهما محمودان لايردان إلا بحق وبمادل عليه العلم .
3- خاطر العقل وهو متوسط بين هذه الأربعة :
ا ــ يصلح للمذمومين فيكون حجة على العبد لما كان من تمييز العقل وتقسيم المعقول ، لأن العبد يدخل فى هواه بشهوة جعلت له ، واختيار لايعسر عليه من حيث لايعقل و إجبار .
ب ــ ويصلح أيضا للمحمودين فيكون شاهدا للملك ومؤيدا لخاطر الروح ويثات العبد على حسن النية وصدق المقصد .
ويبن المكى أن خاطر العقل إنما كان مع النفس تارة ومع الملك تارة أخرى حكمه من الله تعالة لصنعه وإتقانا لصنعه ليدخل العبد فى الخير ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 176 .
والشر بوجود معقول وصحة شهود وتمييز، فيكون عاقبة ذلك من الجزاء والعقاب عائدا له وعليه ، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان مكانا لجريان أحكامه ومحلا لنفاذ مشيئته فى مبانى حكمته .
4- خاطر اليقين وهو روح الإيمان والعمل الذى يحرك الإرادة على الطاعة والاستجابة كمحصلة للخواطر الإيمانية المتقدمة (1) .
لقد بلغ تفصيل الخواطر التى تسبق الإرادة عند أوئل الصوفية حدا يوحى بمدى الفهم الدقيق للقدر وعلاقته بحرية العبد واختياره ، ذلك لأنهم حللوا بواعث الإرادة بدرجة توجب الحذر من كل صغير أو كبير تعن فى القلب من هداية وتوفيق أو إضلال وخذلان يُبتلى من خلالها الإنسان ، يقول المكى :
وهذ كله كشف لعلم الله تعالى وإنفاذ لمشيئته وهو الابتلاء بالأسباب فالعدو يصير سببا لقوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } (2) .(196/34)
ثم أحكم ذلك بسابق علمه فقال : { وماكان له عليهم من سلطان } يعنى بحوله وقوته ومشيئته { إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر قوت القلوب ملخصا حـ1 ص 114 ، 115 .
2- سبأ / 20 .
منها فى شك } (1) أى لنرى .
وقيل : لنعلم العلم الذى يجازى عليه بالصواب والعقاب .
وقيل : لنخبر ونكشف (2) .
* كيفية التعرف على مصدر الخواطر :
ويعرض المكى أيضا فى تفصيل رائع كيف يمكن للإنسان أن يفرق بين أنواع الخواطر ومصادرها والسلوك الأمثل حيالها من قبل الإرادة ويحصر ذلك فى التقسيم فيما يلى :
[1] - ما كان من لائح يلوح فى القلب من معصية ثم يتقلب فلا يثبت فهذا نزغ من قبل العدو .
[2] - ما كان فى القلب من هوى ثابت أو حال مزعج دائم لابث فهو من قبل النفس الأمارة بطبعها أو مطالبة منها بسوء عادتها .
[3] - ما ورد على العبد من همه بخطيئة ووجد العبد فيها كراهيتها فالخاطر مركب :
ا ــ الورود من قبل العدو .
ب ــ والكراهية من قبل الروح والإيمان .
[4] - ما وجد من هوى أو معصية ثم ورد عليه المنع من ذلك فالخاطر مركب أيضا :
ا ــ الهوى من قبل النفس .
ب ــ المنع من قبل الملك .
[5] - ما وجده عن خوف أو حياء أو ورع أو زهد وما شهده من تعظيم وهيبة وإجلال فهذا كله من إرادة اليقين وهو من مزيد الإيمان (1) .
ثم يقول المكى بعد ذلك : ( فما كان منها من نية وعزم ، كان محسوبا للعبد فى باب النيات مكتوبا له فى ديوان الإرادة له بها حسنات ، وما كان منها من الشر نية وعقدا وعزما فعلى العبد فيه مؤاخذة من باب أعمال القلوب ونيات السوء وعقود المعاصى ) (2)
* شكل توضيحى لبواعث الخواطر عند الصوفية :
الروح …… …الملك ………نجد الخير
العقل …… الإرادة
النفس ………الشيطان…… نجد الشر
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر السابق حـ 1 ص 127 ملخصا .
2- انظر السابق حـ 1 ص 127 .(196/35)
نخلص من جملة ما سبق فى هذا المبحث إلى القول بأن أوائل الصوفية أثبتوا وجود بواعث للإرادة يقلبها الحق سبحانه وتعالى كيف يشاء تثير الإرادة وتهيؤها للفعل دون إجبار أو إلزام بفعل دون آخر ، وهذه ممثلة فى وجود نازعين متقابلين هما محل التقوى والفجور ، وهاتفين يهتفان له فى كل وقت ، أحدهما هو العدو أو الشيطان بوعده الكاذب من ناحية ، والثانى هو الملك ووعد الله الحق من ناحية أخرى ، وكل ذلك ثابت بدليل النقل ، كما أكدوا رفع أى سلطان أو قهر على الإنسان لحظة الاختيار وإجابته للدواعى الداخلية إلا سلطان الإرادة الذى يتربع الإنسان على عرشه ، فهى كما تقدم الفيصل فى تحريك البدن إلى ما يلحقه من ثواب أو عقاب .
وهم بذلك يضعون الشيطان فى موضعه الصحيح ويفسرون كيف أنه لا سلطان له إلا على أوليائه من خلال متابعتهم لأوامره ؟ تحقيقا لقول الله تعالى فى شأنه : { وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخى إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل إن الظلمين لهم عذاب أليم } (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- إبراهيم / 22 .
ويفسرون كيف يعبد الهوى باتباع الإرادة لدوافعه ؟ تحقيقا لقول الله تعالى فى شأنه :
{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون } (1) .
وكيف يقلب الله القلوب ولا يتنافى ذلك مع عدله فى تحقيق العقاب على المسئ ؟ .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الجاثية / 23 .(196/36)
*** المبحث الرابع ***
موضوع الاختيار البشرى ومجاله
يذكر المكى أن القرآن الكريم حدد مجال اختيار الإرادة الإنسانية وجعله بين طريقين معروضين أمام الإنسان ، أحدهما هو نجد الخير والثانى هو نجد الشر ، قال تعالى : { وهديناه النجدين } (1) .
فالنجدان طريقان معروضان خارج الإنسان ، وهما لازمان لصحة الاختيار وتحقيق معنى الحرية من الناحية العقلية ، أحدهما يعبر عنه القرآن بحرث الدنيا والآخر يعبر عنه بحرث الآخرة قال تعالى :
{ من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله فى الآخرة من نصيب } (2) .
وإذا كان القرآن قد عبر بلفظ الشراء أو الاستبدال أوالاستحباب والإيثار كما فى قوله تعالى :
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فماربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- البلد / 10 .
2- الشورى / 20 .
3- البقرة / 16 .
وقوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } (1)
وقوله : { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} (2) .
فإن هذه الألفاظ تدور حول معنى واحد وهو الاستغناء عن حياة فى سبيل أخرى (3) .
فالمؤمن يضحى بالدنيا فى سبيل الحصول على الآخرة والكافر يضحى بالآخرة ويتناساها أو يغفلها استغناء عنها لحصوله على الدنيا وهذا هو عين الاختيار ومجاله فى القرآن الكريم ولا يعنى هذا الاختيار بهذا المعنى ترك الدنيا وإهمالها والسلبية حيالها وحرصه على الآخرة والإيجابية نحوها فقط ، وإنما يعنى اختيار منهج فى الحياة يؤدى إلى الجنة أو منهج يؤدى إلى فقدها ، أو أنه اختيار بين حريتين ، حرية فى الدنيا يتحرر فيها من الشرع ، أو حرية للآخرة باختياره منهج الله .
ومن ثم فإن معنى إيثار العبد للدنيا على الآخرة هو أنه فضل أن يكون حرا فى الدنيا متحللا من كل منهج يخالف مراده وهواه فقوله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا والاخرة خير وأبقى } (4) .(197/1)
ـــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 108 .
2- النحل / 107 .
3- انظر قوت القلوب فى تعليق المكى على هذه الآيات حـ 1 ص 248 ، 249 .
4- الأعلى / 16 : 17 .
يعنى أن هؤلاء القوم المخاطبين إنما رفضوا أن يكونوا عبيدا لله سبحانه وتعالى مقيمين بما كلفهم به فى حياتهم مؤثرين أن يعيشوا باختيارهم وحريتهم فى الدنيا ، مفرطين فى حريتهم وملكهم الأخروى فى الجنة ، والعكس أيضا فإن المؤمن برفضه للدنيا وحرصه على الآخرة إنما يرفض الحياة الدنيا وفق شهواته ونزواته وأهوائه ، داخلا فى عبوديته لله سبحانه وإن كان دخولا اختيارا وفى ذلك يقول تعالى :
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } (1) .
فالمؤمن هوالذى يسلم قيادته ووجهه وإرادته لله ، وذلك وإن كان فقدا للاختيار بمعنى يؤدى إلى تمام العبودية لله ، إلا أنه يحقق تمام الحرية الإنسانية حيث لا حرية حقه للإنسان إلا على ما أعطاه الله واسترعاه فيه .
ومصطلح الحرية عند الصوفية لا يعنى إلا العبودية وتمامها على الوجه الأمثل ولشرح ذلك فصل مستقل إلا أننا نود أن نبين موضوع الاختيار البشرى ومجاله عندهم .
فالصوفية الأوائل أجمعوا على وجود الجنة والنار وأن لكل منهما ــــــــــــــــــــــــ
1- الأحزاب / 36 .
طريق فى الدنيا والإنسان بينهما سيصل إلى سابق علم الله فيه ، يقول الكلاباذى :
( وأجمعوا أنه لو عذب جميع من فى السماوات ومن فى الأرض لم يكن ظالما لهم ولو أدخل جميع الكافرين الجنة لم يكن ذلك محالا ، لأن الخلق خلقه والأمر أمره ولكنه أخبر أنه ينعم على المؤمنين أبدا ، ويعذب الكافرين أبدا ، وهو صادق فى قوله وخبره صدق ، فوجب أن يفعل بهم ذلك ولا يجوز غيره ، لأنه لا يكذب فى ذلك ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) (1) .(197/2)
ويذكر الكلاباذى أن الصوفية حتى عصره أقروا بتأبيد الجنة والنار وأنهما مخلوقتان باقيتان أبد الآبدين ، لا تفنيان ولا تبيدان وكذلك أهلوهما ، باقون فيهما خالدون مخلدون منعمون لا ينفد نعيمهم ولا ينقطع عذابهم (2) .
والاختيار البشرى كفعل داخلى ونفسى محض للإنسان هو تحرك الإرادة الحرة لاختيار المواقف الابتلائية ولتوجية النية وتصويب القصد وتحديد العزم نحو فعل دون آخر أو نحو الفعل دون الترك أو العكس حتى يصل بالمحصول النهائى لجملة الأفعال إما إلى الجنة وإما إلى النار .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 67 .
2- السابق ص 73 .
ويبرز الحكيم الترمذى (1) هذه الفكرة من خلال تردد العبد بين ابتلااءات الله بما منحه الله من اختيار وحرية ليصل فى النهاية إلى ما قضاه الله ، من كونه فى الجنة أو النار ، فيذكر أن الأحوال التى تتناوب العبد إنما هى من تدبير الله ، فيقبلها راضيا بها مبتهجا لها ، ولو كانت مكروهات لنفسه ، لأن تدبير الله له من خلال الشرع أفضل من تدبيره لنفسه ، فيجاهد نفسه مدركا أن هذه الدنيا لم تجعل للمشيئة والاختيار ولا للتجبر والاقتدار ولكن للعبودية والاضطرار ، لأن الدار دار العبيد أنشئت للعبودية والآخرة دار الأحرار والملوك ، ومن ثم وافق العبد ربه فى تدبيره وترك حظ نفسه ، فوضع نفسه لله ، وآثره على نفسه وعلم يقينا أن كل شئ قد تم وأحكم (2) .
وذلك أنه لما أبرز ملكه من غيبه إلى عرشه وسمائه وأرضه وملائكته ــــــــــــــــــــــــ(197/3)
1- هو محمد بن على الملقب بالحكيم الترمذى ويكنى بأبى عبد الله اختلفوا فى تاريخ ميلاده واتفقوا على أنه ولد فى أوائل القرن الثالث الهجرى بمدينة ترمذ ، له تصانيف كثيرة أشهرها كتابة ختم الأولياء وفيه مخالفات كثيرة فليحذر منها القارئ قيل توفى سنة 255 هـ وقيل سنة 285 هـ وقيل 320 هـ انظر حلية الأولياء حـ10 ص 233 صفة الصفوة حـ 4 ص141طبقات الشعرانى حـ 1 ص 106 طبقات الصوفية ص217 .
2- نوادر الأصول فى معرفة أخبار الرسول للحكيم الترمذى ، طبعة استانبول سنة 1293 هـ ص 397 بتصرف .
واستوى على عرشه حمد نفسه ، ثم أثنى على نفسه بالأمثال العلى والأسماء الحسنى ، وخلق اللوح والقلم وعدن الجنة بيده ، وحشاها بالإقبال عليها رحمة ولطفا ونزاهة وطيبا وبنظرة واحدة إلى خلقه أدنى وأقصى وأسعد وأشقى وبسط الرزق وأكدى كل ذلك عدل منه سبحانه ، وبإقبال واحد حشا الجنة فصارت بإقباله بهية لا تنقص على طول الأمد موادها ولا ينفذ نعيمها ولا يفنى أهلها وصارت الدنيا بنظرة واحدة محكمة لا يتفاوت تدبيره ولا ينقص ، يدور تدبيره معهم دوران الرحا حتى ينقضى كله وينفذ (1) .
ويكشف الحكيم الترمذى عن حقيقة الحكماء ويصفهم بأنهم يتدبرون كيفية خلق الآدميين لآداء مهمة العبادة ؟ وتفصيل الخواطر والإرادة ومجال أعمالها وحسن الاختيار بين ما يطرحه الله لهم من ابتلاءات فيقول :
( والحكماء عن تدبير الله يتذكرون كيف دبر شأن الآدميين ؟ وكيف ركبهم ؟ ومن أين استخرجهم ؟ وأين وضعهم ؟ وإلى أين دعاهم ؟ فينشرون منن الله ويشيعون نعمه لديهم ويصفون تركيب أجسادهم ومكامن العدو منها وسلطان الشهوات فيها ، ويمرون بين ـــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 398 بتصرف .(197/4)
أعمال القلوب وأعمال النفوس وجذع العدو ، فإن للنفس وسواسا يدق فى جنبه وسواس العدو ، ويصفون شأن الدارين وانقسام هذه الدار على الدار الآخرة ، ويصفون الإرادة ويعرفون المريدين مكامن النفس لإفساد العطايا الواردة على السالكين بذلك الطريق إلى الله ) (1) .
فالاختيارات والنيات التى يختارها العبد هى التى تحدد طريقه فى الحياة ، وتصبح أفعاله وأعماله بعد اختياره وبعد تلبسها بإرادته ووقوعها منه فى الواقع مكتسبة للخير أو الشر أو الحلال والحرام ، ومجال العمل الدائم عند أوائل الصوفية هو محو الرذائل والتفانى فى مجال الفضائل .
والزهد والمجاهدة والفناء وغير ذلك من المصطلحات التى أنشأها أوائل الصوفية أكبر دليل على اختيار الآخرة وعدم الإصرار على حب الدنيا .
والصوفى الحق عندهم يبغى من مجموع اختياراته فى الدنيا أن يصل إلى نعيم الله ومحبته وهو يعتبر مجاهدته فى إصلاح النفوس والتحكم فى الخواطر ونوازع السوء التى تعن له على الدوام من أشد أنواع التقوى .
يقول الترمذى :
( فإن التقوى فى هذا الطريق أصعب وأدق وأغمض وأعظم ـــــــــــــــــــــــ
1- الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية للدكتور عبد الفتاح عبد الله بركه حـ 2 ص 311 طبعة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر .
مؤنة من التقوى فى طريق الشريعة ، لأن طريق الشريعة على الجوارح ، وهذا الطريق بالقلوب فى ممرها على النفوس فيحتاج إلى أن يسلك بعمل القلب على شهوات النفس بالحراسة العظيمة ، والاستعانة بالله حتى يسلم ذلك العمل الذى نهض فى القلب من آفة النفس فيخرج إلى الجوارح سليما يصعد إلى الله سليما من آفاتها ) (1) .(197/5)
ويبين الحكيم الترمذى مجال الاختيار وعمل الارادة فيما يسميه بولاية التدبير فمعنى ولاية التدبير أن الله شرع السبيل وهدى القلوب ورزق العقول وأكد الحجة بالرسل ، وبما جاءوا به من البيان وأيدهم بالملائكة يهدون ويسددون وقيل سيروا إلى الله سيرا مستقيما فى هذا الصراط ، فإن عارضتكم نفوسكم بخلاف ما أمر الله فجاهدوها وسلوا الله المعونة ، فهذا تدبيره الذى وضعه للجميع ) (2) .
ومن ثم فإن أعز العلوم على الصوفية معرفة النفس وأخلاقها ، وأقوم الناس بطريق المقربين من الصوفية أقومهم بمعرفة النفس ، ومعرفة أقسام الدنيا ودقائق الهوى وخفايا شهوات النفس ، وشرها وشرهها (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 142 .
2- السابق ص 214 .
3- عوارف المعارف للسهروردى ص 26 .
ويذكر المكى فى تفسيره لقوله تعالى :
{ فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هى المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى } (1)
أنه لما كانت الجنة ضد الجحيم كان الهوى هو الدنيا ، لأن النهى عنه ضد الإيثار له فمن نهى نفسه عن الهوى ، فإنه لم يؤثر الدنيا وإذا لم يؤثر الدنيا ظهر معنى الزهد فيها وكانت له الجنة التى هى ضد الجحيم فصارت الدنيا هى طاعة الهوى وإيثاره فى كل شئ (2) .
ويذكر المكى فى موضع تخيير العبد بين الدنيا والآخرة حديثا نبويا فيه : ( لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النازعات / 37 : 41 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 246 .
3- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد ، باب الغدوة والروحة فى سبيل الله برقم (2792) وكذلك أخرجه مسلم فى كتاب الإمارة ، باب فضل الغدوة والروحة فى سبيل الله برقم (1880) وأحمد فى المسند حـ 3 ص141 والترمذى برقم (1648) والنسائى حـ 6 ص 15 ، وابن ماجه برقم (2756) والدارمى حـ2 ص 212 والبيهقى فى السنن حـ 9 ص 159 .(197/6)
ثم يشرح المكى كيف يزهد المرء فى الدنيا من خلال ما هو مطروح لديه من أمور الابتلاء بأن الله قال فى شأن يوسف عليه السلام :
{ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين } (1) .
فهذه تسمية لهم بالزهد فلما باعوه وخرج من أيديهم صاروا زاهدين ، والعرب تقول شريت بمعنى بعت لأنهم يقولون ابتعت بمعنى اشتريت .
كذلك العبد إذا باع نفسه وماله من الله تعالى وخرج من هواه إلى سبيل مولاه فهو من الزاهدين ، وكذلك قال المولى عز وجل :
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } (2) .
وقال أيضا : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى } (3) .
فإذا كان العوض واحدا وهو الجنة فى ذكر المعنين كان بيع النفس ـــــــــــــــــــــــ
1- يوسف / 20 .
2- التوبة /111 .
3- النازعات /40 .
والمال وإخراجهما لله تعالى بمعنى النهى عن الهوى فيهما ، والهوى هو الحياة الدنيا ، وهو اقتناؤه للمال وحبس النفس عليه ، فاستبدال ذلك بضده من إخراج الهوى من النفس وإدخال الفقر على المال هو الزهد فى الدنيا (1) .
يقول سهل بن عبد الله : ( من علامة حب الله تعالى حب النبى عليه السلام ومن علامة حب النبى صلى الله عليه وسلم حب السنة ومن علامة حب السنة بغض الدنيا وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا زادا وبلغة ) (2) .
* موضوع الاختيار البشرى واتساع دائرته عند الصوفية :
وإذا كان موضوع الاختيار البشرى ومجاله عند أغلب أوائل الصوفية هو اختيار الدنيا فى مقابل الآخرة أو العكس ، فإن هذا المجال أخذ فى وقت مبكر بمعنى آخر يختلف عن هذا المعنى وإن اتفق معه فى بعض النتائج ، وذلك أن الزهد الذى تميز به الصوفية وبمفهومه السابق دليل واضح على اختيارهم للآخرة ورفضهم للدنيا ، ولكنه لم يلبث حتى تطور من الزهد فى الدنيا فقط إلى الزهد فى الدنيا والآخرة معا ، طمعا
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 247 .(197/7)
2- السابق حـ 1 ص 259 .
فى إرضاء الله ومحبته .
فأصبح مجال الاختيار هو تفضيل الله على الدنيا والآخرة وكل شئ وقد نبتت هذه الفكرة وأينعت فى القرنين الثانى والثالث الهجريين حينما شاع قول رابعة العدوية (1) من نساء الصوفية : ( ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا فى جنتك ، ولكن حبا لذاتك ) (2) .
فقد جعلت بواعث العبادة ثلاثة :
1- عبادة عن خوف .
2- عبادة عن طمع .
3- عبادة مجردة من الخوف والطمع وهى أرقاها .
ولا شك أن هذه العبادة التى دعت إليها رابعة العدوية تبدوا مخالفة للنصوص الشرعية ومنهج النبوة ، حيث جعل أصحاب هذا الاتجاه ذات الله موضوعا للاختيار فى مقابل الدنيا والآخرة .
ــــــــــــــــــــــــ
1- هى رابعة بنت إسماعيل العدوية العابدة المشهورة ، قال ابن كثير : أثنى عليها الناس وتكلم فيها أبو داود السجستانى واتهمها بالزندقة فلعله بلغه عنها أمر وقد ذكروا لها أحوالا وأعمالا صالحة وصيام نهارا وقيام ليل ، توفيت بالقدس الشريف سنة 185 هـ انظر البداية والنهاية لابن كثير حـ 10 ص 186 صفة الصفوة حـ 2 ص 249 تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار حـ 1 ص 71 وما بعدها .
2ـ صفة الصفوة حـ 2 ص 249 .
والواقع أن بعض أوائل الصوفية تصوروا أن العبد ينبغى أن يسترسل مع الله على غير انتظار للثواب وعلى غير خوف من العقاب بل يسترسل معه على ما ينبغى له سبحانه وتعالى من العبودية حتى وصلوا إلى درجة يحتقرون فيها من عبد الله انتظار لثوابه وخوفا من عقابه .
وقد صنفوه من التجار الذين لا يعطون إلا لانتظار البدل ، بل غالى بعضهم فوصف هذا الفريق بأنهم عبيد السوء لا يوقرون الله عز وجل لذاته ولكن لما يصلهم من نفع أو نعمة (1) .(197/8)
وهذا النقد اللازع لمن طلب العوض فى العمل سوف يتوجه حتما وباللزوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه باعتبار الأدلة الثابتة عنه فى كونه عبد ربه خوفا وطمعا مما يدل على خطأهم وسوء أدبهم ، كما أدى ذلك أيضا إلى استهجان البعض منهم لعذاب النار فصرح بعدم الخوف منها وقلل من شأنها ، قال أبو بكر الشبلى (2) :
ــــــــــــــــــــــــ
1- طبقات الصوفية ص489 والتعرف لمذهب أهل التصوف ص161، 184 .
2- هو جعفر بن يونس الشبلى وقيل اسمه دنف بن جحدر خرسانى الأصل بغدادى المنشأ والمولد صحب الجنيد ومن فى عصره من المشايخ ، له بعض الشطحات والمخالفات الشأن فى صحتها توفى سنة 334 هـ انظر شذرات الذهب حـ2 ص 338 ، اللباب حـ 2 ص 10 وفيات الأعيان جـ1 ص 225 تاريخ بغداد حـ 14 ص 389 ، الكامل لابن الأثير حـ 8 ص 350 وطبقات الصوفية ص 337 .
( إن لله عبادا لو بزقوا على جهنم لأطفئوها ) (1) .
وقال أيضا : ( لو خطر ببالى أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق منى شعره لكنت مشركا ) (2) .
والله سبحانه وتعالى جعل النار فى مقابل الجنة وجعل لكل منهما طريقا يوصف بالخير والشر ولم يجعل الطريقين الذين يمثلان موضوع الاختيار البشرى حيال الإرادة الإنسانية ، ذات الله مقابل الفوز بنعيم الجنة والنجاة من النار بحيث يقال : إن من أراد الله فقد وفق إلى الصواب ، ومن أراد الجنة فقد أراد غيره أو قع فى المحذور .
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية خطأ هذه الطائفة من حيث ظنوا أن الجنة ليست إلا التنعم بالأكل والشرب والنكاح والباس وسماع أصوات طيبة وشم روائح طيبة ، ولم يدخلوا فى مسمى الجنة نعيما غير ذلك ، فجعلوا يطلبون نعيما أعلى من خلال رؤية الله تعالى والتنعم بالنظر إليه فسمت إليه همتهم وخافوا فوته .(197/9)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( قول أحدهم : ما عبدتك شوقا إلى جنتك أو خوفا من نارك ولكن لأنظر إليك وإجلالا لك ، وأمثال هذه الكلمات مقصودهم بذلك هو أعلى من الأكل والشرب ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 490 .
2- السابق ص 491 .
والتمتع بالمخلوق ، ولكن غلطوا فى إخراج ذلك من الجنة ) (1) .
ويضيف ابن تيمية تعليلا لهذه الحالة فى مجال الاختيار بين الله وما دونه بأن الصوفى همته المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها ، فيظن أنه يفعل لغير مراده ، والذى طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه ، فكثير من الصالحين والصادقين أرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح وذوق سليم ، لكن ليس له عبارة تبين كلامه ، فيقع فى كلامه غلط وسوء أدب مع صحة مقصوده (2) .
ويذكر العلامة ابن القيم فى تحقيقه لهذا الأمر أن الخطا نشأ عندهم لأنهم غلطوا فى مسمى الجنة ، فالجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور والقصور والأنهار ، وإنما الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل ، ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه ، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية حـ 1 ص 699 .
2- السابق حـ 10 ص 70 .
3- مدارك السالكين لابن القيم الجوزية حـ 2 ص 80 .
واستدل لذلك بقوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } (1) .(197/10)
والرضوان فى الآية نكرة فى سياق الإثبات ، أى أىُّ شئ كان من رضاه عن عبده فهو أكبر من الجنة ، يقول ابن القيم بعدها : ( فأى نعيم وأى لذة وأى قرة عين وأى فوز يدانى نعيم تلك المعية ولذتها وقرة العين بها وهو سبحانه به طابت الجنة وعليه قامت ، فكيف يقال : لا يعبد الله طلبا لجنته ولا خوفا من ناره ؟ ) (2) .
وقد دلت نصوص القرآن والسنة على الثناء على عباد الله وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها والاستعاذة من النار والخوف منها .
قال تعالى : { إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } (3) .
وقال سبحانه : { والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما } (4) .
وفى الحديث عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه ــــــــــــــــــــــــ
1- التوبة / 72
2- السابق حـ 2 ص 80 .
3- الأنباء / 90 .
4- الفرقان / 65 : 66 .
وسلم لرجل : ما تقول فى الصلاة ؟
فقال : أتشهد ثم أقول : اللهم إنى أسألك الجنة وأعوذ بك من النار ، أنا والله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ .
فقال صلى الله عليه وسلم : حولها ندندن ) (1) .
وفى حديث الملائكة السيارة : ( إن الله تعالى يسأل عن عباده وهو أعلم بهم .
فيقولون : أتيناك من عند عباد لك يهللونك ويكبرونك
ويحمدونك ويمجدونك .
فيقول عز وجل : وهل رأونى ؟
فيقولون : لا يارب ما رأوك .
فيقول عز وجل : وكيف لو رأونى ؟
فيقولون : لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا .
قالوا : يارب ويسألونك جنتك .
فيقول : هل رأوها ؟
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود فى كتاب الصلاة ، باب تخفيف الصلاة برقم (927) وأخرجه ابن ماجه فى كتاب الإقامة ، باب ما يقال فى التشهد برقم (910) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 3 ص 474 وصحح الألبانى إسناده فى كتابه صفة الصلاة ص 202 .
فيقولون : لا وعزتك ما رأوها .
فيقول : فكيف لو رأوها ؟(197/11)
فيقولون : لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا .
قالوا : ويستعيذون بك من النار .
فيقول : وهل رأوها ؟
فيقولون : لا وعزتك ما رأوها .
فيقول : فكيف لو رأوها ؟
فيقولون : لو رأوها لكانوا أشد منها هربا .
فيقول : إنى أشهدكم أنى قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا
وأعذتهم مما استعاذوا ) (1) .
وقد قسم ابن القيم أصناف الناس فى هذا الموضع إلى أربعة أقسام :
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الدعوات ، باب فضل ذكر الله عز وجل رقم (66) وأخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب فضل مجالس الذكر برقم ( 1722 ) وأخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات ، باب ماجاء أن لله ملائكة سياحين فى الأرض برقم ، وأخرجه أحمد حـ 2 ص 358 ، 382 والحاكم فى المستدرك حـ 1 ص 495 .
1- من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه فهؤلاء أعداؤه حقا وهم أهل العذاب الدائم وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به وإما لإيثارهم العاجل عليه ولو كان فيه سخطه .
2- من يريده ويريد ثوابه وهؤلاء هم خواص خلقه وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم أجمعين .
3- من يريد من الله ولا يريد الله فهذا ناقص غاية النقص وهو حال الجاهل بربه ، ويضرب لهذا النوع حال أكثر المتكلمين لأنهم أنكروا رؤيته والتلذذ بالنظر إلى وجهه فى الآخرة ، وأعلى الإرادة عندهم إرادة الأكل والشرب والنكاح واللباس فى الجنة وتوابع ذلك .
4- من يريد الله ولا يريد منه فهذا هو زعم بعض الصوفية بأنهم يطلبون الله بلا علة من طمع فى جنة أو خوف من نار (1) .
ويمكننا تعليل الوجهة الصوفية عند الأوائل لاختيارهم محبة الله على ما سواه من باب حسن الظن الذى ذكره شيخ الإسلام وهو أنهم لا يحسنون الكلام عن مرادهم وإن كان مقصدهم حسنا .
ذلك التعليل يتمثل فى المفاضلة والاختيار بين أثر من آثار صفات الذات وأثر من آثار صفات الأفعال ، فالجنة مخلوقة بفضل الله ورحمته ــــــــــــــــــــــــ(197/12)
1- مدارج السالكين حـ 2 ص 81 ، 82 مختصرا .
ففى الحديث عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين .
وقالت النار : لا يدخلنى إلا ضعفاء الناس وسقطهم .
فقال الله للجنة : أنت رحمتى أرحم بك من أشاء من عبادى .
وقال للنار : أنت عذابى أعذب بك من أشاء من عبادى ولكل
واحد منكما ملؤها ) (1) .
فالجنة من آثار صفات الأفعال وهى عندهم باقية بإبقاء الله لها ، أما محبته ورضاه فإنهما يتعلقان بصفات إلهية باقية ببقائه ، فهم أثروا ما يبقى ببقائه على ما يبقى بإبقائه ، من ثم يعتبر الصوفى نفسه قد ارتقى درجة عندما يبتغى بعبادته محبة الله ورضاه وليس فضله وجنته ، فليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة وهم آمنوا بوجودها ، ومع ذلك فإنهم أخطأوا
ــــــــــــــــــــــــ
1- والحديث أخرجه البخارى فى تفسير سورة ق ، باب قول الله تعالى وتقول هل من مزيد برقم (4850) ومسلم فى كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء برقم (2846) والترمذى فى صفة الجنة باب ما جاء فى احتجاج الجنة والنار برقم (2561) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 450 ، والبيهقى فى الاعتقاد ص 158 وابن منده فى الرد على الجهمية برقم (9) والآجرى فى الشريعة ص 391 .
لأنهم تجاوزوا الخط النبوى .
فقول أبى يزيد البسطامى : ( الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة وأهل
المحبة محجوبون بمحبتهم ) (1) .
وقوله الآخر : ( إن الله قد أمر العباد ونهاهم فاطاعوه فخلع عليهم خلعة فاشتغلوا بالخلع عنه ، وإنى لا أريد من الله إلا الله ) (2) .
نقول فيه : يجب أن يتأدب فيه ويقف بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقدم بين يده قولا ولا فعلا ، وإن كان الدافع الذى حمله على اسقاط النظر إلى الثواب والعقاب هو تطلعه إلى الأفضل والارتقاء فى سلم الرضى والمحبة .(197/13)
وأيا كان موضوع الاختيار البشرى عند الصوفية الأوائل ، فإنهم جعلوا مجاله محددا بالالتزام بفعل دون آخر وفق توجيه الشرع وتدبير الله ، كما أن شيوخ الصوفية رفضوا رفضا باتا فكرة الاتحاد بالذات الإلهية وشهودها من خلال القول بالمحبة فى ذات الله ، والأقوال السابقة لمشايخ الصوفية تؤكد أنهم يعنون بحب الذات أو الفناء فى الله فناء الإرادة الإنسانية عند رؤية إرادة الله التشريعية ، وانطلاقا من محبة العبد لربه فإنه يلتزم بأوامر المحبوب ونواهييه قولا وعملا فيكون سلوكه ترجمة ــــــــــــــــــــــــ
1- طبقات الصوفية ص 70 .
2- السابق ص 71 .
لرغائب محبوبه ، محفوظا فيما لله عليه مأخوذا عما له وعن جميع المخالفات .
وعلى الرغم من أن أوائل الصوفية أجمعوا على أن القبيح ما قبحه الله والحسن ما حسنه ، وأن القبيح ما نهى والحسن ما أمر به إلا أن بعضهم انزلق إلى مفهوم يبطل دين الله كليه ويقلب مجال الاختيار الذى شرعه بالأمر والنهى إلى معان كفرية خبيثة ، فإذا كان مشايخ الصوفية قد وقفوا موقفا حازما من القائلين بالحلول والاتحاد فإن الحلاج (1) ومن سار على نهجه قد جعلوا موضوع الاختيار فى المقابلة بين القول بالحلول وبين التحلل من الشرع وانفكاك معانية واضمحلالها ، فجوز ــــــــــــــــــــــــ(197/14)
1- هو الحسين بن منصور الحلاج يكنى بأبى المغيث ، كان جده مجوسيا اسمه محمى من أهل بيضاء فارس ، نشأ بواسط وقيل بتستر وقدم بغداد فخالط الصوفية وصحب الجنيد بن محمد وأبا الحسين النورى ، وعمرو بن عثمان المكى ، والصوفية مختلفون فيه رده أكثر المشايخ ونفوه وأبوا أن يكون له قدم فى التصوف وأثنى عليه جماعة منهم وصححوا حاله وجعلوه عالما ربانيا ، مات مقتولا بسبب آرائه سنة 309 هـ انظر تاريخ بغداد حـ 8 ص 112 البداية والنهاية حـ 11 ص 144 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 126 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 233 ، وفيات الأعيان حـ 1 ص 183 ، اللباب حـ 1 ص 330 ، والمنتظم حـ 6 ص 160 ، الفهرست لابن النديم ص 283 ، وأخبار الحلاج لويس ماسينيون وبول كراوس ، باريس سنة 1936م .
الحلاج كفر فرعون وإبليس وضياع المعانى الشرعية فى مقابل القول بالحلول فنراه يدافع عن إبليس وفرعون فى عصيانهما الأمر الإلهى ويرى فيهما مثالا للفتوة الحقة ، بل لقد صرح بأن استاذه هو إبليس وفرعون ، فإبليس لما عصى الله بامتناعه من السجود لآدم ، إنما عصى الأمر لأنه أبى أن يسجد إلا لله .
ولما قال الله لإبليس : لأعذبنك عذاب الأبدية .
قال له إبليس : أو لست ترانى فى تعذيبك إياى .
قال : بلى .
قال : فرؤيتك إياى تحملنى على عدم رؤية العذاب (1) .
فهو ينسى عذابه لحلول الحق فيه ، وكان إبليس فى نظر الحلاج مجيبا لله لا عاصيا له لأن إبليس قد رأى فى جحوده للأمر تقديسا للآمر (2) .
يقول الحلاج : ( إن لم تعرفوا الله فاعرفوا آثاره ، وأنا ذلك الأثر وأنا الحق لأننى ما زلت أبدا بالحق حقا ، فصاحبى وأستاذى إبليس وفرعون ، فإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه ، وفرعون أغرق
ــــــــــــــــــــــــ
1- الطواسين للحلاج نشره الأستاذ لويس ماسينيون ص 12 طبعة باريس سنة 1913 م
2- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 105(197/15)
فى اليم وما رجع عن دعواه وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداى ورجلاى ما رجعت عن دعواى ) (1) .
وثبت عنه أنه قال (2) :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا : نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتنى أبصرته : وإذا أبصرته أبصرتنا
وقريب من فعل الحلاج ما يروى عن بعض الصوفية كأبى الحسين النورى فى تفضيله نباح الكلب على تكبير المؤذن .
فلما سمع المؤذن دعا عليه قائلا : طعنة وشم الموت .
وسمع نباح الكلاب فقال : لبيك وسعديك .
لل ذلك فقال : أما المؤذن فأنا أغار عليه أن يذكر الله وهو غافل يأخذ عليه الأجرة ، ولولا الأجرة من حطام الدنيا التى يأخذها لما ذكر الله ، فلذلك قلت له : طعنة وشم الموت .
وقد قال الله تعالى : { وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الطوسين ص 51 ، 52 .
2- المنتظم حـ 6 ص 162 ، تاريخ بغداد حـ 8 ص 129 .
3- الإسراء / 44 .
فالكلب وكل شئ يذكرون الله بلا رياء ولا سمعة ولا طلب للعوض (1) .
وفى هذا الكلام وأمثاله ضياع لمعانى الكتاب والسنة فالمخلوقات تسبح بواقع الربويية ولا اختيار لها فى قبول التسبيح أو رفضه لأنها اختارت بداية قبول الطاعة الدائمة كما دلت آية الآمانة فى سورة الأحزاب فلا تكليف عليها :
قال تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين } (2) .
أما الإنسان فهو حامل للأمانة مستخلف فى الأرض مريد حر مكلف باتباع الشرع على سبيل الابتلاء ، فلا بد من السعى والمجاهدة والحفاظ على الأمانة بأدائها .
وإذا كان المؤذن يؤدى ما أوجب الله عليه ولو تقاضى أجرا وكان جزاؤه الإعدام من وجهه نظر النورى فأى معنى للشريعة يبقى مع هذا الاعتقاد الفاسد .
ولا شك أن هذه الأقوال فتحت الباب للقول بوحدة الوجود وغيره من الفلسفات التى شوهت صورة الأوائل من الصوفية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 492 .
2- فصلت / 11 .(197/16)
وخلاصة الأمر أن أغلب المشايخ من الصوفية الأوائل جعلوا موضع الاختيار ما ذكره الله فى كتابه من وعده بالجنة ووعيده بالنار ، وأن مجال الاختيار يتمثل فى الالتزام بالأحكام التشريعية ممثلة فى الأوامر والنواهى التكليفية ، وحتى الذين جعلوا محبة الله فى مقابل التضحية بكل شئ فهم وإن أخطأوا فى ذلك إلا أنهم لم يجوزوا الخورج عن مجال الأحكام الدينية ودعوا إلى الالتزام بالسنة .
*** المبحث الخامس ***
العلاقة بين المشيئه الإلهية المطلقة والإرادة
الإنسانية الحادثة
يثبت الصوفية الأوائل بوضوح وجلاء طلاقة المشيئة الإلهية كما جاء فى قوله تعالى : { قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (1) إذ يعتبرون ذلك من أهم الأسس فى توحيد الربوبية ودعائمه ، ولذا فإننا نجدهم يؤكدون على أنه لا فاعل فى الكون إلا الله ولا خالق للعالمين سواه ، فالله سبحانه وتعالى هو خالق الخلق بما يتجدد فيه من آحاد أو يحدث فيه من فناء ، وله سبحانه وتعالى المشيئة المطلقة التى تحكم الكون دون قيود أو شئ يحد من انطلاقها أو مثيل له فيها .
وهو سبحانه وتعالى الموجود الحق وكل ما سواه مستمد وجوده منه وأوائل الصوفية يرون أنه سبحانه وتعالى دليل على وجود غيره من المخلوقات وليس غيره دليلا عليه أو على وجوده ، وإن كانوا لا ينكرون أن مخلوقات الله آيات تشهد لعظمته وقدرته وعلمه ، ولكن المسلم ليس بحاجة إلى المخلوقات لمعرفة ربه وعظمته ولكنهم عرفوا الله
ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 47 .
بتوفيقه لهم وعبادتهم إياه .
قيل لذى النون المصرى : بماذا عرفت ربك ؟
قال : ربى أجل من أن يعرف بشئ ولكن عرفت ربى بربى وعرفت ما دون ربى بربى (1) .
وهم أفردوا الله بالخلق ، والخلق كان معلومة فى علم الله فى الأزل ثم دون الله علمه فى اللوح المحفوظ ثم أظهره بمشيئته إلى الواقع المشهود من خلال قوله : كن فكان ما أراد ، وتم ما سبق به القضاء .(197/17)
وقد تقدم أنهم استدلوا بقوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (2) على إثبات كلمة كن المظهرة لكل المخلوقات والتى أصبحت بعد أن لم تكن عيانا قائمة ومفعولات له سبحانه بالكلمة الأزلية والفعل القديم (3) .
يقول الحارث المحاسبى : ( هو الأول قبل الأبد والآخر إلى غير أمد المنشئ لما شاء بمشيئته ، لما سبق فى ذلك من علمه واستتر فى خفى غيبة فكان أمره جل ثناؤه :
{ إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ 2 ص 586 .
2- يس / 82 .
3- قوت القلوب حـ 1 ص 242 .
بمحكم من الصنعة وإتقان من الحكمة ) (1) .
ويعتبر ذو النون المصرى طلاقة المشيئة والفاعلية أساس التوحيد فالكل مخلوق بمشيئة مقدرة ، ومن توهم أن فعل الله محكوم بقوانين أو قوالب أو نماذج أو كيفيات محددة بحيث لا يفعل بغيرها كما قال كثير من المتكلمين والفلاسفة فما وحد الله عندهم .
فهم ما برحوا يؤكدون فى اعتقادهم أن الله على كل شئ قدير سواء أراد أن يفعل من خلال سننه أو أراد أن يفعل بكيفية أخرى فلا تمتنع أمام قدرته شئ ، سئل ذو النون المصرى عن التوحيد ؟
فقال : ( أن تعلم أن قدرة الله تعالى فى الأشياء بلا مزاج وصنعه للأشياء بلا علاج ) (2) !
فالله سبحانه وتعالى هو رب العالمين ، والرب يفعل فى ملكه ما يشاء وينفرد بتصريف ملكه وتدبير أمره يقول ذو النون :
( لو شاء لم يتكلم ولم ينقصه ترك الكلام ، ولو شاء تكلم بلا كلام ، ولو شاء تكلم بلا إلهام ، ولو شاء لقوى أبصار الناظرين على رؤيته ، وأسكن الكثير فى القليل وأسمع ــــــــــــــــــــــــ
1- الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للحارث المحاسبى ص31 .
2-الرسالة القشيرية حـ 2 ص 582 .
الميت خفى الكلام الذى لا يسمعه الحى السوى ) (1) .(197/18)
وإذا تبين لنا أن المشيئة الإلهية عند أوائل الصوفية تعنى أنه لا شئ يحدث فى هذا الكون إلا بأمر الله وقضائه وقدره فإن ثمة سؤال ضرورى بعد ذلك وهو :
كيف يفسر مشايخ الصوفية العلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة وبين الإراده الإنسانية الحادثة ؟
أو كيف يثبتون حرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله فى ظل المشيئة الإلهية المطلقة مع عدم التعارض بينهما ؟
حيث أن الممنوع عقلا قيام إرادتين حرتين فى الوجود تعملان بلا تصادم أو تعارض أو تناف ، فالمشيئة الإلهية المطلقة معناها أن الله يفعل ما يشاء بلا موانع ولا عوائق وبلا حد أو معارضة أو مخالفة مهما صغرت تعوق التنفيذ أو تبطئة أو تغيير من كيفه أو تقلل من كمه أو تزيد ، إنما يأتى الخلق أو الفعل المراد له فى اللحظة التى شاءها الله بالكم والكيف المرادين له سبحانه ، فإذا ما قامت إرادة حرة حادثة لها اختيارها الذاتى وحركتها الحرة ، تبادر للذهن من أول وهلة أن هذه الإرادة الحادثة تشكل حدا يحد من المشيئة الإلهية فيمنع انطلاقها ؟!
ــــــــــــــــــــــــ
1- علم القلوب ص 89 .
هذه فحوى المشكلة التى نبحث عن حلها عند مشايخ الصوفية الأوائل .
وفى هذا الصدد يقول ابن خفيف الشيرازى فى معتقد الصوفية الأوائل : ( ويعتقد أنه تعالى فعال لما يريد ، لا ينسب الظلم إليه وأنه يحكم فى ملكوته كيف يشاء بلا اعتراض ، ولا مرد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ويعتقد أنه تعالى يقرب من يشاء بغير سبب ، ويبعد من يشاء بغير سبب ، وإرادته فى عباده ما هم فيه ، وبرضاه طاعتهم ، والمعصية بمراده لا برضاه ) (1) .
فقد بين فى هذا الاعتقاد أن كل شئ بقضاء الله وقدره ، وأنه سبحانه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، فهو يخلق الكافر وأفعاله ويشاؤها ولكن لا يرضاها ولا يحبها فيريدها كونا ولا يرضاها دينا دل على ذلك قوله :(197/19)
( والمعصية بمراده لا برضاه ) واحترز مما ذهب إليه أهل الاعتزال من أن الله شاء الإيمان من الكافر ولكن الكافر شاء الكفر لئلا يقال : شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبيرعبد الله بن خفيف ص 341 .
2- انظر قوت القلوب حـ1 ص 128 حيث يذكر المكى هذا الكلام وينسبه لإمام المعتزلة عمرو بن عبيد ويرد عليه .
فقال : ( ولا ينسب الظلم إليه ) ثم بين طلاقة المشيئة لينفى ما لزم المعتزلة مما هو أسوأ من قولهم السابق ، وهو أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله فقال : ( وأنه يحكم فى ملكوته كيف يشاء بلا اعتراض ولا مرد لقضائه ولا معقب لحكمه ) .
وفى ذلك يقول تعالى : { إنا كل شئ خلقناه بقدر } (1) حتى لا يخرج خلقه عن مشيئتة وقدره
وقال : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد فى السماء } (2) ليدلل على أن إرادته فى عباده ما هم فيه ، فالإيمان والكفر بمشيئة الله .
وقال تعالى : { إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } (3) .
وقال تعالى : { والله لا يحب الفساد } (4) ليدلل على أن
ــــــــــــــــــــــــ
1- القمر / 49 .
2- الأنعام / 125.
3- الزمر / 7 .
4- البقرة / 205 .
المعصية بمراده لا برضاه .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ) (1) .
ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة الكونية من ناحية وبين المحبة والرضا وإرادته الشرعية من ناحية أخرى ،.
فالجبرية قالت : الكون كله بقضاء وقدر فيكون محبوبا له .
والقدرية قالت : ليست المعاصى محبوبة لله ولا مرضية له فهى ليست مقدره ولا مقضية بل خارجة عن مشيئته وخلقه .
أما أوائل الصوفية فإنهم قالوا : إن إرادة الله وإن كانت صفة من صفات الله الأزلية إلا أنها بين وجهين :(197/20)
* الوجه الأول : إرادة كونية قدرية ، وهى المشيئة الشاملة لجميع الحوادث ومنها مايحبه وما لا يحبه ، وبها يصدر الأمرالإنشائى التقديرى من الله إلى جميع المخلوقات من السماوات والأرض والجن والإنس والملائكة وكل ما فى الكون على سبيل الإنشاء
ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أحمد فى المسند حـ 2 ص 108 والطبرانى فى الكبير برقم (11880) وأبو نعيم فى الحلية حـ 8 ص 276 والدارمى فى مسنده برقم (990) وعبد الرزاق فى مصنفه برقم (20569) والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 3 ص 162 والإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان برقم (354) .
والمتابعة ، وهذا الأمر نافذ لا محاله فلا يتخلف باعتبار معنى الربوبية الذى ذكره سهل بن عبد الله (1) والذى ورد فى قوله تعالى عن موسى عليه السلام : { ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى } (2) وعن إبراهيم عليه السلام :
{ فإنهم عدو لى إلا رب العالمين الذى خلقنى فهو يهدين والذى هو يطعمنى ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذى يميتنى ثم يحين } (3) .
* الوجه الثانى : إرادة شرعية إلهية يصدر بها أمر ابتلائ خاص للإنسان والجان ، قد يلتزمان به وقد يمتنعان عن تنفيذه ، وهذه الإرادة هى المتضمنة للمحبة والرضا وهى التى تستلزم أمر الله ونهيه ، فلا شك أن الفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل ، فالأولى متعلقة بفعله والثانية متعلقة بفعل الغير .
ــــــــــــــــــــــــ
1-حيث قال : ( ومعنى رب العالمين سيد الخلق المربى لهم والقائم بأمرهم المصلح المدبر لهم قبل كونهم وكون فعلهم المتصرف بهم ، لسابق علمه فيهم كيف يشاء لما شاء وأراد حكم وقدر من أمر ونهى لا رب لهم غيره ) انظر تفسير التسترى ص 7 .
2- طه / 50 .
3- الشعراء / 77 : 81 .
سئل سهل بن عبد الله عن قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } (1) .(197/21)
قال السائل : لما أمر إبليس بالسجود لآدم أراد منه ذلك أم لا ؟
فقال سهل : أراده ولم يرده (2) .
ويشرح أبو طالب المكى كيف فرق سهل بن عبد الله بين الوجهين فى الإرادة فقال : ( يعنى أنه أراده شرعا وإظهارا عليه إيجابا وتكليفا ولم يرده منه وقوعا ولا كونا ، إذ لا يكون فى ملكه إلا ما أراد الله تعالى ، فلو أراد كونه لكان ولو أراده فعلا لوقع بقوله تعالى :
{ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } (3) فلما لم يكن ، عُلم أنه لم يرده ، فقد كان الأمران معا :
1- إرادته بالتكليف والتعبد .
2- إرادته بأن لا يسجد ، فلم يقدر أن يمتنع من ألا يسجد كما لم يقدر من أن يمتنع أن يؤمن ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 34 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 128 .
3- يس / 82 .
4- السابق حـ1 ص 218.
وثمة فرق آخر دقيق فى كلام أوائل الصوفية ، وهو تفريقهم بين المشيئة والإرادة والأمر فالمشيئة لاتكون إلا كونية فهى من مراتب القدر وسابقه لكل ما هو كائن حتى مشيئة العباد ، قال تعالى : { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } (1) .
أما الإرادة والأمر فيحملان الوجهين السابقين :
1- وجه بالمعنى الكونى المساوى للمشيئة .
2- وجه بالمعنى الشرعى الذى يمكن للعباد مخالفته .
يقول المكى : ( والأمة مجمعة على قول : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، واجتمعت على قول : لا حول ولا قوة إلا بالله فهذا عام فى كل شئ ليس فى بعض الأشياء دون بعض ) (2) .
ثم يفرق بين الوجهين فى الإرادة والأمر فيقول بعد ذكره لسؤال السائل الذى أجاب عليه سهل بن عبد الله :
( وكذلك القول فى كل ما أمر به وأراده ، أنه أراد الأمر الشرعى ليكونوا مكلفين متعبدين ، ولم يرده ممن لم يكن فيه الامتثال لأنه سبحانه وتعالى قال : { إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن
ــــــــــــــــــــــــ
1- الإنسان / 30 .
2- السابق حـ1 ص 218.
فيكون } (1) .(197/22)
فأخبر أنه إذا أراد شيئا كونه ، كما أنه إذا كون شيئا فقد أمر بتكوينه وأراده بدلالة كونه ، فلما لم يكن الأمر من العاصين علمنا أنه لم يرده إذ لوأراده كان فصار كون الشئ دليلا على إرادته ) (2) .
ثم يذكر بعد ذلك العلة فى كون هذا التقسيم فيقول :
( وهذا أصل الابتلاء وإرادة ظهور البلاء ، يأمر الله تعالى بالشئ ويريد كون ضده وقد أراد الأمر به وحسب ، وينهى عن الشئ ويريد كونه ، وقد أراد النهى عنه فقط ) (3) .
ويذكر الترمذى كيف أن الخلق لا يخرجون عن المشيئة لما سئل :
ما تقدير الله ؟
قال : إبراز علمه فى عبيده من الغيب بمشيئته ، فقد علم ما يفعل
هذا العبد فأبرز علمه (4) .
ثم يبين أن الحكمة البالغة هى التى برزت يوم المقادير من قبل خلق ــــــــــــــــــــــــ
1- النحل / 40 .
2- السابق حـ1 ص 218 .
3- السابق حـ1 ص 218 .
4- أدب النفس للحكيم الترمذى ص 94 .
السماوات والأرض بخمسين ألف عام ، وإنما كانت حكمة بالغة لأنها بلغت علم المقادير ، ومنها جرت إلى العباد وإلى الحكمة الظاهرة التى أدتها الرسل إلى الأمم ، فإن الله سبحانه وتعالى شرع لكل رسول شريعة الأمر والنهى من الحكمة البالغة ، فمن عرف ذلك فقد عرف الشرائع .
وإنما وضعت الشرائع ابتلاء للعباد ، واستخراجا لما يثبت لهم فى سابق علمه لأن المقادير وقت الابتلاء والعبودية ، فالخلق فى المشيئة والمقادير مأخوذون بالعبودية للزوم الحجة ، فمنهم من وفى ومنهم من أبق ولم ينقض العهد ، ومنهم من أبق ونقض العهد .
فإذا انتهى وقت الابتلاء والتمحيص عادت الأمور إلى ما كانت عليه فى البدء ، فهى مقادير ابتلاء وهى فى نفس الوقت مقادير تقسيم الحظوظ على العباد .
وتشمل هذه الحظوظ ما يتعلق بحياة العبد من إيمان وسعى ورزق وأجل وغير ذلك مما وضع فى جبله كل عبد ونشأته ، ولابد أن يظهر ذلك فى واقع الحياة الدنيا وأن يقوده إما إلى الجنة وإما إلى النار .(197/23)
فكل ما يبرز فى عالم الابتلاء وعالم التدبير إنما هو تحقيق لمشيئة الله وما تم لهم يوم المقادير (1) .
ـــــــــــــــــــــــ
1- الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية بتصرف ص 315 ، 316 ، 317 .
ويورد المكى هذا التفصيل تحت بابين اثنين باب الربوبية وباب العبودية :
* فالأمور الكونية والمعانى الحتمية الصارمة كالمشيئة والإرادة الكونية هى باب الربوبية وواجب على العبد الموحد أن يفرد الله بها .
* والأمور الشرعية والمعانى الاختيارية كالإرادة الشرعية والأمر الشرعى هى باب العبودية وواجب على العبد أن يسلم لله فيها وأن يفرده بالعبودية ولا يخضع لسواه .
يقول المكى : ( وهذا التفصيل فى هذه المعانى من الأحكام هو ظاهر العلم وفرض القدر وفحوى التنزيل والشرع والجبر للملك الجبار ، يجبر خلقه على ما شاء كما خلقهم لما شاء ويردهم إلى ما شاء ، كما ينشئهم فيما يشاء فالحكم لله العلى الكبير الواحد القهار ) (1) .
ثم يبين تعلق ذلك بالربوبية والعبودية فيقول :
1- يقهر عباده كيف شاء ويجرى عليهم مايشاء وله الحجة البالغة والعزة القاهرة والقدرة النافذة والمشيئة السابقة بوصف الربوبية وبحكم الجبرية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب ، حـ 1 ص 128 .
2- وعليهم الاستسلام والانقياد والطاعة والاجتهاد طوعا وكرها بوصف العبودية وبحق الملكة (1) .(197/24)
فمن شأن أهل اليقين أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبيره تعالى واختياره ، بل قد سلموا إليه سبحانه وتعالى التدبير كله ، سواء كان تدبيرا بواقع الربوبية فى الخلق والإيجاد والإمداد والرزق والمنع والعطاء ، أو كان تدبيرا بواقع معنى العبودية فيما أمر ونهى وفرض وحرم ، فلا يزاحم تدبيرهم ولا اختيارهم اختياره لتيقنهم أنه الملك القاهر القابض على نواصى الخلق المتولى تدبير أمر العالم كله ، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم فى أفعاله الذى لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة ، فلم يدخلوا أنفسهم معه فى تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده ولا اعتراضوا عليه أو تسخطوا تدبيره أو تمنوا سواه بل همهم كله فى إقامة حقه عليهم (2) .
وبدون الفهم الصحيح للعلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة والتفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الابتلائية والأمر الكونى والأمر الابتلائى سيكون الأمر غامضا متناقضا ، وبالتفريق ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 128 ، 129 .
2- طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم الجوزية ، تحقيق محب الدين الخطيب طبعة المكتبة السلفية ص 216 بتصرف .
بينهما جميعا سيكون الأمر واضحا جليا .
فالأمر الإلهى والإرادة الكونية والمشيئة المطلقة كل ذلك عندهم يعمل فى الجانب الجبرى من الإنسان وبقية المخلوقات فى الكون .
أما الجانب الاختيارى فى الإنسان فإن الإرادة الدينية أو الأمر الإلهى الابتلائى موجه إليه ولا يعنى ذلك أن هناك من يفعل أو هناك ما يحدث فى الكون بدون أمر الله الكونى أو بخلاف ما يريد ، فإن فعل الإنسان المخالف لأمر الله الابتلائى التخييرى موافق لأمره الكونى الذى هو قضاؤه وقدره ، وأمره بجعل الإنسانحرا يفعل ما يختار لابتلائه ، هذا الأمر كونى عام وشامل وسابق على الأمر الابتلائى فى يوم التقدير وعلم التدبير قبل التكوين فى الحكمة الظاهرة (1) .(197/25)
وكذلك لا يعنى ذلك عندهم أن الأمر الإلهى متعدد ومتنوع وأن الإرادة الإلهية متعددة ومتنوعة وإنما هذه صفات الله ، فالإرادة واحدة ولكنها إذا صدرت للمخلوقات بكلمة كن المفصلة والمظهرة كما يسميها سهل بن عبد الله (2) فإنها تصبح ابتلائية تخييرية للإنسان وكونيه جبرية لغيره من المخلوقات التى لم تخلق للابتلاء .
ولذلك فإن المكى قد وفق عندما حصر أعمال العباد فى ثلاثة أنواع ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 316 .
2- انظر ص 131 .
تبين العلاقة بين المشيئة الإلهية والإرادة الإنسانية :
[1]- الفرض وهو ما أمر به العباد على سبيل الإلزام وفيه تجتمع ثلاثة معان عند استجابة العبد :
1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .
2- الإرادة الابتلائية والأمر التشريعى المتضمن للمحبة .
3- إرادة العبد بالامتثال للشرع واختياره تدبير الله (1) .
وفى تلك الحالة يتعامل العبد مع أوامر الله التشريعية على أنه أسلم نفسه لله وانسلخ من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبير الله واختياره ، فينخرط فى سلك سائر الكائنات العابدة ، وكأنه يقف معها فى صف واحد يجمعهم وصف العبودية ، كما قال تعالى فى جمعه للكائنات العابدة مع عبودية الإنسان : { ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس } (2) فجعلهم صفا واحدا فى السجود مع كون المخلوقات خارجة عن الابتلاء والانسان داخل فيه .
[2]- النوع الثانى فى حصر أعمال العباد هو النفل وهو ما أمر به ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 127 .
2- الحج / 18 .
العباد لا على سبيل الحتم والإلزام وفيه معنيان :
1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .
2- محبة الله له إذ ندب إليه .(197/26)
فإذا فعل العبد ما ندب الله إليه فقد وافق المشيئة والمحبة يقول المكى : ( ونقول : إن النفل لا بأمر الله الإلزامى لأنه لم يوجبه ولم يعاقب على تركه ولكن بمحبة الله ومشيئة جل وعلا ، لأنه سبحانه شرعه وندب إليه ) (1) .
وكثير من أوائل الصوفية نزلوا المستحبات أو المندوباب منزلة الواجبات بغية التقرب إلى الله وسوف يأتى تفصيل ذلك إن شاء الله .
[3]- النوع الثالث فى حصر أفعال العباد المعصية وهى مخالفة العبد لإرادة الله التشريعية وفيها يجتمع من المعانى :
1- المشيئة الشاملة والإرادة الكونية المطلقة .
2- مخالفة الإرادة الإنسانية الحادثة للأمر الشرعى والإرادة الشرعية .
يقول المكى : ( إن المعصية لا بأمر الله لأنه لم يشرعها على ألسنة المرسلين ، ولا بمحبة الله لأنه قد كرهها إذ لم يأمر بها ولم يندب إليها ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 127.
ولكن بمشيئة الله جلت عظمته ألا يخرج شئ منها كما لم يخرج شئ من
علمه ، فقد دخل كل شئ فيها كما دخل كل شئ فى العلم ) (1) .
فالله سبحانه وتعالى أراد بإرادة نافذة وأمر أمرا كونيا سابقا على الأوامر الابتلائية فى الزمن السحيق أن يكون الإنسان حرا وأن يفعل ما يختاره حتى ولو كان معارضا وخارجا عن الأمر الابتلائى ، وكل ذلك لحكمة الابتلاء وهى الغاية القصوى من خلق عالم الشهادة وعالم الغيب ، فإذا فعل الإنسان أى فعل مخالف لأوامر الله ونواهيه التشريعية ، فإنه يمارس الحرية ويختار ما ينبع من إرادتة وينفذه بأمر الله الكونى الأول الذى أصبح به مختارا ، ويصبح معنى القدر الإلهى بالنسبة للإنسان قدرا من الإنسان العاصى لعصيانه ، أى أن الله قدر منه المعصية ومكنه منها بالأمر الكونى الذى به أصبح حرا .
ومن ثم يكون معنى الاختيار بالنسبة للإنسان عودة اختيارية من المختار إلى أمر الله الكونى الذى تسير به كل الكائنات المخلوقة لله سبحانه وتعالى .(197/27)
يقول المكى فى إجمال هذا المعنى : ( فالله سبحانه عالم بما أراد وقد ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 127 ولذلك أخرج الله العصاة من أية الحج رقم 18 ولم يجعلهم فى صف الساجدين فقال : { وكثير حق عليه العذاب } ثم أدخلهم فى المشيئة فقال : { ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء } .
سبق به علمه ، كذلك هو مريد لما علمه أظهرت إرادته سابق علمه وكشف علم الغيب بظهور إرادته الشهادة ، فهو عالم الغيب والشهادة فالغيب علمه والشهادة معلومة ، فكيف يخالف المعلوم العلم وهو إجراؤه والإرادة نفذت العلم فى معلومات الخلق ، وهذا فرض التوحيد ) (1) .
وبذلك نصل إلى أن أوائل الصوفية وفقوا إلى تقديم الحل المقنع فى التوفيق بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة وأثبتوا افتقارهم إلى تدبير الله لهم ، فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولاحياة ولا نشورا فعادوا بفقرهم إلى ربوبيته لعلمهم بفقر المخلوقات بأسرها إلى مشيئته وتدبيره ، وعادوا بفقرهم إلى ألوهيته كما افتقر أنبياؤه ورسوله وعباده الصالحين إليه لعلمهم أن هذا هو الفقر النافع ، فرأوا أعمالهم مستحقه عليهم بمقتضى كونهم مملوكين مستعملين فى أوامر سيدهم ، فأنفسهم مملوكة وإرادتهم لسيدهم وأعمالهم مستحقة بموجب العبودية تحقيقا لقوله سبحانه :{ إياك نعبد وإياك نستعين } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 127 ، 128 .
2- انظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله للمحاسبى ص 33 : 39 وانظر مدارج السالكين حـ 2 ص 45 ، وما بعدها ، وطريق الهجرتين ص 11 .(197/28)
الباب الثالث
الحرية من الجانب العملى السلوكى
وقد اشتمل على فصلي :
الفصل الأول : الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية
الفصل الثانى :الحرية ومنهج العبودية
الفصل الأول
الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية
وقد اشتمل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : الاستطاعة من مقومات الحرية عند الصوفية
المبحث الثانى: الاستطاعة وعلاقتها بالعلل والأسباب
المبحث الثالث : العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية
المبحث الرابع : الحكمة من خلق الأواسط والأسباب
*** المبحث الأول ***
الاستطاعة من مقومات الحرية
سبق أن علمنا أن أوائل الصوفية أثبتوا اختيار حرا للإنسان ، بإرادة ذاتية وأصلية فيه ، وأن الذى يختاره سواء كان طاعة أو معصية فإنه لا يخرج عن مشيئة الله الشاملة وإرادته الكونية المطلقة وإن كان ذلك مخالفا كمعصية لأمره الدينى التشريعى ، وهم يعتبرون إثبات الاختيار الحر مقوما أساسيا فى إثبات حرية العبد ووقوعه تحت المساءلة وتوقيع الجزاء فى الآخرة ، وهنا نجدهم يثبتون مقوما آخر من مقومات الحرية يتمثل فى إثباتهم لاستطاعة الإنسان على تحقيق ما يختار وقدرته عليه فهم علموا وأيقنوا أن الله استخلفهم فى الأرض وخولهم واسترعاهم فيها ليبتليهم ، ويقرر أبو سعيد الخراز فى وضوح تام هذه الحقيقة الهامة فيقول : ( إعلم أن الأنبياء عليهم السلام والعلماء والصالحين من بعدهم رضى الله عنهم أمناء الله تعالى فى أرضه على سره وعلى أمره ونهيه وعلمه وموضع وديعته ، والنصحاء له فى خلقه وبريته وهم الذين عقلوا عن الله تعالى أمره ونهيه وفهموا لماذا خلقهم وما أراد منهم وإلى ما ندبهم ) (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الطريق إلى الله لأبى سعيد الخراز ص 32 .
ثم بين أنهم أصغوا إلى الله بآذان فهومهم الواعية ، وقلوبهم الطاهرة ولم يتخلفوا عن ندبته ، فسمعوا الله عز وجل يقول :
{ آمنو بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } (1) .(198/1)
ثم قال : { ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون } (2) .
وقال تعالى : { لله ما فى السموات وما فى الأرض } (3) .
وقال تعالى : { ألا له الخلق والأمر } (4) .
ويصل بعد ذلك إلى الحقيقة التى أيقن بها المؤمنون وجعلوها نصب أعينهم وفى كل أفعالهم فقال : ( فأيقن القوم أنهم وأنفسهم لله تعالى وكذلك ما خولهم وملكهم فإنما هو له ، غير أنهم فى دار اختبار وبلوى ، وخلقوا للاختبار والبلوى فى هذه الدار ) (5) .
والمحاسبى يجعل هذه الحقيقة فى كتابه الرعاية أول ما يجب على العبد معرفته والفكر فيه ويبوب لها بابا مستقلا يقوله فيه :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديد / 7 .
2- يونس / 4 .
3- البقرة / 284 .
4- الأعراف / 54
5- السابق ص 32 .
( فتعلم أنك لم تخلق عبثا ولم تترك سدى ، وإنما خلقت ووضعت فى هذه الدار للبلوى والاختبار لتطيع الله عز وجل أو تعصى فتنقل من هذه الدار إلى عذاب الأبد أو نعيم الأبد ) (1) .
ومن ثم فإن الاستطاعة تظهر فى المفهوم الصوفى لأوائل الصوفية من خلال فهمهم للغاية من خلق الإنسان ، ووجوده فى هذه الأرض بالكيفية التى تحقق معنى الابتلاء ، فالله سبحانه وتعالى استخلف الإنسان فى الأرض وخوله فيها ، وهذا يعنى أن طبيعة الكائنات وماهية المخلوقات المستخلف عليها فى الأرض تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها ، كما أن إقامة النواميس الكونية والقوانين الطبيعية بحيث تمكنه من التملك السيطرة عليها دليل حازم على إثباتهم للاستطاعة والقدرة ، ويزدار الأمر وضوحا إذا تعرفنا على الاستطاعة من خلال دراستهم للكبر والعجب والغرور .
فالله سبحانه وتعالى أعطى العبد ومكنه فأصبح قادرا مستطيعا فاعلا فأمره سبحانه بالتواضع واللين وأن يرد الفضل إلى خالقه وأن يعرف قدره فى بدايتة وحياته وعاقبته .
يقول المحاسبى : ( أحياه بعد ما كان ميتا ، وأسمعه بعد ما كان ــــــــــــــــــــــــ
1- الرعاية ص 47 .(198/2)
أصما ، وبصره بعد ما كان لا بصر له ، وقواه بعد أن كان ضعيفا وعلمه بعد أن كان جاهلا ، وأغناه بعد أن كان فقيرا ، وأشبعه بعد أن كان جائعا ، وكساه بعد أن كان عاريا ، وهداه بعد أن كان ضالا ) (1) .
فإذا تذكر العبد وتفكر فى الأشياء وعلم أن حوله وقوته من الله واستطاعته منحة وفضل منه سبحانه وتعالى ، زال عنه الكبر ولزمه الخضوع والذلة والتواضع للمولى عز وجل والشكر للمنعم تعالى والانكسار للخوف من العقاب ويذكر المحاسبى أن الكبر والاستطالة على وجهين :
أحدهما : بين العباد وربهم وذلك يكون بالامتناع عن العبادة مع القدرة عليها كما قال سبحانه :
{ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } (2) فلما امتنعوا مع الاستطاعة فى الدنيا سلبها الله منه فى الآخرة ، قال تعالى : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعةأبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 317 .
2- الفرقان /60 .
وهم سالمون } (1) .
الوجه الثانى : بين العبد وبين العباد ويكون ذلك بالتعظم عليهم إما باحتقارهم أو رد الحق عليهم أن يقبله منهم وهو يعلم أنه الحق أو أمره بعضهم بخير أو نهاه عن منكر ، ويستدل لذلك بحديث سلمة بن الأكوع حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم لرجل : كل بيمينك .
قال : لا أستطع .
فقال النبى صلى الله عليه وسلم : لا استطعت ما منعك إلا الكبر .
قال سلمة : فما رفعها بعد ذلك إلى فيه (2) .
ويقيم الحكيم الترمذى الأساس فى نظريته للولاية بغض النظر عن آرائه المنحرفة فيها على أن الآدمى دون سائر المخلوقات هو المحل الوحيد ــــــــــــــــــــــــ
1- القلم 42 ، 43 .(198/3)
2- السابق ص 305 ، 306 والحديث أخرجه مسلم فى كتاب الأشربة ، باب آداب الطعام برقم (2021) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 4 ص 45 ، 46 والدارمى فى سننه حـ 2 ص 97 وابن حبان فى كتاب التاريخ ، باب المعجزات برقم (6512) والبيهقى فى دلائل النبوية حـ 6ص 238 ، والطبرانى فى الكبير 6235 وهذا الرجل هو بسر بن راعى العير .
لهذه الولاية ، وذلك لأن الله هيأه وأعده الإعداد المناسب لها وجوهر ولاية المخلوق لله فى الخدمة والوقوف بين يديه والمبادرة إلى تدبيره والمسارعة فى تنفيذه ، يدل على ذلك عنده قوله تعالى : { إنى جاعل فى الأرض خليفة } (1) .
وللخليفة شأن فى ملك المستخلف ، والآدمى هو المخلوق الوحيد الذى خلق لذلك (2) فقد خلق آدم بيده وعلمه الأسماء كلها ، وقد خلقنا لمحبته ، وجعلنا موضعا لتوارد مختلف أحكامه ، واقتضى منا الخدمة والوقوف بين يديه وتنفيذ هذه الأحكام .
أما سائر المخلوقات فقد خلقت بقوله : { كن } وجعلت مسخرة لنا ولا تكليف له فيها ، فالسخرة لازمة لا تزول ، وهى قائمة فيها حتى تعود إلى الأصول التى خلقت منها فما خلق من التراب عاد ترابا ، وما خلق من النار عاد إلى النار التى خلق منها ، ويبقى الآدمى فى دار البقاء فى أبديته التى خلق لها (3) .
ومن هنا يبدوا واضحا أن معنى السلطة والولاية والحكم مشتق من ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 3 .
2- الرياضة وأدب النفس للحكيم الترمذى ص 34 .
3- نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص 382 ، 383 بتصرف .
معنى الخلافة ، وأن الخلافة تكون على أشياء دون مستوى الخليفة فى الدرجة الوجودية ، وأن الآدمى مؤهل بمؤهلات يتميز بها عن غيره تجعله أهلا لهذه المهمة من دون الآخرين ، وذلك يستتبع أيضا أن يكون الإنسان مكلفا من قبل الله بأمور خاصة .
فيذكر السراج الطوسى فى بذل الوسع والاستطاعة فى تحقيق التكليف والعبودية أن معنى قوله عز وجل :
{ اتقوا الله حق تقاته } (1) .(198/4)
راجع إلى قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } (2) .
والتشديد فى قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } لأنك لو صليت ألف ركعة واستطعت أن تصلى ركعة أخرى ، فأخرت ذلك إلى وقت آخر فقد تركت استطاعتك ، ولو ذكرت الله تعالى ألف مرة واستطعت أن تذكره مرة أخرى فتؤخر ذلك إلى وقت ثان فقد تركت استطاعتك .
وكذلك لو تصدقت على سائل بدرهم ، واستطعت أن تعطيه درهما آخر ، أوحبة أخرى فلم تفعل ذلك فقد تركت ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 102 .
2- التغابن / 16 .
استطاعتك ، فمن أجل ذلك قلنا بالتشديد فى قوله : { ما استطعتم } (1) .
يقول الترمذى فى كتابه نوادر الأصول : ( ولما كانت سائر المخلوقات مسخرة مجبرة لا تكليف عليها وكان الآدمى على خلاف ذلك ، كان من شأنه أن يوضع فى دار ابتلاء وأن يكون ذا مشيئة يمكن أن تتعلق بأى حظ من حظوظ هذه الدار ، وأن يكون الأمر من الله علينا خاصة من طريق الكلفة والأسباب والاجتهاد والبلوى ، حتى يكون لنا اسم ومحمدة ، وفضيلة على سائر الخلق ، إذ لو لم يكن الأمر على طريق الاجتهاد والتكليف وإقامة الحدود لما كان لنا اسم ولا نعت ولا صفة ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 122 قلت : فرق بين الاستطاعة فى آداء الواجب وترك المحرم والاستطاعة فى آداء المستحب وترك المكروه فالأول يجب أن يؤديه المسلم ما استطاع أما الثانى فهو مخير فيه مع وجود الاستطاعة ولا يعد مقصرا فى تقوى الله فكلام السراج فيه نظر لأن لازمه ترك الحياة بالكلية والسلبية حيالها وليس هذا ما دل عليه الشرع وإنما دل على أن الحياة ابتلاء فيها الغنى والفقير والقوى والضعيف وغير ذلك من لوازم الابتلاء مما يعروف فى بابه ، فيجب التنبه إلى أننا أورنا كلامه للاستلال على اعتقدهم فى اثبات الاستطاعة فقط دون إقرار وتسليم .
2- السابق ص 314 .(198/5)
وكما أنهم أثبتوا استطاعة الإنسان وعلوه على ما دونه من المخلوقات المسخرات له ، فإنهم أيضا أثبتوا استطاعة ذاتية تقوم فى النفس البشرية وتتمثل فى استطاعتة على إتمام الفعل المراد له ، وهذه الاستطاعة يخلقها الله لهم مع أفعالهم ، فالجوارح الظاهرية هى أدوات الاستطاعة التى تحول الفعل الداخلى للقلب والممثل فى الإرادة وتوابعها من أمور الاختيار إلى فعل خارجى ظاهر ملموس يحاسب عليه الإنسان ويكتسب به الحسنات والسيئات .
ويحكى الكلاباذى إجماعهم علىذلك فيقول : ( وأجمعوا أنهم لا يتنفسون نفسا ، ولا يطرفون طرفة ولا يتحركون حركة إلا بقوة يحدثها الله تعالى فيهم واستطاعة يخلقها الله لهم مع أفعالهم لا يتقدمها ولا يتأخر عنها ولا يوجد الفعل إلا بها ) (1) .
وفهم الاستطاعة على هذا النحو يبطل وصف الإنسان بأن له قوة مستقلة يفعل بها ما يشاء مما يوحى بإمكانية حدوث فعل خارج عن قضاء الله وقدره ، ولذلك فالاستطاعة ليست محدثة للفعل لأن الخالق هو الله وحده وإن كانت الاستطاعة مكتسبة للإنسان .
وقد ذم المحاسبى إضافة العمل إلى النفس على سبيل الكبر ونسيان ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 63 .
الفضل الذى من الله به على العبد إذ خلقه ووفقه إلى العمل .
قال له سائل فى ذلك : وكيف لا أضيف الشئ إلى نفسى ولم يعمل ذلك العمل غيرى ، ولو لم أعلم أنى أنا الذى عملته ما عددته نعمة ولا رجوت ثوابه من الله عز وجل ؟
فأجابه المحاسبى بأنه ليس من العجب علمك بما عملت ولكن بالإضافة إلى نفسك بالحمد لها ونسيان منة المولى بذلك ، فأما إذا علمت أن ذلك كان بمنة الله عز وجل ، وأن نفسك لو تركتها ومحبتها لركنت إلى خلاف ذلك فتفرد الله بالمنة فى ذلك ، فلست معجبا (1) .(198/6)
ويفرق المحاسبى بين معرفة العبد أن العمل تم باستطاعته ، وبين إضافة الفضل فى هذه الاستطاعة إلى نفسه وحمده عليها فيقول : ( معرفتك بأنك عملت العمل بالاستطاعة معرفة قائمة فى الطبع بالاضطرار لا تقدر أن تجحد أنك عملته ولا تحتاج إلى ذلك ولا مخاطبة نفسك به ولكنك مع ذلك تتناسى فلا تنظر فيه إلى منة الله عز وجل إذ وهبك القدرة على العمل والطاعة ، فلو كان الله عز وجل لم يمن عليك بشئ من ذلك ، أكنت تقوى عليه أو ترى لنفسك من القدرة فى القوة والاستطاعة على إنفاذه ؟ ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرعاية ص 271 باب لإضافة العمل إلى النفس .
2- السابق ص 271 .
وفى إثبات الاستطاعة مخلوقة لله والعود بالفضل فيها إلى الله لا إلى شئ سواه ، ما قاله الله فى كتابه يوم حنين لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم خير عصابة على وجه الأرض : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين } (1) .
وذلك أن قائلا منهم قال : ( لن نغلب اليوم من قلة ) فلما أعجبوا بكثرتهم واتكلوا على قوتهم ونسوا الله عز وجل فى ذلك ، رفع الله فى ذلك الوقت النصر عنهم ليعلمهم أن كثرتهم لا تغنى عنهم شيئا وأن الله عز وجل الناصر الغالب لهم على عدوهم لا عددهم ، ثم عطف الله عز وجل عليهم بالنصر إكراما لنبيه صلى الله عليه وسلم ولهم ونصرا لدينه (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التوبة / 25 .
2- انظر فى غزوة حنين : مغازى الواقدى حـ 3 ص 885 ، طبقات ابن سعد حـ 2 ص 108 ، وتاريخ الطبرى حـ 3 ص71 وسيرة ابن هشام حـ 2 ص 437 والكامل لابن عدى حـ 2 ص 135 وانظر صحيح مسلم ، كتاب الجهاد ، باب فى غزوة حنين حـ 5 ص 166 ، 167 ، والمستدرك للحاكم حـ 3 ص 327 والمسند لأحمد بن حنبل حـ 1 ص 207 ، وانظرالرعاية لحقوق الله للمحاسبى ص 272 ، 273 .
قال ابن خفيف :(198/7)
( هذا معتقدى ومعتقد الأئمة السادة والعلماء القادة الذين قبلى وفى زمانى من أهل السنة والجماعة ) (1) .
فذكر فى بيان الاستطاعة :
( ويعتقد أن الأفعال لله تعالى لا للخلق والاكتساب للخلق والاكتساب خلق الله فلا خلق لهم ) (2) .
وبيان ذلك أن الله تعالى هو المعطى ، يعطى من يشاء ما يشاء ولا يعطى لمن لا يشاء ، فالأفعال لله والكسب للعبيد فكل ما يصدر عن العبد من طاعة أو معصية ، فالله يخلقها بتمامها ، ولكن صورة الكسب للعبد ، والكسب أيضا مخلوق من الله تعالى لا من خلق العبد ، فليست للعبد قدرة على خلق شئ قط ولا يكون أبدا (3) .
أما موقع الاستطاعة من الفعل فيقول فيها :
( ويعتقد أن الاستطاعة والقدرة مع الفعل ، أى حينما يشتغل العبد به ويفعله يهبه الله القدرة ، وأنه يخلق هذا الفعل أيضا ، وذلك أن القدرة له قبل أن ينشغل العبد به ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير أبى عبد الله ابن خفيف ص 342 .
2- السابق ص 349 .
2- السابق ص 349 .
ويعتقد أن الله تعالى لا يجبر عباده على معصيته ) (1) .
وهذا التصور للاستطاعة البشرية الحادثة يدل على أن أفعال العباد التى بها صاروا مطيعين أو عصاة مخلوقة لله تعالى ، وأن الله منفرد بالخلق والإيجاد كما قال تعالى : { الله خالق كل شئ } (2) .
وأوائل الصوفية لا يعتبرون الاستطاعة البشرية هى الأعضاء والجوارح بل هى ما يرد من القوة على الأعضاء السليمة ، فهى ليست قوة أو ملكة دائمة فى النفس الإنسانية .
يقول الكلاباذى : ( ولو كانت الاستطاعة هى الأعضاء السليمة لاستوى فى الفعل كل ذى أعضاء سليمة ، فلما رأينا ذوى أعضاء سليمة ولم نر أفعالهم ، ثبت أن الاستطاعة ما يرد من القوة على الأعضاء السليمة ) (3) .(198/8)
وتلك القوة متفاضلة لديهم فى الزيادة والنقصان وفى وقت دون وقت ، ويستدل الكلاباذى على أن لكل فعل استطاعة يخلقها الله عز وجل فى العبد يفعل بها هذا الفعل الذى خلقت من أجله ، وأنها لا تبقى بعده ولا تصلح لغيره من الأفعال بقوله تعالى فى قصة موسى ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 356 ، 357 .
2- الرعد / 18 .
3- التعرف ص 63 .
عن العبد الصالح : { إنك لن تستطيع معى صبرا } (1) .
ومعلوم أن ثمة استطاعات لأفعال أخرى كالتى يقوم بها موسى عليه السلام فى هذا الوقت ، فالإنسان مستطيع بالنسبة لفعل عاجز بالنسبة لغيره ، ويستطيع بالنسبة لفعل ما فى وقت عجز عنه فى وقت آخر .
ومن ثم فاستطاعة الإنسان ليست قوة أو قدرة ذاتية مستقلة ومصاحبة له طيلة حياته (2) .
فالإنسان ليس محدثا لفعله أو خالقا له بل فعله مخلوق لله ، ويقتصر دورالاستطاعة البشرية إيزاء الفعل المخلوق لله على اكتسابه فقط وبذلك يتوافق مفهوم الاستطاعة ودورها مع مفهوم الربوبية والفاعلية الإلهية المتقدم وإفراد الله بالخلق والأمر .
والكسب ليس منسوبا للعلل الطبيعية وإنما هو للفاعلية الإنسانية فقط حيث هو مناط التكليف والثواب والعقاب ، ولما كانت الطبيعات غير مكلفة أو محاسبة فليس لديها اختيار أو استطاعة ، وخلق الله عز وجل لأفعال الإنسان الخلقية لا يتعارض مع الأمر والنهى والثواب والعقاب فى الآخرة ، بل يتوافق معه لأن الإنسان لا يكتسب من الأفعال إلا ما يختاره هو اختيارا حرا ، ومن ثم فهو لا يجازى على ذات الفعل لأن ــــــــــــــــــــــــ
1- الكهف /66 .
2- السابق ص 64
ذلك من خلق الله وإنما يجازى على المعصية الخلقية للفعل المكتسب أو على الطاعة الخلقية المبنية على الاختيار والنية والقصد من حيث كونه خيرا أو شرا حسنا أوقبحا .(198/9)
والحكم بالحسن والقبح للفعل يبنى على أنه نتيجة لاختيار العبد وليس نتيجة لخلق الله لهما ، فإن وافق الشرع كان خيرا وإن خالفه كان شرا ، فعلة كون الفعل خيرا أوشرا هو الاختيار الإنسانى ، أما علة حدوث الفعل بعد أن لم يقع بصرف النظر عن كونه خيرا أو شرا فهى خلق الله عز وجل من ناحية وخلقه لصفات الإنسان المكتسبة له بناء على اختياره من ناحية أخرى .
ومن ثم يقرر الكلاباذى أن أوائل الصوفية أجمعوا على أن لهم أفعالا وأكسابا على الحقيقة هم بها مثابون وعليها معاقبون ولذلك جاء الأمر والنهى (1) .
ويكاد يفهم الكلاباذى الاكتساب بمفهوم الأشاعرة له حتى يمكن القول : إنه يبدو متكلما نحو هذه المسألة أكثر من كونه صوفيا ، ودليل ذلك قوله : ( إن معنى الاكتساب أن يفعل بقوة محدثة ) (2) .
وقد حاول الأشعرى فى هذا المجال التوفيق بين أن يحدث ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 64 .
2- السابق ص 64 .
الفعل بقدرة الله تعالى وفاعليته خلقا وإبداعا مع نسبة الفعل بوجه ما إلى الاستطاعة البشرية حتى يوجب ذلك على العبد المسئولية والجزاء .
شكل يوضح الفرق بين مذهب أوائل الصوفية ومذهب الأشعرى فى مسألة الكسب
أولا : مذهب أوئل الصوفية :
…………………نجد الخير
الإرادة …… الاستطاعة ………
…………………نجد الشر
( الاستطاعة صالحة للضدين من الأفعال بين الخير والشر )
ثانيا : مذهب الأشعرى :
……… ……… نجد الخير
…… الاستطاعة………
الإرادة……
…
الاستطاعة
………
……………… نجد الشر
( الاستطاعة صالحة لواحد من الفعلين فقط إما الخير وإما الشر )
وملخص هذه المحاولة الفكرية أن الله حين يرى من العبد عزما بالاستطاعة البشرية التى يقتصر دورها على اكتساب الفعل المخلوق .(198/10)
فدور الاستطاعة فى فعلها ليس فى إحداثه من عدم ، أى خلقه وإيجاده وإنما هو فى اكتساب الفعل الذى يخلقه الله عز وجل للعبد حالة اختياره وعزمه وتصميمه عليه ، من أجل ذلك أصر الأشعرى على أن تكون الاستطاعة مع الفعل للفعل لا تسبق الفعل ولا تبقى بعده (1) .
إن دور المسئولية الإنسانية عند أوائل الصوفية يكمن فى امتثال الإنسان الطاعة فى الوقت الذى كان فيه مستطيعا لاكتساب المعصية والعكس كذلك ، فالاستطاعة عندهم مجردة وصالحة للضدين من الأفعال خيرا كان أو شرا ، أما الأشعرى فالاستطاعة عنده يخلقها الله لا تصلح إلا لفعل واحد ، وذلك عند إرادة العبد للخير أو الشر فهى صالحة للخير فقط أو الشر فقط وهذا فيه شبه من مذهب الجبرية .
ويذكر الكلاباذى فى اعتقاد أوائل الصوفية ، أنهم مختارون لاكتسابهم مريدون له وليسوا بمحمولين عليه ولا مجبرين ولا مستكرهين له (2) .
ولكن هذا الاختيار ليس على التفويض كليا أزليا من الله عز وجل ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع ص 72 .
2- التعرف السابق ص 64 .
للإنسان يفعل به ما يشاء ، بل هو أمر يخلقه الله عز وجل فى الإنسان إبان الفعل لينتفى به الإكراه والجبر والضرورة عن الإرادة لحظة الاختيار .
يقول الكلاباذى : ( ومعنى قولنا مختارون : أن الله تعالى خلق لنا اختيارا فانتفى الإكراه فينا وليس ذلك على التفويض ) (1) .
ثم يورد قول سهل بن عبد الله التسترى : ( إن الله لم يقو الأبرار بالجبر إنما قواهم باليقين ) (2) .
ومن ثم فإن الله لم يجبر عبدا على الاختيار ولو كان إلى الطاعة فهو سبحانه يمد المؤمن بعد اختياره للإيمان والطاعة وبعد رفضه للكفر والمعصية يمده بالاستطاعة الصالحة لما يريد ويعينه على ذلك .
كذلك يفعل مع الكافر حيث يمده ويخلق له الأفعال صلحة للكفر والإيمان كما قال سبحانه وتعالى :(198/11)
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزى الشاكرين } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 64 .
2- السابق ص 64 .
3- آل عمران /145 .
ومما يجدر ذكره أن التسترى ينفرد عن سائر الصوفية فى عصره فى فهم الاستطاعة البشرية بمعنى زائد ، حيث يقرر أنها قبل الفعل وأثناؤه وبعده ، ولكنه مع ذلك يؤكد عدم استقلال الاستطاعة البشرية عن الفاعلية الإلهية ، وذلك لأن الاستطاعة تكون خاضعة للإرادة الإلهية أثناء الفعل .
ورأى التسترى فى الاستطاعة ينطوى على عمق سببه حرصه على إثبات المسئولية الخلقية للإنسان ، وفى نفس الوقت إثبات حدوث الفعل بخلق الله عز وجل .
وقد عبر الدكتور كمال جعفر عن هذا العمق بأن الاستطاعة الفعلية ضرورية للفعل قبل الفعل بواجبه نحو ربه ، وهى ضرورية أيضا بعد الفعل من حيث القدرة على الشكر إذا كان العمل من أعمال الطاعة أو التوبة والاستغفار إذا لم يكن كذلك (1) .
ومعنى ذلك أن الاستطاعة قبل وبعد الفعل باعتبار مقدماته ونتائجه فهى أفعال متتابعة متلاحقة لا تنقطع ، بيد أنه يكون من البدء عقليا ثم سلوكيا ثم نفسيا أو وجدانيا وهكذا ، ومن ثم فالفعل نفسه لا قيمة له فى حد ذاته بل إن القيمة الحقيقية تنصب على النية والدافع الذى يسوقه إلى الفعل ، وهما فيما يرى سهل بن عبد الله فى نطاق ــــــــــــــــــــــــ
1- من التراث الصوفى ص266 .
الاستطاعة الإنسانية (1) .
ومن ثم تأكد لنا أن سهلا حينما قال بالاستطاعة قبل وأثناء وبعد الفعل ، لم يكن فى ذلك القول مختلفا من حيث الأصول والنتائج عن سائر مشايخ الصوفية الأوائل حيث لم يجعل الاستطاعة بذلك محدثة للفعل ، وجعل أهمية الفعل منحصرة فى الدافع إليه ونتائجه كما أشار إلى ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :(198/12)
( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) (2) .
ويرى سهل بن عبد الله أن الحكمة من تزيين الله للإنسان بالاستطاعة هى الابتلاء شأنها فى ذلك شأن الأسباب الخارجية التى تتدخل فى حياة الإنسان ابتلاء واختبارا ، كالفقر والغنى والصحة والمرض والعلم والجهل والخير والشر ، والإنسان كما أنه مطالب بأن ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 266 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى ، باب كيف بدأ الوحى رقم (2) وأخرجه مسلم فى كتاب الإمارة برقم (1906) وأبو داود فى كتاب الطلاق برقم (20) والترمذى فى كتاب فضائل الجهاد برقم (1647) والنسائى فى كتاب الطهارة برقم (75) وابن ماجه فى كتاب الزهد برقم (4227) .
يصارع قواه الباطنية إذ أملت عليه الانحراف ، كذلك فإنه مطالب بجعل هذه الاستطاعة التى منحه الله إياها آداة يدين بها للإله الواحد (1) .
ومهما يكن من أمر فما نود تأكيده هو أن مشايخ الصوفية الأوائل قد أثبتوا للإنسان قدرة أو استطاعة حقيقية لا يمكن إنكارها ولا يؤثر ذلك عندهم فى مدى شمول قدرة الله وإرادته أو الحد منها ، كما أن تفسير العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية بالكسب هو التفسير الذى ارتضوه مع أهل السنة والجماعة وسيأتى المزيد من التفصيل فى المباحث الآتية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر من التراث الصوفى ص 267 ، وانظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 282 .
*** المبحث الثانى ***
الاستطاعة وعلاقتها بالعلل الطبيعية(198/13)
مما لا شك فيه أن مبحث العلية من المباحث الرئيسية فى الفكر الفلسفى وفى الفكر القائم على الرسالات السماوية جميعا ، ولذلك فقد أدلى مفكرو الإسلام بدلوهم فى هذا المبحث الهام والذى يمثل أساسا متينا فى اعتقاد كل مسلم ، ومما يجدر ذكره أن الصوفية الأوائل لم يبحثوا فى جلساتهم أو مأثوراتهم وأقوالهم وكتبهم موضوعا لمجرد المعرفة النظرية البحتة ، بل المعرفة عندهم مبعثها دائما العمل والسلوك ، ومؤدية دائما إلى عمل وسلوك ولذلك نجد أن النتاج الصوفى حيال الفكر الفلسفى لا يكون مباحث ونظريات صورية بحتة لكل موضوع بحيث يكون كل واحد مستقلا عن الآخر ، بل هى جميعا حصيلة موقف وجدانى نشأ عنده من خلال الترقى فى سلم الإيمان بالله .
ولذلك فإننا نجد مبحث العلية عندهم متجليا ظاهرا فى فهمهم للتوكل ، حيث يمكننا تلمس مفهومهم للأسباب الطبيعية ومدى فاعليتها وعلاقتها بالإنسان من ناحية أو بالفاعلية الإلهية والربوبية من ناحية أخرى .
وإذا كان متكلمو الإسلام قد وقفوا من مبحث العلية مواقف متباينة فمنهم من نادى بالوجوب الضرورى للمعلول عن العلة واقترانهما فى الوجود والعدم بالضرورة ، فأثبتوا استطاعة ذاتية للعلة ينتج بها المعلول ومنهم من قال بعكس ذلك فأنكر أن تكون العلاقة بين العلة والمعلول قائمة على هذا الوجوب الضرورى والاقتران الحتمى بينهما وجودا وعدما ، حتى لا يكون هناك استقلال للطبيعة فى فعلها عن الفاعلية الإلهية فتتعدد الفاعليات فى الوجود وتكون قدرة الله محكومة بالعلل والمعلولات (1) .
إذا كان هذا هو الشأن فإن الصوفية الأوائل التزموا النهج الإسلامى فى هذه القضية ، فقالوا أولا بوجود علل ومعلولات وأسباب ومسببات تؤدى فعلها فى الكون والوجود بسبب ما أودع الله فيها من قوى وتأثير لا ينبع من ذاتها بل بإرادة الله فيها .(198/14)
ويفرد المكى بابا لبيان ذلك تحت عنوان : ( ذكر الأسباب والأواسط لمعانى الحكمة ونفى أنها تحكم وتجعل لثبوت الحكم والقدرة ) (2) .
ويبين فيه أن الله عز وجل أظهر أشياء بوصف قدرته وأجرى أشياء من معانى حكمته ، فلا يسقط المتوكل ما أثبت من حكمته لأجل ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر فى تفصيل ذلك الأمر ، الفصل فى الملل والنحل لابن حزم الأندلسى حـ3 ص 14 وما بعدها .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 10 .
ما شهد هو من قدرته ، حيث أن الله تعالى حكيم فالحكمة صفته ولا يثبت المتوكل الأشياء حاكمة نافعة ضارة فيشرك فى توحيده ، من قبل أن الله تعالى قادر والقدرة صفته وأنه حاكم جاعل ضار نافع لا شريك له فى أسمائه ولا ظهير له فى أحكامه .
ويستدل على ذلك بقوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } (1) .
وقوله : { ولايشرك فى حكمه أحدا } (2) .
ويذكر المكى أن الأسباب أواسط حق وصدق ، إنما جعلها الله لأن الأسماء متعلقة بها والأحكام عائدة عليها بالثواب والعقاب ، فلم يصلح ألا تذك رفتعود الأحكام على الحاكم تعالى عن هذا ، من أجل ذلك كانت الأشياء وفق هذا النظام ، وهذا سبب إظهار المكان من الموات والحيوان (3) .
فسخر الله المخلوقات وفق ثوابت وسنن ونواميس كونية تترابط فيها الأسباب وتلتقى العلل والمعلولات بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها لتحقيق علة الابتلاء ، والصوفية يعتبرون ترابط العلل والمعلولات وتسخير الكائنات للإنسان من موجبات الشكر ويستدل ـــــــــــــــــــــــ
1- يوسف / 40 .
2- الكهف / 26 .
3- السابق حـ 2ص 13 .
التسترى بقوله تعالى :
{ والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ....إلى قوله تعالى ....و سخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } (1) .(198/15)
على أن تسخير الصنعة لنا مما بين السماء والأرض من أمهات النعم التى تستوجب شكر خالقها (2) .
ورأوا أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يحكمها ويدبر أمرها لانفراده بالخلق والتدبير ، من أجل ذلك رفضوا حتمية الترابط بين العلة والمعلول على وجه الإطلاق ، وإن أثبتوا ضرورة ما بينهما من خلال خضوعها وقوامها بمشيئة الله عز وجل ، كما آمنوا بقدرته تعالى على الفعل بهذه الحتمية وعلى الفعل بدونها ، فإن كانت ثمة حتمية بين العلة والمعلول فهى بقدرة الله وربوبيته .
ولكنهم حرموا توجه القلب إلى هذه الأسباب لأن الله حاكم عليها وعلى حتميتها ، فالعلة لا تملك حتمية صدور معلولها عنها ، إذ ليس لها ــــــــــــــــــــــــ
1- النحل / 5 : 12.
2- السابق حـ 2 ص 15 .
فاعلية مستقلة ومن ثم ينبغى على المتوكل أن يستوى فى اعتقاده وجود السبب أو عدمه وأن يكون مطمئنا عند العدم إطمئنانه عند السبب وألا يشغله ذلك كله عن الله لعلمه أن الله من وراء الأفعال وهو الذى يهيئ الأسباب (1) .
ويذكر المكى أن الله احتجب على العموم بالأسباب فهم يرونها فى اطراد العلل والمعلولات وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونه ولا يرونها (2) .
* مقومات التوكل وعلاقة ذلك بالأسباب :
ويمكن للباحث أن يحدد مقومات التوكل عند أوائل الصوفية من خلال فهمهم للفاعلية الإلهية وعلاقتها بالأسباب والعلل فى الركائز الآتية :
[1] - توجيه القلب إلى الله على الدوام سواء كان الرزق بأسباب أو بغير أسباب كما تقدم وهذا نابع عندهم من قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل الله مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 204 .
2- التعرف ص 15 .
3- سورة الطلاق / 2 ، 3 وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 10 .
[2] - توجه الجوارح إلى الأسباب لما جعله الله من العلل والمعلولات المترابطة وقيام التكاليف وعود الثواب والعقاب .(198/16)
وهذا الأمر يوضحه الحكيم الترمذى فى أن لله قد أثبت الأرزاق فى اللوح على المقدار الذى يريد وعلى كيفية ما يريد فى الوقت الذى يريد والنفس تشتهى شيئا ربما يوافق ذلك المثبت فى اللوح وربما يخالف ، فلو لم تكن هذه الأسباب لكانت النفس تغلى فى شهوتها لا تقدر أن ترى ذلك التقدير حسنا ، فكان فى ذلك فساد قلوبهم فجعلت الأسباب لصرف وجوههم عن ذلك المثبت إلى وجوه المطالب والمكاسب فيرجعوا باللائمة على أنفسهم فى ذلك .
والمثال الذى ضربه لتوضيح توجيه الجوارح إلى الأسباب ، هو ملك الموت كان يقبض الأرواح عيانا فسبوه فشكا إلى الله (1) فوضعت ــــــــــــــــــــــــ
1- ثبت أن ملك الموت أتى عيانا فى صورة آدمى ، لحديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام ، فلما جاءه صكه ، ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : أرسلتنى إلى عبد لا يريد الموت ، فرد الله عليه عينه وقال : ارجع فقل له يضع يده على متن ثور ، فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة ، قال : أى رب ! ثم ماذا ؟ قال : ثم الموت : قال : فالآن ، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ) متفق عليه ، أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز ، باب من أحب الدفن فى الأرض المقدسة أونحوها برقم (1339) وأخرجه مسلم فى كتاب الفضائل باب من فضائل موسى برقم (1533) .
العلل والأسقام .
فالأسباب بمنزلة الأمراض والرزق بمنزلة الموت وبدء كليهما من عند الله (1) من أجل ذلك ربطت الجوارح بالأسباب ووجهت الجوارح إليها مع تقديرها أزلا .(198/17)
[3] - ضرورة التسليم والرضا التام بقضاء الله وقدره وهذا المقوم الأخير قد يكون مدعاة للبعض برمى أوائل الصوفية بتهمة الجبرية ونفى أى دور للاستطاعة والفاعلية الإنسانية فى الفعل ، ولكن ليس لهذا الظن نصيب من الصحة لأنه وليد نظرة سطحية عاجلة خاصة إذا ذكر هذا المقوم الثالث مجردا عما سبق وكثيرا ما يحدث هذا ، حيث كان شيوخ الصوفية يعمدون إلى إلقاء مأثوراتهم وكلماتهم فى مناسبات خاصة وردا على أسئلة معينة فتتناقلها الأجيال عنهم متبورة عن علتها وظروفها وعن سائر أقوال المشايخ الأخرى مما يحدث لبسا حول معانيها .
ومن ذلك ما ذكره الترمذى فى بيان الرد على من قال : إن بعض المقبلين على أمر الدين تركوا الطلب وقالوا : قد ضمن الله الرزق حيث جاء عن رسوله : ( إن الرزق ليطلب العبد كما
ــــــــــــــــــــــــ
1- آداب المريدين وبيان الكسب للحكيم الترمذى ص 168 ، 169.
يطلبه أجله ) (1) .
فقال : إن كانوا قعدوا ينبغى لهم أن يقوموا وأن يطلبوا تحرزا من الطمع وفساد القلب فلا يضيع حق الزوجة والولد برغم أن أرزاقهم على الله ، فهذا تارك للسبيل والسنة لقوله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } (2) .
ثم بين موقف الذين سلموا لقضاء الله وقدره مع الرضا بما قسمه لهم ، فأخذوا بالأسباب وما تركوها ولكن همهم كان فى طاعة الله والإنشغال به عما سواه فقال :
( وأما الذين أقعدوا فقوم كان سبيلهم منذ تابوا الاجتهاد فى حفظ الحدود مع الله فى طلب المكاسب ، وركبوا صعاب ــــــــــــــــــــــــ(198/18)
1- الحديث رواه الطبرانى عن الحسن بن على بصيغة : ( أيها الناس إنى والله ما أمركم إلا بما أمركم الله به ، ولا أنهاكم إلا عما نهاكم الله عنه ، فأحملوا فى الطلب فوالذى نفس أبى القاسم بيده إن أحدكم ليطلبه رزقه كما يطلبه أجله فإن تعسر عليكم شئ منه فاطلبوه بطاعة الله عز وجل ) انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس فيما اشتهر على ألسنة الناس حـ 1 ص66 ورواه ابن عدى فى الكامل عن أبى الدرداء بصيغة ( إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله ) وحسنه ، انظر حـ 1 ص 67 .
2- البقرة / 233 .
الأمور ودققوا النظر ، فتورعوا عن كثير من الحلال مخافة الشبهة ، فلم يزل الله لهم معينا ومؤيدا فى ذلك ) (1) .
ومن ذلك أيضا قول ابن مسروق (2) : ( التوكل الاستسلام لجريان القضاء والأحكام ) (3) فالنظرة المجردة لهذا القول توحى بالجبرية .
وإذا علمنا أن الاستسلام لقضاء الله وقدره لا يكون إلا لنتيجة الفعل ولا يأتى فى المقدمة أى فى مرحلة الأخذ بالأسباب ، فإن هذا القول يكون تعبيرا عن المرحلة الأخيرة من التوكل بعد ظهور نتيجة الفعل .
فلا يجب أن يفهم من هذا القول إلغاء الجانب الاختيارى من فعل الإنسان أو تعطيل الأسباب لعدم جدواها أمام الربوبية والفاعلية الإلهية وذلك لاختلاف حال الفاعل فى أول الفعل عن حاله بعد حدوث النتيجة المرجوة منه أوعدم حدوثها .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر آداب المريدين وبيان الكسب ص 173 ، 174 .
2- هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مسروق من أهل طوس بخراسان ، سكن بغداد ومات بها وله صحبه مع الحارث المحاسبى وهو من قدماء مشايخ القوم وجلتهم توفى سنة 299 هـ انظر مرآة الجنان حـ 2 ص 231 ، شذرات الذهب حـ 2 ص 227 ميزان الاعتدال حـ 1 ص 71 ، تاريخ بغداد حـ 5 ص 100 ، حلية الأولياء حـ10 ص 213 ، طبقات الشعرانى حـ 1 ص 109 ، طبقات الصوفية ص 237 .
3- الرسالة القشيرية حـ 1 ص421 .(198/19)
ودعوة أوائل الصوفية الاستسلام لقضاء الله وأحكامه خاص بالجانب الجبرى فى الفعل المتمثل فى النتيجة النهائية له ، وليس فى الجانب الاختيارى ، وذلك مفهومهم لوجوب الإيمان بالقدر خيره وشره كما نص عليه النبى صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ) (1) .
وهذا التوضيح هام جدا لفهم الموقف النفسى حيال القضاء والقدر حيث ينقسم هذا الموقف عندهم إلى ثلاث درجات :
( التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل يسكن إلى وعده ، وصاحب التسليم يكتفى بعلمه ، وصاحب التفويض يرضى بحكمه ) (2) .
وحيث أن التوكل أخذ بالأسباب وسكون القلب إلى وعد الله وليس إلى الأسباب ، فإن مبدأ الفعل أخذ بالأسباب مع الاعتماد على تقدير
ـــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8) وأخرجه أبو داود فى كتاب السنة ، باب القدر برقم (4695) والترمذى فى كتاب الإيمان باب ما جاء فى وصف جبريل للنبى الإسلام والإيمان برقم (2610) والنسائى فى كتاب الإيمان حـ 8 ص 97 وابن ماجه فى المقدمة ، باب فى الإيمان برقم (63) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 1 ص 52 ، 53 .
2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 422 .
الله وفاعليته وحده ، ووسطه تسليم أمره إلى الله ليقينه أنه الأعلم والأقدر ، وفى النهاية الرضا بحكم الله وقدره ، ومن ثم يكون المقصود من استخدام أصل الإيمان بالقدر خيره وشره فى النهاية وليس فى البداية فيكون ذلك مدعاة للشكر إذا كان خيرا ، معينا على الصبر إذا كان الأمر غير ذلك .
وهذه الدرجات الثلاث هى مراحل التوكل عند أبى تراب النخشى :
وأولها : طرح البدن فى العبودية وهذا تعبير عن تعامل الجوارح والاستطاعة البشرية مع الأسباب وهو يرى فى استسلام الإنسان لسنة الله فى الطبيعة أو المادة تحقيقا لعبودية البدن والجوارح .(198/20)
الثانية : تعلق القلب بالربوبية أى إفراد الله بالفاعلية وتقدير الأمور .
الثالثة : الطمأنينة إلى الكفاية فإن أعطى شكر وإن منع صبر وذلك هو الرضا والاستسلام لحكم الله (1) .
ويعبر بشر الحافى عن المقوم الثالث بقوله : ( يقول أحدهم توكلت على الله وهو يكذب على الله ، لو توكل على الله لرضى بما يفعل الله تعالى به ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 418.
2- السابق حـ 1 ص 417.
ولذلك يشترط أوائل الصوفية موافقة الكسب للشريعة حتى يصبح العمل توكلا على الله ، لأن من يلزم نفسه الرضا بأمر الله الكونى لا يخالف بعمله أمره التشريعى ولو خالف أمره التشريعى أولى به ألا يرضى بأمره الكونى ، فمن سلك سبيلا محرما لا يكون متوكلا عند أوائل الصوفية .
سئل ذو النون المصرى عن التوكل ؟
فقال : خلع الأرباب وقطع الأسباب .
فقال السائل : زدنى ؟
فقال : إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الربوبية (1) .
وهو يقصد بخلع الأرباب عدم توجه القلب واعتماده على الأسباب المخلوقة كفواعل مستقلة تتحكم فى رزقه ، ويقصد بإخراج النفس من الربوبية أى ربوبية ذاتها على غيرها .
ويعنى ذلك الكبر والاغتراز بالنفس وادعاء القدرة الشاملة والاستطاعة الكاملة مع تناسى قدرة الله وفاعليته ، ويكاد يجمع أوائل الصوفية من خلال مروياتهم على أن الاعتماد على الأسباب وسكون القلب إليها شرك خفى ، يقول المكى : ( الشرك الخفى هو الاعتماد ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 418 .
على الأسباب ) (1) .(198/21)
وإذا أدركنا أن أوائل الصوفية أثبتوا الأسباب وأنها تؤدى فعلها فى الكون بقدرة الله سبحانه وتعالى وبسبب ما أودع فيها من قوى وتأثير لا ينبع من ذاتها بل بإرادة الله فيها ، كل ذلك من خلال مفهومهم للتوكل ، والذى يعد مفهوما راقيا من الناحية الإسلامية ، فإنهم أيضا قالوا : لا يعنى اطراد الأسباب بترابط العلل والمعلولات فى عالم الواقع حدوث شئ ما أو فعل ما خارج عن قدرة الله وفاعليته ، مما يعطى مجالا واسعا لإثبات المعجزات والكرامات وخوارق العادات فى الاعتقاد الصوفى لأوائل الصوفية .
فأثبتوا إمكانية حدوث معلولات بدون عللها المعلومة ، وفى ذلك يذكر الكلاباذى موقفا لمريم ابنة عمران إذ وجدت الطعام معلولا دون علة ظاهرة ، وردها ذلك لطلاقة المشيئة الإلهية فى الرزق بأسباب أو بغير أسباب .
يقول تعالى : { كلما دخل عليها ذكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 4 ص 13 .
2- آل عمران / 37 .
وكذلك ما كان من شأن عيسى عليه السلام حيث شاء الله أن يخالف بميلاده السنة الجارية بمشيئته فى خلق الإنسان من أب وأم فلما بشرت به أمه :
{ قالت ربى أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } (1) .
فبين الله هنا أنه لا يحتاج إلى إيجاد العلة لإيجاد المعلول وإنما هو إذا أراد شيئا توجهت إليه مشيئته مباشرة فأبدعه بقوله له : كن ، فيكون سواء كان ذلك الشئ مقترنا بعلته أو مجردا عنها (2) .
والصوفية الأوائل كما أثبتوا حدوث معلولات بلا عللها المعلومة كذلك أثبتوا أيضا إمكانية حدوث العلة مع تخلف المعلول .
فمن ذلك عندهم على سبيل المثال لا الحصر ما حدث لإبراهيم عليه السلام حين وضعوه فى النار ، إذ يقول تعالى فى شأنه :(198/22)
{ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ، قلنا يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم ، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 47 .
2- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 88 والرسالة حـ 2 ص 667 بتصرف .
3- الأنبياء / 68 ، 70 .
فالنار حسب السنة الطبيعية فى اطراد العلل والمعلولات علة للإحراق وعلى الرغم من ذلك فقد شاء الله أن يتخلف المعلول مع حدوث العلة (1) .
يقول الكلاباذى : ( وأجمعوا على إثبات كرامات الأولياء ، وإن كانت تدخل فى باب المعجزات كالمشى على الماء وكلام البهائم وطى الأرض وظهور الشئ فى غير موضعه ووقته وقد جاءت بها الأخبار وصحت الروايات ونطق بها التنزيل ) (2) .
ثم ضرب أمثلة كثيرة لا حصر لها فى ذكر معلولات بغير عللها أوعلل تخلفت عنها نتائجها ، ومن ثم يمكن أن ننتهى إلى القول بأن الصوفية يرون أن الإيمان بالله خالقا لكل شئ وفاعلا لكل شئ ، يجعل المعجزات والكرامات أمرا عاديا عند المؤمنين ، فالمؤمن يرى فى العالم الطبيعى حوله وفى القوانين التى تحكم أجزاءه وتحكمه ككل آية عظيمة من آيات الله ودلالة بالغة على القدرة المطلقة ، فإذا حدثت معجزة مخالفة للسنن أمام المؤمن ، فإن ذلك لا يثير عجبه أو دهشته بقدر ما يثير فيه دلالتة على الشعور بعظمة الله تعالى ، ويرى فيه دلالة على القدرة المطلقة كما يرى فى الأمور التى تحدث حسب سنن الله الجارية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 88 .
2- السابق ص 89 .
قال تعالى : { إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب ، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } (1) .
وفى كلا الحالين تكون النتيجة أنه يزداد أيمانا ويقينا .(198/23)
يقول القشيرى فى هذا المعنى : سألت أحمدا الطابرانى السرخسى فقلت له : هل ظهر لك شئ من الكرامات ؟
فقال : وأى خطر للكرامات ؟ إنما المقصود منه زيادة اليقين فى التوحيد (2) فمن لا يشهد غير الله خالقا فى الكون فسواء أبصر فعلا معتادا أو ناقضا للعادة ، فالأمر سواء عند أهل اليقين لأن الخالق فى الأمرين واحد .
ولذا فإن الأثر المترتب على فهم هذه النظرة الإسلامية هو الغاية عندهم من هذا اليقين كما قال سهل بن عبد الله : ( أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاقك ) (3) .
وكذلك يقول أبو يزيد البسطامى لمن قال له : فلان يمشى فى ليلة إلى ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران /189 ، 190.
2- الرسالة حـ 2 ص 665 .
3- السابق حـ 2 ص 679 .
مكة وفلان يمشى على الماء ويطير فى الهواء .
فقال : الشيطان يمشى فى ساعة من المشرق إلى المغرب فى لعنة الله والطير يطير فى الهواء والسمك يمر على وجه الماء (1) .
فالأمور عنده سواء وإنما الغاية فى اليقين والطاعة ، ومدى امتثال الإنسان فى عبودية الله سبحانه وتعالى .
وإن من أثر هذا الفهم الإسلامى العظيم أنه يفتح بابا واسعا عند أهل اليقين فى الاستعانة بالله على قضاء حوائجهم وتوفيقهم إلى عبادته سبحانه وتعالى ، فالنقطة الأساسية التى أراد الصوفية الأوائل أن يوجهوا إليها الأنظار فى آرائهم فى القدر والاستطاعة هى شد الإنسان إلى الله تعالى وإلزامه اللوذ به وضمان عدم استبداد الإنسان وتمرده بالاعتماد على طاقته وقدرته وحدهما دون أن يرشدهما هدى إلهى ويعضدهما تأييد ربانى لا يؤيد إلا الحق ولا يرفع إلا ما أريد به وجهه (2) .
* الاستطاعة وعلاقتها بما سبق :
ويمكن القول من خلال ما سبق أن الاستطاعة عند أوائل الصوفية تقوم على ركيزتين ليستا فى الحقيقة سوى لازمين من لوازم الغاية من
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 679 .
2- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 280 بتصرف .
خلق الإنسان :(198/24)
الأولى : ركيزة خارج النفس البشرية وتكمن فى تكييف الكائنات والمخلوقات بالصورة التى تمكن الإنسان فى الأرض ، وفى النواميس التى تسير عليها هذه المخلوقات ، كأسباب خارجية تتدخل فى حياة الإنسان اختبارا وابتلاء (1) .
الثانية : ركيزة داخلية وتكمن فى النفس البشرية ذاتها وهى الاستطاعة الذاتية للإنسان على الفعل .
أما عن الركيزة الأولى ، فقد سبق فى هذا الفصل أن الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات جميعا خاضعة مسخرة للإنسان كما أقام النواميس الكونية الطبيعية وقوانينها المطردة من خلال عملية الترابط بين الأباب واطراد العلل والمعلولات بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها ، وكلما مكنه الله من الأسباب والعلل أظهر له النتائج والمعلولات وذلك من خلال نعمة الله عليه وتسخير الكائنات له كما ذكر سهل بن عبد الله مستدلا بآيات سورة النحل (2) .
وهذه الأسباب الخارجية إنما هى للابتلاء ، فالإنسان كما طلب منه أن يصارع النفس عند جموحها للميل والانحراف فإنه قد طلب منه ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 282 .
2- انظر ص 272 من هذا الفصل .
كذلك أن يصارع بفكرة وقلبه وسلوكه كل ما يعوق حسن آدائه للعبودية فى هذا العالم الملئ بوسائل الاختبار ، والتى تتشكل فى ضداد كثيرة كالفقر والغنى والصحة والمرض والعلم والجهل وغير ذلك من الأسباب .
وأما عن الركيزة الثانية للاستطاعة البشرية فهى تقوم أساسا فى النفس من جهة حدوثها مع الفعل أو قبله أو بعده ، فأوائل الصوفية أثبتوا للإنسان استطاعة عامله فاعلة لأعماله وأفعاله ، وقدرة حقيقية لا يمكن إنكارها ولا يؤثر ذلك مطلقا على مدى شمول قدرة الله وإرادته .
وأما حقيقة الفعل البشرى عند أوائل الصوفية فيمكن إدراكه من خلال ملاحظاتهم وتحليلاتهم النفسية فى إيضاح مذهبهم فى القدر الإلهى والاستطاعة الإنسانية .(198/25)
فيقول المكى : ( خلق الله النفس متحركة ثم أمرها بالسكون وهذا هو الابتلاء فإن تداركها بالعصمة سكنت ، وهذا خصوص وإن تركها تحركت بطبعها وجبلتها وهذا هو الخذلان ) (1) .
لقد نظر المكى إلى النفس على أنها مصدر للحركات والسكنات فى ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 2 ص 11 .
الإنسان وهى فى ابتلاء مستمر بينهما ، فإن سكنت إلى تدبير الله كانت العصمة والتوفيق وإلا فالإضلال والخذلان ، فالأمور النفسية التى تحدث فى الذات الإنسانية والناشئة من مجموع الخواطر والاختيارات الداخلية ، تتحدد الأفعال بناء عليها فى الخارج سواء أكان خيرا أوشرا صلاحا أو فساد حسب النية الداخلية المحركة .
وقد شبه المكى أفعال الإنسان التى تمت باستطاعته بالحب أو الخرز وشبه إرادة العبد بالخيط الذى ينتظم عليه الحب أو الخرز (1) .
وهذا التشبيه بالغ الدقة ، وذلك لأنه مما لا شك فيه أن أى فعل ظاهر يقوم به الإنسان ، يتم كما هو معلوم بالضرورة من الواقع بأعضائه الجسدية أو بالأدوات الخارجية التى يستعين بها على إتمامه ، كما أنه من المعلوم أيضا أن أى فعل يحدث عبارة عن عدة أفعال صغيرة ينتهى كل منها فى حقيقتة إلى حركات وسكنات سواء كانت حركات نفسية أو جسدية أو طبيعية .
هذه الحركات والسكنات تتشكل بالضرورة فى شكل معين بتوقيت معين يفرضهما نوع الفعل المكتسب والغاية منه ، كما أن الفرق بين فعل وآخر وهو اختلاف هذه الحركات والسكنات كما وكيفا زمانا ومكانا .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 10 .(198/26)
مثال ذلك : لو فرضنا والدا يؤدب ولده ضربا ، وآخر يحتضن ولده شفقة وحنانا ، فإن كلا الفعلين يقعان بين فاعل ومفعول يستخدم كل منهما حركة الأعضاء الخارجية فى البدن مع الإحساس الداخلى فى ذات كل منهما ، بينما تتخلل حركة كل من الفاعلين والمفعولين أيضا سكنات لا تكاد ترى ولا تحس نتيجة تلاصق الحركات وتدافعها فى الفعل بسرعة ، إلا أنها موجودة قبل نهاية كل حركة وقبل بداية الحركة التى تليها ، فالفرق بين الفعلين من حيث صورة الفعل الواقعية العادية وبغض النظر عن الإرادة الموجهة للفعل أو الغاية منه ، ليس سوى اختلاف كل فعل عن الآخر من حيث الحركات وكيفيتها رقة وعنفا سرعة وبطئا ، وكذلك السكنات المتخللة للحركات وكيفية تباينها فى الفعل .
ومن ثم فمجموع الحركات والسكنات ليس فى الحقيقة سوى علة لوجود الفعل المراد ونتائجه ، وفى نفس الوقت فإن كل حركة سابقة تصبح علة وسببا للحركة التالية المعلولة ، التى ما تلبث أن تصبح هى الأخرى علة لمعلولها الذى يليها ، وهكذا حتى تأتى الحركة الأخيرة التى هى معلول وليست علة .
وعلى ذلك فالفعل البشرى يبدأ من حالة نفسية للفاعل بنية وإرادة وينتهى بعد تفاعلات بين الحركة والسكون بحالة نفسية لنفس الشخص أو لغيره من الناس .
فالفعل البشرى علته الأولى البادءة أو علة بدايته داخلية فى ذات الإنسان ومتمثلة فى إرادة الفعل ، ونهاية الفعل أو معلوله الأخير أيضا داخلى فى ذات الإنسان ومتمثل فى تحقيق المراد وإشباع الإرادة ، فهو إما ينتهى محققا لذة وسرورا ومتعة ، أو محققا ألما وضررا وبؤسا .
ومساحة ما بين العلة الأولى والمعلول الأخير من العلل والمعلولات الخارجية فى الفعل البشرى فهى من خلق الله وتوفيقه وإمداده وتيسيره وهذه المساحة هى حبات العقد أو الخرز فى المثل الذى ضربه المكى .(198/27)
أما قيام العلة الأولى وامتدادها إلى تحصيل المعلول الأخير فهو الخيط الذى ينظم الحب والخرز فى العقد ، وهذا يطابق المعنى المشار إليه فى قوله سبحانه وتعالى :
{ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى } (1) .
وكما قال تعالى : { والله خلقكم وما تعملون } (2) .
فالفعل البشرى الاختيارى ليس سوى مجموعة من العلل والمعلولات تبدأ بعلة أولى وتنتهى بالمعلول الأخير .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الليل / 5 : 10 .
2- الصافات / 96 .
ويمكن القول أن العلة الأولى للفعل البشرى الاختيارى عند أوائل الصوفية هى تحرك الإرادة المختارة استجابة لما يسبقها من دوافع نفسية وخواطر داخلية منبعثة من الروح أو النفس أو الملك أو الشيطان لاختيار هذا الفعل دون غيره .
وعلى ذلك فالفعل المختار نابع من ذات الإنسان وهو المسئول عنه تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) (1) .
وكذلك يمكن القول بأن المعلول الأخير للفعل هو الشئ المختار والمقصد الذى أراد الإنسان تحقيقه واكتسابه ، فالإرادة تتلبس بالفعل وتمتزج به من أوله إلى آخره ، حيث تظل مصاحبة للفعل ومتخللة فيه بين حركاته وسكناته وموجهة لعلله ومعلولاته ، حتى يقع كما أراد الإنسان حدوثه ووقوعه .
ومن ثم فلا عجب فى تشبيه المكى للإرادة البشرية بالخيط الرفيع الذى ينظم الخرز أوحبات العقد فالاستطاعة أو العلل والمعلولات تصاحب الفعل مصاحبة الخيط للعقد فكما أن فصوص العقد موجودة أصلا ودور الخيط تجميع الفصوص بالكم والكيف والشكل الذى يُنتج فى النهاية شكلا مرغوبا أو مكروها ، كذلك دور الإدارة مع الاستطاعة البشرية فى إتمام الفعل ، فدورها هو تجميع العلل والمعلولات وترتيبها ـــــــــــــــــــــــ
1- تقدم تخريجه ص267 .(198/28)
بنسب معينة كما وكيفا ، بحيث يؤدى هذا التجميع المنتظم حسب هذه النسب إلى أفعال مرغوبة ومرادة للفاعل أو مكروهة .
وأهل اليقين يرون فى قلادة التوحيد التى يجب أن يتحلى بها المريد أن خيطها هو الالتزام بشرع الله واختياره لهم ، وحباتها أو خرزها هو فعل الله بهم سواء بترابط العلل أو بانفكاكها ، وذلك يكون عندهم بالرضا والتسليم المطلق لله فى كل شئ شرعه لهم تحقيقا لمعنى العبودية وفى كل فعل قدره عليهم تحقيقا لمعنى الربوبية .
*** المبحث الثالث ***
العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية
مر بنا فى المبحثين السابقين أن مشايخ الصوفية الأوائل أثبتوا قدرة للإنسان واستطاعة على الفعل كما اعترفوا بالمؤثرات الطبيعية كأسباب وعلل خلقها الله عز وجل بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها وعلى الوجه الآخر أفردوا الله بالخلق والفاعلية وجعلوا ذلك جوهر التوحيد عندهم حتى يحكى الكلاباذى إجماعهم على ذلك فيقول :
( وأجمعوا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد كلها كما أنه خالق لأعيانهم ، وأن كل ما يفعلونه من خير وشر فبقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ) (1) .
والسؤال الذى يطرح نفسه علينا الآن هو : كيف ينسب أوائل الصوفية الفعل الحقيقى إلى الله وفى نفس الوقت يعترفون بأثر السبب الطبيعى وبالفاعلية الإنسانية ؟ حتى يقول المكى عن الفواعل والمؤثرات والوسائط بين الفاعلية الإلهية وبين حدوث الفعل أو خلق الشئ :
( فى الأشياء أواسط حق وأسباب صدق ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص 60 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 14 .
وذلك فى الوقت الذى أجمعوا على أنه لا فاعل على الحقيقة إلا الله ؟
وهذا يوجب على أوائل الصوفية تقديم حل لتفسير هذا التعارض الظاهرى وثمة حلان يقدمهما الفكر الإنسانى :
أولهما : أن الفعل يأتى من فاعلين الإله والمخلوق .
ثانيهما : أن يقال إن الفاعل الحق هو الله عز وجل وأن ما سواه ليس له أدنى دور فى الفعل (1) .(198/29)
فإذا كانت الجهمية قد آثرت إثبات طلاقة الفاعلية الإلهية ونفى القدرة والفاعلية البشرية ، فإن المعتزلة لم تكن إلا المذهب المقابل لها ، حيث أصروا على أن يكون الفعل البشرى نتاجا خالصا وأثرا مستقلا للإنسان عن أى أثر خارجى آخر من فعل الرب أو من غيره ، وهم لا يتهاونون فى هذا الأصل من أصولهم ولا يكادون يختلفون فيه ، ونعنى به قدرة الإنسان على إحداث الفعل (2) .
بينما رفض أوائل الصوفية شأنهم فى ذلك شأن الصحابة والتابعين من قبل ، أن يكون هناك خالق ومحدث للأشياء غير الله سبحانه وتعالى فالحل الأول مرفوض رفضا تاما ، وذلك لأن الفعل عندهم لا يأتى من ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر فى ذلك كشف المحجوب ص 333 .
2- انظر القضاء والقدر فى الإسلام د . فارق الدسوقى حـ 2 ص 203 وانظر المحيط بالتكاليف ص 381 وما بعدها .
فاعلين وإلا كان شركا ، فالفاعل الثانى المظهر للفعل والذى فعل بيده وأجرى الفعل بواسطتة هو ثان محدث ، والأول القديم هو الفاعل الأصلى ) (1) .
فوقوع الفعل بفاعليتين أعده أوائل الصوفية شركا ، كما أنهم رفضوا الحل الثانى أيضا إذ يستدل المكى على رأى أوائل الصوفية في إثبات الأواسط ودورها كمؤثرات فعالة من صنع الله بقوله تعالى :
{ فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم } (2)
وبقوله : { علم بالقلم } (3) .
وقال في تثبيت الأملاك وبيعها منه بالأعواض كرما منه وفضلا :
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } (4) .
والحل الذى يمكن استنباطه من الكتب الرئيسية لأوائل الصوفية ومن أقوالهم ومؤثوراتهم الواردة في هذه الكتب يتلخص في الاعتقاد بأن الفعل الواحد ذو وجهين :
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب جـ2 ص12 وانظر كشف المحجوب ص 333 .
2- التوبه / 55 .
3- العلق /4 .
4- التوبه / 111 .
وانظرالسابق جـ2 ص12 والتعرف ص62 .
[1] - وجه هو فيه محدث ومخلوق على الحقيقة بفاعلية الله عزوجل وحده لا شريك له .(198/30)
[2] - ووجه آخر باستطاعة الإنسان .
وهذا الوجه الأخير لا يمت بأية صلة إلى إحداث الفعل أو خلقه ويسمى هذا الوجه كسبا ، والدليل على ذلك عندهم أن الفعل الواحد ينسبه القرآن الكريم للخالق قبل الإنسان فعلا باعتبار أنه سبحانه وتعالى هو الخالق المحدث له وحده وليس للإنسان أى دور فيه على الإطلاق ، أما الوجه الثانى وهو اكتساب الإنسان للفعل فليس خلقا أو إحداثا له ، وإن كان الكسب يثبت دورآ للفاعلية الإنسانية مترتبا على الاختيار .
قال تعالى : { أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } (1) .
وقال أيضا : { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } (2) .
فأضاف الإمناء والحرث إلينا لأنها أعمال ونحن عبيد عمال ، ولأنها صفاتنا وأحكامها عائدة علينا ، وأضاف الخلق والزرع إليه لأنها آيات ــــــــــــــــــــــــ
1- الواقعة /58 .
2- الواقعة /63 .
عن قدرته وحكمته والله هو القادر الحكيم (1) فالأشياء والأحياء والأفعال مخلوقات لله بقدره مكتسبة للعبد باستطاعته .
يقول المكى : ( ألا ترى أنك لا تقول خلقنى أبى وإن كان هو سبب خلقك ولا تقول أحيانى وأماتنى فلان وإن كان واسطة في الإحياء والقتل ، لأن هذا شرك ظاهر اشتهر قبحه فترك ) (2) .
ثم يعقب المكى على هذه الأمثله من الأفعال بقوله : ( وكذلك كل ما ذكر فى الكتاب من الأعمال والاكتساب أضيف إلي الجوارح المجترحة ونسب إلى الأدوات المكتسبة ) (3) .
وهو عنده من كسب العبيد ومن خلق الله وحده .(198/31)
وبهذا الحل استطاع أوائل الصوفية إثبات الفعل الحقيقى بمعنى الإحداث والخلق لله وحده مستندين فى ذلك إلي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم متبعين بذلك طريقة السلف من الصحابة والمحدثين والفقهاء وأهل السنة والجماعة ، وفى نفس الوقت وفقوا بهذا الحل فى إثبات دور للفاعلية الإنسانية يكفى لإثبات المسئولية الخلقية واستحاق الجزاء ، فهم أقاموا اكتساب العبد بناء علي اختياره ، وقرروا ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ2 ص11 .
2- السابق حـ2 ص11 .
3- السابق حـ2 ص11 .
خلق الله عز وجل استطاعة العبد عند الفعل وتزويده بها ليقدر على اكتساب الفعل وضده أو اكتساب الفعل واكتساب الترك لا ليقدر على إحداث الفعل وخلقه لأن الخالق والمحدث هو الله عز وجل .
فالاستطاعة للكسب وليست للخلق والإحداث ، والله سبحانه وتعالى خالق للفعل فى الحالين سواء كان الفعل المراد للعبد طاعة أو معصية ، ومن ثم فلا يتم شىء فى الكون ولا أثر ولا فعل لهذا الشىء إلا بإذنه الله وخلقه له .
وهذا الحل يتوافق مع الكلمات البليغة للحسن بن على التي أوردها الكلاباذى في باب الاستطاعة : ( إن الله تعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولم يهمل العباد من المملكة ) (1) .
فأثبت اختيار الإنسان للطاعة والمعصية وبين أن هذا واقع بأمر الله وفى هذا يقول سهل بن عبد الله : ( إن الله تعالى لم يقو الأبرار بالجبر إنما قواهم باليقين ) (2) .
ويرى المكى أن نسبة الفعل إلى السبب أو إلى العبد شركا ، ولا يفرق فى ذلك بين خلق الله وإحيائه وإماتته وبين الكسب فى الرزق فكما أن الله أخبرنا أنه الخالق المحى المميت أخبرنا أنه الرازق ، وقرن بين ـــــــــــــــــــــــ
1- التعرف ص64 .
2- السابق ص 64 .
هذه الأربع فى قرن واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة لظهور الأسباب ووجود الأواسط فقال تعالى : { الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يمتيكم ثم يحيكم } (1) .(198/32)
يقول المكى معقبا : ( فكما ليس فى الثلاثة جاعل ومظهر إلا الواحد فكذلك ليس فى الرابعة من رازق إلا هو ) (2) .
ثم يلخص الأمر فيقول : ( فظهرت حكمة الله فى الأشياء لعود الأحكام على المظهرين لها وبطنت قدرته فى الأشياء لرجوع الأمر كله إليه ، وهذه شهادة التوحيد للعارف المتوكل وهو مقام العلماء الربانيين ) (3) .
وهذا الفكر الذى يشرح من خلاله أوائل الصوفية مفهومهم للتوكل وغيره استطاعوا بحق أن يضعوا به الحل المناسب لتفسير العلاقة بين فعل الله وكسب العبد إلا أننا نواجه سؤالا ضروريا وهاما وهو : ما علاقة السبب الطبيعى أو غير الطبيعى الممثل فى وجود الملائكة أو الأسباب الغيبية بالربوبية والفاعلية الإلهية ؟
وذلك لأن النظرية الصوفية للكسبب عند الأوائل خاصة بتفسير ــــــــــــــــــــــــ
1- الروم / 40 .
2- قوت القلوب جـ2 ص10 .
3- السابق حـ 2 ص 10 .
العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية بهدف إثبات المسؤلية الخلقية واستحقاق الجزاء دون خرق لمبدا إفراد الله عز وجل بالخلق .
ولكن الأمر يختلف بالنسبة للفاعلية الطبيعية والأسباب غير الإنسانية بصفة عامة وهو ما يسمية أوائل الصوفية بصفة عامة والمكى بصفة خاصة بالأواسط (1) .
ويعنى بها الفاعلية الوسط بين فعل الله عز وجل وبين المفعول أو الحادث الأخير فى الفعل ، وهى عند المكى نوعان :
الأول : الأسباب الطبيعية التي تحدث على أثر حدوثها الظواهر الطبيعية والحيوية .
الثانى : أسباب غيبية غير مرئية ويعنون بها الملائكة .
لقد نسب أوائل الصوفية للإنسان دورا هاما فى الفعل حددوه بالكسب ، ولكنهم بالنسبة للأسباب الطبيعية والأحوال الغيبية رفضوا أن ينسبوا لها أى دور مستقل على الإطلاق ، وفهموا هذه الأواسط على أنها مجرد حجاب تحتجب وتستتر به الفاعلية الإلهية من ناحية وتظهر من خلاله الربوبية فيعرفونها من ناحية أخرى .(198/33)
فهم يفردون الله بالخلق والفعل ، ولكن الكسب الذى أثبثوه للإنسان
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر كشف المحجوب ص 466 .
ليس إلا استحقاقا للجزاء وإثباتا للعدل الإلهى ، أما بالنسبة للطبيعيات أو الغيبيات من الأسباب والأواسط فليست مسئولة أو محاسبة ، ومن ثم فلم يثبت الصوفية لها أى فاعلية مستقلة على الإطلاق ، بل الفاعلية كلها لله حيث هو الفاعل بها جميعا .
ومبدأ احتجاب الفاعلية الإلهية النافذة يتردد على أفواه الكثير من أوائل الصوفية (1) فهم ينظرون إلى الأسباب باعتبارها من مكر الله عز وجل وابتلاء للعباد لإخفاء فاعليته وعملها فلا يراها الناس رؤية مباشرة ولا يواجهونها مواجهة صريحة ، وهذا المعنى هو ما يفهمه المكى من قوله تعالى : { ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء } (2) .
قيل : الهاء إشارة إلى الله تعالى وقال أبو العباس بن عطاء (3) :
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر كشف المحجوب ص10 ، 11 وانظر طبقات الصوفيه ص 51 ، 344 .
2- البقرة / 255 .
3- هو أبو العباس أحمد بن سهل بن عطاء الآدمى ، من كبار مشايخ الصوفية وعلمائهم وهو من أقران الجنيد بن محمد ، مات سنه 309 وقيل سنة311 هـ ومن أفضل ما حفظ عنه : ( من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم فى أوامره وأفعاله وأخلاقه والتأدب بآدابه قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية ) انظر فى ترجمته الرسالة القشيرية حـ 1 ص 146 حلية الأولياء حـ 11 ص 302 شذرات الذهب حـ 2 ص 257 البداية والنهاية حـ 11 ص 144 والمنتظم حـ 6 ص 160 .
( ولا يحيطون بشىء من ربوبيته علما ، لأنه لم يظهر شيئا إلا تحت غطاء وتلبيس ) (1) .(198/34)
وهو يقصد بربوبيته فاعلية الله فى الكون ، ومعنى ذلك أنه يقول : إن الله عز وجل هو فاعل كل شىء وخالق كل شىء وما نراه من الأسباب الطبيعية وما نعلمه من الوحى عن الملائكة وما يتم بهما ليس إلا تلبيسا لفاعليته وربوبيته وإخفاء لها اختبارا للعباد .
ويؤكد الواسطى (2) تلبيس الأسباب وحجب صفة القدرة الإلهية من ورائها بقوله :
( إن الله تعالى يحتجب عن خلقه بخلقه ثم عن صنعته بصنعه وساقهم ــــــــــــــــــــــــ
1- حلية الأولياء حـ 10 ص 305 ومعنى التلبيس عند أوائل الصوفية إخفاء الأمر على سبيل الابتلاء ، حتى يمتحن العبد فى معرفة الله وإثبات الربوبية هل الخالق المدبر هو الله أم ما أبداه لهم من أسباب ؟ سواء كانت مرئية فى الأسباب الطبيعية أو غير مرئية فى الأسباب الغيبية ؟ فأما الموحدون فيعلمون أن الله من وراء الأسباب خالق مدبر وأما المشركون فيعبدون الملائكة والشمس والقمر وغير ذلك من الأسباب .
2- هو أبو بكر محمد بن موسى الواسطى خرسانى من بلد يقال لها : فرغانة ، وهو من أقران الجنيد والنورى ، ومن علماء مشايخ القوم ، مات بمرو سنة 320 هـ وقيل بعدها انظر طبقات الصوفية ص 302 المنتظم حـ 6 ص 262 ، حلية الأولياء حـ10 ص 149 الرسالة القشيرية حـ 1 ص 152 .
بأمره إلى أمره ) (1) .
وقال أيضا : ( الموحد لا يرى إلا ربوبية صرفا تولت عبودية محضا ) (2) .
ويثبت المكى احتجاب القدرة الإلهية في فعلها بالأسباب بقوله : ( احتجب عن العموم بالأسباب فهم يرونها ) أى أنهم لضعف توكلهم وإيمانهم يعاينون النتائج والأحداث بها ، بينما لا يخدع الموحدون والمتوكلون بالأسباب لقوة إيمانهم بالله ومعرفتهم بصفاته .
يقول المكى : ( وحجب الأسباب بنفسه عن الخصوص فهم يرونه ولا يرونها ) (3) .(198/35)
ويرى الحكيم الترمذى أن كل شىء قائم بالله ومن الله ، وإن اختفى هذا السر وراء الأسباب الظاهرة ، فالله قد جعل من تدبيره أن يستر أموره بالأسباب والآدمى يرى ما ظهر عنها ابتلاء من الله وفى باطنها ربوبيته فالحكماء عن تدبير الله ينطقون وكيف دبر شأن الآدميين وكيف ركبهم يشكرون (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ 1 ص 126 .
2- طبقات الصوفية ص 303 .
3- قوت القلوب جـ2 ص15 .
4- نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص 398 .
ويوضح المكى مبدأ احتجاب صفة القدرة بقوله :
( وكذلك أيضا تدخل الشبهة على الغافلين من ضعف اليقين لشهود المانعين والمنفقين أوائل فى الفعل من قبل أن الله تعالى أظهر العطاء والمنع بأيديهم ، فشهدوهم معطين مانعين لنقصان توحيدهم ، فأشركوا فى أسماء الله ) (1) .
وفى هذا النص يتضح لنا من قول المكى عن الغافلين أنهم يرون الناس والأسباب أوائل فى الفعل اعتقاده بأن الأفعال المنسوبة للبشر والأسباب ليست على وجه الأصالة فى الإحداث ، لأن الفاعل الحقيقى هو الله وحده وإنما الأسباب والناس ليسوا إلا مجالا لإظهار فعل الله عز وجل ، وذلك بحجب قدرته الفاعلة بهم حتى يقع أصحاب الغفلة فى الشرك الخفى ابتلاء من الله .
فيقول العبد أعطانى ومنعنى فلان ، وهذا شرك لأن الأسباب تظهر على أيديهم وتجرى بواسطتهم فحجبوا بها عن المسبب واستتر عنهم المعطى المانع (2) .
ومن ثم فالصوفية الأوائل يفهمون علاقة الأسباب بالفاعلية الإلهية باعتبار الأسباب مجرد ستار وحجاب لقدرة الله عز وجل يسدله الخالق ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب جـ2 ص15 .
2- السابق حـ2 ص11 .
رحمة بالناس وبخاصة الضعاف منهم من ناحية ، وابتلااء واختبارآ لهم من ناحية أخرى .(198/36)
ويعتبر التسترى فى هذه النقطة أدق من غيره ، لأن الخلق عنده لا يحجب الخالق وإنما الحجاب من قبل الخلق لا من قبل الخالق ، وذلك لأن ميدان الربوبية فى نظرة أوائل الصوفية هو الميدان الذى تتحقق فيه العلاقة بين الله وخلقه من خلال صفاته سبحانه .
يقول التسترى عن صفة الفعل : إنها الصفة التى بها احتجب وبها تسمى الله فإذا أبصر الإنسان أشعره الله بمباشرة صفاته وخفى ألطافه آثاراها فى خلقه وهذا هو استشعار العبودية التى تثمر خوف المقام استمدادا من قوله الله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } (1) .
فالوسائط التى هى أثار الصفات الإلهية لا ينظر إليها المؤمن على أنها ضروريات عقليه تدريجية لفهم طبيعة الفعل الإلهى ، ولكن ينظر إليها على أنها سلم يصعد عبرها الإنسان روحيا حتى يستقر قلبه نهائيا مع ربه (2) .
ومن هنا نشأ هذا التنوع فى موقف الصوفية فى وجهين يظهران من ــــــــــــــــــــــــ
1- النازعات / 40 .
2- من التراث الصوفى ص215 .
هذين الدعاءين المختلفين لشخص واحد وهو السرى السقطى (1) .
أحدهما : ينادى الصوفى فيه ربه اللهم لا تعذبنا بذل الحجاب (2)
والآخر : اللهم الطف بنا واسترنا بلطف الحجاب (3) .
أما الأول فيقصد أن ينعم بشهود الربوبية والفاعلية الإلهية ، وأما الآخر فيسأل الله التخفيف حتى يستمر في حياته ليرعى شئون نفسه لأنه لو ظل مشاهدا له وراء كل شىء يسبح الله حقيقة استحال عليه أن يفعل الضروريات أو يفكر فى غذائه وصلاح معيشته .
وفى ذلك توجيه نبوى للصحابى أبى ربعى حنظلة بن الربيع كاتب الوحى فى قوله :
( والذى نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم ولكن ياحنطلة ساعة ــــــــــــــــــــــــ(198/37)
1- هو أبو الحسن سرى السقطى خال الجنيد وأستاذه ، من أقران معروف الكرخى وهو إمام البغدادين مات سنة 251 هـ انظر حلية الأولياء حـ1 ص 116 طبقات الصوفية ص 48 تاريخ بغداد جـ9 ص187 طبقات الشعرانى جـ1 ص86 شذرات الذهب جـ2 ص127 البداية والنهاية جـ11 ص13 .
2- حلية الأولياء جـ10 ص120 .
3- طبقات الصوفية ص51 ، وانظرختم الأولياء ص149.
وساعة ثلاث مرات ) (1) .
إذ أن حنظلة ظن أن الانشغال بالأسباب في غير مجلس الذكر مدعاة للنفاق فقال : ( نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى العين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا ) (2) وهو ما يعتبره نفاقا .
وإرشاد النبى صلى الله عليه وسلم لحنظلة يوحى بأن أهل الحقائق فى دوام الأحوال ارتقوا عن وصف التأثر بالأواسط والأسباب ، فهم يباشرونها فى ظاهر العيان ويعلمون أن الله من ورائهم محيط قادر فاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة (3) .
ونخلص إلى القول بأن أوائل الصوفية أثبتوا أن الفعل يحتاج إلى فاعل واحد فى خلقه وإنشائه إذ أن وجود فاعلين يوجب استقلال الواحد عن الآخر ، ومن ثم فالفاعل يتحتم أن يكون واحدا فى الحقيقة بلا جدال ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجة مسلم فى كتاب التوبة ، باب فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة برقم (2750) وابن حبان عن أنس فى كتاب البر، باب ما جاء فى الطاعات وثوابها برقم (344) وأخرجة أحمد عن أنس جـ3 ص 175 وابن المبارك فى الزهد عن أبى هريرة برقم (1075) والهيثمى فى مجمع الزوائد عن أنس حـ 10ص308 .
2- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 254 .
3- السابق جـ1 ص 254 .
وهذه الأسباب والأواسط أدوات للقدرة خلقها الله عز وجل لتحقيق علمه فى خلقه ليس لها أثر بذاتها ولا يمكن أن توجد بنفسها (1) .(198/38)
يقول الهجويرى : ( ونحن فى هذا الصدد على طرفى نقيض مع أصحاب المذاهب الثنوية الذين يقولون بالنور والظلام ، ومع المجوس الذين يعتقدون ببزدان وأهريمن ، ومع الفلاسفة الطبيعيين الذين يقولون بالطبع والقوة ، والفلكيين الذين يصدقون بالأفلاك السبعة والمعتزلة الذين يقولون بتعدد الخالقية والصانع بدون حد ) (2) .
وقد نبه سهل بن عبد الله إلى أن ذلك لا يعنى القول بالجبر ، لأن قوما ممن ضلوا فى هذا الباب زعموا أنهم يغرقون فى بحار التوحيد ، ولا يثبتون لنفوسهم حركة وفعلا ويسقطون ذلك ظنا منهم أنهم يفردون الله بالفاعلية فيزعمون أنهم مجبورون على الأشياء وأنه لا فعل لهم مع فعل الله ويسترسلون فى المعاصى وكل ما تدعوا النفوس إليه من ترك الحدود والأحكام والحلال والحرم .
ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب ص333 .
2- السابق ص 333 ، 334 .
*** المبحث الرابع ***
الحكمة من خلق الأواسط والأسباب
إذا كان أوائل الصوفية قد أفردوا الله بخلق أفعال العباد وأثبتوا دور الإنسان فى كسب أفعاله الخلقية وأكدوا أن الأسباب لا تستقل عن الفاعلية الإلهية بأى أثر يذكر ، فكيف وعلى أى وجه تنسب النتائج إلى الأسباب ؟ وكيف تكون الأسباب بذلك حقا وأثرها صدقا وهى ليست فاعلة أو مؤثرة بذاتها مما يجعلها أقرب إلى الوهم ؟ فى حين أن المكى يقول : ( فى الأشياء أواسط حق وأسباب وصدق ) ؟!
وفى الحقيقة قوله هذا يدل على إثباته لحقيقة الأسباب ونفى وهميتها وبطلانها وجوديا ، إذ أنه استطرد بعد ذلك مبينا موقع هذه الحقيقة من قدرة الله المطلقة فيقول : ( لما كانت الأشياء بعد أن لم تكن ولا تكون بعد أن كانت ، أشبهت الباطل الذى لا حقيقة له أولية ، ولا ثبات له آخرية ، وكان الله تعالى الأول الأزلى الآخر الأبدى فهو الحق ولا هكذا سواه ) (1) .(198/39)
وهذا الكلام يبدوا متناقضا مع سابقه ، حيث أثبت الوجود الحق للأسباب ثم جعله باطلا ولكنه لا يعد فى حقيقه الأمر تناقضا ، وذلك ــــــــــــــــــــــــ
1- قوت القلوب حـ2 ص 14.
لأن الحقيقة التى أثبتها للأسباب غير الحقيقة التى أثبتها لله عز وجل ، فالله هو الحق وكل ما سواه حقائق نسبية أو حقائق وجودية مشروطة ومتعلقة بالمشيئة الإلهية وبقدرة الله وربوبيته ورعايته ، كما قال سبحانه وتعالى : { الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل } (1) .
فكل ما سوى الله عز وجل باطل بالنظر إليه فى ذاته إذا قيست حقيقته بوجود الحق سبحانه وتعالى ، ولذلك استدال المكى على هذه الحقيقة بقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( أصدق بيت قاله الشاعر ألا كل شىء ما خلا الله باطل ) (2) .
يقول المكى معقبا على الحديث : ( وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن فى الأشياء أواسط حق وأسباب صدق ثم لم يمنعه ذلك ــــــــــــــــــــــــ
1- الزمر / 62 .
2- هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة ، قال ابن حجر : ( المراد بقول الشاعر ما عدا الله أى ما عداه وعدا صفاته الذاتية والفعلية ، فكل شىء سوى الله جائز عليه الفناء لذاتة حتى الجنة والنار ، وإنما يبقيان بإبقاء الله لهما وخلق الدوام لأهلهما ، والحق على الحقيقة لا يجوز عليه الزوال ) انظر فتح البارى جـ7 ص188 والحديث أخرجه البخارى فى كتاب مناقب الأنصار ، باب أيام الجاهلية برقم (3841) ومسلم فى كتاب البر والصلة والآداب برقم (63) وأحمد فى المسند حـ3 ص 248 .
أن قال : أصدق بيت قاله الشاعر كذا ، إيثارآ منه للتوحيد وتوحيدآ للمتوحد ) (1) .(198/40)
وعلى هذه النظرة العميقة ، فإن الأغيار والأسباب إنما هى حق بالنظر إلى القدر الإلهى ، وباعتبار مشيئة الله تعالى فى وجودها وبقائها وتأثيرها ، وبهذا النحو الذى فسر به المكى علاقة الأسباب أو الأغيار بالله عز وجل من حيث الوجود فسر به أيضا علاقة فاعلية الأسباب والأواسط بفاعلية الله عز وجل وربوبيته فيقول :
( ومثله الأسباب أيضا فى ثوانيها وأواسطها إلى جنب الأول المسبب مثل ما يقول فى القرآن قال الله كذا ، ولك أنه تقول : قال نوح وقال يوسف كذا فكل صواب ) (2) .
فالأسباب فاعليتها إذا بالقياس إلى فاعلية الله باطلة ولا حقيقة لفعلها فى ذاتها وإن كانت لها فاعلية واقعة بإذن الله وخلقه لها .
فالسبب والنتيجة مخلوقان له واقعان بفاعليته ، ومن ثم تكون فاعلية السبب ليست حقيقية وليست مجازية ، بل ليست فاعلية على الإطلاق لأنه فى كل مرة يقع منه أثره يكون هذا الأثر بخلق الله وإرادته وقدرته كشأنهم فى إضافة الاستطاعة للإنسان يخلقها الله عز وجل فى السبب
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ2 ص 14 .
2- السابق حـ2 ص 14 .
مرة بمرة وفعلا بفعل ، فلا يكون السبب فيها فاعلا فى الحقيقة ، أو مستقلا بفاعليته برؤية وحتمية بينة كعلة وبين الفعل التابع له كمعلول بل هو مؤثر ليس بالنظر لذاته ولكن بالنظر إلى خالقه وخالق معلوله على السواء .
ويستدل المكى على ذلك فيقول : ( وقال فى إثبات الأسباب ورفع حقائقها : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } (1) .
فنسب الرمى لله عز وجل وليس لرسوله حين رمى ، وقال تعالى فى ذكر الأواسط : { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها } (2) .(198/41)
فالأموال والأولاد علل وأسباب وأواسط ، يظن الكافر أنها أوائل ذات فاعلية مستقله لإسعادهم ، ولكن القدرة الإلهية احتجبت وراءها ليعذبهم الله بها ، وذلك يدل على أنها ليست فاعلة على الإطلاق حقيقة أو مجازا لأنها لو كانت كذلك لما كانت سببا فى عكس ما توهم الكافرون أنها سبب له ، وكذلك يضرب المكى مثلا بالفعل يخلقه الله ويكسبه العبد يقول :
ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنفال / 17 .
2- التوبة / 55
وانظر السابق حـ2 ص 12وانظر كشف المحجوب ص304، ص305 وقارن .
وكذلك قال سبحانه فى التفصيل والأمر : { فاقتلوا المشركين } (1) وقال فى مثله عند ذكر واسطة الأمر : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } (2) .
ثم قال التوحيد : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } (3) .
وكل ذلك دليل على أن الله عز وجل هوالخالق والفاعل بالأسباب أو بالناس فهو يعذب الكافرين بأيدى المؤمنين ويخلق النتيجة بسبها وهو قادر على أن يفعل النتيجة بلا سبب والمعلول بلا علة ، ولكنه شاء أن يحجب قدرته بإيجاد المعلول بالعلة تحقيقا لمعنى الابتلاء وإظهارا لقدرة العبد على القتل فينال الأجر والثواب .
أما بالنسبة للأسباب الطبيعية فيورد المكى قوله تعالى : { أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون } (4) .
فذكر الأواسط ثم قال : { أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا } (5) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التوبة / 5 .
2- التوبة / 14 .
3- الأنفال / 17 وانظر السابق حـ 2 ص 12 وكشف المحجوب ص 305 .
4- الواقعة / 63 .
5- عبس / 25 ، 26 وانظر السابق حـ 2 ص 12 .
أى أنه أثبت للإنسان حرثا وهو سبب غير مؤثر بذاته لإثبات الزرع بل مؤثر بأمر الله وبخلقه عز وجل للإنبات ، كما أثبت لنفسه خلق الأسباب أيضا بإنزال الماء وشق الأرض .
وهكذا فهو الفاعل للعلة والمعلول على الحقيقة ومن ثم يثبت أوائل الصوفية الأسباب كستار لحجب القدرة الإلهية فقط .(198/42)
يقول المقدسى : ( إن الإنسان إذا انكشف عن بصيرته أن لا فاعل سوى الله ، فإنه لا ينظر إلى غيره ، فلا يعتمد على المطر فى خروج الزرع ، ولا على الغيم فى نزول المطر ، ولا على الريح فى سير السفينة ، فإن الاعتماد على ذلك جهل بحقائق الأمور ) (1) .
ويمثل المكى العلاقة بين فاعلية الأسباب وفاعلية الله بقوله :
( ومثل الأواسط مثل الآلة بيد الصانع ألا ترى أنه لا يقال الشفرة حذت النعل ولا الصوت ضرب العبد ) وذلك لافتقار الشفرة والصوت إلى المشيئة والعلم والاختيار ، مما ينفى كونها فاعلة .
ومن ثم يقول المكى : ( إنما يقال الحذاء حذ النعل وفلان ضرب عبده بالسوط وإن كانت هذه الأواسط مباشرة للأفعال إلا أنها آلة بيد صانعها ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- مختصر منهاج القاصدين ص 346 ، 347 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .
وإذا كان الأمر كذلك فإن الخليقة يباشرون الأسباب فى ظاهر العيان والله من ورائهم محيط وهو القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة .
أما بالنسبة للأسباب الغيبية أى الملائكة ، فإن العلاقة بين فاعليتهم والفاعلية الإلهية هى نفس العلاقة بين العلل الطبيعية وفاعلية الله عز وجل ، ذلك أن الملائكة : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } (1) .
وهم وإن كانوا يعملون فى حدود ما أوكل الله إليهم أعمالا ، إلا أنهم ليسوا أصحاب إرادة واختيار كالإنسان بحيث لا يحدث منهم ما هو مخالف للأمر بعبودية الله عز وجل ، ومن ثم تصبح أفعالهم تنفيذا وإمضاءا لأمر الله عز وجل وقدرته ومشيئته .
فيكون الفعل لله عز وجل على الحقيقة ، والملائكة ليسوا سوى ححاب أو ستار ثان للربوبية عن الناس ، وذلك باعتبار أن العلل الطبيعية ستار أولى ، ويدلل المكى على ذلك أيضا بالكثير من الأمثلة الواردة فى كتاب الله عز وجل مثل قوله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذى وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون } (2) .
ــــــــــــــــــــــــ(198/43)
1- التحريم / 6 .
2-السجدة / 11 .
فهنا يثبت الفعل الإلهى محتجبا بالملائكة كأسباب غيبية ، وأظهر نفسه سبحانه فقال : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها } (1) .
وبالنسبة لخلق الإنسان ونفخ الروح فيه قال تعالى : { فأرسلنا إليها روحنا } (2) .
ثم قال فى التوحيد : { فنفخنا فيه من روحنا } (3) .
وكان النافخ جبريل (4) ولكن الفعل لا يقع من جبريل ومن كل الملائكة إلا حسب مشيئة الله وإرادته وقدرته ، لأن جبريل والملائكة من خلق الله عز وجل فإن الفعل لله وحده ، ولذلك نسبه لنفسه على هذا النحو وأثبت وقوعه من جبريل كسبب غيبى تحتجب وراءه القدرة الإلهية .
ويرفض المكى القول بخلق القرآن بمبدأ العلل أو الوسائط والأسباب الثوانى التى تحتجب بها الفاعلية الإلهية فيقول : ( إذا قلت : قال الله سبحانه وتعالى كذا فهو القائل الأول قبل القائلين متكلما بوصفه مخبرا
ــــــــــــــــــــــــ
1- الزمر / 42 وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 13 .
2- مريم / 17 .
3- التحريم / 12 .
4- السابق حـ 2 ص14 .
عن علمه بغير وقت لموقت ولا حد لمحدود ولا حد ثان .
وإن قلت : قال صالح وقال شعيب فقد قالوه بأنهم ثوان فى القول وأواسط به ، قالوا ذلك عنه بحدوث أوقات وظهور أسباب ) (1) .
أى أن كل ما أخبر الله عز وجل به ، فهو قوله القديم دون تحديد لوقت وعندما حدث فى الزمان صالح وشعيب ، قال كل منهما قوله باعتباره مجرد علة تظهر من خلالها كلمات الله عز وجل .
فالأنبياء والرسل قالوا ذلك عنه بحدوث أوقات وظهور أسباب فشأن الرسل فى ذلك شأن العلل الطبيعية والعلل الغيبية حيث أنه ليس لهم إرادة واختيار خاص مستقل إزاء ما أراده الله عز وجل وأمرهم به من فعل وتبليغ .
كما قال سبحانه عن نبينا صلى الله عليه وسلم : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى } (2) .(198/44)
وقال عن الأنبياء جميعا : { وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 14.
2-النجم / 3 : 5 .
عذابا أليما } (1) .
وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } (2) .
ويعقب المكى على النص السابق بما يفيد هذا المعنى ويقرره فيقول : ( وكذلك الأسباب وأواسطها ثوان عن الأول المبدئ ) (3) .
ويعلل المكى قول المبتدعين بخلق القرآن بأنهم نسبوا فاعلية ذاتية مستقلة للأسباب والإنسان مما جعلهم ينسبون أقوال الأنبياء والرسل إليهم أولا ، ثم إخبار الله عنهم بذلك ثانيا ، فاضطروا إلى القول بحدوث القرآن وخلقه من حيث احتوائه على حوادث يقول :
( ومن هنا وفى مثله دخلت الشبهة على المبتدعين فقالوا بخلق القرآن ) (4) .
ويرى المكى أنهم وقعوا فى أشنع مما هربوا منه حيث أثبتوا كلام المحدثين قبل كلام رب العالمين القديم الأزلى .
وقد دخل الشبهة أيضا على أمثال هؤلاء المبتدعين فوقعوا فى الشرك ــــــــــــــــــــــــ
1- الأحزاب / 7 ، 8 .
2- الحاقة / 44 : 46 .
3- السابق حـ 2 ص 14 .
4- السابق حـ 2 ص 15.
الخفى أيضا من حيث شهدوا المانعين والمنفقين أوائل فى الفعل من قبل أن الله تعالى أظهر المنع والعطاء بأيديهم (1) وجهلوا حقيقة ستر الفاعلية الإلهية بالأسباب والوسائط ، وهو شرك خفى نتيجة ضعف اليقين والغفلة والجهل وذلك لا يخرج عن الملة عندهم .
وفى هذا المعنى يقول الواسطى فيمن نسب الفعل إلى السبب أو الفاعلية ونسى نسبته إلى الله عز وجل :
( ادعى فرعون الربوبية على الكشف وادعت المعتزلة علىالستر تقول : ما شئت فعلت ) (2) .
ولذلك يرى أوائل الصوفية وجوب اعتقاد المسلم بأن الله هو الفاعل الخالق وحده لأن ذلك عندهم أصل من أصول التوحيد .(198/45)
وقال بعضهم : ( التوحيد هو إضافة كل شئ إلى الأصل ، وإن كان الله فعل ذلك فى الفرع ) (3) .
وهو يقصد بالأصل فعل الله تعالى بكلمة كن ويقصد بالفرع ظهور الفعل أو نتيجته بالأسباب واحتجاب قدرته الخالقة والمحدثة والفاعلة بالكن وراء هذه الأسباب بدليل قوله بعد ذلك :
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 15 .
2- الرسالة حـ 2 ص 35 .
3- كشف المحجوب ص 246 .
( لا تنظر إلى أهل الأعراض والغفلة بادعاء ما ليس لهم فى دعواهم بحق .
قال فرعون : { أليس لى ملك مصر } (1) .
وقال قارون : { إنما أوتيته على علم عندى } (2) .
وقال المنافقون : { شغلتنا أموالنا وأهلونا } (3) .
وكلها نماذج قرآنية للتدليل على أن نسبة الفعل على سبيل الإيجاد إلى السبب أو الإنسان باطله ، لأنه تجاهل للفاعلية الحقة فى الوجود .
ثم يبين بطلان هذه الفاعليات والأسباب بقوله : ثم لما رجع الفرع إلى الأصل قال عز وجل : { لمن الملك اليوم } (4) فخرست الألسن ولم يجترئ أحد على دعوى الملك فقال الله تعالى : {لله الواحد القهار } (5) .
وهذا يتمشى مع قولهم باحتجاب القدرة الإلهية حيث أنها الأصل فى حدوث الأشياء والأحياء والعالم كله ، ثم احتجابها بالأسباب على ــــــــــــــــــــــــ
1- الزخرف / 51 .
2- القصص /78.
3- الفتح /11 .
4- غافر / 16 .
5- غافر / 16 وانظر السابق ص 247 .
سبيل الاستثناء ، وهذا الاستثناء لحكمة شاءها الله تعالى .
ويدلل المكى على نسبة الفعل بكماله إلى الله عز وجل سواء وقع بالأسباب أو بدونها فيقول : هب أن الله تعالى أمر رسوله بالدعوة إليه فدعا لقوله تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن } (1) فمن الذى أسمع الآذان دعوته وفتح أقفال القلوب ووفق للاستجابة أليس ذاك الله ؟ واحد فى صنعه (2) .(198/46)
أى إذا عرفنا فاعلية الله عز وجل من خلال الوسائط فذاك التفصيل أما التوحيد فهو تخطى هذه الأسباب إلى فاعليته ، وهذا هو توحيد الربوبية ، والنظر إلى الحالتين يتوقف على وجهة الناظر .
وقال بعضهم : ( إذا نظرت إلى التفصيل أثبت الوسائط والرسل وإذا نظرت إلى التوحيد لم تر فى الدارين مع الله أحدا غيره ) (3) .
أى أن الله عز وجل واحد لا يتغير فى ذاته وفعله ، واحد فى قدرته منفرد بالفعل أولا وأخيرا ، والاختلاف بين الأصل والفرع يرجع إلى الناظر ودرجته من التوحيد ليس إلا ، ويعلق ابن القيم على هذه القضية ــــــــــــــــــــــــ
1- النحل / 125 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 13 .
3- السابق حـ 2 ص 14 .
بأن الأسباب مخلوقة لله وليست لها أفعال مستقلة ، فالفعل الذى لا يعقل الناس سواه هو الفعل الاختيارى الإرادى الحاصل بقدرة الفاعل وإرادته ومشيئته ، وما يصدر عن الذات من غير قدرة منها ولا إرادة لا يسميه أحد من العقلاء فعلا ، وإن كان أثرا من آثارها ومتولدا عنها كتأثير النار فى الإحراق والماء فى الإغراق ، والشمس فى الحرارة ، فهذه آثار صادرة عن هذه الأجسام وليست أفعالا لها ، وإن كانت بقوى وطبائع جعلها الله فيها ، فالفعل والعمل من الحى العالم لا يقع إلا بمشيئته وقدرته (1) .
وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال هام لا نتجاهله وهو : ما الحكمة التى شاء الله عز وجل من أجلها أن يحجب قدرته وفاعليته المطلقة خلف العلل والأسباب سواء كانت مشهودة أو غيبية ؟
والجواب على ذلك عندهم ينبع من كتاب الله عز وجل ، حيث بين الله سبحانه وتعالى أن الحكمة من مشيئة ذلك هى الحكمة من خلقه للدنيا والآخرة والإنسان والجان ، هذه الحكمة هى الابتلاء .
فالله سبحانه وتعالى ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا ، وجعل الأسباب محل حكمته فى أمره الدينى الشرعى ، ومحل ملكه وتصربفه فى ــــــــــــــــــــــــ
1- شفاء العليل ص 188 بتصرف .(198/47)
أمره الكونى القدرى ، فإنكار الأسباب والقوى والطبائع جحد للضروريات ، وقدح فى العقول والفطر ، فقد جعل الله سبحانه مصالح العباد فى معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهى ، كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها .
بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه ، بل الموجودات كلها أسباب ومسببات والشرع كله أسباب ومسببات والمقادير أسباب ومسببات والقدر جار عليها متصرف فيها ، فالأسباب محل الشرع والقدر ، يقول الترمذى : ( فهذه كلها أسباب والآدمى يرى ما ظهر عنها وفى باطنها ربوبيتة ، وهو الذى دبر هذا كله من القدر وأمضى التدبير بمشيئته تحقيقا للابتلاء ) (1) .
والقرآن مملوء من إثبات الأسباب وتعليق الأحكام عليها بالتكليف والابتلاء .
قال تعالى : { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية } (2) .
وقال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا ــــــــــــــــــــــــ
1- نوادر الأصول ص 397 .
2- الحاقة / 24 .
عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل و أعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما } (1) .
والآيات كثيرة فى هذا الباب لا تكاد تحصى ، وكلها تدل على أن الأسباب إنما جعلت لحكمة وغاية .
قال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } (2) .
وقال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } (3) .
يقول ابن القيم : ( والحق هو الحكمة والغايات المحمودة التى لأجلها خلق ذلك كله ) (4) .
وذكر من هذه الحكم والغايات :
1- أن يعرف الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته0
2- أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع .
3- أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النساء / 160 ، 161 .
2- المؤمنون / 115 .(198/48)
3- الدخان / 38 : 39 .
4- شفاء العليل ص 189 ، وانظر قوت القلوب حـ 2 ص 4 .
4- أن يدبر الأمر ويتم القضاء ويتصرف فى ملكه بأنواع التصرفات .
5- أن يثيت ويعاقب فيجازى المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته فيوجد أثرا لعدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك ويشكر ، إلى غير ذلك من الحكم التى تضمنتها الأسباب فى خلق السماوات والأرض (1) .
وقال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } (2) .
ومن أوائل الذين انتبهوا إلى هذه الحقيقة سهل بن عبد الله التسترى حيث يقول : ( إن الله عز وجل خلق الخلق وفطرهم على معرفته وابتلاهم بنفسه وقهرهم بقدرته وأمضى فيهم حكمه وهو فى علاه قائم عليهم ) (3) .
وفضلا عن ذلك فإن التسترى يرى أن أوامر الله ونواهيه إن هى إلا ابتلاء حقيقى وامتحان خطير للإنسان (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 189 بتصرف .
2- ص / 27 .
3- من التراث الصوفى ص 268 .
4- السابق ص 269 .
وهذا الابتلاء يظهر من تصريف الحق لجميع الخلق حيث أنه منشئ ذواتهم ومجرى صفاتهم ، وبالابتلاء نوعهم فريقا أسعدهم ، وفريقا أبعدهم وأشقاهم ، وفريقا هداهم ، وفريقا أضلهم وأعماهم وفريقا حجبهم عنه ، وفريقا جذبهم إليه ، وفريقا آنسهم بوصله ، وفريقا أيسهم من رحمته ، وأنواع أفعاله لا يحيط بها حصر ، سواء احتجب عنهم بالأسباب ابتلاء ، أو شاهدوا قدرته من خلفها (1) .
ولكن ما علاقة الحكمة من احتجاب القدرة بالابتلاء ؟ يقول الدكتور جعفر :
( إن سهلا لا يعترف بحقيقة الاستطاعة وفقط ، بل يرى كذلك أنها محل البلاء ومحك الابتلاء ، ولقد صرح فى مواضع كثيرة أن خلق الإنسان فى الأصل بدأ بالابتلاء ، فالخلائق فى نظره وجهوا للابتلاء فتحركت نفوسهم نحو التدبير لصالحها ) (2) .(198/49)
وعلى ذلك فإن الإنسان إذا تعامل مع هذه القدرة وجها لوجه ، فإن ذلك سيبطل معنى الابتلاء ، فالابتلاء بمعنى الامتحان والاختبار يقتضى وجود عالم غائب عن الإنسان تحتجب فيه القدرة الإلهية ، فليس من المعقول أن يكون على الأرض ابتلاء ، والإنسان المبتلى يستطيع أن يرى ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة القشيرية حـ 1 ص 226 .
2- من التراث الصوفى ص 268 .
النار وعذابها ، أو يحسها أو يسمع صراخ المعذبين فى القبور أو يرى رب العزة والجلال ، وبرهان ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :
( إن العبد إذا وضع فى قبره ، وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه ، فيقولان له : ما كنت تقول فى هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، فيراهما جميعا .
قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح فى قبره ، ثم رجع إلى حديث أنس فقال : وأما المنافق أو الكافر فيقال له : ما كنت تقول فى هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدرى ، كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ) (1) .
والشاهد فى هذا الحديث ، أن كل الكائنات الحية على الأرض تسمع ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز ، باب الميت يسمع خفق النعال برقم (1338) وأخرجه مسلم فى كتاب الجنة ، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار وإثبات عذاب القبر والتعوز منه برقم (2870) والنسائى فى كتاب الجنائز ، باب مساءلة الكافر حـ 4 ص 97 ، 98 وابن حبان فى كتاب الجنائز فصل فى أحوال الميت فى قبره برقم (3120) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 3 ص 126 .(198/50)
صوت المعذب إلا الإنس والجن ، لأنهما المخلوقان المبتليان على الأرض أما ما عداهما من الأحياء فليسوا واقعين تحت الابتلاء ولم يخلقوا له ومن ثم فهم يعيشون بغير هذا الغطاء الكونى الذى يمنع عن الثقلين معرفة الأمور الغيبية التى تقع فى الأرض ، كصراخ المعذبين فى القبور وكرؤية الملائكة المحيطة بالإنسان ورؤية الشياطين الملتفة حوله ، لأنه لو حدث ذلك للإنس والجن لآمنوا جميعا ، وما كان هناك فضل منهم ولا مبادرة ولا اجتهاد لمجتهد يستحق عليه الثواب ولما تبين الظالم من المحسن حيث يكون إيمانهم جميعا كنتيجة مباشرة لاطلاعهم على هذه الأمور الغيبية .
ولذلك فإن هذا الغطاء يرفع عن الإنسان بمجرد انتهاء فترة الابتلاء الخاصة بالمخلوق المبتلى فيقال للكافر حين ذاك : { لقد كنت فى غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } (1) .
وعلى ذلك فلا يصح امتحان الإنسان إلا بستار القدرة المطلقة ، حتى يظهر إيمان الإنسان بالغيب أو كفره ، ومن ثم جعل الله فعله غيبيا غيبة عنا بالعلل والأسباب وتوالى النتائج والمعلولات .
ويؤكد المكى على رأى التسترى فى إثبات الابتلاء ومعانى الحكمة ـــــــــــــــــــــــ
1- ق / 22 .
فيذكر أن الله عز وجل ذو قدرة وحكمة ، فأظهر أشياء عن وصف القدرة ، وأجرى أشياء عن معانى الحكمة ، فلا يسقط المتوكل ما أثبت من حكمته لأجل ما شهد هو من قدرته .
وذلك من قبل أن الله تعالى حكيم فالحكمة صفته ، ولا يثبت المتوكل الأشياء حاكمة جاعلة نافعة ضارة فيشرك فى توحيده .
ومن قبل أن الله قادر والقدرة صفته ، وأنه حاكم جاعل ضار نافع لا شريك له فى أسمائة ولاظهير له فى أحكامه .
كما قال عز وجل : { إن الحكم إلا لله } (1) .
وقال تعالى : { ولايشرك فى حكمه أحدا } (2) .
وكما قال تعالى : { وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } (3) .(198/51)
والظهير المعين على الشئ ، فالمتوكل مع مشاهدته قدرة الله على الأشياء ، وأنه منفرد بالتقدير والتدبير قائم بالملك ، والمملوك هو أيضا عالم بوجوه الحكمة فى التصرف والتقليب بإظهار الأسباب والأواسط لإظهار الأشخاص والأشباح ، لإيقاع الأحكام على المحكوم ، وعود
ــــــــــــــــــــــــ
1- يوسف / 67 .
2- الكهف / 26 .
3- سبأ / 22 .
الثواب والعقاب على المرسوم ، من حيث كان المتوكل قائما بأحكام الشريعة ملتزما لمطالبات العلم ، مع تسليمه الحكم الأول لله واعترافه أن كلا بقدر الله إذ سمع الله تعالى يقول : { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون } (1) .
ثم يروى عن ابن مسعود رضى الله عنه ما يوضح الحكمة من إخفاء فاعلية الله عز وجل وحجبها عن العباد بالأسباب فيقول ابن مسعود :
( فى إعطاء هذا المال فتنة وفى منعه فتنة ، فإن أعطاه عبدا مدح غير الذى أعطاه وإن منعه عبدا ذم غير الذى منعه ) (2) .
ومراد الله من ذلك أن يختبر المنكرين للخير والغافلين لينظر كيف يعملون ، أما أهل اليقين فيعتبرون بالأسباب ويعجبون من المسبب فيزدادون بذلك هدى وإيمانا لشهودهم المعطى المانع واحدا فى العطاء والمنع ، وفوزهم فى هذا الابتلاء أو هذه الفتنة هو معرفتهم بجريان الحكمة فيما جاءت به الشريعة فتثبت لهم مقامات الشكر لله والصبر عليه (3) أما الغافلون الخاسرون فى الابتلاء والفتنة فيغترون بنظرهم إلى الأسباب والأيدى فيمدحون المعطين ويذمون المانعين (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنبياء / 23 .
2- قوت القلوب حـ 2 ص 10 بتصرف .
3- السابق حـ 2 ص 11 . 4- السابق حـ 2 ص 12 .(198/52)
ومن ثم فإن الأسباب المادية الطبيعية والغيبية ما جعلها الله إلا فتنة للناس وابتلاء ، وهذا هو مكر الله عز وجل يخفى به قدرته ويستر فاعليته لكل شئ لينكشف الكافر من المؤمن ، ولذلك يعقب المكى بعد ذلك بقوله : ( لقد صار المال فتنة للفريقين يكشف إيمانهم ويمتحن للتقوى قلوبهم ) (1) وهو لا يقصد المال وحده ولكنه يقصد كل الأسباب وعلى رأسها المال .
ويذكر المحاسبى أن الله يستدرج بالمال من أراد أن يهلكه ويعذبه من خلال الابتلاء به وبغيره فيقول : ( أخبرنا الله أن الدنيا فتنة وبلوى واختبار وأنها ليست بدليل على رضى الله عن عباده ) (2) .
ثم يستدل بقوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم } (3) .
فكذبهما الله جميعا ونفى أن يكون فى هذا كرامته أو فى ذاك إهانته فالكريم من أكرمه الله بطاعته على أى حال كان ، فقيرا أو غنيا والمهان من أهانه بمعصيته على أى حال كان فقيرا أوغنيا ، فاغتر ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 2 ص 12 .
2- الرعاية حـ 2 ص 13 .
3- الفجر / 15 ، 16 .
الكافرون بظاهر نعم الله عز وجل وظنوا أن ذلك من كرامتهم على الله فقال فى وصفهم : { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون } (1) .
فالأسباب فتنة ، تحتجب قدرة الله بستارها ، والمؤمن صامد لا يتاثر بها كما جاء فى حديث صهيب أنه صلى الله عليه وسلم قال :
( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر وكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن ) (2) .(198/53)
ويذكر أبو سعيد الخراز أن أهل الصدق إذا ملكوا شيئا من الأسباب فهم يعتقدون أن الشئ لله لا لهم وأن الله خولهم فيها ، وهم مبتلون به حتى يقوموا بالحق فيه ، لأن النعمة بلاء حتى يقوم العبد بالشكر فيها ويستعين بها على طاعة الله تعالى ، وكذلك البلوى والضراء هو اختبار وابتلاء حتى يصبر عليه ويقوم بحق الله تعالى فيه .
ــــــــــــــــــــــــ
1- المؤمنون / 55 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب الزهد ، باب المؤمن أمره كله خير برقم (2999) وأخرجه أحمد فى المسند حـ 4 ص 332 ، 333 ، والدرامى فى سننه حـ 3 ص 375 ، وابن حبان فى كتاب الجنائز ، باب ما جاء فى الصبر وثواب الأمراض برقم (2896) .
ودليله فى ذلك قوله تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } (1) .
والخلاصة أن أن أوائل الصوفية يعتبرون حقيقة العلل وحدوث الأسباب وتعلق معلولاتها بها وجودا وعدما هى مصدر كل ابتلاء .
والناظر فى تاريخ الأمم السابقة التى قص علينا القرآن الكريم أخبارها يجد أن الباب الذى دخل فيه الشر على هذه الأمم هو إيمانهم بحتمية العلاقة بين العلة والمعلول كسيف صارم يعلو قدرة الله تعالى فعبادة الكواكب والأفلاك والشمس والقمر أولها الاعتراف بفعلها وكذلك ما كانت الأوثان المعبودة إلا رموزا لفاعليات متعددة لها آثارها فى حياة الناس (2) .
وكذلك الأمر بالنسبة للملائكة كعلل غيبية حيث وقع كثير من الأمم فى عبادتها من دون الله عز وجل ومنهم العرب قبل الإسلام ، والباب الذى أدى بهم إلى ذلك هو إثباتهم فاعلية مستقلة لهم عن فاعلية الله .
ولا شك أن انتباه الصوفية الأوائل إلى حقيقة العلاقة بين الفاعلية الإلهية وبين الأسباب الطبيعية والبشرية من ناحية ، وإلى معرفة حقيقة ــــــــــــــــــــــــ
1- محمد / 31 وانظر الصدق لأبى سعيد الخراز ص 34 .
2- كشف المحجوب ص 245 .(198/54)
الأسباب والاستطاعة البشرية من ناحية أخرى ، كان له أثر كبير فى تثبيت قاعدة هامة من قواعد التوحيد الإسلامى ، مما كان له دوره الواضح فى إبعاد المسلمين عن مزالق الوثنية التى وقع فيها غيرهم من الأمم أو بتعبير أدق نقول : إن أوائل الصوفية قدموا أسبابا واضحة فى هذا كله .(198/55)
الفصل الثانى
الحرية ومنهج العبودية
وقد اشتمل على أربعة مباحث :
المبحث الأول : العقل والعلم من مقومات الحرية
المبحت الثانى : الحرية فى الاصطلاح الصوفى
المبحث الثالث : المقامات الصوفية وإرادة الحرية
المبحث الرابع : الأحوال الصوفية وثمرة الحرية
*** المبحث الأول ***
العقل والعلم من مقومات الحرية
من المقومات الأساسيةعند أوائل الصوفية لتكامل مسألة القدر والحرية ضرورة وجود العقل والعلم بالنسبة للعابد ، فكما أنهم أثبتوا له إرادة حرة واستطاعة على تحقيق مراده فى حدود ما منحه الله وخوله فيه ، فإنهم أيضا آمنوا بضرورة وجود العقل واستخدامه فى العلم بالله سبحانه وتعالى .
يقول ابن خفبف : ( ونعتقد أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه على أحكام القوة والاستطاعة ، إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ، ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأحدية المسدية بعلائق الآخرية فهو كافر لا محالة إلا من اعتراه علة أو رقة فصار معتوها أو مجنونا أو مبرسما وقد اختلط عقله أو لحقه غشية ارتفع عنه بها أحكام العقل وذهب عنه التمييز والمعرفة فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة ) (1) .
فالتزام المرء بالعبودية يتطلب مقومات أساسية حددها عبد الله بن ــــــــــــــــــــــــ
1- الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 48 ، 49 .
خفيف فيما يأتى :
1- وجود الاختيار الذى يؤدى إلى التزام العبودية أو إسقاطها .
2- وجود الاستطاعة والقوة على إتمام الفعل المختار .
3- وجود العقل والعلم ليحدد الطريق للسالكين .(199/1)
وهذه المقومات ليست منفصلة عن بعضها إلا فى عالم الذهن فقط أما فى عالم الواقع والحقيقة فالحرية الإنسانية تتجلى واضحة فى الفعل الاختيارى واستجابة العبد للسلوك الخلقى المعين ، فكما علمنا مما سبق أن الاختيار البشرى عند أوائل الصوفية يوجد متلبسا وممتزجا بالاستطاعة ومصاحبا لها فى الفعل كذلك العقل والعلم .
فالعقل مقوم أساسى من مقومات الحرية كالإرادة والاستطاعة وحيث أن السلوك الخلقى لا يمكن أن يقوم بدون أحدهما فهو أيضا لا يقوم بدون إدراك صاحبه ووعيه ، لأنه إذا كانت الاستطاعة مرتبطة بالعلل والمعلولات والأسباب والنتائج ، فإنه يلزم أن يكون لديه العلم الضرورى بالأسباب وما تنتجه من مسببات أوبالعلل ونتائجها من ناحية ، وأن يكون لديه المعرفة الضرورية بالأخلاق المحمودة والمذمومة من الأفعال المختارة من ناحية أخرى .
ومن ثم فمقومات الحرية الإنسانية فى نفس الإنسان عند أوائل الصوفية إنما هى قوة ذاتية واحدة وإن كانت ذات شعب ثلاث ، وإذا كان أوائل الصوفية أثبتوا اختيارا واستطاعة للإنسان فما موقفهم من العلم ؟
هذا الموقف يتجلى من خلال نظرتهم للغاية من خلق الإنسان ، فكما انبثق الاختيار وظهرت الاستطاعة من معنى الابتلاء والاستخلاف ، كذلك ينبثق العلم عندهم .
فالله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء كلها وفضله على غيره بها إذ سأل الملائكة عنها فأقرت بعجزها ، والتزمت أمر ربها وسجدت لآدم بسببها (1) .
قال تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } (2) .
يقول الترمذى معقبا على تلك الآية :
ــــــــــــــــــــــــ(199/2)
1- انظر الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 325 نقلا عن علم الأولياء للحكيم الترمذى ص 41 ب مخطوطة بمكتبة الجمعية الأسيوية برقم 1056 .
2- البقرة / 30 ، 33 .
( فأبرز الله فضيلة آدم عليه السلام على الملائكة بما علمه من الأسماء ، ولو كان سوى الاسم شئ من العلم يحتاج إليه لعلمه آدم صلى الله عليه وسلم ، فلما علمه الأسماء كلها علمت الملائكة أن جميع العلم داخل فيها ) (1) .
والاسم لفظ يطلق على شئ لتميزه عن شئ آخر ، فالأسماء هنا معناها الأشياء وأسماء الأشياء ، ففى علم اسم الشئ علم بخصائصه ، لأن الخصائص لها أسماء ، وبهذا العلم يحقق الإنسان معرفة الخالق سبحانه وتعالى ومعرفة الخلق من أشياء وأحياء وخصائص وأفعال وتأثيرات .
ويذكر الترمذى أن جميع العلم فى الأسماء ، والأسماء دالة على الأشياء ، وليس من شئ إلا وله اسم ، واسمه دليل على ذلك الشئ والاسم مأخوذ من السمة وكل اسم دليل على صاحبه حتى إن نفس الإسم دليل على الاسم ، فليس من شئ إلا وقد وسمه الله باسم يدل على مكنون ما فيه من جواهر وأوصاف (2) .
فمن علم الأسماء وعلم دلالاتها فقد علم جميع العلوم ، وعلى ذلك فإن أسماء الله تعالى تدل على ذاته وصفاته ، وأسماء خلقه تدل على ما ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 325 نقلا عن علم الأولياء مخطوط ص 40 ب وأبواب فى صفة العلم ص 2 ا .
2- السابق ص 321 نقلا عن علم الأولياء ص 39 ا وأبواب فى صفة العلم ص11
أودع فيهم من أفعالهم وصفاتهم (1) .
ويرى الترمذى أن الله الذى خلق الخلق وكونهم بما هو به أعلم وسم كل شئ من خلقه بسمته ، ووضع الحروف التى تشير إلى هذه الخاصية أو هذه السمة ، وتدل عليها دلالة كاملة بالمطابقة ، ثم ركب منها كيف شاء وعلى الهيئة التى أراد أسماء لهذه المخلوقات ، لذلك كانت هذه الأسماء الأصلية التى وضعها الله لمخلوقاته هى التى تدل على جوهر مسمياتها ، ومكنون ما فيها (2) .(199/3)
وفضلا عن كونه الأسماء وضعت للدلالة على مسمياتها عند الترمذى فإنه يرى أن أسماء الله هى مبتدأ العلم ومنها خرج الخلق والتدبير فى أحكام الله وحلاله وحرامه ، فأسماء الله دلت على صفاته وصفاته تابعة للموصوف فالاسم يعود إلى الموصوف ، ولكن الموصوف لا يدرك فى الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكه إلا لمعرفة صفاته ، وصفاته لا يمكن كذلك معرفتها إلا بما يبدوا لهم من آثارها ، ولا التعبير عنها إلا بأسماء تدل عليها ، فتعرف الصفة عند ذكر اسمها ، كما يعرف ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 321 .
2- نوادر الأصول ص 185 ، 186 بتصرف وانظر اللمع للسراج الطوسى ص 125.
الموصوف بصفته (1) .
يقول الترمذى : ( إن ربنا تبارك اسمه لا يدرك حسا ولا مسا ولا ذوقا ولا شما ولا رؤية ، فأخرج للعباد من قبل أن يخلق الخلق صفات ولكل صفة نوع من الصنع والفعل والعمل ، ثم جعل لكل صفة سمة بحروف مؤلفة وجعل فى كل حرف منها ما وضع فيه من الصنع ، ثم ألفها فصارت اسما لتلك الصفة ) (2) .
ثم يذكر الترمذى أن الأسماء من أجل ذلك رجعت إلى الصفة والصفة رجعت إلى الموصوف لأنها منه بدت ، فالموصوف موجودة عنده تلك الصفة ، فإذا نظرت إلى الصفة تراءت لعيون القلوب الصافية الطاهرة كل صفة على حدتها باسمها وبحروفها المؤلفة ، وإذا نظرت إليه سبحانه غابت صفات الخلق عن عين قلبك لأنه وقعت فى البحر الذى منه خرجت الأنهار (3) .
وقد آثار بعض المتصوفة والمتكلمين فى شأن الأسماء والصفات قضايا ــــــــــــــــــــــــ
1- الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 324 نقلا عن خلق هذا الآدمى للحكيم الترمذى مخطوط مكتبة ولى الدين برقم 770 ص 95.
2- المخطوط السابق ص 95 ا ــ ب وانظر الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ص 324 .
3- السابق ص 324 .
جدلية فى كون الاسم هو المسمى أو هو غيره ، وقد حكى الكلاباذى اختلافهم فى ذلك (1) .(199/4)
غير أن الترمذى يرى أن الصفة قائمة بالموصوف والاسم دال على المسمى منطبق عليه ولا يقال الاسم هو المسمى أو هو غير ، وهو مع ما سبق ينفى نظرية الفيض والصدور ويلتزم بإثبات المباينة بين الخالق والمخلوق والصانع والمصنوع ، ولا يقصد إلا الاعتراف للخالق جل شأنه بأثره المباشر فى كل شى وعنايته ولطفه بخلقه .
ويبين الترمذى بدو أسماء المخلوقات وصفاتها من أسماء الله عز وجل وصفاته ، بأنه سبحانه أعطانا الحياة من حياته ، والرأفة من رأفته والعلم من علمه ، وكل شئ من هذه الأشياء التى هى ممدوحة ، والتى تليق به أبرزها صفة من نفسه وهى أنوار ، فنور منها للحياة ونور للرحمة ونور للرأفة ونور للفرج ونور للصبر ونور للرضا ونور للكبر ونور للعظمة ونور للسلطان ونور للمحبة ونور للغنى فهذه أنوار كل نور صار مُلكا على حدته ، كل ملك خرج منه ذلك الشئ الذى ظهر فى الخلق ، وهذه كلها خرجت من مالك الملك من باب القدرة والوحدانية
فهو واحد فرد أحد ولقد جعل الله فى أسمائه تعالى قضاء حوائج عباده ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف لمذهب أهل التصوف 54 .
ولعل السر فى تعدد الحوائج لدى العباد لاعتبار التعدد فى أسمائه سبحانه وتعالى التى تعرف بها إلى خلقه (1) .
يقول الترمذى : ( فأخرج إلى العباد من كل اسم حوائجهم ، ومن كل اسم أهدى إليهم ما وضع فى ذلك ، لأنه من أجلهم أخرج لهم الأسماء ، فينبغى على العبد مراعاة المعانى فى أسمائه تعالى عند الدعاء ومن نال هذا العلم فقد نال العلم الذى تقضى به الحوائج ) (2) .
وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة) (3) .
وقال صلى الله عليه وسلم :
( أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته فى كتابك ــــــــــــــــــــــــ
1- الصلاة ومقاصدها للحكيم الترمذى ص 165 ، تحقيق الأستاذ حسنى نصر زيدان طبعة القاهرة سنة 1965م ، نوادر الأصول للحكيم الترمذى ص 395 .(199/5)
2- نوادر الأصول ص 188 ، وانظر فى ذلك أيضا اللمع ص 124 .
3- الحديث أخرجه البخارى فى كتاب التوحيد ، باب إن لله مائة اسم إلا واحدا برقم (7392) ومسلم فى كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب فى أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها برقم (2062) والترمذى فى كتاب الدعوات برقم (3506) وابن ماجه فى كتاب الدعاء ، باب أسماء الله عز وجل برقم (3860 ) .
أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به فى علم الغيب عندك ) (1) .
وأمرنا الله أن نتوسل إليه بأسمائه وصفاته فقال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } (2) .
وقال أيضا : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } (3) .
ويفرد المحاسبى كتابا للعقل وشرح جوهره وماهيته ووظائفه وفائدته فى إدراك الأسماء ومدلولاتها وارتباط التكليف بفهمها ودوره الأساسى فى المعرفة وتحقيق العبادة ، ويفرق بين دورين للعقل أو مجالين لعمله :
1- المجال الأول : ويتمثل فى عالم الشهادة بما فيه من ثبات للسنن وآيات مرئية وإبداعات إلهية ، يحصل من خلالها معرفة ربانية وآثار إيمانية .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديث رواه احمد عن ابن مسعود حـ 1 ص 394 ، 452 والحاكم فى المستدرك حـ 1 ص 519 والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ 10 ص 136 وصححه ابن القيم فى شفاء العليل ص 274 والشيخ الألبانى فى تحقيقه للكلم الطيب ص 73 .
2- الأعراف / 180 .
3- الإسراء / 110 .
يقول المحاسبى : ( دعا العقول إلى النظر فى آياته والفكر فى عجائب صنعه ، لأن فى ذلك سبيلا لهم إلى معرفته ، وإلى العلم بأنه الخالق الرازق الإله الواحد سبحانه وأن من دونه خلق له ، وأن الخلق كلهم مألوهون مستعبدون لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ) (1)(199/6)
ويستدل لذلك بقوله تعالى : { إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } (2) .
وبقوله : { سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } (3) .
فعقل عن الله آياته فى تدبيره وحكمته فى آثار صنعته ، ودلائل حسن تقديره فعلم أنه بقدرة نافذة قدرها وبحكمة كاملة أتقنها وبعلم محيط اخترعها وبسمع نافذ سمع حركتها وببصر مدرك لها دبر لطائف
ــــــــــــــــــــــــ
1- ماهية العقل ومعناه للحارث المحاسبى تحقيق الدكتور حسين القوتلى ص 164 طبعة بيروت ، سنة 1972 ، وانظر اللمع ص 154 .
2- آل عمران / 190 : 191 .
3- فصلت / 53 .
خلقها وغوامض كوامنها ، فاستدل بذلك أنه الإله العظيم الذى لا إله غيره ولا رب سواه فكأن جميع الأشياء عين يعتبر بها (1) .
ويرى المحاسبى أن العقل من مقومات الحرية وإسقاطه يلغى دور الإنسان فى تحقيق الغاية من خلقه أو مساءلته عن أفعاله المكتسبة (2) .
يقول المحاسبى : ( العقل غريزة فى قلوب الممتحنين من عباده أقام به على البالغين الحجة ، يولد العبد بها ثم يزيد معنى ) (3) .
ويستدل على ذلك بحديث ابن عباس حيث قال : مر على بن أبى طالب رضى الله عنه بمجنونة بنى فلان قد زنت أمر عمر بن الخطاب برجمها .
فردها على وقال لعمر : ياأمير المؤمنين ، أترجم هذه ؟
قال : نعم .
قال : أو ما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يحتلم .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 68 بتصرف ، وانظر سيرة بن خفيف ص 355 .
2- أعمال القلوب والجوارح للحارث المحاسبى ص 237 .
3- القصد والرجوع إلى الله للحارث المحاسبى ص 58 مسألة فى بيان العقل وصفته
قال : صدقت فخلى عنها (1) .(199/7)
فالمجنون فقد عقله فلا يميز بين الأشياء أو أسمائها ، كما أن النائم مسلوب العقل والإرادة حال النوم ، أما الصبى فعلمه محدود وعقله لا يستوعب الأسماء دفعة واحدة كما علمها الله لآدم عليه السلام أو لعيسى بن مريم حين خرج من بطن أمه ، وإنما يستوعب الأسماء ومدلولاتها على مدار الفترة الزمنية بين ولادته وسن بلوغه الرشد .
يقول المحاسبى : ( فالعقل الذى منحنا الله قادرا على التفكير وعلى معرفة ما أنزل الله وكل إنسان بلغ سن الرشد فقد تحمل مسئولية ناتجة من أنه عاقل ) (2) .
وقال فى موضع آخر من كتابه ماهية العقل :
( والله لا يهلك قوما إلا ويذكرهم ويخاطب عقلهم بما يفهم من عبر ، وإذا كان الله قد من علينا بالعقل فلكى ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود فى كتاب الحدود ، باب فى المجنون يسرق أو يصب حدا برقم (4401) والنسائى عن عائشة فى كتاب الطلاق ، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج حـ 6 ص 156 وابن ماجه عن عائشة فى كتاب الطلاق ، باب طلاق المعتوه والنائم والصغير برقم (2041) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 144 والحاكم فى المستدرك حـ 2 ص 59 .
2- ماهية العقل ص 105 .
يخاطبنا بواسطته ) (1) .
وإذا كان مجال العقل فى الدنيا هو عالم الشهادة ، والعمل فى فهم السنن والنواميس الموضوعة بحيث يتمكن منها ويسيطر عليها ويقوى أفعاله بها ويزيد من قدرته واستطاعته ، فإن أوائل الصوفية ربطوا العقل بزيادة المعرفة بالله والنظر خلف الأسباب لإظهار قدرته على تسييرها ليزدادوا بذلك إيمانا ، فالعلوم الدنيوية طلبها عندهم لا لذاتها ولكن للتقوى بها على طاعة الله .(199/8)
يقول الهجويرى : ( اعلم أن المعرفة واسعة ، والحياة قصيرة لذلك لم يفرض علينا تعلم كل الفنون ، كالفلك والطب والرياضة وعلم البديع وغيرها ، بل وجب أن نأخذ من كل علم ما نحن بحاجة إليه فى إقامة فرائض الشريعة السمحاء فمن الفلك علم مواقيت الصلاة مثلا ، ومن الطب ما يمنعنا من الوقوع فى التهلكة ، ومن الرياضة ما يمكننا من قسمة المواريث واحتساب العدد وغيرها ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 206 ، 207
2- كشف المحجوب ص 14 ، 15 .
فالمعرفة مفروضة لسلوك طريق الحق وما دون ذلك فهو مذموم لأن الله ذم قوما اشتغلوا بزائف المعرفة إذ قال تعالى : { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } (1) .
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إنى أعوذ بك من علم لا ينفع ، وعمل لا يرفع ، وقلب لا يخشع وقول لا يسمع ) (2) .
ويقسم الهجويرى المعرفة على منهج المحاسبى فهى عنده على نوعين لمجال العقل :
[1]- المعرفة الإنسانية ومجال العقل فيها النظر والقياس لمعرفة نظام صنعه والظواهر المحيطة به ، وهذا يحصله الإنسان بجهده فينمو ويتطور مع نمو البحث وزيادة الخبرة فى مختلف العلوم كالفلك والطب والهندسة والرياضة وغير ذلك مما يكسب الإنسان قوة وهذا متاح لكل إنسان سواء كان مؤمنا أو كافرا فالأكثر
ــــــــــــــــــــــــ
1- البقرة / 102 .
2- أخرجه النسائى فى كتاب الاستعاذة ، باب فى الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق حـ 8 ص 264 ، وأحمد فى المسند حـ 3 ص 283 والحاكم فى المستدرك حـ 1 ص104 وعبد الرزاق فى مصنفه برقم (19635) وأبو نعيم فى الحلية حـ 6 ص 252 .
خبرة فى هذا المجال العقلى هو الأكثر قوة ومنعة .(199/9)
[2] - المجال الثانى لعمل العقل والذى يحدده المحاسبى فى كتابه ماهية العقل هو مجال العمل فى معرفة النقل أو الوحى ، أو ما يذكره الهجويرى فى كشف المحجوب بأنه مجال العقل فى المعرفة الربانية كمعرفة ذات الله ووحدانيته ومعرفة العلم بصفاته وأحكامها ومعرفة العلم بأفعاله وكلمته ، ومعرفة الشريعة بأركانها الثلاثة :
1- معرفة الكتاب لقوله تعالى : { منه آيات محكمات } (1) .
2- معرفة السنة لقوله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما
نهاكم عنه فانتهوا } (2) .
3- معرفة إجماع الأمة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تجتمع
أمتى على ضلالة وعليكم بالسواد الأعظم ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 7 .
2- الحشر / 7 .
3- كشف المحجوب ص 18 ، 19 ، 20 بتصرف والحديث رواه ابن ماجه فى سننه كتاب الفتن ، باب السواد الأعظم برقم (3950) ونص الحديث : ( إن إمتى لا تجتمع على ضلالة ، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم ) والحديث فى إسناده أبو خليفة الأعمى وهو ضعيف ، انظر ابن ماجه حـ 2 ص 133 .
ويرى المحاسبى أن دور العقل وعمله حيال الوحى أو الأمور الغيبية يجب أن يقتصر على التلقى والتسليم ثم الدعوة والتبشير بما أنزل الله لا أن يستبد بالفكر ويقدم الرأى على كتاب الله ، ولكن يثبت صحة ما أنزل الله من خلال الرواية والدراية (1) .(199/10)
ومن ثم فالمعرفة الدينية ليس للعقل البشرى من دور حيالها سوى التلقى والفهم ، وهذه المعرفة ضرورية لاستكمال معنى الحرية عند أوائل الصوفية ، ذلك لأن السلوك الخلقى يتم بمقومين أساسين هما الاختيار والاستطاعة ، فالاختيار كما سبق هو تحرك إرادة العبد وعقد النية وتحديد القصد لفعل من ضدين أحدهما حسن والآخر قبيح ، ومن ثم فيلزم لصحة الاختيار وتمام شروطه فى الإنسان أن تكون المعرفة بالحسن والقبيح أو الخير والشر مصاحبة لهذا الاختيار وهادية له تبيينا وتوضيحا وترشيدا ، وبذلك تكون المعرفة التى يتلقى العقل من الوحى موضوعاتها ، ويعرف منها الحلال والحرام هى دليل الاختيار البشرى وهذا ما يؤكده عبد الله بن خفيف بقوله :
( ينبغى أن يعتقد العبد أن النبوة والرسالة حق ، وأنها الحجة على الخلق من جن وإنس ، وحجة ناصعة ، قاطعة للعذر ، أى لم يبق لشخص قط عذر كأن يقول : لم أعلم كذا ، أو لم يبلغنى ــــــــــــــــــــــــ
1- ماهية العقل للحارث المحاسبى ص 108 .
ذلك أن الأنبياء قد أتوا وبينوا جميعا بين الخلق أحوال الدنيا والآخرة من الخير والشر ، وما ينبغى فعله وما لا ينبغى ، وما ينبغى قوله وما لا ينبغى ، وما ينبغى التفكير فيه وما لا ينبغى ) (1) .
فالله سبحانه وتعالى جعل العلم من مقومات الحرية فى اختيار فعل على آخر أو منهج على آخر حتى يتحقق العدل الإلهى إذا عذب الكافر ويظهر الفضل إذا أنعم على المؤمن .
قال تعالى : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ومن اهتدى } (2) .
فالدين بكليته سواء العقائد النظرية أو الشعائر التعبدية أو التنظيمات الاجتماعية والأسرية كل ذلك يدخل تحت منهج العبودية والمعرفة الدينية التى هى هادية للاختيار البشرى ، ولا مجال للعقل فيها ، بل الشرع هو القائد الموجه للعقل .(199/11)
يقول ابن خفيف : ( العقل لا يحسن ولا يقبح والشرع حاكم على العقل ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 352 .
2- طه / 134 ، 135 . 3- السابق ص 359 .
ولقد فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المجالين فى عمل العقل .
مجال المعرفة الدينية التى هى دليل الاختيار ومصدر المعرفة للخير والشر .
مجال المعرفة الدنيوية التى هى دليل الاستطاعة ومعرفة الآثار فى الأشياء بالخبرة والتفاعل مع الأسباب ونتائجها .
فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة على قوم يؤبرون النخل فقال : لو لم يفعلوا لصلح له فامتنع القوم عن تلقيح النخل ذلك العام ظنا منهم أن ذلك من أمر الوحى .
فلما لم ينتج النخل إلا شيصا ، سأل رسول الله عما حدث له ؟
فقالوا : قلت كذا وكذا .
قال : أنتم أعلم بأمور دنياكم .
وفى رواية قال : إن كان ينفعهم ذلك فليصنعون فإنى إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذونى بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به (1)
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحديث أخرجه مسلم فى كتاب الفضائل ، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأى برقم (2361) وابن ماجه فى كتاب الرهون ، باب تلقيح النخل برقم (2471) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 123 .
فأمور الدنيا والعلم بها موكول إلى العقل البشرى وبحثه وتنقيبه فأصحاب النخل قد عرفوا بالتجربة أنه لا بد من تلقيحه كل عام ليثمر وبذلك عرفوا علة الإثمار فى النخل ، وعلى ذلك يصبح إثمار النخل من استطاعتهم أما نصيحة الرسول لهم أو تعليقه على فعلهم ، فلم يكن عن وحى من الله وإنما كان اجتهاد شخصى ولذلك قال لهم : أنتم أعلم بأمور دنياكم .(199/12)
وفى هذه العبارة الصغيرة تفويض كامل من الله ورسوله أن يعتمد اعتمادا كليا على ما أوتى من أجهزة الإدراك والعلم البشرى فى البحث والتنقيب فى كل ما على الأرض والعمل فى سبيل العلم بحرية تامة بعيدا عن منهج العبودية أو تحريمات الدين وتعليماته .
ويمكن القول بناء على التوافق الصوفى النبوى أن المجالين الموضوعين لعمل العقل وتحصيل المعرفة ينحصران فى نوعين من العلوم :
1- علوم مؤثرة فى قوة الأفعال وزيادة الوسع والاستطاعة .
2- علوم مؤثرة فى توجيه الأفعال بالإرادة والاختيار .
وكلا النوعين إن لم تكن الغاية منهما عبودية الله ومعرفته فلا قيمة لهما عند أوائل الصوفية لأنهم من أزهد الناس فى الدنيا وما يتبعها من علوم مادية .
وهم أيضا من أبعد الناس عن تحكيم غير منهج الله وشرعه فى أنفسهم .
فحقا وصدقا أن العاقل من صحح اعتقاده حتى لا يخجل حينما يلقى الله تعالى ، ويخلص نيته ويصفيها حتى يشرع فى أعماله وأفعاله طاهرا كما ينبغى أن يكون ، ويشتغل بالأعمال الحسنة ويمضى أيامه فى الطاعة حتى يكون ذلك عونا له وذخرا فى الغد حين تقوم الساعة .
وينبغى أن يعلم العبد أن الله تعالى لم يخلقه عبثا ، ولن يتركه سدى فما دام كذلك ينبغى عليه أن يجتهد ويكافح فى تثبيت دينه وأحكامه وتصفية اعتقاده وأعماله وأفعاله وتصحيح عبادته حتى تتم له العبودية (1) .
ويذكر المحاسبى أن العاقل هو من عقل أى رب يعبد ، وأى ثواب يطلب ، ومن أى عقاب وعذاب يهرب وأى نعيم يشكر ، والشكر أيضا ممن هو ، ومن منَّ به فإذا عقل ذلك كله عن ربه استقل واستصغر جميع دؤوبه واجتهاده لعظيم ما عقل من جميع ذلك (2) .
فمعرفة الصانع ضرورة ، لا يستطيع المؤمن أن يعرف الصانع الخالق ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 431 ، 432 بتصرف .
2- ماهية العقل للحارث المحاسبى ص 221 ، 229 بتصرف .
دون أن ينتبه ويعمل العقل والفكر بالتدبير والتفكير (1) .(199/13)
ومتابعة النبى صلى الله عليه وسلم ضرورة لاحتياج المؤمن إلى طريق الهداية (2) .
فدلهم الله على الاهتداء باتباعه فقال : { واتبعوه لعلكم تهتدون } (3) .
ووعدهم الهداية بطاعته فقال : { وإن تطيعوه تهتدوا } (4) .
وحذرهم الفتنة والعذاب الأليم إن خالفوا أمره فقال تعالى :
{ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (5) .
وعلى الرغم من أن الهداية الشرعية مقوم من مقومات الاختيار وضرورة لتحقيق معنى الحرية ، إلا أنهم أجمعوا أن جميع ما فرض الله تعالى على العباد فى كتابه وأوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض واجب وحتم لازم على العقلاء البالغين من صديق وولى وعارف ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 222 بتصرف .
2-سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 355 بتصرف .
3- الأعراف / 158 .
4- النور / 54 .
5- النور /63 وانظر اللمع للسراج الطوسى ص 131 .
وإن بلغ أعلى المراتب وأعلى الدرجات وأشرف المقامات وأرفع المنازل (1) وأنه لا مقام للعبد تسقط معه آداب الشريعة ، من إباحة ما حذر الله أو تحليل ما حرم الله ، أو تحريم ما أحل الله ، أوسقوط فرض من غير عذر ولا علة ، والعذر والعلة ما أجمع عليه المسلون وجاءت به أحكام الشريعة (2) .
يقول عبد الله بن خفيف : ( والحرية من العبودية باطلة ، أى إذا تصور امرؤ أن العبد يجوز له فى حياته أن يتمرد من قيد العبودية وأن تسقط عنه التكاليف الشرعية فهو باطل ) (3) .
وقد أنشأ أوائل الصوفية مصطلحا خاصا للحرية قرنوه بعبودية الله والتزام منهجه ظاهرا وباطنا وضبطوا الحرية فى اصطلاحهم على ذلك المعنى ، لعلمهم أن الوحى جاء بما يصح أن تعيه العقول من الأخلاق الحميدة والسلوك القويم وأنه دعا إلى فضائل تيسر الحياة ونهى عن رزائل تحيل الإنسان إلى الدرك الحيوانى والتدنى الخلقى ، وكان هذا الاهتمام بالإنسان ليتحمل مسئوليته فى عمارة الكون وضبط ــــــــــــــــــــــــ(199/14)
1- التعرف لمذهب أهل التصوف ص 75 ، 76 .
2- السابق ص 76 .
3- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 361 .
حركته (1) .
وعلاقة الأفراد ببعضهم بدءا من الأسرة ومرورا بالمجتمع وانتهاء بآصرة الإنسانية تحتاج إلى ضوابط أخلاقية كى لا تتعارض الحريات وتتصادم الرغبات والمصالح (2) .
والله فطر الناس على ضرورة ذلك ، فما العقد الاجتماعى والاتفاق الصامت الكائن بين أفراد الجماعة الواحدة إلا مظهر من مظاهر هذا الضبط ، لأن حركة الفرد يجب ألا تمثل قيدا على الآخر ، ومصلحة الفرد يجب ألا تكون استغلالا للآخرين فلا تستقيم حياة الأفراد ، أو علاقات الجماعات والأمم بدون ضوابط تحكم الحريات ، فالإنسان تحكمه عوامل متعددة بعضها خير وبعضها نزوع إلى الشر من أجل هذا كانت حاجة الإنسان إلى نظام يحد من حركته ويحكم علاقاته ويقود خطاه ويضع قواعد سلوكه على المنهج السليم .
ولقد أحسن أوائل الصوفية عندما ربطوا معنى الحرية عند الإنسان بعبودية الله سبحانه وتعالى ، وهذا ما سيأتى فى المبحث التالى .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الفكر الأخلاقى دراسة ومقارنة ، تأليف د. محمد عبد الله الشرقاوى ص 17 بتصرف مكتية الزهراء سنة 1987 م .
2- الأخلاق بين العقل والنقل تأليف د. أبو اليزيد العجمى ص 27 بتصرف ، دار الثقافة العربية القاهرة سنة 1988 م .
*** المبحث الثانى ***
الحرية فى اصطلاح أوائل الصوفية(199/15)
انفرد أوائل الصوفية عن غيرهم باصطلاح خاص للحرية ومدلول معين للكلمة يختلف تماما عن اصطلاح المتكلمين ، فالمتكلمون تناولوا فى بحثهم مدى حرية الإرادة الإنسانية وموقعها من المشيئة والإرادة الإلهية ثم الاستطاعة الحادثة وعلاقتها بالقدر الإلهى ، وهذا المصطلح الصوفى وإن كان يحمل فى طياته تكامل المذهب الصوفى فى فهم القدر وعلاقته بالحرية إلا أنه أضاف معنى جديدا للفكر الإسلامى ، فقد ربطوا الحرية بالعبادة بحيث تصبح العبادة هى الوجه الآخر للحرية ، أو بمعنى آخر تصبح الحرية والعبادة وجهين لحقيقة واحدة .
وهذا الاصطلاح مع كونه من حيث الفكرة يعد سبقا فكريا وإضافة جديدة للتراث الإسلامى ، فإن النصوص الثابتة فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تؤيده ولا تعارضه ، بشرط أن يكون منهج العبودية معبرا عن المنهج الإسلامى الخالص ، كما يمكن القول إن هذا الاصطلاح الصوفى لأوائل الصوفية يصلح أن يقدم كمفهوم عصرى لدعاة الحرية والمتشدقين بها .
فالحرية عند الأوائل تضع الإنسان فى موضعه الصحيح الذى يحقق به الغاية من خلقه ويصل من خلاله إلى مرضاة ربه وذلك يكون بتحقيق العبودية لله كما قال سبحانه وتعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (1) .
يقول أحمد بن خضرويه (2) : ( فى الحرية تمام العبودية وفى تحقيق العبودية تمام الحرية ) (3) .
وهذا الاصطلاح الصوفى يؤثر فى موضوع البحث من وجهين :
[1] - الوجه الأول : تكامل المذهب الصوفى فى فهم الحرية ومقوماتها .
[2] - الوجه الثانى : إبراز الحرية كسلوك علمى ودستور صوفى يمكن أن ينفذ فى أرض الواقع .
* أما عن الوجه الأول فاصطلاح الحرية بمعنى العبودية يحمل فى طياته كل المقومات اللازمة لتحقيق الحرية الإنسانية ، إذ الحرية فى هذا الاصطلاح ليست مسألة نظرية محل دراستها فى الأذهان ، ولكنها ــــــــــــــــــــــــ
1- الذاريات / 56 .(199/16)
2- أحمد بن خضرويه البلخى كنيته أبو حامد وهو من كبار المشايخ بخرسان ومن قرناء أبى تراب النخشبى وأبى يزيد البسطامى توفى سنة 240 هـ انظر ترجمته التفصيلية فى تاريخ بغداد حـ 4 ص 137 حلية الأولياء حـ 10 ص 42 صفة الصفوة حـ 4 ص 137 الرسالة القشيرية حـ 1 ص 103 .
3- اللمع للسراج الطوسى ص 448 طبقات الصوفية ص 104 .
تطبيق عملى يؤثر على القلب واللسان والجوارح والأركان ، ومن ثم فإنهم بإخراجهم لهذا المصطلح آمنوا بوجود الإرادة الحرة والاختيار الذاتى للإنسان إذ لو كان مجبرا لانتفى معناه وانعدم تحقيقه ، وآمنوا بقدرة الإنسان على تنفيذه وآدائه كواجب يسعى المرء بكل سبيل إلى بروزه فى سلوكه وعمله ولو لم تكن لديهم الاستطاعة على تنفيذه لأصبح فكرة عالقة فى الذهن لا حقيقة لها ولما أصبحت الحرية سلوكا ملموسا يتحقق بالعبودية لله .
كما أنهم أثبتوا بهذا الاصطلاح المقوم الثالث من مقومات الحرية وهو العلم بنوعيه :
ــ علم التمييز والإدراك إذ يسقط التكليف عن الأطفال حتى يصلوا إلى سن الرشد والبلوغ ، كما يسقط أيضا عن النائم والمجنون يقول الكلاباذى : ( لا يعذب الله بالنار إلا بعد لزوم الحجة على من عاند وكفر ووجبت عليه الأحكام ، ولا تجب الأحكام إلا على العقلاء البالغين ) (1) .
ــ وعلم الهداية والإرشاد لطريق العبودية ، والممثل فى العلم بمنهج
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعرف على منهج أهل التصوف ص 75 ، 76 وانظر اللمع ص 116 وسيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 351 .
التكليف الذى جاءت به الرسل ، ولو انعدم هذا العلم لاختلفت الضوابط وتصادمت الحريات ، ولما تحققت عبودية الله ، فهذا العلم هو الوسيلة للحرية وهو شرط فى الوصول إليها قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } (1) .
وقال أيضا : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (2) .(199/17)
* أما عن الوجه الآخر للحرية فى الاصطلاح الصوفى لأوائل الصوفية فهى تتطبيق علمى لقيام الإنسان بدوره فى الحياة والالتزام بعبودية الله كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
يقول صاحب اللمع : ( الحرية عند الصوفية ألا يملكك شئ من المكونات ، وغيرها فتكون حرا إذا كنت لله عبدا فلا يكون العبد عبدا حقا ويكون لما سوى الله مسترقا ) (3) .
فالحرية إبراز لتوحيد العبادة على وجه الكمال ، أو دعوة لعدم الخضوع والذل والطاعة لأحد سوى الله ، فهى قائمة على القاعدة الأساسية لدعوة الرسل جميعا فى إفراد الله بالعبودية قال تعالى :
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا ــــــــــــــــــــــــ
1- المائدة / 35 .
2- الإسراء / 15 .
3- السابق ص 450 .
فاعبدون } (1) .
ويقول أيضا : { ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (2) .
والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله (3) .
فالحر فى المفهوم الصوفى لأوائل الصوفية هو المتحرر من عبودية الدنيا وعبودية النفس والشيطان وكل ما استرقه وصرفه عن عبودية الله أو هو المتحرر من عبادة الطاغوت كما قال الله تعالى :
{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } (4) .
وعلى ذلك فإن الصوفية الأوائل أبعد ما يكون عن الشرك بالله وصرف شئ من أقوالهم أو أفعالهم الباطنة والظاهرة لغير الله بعكس ما نرى من أحوال الصوفية فى الواقع المعاصر الذين قيدوا أنفسهم بالخوف والرجاء من ساكنى الأضرحة والقبور فعلقوا دعاءهم بهم وأخضعوا أنفسهم لهم ولم يتحرروا لله كما فعل اللأوائل ، وقد تقدم موقف ــــــــــــــــــــــــ
1- الأنبياء / 25 .
2- النحل / 36
3- المفردات فى غريب القرآن للراغب الأصفهانى ص 305 .
4- البقرة / 256 .(199/18)
الأوائل من النظر إلى الأسباب فى الفصل السابق وأن الاعتماد عليها شرك خفى يقع فيه الغافلون لضعف اليقين فى التوكل على الله ، فإذا كان هذا موقفهم من الشرك الأصغر فما بالنا بموقفهم من دعاء الأموات والتوسل بهم وصرف العبادة إليهم كالاستغاثة والنذر والذبح والطواف والركوع والسجود وغير ذلك من ألوان الشرك الأكبر مما يحدث فى مختلف الطرق الصوفية المتتشرة فى البلاد ، وإنما ذكرت ذلك حتى لا يكون البحث بمعزل عن الواقع وليتجلى الفرق بين معتقد الأوائل ومعتقد الصوفية فى العصر الحاضر .
فالصوفية الأوائل أنشأوا مصطلح الحرية رغبة فى تأصيل العبادة وإظهارا لدقائق التوحيد ، وفى المقابل التنبيه على دقائق الشرك وخفايا الرياء ، ووجوب التحرر من الضروريات النفسية والطبيعية التى تسترق الإنسان ، قال أبو على الدقاق (1) : ( أنت عبد من أنت فى رقه وأسره ، فإن كنت فى أسر نفسك فأنت عبد نفسك ، وإن كنت فى ــــــــــــــــــــــــ
1- هو أبو على الحسن الدقاق النيسابورى أستاذ القشيرى صاحب الرسالة برع فى العلوم الصوفية وفى الفقه واللغة وتوفى ودفن بنيسابور سنة 410 هـ انظر وفيات الأعيان لابن خلكان حـ 2 ص 375 ، طبقات الشافعية حـ 3 ص 112 والكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية لعبد الرؤف المناوى حـ 1 ص 225 طبعة القاهرة .
أسر دنياك فأنت عبد دنياك ) (1) .
لقد أوجب الرسول صلى الله عليه وسلم التخلص من رق معبودات الدنيا ، وبين أن التعلق بها على حساب عبودية الله استرقاق منها للإنسان ، لأنه يوالى فيها ويعادى فيها ، ويجعل رضاه مرتبطا بها وهذه أوصاف تؤثر فى عبوديته لله ، فوجب عليه التحرر منها .(199/19)
قال صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه ، إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة ، وإن كان فى الساقة كان فى الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع له ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 2 ص 430 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد ، باب الحراسة فى الغرز وفى سبيل الله برقم (2886) وأخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب فضل الضعفاء والخاملين برقم (2622) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب فى المكثرين برقم (4135) وابن حبان فى كتاب الزكاة ، باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك برقم (3218) وأخرجه البيهقى فى سننه حـ 9 ص 159 وتعس دعاء عليه بالهلاك أى انكب وعثر والخميصة ثوب خز أو صوف معلم ، والخميلة ثياب لها خمل من أى شئ كان ، وإذا شيك فلا انتقش أى إذا أصابته شوكة فلا أخرجت منه .
فسماه النبى صلى الله عليه وسلم عبد الدينار وعبد الدرهم ، لأن رضاه لغير الله وسخطه لغير الله فهو عبد لما يهو اه وهو رقيق له .
فالرق والعبودية فى الحقيقة تبدأ برق القلب وعبوديته ثم يظهر أثرها فى البدن والجوارح .
أما ما يحتاجه العبد من طعام وشراب وملبس ومنكح ومسكن فهذا يطلب من الله ويستعين به عليه من خلال أخذه بالأسباب ، فيكون المال عنده يستعمله فى حاجته بمنزلة الدابة التى يركبها وبساطه الذى يجلس عليه من غير أن يستعبده أو يكون هلوعا بقصده فرحا بحصوله لأن هذه الضروريات لا بد منها ، إذ أن الله أوجد حاجتهم إليها بأمره الكونى فى تركيبهم وقدرته سبحانه فى إظهار ابتلائهم ، وجعلها مجالا لإظهار فضله على أوليائه وسخطه على أعدائه .(199/20)
فما لا يحتاج إليه العبد من أمور الدنيا فلا يعلق قلبه به ، وإذا فعل صار مستعبدا ومقيدا بهذه الأمور لا يبقى خالصا على حقيقة العبودية لله أو على حقيقة التوكل على الله بل فيه شعبة من العبادة لغير الله .
وهذا هو المستحق لدعاء النبى صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة والانتكاسة .
ويرى الجنيد بن محمد أن الحرية آخر مقام للعارف ، وقلما يصل إليه إلا المخلصون الصادقون فقال متمنيا أن يرى عابدا بحق :
أتمنى على الزمان محالا : أن ترى مقلتاى طلعة حر (1) .
فالحرية يقطع العابد فيها أشواطا من المجاهدة فى التزام الشرع والتعبد بالنوافل وفى كل مرحلة يؤدى فيها شيئا من العبادة ، ينحل عنه قيد من قيود الرق لغير الله حتى يصل بأدائها إلى انفكاك جميع القيود ، كالعبد المكاتب يظل عبدا وإن دفع إلى سيده كل ما كاتب عليه واستثنى درهما واحدا ، فلا بد من دفع الكل حتى يخرج إلى الحرية .
سئل الجنيد عن لم يبق عليه من الدنيا إلا مقدار مص نواة ، أيكون حرا ؟ فقال : ( المكاتب عبد ما بقى عليه درهم ) (2) .
ولا شك أن هذا المفهوم ارتقاء بالذات الإنسانية إلى مرتبة الكمال فدخول الإنسان فى عبودية الله اختيارا هو السبيل الوحيد للمحافظة على حريته وتحقيق ذاته ، وهذا يتطلب سلوكا يناظر سلوك النبى صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للمسلمين ، ومتابعته فى كل صغيرة أو كبيرة ، وكلام الجنيد يأتى فى المرحلة النهائية من التدرج فى المقامات الصوفية ، وهذا المقام يدل على أنه على قدر كبير من الحرية لأنه قطع فى الإيمان والعمل أشواطا ومجاهدات ، ينهيها بالتخلص من ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 2 ص 461 .
2- السابق حـ 2 ص 462 .(199/21)
قيود الصغائر والشرك الخفى وما شابه ذلك مما يخفى على العامة ولا يخفى عليهم ، قال بشر بن الحارث للسرى السقطى : ( إن الله تعالى خلقك حرا فكن كما خلقك ، لا ترائى أهلك فى الحضر ولا رفقتك فى السفر ، اعمل لله ودع عنك الناس ) (1) .
ويبين فى موضع آخر أن الإخلاص وتطهير السريرة بين العبد وربه يجعل الإنسان حرا من الأغيار وعبوديتها ، حرا بآداء العبودية لله من جانب آخر ، يقول بشر : ( من أراد أن يذوق طعم الحرية ويستريح من العبودية [ لغير الله ] فليطهر السريرة بينه وبين الله تعالى ) (2) .
* حرية الباطن وحرية الظاهر :
ولما كانت الحرية مرتبطة بالعبودية عند أوائل الصوفية ، فإن عبودية الباطن هى حرية الباطن وهى التخلص من كل القيود النفسية والنوازع الداخلية وهذا الجانب قد نال حظا وفيرا من الدراسة عندهم ، أما عبودية الظاهر فهى مرتبطة بمدى الحرية التى تتحقق فى الباطن ، فهى مبنية عليها لقوله صلى الله عليه وسلم :
( ألا إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 450 .
2- الرسالة القشيرية حـ 2 ص 262 .
فسدت فسد الجسد كله إلا وهى القلب ) (1) .
وينبغى الإشارة إلى أن حرية الباطن والظاهر عند أوائل الصوفية ما هى إلا محاولة منهم لتحقيق العبودية فى أعمال القلوب والجوارح على المنهج الإسلامى والمفهوم الشرعى ، ولا يقصدون التحلل من الشرع تحت شعار الشريعة لأهل الظاهر والحقيقة لأهل الباطن أو بأى وجه من الوجوه ، ولذا نبه أغلب الصوفية على ضرورة الفهم السليم لمعنى الظاهر والباطن .
يقول السراج الطوسى : ( أنكرت طائفة من أهل الظاهر وقالوا : لا نعرف إلا علم الشريعة الظاهرة التى جاء بها الكتاب والسنة وقالوا : لا معنى لقولكم علم الباطن وعلم التصوف ) (2) .(199/22)
فأجاب بأن علم الشريعة واحد ، والشريعة دعت إلى الأعمال الظاهرة والباطنة ، والعلم مادام فى القلب فهو باطن فيه إلى أن يجرى ويظهر على اللسان والجواراح فيكون ظاهرا ، فعلم الشريعة فيه عبودية ظاهرة متعلقة باللسان والجوارح وعبودية باطنة متعلقة بالقلب (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر اللمع ص 43 والحديث سبق تخريجه ص 164 .
2- اللمع ص 43 .
3- السابق ص 43 ، 44 .
ومن ثم فلا يجوز بحال من الأحوال التحرر من عبودية الله عندهم .
قال عبد الله بن خفيف : ( والحرية من العبودية باطلة : أى إذا تصور امرؤ أن العبد يجوز له فى حياته أن يتحرر من قيد العبودية وأن تسقط عنه التكاليف الشرعية فهو على باطل ) (1) .
ثم يبين أنه يجوز له أن يتحرر من رق النفوسية الباطنة فقال : ( ولكن التحرر جائز من رق النفوسية ، أى يجوز للعبد أن يتحرر من قيد نفسه وغلها والرق والعبودية لا يسقطان من العبد بحال ولا يسقط عنه اسم العبودية ) (2) .
وقد أخطأ بعض السالكين فى فهم الحرية والعبودية :
[1] - فمنهم من استهجن معنى الحرية معللا أن الحر إذا عمل عمل لطلب العوض والجزاء فلا تخلو معاملة الأحرار عن طلب الأعواض والعبد ليس له طلب جزاء ولا عوض ولكن سيده إذا أعطاه أعطاه متفضلا وإن لم يعط لم يستحق عليه شيئا (3) وقد بين السراج الطوسى خطأهم ، لأن اسم الحرية أطلقه من أطلقه
ــــــــــــــــــــــــ
1- سيرة الشيخ الكبير عبد الله بن خفيف ص 361 .
2- السابق ص 361 .
3- أصول الملامتيه وغلطات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى تحقيق د. عبد الفتاح أحمد الفاوى ص 184 .
لتحقيق العبودية لله على النهج النبوى (1) أما الزهد فى الجنة فليس من زهد الأوائل ، ولذا لم يوفق القشيرى فى قوله :
( وأن الذى أشار إليه القوم من الحرية هو ألا يكون العبد تحت رق شئ من المخلوقات لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة فيعبده فردا لفرد ) (2) .(199/23)
إذ أنه سحب هذا القول على عامة الأوائل من الصوفية وهو مصروف لبعضهم فقط .
[2] - وممن أخطأوا فى فهم الحرية من توهم أن العبد ما دام بينه وبين الله تعبد فهو مسمى باسم العبودية ، فإذا وصل إلى الله صار حرا وإذا صار حرا سقطت عنه العبودية وأمكنه عند ذلك التحلل من الشرع وإسقاط التكاليف (3) .
يقول الحلاج :
( اعلم أن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى التوحيد ، فإذا وصل إليه سقطت من عينه ، وصارت
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 185 .
2- الرسالة حـ 2 ص 461 .
3- اللمع ص 531 .
عنده هوسا ) (1) .
وقد بين السراج الطوسى ضلالهم من قِبل أنهم خفيت عليهم أن العبد لا يكون فى الحقيقة عبدا حتى يكون قلبه حرا من عبودية الأغبار (2) ولذا قال الشبلى : ( الحرية هى حرية القلب لا غير ) (3) .
* حرية الباطن والتحرر من الضرورات النفسية :
يرى أوائل الصوفية فى الضرورات النفسية التى ركبها الله فيهم بابا واسعا للمنازلة والمجاهدة وتطهير النفس ، فهو يقاومها ويحاول محاولة ملحة التحرر منها بكسر شهوتى البطن والفرج ، وهذا دليل حازم على رفضه الخضوع لتلك الضروريات .
قال سهل بن عبد الله : ( لما خلق الله تعالى الدنيا جعل فى الشبع المعصية والجهل وجعل فى الجوع العلم والحكمة ) (4) .
فالشبع والجوع من الأمور الضرورية التى تواجه الإنسان بأمر الله وليس لهما وجودا ذاتيا وإن كان لهما قياما وأثرا فى الوجود ، ولكنهما عن إرادة الله وفعله فى ميدان الربوبية ابتلاء للإنسان ، ومن ثم فإن ــــــــــــــــــــــــ
1- أخبار الحلاج نشرة ماسينون ، بول كرواس مكتبة باريس سنة 1936 ص 55 .
2- ا للمع ص 532 .
3- طبقات الصوفية ص 343 .
4- الرسالة حـ 1 ص 373 .
الاحتماء أو الحمية كما يسميها أوائل الصوفية وسيلة الإنسان فى مكافحة شهوتى البطن ومخالفة الهوى وسائر الشهوات .
قال الدقاق : ( إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فلذلك افتضحوا ) (1)(199/24)
ويذكر السلمى من عيوب النفس أنك لا تحييها حتى تميتها (2) ويقصد بذلك لا تحييها للآخرة حتى تميتها عن الدنيا ، ولا تحى بالله حتى تموت عن الأغيار ، فإذا أمات مذموم الأوصاف فى النفس تحررت النفس من عبودية الأغيار .
قال يحى بن معاذ (3) : ( من تقرب إلى الجنة بتلف نفسه حفظ الله عليه نفسه ) (4) وذلك أن يمنعها شهوتها ويحملها على مكارهها ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 78 .
2- عيوب النفس لأبى عبد الرحمن السلمى ، تحقيق مجدى فتحى السيد ص 9 طبعة مكتبة الصحابة .
3- هو يحى بن معاذ بن جعفر الرازى يكنى أبا زكريا من الزهاد والعباد سمع من اسحاق بن إبراهيم الرازى ، ومكى بن إبراهيم مات فى نيسابور سنة 258 هـ انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 51 ، صفة الصفوة 4 ص 17 الرسالة القشيرية حـ 1 ص91 تذكرة الأولياء حـ 1 ص 298 نفحات الأنس ص 56 وفيات الأعيان حـ 2 ص 396 تاريخ بغداد حـ 14 ص 218 شذرات الذهب حـ 2 ، ص 138 .
4- عيوب النفس ص 9 .
فالنفس لا تألف الحق أبدا .
ويبين السلمى أن خلاصها من هذه الآفة يكمن فى السهر والجوع والظمأ وركوب مخالفة الطبع والنفس ومنعها عن الشهوات ، فالجوع طعام به يقوى الله أبدان الصديقين (1) .
ومن ثم فإن الصوفى عندهم يقف من الاشتهاء موقف الرافض محاولا التغلب على الضرورات النفسية بعد أن استجاب لها .
قيل لبعضهم : ألا تشتهى ؟
فقال : أشتهى ولكن أحتمى (2) .
فهو لا ينكر وجود الشهوة والرغبات فى نفسه ولا يزعم القضاء عليها تماما ولكنه يقف منها موقفا إيجابيا لا سلبيا فيمنع ذاته من أن تستجيب لكل الشهوات إلا بالقدر الذى يرغم النفس ، حتى وصل البعض منهم فى ذلك إلى محاولة منع النفس من مجرد الاشتهاء .
قال أبو على الدقاق :
قيل لبعضهم : ألا تشتهى ؟
فقال : أشتهى ألا أشتهى ؟ (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 9 .
2- الرسالة حـ 1 ص 378 .
3- السابق حـ 1 ص 378 .(199/25)
فهم يعلمون أن الله ابتلاهم بالاشتهاء للابتلاء وأراد منهم التحرر منه .
يقول القشيرى معلقا على المقولة السابقة : ( وذلك أكمل فى المجاهدة ، وأتم فى كسب الضروريات ) (1) .
وهذا موقف شديد الإيجابية ، لأنه لا يحرر الشهوة ذاتها ولكنه يحارب مبدأها ، ولإن كان أوائل الصوفية يرون فى الجوع وترك الشهوة نوعا من الحرية ومقاومة للضرورة النفسية فإنهم أيضا دعوا إلى حث النفس على التواضع والخشوع والقناعة فى مقابل ترك الرياء والكبر والعجب والطمع والعظمة وغير ذلك من الأوصاف المذمومة ، وأفردوا لذلك مساحات كبيرة من كلامهم تذخر بها مصنفاتهم .
يقول إبرهيم ابن شيبان (2) : ( الشرف فى التواضع والعز فى التقوى والحرية فى القناعة ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 379 .
2- هو أبواسحاق إبراهيم بن شعبان القرميسنى عابد زاهد ، له مقامات فى الورع والتقوى وكان شديدا على المدعين متمسكا بالكتاب والسنة لازما للطريقة الصوفية توفى سنة 330 هـ انظر حلية الأولياء ، حـ10 ، ص 361 شذرات الذهب حـ 2 ص 344 الرسالة القشيرية حـ 1 ص 174طبقات الشعرانى حـ 1 ص 132 .
3- الرسالة حـ 1 ص 386 .
وفى مجموع هذه المعانى يقول : ( من أراد أن يكون حرا من الكون فليخلص فى عبادة ربه فمن تحقق فى عبادة ربه صار حرا مما سواه ) (1) .
* مخالفة النفس رأس العبادة ومظهر الحرية :
ويكاد يجمع أوائل الصوفية على أن مخالفة النفس رأس العبادة ومظهر الحرية فالنفس تجرى بطبعها فى ميدان المخالفة والعبد يردها بجهدها عن سوء المطالبة ، فمن أطلق عنانها فهو شريك معها فى فسادها .
قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى } (2) .(199/26)
ويصف المحاسبى رغبتها وسوء تصرفها فيقول : ( فإذا غضبت فطلبت منه الحلم امتنعت منه فظهر منها السفه والحقد وسوء الخلق ولو طلبت الإخلاص هاجت شهوتها بالرياء ، وعند طلب الرضا تمتنع منه وتهيج للجزع والتسخط ، وعند الزهد والتوكل والصدق جاشت الشهوات فى ضد ذلك كله ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- طبقات الصوفية ص 404 .
2- النازعات /40 :41 وانظر الرسالة حـ 1 ص 394 وأعمال القلوب والجوارح ص 64 .
3- الرعاية ص 260 .
ويرى المحاسبى أن الحذر من نوازعها يكون بمخاصمتها إلى الكتاب والسنة وإقامة الحجة عليها والتفتيش عن عيوبها وقيودها ، وذكر خبثها وكذبها ، فإذا أذعنت بالإقرار والاعتراف بالحق وانقطعت معاذيرها وحججها الكاذبة ، فإن انقادت إلى الحق ، وإلا رفع أمرها وهمها إلى النار وتوهم شدة عذابها ، وأنه واجب عليها فى نزع الموت وكربه وسكراته وغمه وقلقه (1) .
ويجمع السلمى عيوب النفس وقيودها والسبيل إلى مداواتها والتحرر منها من خلال ما ورد فى الشرع مقرونا بالأدلة فيذكر من عيوبها :
[1] - الفتور فى الطاعة ، وعلاج ذلك بدوام الالتجاء إلى الله وملازمة ذكره وقراءة كتابه .
[2] - عدم الشعور بلذة الطاعة ، ومداواتها فى الإخلاص وملازمة السنة فى الأفعال وتصحيح مبادئ أموره ليصح منتهاها .
[3] - النفس لا تألف الحق ، ومداواتها الخروج منها بالكلية إلى ربها .
[4] - النفس تألف الخواطر الرديئة ، ومداواتها فى الاستعاذة بالله والاستغفار
[5] - طلب الرياسة بالعلم والتكبر ، ومداواتها فى رؤية منة الله عليه فى أن جعله وعاءا لأحكامه .
ــــــــــــــــــــــــ
1- انظر السابق ص 263 كتاب التوهم للمحاسبى ص 7 .
[6] - الرضا عند المدح والغضب عند الذم ، ومداواتها فى قوله صلى الله عليه وسلم : ( احثوا فى وجوه المادحين التراب ) (1) .
[7] - الخوض فى أسباب الدنيا بلا ضرورة وعلاجها فى قول النبى صلى الله عليه وسلم :(199/27)
( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) (2) .
ويستمر السلمى فى عرض آفات النفس والسبل الشرعية فى مداوتها إلى أن يقرر أن إصلاح الظاهر والباطن يمكن فى اتباع سنة النبى صلى الله عليه وسلم فى كل الأفعال والأقوال والأسباب والمقامات والأحوال ثم قال :
( وإياك ومخالفة السنة ، فيما دق وجل ، واقتدى بسيرة السلف الصالح من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وابدأ فى ذلك بنفسك ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه أبو داود فى الأدب ، باب كراهية التمادح برقم (4804) والترمذى فى الزهد ، باب كراهية المدحة والمداحين برقم (2505) وابن ماجه فى كتاب الأدب ، باب المدح برقم (2420) وأحمد فى المسند حـ 6 ص 56 وأبو نعيم فى الحلية حـ 6 ص 99 .
2- انظر عيوب النفس للسلمى من ص 9 : 19 واحديث أخرجه الترمذى فى الزهد برقم (3419) وابن ماجه فى الفتن ، باب كف اللسان فى الفتنة برقم (2420) والبغوى فى شرح السنه حـ 14 ص 320 .
وأوصيك بايثار طاعة الله والإقبال عليه بالكلية والرجوع فى كل هم ونائبة إليه ) (1) .
* حرية الظاهر والتحرر من الضروريات الطبيعية :
وإذا كان جهد أوائل الصوفية ينصب فى المقام الأول على إصلاح الباطن والعمل لتحرير القلب من آفات النفس وعيوبها ، فذلك لكون القلب هو المحرك الفعلى للسان والجوارح ، فإذا انصلح القلب وتحرر الباطن بالعبودية فإن الجسد تابع له فى الحرية ، وقد سبق قول أبى بكر الشبلى : ( الحرية حرية القلب لا غير ) (2) .
ويذكر المكى فى ترابط القلب مع أعمال اللسان والجوارح أن الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو أعمال الجوارح ، فالإيمان فى القلب والإسلام أعلام الإيمان ، والإيمان عقود الإسلام ، فلا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقد ، ومثل ذلك مثل العلم الظاهر والباطن أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح ، ويستدل بقوله صلى الله عليه سلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) (3) .(199/28)
ويؤكد السلمى على هذه الحقيقة ، وأن الأعمال الظاهرة لا تحصل
ــــــــــــــــــــــــ
1- عيوب النفس ص 14 ص42 .
2- طبقات الصوفية ص 343 .
3- قوت القلوب حـ2 ص 129 والحديث تقدم تخريجه ص 163 .
بها التقوى وإنما تحصل بما يقع فى القلب من عبودية الله وخشيته ومراقبته ، فإذا تم ذلك فإن الأعمال الظاهرة ستكون هى المعبرة عن تقوى القلوب فالاعتبار فى هذا كله بالقلب (1) .
أما دليله فى ذلك فهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) (2) .
وكما جعل الله الضرورات النفسية قى القلب ابتلاء كذلك جعل أعمال الظاهر ، فأعمال الجوارح ضرورة يجب إخضاعها لطاعة الله وعبوديته فاللسان من ضرورته الكلام وقد يكب الناس فى النار على مناخرهم بسبب ما حصده من الكلام (3) والعاقل هو الذى يتحرر من سوء أفعاله .
فالإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع ، فمن زرع خيرا من قول أو عمل حصد الكرامة ، ومن زرع ــــــــــــــــــــــــ
1- عيوب النفس ص10 واللمع ص 44 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب تحريم ظلم المسلم وخذله برقم (121) وأخرجه أحمد فى المسند حـ2 ص285 وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب القناعة برقم (4143) والبغوى فى شرح السنة حـ 14ص141 .
3- رسالة المسترشدين ص 116 .
شرا من قول أو عمل حصد الندامة (1) .
ويضرب المحاسبى مثلا لعبودية القلب والجوارح وكيفية الترابط بينها بأن القلب مثل بيت له ستة أبواب والعبد يجب عليه الحذر ألا يدخل عليه من أحد هذه الأبواب شئ فيفسد عليه البيت ، فالقلب هو البيت والأبواب : العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتى انفتح باب من هذه الأبواب بغير علم ضاع البيت (2) .(199/29)
وهذه الأمثلة والمحاولات التى يسعى من خلالها أوائل الصوفية لتجسيد العبادة وكيفية إظهارها فى أعمال القلوب والجوارح ، ما هى إلا محاولة للتحرر من الضروريات الداخلية والخارجية فى ذاته ، ويكمن القول إن الحرية التى يبغى أوائل الصوفية تحقيقها تكمن فى استسلام القلب واللسان والجوارح لمنهج العبودية بكل جزئياته ومحتوياته وأحكامه ومعاملاته التى تنمحى كل ضرورة أو إرادة تخالف منهج العبودية .
ولقد بلغ ذلك إلى حد أن يبحثوا فى الأحكام التى تتعلق بكل جزئية من الباطن والظاهر فى القلب واللسان والجوارح .
ــــــــــــــــــــــــ
1- جامع العلوم والحكم للحافظ بن رجب الحنبلى ص242طبعة مصطفى البابى الحلبى ص1369 بتصرف .
2- رسالة المسترشدين ص115 .
ويحاول ابن القيم فى شرحه لمنازل السائرين أن يحصى قواعد العبادة فى أعمال الظاهر والباطن أو المنهج الذى يحدد معنى العبودية لله وكيف يحققه الإنسان على نفسه فيقول :
( العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح ، والأحكام التى للعبودية خمسة واجب ومستحب ومباح ومكروه ومحرم ، وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح ) (1) .
* عبوديات القلب واللسان والجوارح :
… القلب…… اللسان ……الجوارح
واجب……مستحب… مباح مكروه محرم
[ شكل توضيحى لقواعد العبادة فى تصوير ابن القيم لها ]
ــــــــــــــــــــــــ
1- مدارج السالكين حـ 1 ص 109 .
ولكل قاعدة من هذه الأعمال الظاهرة والباطنة علم وفقه وبيان وفهم وحقيقة ووجد ، ويدل على صحة كل عمل منها من الظاهر والباطن آيات من القرآن وأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم علمه من علمه وجهله من جهله (1) .
*الغلو فى العبادة وموقف أوائل الصوفية منه :(199/30)
وقد نزل كثير من أوائل الصوفية كثيرا من أنواع الأحكام على سبيل الحتم والإلزام ، فجعل المستحب فى منزلة الواجب والمكروه فى منزلة المحرم لا من حيث الرغبة فى تبديل الأحكام والابتداع فى دين الله ولكن من حيث التشدد فى الوصول إلى الحرية والتحرر من كل ما سوى الله والعمل فى مرضاته على وجه الاضطرار ، وهذا وإن دل على علو الهمة إلا أن المنهج النبوى فى العبادة فيه مجال للتنفيس وانسجام مع الضروريات يؤدى إلى القيام بما عهد به المرء على نفسه .
يقول الشبلى : ( كنت فى أول بدايتى إذا غلبنى النوم أكتحل بالملح ، فإذا زاد على الأمر أحميت الميل فأكتحل به ) (2) .
فهو يؤدى قيام الليل على أنه ملزم ، وإن أدرك أن حكمه الاستحباب ، ولكنه كصوفى ينزل المندوب منزلة الواجب .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص44 وانظر فى تفصيل هذه الأركان عند المحاسبى أعمال القلوب والجوارح ، ورسالة المسترشدين . 2- اللمع ص 204 .
* الموقف النبوى : ووجه المخالفة يظهر عنده بحديث أنس رضى الله عنه إذ قال : ( دخل النبى صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال : ما هذا الحبل ؟
قالوا : هذا حبل لزينب إذا فترت تعلقت به .
فقال النبى صلى الله عيه وسلم : حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد ) (1) .
ولو أمرها النبى بالاكتحال لكانت المشقة التى يعز على العبد أن يداوم عليها إلا على حساب التقصير فى أمور أخرى سوف تؤدى إليها الضرورة الفطرية فى خلق الإنسان .
قال إبراهيم بن شيبان للشبلى : كم فى خمس من الإبل ؟ أى مقدار الزكاة فيها .
فقال الشبلى : فى واجب الأمر شاة ، وفيما يلزمنا كلها .
ــــــــــــــــــــــــ(199/31)
1- أخرجه البخارى فى كتاب التهجد ، باب ما يكره من التشديد فى العبادة برقم (1150 ) ومسلم فى كتاب صلاة المسافرين ، باب أمر من نعس فى صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك برقم (784) وأبو داود فى كتاب الصلاة ، باب النعاس فى الصلاة برقم (1312) وابن ماجه فى كتاب الصلاة ، باب ما جاء فى المصلى إذا نعس برقم (1371) وأحمد فى المسند حـ3 ص101 .
فقال له إبراهيم : ألك فى هذا إمام ؟
قال : نعم أبو بكر الصديق رضى الله عنه حيث خرج من ماله كله فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ما خلفت لعيالك ؟
فقال : الله ورسوله (1) .
ولا شك أن الضرورة قد تدعو المسلم إلى التضحية بما يملك فى بعض الأوقات والأزمات كما فعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه ولكن التضحية على الدوام وفى أوقات الرحاء بكل ما يملك مخالفة لسنة النبى صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه من حديث سعد بن أبى وقاص حيث قال : ( جاءنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودنى عام حجة الوداع من وجع اشتد بى .
فقلت : يارسول الله إنى قد بلغ بى الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ولا يرثنى إلا إبنة لى ، أفأتصدق بثلثى مالى ؟
قال : لا .
قلت : فالشطر يارسول الله ؟
فقال : لا .
قلت : فالثلث يارسول الله ؟
ـــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص210 .
قال : الثلث والثلث كثير ـ أو كبير ـ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس وإنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل فى فى امرأتك ) (1) .
فلو كان خروجه من جميع المال فيه صلاح له لأمره النبى بذلك .
فالسنة فيها مرعاة للضروريات بالقدر الذى يتناسب مع ماهية الإنسان وتركيبه الذاتى ، فالإنسان لايعتاد شيئا إلا ويشعر بالسآمة من تكراره ومزاولته فهى ضرورة فطرية ترويضها يكون على الطريقة النبوية .(199/32)
وقد جعل الله فطرة الإنسان ميدانا للربوبية ، وجعل المنهج النبوى ميدانا لتحقيق العبودية على ما يستطيعه الإنسان ويطيقه ، ومن ثم كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه وهم خير الناس فى خير ــــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الوصايا ، باب أن يترك ورثته أغنياء برقم (2742) ومسلم فى كتاب الوصية ، باب الوصية بالثلث برقم (1628) والترمذى فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (2117) والنسائى فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (3656) وابن ماجه فى كتاب الوصايا ، باب الوصية بالثلث برقم (2708) .
القرون بالموعظة مخافة السآمة (1) .
وكان يقول لحنظلة بن الربيع رضى الله عنه : ( والذى نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم ، ولكن ياحنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات ) (2) .
وقال لعمرو بن العاص : صم وافطر وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقا ، وإن لعينك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا .
فلما قال عمرو : إنى أطيق أفضل من ذلك .
قال : لا أفضل من ذلك .
وقد صدق عمرو قول النبى فى آخر حياته لأنه لم يقو على ما ــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب العلم ، باب ما كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كى لا ينفروا برقم (68) ومسلم فى كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب الاقتصاد فى الموعظة برقم (1696) والترمذى فى كتاب الأدب برقم (73) وأحمد فى المسند حـ1ص377 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب التوبة ، باب فضل دوام الذكر والفكر فى أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك فى بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا برقم (2750) والترمذى فى كتاب صفة القيامة برقم (2513) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب المداومة على العمل برقم (4239) وأحمد فى المسند حـ2 ص305.
كان يطيقه فى شبابه فقال :(199/33)
قال النبى صلى الله عليه وسلم : إنك لا تدرى لعلك يطول بك العمر ، ثم قال : فلما كبرت وددت أنى كنت قبلت رخصة نبى الله صلى الله عليه وسلم (1) .
وقال صلى اله عليه وسلم فى شأن المغالين فى العبادة : ( أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له ، ولكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتى فليس منى ) (2) .
ومعلوم أن الشمولية فى فهم العبادة وصف لا يلحق إلا من سلك السبيل النبوى فى كل متعلقات الحياة ، وعمل فى نظام الحكام على ــــــــــــــــــــــ
1- أخرجه البخارى فى كتاب الصوم ، باب صوم الدهر برقم (1976) ومسلم فى كتاب الصيام ، باب النهى عن صوم الدهر برقم (1059) وأبو داود فى كتاب الصوم ، باب فى صوم الدهر تطوعا برقم (2427 ) وأحمد فى المسند حـ2 ص201 والنسائى حـ2 ص 22 وابن حبان فى كتاب البر والإحسان ، باب الأمر بإتيان الطاعات على الرفق من غير ترك حظ النفس فيها برقم (352) والبيهقى فى سننه حـ3 ص16 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب النكاح ، باب الترغيب فى النكاح برقم (5063) ومسلم فى كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد المؤنة برقم (1401 ) والنسائى فى كتاب النكاح ، باب النهى عن التبتل حـ6 ص60 وأحمد حـ3 ص 241 ، والبيهقى فى سننه حـ7 ص77 .
مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتوازن قائم ومنسجم فى كل النواحى المتعلقة بأحكام العبودية ، فإذا بالغ العبد فى آداء جانب سيظهر تقصيره فى جانب آخر دون أن يشعر ، فالطاقة والوسع مجالهما محدود وهما من أمور القدر الذى يحكمنا فى كل وقت .(199/34)
ومن ثم فإن بعض أوائل الصوفية لما بالغوا فى تحقيق العبودية وتكلفوا أمور السعة والتخيير على وجه الإلزام ، وأسقطوا النظر إلى الدرجات الحكمية السابقة ، لم تطرد المبالغة ولم تنسحب على مختلف الأحكام فبرز جانب على حساب آخر ، ففى الوقت الذى ظهرت المغالاة فى بعض العبادات كالصلاة والصوم والذكر وبعض النواحى الأخرى لم تظهر همتهم فى تعبيد الدنيا واستخلافها وإعداد القوة لإرهاب العدو والجهاد فى سبيل الله وتنظيم الروابط الأسرية والاجتماعية بل أثروا الرباط والخلوة والسياحة فى البوادى وقام بالأمور الأخرى غيرهم .
والقصد من ذكر هذا الكلام التنبيه على ضرورة اتباع السنة فى تحقيق معنى الحرية والالتزام بمنهج العبودية بمختلف أحكامه وأن هذا هو الوضع الأمثل لتحقيق السعادة فى الدارين كما قال سبحانه : { فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- طه /123 .
وأن بعض أوائل الصوفية جعل العبودية اضطرارا لاختيار فيه (1) .
أو كما قال الآخر : ( من ادعى العبودية وله مراد باق فيه فهو كاذب فى دعواه ) (2) .
* العبادة وتعلقها بالقلب واللسان والجوارح حال الغلو :
الأمر النهى
القلب اللسان الجوارح
ــــــــــــــــــــــــ
1- قائل هذه العبارة هو عبد الله بن محمد بن منازل وكنيته أبو محمد صحب حمدون القصار وأخذ عنه طريقته وأسند الحديث مات بنيسابورسنة 329 هـ انظر طبقات الصوفية ص336 والرسالة القشيرية حـ1 ص163 وشذرات الذهب حـ2 ص330 وانظر فى قوله السابق طبقات الصوفية ص 368 .(199/35)
2- القائل هو عبد الله محمد بن اسماعيل شيخ إبراهيم الخواص وإبراهيم بن شيبان عاش مائة وعشرين سنة ومات على جبل الطور بسيناء أسند الحديث وتوفى سنة 299 هـ انظر طبقات الصوفية ص242 حلية الأولياء حـ1 ص335 والبداية والنهاية حـ11 ص117 والمنتظم حـ6 ص113 وانظر فى قوله السابق طبقات الصوفية ص44 ، 245 .
يقصدون بذلك الالتزام بالأمر والنهى على سبيل الحتم والإلزام سواء كان الأمر على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب والإباحة وسواء كان النهى على سبيل التحريم أو الكراهة ، وكل ذلك مغالاة فى حب الله ليس إلا ، ورغبة منهم فى القرب منه والحصول على مرضاته وإن تنكبوا الطريق وأخطأوا فى ذلك .
وقد نبه السراج الطوسى على أن كل من ترسم برسوم هذه العصابة الصوفية ، أو أشار إلى نفسه بأن له قدما فى هذه القصة ، أو توهم أنه متمسك ببعض آداب هذه الطائفة ، ولم يحكم أساسه على ثلاثة أشياء فهو مخدوع ولو مشى فى الهواء ونطق بالحكمة أو وقع له قبول عند الخاصة أو العامة وهذه الثلاثة أشياء :
أولها : اجتناب جميع المحارم كبيرها وصغيرها .
والثانى :أداء جميع الفرائض عسيرها ويسيرها .
الثالث : ترك الدنيا على أهلها قليلها وكثيرها إلا ما لا بد للمؤمن منها .
وهو ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربعة فى الدنيا وليست هى من الدنيا :
1- كسرة تسد بها جوعتك .
2- وثوب توارى به عورتك .
3- وبيت تكن فيه .
4- وزوجة صالحة تسكن إليها (1) .
فأما سوى ذلك من الجمع والمنع والإمساك وحب التكاثر والمباهاة فجميع ذلك حجاب قاطع يقطع العبد عن الله (2) .
فلا يصح الدخول فى السعات إلا لمن قام فى الأسباب بحقوقها لا بحظوظها ، فإذا أذن الله لهم بالإنفاق أنفقوا ، وإذا أذن لهم بالإمساك أمسكوا ، فمن لم يعرف الإذن ولم يكن من أهل الكمال والنهايات غلط عند دخوله فى السعات بالغرور والتأويلات (3) .(199/36)
ويشير السراج إلى غلط طائفة تعلقوا بالتقشف والتقلل واعتادوا الدون من اللباس والقليل من القوت ، وظنوا أن كل من رفق بنفسه أو تناول شيئا من المباحات أو أكل شيئا من الطيبات ، أن ذلك علة وسقوط من المنزلة ، وكل حال غير الحال الذى هم عليه عندهم ذلة ــــــــــــــــــ
1- الحديث ورد بالمعنى فى مسند أحمد حـ1 ص168 وفى الحلية حـ1 ص388 وأخرجه الخطيب البغدادى فى تاريخ بغداد حـ12 ص 99 والبزار فى مسنده برقم (1412) والحاكم فى المستدرك حـ2 ص162 والطبرانى فى المعجم حـ1 ص329 والهيثمى فى مجمع الزوائد حـ10 ص 289 .
2- اللمع ص516،517 .
3- السابق ص523.
وقد غلطوا فى ذلك ، لأن العلة كائنة فى التقشف والتقلل كما أن العلة كائنة فى الترفع والترفه ) (1) .
ــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص523 .
*** المبحث الثالث ***
المقامات الصوفية وإرادة الحرية
ترتبط الحرية فى الاصطلاح الصوفى بالعبودية ودرجتها فى الإنسان فالعبودية هى الوجه الآخر للحرية ، وتتجلى العبودية عند الصوفية فيما يسمى بالمقامات والأحوال ، فالمقامات تفسر لنا منازل الحرية ودرجات العبودية التى يمر بها الصوفى فى تجربته ، فالمقام من الإقامة وهو عمل كسبى يقوم به العبد ويلتزم به لا يتجاوزه إلى مقام آخر إلا إذا استوفى شروط إقامته به (1) .
ويستمر العبد فى انتقاله بين منازل السائرين كلما انتقل إلى منزل جديد علت عبوديته وازدادت حريته وقلت قيوده إلى أن يصل إلى آخر مقام للعارفين عند أوائل الصوفية وهو مقام الحرية .
قال الجنيد بن محمد : ( الحرية آخر مقام للعارف ) (2) .
ويمكن القول أن المقامات الصوفية درجات إيمانية تزيد وتنقص كما هو معتقد أهل السنة والجماعة فى الإيمان ، وكل درجة إيمانية ثمثل بوجه آخر درجة الحرية التى عليها العبد أو درجته فى عبودية الله ، فانتقاله ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 204 .
2- السابق حـ 2 ص 461 .(199/37)
بين هذه الدرجات يكون بقدر المجاهدة وبذل الهمة فى الترقى إلى أعلى مقام ممكن .
أما الأحوال الصوفية فهى عندهم ثمرة للجهد الكسبى المبذول فى المقامات وهى لوائح تحل بالقلب وسرعان ما تزول ولكنها من العوامل المساعدة لتخطى الدرجات فى المقامات وانتقال العبد من مقام إلى مقام أعلى فهى كالمرجح الداعى إلى الانتقال والتدرج .
يقول الجرجانى : ( الحال عند أهل الحق معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب من طرب أوحزن أو قبض أو بسط أو هيبة ويزول بظهور صفات النفس ، فإذا دام وصار ملكة يسمى مقاما ، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب ، والأحوال تأتى من عين الجود والمقامات تحصل ببذل المجهود ) (1) .
ويذكر ابن القيم أن هذه المقامات الواردة والمنازل المتعددة لها عندهم أسماء باعتبار أحوالها ، فتكون لوامع وبوارق ، ولوائح عند ظهورها كما يلمع البرق ، ويلوح عن بعد ، فإذا نازلته وباشرها فهى أحوال ، فإذا تمكنت منه وثبتت له من غير انتقال فهى مقامات (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التعريفات لعلى بن محمد بن على الجرجانى طبعة مصطفى الحلبى القاهرة سنة 1938م ص 145 .
2- مدارج السالكين حـ 1 ص 35 .
ويرى السراج الطوسى أن المقام هو مقام الرجل بظاهره وباطنه فى حقائق الطاعات ، والحال ينزل بالقلوب فلا يدوم ، وليس الحال من طريق المجاهدات والعبادات كالمقامات ، ولكنه ثمرة إيمانية واستشعار بحلاوة الجهد الإيمانى المبذول فى سلم المقامات (1) .
ويمكن حصر آراء أوائل الصوفية فى مبحث المقامات واتجاهاتهم فيها ثم ترتيبها بصورة تقريبية إلى حد ما فى ظل تقسيمها إلى المقامات الآتية :(199/38)
[1] - التوبة : فهى أول منازل الطريق عندهم ، وأول مقام من مقامات الطالبين فى تعبير القشيرى (2) وأول مقام من مقامات المنقطعين إلى الله فى تعبير السراج الطوسى (3) ويجعل الهروى اليقظة فى مقدمة التوبة ، فهى قومه لله من الغفلة ، ونهوض عن ورطة الفترة وهى أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 66 .
2- الرسالة حـ1ص 275 .
3- اللمع ص 68 .
4- مدارك السالكين حـ 1 ص 178 .
وإذا كانت التوبة فى لغة العرب تعنى الرجوع (1) أى الرجوع عن المذموم فى الشرع ، فإن الرجوع لا يكون إلا بعد تيقظ لسوء ما وصل إليه الإنسان وإدراك لضرورة التغيير ، وإحساس بالحاجة إلى هذا التغير وبمقدار ما تشتد الحاجة تكون سرعة الرجوع واللهفة على النجاة .
والقشيرى أدخل اليقظة ضمن محتوى التوبة وفى بداية مراحلها يقول : ( أول التوبة انتباه القلب عن رقدة الغفلة ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحال ، أما التوبة فبدايتها الحقيقية ، الندم وترك الزلة فى الحال والعزم على ألا يعود إلى مثل ما عمل من المعاصى ) (2) .
ويمكن القول أن التوبة هى نقطة الانطلاق والبدء للسير فى طريق الحرية ، والركن الأساسى فيها حل عقدة الإصرار عن القلب ، ثم القيام بجميع حقوق الأمر على وجه الاستقصاء (3) .
ويقول الطوسى فى تعلقات التوبة التى يتحرر منها بتركها :
( شتان بين تائب وتائب فتائب يتوب عن الذنوب والسيئات ــــــــــــــــــــــــ
1- المفردات للراغب الأصفهانى ص 76 .
2- الرسالة حـ 1 ص 276 .
3- السابق حـ 1 ص 277 .
وتائب يتوب من الزلل والغفلات وتائب يتوب من رؤية الحسنات والطاعات ) (1) .(199/39)
والتوبة مع كونها أول مقام من المقامات عندهم إلا أنها لا تزول بالانتقال إلى مقام آخر ولكنها محمولة معه ضمنا مجموعة تحت لوائه وهكذا القول فى سائر المقامات ، فكل مقام يحمل فى طياته المقامات السابقة ، ومن ثم فقد اعتبر ابن القيم منزلة التوبة أوسط المنازل وآخرها كما أنها أولها ، وذلك لأن العبد السالك لا يفارقها ولا يزال فيها إلى الممات ، وإن ارتحل إلى منزل أو مقام آخر ارتحل به واستصحبه معه ونزل به يقول ابن القيم :
( فالتوبة هى بداية العبد ونهايته وحاجته إليها فى النهاية ضرورية كما أن حاجته إليها فى البداية كذلك ) (2) .
ودليل ذلك عنده ما قاله الحق سبحانه وتعالى مخاطبا المؤمنين التائبين :
{ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 69 .
2- مدارج السالكين حـ 1 ص 178 .
3- النور / 31 .
وقال أيضا : { يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } (1) وإنما أراد من التائبين الاستمرار فى التوبة عند الترقى فى سلم المقامات (2) .
ومن ثم فإن التوبة مفتاح باب المقامات ، فتوجب للتائب آثارا عجيبة لا تحصل بدونها ، فتوجب له من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده ورضا عنه عبوديات أخر ، فإنه إذا تاب إلى الله تقبل الله توبته ، فرتب له على ذلك القبول أنواعا من النعم ، لا يهتدى العبد إلى تفاصيلها ، بل يزال يتقلب فى بركتها وآثارها مالم ينقضها ويفسدها (3) .
وفى هذا يقول تعالى عن نوح عليه السلام وهو ينصح قومه بالتوبة لكثرة بركاتها : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا } (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التحريم / 8 .
2- السابق حـ 1 ص 178 .
3- مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيم الجوزية حـ 1 ص294 مكتبة المتنبى القاهرة بدون تاريخ .
4- نوح / 9 : 12 .(199/40)
والتائب عليه أن يعيش فى صراع دائم مع نفسه ، دون أن يكون الجسد موضع احتقار أو تعذيب أو إهانة ، فله أن يباشر ما احلت الشريعة من زواج ونسل وغير ذلك (1) .
وربما يصيب التائب فى بدايته أن ينتابه اليأس إذا حدث أن عاد إلى المعصية ذات مرة فينبغى ألا يقنط فى حمل إرادته على تجديد التوبة مرة بعد مرة ليرد الانتكاسة ويبدأ من جديد فالرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد العابدين التائبين ومع ذلك يقول : ( إنه ليغان على قلبى فأستغفر الله فى اليوم سبعين مرة ) (2) .
فكان من سنته صلى الله عليه وسلم دوام الاستغفار (3) .
فإذا استوفى العبد مقام التوبة ووصل إلى نهاية الطريق فيه انتقل إلى المقام الذى يليه وهو مقام الورع .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 277 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب الذكر والدعاء ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه برقم (3702) وأبو داود فى كتاب الصلاة ، باب فى الاستغفار برقم (1515) والنسائى فى عمل اليوم والليلة برقم (442) وأحمد فى المسند حـ 4 ص 260 والطبرانى فى المعجم برقم (888) .
3- الرسالة حـ 1 ص 287 .
قال السراج الطوسى : ( والتوبة تقتضى الورع ) (1) .
وفى انتقاله إلى الورع يستصحب معه مقام التوبة ويرتقى درجة فى طريقه إلى مقام الحرية .
[2] - الورع : وهومقام بين التوبة والزهد ، فبعد أن سلم المرء نفسه لله بالتوبة الصادقة والأسى على ماض ضاع منه فى معصية الله يعزم عزما أكيدا على تجنب ما حرم الله والتمسك بما أحل وأباح وبعدئذ يرتقى درجة إيمانية أخرى وهى أن يعتاد قياس الحلال والحرام بمقاييس فيها تشديد وقوة هذه المقاييس هى مقاييس الورع فليس كل الحلال فى نظر الورع سواء ، فهناك حلال لا يعصى الله فيه وحلال لا ينسى الله فيه ، وهناك حلال بين ، وحلال فيه اشتباه وينبغى على العبد أن يتورع عن كل ما فيه دخن (2) .(199/41)
فالورع هو الأساس والأصل وعليه يدور الأمر كله وهو أعز الصفات وأجلها وأولاها بالرعايات وهو أجدرها ، لأنه وصف ذاتى لا يمكن استعارته أو الوصول إلى تحصيله من جهة الغير (3) .
ــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 70 وانظر الرسالة حـ 1 ص 287 الصدق لأبى سعيد الخراز ص 29
2- الرسالة حـ 1 ص 287 بتصرف .
3- فضائح الباطنية لأبى حامد الغزالى ص 187 بتصرف تحقيق وتقديم د . عبد الرحمن بدوى ، نشر الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1383 هـ .
* الورع درجات فى موطنه :
ويقسم السراج الطوسى الورع إلى ثلاث مراحل ذاتية يقطعها الصوفى لينتقل من مقام التوبة إلى مقام الزهد (1) :
أولها : تورع عن الشبهات التى اشتبهت عليه وهى ما بين الحرام البين والحلال البين وفيها قوله صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع فى الشبهات فقد وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ) (2) .
ثانيها : تورع عما يقف عنده القلب ويؤلم الصدر ، فإذا حاك فى صدره شئ لم يقدم على إتيانه يقول السراج : ( وهذا لا يعرفه إلا ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 70 ، 71 بتصرف .
2- أخرجه البخارى فى كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه برقم (52) وأخرجه مسلم فى كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الشبهات برقم (1599) وأبو داود فى كتاب البيوع ، باب فى اجتناب الشبهات برقم (3329) والنسائى فى كتاب البيوع باب اجتناب الشبهات فى الكسب حـ 7 ص241 وابن ماجه فى كتاب القتن ، باب الوقوف عند الشبهات برقم (3984) وأحمد فى مسنده حـ 4 ص 269.
أرباب القلوب والمتحققون ) (1) .
وهو كما يروى عن النبى صلى الله عليه وسلم : ( والإثم ما حاك فى صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) (2) .(199/42)
فالرسول جعل الإنسان حارسا على نفسه ومصدرا من مصادر الرقابة على ذاته ومميزا للحلال والحرام ، إضافة إلى ما سبق فى المرحلة الأولى من مقاييس التمييز المنقولة والمعقولة .
ثالثها : تورع عن كل ما شغل عن الله وهو ما سئل عنه الشبلى
فقيل له : يا أبا بكر ما الرع ؟
فقال : أن تتورع ألا يتشتت قلبك عن الله طرفة عين (3) .
فإذا ألف العبد بمرور الأيام هذا اللون من التربية المتفوقة فى مراحل الورع أمكن عند ذلك أن يدخل فى صف الزاهدين حيث الدنيا بأسرها لا تساوى شيئا ، فالقلب متعلق بالله ومجموع على طاعته ، وهنا يكون ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص70 .
2- أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة ، باب تفسير البر برقم (2553) والترمذى فى كتاب الزهد ، باب ما جاء فى البر والإثم برقم (2389) وابن حبان فى كتاب البر والإحسان ، باب الإخلاص وأعمال السر برقم (397) وأحمد فى المسند حـ 4 ص 182 والبيهقى فى سننه حـ 10 ص 192 وأبو نعيم فى الحلية حـ 2 ص 3 .
3- اللمع ص 71 .
المرء قد ارتقى درجة أخرى فى طريق الحرية عند أوائل الصوفية فيستصحب مقام الورع بما حمل من التوبة إلى مقام الزاهدين .
قال السراج الطوسى : ( والورع يقتضى الزهد ) (1) .
[3] - الزهد :
هو أشهر المقامات الصوفية لأنه يتوسطها (2) فهو بمثابة المرحلة الوسط فى طريق الحرية ، فكل ما سبقه من تيقظ وتوبة وورع يجعل العبد طموحا فى التخلى عن متع الدنيا والتقليل من طيبها رغبة فى تصفية النفس ، وكل ما يتلوه من صبر وتوكل ورضا هى بمثابة الضمانات التى تحفظ هذه النتيجة ، وقد نتج عن توسط الزهد للمقامات أنه احتوى معانيها جميعا ، حتى سلك كثير منهم فى تعريفه سبلا مختلفة ، أشبه بدرجات فى ميدانه أكثر من كونها اختلافا فيه .
فكل تعريف يعبر عن المنزلة التى يقف عندها الصوفى أو التى تشد اهتمامه أكثر من غيرها ، فمرة يعرف بالزهد بالتوكل ومرة بالرضا ومرة بالشكر أو الصبر (3) .(199/43)
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 71 .
2- مدخل إلى التصوف الإسلامى للدكتور أبو الوفا التفتازانى ص 60 .
3- الرسالة القشرية حـ 1 ص 325 : 330 .
فالزهد يتسع لكثير من المعانى ويتقبل العديد من وجهات النظر وأصوب الآراء فيه ما كان مرتبطا بفهم الكتاب متسقا مع السنة ملاصقا للدليل .
ويرى المحاسبى أن الزهد لا يعنى السلبية فى مواجهة الحياة ، فالحياة دار ابتلاء وامتحان يخوض المرء فيها تجارب متعددة يقلبها الله له فى كل وقت ، فالغنى قد يكون زاهدا فى غناه والفقير قد يكون راغبا حال فقره (1) .
فالغنى الصادق المطيع خازن من خزان الله ليس حبسه للأموال ضنا بها وحرصا عليها ، فهو زاهد وإن كثر عنده المتاع ، فالرسول صلى الله عليه وسلم نال حظوظا تسعد وتبهج من الزواج واللبس والمظهر وكان يستدين لحوائجه ويرهن فى مقابل الدين ويأكل اللحم والحلوى وغير ذلك من المباحات وكان صلى الله عليه وسلم قدوة للزاهدين لا زهد يفوق زهده (2) .
يقول المحاسبى : ( واعلم أن محبة الغنى مع اختيار الله لعبده الفقر تسخط ومحبة الفقر مع اختيار الله لعبده الغنى جور ، وكل ــــــــــــــــــــــــ
1- أعمال القلوب والجوارح ص 44 .
2- صيد الخاطر لابن الجوزى ص 27 مطبعة دار الفكر بدمشق سوريا سنة 1380 وانظر الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله ص 101 : 109 .
ذلك هرب من الشكر لقلة المعرفة وتضييع للأوقات من قصر العلم ) (1) .
ويذكر المحاسبى أنه لا يأمر بالشبع فالزهد واجب فيه ، ولكنه يحرم الجوع الذى ينهك القوى ويضعف الجسد ، فإذا ضعف الجسد ضعفت العبادة (2) .
فمن دعا الناس إلى الجوع فقد عصى الله سبحانه وتعالى ، فالله رغب فى الصوم ، وقد فرض رمضان على نبيه ولم يفرض عليه الجوع ولا العطش فالذى ينال جوعا أو عطشا بلا صوم فليس بمأجور (3) .(199/44)
فالزهد عند المحاسبى عبودية وتربية روحية من خلال المعرفة والالتزام بالأحكام التكليفية (4) وهو مرتبط عند المحاسبى بالمقام السابق وهو مقام الورع ، فالورع ليس سوى مرتبة فى تدرج القيم الروحية تعلوه ــــــــــــــــــــــــ
1- رسالة المسترشدين ص 163 .
2- تلبيس إبليس لابن الجوزى ص 216 نشر دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان بدون تاريخ .
3- المسائل فى الزهد للحارث المحاسبى ص 227 .
4- فصول فى التصوف للدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعى ص 105 نشر دار الثقافة للنشر والتوزيع القاهرة سنة 1991 ، 1992 .
مرتبة أخرى هى الزهد ، فمحاسبة النفس لتمييز الحلال الطيب من الحرام أو المشتبة فى أمره عمل لا جدال فيما يعود به من نفع على العبد ولكن خيار منه أن يترك العبد الدنيا ويزهد فيها .
فالدنيا ليست سوى بلاء لا عودة إليه والاشتغال بالدنيا ابتعاد عن الله والتحرر من الدنيا وسيلة إلى التقرب من الله والتفرغ لعبادتة فلا قيمة لها فى الحقيقة ولذا وجب الزهد فيها (1) .
* الزهد عند أبى سعيد الخراز :
لا تختلف نظرة الخراز عن نظرة المحاسبى للزهد ، فالقلب الزاهد هو الذى استحيا من الله أن يرى نفسه خادما للدنيا فضن بنفسه على خدمتها ، فرمى بها عن قلبه وأعتق نفسه من رق عبوديتها واعتز أن يكون خادما لها بعزة العزيز الذى أعزه بالاعتزاز عنها (2) .
فإذا كانت حريته منها تزيده قربة وعبودية لله ، كانت الدنيا طوع يديه لا تؤثر فيه مهما بلغ عنده مقدارها ، لأن قانون الإخضاع والاستعلاء عليها سيسرى فى هذه الحالة على الذهب والحجر فيستويان فى نظر المؤمن وهذه الحقيقة يعبر عنها أبو سعيد بقوله : ( لايكون العبد زاهدا مستكمل الزهد حتى يستوى عنده الحجارة والذهب ، عندها ــــــــــــــــــــــــ
1- استاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبى للدكتور عبد الحليم محمود ص 293 .
2- الصدق لأبى سعيد الخراز ص 43 .
تخرج قيمة الأشياء من قلبه ) (1) .(199/45)
وذلك أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما يسرنى أن لى مثل أحد ذهبا أنفقه فى سبيل الله تعالى ، تأتى على ثالثة يكون منه عندى شئ إلا دينار أرصده لدين على ) (2) .
فمن ملك من أهل العمل والصدق شيئا من الدنيا فهو معتقد أن الشئ لله عز وجل لا له ، وأن الله خوله فيه وهو مبلى به حتى يقوم بالحق فيه ، فالنعمة بلاء حتى يقوم العبد بالشكر فيها ويستعين بها على طاعة الله ، وكذلك البلوى والضراء اختبار وابتلاء حتى يصبر ويقوم بحق الله فيه (3) .
فالأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون من بعدهم الذين أشعرهم الله بأن أبلاهم فى الدنيا بالسعة وخولهم ، كانوا إلى الله عز وجل ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 32 .
2- أخرجه البخارى فى كتاب الرقاق ، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : ( ما يسرنى أن عندى مثل أحد ذهبا ) برقم (6445) ومسلم فى كتاب الزكاة ، باب تغليظ عقوبة من لا يؤدى الزكاة برقم (991) وابن ماجه فى كتاب الزهد ، باب فى المكثرين برقم (4231) وابن حبان فى كتاب الزكاة ، باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك برقم (3213) وأحمد فى المسند حـ 2 ص 467 وانظر السابق ص 44
3- السابق ص 33 .
ساكنين لا إلى الشئ وكانوا خزانا لله جل ذكره فى الشئ الذى ملكهم ينفذونه فى حقوق الله تعالى غير مقصرين ولا مفرطين ولا متأولين على الله ، وكانوا غير متلذذين بما ملكوا ولا مشغولى القلوب بما ملكوا ولا مستأثرين به دون عباد الله (1) .
* الزهد عند المكى : أما المكى فيستند فى معرفة الزهد فى الدنيا إلى مفهوم الدنيا فى القرآن الكريم فيقول : ( لا يمكن لعبد أن يعرف الزهد حتى يعرف الدنيا أى شئ هى فقد قال الناس فى الزهد أشياء كثيرة ، ونحن غير محتاجين إلى ذكر أقوالهم بما بين الله تعالى وأغنى بكتابه الذى جعل فيه الشفاء والغنى ) (2) .(199/46)
ويعتمد المكى فى معرفة الدنيا على مجموعة من الآيات يختزل فيها أوصاف كل آية ثم يسلمها إلى آية أخرى إلى أن يصل إلى وصف واحد يبين حقيقة الدنيا .
1- الآية الأولى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 34 .
2- قوت القلوب حـ 1 ص 245 .
3- آ ل عمران / 14 .
فهذه سبعة أوصاف هى جملة متاع الدنيا ، وما تفرع من الشهوات رد إلى أصل من أصول هذه الجمل ، فمن أحب جميعها فقد أحب جملة الدنيا ومن أحب أصلا منها أو فرعا من أصل فقد أحب بعض الدنيا (1) .
يقول المكى : ( فعلمنا بنص كلام الله أن الشهوة دنيا ، وفهمنا من دليله أن الحاجات ليست بدنيا لأنها تقع ضرورات ، فإذا لم تكن الحاجة دنيا دل أنها لا تسمى شهوة وإن كانت قد تشتهى ) (2) .
2- الآية الثانية : { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر فى الأموال والأولاد } (3) فرد الأوصاف السبعة إلى خمسة معان .
3- الآية الثالثة : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } (4) فاختصر الخمسة فى معنين منهما جامعان .
4- الآية الرابعة : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 245 .
2- السابق حـ 1 ص 246 .
3- الحديد / 20 .
4- محمد / 36 .
عن الهوى } (1) .(199/47)
فصارت الدنيا طاعة النفس للهوى ، فمن نهى نفسه عن الهوى فهو لم يؤثر الدنيا ، وإذا لم يؤثر الدنيا فهذا هو الزاهد الذى لا يفرح بعاجل موجود من حظ النفس ولا يحزن على مفقود من ذلك ، يأخذ الحاجة من كل شئ عند الحاجة إلى الشئ ، ولا يتناول عند الحاجة إلا سد الفاقة ، ولا يطلب الشئ قبل الحاجة ، فأول الزهد دخول غم الآخرة فى القلب ثم وجود حلاوة المعاملة لله تعالى ، ولا يدخل هم الآخرة حتى يخرج هم الدنيا ولا تدخل حلاوة المعاملة حتى تخرج حلاوة الهوى (2) .
وإذا كان رأى أغلب المشايخ من أوائل الصوفية فى مسألة الزهد معبرا عن الزهد فى الإسلام فإن بعضهم جعل الزهد فى صورة تبرز نوعا من الغلو والرهبانية التى لم تكتب علينا فخلط بين الاستمتاع بنصيب من الدنيا لسد الضروريات وبين التكالب عليها مما دفعهم إلى التنحى عنها وضرورياتها بالكلية وأساءوا لا إلى التصوف وحسب بل إلى روح الإسلام .
ــــــــــــــــــــــــ
1- النازعات /40 .
2- السابق حـ 1ص 246 .
فهذا أبو بكر الشبلى ربما يلبس الثياب المثمنة ثم ينزعها ويضعها فوق النار أو يأخذ السكر واللوز ويحرقهما بالنار (1) .
وهذا أبو الحسين النورى يأخذ ثلاثمائة دينار ثمن عقار بيع له ثم يصعد قنطرة ويرمى بها واحدا واحدا إلى الماء قائلا : حبيبى تريد أن تخدعنى منك بمثل هذا (2) وغيرهما ممن وضعوا النواة التى أنبتت أشكالا غريبة وبدعا عجيبة فى الزهد والتصوف .(199/48)
وقد رأينا كيف نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو والمسالك المتشددة التى التزم بها الملتزمون ، وأنه رأى فى تعذيبهم لأبدانهم وفى عزوفهم عن الزواج والنوم والطعام رهبانية لا تمثل روح الدين ولا تمتثل له فلم يحمس على ذلك ونهى عنه ، لأن أبسط نتائجه أن يزبل العود وينحل الجسم وتضعف القوة فيقعد الإنسان عن العمل ويمد يده بالسؤال ترده اللقمة واللقمتان ، ونحن نرى فى عصرنا اجتماعا لمثل هذه النوعية حول المساجد والأضرحة لا يعملون ولا يضربون فى الأرض بالسعى على أرزاقهم ومعاشهم ، متظاهرين بالتنسك والتعبد مدعين التزهد والتصوف حيث أصبحوا عالة على ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 483 .
2- السابق ص 493 .
المجتمع ووصمة عار على الإسلام والتصوف فهل تكون الزهادة على حساب الكرامة ؟
لا ... ما هكذا أراد مشايخ الصوفية الأوائل أو دعى الإسلام وكل ما أرادوه أن يعرف المؤمن الدنيا وأن يعلم أنها دار فناء فيقطع الطمع فيها ودار ابتلاء فيقاومها بالمجاهدة والفلاح فيها ومحاولة التحرر من قيودها وعوائقها .
فإذا قطع الصوفى عندهم مرحلة الزهد فى رحلة الحرية انتقل إلى مقام الصبر مستصحبا ما سبق من المقامات .
[4] - الصبر :
فعندما يزهد الانسان فيما سوى الله يكون قد قطع منتصف الطريق ولهذا كان لازما أن توضع إرادته على المحك وأن يختبر مدى احتماله لمشقة الرحلة فالرحلة قام بها الكثير ، ولكن القليل هم الذين استمروا فيها ووصلوا إلى منتهاها .. إلى مقام الحرية وإن كان صعبا ، ولكن بمقدار صعوبة المسير فيه يكون الشعور بقيمة الحرية .
والبلايا التى تلم بالعبد لا تقصد لذاتها ولكن لاختبار مدى القدرة على الاحتمال ولتجديد العزيمة وشحذ الهمة على مواصلة السير فى طريق التقوى قال تعالى :
{ لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله
التقوى منكم } (1) .
يقول الخواص (2) :
( الصبر هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة ) (3) .(199/49)
وقال عمرو بن عثمان المكى (4) :
( الصبر هو الثياب مع الله سبحانه وتعالى وتلقى بلائه بالرحب والدعة ) (5) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الحج / 37 .
2- هو أبو اسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص من أقران الجنيد والنورى له سياحات ورياضات وباع كبير فى التصوف ، مات فى جامع الرى سنة 291 هـ انظر حلية الأولياء حـ 1 ص 325طبقات المناوى ص 184 ، تاريخ بغداد حـ 6 ص7 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 325 صفة الصفوة حـ 4 ص 80 .
3- الرسالة حـ 1 ص 455 .
4- هو أبو عبد الله عمر بن عثمان بن كرب بن غصص ، صحب الجنيد وأبا سعيد الخراز وغيرهما من المشايخ ، له كلام حسن فى الزهد والتصوف ، مات ببغداد سنة 297هـ انظر تاريخ بغداد حـ 2 ص 223 شذرات الذهب حـ 2 ص 225 حلية الأولياء حـ 10 ص 291 طبقات الشعرانى حـ 1 ص 104 المنتظم حـ 6 ص 93 صفة الصفوة حـ 2 ص 248 .
5- الرسالة حـ 1 ص 455 .
* والصبر له درجات فى موطنه :
[1] - أولها : الصبر على آداء فرائض الله تعالى على كل حال فى الشدة والرخاء والعافية والبلاء طوعا وكرها .
[2] - ثانيها : الصبر عن كل ما نهى الله تعالى عنه ، ومنع النفس من كل ما مالت إليه بهواها مما لا يرضى الله وهذه الدرجة وما سبقها هما فرض على العباد أن يعملوا بهما .
[3] - ثالثها : الصبر على النوافل ، وأعمال البر وما يقرب العبد إلى الله تعالى فيحمل نفسه على بلوغ الغاية للذى رجاه من ثواب الله عز وجل .
[4] - رابعها : الصبر على قبول الحق ممن جاء به من الناس ودعا إليه بالنصيحة فيقبل منه ، لأن الحق رسول من الله جل ذكره إلى العباد ولا يجوز لهم رده فمن ترك قبول الحق ورده فإنما يرد على الله تعالى أمره .
[5] - خامسها : الصبر على احتمال مكروه النفس فإذا وقع بها ما تكرهه تجرع العبد ذلك وترك البث والشكوى وكتم ما نزل بها كما قال تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عن
الناس } (1) .(199/50)
فالعبد كتم ما كره وشق على نفسه احتماله فصار بذلك صابرا (2) .
فالصبر درجات يقطع الصوفى فيه أشواطا يلتزم فيها بالثبات والثقة مع الله وهو مقام صعب المنال سريع الزوال إلا على من ثبت الله قلبه .
يقول الجنيد بن محمد :
( المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن ، وهجران الخلق فى طاعة الله تعالى شديد ، والمسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد ، والصبر مع الله أشد ) (3) .
فالله إذا ابتلى العبد بقدر مفاجئ فيه ألم وبلوى ثم ثبت عند أول الصدمة ولم يهتز وتجرع البلاء من غير شكوى ولم يعترض بقليه على قضاء الله وقدره فإنه يصل بذلك إلى منتهى المقام فى الصبر (4) .
وفى هذا يقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( إنما الصبر عند ــــــــــــــــــــــــ
1- آل عمران / 134 .
2- انظر فى درجات الصبر كتاب الصدق لأبى سعيد الخراز ص 19 : 21 بتصرف
3- الرسالة حـ 1 ص 454 .
4- السابق حـ 1 ص455 .
الصدمة الأولى ) (1) .
فإذا صبر على بداية البلوى فإن ما بعدها يقويه ويثبته ويزيد من عبوديته وبذلك يقطع مرحلة أخرى فى طريق الحرية ينتقل بعدها إلى تفويض الأمور لله لعلمه بأن الحادثات كلها حاصلة من الله تعالى ولا يقدر على الإيجاد غيره .
[5] - التوكل :
وهو الاستعانة بالله فى الثبات على طريق الحرية ، فيختار الله وكيلا له ولن يكون هذا إلا بقطع العلائق عن الدنيا والخلائق والخلوص منها إلى الثقة التامة فى كفيله ووكيله حيث يتولى الله أحواله ويصرفها على ما يشاء ويختار (2) وإذا تولى أمر عبد بجميل عنايته كفاه كل شغل وأغناه عن كل غير ، فلا يستكثر العبد حوائجه لعلمه أن كافيه مولاه ، ومن جعل الله عز وجل وكيله لزمه أن يكون ــــــــــــــــــــــــ(199/51)
1- أخرجه البخارى فى كتاب الجنائز ، باب الصبر عند الصدمة الأولى برقم (1302) ومسلم فى كتاب الجنائز ، باب البكاء على الميت برقم (923) وأبو داود فى كتاب الجنائز ، باب البكاء على الميت برقم (3125) والترمذى فى كتاب الجنائز ، باب الصبر فى الصدمة الأولى برقم (987) والنسائى فى الجنائز باب شق الجيوب (1870) وابن ماجه فى الجنائز ، باب الصبر إلى المصيبه برقم (1596) .
2- الصدق لأبى سعيد الخراز ص 48 بتصرف .
وكيلا لله على نفسه فى إقامة حقوقه وفرائضه وكل ما يلزمه فيخاصم نفسه فى ذلك ليلا ونهارا لا يفتر لحظة ولا يقصر طرفه (1) .
وفى هذا سأل رجل ذا النون المصرى : ما التوكل ؟
فقال : خلع الأرباب وقطع الأسباب .
فقال السائل : زدنى ؟
فقال : إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الربوبية (2) .
وهذا يعنى أن التوكل ترك السكون إلى أسباب الدنيا ونفى الطمع من المخلوقين والإياس منهم لأنهم لا وصف لهم بالربوبية فالمنفرد بالخلق والتدبير هو الله ، فحين علم المتوكل أنه صائر إلى المعلوم المقدر رضى بالله تعالى وعلم أنه لا يدرك بالتوكل تعجيل ما أخر الله تعالى ولا تأخير ما عجل ، ولكنه اكتسب إسقاط الهلع والجزع واستراح من عذاب الحرص وراض نفسه بآداب الشريعة وألقاها فى العبودية وانشغل
بها وأيقن أن ما قدر سيكون ، وما يكون فهو آت (3) .
* التوكل درجات فى موطنه :
والتوكل له درجات فى موطنه يقطعها الصوفى بالمجاهدة ليصل إلى ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 418 بتصرف .
2- السابق حـ 1 ص 420 .
3- الصدق ص 53 بتصرف .
المقام الأعلى الذى يليه :
فأولها : سكون القلب بضمان الرب فيتجرد عن الأشياء لأن الله صدقه فى ضمانه ، فيسكن قلبه عند فقد الأسباب ثقة منه بوعد ربه وهذه بداية التوكل (1) .
وثانيها : درجة التسليم حيث يوقن العبد بعلم الله بحاله ، فيشتغل بما أمره الله ويعمل على طاعته ولا يراعى إنجاز موعده (2) .(199/52)
وثالثها : درجة التفويض حيث يكل أمره إلى الله ولا يختار فيستوى عنده وجود الأسباب وعدمها ويشتغل بآداء ما ألزم به ولا يفكر فى حال نفسه ويعلم أنه مملوك لسيده ، والسيد أولى بعبده من نفسه فهذه هى حالة التفويض .
وإذا ارتقى عن هذه الدرجة فوجد الراحة فى المنع واستعذاب ما يستقبله من الرد فقد وقع فى مقام الرضا (3) وقد تقدم موقف أوائل الصوفية من النظر إلى الأسباب وأبرزوا دورها بما يكفى لعدم الإطالة .
[6] - الرضا : وهو يقع عند كثير من أوائل الصوفية بعد التوكل
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 422 .
2- السابق حـ 1 ص 422 .
3- الرسالة ص 422 .
ويشمل فىطياته المقامات السابقة ، فالعبد لما صدق مع الله فيما سبق ووقع بينه وبين الله التسليم والتفويض زالت عن قلبه التهم وسكن إلى حسن اختيار الله له ، ونزل فى حسن تدبيره وذاق طعم الوجود به فامتلاء قلبه فرحا ونعما وسرورا ، فغلب ذلك ألم المصائب والمكروه والبلوى ، وصار اسم البلوى خزانة يستخرج منها إذا نزل به أمورا كثيرة :
1- فتارة يتنعم بعلم الله به إذ علم أنه يراه فى البلوى .
2- وتارة يعلم أنه ذكره فابتلاه ولم يغفل عنه .
3- وتارة ولاه الله من أمره ما فيه الصلاح ففوض الأمر إلى الله وطمع أن يراه راضيا عنه كما قال جل ذكره : { يأيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية } (1) فخرجوا من الرضا إلى الرضا (2) .
ويصف القشيرى المشاعر التى تحدث لصاحب الرضا بأنه يحصل له فوائد ولطائف لا تحصل لمن دونه من الحلاوة عند وجود المقصود وهو لا يجد الراحة فى المنع فقط بل يشعر بزوائد الأنس ونسيان كل أرب ــــــــــــــــــــــــ
1- الفجر / 27 ، 28 .
2- الصدق ص 66 بتصرف .
وحلاوة الطاعة تتصاغر عند حلول لذة الرضا حتى يؤخذ العبد عن جملته بالكلية وهذا عين التوحيد ومقام الحرية (1) .(199/53)
ويتضح جليا أن مقام الرضا ينهى سلسلة المقامات ، فالرضا نهاية الجهود وبذل المجهود من قبل الإرادة فى الوصول إلى الحرية والتى عبر عنها الجنيد بقوله : ( الحرية آخر مقام للعارف ) (2) .
وفى الوقت ذاته تبدأ رحلة جديد من أحوال الجود من منة المعبود وقد اختلف أوائل الصوفية فى ترتيب الرضا أهو آخر المقامات أم أول الأحوال ؟ فقال بعضهم : الرضا من جملة المقامات وهو نهاية التوكل فالرضا كسبى ، وقال بعضهم : الرضا من جملة الأحوال وليس ذلك كسبا للعبد بل هو نازلة تحل بالقلب .
قال القشيرى : ويمكن الجمع بين اللسانين فيقال : بداية الرضا مكتسبة للعبد وهى من المقامات ونهايته بداية الأحوال (3) .
ووقوع الرضا فى هذا الموقع يدل على أن كل المقامات السابقة كانت مجاهدات ومكابدات القصد منها قطع كل طريق على النفس حتى لا تستروح متع الحياة ، أو تستكن لمطالبها وأطيابها وأن يستعد ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 423 .
2- سبق تخريجه ص 395 .
3- الرسالة حـ 1 ص 423 .
القلب للامتلاء بعبودية الله وحده أو بالوجه الآخر يستعد للامتلاء بالحرية من كل ما سوى الله .
فالرضا محصلة نهائية لقوتين متصارعتين مختلفتين فى الاتجاه ، اتجاه يمثل عبودية الله والحرية مما سواه ، واتجاه يمثل عبودة المخلوق والتحرر من منهج الله ويقاس مقدار الرضا بمقدار تفوق القوة المتجهة نحو الحق على القوة الجاذبة إلى الخلق .
وهذا فى حد ذاته اثبات للحرية بمقوماتها وأصالتها فى الذات الإنسانية من جانب ، وتحقيق للذات الإنسانية بالوصول إلى الكمال البشرى من جانب آخر .
فالرضا عند أوئل الصوفية يعد من أحسن الحلول التى تقدم لحل المشاكل التى آثارها المتكلمون حول الجبر والاختيار أو الفعل الإلهى والفعل الإنسانى وغير ذلك مما حمل العقول ما لا تطيق .(199/54)
فإن الراضى حين يسلم نفسه وعمره لخالقه قد أقر بحريته وإرادته المحضة فى هذا الاستسلام وأدى غايته القصوى فى الحياة باتباعه الكامل لمنهج الله واستسلامه لتدبيره .
قال تعالى : { فإما يأتيانكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لما حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } (1) .
* شكل تلخيصى للمقامات الصوفية وإرادة الحرية :
[ الحرية آخر مقام للعارف ]
( نهاية الرحلة )
[7] ــــــــــــــــ الحرية
الطريق [6] ــــــــــــــ الرضا
إلى مقام الحرية [5] ـــــــــــــ التوكل
[4] ــــــــــــ الصبر
[3] ـــــــــــــ الزهد
[2] ـــــــــــــ الورع
[1] ــــــــــــــ التوبة
ـــــــــــــــــــــ
( بداية الرحلة ) [ نهاية المقامات ]
[ بداية الأحوال ]
ــــــــــــــــــــــــ
1- طه / 123 : 125 .(199/55)
*** المبحث الرابع ***
الأحوال الصوفية وثمرة الحرية
يمكن القول أن المقامات الصوفية السابقة هى بمثابة الإعداد النفسى والروحى الذى يهيئ العبد من خلال المجاهدات والرياضات لكى تصح بدايته وتنصقل إرادته ، وهذه المهمة تعد وصفا للمبتدئين والمريدين عند أوائل الصوفية ، وللسراج الطوسى عبارة يمكن أن تلخص تلك المرحلة حثن يوضح تدرج المبتدئ والمريد فى طريقهما إلى الانقطاع إلى الله والتحرر مما سواه حيث يقول :
( المبتدئ هو الذى يبتدئ بقوة العزم فى سلوك طريق المنقطعين إلى الله ويتكلف لآداب ذلك ، ويتأهب بالخدمة والقبول من الذى يعرف الحال الذى ابتدأ به وأشرف عليه من بدايته إلى نهايته والمريد هو الذى صح له الابتداء ودخل فى جماعة جملة المنقطعين إلى الله تعالى وشهدت له قلوب الصادقين بصحة الإرادة ) (1) .
وهو فى كل مرحلة يقطعها تنفك عنه القيود شيئا فشيئا حتى تتلاشى بوصوله إلى عبودية الله أو الحرية التى هى آخر المقامات ، وأيا كان اختلافهم فى ترتيب المقامات ، فإن هذه المرحلة تعتمد على الجهود ــــــــــــــــــــــــ
1- اللمع ص 47 ، 48 .
الكسبية التى يمارسها العبد ، فإذا استوفى العبد شرائطها وأحكامها يصبح مستحقا لاجتناء ثمارها ، فكما يشعر العابد بحلاوة الطاعة إذا قام بما فرض عليه من عبادات ، وكما يشعر الإنسان براحة الضمير إذا نهض بعمل من أعمال الخير ، كذلك يستشعر المزيد إذا خلصت إرادته بذوق ما يجد من المعانى الروحية السامية والتى تتمثل فى حلاوة الإيمان وثماره .
* الثمرة الأولى للحرية :
وأول هذه الثمار عند أوائل الصوفية ثمرة الحب يقول المحاسبى :
( المحبة ميلك إلى الشئ بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك فى حبه ) (1)
وقال محمد بن الفضل (2) : ( المحبة سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 2 ص 618 .(200/1)
2- هو أبو عبد الله محمد بن الفضل بن العباس بن حفص البلخى ، سكن سمرقند وأصله من بلخ ، وهو من كبار المشايخ بخراسان ، صحب أحمد بن خضرويه وغيره من المشايخ توفى سنة 319 هـ انظر شذرات الذهب حـ 2 ص 282 ، المنتظم حـ 6 ص 239 ، حلية الأولياء حـ 10 ص232 ، معجم البلدان حـ ص 713 .
3- انظر الرسالة حـ 2 ص 617 .
وللحب أحوال تبدأ بعد تمام الرضا ، أو قبيل أن يتم الرضا بوقت لأن بداية الرضا عندهم من المقامات ونهايته من الأحوال كما سبق .
فإذا اجتاز العبد منطقة الرضا ، وثبت حبه على أساس يلتقى فيه الصدق والتجرد عما سوى الله أصبح جديرا بأن تنهال عليه أحوال الحب .
ومن لطف الله أن كل حال يؤدى بالعبد إلى الابتلاء يعقبه حال من الرخاء وكشف البلاء فبعد الهجر وصل وبعد القبض بسط وبعد الهيبة أنس وبعد الخوف رجاء وبعد الفقر وجد وبعد البعد قرب وهكذا مجموعة من الثنائيات تتسمى بحسب التغيرات النفسية التى تعقبها وتتفاوت فيها المسميات وتختلف فيها أنظار العابدين فكل يعبر عن حاله وعن إحساسه وشعوره ، وكل ذلك يرجع إلى أن الله يقلب القلوب فى جهتين بين إصبعين من أصابعه (1) .
وفى الأحوال تتجدد مذاقات العارفين لحلاوة الإيمان ، فلكل مذاق طعم يزيد على سابقه شيهة وحلاوة .
ويمكن أن نصل إلى ترتيب الأحوال عند أوائل الصوفية بصورة
ــــــــــــــــــــــــ
1- عوارف المعارف ص 327 ، لطائف الإشارات للقشيرى ص 109 .
2- الرسالة حـ 1 ص 112 .
تقريبية إلى حد ما من خلال ما يأتى :
أولا : الخوف والرجاء
ويعتبرهما القشيرى من أحوال البداية أى من أحوال الدرجة الأولى فى مجال الحب إذ يخاف العبد من العقوبة ويرجوا من الله المثوبة (1) ويترجم يحى بن معاذ هذا الشعور والإحساس بقوله مخاطبا ربه :(200/2)
( يكاد رجائى لك مع الذنوب يغلب رجائى لك مع الأعمال لأنى أجدنى أعتمد فى الأعمال على الإخلاص ، وكيف أحفظه وأنا بالآفة معروف وأجدنى فى الذنوب أعتمد على عفوك ، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف ) (2) .
والخوف والرجاء هما كجناحى الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم الطيران ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، وإذا ذهبنا صار الطائر فى حد الموت (3) .
وعندما ينتقل العبد من درجة إلى درجة أعلى فى حال الحب يأخذ الخوف والرجاء معانى جديدة عندهم تتفق وهذا الانتقال ، وفى ذلك يقول الواسطى : ( إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها فضيلة ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 110 .
2- السابق حـ 1 ص 358 .
3- السابق حـ 1 ص 357 .
لرجاء أو لخوف ) (1) وذلك لأنه ينتقل إلى حال أعلى من حالى الخوف والرجاء .
ثانيا : القبض والبسط
وهما حالان بعد ترقى العبد عن حال الخوف والرجاء ، فالقبض للعارف بمنزلة الخوف للمريد والبسط للعارف بمنزلة الرجاء (2) .
ومن اجتهادهم فى الفصل بين القبض والخوف والبسط والرجاء أن الخوف إنما يكون من شئ فى المستقبل إما أن يخاف من فوت محبوب أو هجوم محذور وكذلك الرجاء إنما يكون بتأميل محبوب فى المستقبل أو بتطلع زوال محذور وكفاية مكروه فى المريد المستأنف ، أما القبض فلمعنى حاصل فى الوقت وكذلك البسط ، فصاحب الخوف والرجاء تعلق قلبه فى حالتيه بآجله وصاحب القبض والبسط أخذ وقته بوارد غلب عليه عاجله (3) .
ويذكر الجنيد بن محمد أن القبض والبسط بمعنى الخوف والرجاء ولكن الاختلاف فى تعلقهما بالآجل أو العاجل (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 349 .
2- السابق حـ 1 ص 209 .
3- السابق حـ 1 ص 209 واللمع ص 419 .
4- اللمع ص 420 .(200/3)
وتتفاوت أوصافهم فى القبض والبسط حسب تفاوتهم فى أحوالهم فمن وارد يوجب قبضا ولكن يبقى مساغا للأشياء الأُخر لأنه غير مستوف ، ومن مقبوض لا مساغ لغير وارد فيه لأنه مأخوذ عنه بالكلية بوادره .
وذلك كما قال بعضهم : ( أنا ردم ) بمعنى مردوم أى لا مساغ فيه (1) .
وكذلك المبسوط قد يكون فيه بسط يسع الخلق فلا يستوحش من أكثر الأشياء ويكون مبسوطا لا يؤثر فيه شئ بحال من الأحوال (2) .
ثالثا : الهيبة والأنس
وهما درجتان فى أحوال الحب أعلى قدرا من الخوف والرجاء ومن القبض والبسط ، فالهيبة أعلى من القبض وحق الهيبة عند القشيرى الغيبة ، فكل هائب غائب ، والأنس أتم من البسط وحق الأنس صحو بحق ، فكل مستأنس صاح ، ثم يتباينون حسب تباينهم فى الشرب (3) .
قال الجنيد : كنت أسمع السرى السقطى يقول : ( يبلغ العبد إلى ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 210 .
2- السابق حـ 1 ص 210 .
3- السابق حـ 1 ص 213 .
ربه إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر ) وكان فى قلبى منه شئ حتى بان لى أن الأمر كذلك (1) .
فالهيبة تنشأ من القبض الناشئ من الخوف لأن من خاف الله وعرف تقصيره فى حقه تعالى انقبض قلبه وبقى مشغولا بالله فتحصل له الهيبة منه ومن أمل وصوله إلى الخير بالرخاء انبسط قلبه ، وبقى مشغولا بالله فيحصل له الأنس به ، وحال الهيبة والإنس وإن جلتا ، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصا لتضمنهما تغير العبد ، فإن أهل التمكين سمت أحوالهم عن التغيير والتلوين (2) .
رابعا : التواجد والوجد والوجود
[1] - التواجد : يقول القشيرى : فالتواجد استدعاء الوجد بضرب
ــــــــــــــــــــــــ(200/4)
1- السابق حـ 1 ص 213 قلت : الأمر عند أوائل الصوفية فى المقامات والأحوال مبنى على التجربة الإيمانية ووصف أدائهم للعبودية ، فأحدهم يعبر ببعض الألفاظ عن إحساس ما وجده فى الصلاة مثلا أو قيام الليل أو الذكر أو غير ذلك ، والآخر يفعل مثله كذلك ، فقد يتفقوا فى الرأى وقد يختلفوا وهكذا حتى تتشكل ألفاظ الصوفية ومصطلحاتهم فى الأحوال والمقامات بالقاسم المشترك عند أغلبهم ، فكلام السرى السقطى دليله فيه العقل والتجربة الإيمانية واستبيان الجنيد من كلامه ثم تصديقه إياه دليله أيضا العقل والتجربة ، وهذا الكلام قد يصح أو لا يصح لأنه رأى بشر قابل للخطأ والصواب ، أما إذا عارض الدليل الشرعى فلا .
2- السابق حـ 1 ص 214 .
اختيار ، وليس لصاحبه كمال الوجد إذ لو كان ، لكان واجدا (1) فهو أقرب ما يكون إلى الكسيبات التى تؤدى إلى الأحوال وفى هذا يذكر القشيرى حديثا نبويا : ( ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ) (2) .
[2] - الوجد :
وهو ما يصادف القلب ويرد عليك بلا تعهد ولا كلفة ، وهو يعقب التواجد فى الدرجة (3) ويربط الدقاق بين الوارد والورد أى بين الباطن والظاهر ليثبت ارتباط مذاقات الحب بالطاعات ، وبأن الكسبيات وسائل لاستجلاب الوهيبات فيقول : ( من لا ورد له بظاهره ، لا وارد له فى سرائره وكما أن ما يتكلفه العبد من معاملات ظاهرة يوجب له حلاوة الطاعات ، فما ينازله من أحكام باطنة يوجب له المواجيد ، فالحلاوة ثمرات المعاملات والمواجيد نتائج المنازلات ) (4) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 215 وانظر اللمع ص 418 .
2- رواه ابن ماجه فى كتاب الزهد برقم (19) .
3- الرسالة حـ 1 ص 217 .
4- السابق حـ 1 ص 217 .
[3] - أما الوجود : فهو حالة أرقى من الوجد ، ولا يكون وجود الحق إلا بعد خمود البشرية لأنه لا يكون للبشرية بقاء عند ظهور سلطان الحقيقة .(200/5)
وهذه الدرجات الثلاث يشبهها القشيرى بمن شهد البحر ثم ركب البحر ثم غرق فى البحر ، فالتواجد بداية والوجود نهاية والوجد واسطة بين البداية والنهاية (1) .
فالعبد يغرق فى بحار الحب حتى يصل إلى الثمرة الثانية وهى محصلة لطريقين :
الأول : الطريق إلى الحرية وهو طريق الجهد والكسب من خلال المقامات التى يدفع فيها كل محاولة لاسترقاقه .
الثانى : طريق الحب وهو ثمرة للطريق الأول يؤثر فى العبد من خلال الأحوال .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 217 .
* شكل تلخيصى للثمرة الأولى من ثمرات الحرية :
( الثمرة الأولى للحرية )
[5] ــــــــــــ الفناء والبقاء
[4] ـــــــــــ التواجد والوجد والوجود
[3] ـــــــــــــــ الهيبة والأنس
[2] ـــــــــــــــ القبض والبسط
[1] ــــــــــــــ الخوف والرجاء
ــــــــــــــــ
[ طريق الحب ] [ نهاية الحب بداية الفناء ]
* الثمرة الثانية للحرية : أحوال الفناء
انتهينا إلى أن أوائل الصوفية وصلوا إلى درجة فى الحب يغرق المرء فيها فى بحار ه لوجود الإيمان بالحق سبحانه وتعالى وفى المقابل نرى خمود البشرية وفنائها ، فالعبد قد يكون عالما بالتوحيد من خلال الاستدلال بالآثار ولا يكون واجدا له مستشعرا لحلاوته فى القلب فوجوده الحقيقى لا يبقى للعبد معه إحساس بنفسه فضلا عن علمه به واستدلاله عليه ، فترتيب أمر الأحوال للوصول إلى المعرفة بتوحيد الله يفصح عنه القشيرى بقوله :
وترتيب هذا الأمر قصود ثم ورود ثم شهود ثم جمود ثم خمود وبمقدار الوجود يحصل الخمود .
وصاحب الوجود له صحو ومحو فحال صحوه بقاؤه بالحق وحال محوه فناؤه بالحق ، وهاتان الحالتان أبدا متعاقبتان عليه فإذا غلب عليه الصحو بالحق ، فبه يصول وبه يقول قال صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن الحق :
( فبى يسمع وبى يبصر ) (1) .
وهذا الكلام يعنى أنه بمقدار تضاؤل إحساس العبد بنفسه يكون الوجود الحق للعبد .(200/6)
وفى سبيل أن يوضح القشيرى موقف المشايخ من تدرج هذا التضاؤل شيئا فشيئا عرض لنا نماذج من الأحوال التى تتآلف كأحوال الحب من أزواج تبدأ من الفناء وتنتهى عند التحقق .
[1] - أولها : الفناء والبقاء :
ويمكن القول أن أوائل الصوفية يميزون بين نوعين من الفناء :
1- أحدهما يمكن اكتسابه بالمران المنظم والتدريب الروحى ويكون ذلك بالجهد المستمر فى المقامات (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 219 .
2- السابق حـ 1 ص 218 .
2- والثانى لا ينال بمران بل يطرأ على القلب ويأتى قاهرا جبارا يفقد الإنسان إحساسه بالعالم من حوله (1) .
* فالأول : فناء فى امتثال الأمر التشريعى الذى يعرف به المحمود والمذموم من الأفعال يقول فيه القشيرى :
( أشار القوم بالفناء إلى سقوط الأوصاف المذمومة وأشاروا بالبقاء إلى قيام الأوصاف المحمودة ) (2) .
ومعلوم أنه إذا لم يكن أحد القسمين كان القسم الآخر لا محالة وهذا يتوقف أساسا على دور الإرادة نحو أى منهما ، فالوجود الذاتى للإنسان كائن من خلال اختياره الحر للتصرف المحمود فى أفعاله وبقائه دائما على الصفات الحميدة .
فمن ترك مذموم أفعاله بلسان الشريعة يقال :
( إنه فنى عن شهواته ، فإذا فنى عن شهواته بقى بنيته وإخلاصه فى عبوديته ومن زهد فى دنياه بقلبه فنى عن رغبته ، ومن فنى عن رغبته فيها بقى بصدق إنابته فيكون بذلك فانيا بأفعاله ، ومن عالج أخلاقه فنفى عن قلبه الحسد والحقد والبخل والشح والكبر والعجب
ــــــــــــــــــــــ
1- التعريفات للجرجانى ص 185 .
2- الرسالة حـ 1 ص 229 .
وأمثال هذا من رعونات النفس فإنه بذلك يكون فانيا بأخلاقه ) (1) .(200/7)
* أما الثانى : فهو فناء فى الأحوال ، وفلسفته أن من شاهد الربوبية فى جربان القدر وتصاريف الأحكام فنى عن أى حسبان ، فإذا فنى عن توهم الآثار من الأغيار بقى بصفات الحق ، فلا يشهد من الأغيار عينا ولا أثرا ولا رسما ولا طللا لانعدام أثرها عليه وعند ذلك يقال فى عرفهم : ( إنه فنى عن الخلق وبقى بالحق ) (2) .
وهذا الفناء لا يعتبر مسلكا سلبيا أو انمحاء مطلقا للذات الإنسانية فالصوفى لا يصل إلى النوع الثانى إلا إذا اجتاز النوع الأول من خلال المقامات السابقة ومن ثم نبه القشيرى إلى أن الفناء الصوفى لا يؤدى إلى الحلول أو إلى الاتحاد بالذات الإلهية ، فإذا قيل : فنى عن نفسه وعن الخلق فنفسه موجودة والخلق موجودون ولكنه لا علم له بهم ولا به ولا إحساس ولا خبر فتكون نفسه موجودة والخلق موجودين ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة ص 229 بتصرف .
2- السابق ص 229 بتصرف ، وانظر التعرف ص 152 ، 152 .
3- السابق حـ 1 ص 330 بتصرف .
وهذا وإن كان يحدث للبعض إذا دخل على سلطان من أهل الدنيا فيصيبه الذهول وتهيمن عليه الدهشة حتى يغفل عن مجلسه وهيئته ، وإذا سئل بعد خروجه عن شئ كان فى موقفه لما تمكن من الجواب ، فإذا كان هذا تغافل مخلوق عن أحواله عند لقاء مخلوق ، فما الظن لو أنه فنى عن كل شئ فجأة إذا كاشفه شهود الحق حال الذكر والطاعة (1) .
ويرى سهل بن عبدالله التسترى أن الفناء نوع من الاتصال الدائم بالله لإحساس العبد بمعية الله فى كل وقت أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) (2) .
فالأقوال والأفعال يحددهما الشعور المتصل بمراقبة الله فى كل آن ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1ص 330 بتصرف .(200/8)
2-الحديث أخرجه مسلم فى كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان برقم (8) وأبو داود فى كتاب السنة ، باب فى القدر برقم (4695) وأخرجه الترمذى فى كتاب الإيمان ، باب ما جاء فى وصف جبريل للنبى الإسلام والإيمان برقم (2610) والنسانئ حـ 8 ص 97 وابن ماجه فى المقدمة ، باب فى الإيمان برقم (63) وابن حبان فى كتاب الإيمان ، باب فرض الإيمان برقم (168) وأحمد فى المسند حـ 1 ص52 .
وانظر التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 311 .
من خلال التزامه بالعبودية على وجهها الأمثل ، يقول سهل بن عبد الله : ( من لم يكن يعبد الله كأنه يراه أو علم العبد بأن الله يراه فهو غافل ) (1) .
ومن ثم فإن العلاقة بين الفانى وبين ربه هى علاقة مشاهدة ومراقبة تدفعه إلى مزيد من الحرية والانضباط فى العبودية دون خلط بين العبد وربه .
ومن صفات الفانى عند سهل بن عبد الله ، أنه عبد لا يغفل عن ذكر حبيبه آنس نفسه بأن الله مشاهده فوقع بصره على مقامه من إيمانه حتى استمكن مقامه من القرب منه ، وأوصل أذنه بالاستماع إليه وصير لسانه رطبا من ذكره ، وطلب مرضاته وأقام عروقه وعصبه وأعضاءه وعظامه وجميع جوارحه وحركاته وسكونه بطاعتة حتى أدركه المدد بالمزيد من ربه فصار قلبه فى رحمة الله كما قال عز وجل :
{ إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } (2) .
فاستغراق العبد من ذكر محبوبه يجعله منصرفا عن كل لفظ يردده اللسان إلى حضور قلبى ينسى الذاكر فيه نفسه ، ويتأنس بحضوره مع
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 312 .
2- المؤمنون / 57 .
وانظر تفسير التسترى ص 10 .
ربه فيفنى عن نفسه ببقائه مع ربه ، يقول سهل : ( حياة الروح بالذكر ، وحياة الذكر بالذاكر ، وحياة الذاكر بالمذكور ) (1) .
ويلاحظ أن كلام التسترى فى الفناء يدور فى فلك المحبة واقتطاف الثمرة الأولى للحرية من جهة واتباع السنة والارتقاء بالنفس البشرية إلى مكانها الصحيح من جهة أخرى .(200/9)
فعند التسترى أن من اقتدى بالنبى صلى الله عليه وسلم لم يكن فى قلبه اختيار لشئ من الأشياء سوى ما أحب الله ورسوله (2) .
وإذا كان الفناء عند التسترى مرتبطا بالمحبة وأثره قائم عليها ، يظهر ذلك من أفعال المحب ، وأثر المحبة على الجوارح فى اتباع أوامر المحبوب واجتناب نواهيه بحيث تتحد رغبة المحب مع رغبة المحبوب ، فإن الفناء عند الجنيد يأخذ طريقا آخر حيث يرتبط الفناء بالتوحيد بصورة تتسق فى النهاية مع مفهوم التسترى .
فالفناء الذى دعا إليه لا علاقة له بفناء الحلول والاتحاد ، وإنما يحتفظ بالصحو ويرفض الشطح ويؤثر البقاء (3) .
وذلك لأنه دعا فى التوحيد إلى تطابق الإرادات ، إردة العبد وفنائه
ــــــــــــــــــــــــ
1- حلية الأولياء حـ 10 ص 190 مرآة الجنان حـ 2 ص 148 .
2- من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب والسنة ص 19 .
3- الرسالة حـ 1 ص 584 .
مع إرداة الله الدينية الشرعية ، وذلك يدخل تحت إرادة الله الكونية وهو نهاية التوحيد الحقيقى الذى عبر عنه بقوله :
( أن يكون العبد شبحا بين يدى الله سبحانه وتعالى ، تجرى عليه تصاريف تدبيره فى مجارى أحكام قدرته ، فى لجج بحار توحيده بالفناء عن نفسه وعن دعوى الخلق له ، وعن استجابته بحقائق وجوده ووحدانيته فى حقيقة قربه بذهاب حسه وحركته لقيام الحق سبحانه فيما أراد منه ) (1) .
وهو يشير بذلك إلى الحديث القدسى :
( فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ، ورجله التى يمشى عليها ) (2) .
وإذا أضفنا لقوله السابق قوله : ( التوحيد هو إفراد القديم عن الحدث ) (3) .
علمنا بأنه إنما يريد التحرر من رق الأغيار وشهودها لاستغراق القلب فى الذكر والمداومة عليه بغية الوصول إلى نهاية العبودية والتحقق .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 584 .
2- سبق تخريجه .
3- انظر ص 87 .
وقد بين ذلك باستفاضة فى كتابه الفناء (1) .(200/10)
ومن ثم فهو لا يعنى إسقاط الإرادة الدينية لرؤيتة للإرادة الكونية وإنما يعنى تمام القيام بالإرادة الدينية التى يخضع من خلالها لله كما تخضع سائر الأشياء لإرادته الكونية .
وقد دافع الكلاباذى والسراج الطوسى عن مفهوم الصوفية للفناء حتى القرن الرابع الهجرى ، وردوا أى خروج عن الحد السابق ، بل أعلنوا براءتهم ممن قال بفناء الحلول والاتحاد ، ووصفوه بالجهل والضلال (2) .
وتجدر الإشارة إلى حقيقة هامة فى فهم السبب الذى أدى إلى القول بالحلول أو الاتحاد ، ففى مرحلة شرح التجربة التى خاضها الصوفى فى آدائه العبودية الله والتعبير عنها كنظرية مطعمة بالعناصر الفلسفية ، شاع الاضطراب والخلط والتعقيد مما نجم عنه أخطاء وانحرافات فكرية جمة .
فمثلا كان يقصد بالصفات الإنسانية التى يجب أن تقتلع أو تهجر ويجب على الصوفى أن يتحرر منها ويفنى عنها ، تلك الصفات التى تحول بين الإنسان وكماله الروحى ، تلك الصفات التى تشد الإنسان ــــــــــــــــــــــــ
1- كتاب الفناء للجنيد ص 350 ضمن نصوص صوفية إسلامية نشرها د. كمال جعفر فى كتابه التصوف طريقة وتجربة ومذهبا .
2- التعرف ص 151 واللمع ص 541 : 544 .
إلى الرغبة والشهوة والطمع ، وتجعله يخلد إلى الأرض ويتبع هواه ، وإلى هذا الحد فالهدف قرآنى محض لا اعتراض عليه ، ولكن سرعان ما فهم المقصود بالصفات الإنسانية هنا الطبيعة البشرية ، ومن ثم فقد ادعى بعضهم أن بالإمكان الانسلاخ من الطبيعة البشرية والتحقق بالصفات الإلهية ، وقد يؤدى هذا إلى تأليه الإنسان وجعله إلها آخر (1) .
ويفرد السراج الطوسى بابا فى ذكر من غلط فى فناء البشرية بين فيه أن الذين غلطوا فى فناء البشرية سمعوا كلام المتحققين فى الفناء فظنوا أنه فناء البشرية ، فوقعوا فى الوسوسة ، فمنهم من ترك الطعام والشراب وتوهم أن البشرية هى القالب والجثة إذا ضعفت زالت بشريتها ، فيجوز أن يكون موصوفا بصفات الإلهية (2) .(200/11)
يقول السراج : ( ولم تحس هذه الفرقة الجاهلة الضالة أن تفرق بين البشرية وأخلاق البشرية ، لأن البشرية لا تزول عن البشر كما أن السواد لا يزول عن الأسود ولا لون البياض عن الأبيض ، وأخلاق البشرية تتبدل وتتغير بما يرد عليها من أنوار الحقائق ، وصفات البشرية ليست هى عين البشرية ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ص 231 .
2- اللمع ص 543 .
3- السابق ص 543 .
وتعد هذه النقطة من النقاط الهامة التى تفصل بين معنى إرادة الحرية وتنقية الأوصاف البشرية المذمومة بالفناء عنها وبين الجبرية وانعدام الإرادة الإنسانية أو انمحاء الطبيعة البشرية .
[2] - ثانيها : الجمع والفرق :
فالجمع فى تعريف أبى على الدقاق ما سلب عنك والفرق ما نسب إليك (1) ومعنى ذلك أن ما يكون كسبا للعبد من إقامة العبودية وما يليق بأحوال البشرية فهو فرق ، وما يكون من قبل الحق من إبداء معان وإسداء لطف وإحسان فهو جمع ، فمن أشهده الحق سبحانه وتعالى أفعاله من طاعاته وانتقاء مخالفاته فهو عبد بوصف التفرقة ، ومن أشهده الحق ما يوليه من أفعال فهو عبد بشاهد الجمع ، فإثبات الخلق من باب التفرقة ، وإثبات الحق نعت الجمع ، ولا بد للعبد من الجمع والفرق ، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له ومن لا جمع له لا معرفة له (2) .
ويطبق القشيرى فكرة الجمع والفرق فى تفسير قوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } حيث يقول : ( إياك نعبد إشارة إلى الفرق وإياك نستعين إشارة إلى الجمع ) (3) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 218 . 2- السابق حـ 1 ص 222 بتصرف .
3- لطائف الإشارات ص 226 .
فالفرق إبراز لتوحيد العبادة على وجه الكمال ، والجمع إبراز لتوحيد الربوبية على وجه الكمال ، يقول القشيرى :(200/12)
( فالفرق صفة العبودية والجمع نعت الربوبية ، وكل فرق لم يكن مضمنا بجمع وكل جمع لم يكن فى صفة العبد مؤيدا بفرق فصاحبه غير سديد الوتيرة ، وإن الحق سبحانه وتعالى يكل الأغيار إلى ظنونهم فيتيهون فى أودية الحسبان ويتوهمون أنهم منفردون بإجراء ما منهم وذلك منه سبحانه وتعالى مكر بهم ) (1) .
وهو يغمز الجبرية والقدرية ويدعوا إلى السلفية وإلى إثبات الحرية الإنسانية ، وتعويل المسئولية على أفعال الإنسان واعتقاد خلقها لله من جانب آخر ، وقد تقدم جواب سهل بن عبد الله لما سئل عن الجمع والفرق فقيل له :
ما تقول فى رجل يقول : أنا مثل الباب لا أتحرك إلا أن يحركونى ؟
فقال سهل : هذا لا يقوله إلا أحد رجلين : إما رجل صديق وإما رجل زنديق (2) .
ويذكر السراج الطوسى أن المعنى فيما قال سهل رحمه الله أن الصديق يرى قوام الأشياء بالله ويرى كل شئ من الله تعالى ويرجع فى ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 226 .
2- اللمع ص 549 .
كل شئ إلى الله عز وجل ، مع معرفة ما يحتاج إليه من الأصول والفروع والحقوق والحظوظ والمعرفة بين الحق والباطل ومتابعة الأمر والنهى وحسن الطاعات والقيام بشرط الأدب وسلوك المنهج على حد الاستقامة .
وأما معنى قول الزنديق بهذه المقالة فإنما يقول ذلك حتى لا يزجره شئ عن ركوب المعاصى ، وأنه أداه جهله إلى الجسارة والاعتداء بإضافة أفعاله وجميع حركاته إلى الله تعالى ، حتى زال اللائمة عن نفسه فى ركوب المآثم بغواية الشيطان وتسويله وتأويله الباطل (1) .(200/13)
ولذلك عاب السراج الطوسى على جماعة غلطوا فى عين الجمع فلم يضيفوا إلى الخلق ما أضاف الله تعالى إليهم ، ولم يصفوا أنفسهم بالحركة فيما تحركوا فيه وظنوا أن ذلك منهم احتراز حتى لا يكون مع الله شئ سوى الله عز وجل فأداهم ذلك إلى الخروج من الملة وترك حدود الشريعة لقولهم إنهم مجبورون على حركاتهم حتى أسقطوا اللائمة عن أنفسهم عند مجاوزة الحدود ومخالفة الاتباع ومنهم من أخرجه ذلك إلى الجسارة على التعدى والبطالة وطمعته نفسه على أنه معذور فيما هو عليه مجبور ، وإنما غلط هؤلاء لقلة معرفتهم بالأصول والفروع ، ولم يعرفوا الجمع والتفرقة ، فأضافوا إلى الأصل ما هو ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 549 بتصرف .
مضاف إلى الفرع ، وأضافوا إلى الجمع ما هو مضاف إلى التفرقة فلم يحسنوا وضع الأشياء فى مواضعها فهلكوا (1) .
وهذا الاتجاه الصوفى يكشف عن تأثير مصطلح الحرية فى التوفيق بين القدر واتباع الشرع ، وفى حل المشكلات التى استمرت بين طوائف المتكلمين وأثقلت المسلمين دون جدوى أو طائل .
[3] - ثالثها : الغيبة والحضور :
حالان متقابلان أرقى نوعا ما مما سبق ، فالغيبة هى غيبة القلب عن علم ما يجرى من أحوال الخلق ، لاشتغال الحس بما ورد عليه ، ثم قد يغيب إحساسه بنفسه وغيره بوادر من تذكر ثواب أو تفكر عقاب والحضور قد يكون حاضرا بالحق لأنه إذا غاب عن الخلق حضر بالحق على معنى أنه يكون كأنه حاضر ، وذلك لاستيلاء ذكر الحق على قلبه فهو حاضر بقلبه بين يدى ربه .
وعلى حسب غيبته عن الخلق يكون حضوره بالحق ، فإن غاب بالكلية كان الحضور على حسب الغيبة ويكون مكاشفا فى حضوره على حسب رتبته بمعان يخصه الحق سبحانه بها (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق ص 549 ، 550 بتصرف .
2- الرسالة حـ 1 ص241 .
[4] - رابعها : المحو والإثبات
وهما على نوعين :
[1- محو وإثبات يتعلقان بالمقامات :(200/14)
فالمحو رفع أوصاف العادة ، والإثبات إقامة أحكام العبادة فمن نفى عن أحواله الخصال الذميمة وأتى بدلها بالأفعال والأحوال الحميدة فهو صاحب محو وإثبات ، وتدخل ضمن الخصال الذميمة الزلة فى الظاهر والغفلة فى الضمائر والعلة فى السرائر ، وعلاجها باثبات المعاملات والمنازلات والمواصلات فالمحو والإثبات هنا لهما صبغة أخلاقية مكتسبه للعبد .
[2 - محو وإثبات يتعلقان بالأحوال :
فحقيقة المحو والإثبات فى الأحوال صادرة عن القدرة ، فالمحو ما ستره الحق ونفاه ، الإثبات ما أظهره الحق وأبداه ، والمحو والإثبات مقصورات على المشيئة (1) قال أبو الحسين النورى : ( الخاص والعام فى قميص العبودية إلا من يكون منهم أرفع ، جذبهم الحق ومحاهم عن نفوسهم فى حركاتهم وأثبتهم عند نفسه بنظرهم الى قيام الله لهم فى أفعالهم وحركاتهم ) (2) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ ص 242 .
2- اللمع ص 431 .
ومحو الحق لكل أحد وإثباته على ما يليق بحاله (1) .
[5] - خامسها : التلوين والتمكين
وهما حالان يلقيان الضوء على أرباب المرحلة الختامية من مراحل السفر فى التجربة الإيمانية لأوائل الصوفية ، فالتلوين صفة أرباب الأحوال والتمكين صفة أهل الحقائق ، فما دام العبد فى الطريق فهو صاحب تلوين ، لأنه يرتقى من حال إلى حال وينتقل من وصف إلى وصف ، ويخرج إلى مرحلة أخرى ، فإذا وصل تمكن ، وصاحب التلوين أبدا فى الزيادة ، وصاحب التمكن وصل ثم اتصل ، وأمارة أنه اتصل ، أنه بالكلية عن كليته بطل (2) .
يقول القشيرى :
( العبد مادام فى الترقى ، فصاحب تلوين يصح فى نعته الزيادة فى الأحوال والنقصان منها ، فإذا وصل إلىالحق بانخناس أحكام البشرية مكنه الحق سبحانه وتعالى بألا يرده إلى معلولات النفس فهو متمكن فى حاله على حسب حاله واستحقاقه ) (3) .
فالتمكين يدل على مقام السالك الروحانى فى أفق الكمال وأعلى ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 242 .(200/15)
2- السابق حـ1 ص 252 .
3- السابق حـ ص 255 .
الدرجات ، فمن كانوا فى مقاماتهم وأحوالهم أمكنهم الانتقال من مقام إلى آخر ومن حال إلى آخر ، لكن صاحب التمكين ثابت لا ينتقل فالمقام رتبة أهل البداية ، والتمكين هو سكن أهل النهاية (1) .
يقول الهجويرى مشبها حال التمكين وما قبله : ( الماء يجرى فى مجرى النهر حتى يصل إلى المحيط ، فإذا وصل إلى المحيط وقف تياره وتغير طعمه ، فمن طلب الماء لشربه ابتعد عنه ، أما فى طلب اللؤلؤ فإنه يجاهد نفسه ويضع حبل الطلب فى رأسه ويغوص تحت الماء برأسه مجدا فى نيل اللؤلؤ فإما يجده وإما يفقد نفسه العزيزة ) (2) .
ففى التمكين رفع التلوين (3) لأن العبد انتقل إلى درجة النهاية التى يتلقى فيها الأفضال الإلهية التى لا نهاية لها (4) .
* بين الفناء والتحقق :
يوضح الهجويرى موقع مرحلة الفناء بالنسبة للمراحل التى تسبقه والتى تليه فى السلسلة المتدرجة للتصوف فيقول : ( الفناء درجة كمال يبلغها العارفون الذين تحرروا من آلام المجاهدات وخلصوا من سجن ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب ص 450 بتصرف .
2- السابق ص 450 .
3- السابق ص 451 .
4- الرسالة حـ 1 ص 255 .
المقامات والأحوال وانتهى بهم الطلب إلى الكشف والحقيقة فرأوا كل مرئى وسمعوا كل مسموع وأدركوا كل أسرار القلب وأعرضوا عن كل شئ وفنوا عن مقصدهم ، فثبت فى هذا المقصد كل مقاصدهم ) حتى ظهر فيهم قوله : ( كنت له سمعا وكنت له بصرا ) (1) .
فالفناء بدايته نهاية طريق الحب ويزادد بالأحوال السابقة قوة حتى تذهب المحدثات فى شهود العبد وتغيب فى أفق العدم كما كانت قبل أن توجد ويبقى الحق تعالى كما لم يزل (2) .(200/16)
وقد نبه الهجويرى إلى الاحتفاظ بالكينونة الذاتية للإنسان دون تلاشى أو اضمحلال فقال : ( إذا قالوا إن إرادة العبد قد فنيت فى إرادة الله فليس معنى ذلك فناء وجود العبد فى وجود الله ، تماما كما يذوب الحديد فى النار ، لأن النار قد تؤثر فى صفات الحديد ولكنها لا تمس جوهره أو تغيره ) (3) .
فهو ينفى عن الفناء كل ما من شأنه أن يمس الذات الإلهية من قريب أو بعيد ، فالفناء فناء شهودى ذوقى وليس فيه أثر لتداخل البشرية ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب ص 243 .
2- مدارج السالكين حـ 1 ص 80 .
3- كشف المحجوب ص 243 .
فى الذات الإلهية على أية صورة من الصور ، ونهاية الفناء تؤدى إلى التحقق ، والتحقق هو المرحلة النهائية فى الحياة الصوفية ، وما كانت المرحلتان السابقتان إلا مقدمتين لهذا التحقيق .
* فالمرحلة الأولى :
مرحلة المقامات التى تنتهى بمقام الحرية ، حيث يبدأ الصوفى اجتياز الطريق بالرياضيات والمجاهدات وتصفية النفس من كدورتها ومحو الأوصاف الذميمة عنها حتى يتحرر من رقها .
* المرحلة الثانية :
مرحلة الأحوال والتذوق حيث يجنى منها الصوفى ثمرة المرحلة الأولى فيستشعر حلاوة الإيمان من خلال الأذواق والمواجيد التى تظهر فى طريق الحب ثم طريق الفناء .
وبعد ما تهيأ الأمر إلى أن خضعت حياته الروحية بأسرها لحقيقة واحدة استوعبته وأخضعته لسلطانها قلبا ولسانا وجوارحا أصبح مستحقا لتلقى المعارف والحقائق التى ينور الله بها قلبه ، فيرى بنور الله ويتحرك فى ولايته .
* شكل تلخيصى للثمرة الثانية من ثمرات الحرية
[ طريق الفناء ]
……… …[6] ـــــــــــــــ الحقيقة والشريعة
… … [5] ـــــــــــــــ التلوين والتمكين
…… [4] ـــــــــــــــ المحو والإثبات
…[3] ـــــــــــــــ الغيبة والحضور
… [2] ـــــــــــــــ الجمع والفرق
[1] ـــــــــــــــ الفناء والبقاء
ــــــــــــــ………………
[ بداية الطريق ]… [ نهاية الفناء بداية الحقيقة ](200/17)
* الحقيقة والشريعة :
تتضح ملامح الشخصية النموذجية التى يسعى أوائل الصوفية لتحقيقها من خلال الترابط بين الحقيقة والشريعة ، فالشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية ، والشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده ، والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قصى وقدر (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- الرسالة حـ 1 ص 261 .
وليس معنى هذا أن الشريعة فى جانب والحقيقة فى جانب آخر ولكنهما يلتقيان ويرتبطان ويترتب أحدهما على الآخر ، فكلاهما واجب بأمر الله ، فلن يصل العبد إلى مرضاة الله إلا إذا سلم بنوعين من تدبير الله فى ملكه ، وفيهما ملتقى سعى أوائل الصوفية :
1- أن يسلم بتدبيره الشرعى .
2 - أن يسلم بتدبيره الكونى .
ففى تدبيره الشرعى كانت محاولات الأوائل فى نفى تدبيرهم إلى تدبير الله ، ومن هنا يظهر الكمال فى تحقيق الحرية بإسقاط التدبير واتباع الشريعة .
وفى تدبيره الكونى يظهر الرضا بقضاء الله وقدره ، ليشاهدوا الحقيقة الربانية فى فهم العلة الغائية من خلقه وخلق العالم بأسره وليدرك إبداع الله فى صنعه فى ترتيب الابتلاء وتدافعه وتلاحقه على العبد .
يقول القشيرى : ( كل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول كل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول ، والشريعة جاءت بتكليف الخلق والحقيقة إنباء عن تصريف الحق ، وإذا علم أن الشريعة حقيقة من حيث أنها وجبت بأمره ، فالحقيقة أيضا شريعة من حيث أن المعارف به سبحانه وتعالى وجبت بأمره ) (1) .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 261 .
فالحقيقة والشريعة ركنان أساسيان فى الحياة عند أوائل الصوفية يدوران على فلك الحرية ، حرية عقائدية فى فهمهم لخلقهم وتركيبهم وإبداعهم أحرارا بوصف الحرية ، وحرية عملية تطبيقية فى التزامهم بمنهج العبودية .(200/18)
فالأمر إفراد لله وتوحيد له فى العبودية ، وإفراد لله وتوحيد له فى الربوبية والتزاما بقوله تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } فإياك نعبد حفظ للشريعة وإياك نستعين إقرار بالحقيقة (1) .
وإذا كانت الحقيقة الصوفية مبنية على المشاهدة والمعرفة ، والمشاهدة فيها أحوال ومعان صادقة ، والمعرفة فيها صفة من عرف الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وصدق فى معاملاته ، فالأمر كله لا يخرج عن الغاية السابقة فإذا صار العبد من الخلق أجنبيا ، ومن آفات النفس بريا ومن المساكنات والملاحظات نقيا ، وصار ملهما من قبل الحق سبحانه وتعالى بمعرفة أسراره فيما يجريه من تصاريف أقداره فإنه يسمى عند ذلك عارفا ، وتسمى حالته معرفة (2) .
وإلى هنا فيما أعتقد ينكشف مفهوم القدر والحرية عند أوائل الصوفية فإن وفقت فالحمد لله وإن أخطأت فأستغفر الله لذنبى وأدعو الله أن يهئ الأسباب لخدمة الكتاب والسنة .
ــــــــــــــــــــــــ
1- السابق حـ 1 ص 261 . 2- السابق حـ 2 ص 600 .
الخاتمة
قائمة المراجع
فهرس الموضوعات
*** الخاتمة ***
بعد عرض مفهوم القدر والحرية عند أوائل الصوفية سواء كان من الناحية الاعتقادية أو الناحية العملية السلوكية ، فإن البحث جاء فى مقدمة وثلاثة أبواب ، كل باب اشتمل على فصلين ، ففى المقدمة بيان سبب اختيار البحث وأهمية الموضوع ثم منهج البحث وخطته .
وفى الباب الأول تعرفنا على مفهوم الحرية وواقع أوائل الصوفية من خلال فصلين :
أولهما جاء فيه نسبة التصوف ومعناه ودراسة العوامل التى أسهمت فى ظهوره ثم موضوع التصوف وأهم قضاياه .
وثانيهما جاء فيه معنى الحرية لغة وشرعا ثم الحرية فى تاريخ الفكرالإسلامى وكيف تكون منهجا للحياة الإسلامية الفاضلة فى شتى المجالات 0
وفى الباب الثانى تعرفنا على الحرية من الجانب الاعتقادى عند الصوفية من خلال مفهوم القضاء والقدر وعلاقته بالحرية ، وقد جاء ذلك فى فصلين :(200/19)
أولهما عن موقف أوائل الصوفية من صفات الله وعلاقته بموضوع القدر والحرية وجاء فيه منهج أوائل الصوفية فى فهم المسائل الاعتقادية وموقفهم من صفات الذات وصفات الفعل وكيف كان إفراد الله بالفاعلية من خلال فهمهم لمراتب الإيمان بالقدر هو أساس العقيدة عندهم .
وثانيهما عن الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية عند أوائل الصوفية من خلال ذكر مفهوم الذات الإنسانية عندهم ، وكيف أن الإرادة الحرة أصيلة فى الإنسان ؟ ثم دوافع الإرادة وموضوع الاختيار البشرى ومجاله عندهم ، وكيف يفسرون العلاقة بين المشيئة الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة ؟
وفى الباب الثالث تعرفنا على الحرية من الجانب العملى السلوكى من خلال فصلين أيضا :
أولهما عن الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية ، وقد جاء فيه أن الاستطاعة من مقومات الحرية عند أوائل الصوفية ، وكيف فسروا علاقتها بالعلل والأسباب ؟ وكيف تكون العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الانسانية ؟ وما هى العلة من خلق الأواسط والأسباب ؟
وفى الفصل الثانى جاء الحديث عن الحرية ومنهج العبودية من خلال اعتبارهم للعقل وما يحصله من علم ضرورة لقيام معنى الحرية ، ثم بيان الحرية فى الاصطلاح الخاص الذى قرنوه وكيف أن المقامات الصوفية فيها إرادة الحرية والأحوال الصوفية فيها ثمار الحرية ؟
* نتائج البحث وأهم التوصيات :
*أولا : نتائج البحث
يمكن تقسيم النتائج التى توصلت إليها إلى نوعين :
* النوع الأول : نتائج على مستوى موضوع البحث ، فمن خلال ما ورد فى أبواب الرسالة وفصولها وما يتعلق بموضوع الحرية يمكن أن نصل إلى النتائج الآتية :(200/20)
[1] - اتفاق المنهج الصوفى لأوائل الصوفية مع المنهج السلفى فى دراسة موضوعات العقيدة ، فكلاهما أعطى نصوص الوحى الأولوية والصدارة فى تقرير العقيدة ، وجعلوا العقل فى منزلة المتلقى الذى يستوعب ما جاء فى النقل دون اعتراض ، لأنهم أيقنوا أن الله الذى خلق العقل من المحال أن يوحى إليه ما يصادمه أو يعارضه ، كما أنهم جعلوا العقل حارسا على النقل يسير معه فى اتجاه واحد ، فلم يمنعوا إعمال العقل فى خدمة الكتاب والسنة ، ولكنهم منعوا أن يستخدم النقل للعقل مطية يوجهها هوى الإنسان كما فعل كثير من المتكلمين والفلاسفة .
[2] - أن أوائل الصوفية أثبتوا القدم فى صفات الأفعال كما أثبتوا القدم فى صفات الذات ولم يفرقوا من حيث وحدة المنهج بين صفة هى صفة ذات أو صفة هى صفة فعل ، فالقول فى صفات الذات كالقول فى صفات الأفعال ، ولا يلزم من ذلك القول بقدم العالم أو القول بأبدية المفعولات ، فالمقاييس العقلية التى تخضع لها المخلوقات لا تحكم الخالق بحال من الأحوال .
[3] - أنهم أثبتوا معية الله لخلقه فى مجال الصفات وإن شذ بعضهم وقال بالحلول والاتحاد ، إلا أن أغلب أوائل الصوفية قبحوا هذا القول وفندوه بالردود المختلفة وبيان الحق .
[4] - أنهم أفردوا الله بالخلق والفعل وجعلوا ذلك أساسا لعقيدة التوحيد وركيزة للإيمان بقضاء الله وقدره ، ومن ثم أفردوا الله بخلق أفعال العباد سواء كانت طاعة أو معصية ، كما أنهم قالوا بالتدرج فى ظهور الأشياء من كونها معلومة فى علم الله فى الأزل إلى تدوينها فى اللوح المحفوظ ثم انتقالها إلى القدر فى الخلق بالمشيئة والقضاء .
[5] - أنهم أثبتوا الاختيار الإنسانى كمقوم أول من مقومات الحرية وذلك من خلال وجود الإرادة الحرة وأصالتها فى الإنسان ، حيث تعمل فى مجال محدد بين طريقين معروضين لحظة الاختيار أحدهما يمثل طريق الخير والآخر يمثل طريق الشر .(200/21)
[6] - أنهم آمنوا بوجود زوجين متقابلين من الخواطر والبواعث الداعية إلى حث الإرادة وحضها على الحركة والعمل ، وأن هذه الخواطر مصدرها وجود نازعين نفسيين متقابلين ومتضادين ، وهما النفس فى مقابل الروح ، ثم وجود هاتفين بلمتين ودعوتين وهما الملك فى مقابل الشيطان ، حيث يتشكل حديث النفس من متابعة العقل لهذه الأركان ، كما أنهم فرقوا بين حديث النفس وكسب الإرادة بالنية وعقد القلب ، كل ذلك إثباتا لحرية الإنسان ، وتوقيعا للمسؤلية على أفعاله .
[7] - أن أغلب أوائل الصوفية جعلوا موضوع الاختيار البشرى الجنة فى مقابل النار أو تفضيل الآخرة على الدنيا ، وجعلوا مجال الاختيار محصورا فى اتباع السنة والالتزام بأحكام التكليف ، وأن بعضهم جعل موضوع الاختيار البشرى ذات الله فى مقابل التخلى عن الدنيا والآخرة وأن تكون العبادة مقطوعة عن العوض وقد خطاهم كثير من أقرانهم .
[8] - أنهم فرقوا بين مشيئة الله وإرادته ، فالمشيئة عندهم لا تكون إلا كونية ، أما الإرادة فهى على وجهين وجه كونى ووجه تشريعى فالعلاقة بين الوجه الكونى والأفعال الإنسانية علاقة إيجاد وإنفاذ فلا تتخلف فإذا أراد الله شيئا أن يقول له كن فيكون ، أما العلاقة بين الوجه التشريعى والإرادة الإنسانية فهى علاقة تكليف وابتلاء فقد تتخلف فالإرادة الكونية والإرادة التشريعية تجتمعان فى المؤمن وتفترقان فى الكافر .
[9] - أن أوائل الصوفية أثبتوا استطاعة الإنسان الذاتية على تنفيذ الفعل المختار وجعلوا ذلك من مقومات الحرية وأنها تكون مع الفعل لا تتقدمه ولا تتأخر عنه ، وأن الله سخر الأشياء للإنسان بحيث تسمح بقبول فعل الإنسان وتأثيره فيها واستعلائه عليها ، ليتحقق معنى الابتلاء باستخلافه فى الأرض .(200/22)
[10] - أن عقيدة الصوفية الأوائل فى التوكل تنفى عنهم تهمة التواكل والاعتماد على الجبرية الإلهية ، فهم نظروا للأسباب على أنها أدوات بيد القدرة لتنفيذ مراد الله ، فليس لها فاعلية مستقلة عن فعل الله ولكن الله نظمها لإبراز الحكمة من خلق السماوات والأرض فجعل فى الأشياء أسباب حق وأواسط صدق تحتجب من خلالها صفاته الفاعله عن الخلق ليبتليهم .
فالجوارح تتوجه عندهم إلى الأسباب والقلب يتوجه إلى الله على الدوام راضيا بما سيمنحه الله له من خزائن القدرة ، ومن ثم فإن نفوسهم تسكن إلى الله قبل كل شئ سواء كان الرزق بأسباب أو بغير أسباب ، وهذا المفهوم يعد بحق معبرا عن عقيدة السلف الصالح المبنية على القرآن والسنة فى إظهار دقائق التوحيد ونفى الشرك الجلى والخفى فى السكون إلى الأسباب أو نسبة الإيجاد والامداد إليها .
وكما أنهم أثبتوا وجهين لإرادة الله كذلك أثبتوا وجهين للأفعال البشرية ، وجه الفعل فيه مخلوق لله ، ووجه الفعل فيه مكتسب للعبد يمثل سلوكا خلقيا له ، فبالوجه الأول يظهر معنى كونهم مربوبين لله ، وبالوجه الثانى يظهر معنى كونهم متعبدين بمنهج الله .
وكل ذلك موافقة لقوله تعالى : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) (1) .
[12] - أنهم أثبتوا العلم كمقوم ثالث للحرية ، فالإنسان معذور بجهله عندهم حتى يعلم الأحكام ويعقل مدلول الكلام ، وفى إيمانهم بتعليم الله لآدم الأسماء دعوة إلى العلم والبحث والنظر واستخدام العقول لخدمة دين الله وبما يعود على العبد من الوصول إلى مرضاة الله .(200/23)
[13] - أن أوائل الصوفية لهم السبق فى إنشاء اصطلاح للحرية يغاير المفاهيم الفلسفية والكلامية ويحمل فى طياته تكامل المذهب فى إثبات الحرية بالعبودية لله والتحرر مما سواه ، سواءا كانت الحرية فى القلب أو اللسان أو الجوارح ، فمقدار الحرية فى الإنسان يتحدد بمقدار العبودية لله والخروج من عبودية ما سواه .
[14] - أن أوائل الصوفية رسموا طريقا للحرية من خلال المقامات
ــــــــــــــــــــــــ
1- الليل / 5 : 10 .
والمجاهدات التى تزيد الإيمان شيئا فشيئا حتى يصل إلى الكمال فيه ويبدأ الطريق بمقام التوبة ثم الورع والزهد والصبر والتوكل والرضا وينتهى بالحرية ، فالحرية عندهم آخر مقام للعارف ، ثم جعلوا لحلاوة الإيمان مذاقا يتمثل فى طريق الحب وطريق الفناء إلى أن يصل العارف إلى التحقق ، وكل ذلك ليس نحتا من أذهانهم لخدمة قضايا الإيمان وفقط ولكن تعبيرا عن وجدانهم وتجربتهم التى خاضوها ، فأسفرت عن هذه المعانى والحقائق ، وعلى ذلك فإنهم وفقوا إلى التخلص من المتناقضات واللوازم فى العلاقة التى تربط بين الله وبين الإنسان من ناحية وبين الله والعالم من ناحية أخرى بحيث يمكن القول إن مذهب أوائل الصوفية يعبر بصدق عن حقيقة هذه العلاقة ، فهو لا يختلف إلى حد ما عن منهج الكتاب والسنة فى عرض الموضوع ، فالعلاقة بين الله وبين الإنسان هى علاقة عبودية يؤديها الإنسان لربه من خلال معنى الابتلاء فى الأرض والاستخلاف فيها ، والله سبحانه وتعالى كيفه بالصورة التى تمكنه من تحقيق هذه الغاية ووهبه كل مقومات الحرية السابقة ليعى دوره فى الحياة ، ويعقل الأشياء عن الله ويتحمل المسئولية عن أفعاله الخلقية ، فيتحقق معنى العدل والجزاء .(200/24)
كما أن العلاقة بين الله والعالم فى تصورهم هى علاقة ربوبية فالخلق كله مربوب لله انفرد الله بإيجاده وتسييره بقدرته وانفرد برعايته وعنياته ولطفه ، فلم يخلق الخلق وينعزل عنه كما هو الحال عند الفلاسفة أو خلقه وجعل عقولا فعالة تنفرد بتسييره وتدبير حاله من دونه كما هو الحال فى اعتقاد غلاة الصوفية فى الأقطاب التى تتحكم فى الكون بتفويض من الله ، أو أن الطبيعة هى التى تحكم قدرته سبحانه وتعالى فلا يفعل إلا من خلال قوانينها وكل هذه المنزلقات الفكرية ردها أوائل الصوفية وأمنوا بأن الأسباب الموضوعة فى الكون سواء كانت أسبابا غيبية أو أسبابا مشهودة ما هى إلا مجرد أدوات فى يد القدرة يفعل الله بها أو بغيرها .
فمن جانب ينصر بها أولياءه على أعدائه فيؤيدهم بالأسباب وغيرها فتظهر المعجزات للرسل والكرامات للأولياء ، ومن جانب ينظرون فى بديع الصنع فيزدادون إيمانا ، كل ذلك يضاف إلى أن الله خلق الدنيا وسيلة إلى الآخرة وليست غاية ، فإذا أدرك الإنسان ذلك جعل اهتمامه منصبا فى الغاية من خلقه ، وتملكته عبودية ربه فلا يحزن لفوت لذة أو يفرح بتحصيل عاجل لعلمه أن الله يقلب الأمور ويصرفها ابتلاءا واختبارا ، فيعمل للإعداد لدار البقاء حيث النعيم المقيم والفرح الدائم الذى لا ينقطع .
إن الحرية الحقيقية للذات الإنسانية لا تؤتى ثمارها عند أوائل الصوفية إلا إذا أدرجت فى الحسبان موقفها من الموت وما بعده فالذى يرى الموت عدما يحاول أن يغتنم الحياة كدار للنعيم يلتهم منها على قدر ما يستطيع ويغفل الجانب الحقيقى لمعنى الحياة والحكمة الإلهية من إنشائها ، فيتخبط فى سلوكه مرة بين الحسرة ومرة بين التناسى ، ولا بد من حتمية اللقاء المرتقب الذى حاول أن يتملص منه بالهروب إلى هوى النفس والخضوع له .(200/25)
ومن ثم يمكن القول أن خلق الإنسان بإرادة حرة يمثل عند أوائل الصوفية وسيلة لإبراز هذه الغاية الحقيقية فى ميدان العبودية والمجاهدات أو ميدان إرادة الحرية .
فالكمال الإنسانى يكمن فى ارتقاء الانسان إلى ما فوق سلطان الشيطان والشر والنفس ، ودخول الانسان فى عبودية الله بإرادته هو السبيل الوحيد عند أوائل الصوفية للمحافظة على حريته وتحقيق ذاته ، إذ أنه يضع نفسه فى موقعه الصحيح بين الكائنات فينضم إليها ويشاهدها عابدة بحقيقة الربوبية فينخرط معها بنفى تدبيره إلى تدبير الله ، وخضوعه وإخضاعه لما منحه الله من نعم وفضل مما يجعل الإنسان كائنا على قمة الكائنات .
وإذا كانت المطالب الإنسانية إما مادية تخدم حاجات الانسان الجسمية كالأكل والشرب والملبس وغيرها أو مطالب روحية تخدم حاجة الروح فى الاستقامة وراحة الضمير ، فإن أوائل الصوفية بينوا الموقف الصحيح من خلال رؤيتهم للخلاص من كل الضروريات النفسية والطبيعية التى ابتلاهم الله بها وقدموا رؤية ناجحة لاستعلاء الإنسان على الحياة وحفظ كرامته بين خلق الله ، وذلك من خلال اختياره لربه دون غيره ليسلم له نفسه وماله وكل ما يملك .
* النوع الثانى :
نتائج على مستوى موضوع التصوف ، فمن خلال البحث عن مادة الموضوع فى تراث التصوف يمكن استخلاص النتائج التالية :(200/26)
[1] - أن العلوم الموروثة عن أوائل الصوفية نتاج للتعبيرات الوجدانية الناشئة من دخول المسلم للمعامل الإيمانية ، فهو اجتهاد لطائفة من المسلمين الأوائل فى شرح طبيعة الحالة الإيمانية عند المرور بها أو الوصول إلى منتهاها ، فهو فكر قائم على خدمة العقل والوجدان لإبراز مصطلحات خاصة بالمراحل الإيمانية ممثلة فى المقامات والمذاقات الإيمانية ممثلة فى الأحوال ، وهذا الفكر قد يلتقى مع الوحى وقد يفترق عنه شأنه فى ذلك شأن العلوم الأخرى ، ومن الخطأ الكبير أن يتصور البعض أن فكر أوائل الصوفية هو الإسلام فالإسلام فاضت منه العلوم بغزارة كان التصوف واحدا من تلك العلوم .
ومن ثم فإن التصوف من حيث المبدأ أصيل المنشأ فى البيئة الإسلامية ، فلا مؤثرات أجنبية ملحوظة حتى القرن التالث الهجرى على الأقل ، فالأمر طالما أنه اجتهاد لخدمة الدين وتجسيد لمذاقات العبودية فى صورة نظرية فمن المعقول أن يختلف الأمر من شخص إلى آخر ومن مذاق إلى آخر ، ومن ثم فسوف يأخذ منه ويرد وسوف يخضع لعوامل التطور واحتمال الخطأ والصواب والنقد والمخالفة .
[2] - أن التوحيد الصوفى عند أغلب أوائل الصوفية لا يجافى التوحيد السنى بل يتآزران فى التعبير عن عقيدة الكتاب والسنة فالتوحيد الصوفى لأوائل الصوفية شدد على ضرورة التخلص من خفايا الشرك والرياء والكبر وعبودية الدرهم والدنيار والنفس والشيطان ، ولم يثبت عن واحد منهم أنه بنى مسجدا على قبر شيخ من شيوخه أو أقام مولدا أوفعل ما يفعله كثير من أصحاب الطرق الصوفية فى العصر الحاضر من دعاء الأموات والعكوف على قبور المشايخ والنذر لهم والاستعانة بهم والتوكل عليهم أو شد الرحال إليهم بل أقوالهم فى التوحيد تدل على السمو فى تحقيقه وتجسيده .(200/27)
[3] - مقاومة أغلب أوائل الصوفية بصورة شديدة للتقصير فى العبادات بدعوى الإنمحاء وسقوط أوصاف البشرية ، وكذلك منعوا النظر إلى الأحداث والإجتماع بهم ورأوا أن ذلك محرم وكل من أجاز ذلك
فهو مشرك على حد تعبير الهجويرى فى كشف المحجوب (1) .
وكذلك قاوموا بشدة مرافقة النسوان والاختلاط بهم والاستتار تحت المرقعات والتواكل وسؤال الناس والذكر بالرقص المعهود على عكس ما هو قائم فى الطرق الصوفية حاليا وأنه لا أساس للرقص فى الدين ولا فى طريق أوائل الصوفية ولا قال به أحد من المشايخ .
وكذلك قاوموا كل ما يحدث فى مجالس السماع من حركات تحت اسم الانجذاب أو الولاية فالتصوف كان يحمل المعانى الإيجابية ويحض على الاتباع دون الإبتداع .
[4] - أن السلبيات الصوفية التى وجدت عند الأوائل وأثرت على الزيادة فى زاوية الانحراف عبر القرون ثثمثل فيما يأتى :
ا - الغلو فى الطاعة والالتزام بما ليس بلازم من الأحكام ، فكثير منهم نزل المندوب منزلة الوجوب وشق على نفسه فى كثير من النواحى التى جعل الشرع فيها مندوحة وسعة فأصبحت هذه الالتزامات سنة عند المتأخرين لا يسعهم الخروج عنها وكل طريقة شددت على المريدين فى الالتزام بمنهجها الخاص وإن لم ينسجم مع السنة فى كثير من النواحى .
ب ــ اتباع الكثير من العامة للتصوف عن جهل بحقيته فتشبهوا ــــــــــــــــــــــــ
1- كشف المحجوب ص 502 .
بالمشايخ فى ظاهر اللباس ومعظم الشطحات والزلات ثم اجتهدوا فى نماء ذلك بجهلهم فضلوا وأضلوا وحسب ذلك على التصوف .
وقد كان لهذا العامل من التأثير ما فتح الباب لدخول عوامل الهدم والمكيدة للإسلام والمسلين تحت عباءة التصوف فدخلت المؤثرات الأجنبية واختلطت الأمور .(200/28)
جـ ــ وجود بعض الآراء المتطرفة التى ألصقها الناس فى أذهانهم بعامة الصوفية دون بعضهم ، فآراء الحلاج وشطحات أبى يزيد البسطامى والشبلى والنورى وغيرهم جعلت الناس يرفعونها على حساب التصوف من ناحية ، وإهمال الموقف الإيجابى للمشايخ فى التبرؤ منها وتقبيحها من ناحية أخرى ومما زاد فى الصاق هذه الأفكار بهم أنها وجدت قوة لتثبيتها وإظهار شوكتها عند ابن عربى وابن الفارض وغيرهما فأثمرت هذه الآراء علقما وحنظلا ذاق المسلمون مرارته .
د ــ الاستغلال السيئ لبعض المصطلحات الصوفية من قبل المرتسمين بالتصوف أو المعادين له ، فمن خلال عرض أوائل الصوفية لأقوال المخطئين فى فهم هذه المصطلحات ، يستطيع الباحث أن يرى مدى الجهد المبذول لكشف المقصود فى استعمال المصطلح المعين من ناحية ، وفهم الأثر السيئ لهذه المصطلحات والجهد المطلوب لرده من ناحية أخرى .
* ثانيا أهم التوصيات
[1] - أوصى المسلم أن يتبع الشرع بميزان الاعتدال ، لأن الغلو ابتداع فى دين الله وقدح فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصف لأصحابه بالتقصير فى الالتزام ولذلك قال حذيفة بن اليمان : ( كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تتعبدوا بها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا ، فاتقوا الله يامعشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم ) (1) .
كما أن الغلو فى جانب سوف يؤدى إلى التقصير فى جانب آخر على وجه الضرورة ، فاستطاعة الإنسان محدودة وقدرته مهما بلغت تتأثر بضعفه فى النواحى الأخرى ، والله سبحانه كلفنا بمنهج يتناسب مع فطرتنا فقال سبحانه: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (2) فالمنهج الإسلامى فيه الخير
ــــــــــــــــــــــــ(200/29)
1- انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائى حـ 1 ص90 ، وحلية الأولياء حـ 1 ص 280 ، وأخرج البخارى نحوه عن حذيفة رضى الله عنه انظر كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم (7282 ) .
2- البقرة / 286 .
ولا خير أفضل منه .
[2] - وجوب الاعتدال فى النظر إلى التصوف ورجاله ، فكل يأخذ من كلامه ويرد ولا يصح التحامل عليهم مطلقا ولا الموافقة لهم مطلقا صحيح أن الواقع الصوفى فى العصر الحاضر يكوِّن صورة بغيضة عن الصوفية وأبناء جنسهم مطلقا ، لكن الله أمرنا بالعدل فقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } (1) .
فمشايخ الصوفية الأوائل لهم كلام بديع يعبر عن حقيقة الدين ولبعضهم شطحات فى بعض الأوقات تخرج عن حد الدين .
قد أحسن شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال : ( تنازع الناس فى طريقتهم ، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا : إنهم مبتدعون خارجون عن السنة ، وطائفة غالت فيهم وادعو أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء ، والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين ، وفى كل من الصنفين من قد يجتهد
ــــــــــــــــــــــــ
1- المائدة / 8 .
فيخطئ ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لايتوب (1) .(200/30)
[3] - ضرورة إبراز المعانى الاسلامية من خلال مصطلح الحرية للشباب المسلم فى العصر الحاضر حتى يتمكن من فهم الطريقة السليمة للتفكير فى الحياة واجتياز عوائقها إلى السعادة فى الدنيا والآخرة فقد نجح الصوفية الأوائل عندما ربطوا الحرية بالعبودية فى رفع الضغوط النفسية والتحرر منها ، ورفع تأثير الضروريات المادية عن سلوكهم وحياتهم ، ومن جانب آخر حققوا الغاية من خلقهم ووضعوا أنفسهم فى الموضع الصحيح من هذا الكون حيث قال تعالى :
{ وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون } (2) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
** ** **
ــــــــــــــــــــــــ
1- الصوفية والفقراء ص 6 ، 7 .
2- الذاريات / 56 .
*** مراجع الرسالة ***
الإبانة عن أصول الديانة ، للإمام أبى الحسن الأشعرى تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود ، طبعة دار الأنصار ، القاهرة سنة 1397 هـ .
الإحسان فى تقريب صحيح ابن حبان ، تأليف الإمام ابن أبى حاتم محمد بن حبان البستى ، تحقيق شعيب الأرنؤوط ، طبعة مؤسسة الرسالة ، بيروت سنة 1988م .
إحياء علوم الدين ، للإمام أبى حامد الغزالى ، طبعة دار إحياء الكتب العربية ، عيسى الحلبى ، القاهرة سنة 1377 هـ ، 1957م .
أخبار الحلاج ، جمع الأستاذين : لويس ماسينيون ، وبول كراوس طبع فى باريس سنة 1936م .
آداب المريدين ، تأليف أبى النحيب ضياء الدين السهروردى تحقيق فهيم محمد شلتوت ، طبعة دار الوطن العربى ، القاهرة ، بدون تاريخ .
آداب المريدين وبيان الكسب ، للإمام الحكيم الترمذى ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح عبدالله بركة ، طبعة مطبعة السعادة ، القاهرة بدون تاريخ .
أدب النفس ، للإمام الحكيم الترمذى ، تحقيق الأستاذ ج أربرى والدكتور على حسن عبد القادر ، طبعة مصطفى البابى الحلبى القاهرة سنة 1974 م(200/31)
أستاذ السائرين الحارث بن أسد المحاسبى ، تأليف الدكتور عبد الحليم محمود ، طبعة دار الكتب الحديثة ، القاهرة سنة 1973م .
الاستقامة ، لإبى العباس تقى الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ، طبعة مؤسسة قرطبة الطبعة الثانية ، القاهرة ، بدون تاريخ .
أصول الدين ، تأليف عبد القادر بن طاهر البغدادى ، طبعة استانبول ، تركيا سنة 1346 هـ ، 1928م .
أصول الملامتية وغلطات الصوفية ، تأليف الإمام أبى عبد الرحمن السلمى ، تحقيق الدكتور عبد الفتاح أحمد الفاوى محمد طبعة مطبعة الإرشاد ، القاهرة سنة 1405 هـ ، 1985م .
الاعتبار ببقاء الجنة والنار ، تأليف الإمام أبى الحسن تقى الدين السبكى ، تحقيق الدكتور طه الدسوقى حبيشى ، طبعة مطبعة الفجر الجديدة ، القاهرة سنة 1407 هـ ، 1987م .
الاعتصام ، لأبى اسحاق ابراهيم بن موسى بن محمد اللخمى الشاطبى ، طبعة المكتبة التجارية الكبرى ، القاهرة ، بدون تاريخ .
الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة ، للإمام أبى بكر أحمد بن الحسين البيهقى ، تحقيق أحمد عصام الطالب ، طبعة دار الأوقاف الجديدة ، بيروت بدون تاريخ .
الأعلام ، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء والنساء من العرب والمستعربين فى الجاهلية والإسلام ، تأليف خيرى الدين الزركلى ، طبعة المطبعة العربية ، القاهرة ، سنة 1927م .
أعمال القلوب والجوارح ، لأبى عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، طبعة دار التراث العربى القاهرة ، سنة 1400هـ ، 1980م .
الاقتصاد فى أصول الاعتقاد ، تأليف الإمام أبى حامد الغزالى طبعة دار الأمانة ، بيروت ، سنة 1969م .
اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ، تأليف شيخ الإسلام تقى الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، تحقيق الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل ، طبعة مؤسسة العبيكان ، الرياض سنة 1404هـ ، 1986م .(200/32)
الأمر بالاتباع والنهى عن الابتداع ، للحافظ جلال الدين السيوطى ، تحقيق مشهور حسن سليمان ، طبعة دار الأرقم ، الدمام سنة 1410هـ ، 1990م .
الأم ، للإمام محمد بن إدريس الشافعى ، طبع بعناية محمد زهرى النجار ، طبعة دار المعرفة ، الطبعة الثانية ،بيروت ، لبنان سنة 1393هـ .
الانتصار والرد على ابن الروندى الملحد ، لأبى الحسين الخياط ، نشرة الدكتور نيبرج ، طبعة القاهرة سنة 1344هـ ، 1925م
البداية والنهاية ، لأبى الفداء إسماعيل بن عمرو بن كثير القرشى الدمشقى ، طبعة المطبعة السلفية ، القاهرة سنة 1351 هـ 1932م .
البراهين الساطعة فى رد بعض البدع الشائعة ، تأليف الشيخ سلامة العزامى تقديم الشيخ الكوثرى ونجم الدين الكردى ، طبعة مطبعة السعادة ، القاهرة سنة 1366 هـ ، 1948م .
تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام ، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الذهبى ، طبعة مكتبة القدس ، القاهرة سنة 1367 هـ .
تاريخ بغداد ، تأليف أبى بكر أحمد بن على الخطيب البغدادى ، طبعة مطبعة السعادة ، القاهرة 1349هـ ، 1931م .
تاريخ التصوف الإسلامى من البداية حتى نهاية القرن الثانى للدكتور عبد الرحمن بدوى ، طبعة وكالة المطبوعات ، الكويت ، سنة 1975 م .
تاريخ التصوف فى الإسلام ، تأليف قاسم غنى ، ترجمه عن الفارسية صادق نشأت ، طبعة النهضة المصرية ، القاهرة سنة 1390هـ ، 1970م .
تاريخ الرسل والملوك ، لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى تحقيق أبو الفضل إبراهيم ، طبعة دار المعارف ، القاهرة سنة 1383هـ ، 1964م .
التاريخ الكبير ، لأبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى طبعة مطبعة دائرة المعارف النظامية ، حيدر آباد ، الهند ، سنة 1360هـ .
تاريخ المذاهب الإسلامية فى السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية للإمام محمد أبو زهرة ، طبعة دار الفكر العربى ، القاهرة بدون تاريخ .
تذكرة الأولياء ، لفريد الدين العطار ، القاهرة ، بدون تاريخ(200/33)
التصوف طريقا وتجربة ومذهبا ، تأليف الدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر طبعة دار الكتب الجامعية ، القاهرة سنة 1390هـ 1970م .
التصوف فى الإسلام وأهم الاعتراضات الواردة عليه تأليف الدكتور عبد اللطيف محمد العبد ، طبعة دار الثقافة العربية ، القاهرة سنة 1407 هـ ، 1986م .
التصوف فى تراث ابن تيمية ، تأليف الدكتور الطبلاوى محمود سعد ، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة سنة 1405 ، 1984 م .
التعرف لمذهب أهل التصوف ، لأبى بكر محمد الكلاباذى تحقيق محمود أمين النواوى ، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ، القاهرة سنة 1400 هـ 1980م .
التعليقات ، وهى رسالة ضمن أحد عشر رسالة للفارابى طبعة دائرة المعارف العثمانية ، حيدر آباد الهند ، سنة 1354هـ .
تفسير القرآن العظيم ، لأبى الفداء إسماعيل بن كثير القرشى الدمشقى ، طبعة دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة بدون تاريخ .
تفسير القرآن العظيم ، لأبى محمد سهل بن عبد الله التسترى طبعة دار الكتب العربية الكبرى ، القاهرة سنة 1329هـ .
تلبيس إبليس ، لأبى الفرج عبد الرحمن بن الجوزى ، طبعة مطبعة القاهرة الحديثة للطباعة ، القاهرة ، سنة 1391هـ ، 1971م .
التنوير فى إسقاط التدبير ، تأليف ابن عطاء السكندرى تحقيق موسى محمد على الموشى ، وعبد العال أحمد العرابى القاهرة بدون تاريخ .
تهافت الفلاسفة ، لأبى حامد الغزالى ، تحقيق سليمان دنيا طبعة دار المعارف ، الطبعة الثالثة ، القاهرة ، سنة 1972م .
تهذيب الكمال فى أسماء الرجال ، لأبى الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف الدمشقى ، طبعة دار الكتب المصرية ، القاهرة بدون تاريخ .
توحيد الربوبية ، ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد طبعة دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية ، الرياض ، سنة 1381هـ .(200/34)
جامع البيان عن تأويل القرآن لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى ، طبعة دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، سنة 1398هـ 1978م .
الجامع الصحيح ، للإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقى ، مع فتح البارى طبعة دار الريان للتراث ، القاهرة سنة 1407 هـ ، 1986 م .
الجامع الصحيح ، للإمام مسلم بن الحجاج القشيرى ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقى ، طبعة المكتبة السلفية ، القاهرة ، بدون تاريخ .
جامع العلوم والحكم ، للإمام ابن رجب الحنبلى ، طبعة مصطفى البابى الحلبى ، القاهرة ، سنة 1369هـ ، 1948 م .
الحرية فى الإسلام ، تأليف الشيخ محمد الخضر حسين طبعة دار الاعتصام للطباعة الإسلامية ، القاهرة ، سنة 1403 هـ 1982م .
الحرية فى الإسلام ، تأليف الدكتور عبد الواحد وافى ضمن سلسلة كتاب اقرأ .
الحكيم الترمذى ونظريته فى الولاية ، للدكتور عبد الفتاح عبدالله بركه طبعة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف القاهرة سنة 1391هـ ،1971م .
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ، لأبى نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهانى ، طبعة مطبعة السعادة ، القاهرة سنة 1351هـ .
الحياة الروحية فى الإسلام ، تأليف الدكتور محمد مصطفى حلمى ، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة سنة 1984م .
ختم الأولياء ، تأليف الشيخ أبى عبد الله محمد بن الحسن الحكيم الترمذى ، تحقيق عثمان إسماعيل يحى ، طبعة المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، 1965م .
خلق أفعال العباد ، للإمام محمد بن البخارى ، تحقيق على سامى النشار وعمار الطالبى ، طبعة منشأة المعارف ، الإسكندرية سنة 1971م .
درء تعارض العقل والنقل ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، السعودية سنة 1403 هـ 1983م .
دراسات فى الفلسفة الإسلامية ، تأليف الدكتور محمود قاسم طبعة مكتبة القاهرة الحديثة ، القاهرة سنة 1972م .(200/35)
الدر المنثور فى التفسير بالمأثور ، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطى طبعة دار الفكر ، القاهرة ، بدون تاريخ .
الرد على الجهمية ، تأليف عثمان بن سعيد الدارمى ، تحقيق على سامى النشار ، وعمار الطالبى ، ضمن عقائد السلف ، القاهرة بدون تاريخ .
الرد على الزنادقة والجهمية ، للإمام أحمد بن حنبل ، نشرة قصى محب الدين الخطيب ، طبعة المطبعة السلفية ، القاهرة ، سنة 1399هـ .
الرزق الحلال وحقيقة التوكل على الله ، للحارث بن أسد المحاسبى ، تحقيق محمد عثمان الخشت ، طبعة مطبعة القرآن القاهرة سنة 1405هـ ، 1984م
الرسالة العرشية ، وهى رسالة ضمن مجموعة تسع رسائل لابن سينا ، طبعة مطبعة كردستان العلمية ، سنة 1328هـ .
رسالة فى سر القدر ، لابن سينا ، ضمن الرسائل السابقة .
الرسالة القشيرية ، للإمام أبى القاسم عبد الكريم القشيرى تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، ومحمود بن الشريف ، طبعة دار الكتب الحديثة ، القاهرة سنة 1974م .
الرياضة وأدب النفس ، للحكيم الترمذى ، تحقيق الأستاذ ج أربرى والدكتور على حسن عبد القادر ، طبعة مصطفى البابى الحلبى ، القاهرة سنة 1947م .
زاد المسير فى علم التفسير ، لأبى الفرج جمال الدين بن الجوزى ، تحقيق محمد عبد الرحمن عبد الله ، طبعة دار الفكر الإسلامى ، القاهرة سنة 1987 م
السلوك ، ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ، طبعة دار الإفتاء ، المملكة العربية السعودية ، سنة 1381هـ .
سنن ابن ماجه لأبى عبد الله محمد بن يزيد القزوينى بن ماجه ، تحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقى ، طبعة عيسى الحلبى ، القاهرة سنة 1372هـ ، 1952م .
سنن أبى داود ، لأبى داود سليمان بن الأشعث السجستانى ، تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد ، طبعة المكتبة التجارية ، القاهرة سنة 1369هـ .(200/36)
سنن الترمذى ، لأبى عيسى محمد بن عيسى الترمذى ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ، طبعة مطبعة المدنى ، القاهرة سنة 1384هـ 1964م .
سنن الدارمى ، لأبى محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمى ، تحقيق محمد أحمد دهمان ، طبعة دار إحياء السنة النبوية ، القاهرة ، بدون تاريخ .
السنن الكبرى ، لأحمد بن الحسين البيهقى ، طبعة دار الفكر العربى ، دمشق سوريا ، ومعه الجوهر النقى لابن التركمانى ، بدون تاريخ .
سنن النسائى ، شرح السيوطى ، لأبى عبد الرحمن بن شعيب بن على النسائى طبعة المطبعة المصرية ، مصطفى الحلبى القاهرة ، سنة 1383هـ ، 1964م
السياسة الشرعية ونظام الدولة الإسلامية فى الشئون الدستورية والخارجية والمالية للشيخ عبد الوهاب خلاف ، طبعة دار الأنصار ، القاهرة سنة 1977م .
سير أعلام النبلاء ، لأبى عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى ، طبعة دار الكتب المصرية ، القاهرة ، بدون تاريخ .
سيرة الشيخ الكبير أبىعبد الله محمد بن خفيف الشيرازى ، تأليف أبى الحسن على بن محمد الديلمى ، تحقيق الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا ، طبعة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف ، القاهرة سنة 1397هـ ، 1977م
السيرة النبوية ، لأبى محمد عبد الملك بن هشام ، تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد ، طبعة مطبعة المدنى ، القاهرة سنة 1383هـ .
شذرات الذهب فى أخبار من ذهب ، لأبى الفلاح عبد الحى بن أحمد الصالحى المشهور بابن العماد الحنبلى ، طبعة مكتبة القدسى ، القاهرة ، سنة 1350هـ .
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، تأليف أبى القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبرى اللالكائى ،تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان طبعة دار طيبة ، الرياض سنة 1409هـ ، 1988م .
شرح السنة ، للإمام الحسين بن مسعود الفراء البغوى ، تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناؤوط ، طبعة المكتب الإسلامى ، القاهرة 1396 هـ .(200/37)
شرح العقيدة الطحاوية ، لابن أبى العز على بن على الحنفى ، تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألبانى ، طبعة المكتب الإسلامى القاهرة سنة 1392 هـ .
الشريعة ، لأبى محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادى الأجرى ، تحقيق الشيخ محمد حامد الفقى ، طبعة أنصار السنة المحمدية ، القاهرة 1369 هـ .
شفاء العليل فى مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل ، تأليف الإمام شمس الدين محمد ابن القيم الجوزية ، طبعة دار الفكر ، القاهرة ، سنة 1398 هـ ، 1978 م .
صحيح ابن حبان ، لأبى حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمى تحقيق الشيخ أحمد شاكر ، طبعة دار المعارف ، القاهرة ، سنة 1372 هـ .
صحيح الجامع ، للشيخ محمد ناصر الدين الألبانى ، طبعة المكتب الإسلامى ، الطبعة الثانية ، دمشق ، سوريا ، سنة 1399هـ .
الصفدية ، لأبى العباس تقى الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ، طبعة دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية ، الرياض ، سنة 1406 هـ .
صفة الصفوة ، للإمام جمال الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزى ، طبعة دار الصفا ، القاهرة سنة 1411هـ .
الصلاه ومقاصدها ، لأبى عبد الله محمد بن الحسن الحكيم الترمذى ، تحقيق الأستاذ حسنى نصر زيدان ، طبعة القاهرة سنة 1965م .
الصوفية والفقراء ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، تقديم الدكتور محمد جمسل غازى ، طبعة مكتبة المدنى ، جدة ، السعودية ، بدون تاريخ .
صيد الخاطر ، للإمام جمال الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزى ، طبعة دار الفكر العربى ، دمشق ، سوريا سنة 1380هـ .
طبقات الشافعية الكبرى ، لتاج الدين عبد الوهاب بن على السبكى ، تحقيق عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحى ، طبعة المطبعة الحسينية ، القاهرة ، 1324هـ .
طبقات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى ، تحقيق نور الدين شريبه ، طبعة مكتبة الخانجى ، القاهرة سنة 1372 هـ .(200/38)
الطبقات الكبرى ، لعبد الوهاب بن أحمد بن الشعرانى ، طبعة بولاق ، القاهرة سنة 1914م .
طبقات المعتزلة ، لأحمد بن يحى بن المرتضى ، تحقيق سوسنه ديفشلد فيلزر ، طبعة المطبعة الكاثوليكية ، بيروت ، بدون تاريخ .
الطرق الصوفية فى مصر نشأتها ونظمها ، للدكتور عامر النجار ، طبعة مكتبة الأنجلو مصرية ، القاهرة ، سنة 1987م .
طريق الهجرتين وباب السعادتين ، تأليف شمس الدين بن القيم الجوزية تحقيق محب الدين الخطيب ، طبعة المكتبة السلفية ، سنة 1407 هـ .
الطواسين ، لأبى المغيث الحسين بن منصور الحلاج ، نشره الأستاذ لويس ماسينيون ، طبعة باريس سنة 1913 م .
عوارف المعارف ، للإمام شهاب الدين أبى حفص بن عمر السهروردى ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف طبعة مطبعة السعادة القاهرة سنة 1971 م .
العواصم من القواسم فى تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم ، تأليف القاضى أبى بكر بن العربى ، تحقيق محب الدين الخطيب ، طبعة المكتبة السلفية ، الطبعة الخامسة ، القاهرة ، سنة 1399 هـ .
العواصم والقواسم فى الذب عن سنة أبى القاسم ، لابن الوزير، تحقيق شعيب الأرناؤوط ، طبعة مؤسسة الرسالة ، بيروت لبنان ، بدون تاريخ .
عيوب النفس ، لأبى عبد الرحمن السلمى ، تحقيق مجدى فتحى السيد ، طبعة مكتبى الصحابة ، طنطا ، مصر ، سنة 1408هـ ، 1987م .
فتح البارى شرح صحيح البخارى ، للإمام الحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلانى ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى ، طبعة دار الريان للتراث ، القاهرة سنة 1407 هـ ، 1986م .
فتح القدير الجامع بين فنى الرواية والدراية من علم التفسير ، للأمام محمد بن على بن محمد الشوكانى ، طبعة مصطفى البابى الحلبى ، القاهرة سنة 1383هـ .
الفتوحات المكية ، لأبى بكر محى الدين محمد بن على بن محمد الشهير بابن عربى ، طبعة بولاق ، القاهرة ،سنة 1293 هـ .(200/39)
الفتوى الحموية الكبرى ، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية ، طبعة روضة الفسطاط ، القاهرة سنة 1398هـ .
الفرق بين الفرق ، تأليف عبد القادر بن طاهر بن محمد البغدادى ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، سنة 1405هـ ، 1985م .
الفصل فى الملل والأهواء والنحل ، تأليف الإمام أبى محمد على بن أحمد بن حزم الظاهرى ، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم نصر والدكتور عبد الرحمن عميرة ، طبعة دار الجبل ، بيروت ، لبنان سنة 1405هـ ، 1985م
فصول فى التصوف ، تأليف الدكتور حسن محمود عبد اللطيف الشافعى ، طبعة دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة سنة 1991هـ .
فضائح الباطنية ، للإمام أبى حامد الغزالى ، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوى ، طبعة القاهرة ، سنة 1964م .
فوات الوفيات ، لابن شاكر الكتبى ، تحقيق محمد بن محى الدين عبد الحميد طبعة بولاق ، القاهرة ، سنة 1951م .
الفهرست ، تأليف محمد بن اسحاق بن النديم ، طبعة المكتبة التجارية الكبرى ، القاهرة ، سنة 1348هـ .
القصد والرجوع إلى الله ، لأبى عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، طبعة دار التراث العربى ، القاهرة ، سنة 1400هـ ، 1980م .
القضاء والقدر فى الإسلام ، تأليف الدكتور فارق أحمد الدسوقى ، طبعة دار الدعوة ، الإسكندرية ، سنة 1984هـ .
قضية التصوف المنقذ من الضلال ، للدكتور عبد الحليم محمود ، طبعة دار المعارف ، الطبعة الثانية ، القاهرة سنة 1985 م .
قوت القلوب فى معاملة المحبوب ، للشيخ أبى طالب محمد بن أبى الحسن على بن عباس المكى ، طبعة مكتبة المتنبى ، القاهرة سنة 1310هـ .
الكامل فى التاريخ ، لعلى بن محمد بن الأ ثير ، طبعة مصطفى البابى الحلبى ، القاهرة سنة 1303هـ .
كتاب التوهم ، لأبى عبد الله الحارث بن أسد المحاسبى طبعة دار التراث العربى القاهرة سنة 1400 هـ ، 1980 م .(200/40)
كتاب الصدق لأبى سعيد أحمد بن عيسى الخراز ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود طبعة دار الكتب الحديثة ، القاهرة سنة 1975 م .
كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ، لإسماعيل بن محمد العجلونى ، طبعة دار إحياء التراث العربى ، بيروت ، لبنان سنة 1351 هـ .
كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون ، تأليف مصطفى بن عبد الله المشهور بحاجى خليفة ، نشرة المستشرق جوستاف فلويجل طبعة مكتبة المثنى بغداد ، بدون تاريخ .
كشف المحجوب ، لأبى الحسن على بن عثمان الهجويرى ، تحقيق الدكتور إبراهيم الدسوقى شتا ، طبعة دار التراث العربى ، القاهرة 1394 هـ ، 1974 م
الكواكب الدرية فى تراجم السادة الصوفية ، تأليف عبد الرؤوف المناوى ، نشر منه جزء واحد ، القاهرة ، سنة 1357 هـ .
اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ، وضعه محمد فؤاد عبد الباقى ، طبعة دار الحديث ، القاهرة سنة 1993 م .
اللباب فى تهذيب الأنساب ، لعلى بن محمد بن الأثير طبعة مكتبة القدسى ، القاهرة سنة 1375 هـ .
لسان العرب ، لمحمد بن مكرم بن منظور الإفريقى طبعة دار المعارف ، القاهرة ، سنة 1307 هـ .
لطائف الإشارات ، للإمام أبى القاسم عبد الكريم القشيرى ، طبعة دار الكتب الحديثة ، القاهرة ، بدون تاريخ .
اللمع فى التصوف ، لأبى نصر السراج الطوسى ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، وطه عبد الباقى سرور ، طبعة دار الكتب الحديثة ، القاهرة سنة 1960 م .
اللمع فى الرد على أهل الزيغ والبدع ،لأبى الحسن على بن اسماعيل الأشعرى ، تقديم الدكتور محمود غرابة ، طبعة مطبعة مصر ، القاهرة سنة 1955 م .
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، لعلى بن أبى بكر الهيثمى طبعة مطبعة القدسى ، القاهرة ، بدون تاريخ .
المحيط بالتكاليف ، لقاضى القضاه أبى الحسن عبد الجبار الأسد ابادى تحقيق عمر عزمى ، طبعة دار الكتب المصرية ، القاهرة سنة 1965م .(200/41)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة تأليف شمس الدين بن القيم الجوزية ، طبعة مكتبة المتنبى ، القاهرة سنة 1981 م .
مختصر العلو للعلى الغفار ، تأليف الحافظ شمس الدين الذهبى ، تحقيق محمد ناصر الألبانى ، طبعة المكتب الإسلامى دمشق ، سوريا ، سنة 1401 هـ ، 1981 م .
مختصر منهاج القاصدين ، تأليف أحمد بن عبد الرحمن بن قدامى المقدسى ، طبعة مكتبة الإيمان ، المنصورة ، مصر ، سنة 1994 م .
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ، تأليف شمس الدين بن القيم الجوزى ، طبعة دار الفكر العربى ، القاهرة سنة 1375 هـ .
مدخل التصوف الإسلامى ، تأليف الدكتور أبو الوفا التفتازانى ، طبعة دار الثقافة ، القاهرة سنة 1983م .
مرآة الجنان وعبرة اليقظان ، للإمام أبى عبد الله محمد بن عبد الله بن أسعد اليافعى ، طبعة حيدآباد ، الهند سنة 1338 هـ .
المستدرك على الصحيحين ، لأبى عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابورى ، طبعة حيدر آباد ، الهند سنة 1342 هـ .
المسند ، للإمام أحمد بن حنبل ، تحقيق الشيخ أحمد شاكر طبعة دار المعارف ، القاهرة ، سنة 1374 هـ ، 1955 م .
المسند ، للإمام أبى يعلى الموصلى ، تحقيق حسين سليم أحمد ، طبعة المكتب الإسلامى ، القاهرة سنة 1410 هـ ، 1989 م .
المصنف ، لعبد الرزاق بن همام الصنعانى ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى ، الطبعة الأولى ، القاهرة سنة 1392 هـ .
معجم البلدان فى معرفة المدن والقرى والعمار والسهل والوعر من كل مكان ، لياقوت بن عبد الله الرومى الحموى ، طبعة مطبعة السعادة ، القاهرة سنة 1323هـ .
معرفة السنن والآثار عن الإمام الشافعى ، تصنيف أحمد بن الحسين البيهقى ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
المعارضة والرد على أهل الفرق وأهل الدعاوى فى الأحوال ، تأليف سهل بن عبد الله التسترى ، تحقيق الدكتور محمد كمال جعفر ، طبعة دار الإنسان سنة 1980م .(200/42)
المغنى للإمام موفق الدين بن قدامة ، ومعه الشرح الكبير طبعة دار الكتاب العربى ، بيروت ، لبنان ، سنة 1393هـ 1973 م .
مفتاح دار السعادة ، للإمام شمس الدين بن القيم الجوزيه طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، بدون تاريخ .
مفتاح السعادة ومصباح السيادة ، لأحمد بن مصطفى طاش كبرى زاده ، طبعة دار الكتب الحديثة ، القاهرة ، بدون تاريخ .
المفردات فى غريب القرآن لأبى القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهانى ، تحقيق محمد سيد كيلانى ، طبعة مصطفى البابى الحلبى القاهرة سنة 1324هـ .
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، لأبى الحسن الأشعرى ، تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد ، طبعة مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة سنة 1389 هـ ، 1969 م .
المقدمة ، لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون ، تحقيق الدكتور على عبد الواحد وافى ، طبعة لجنة البيان العربى سنة 1960م .
الملل والنحل ، على هامش الفصل لابن حزم ، لأبى الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستانى ، تحقيق محمد السيد الكيلانى ، طبعة القاهرة سنة 1961م .
من التراث الصوفى لسهل بن عبد الله التسترى ، للدكتور محمد كمال إبراهيم جعفر طبعة دار المعارف ، القاهرة سنة 1974م .
المنتظم فى تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزى ، تحقيق محمد عبد القادر عطا ، ومصطفى عبد القادر عطا ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، سنة 1412هـ ، 1992م .
المنقذ من الضلال ، للإمام أبى حامد الغزالى ، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، طبعة دار الكتب الحديثة الطبعة الخامسة ، القاهرة سنة 1385هـ .
من قضايا التصوف فى ضوء الكتاب ، للدكتور محمد السيد الجليند ، طبعة مطبعة التقدم ، القاهرة سنة 1406 هـ ، 1985 م .
المنية والأمل فى شرح كتاب الملل والنحل ، لأحمد بن يحى بن المرتضى ، تحقيق توماسى آرتولد ، طبعة حيدر آباد الهند سنة 1316 هـ .(200/43)
ماهية العقل ، للحارث بن أسد المحاسبى ، تحقيق الدكتور حسين القوتلى ، طبعة بيروت ، لبنان ، سنة 1972هـ .
موقف الصوفية من العقل حتى نهاية القرن الرابع الهجرى للدكتور محمد عبد الله الشرقاوى ، رسالة ماجستير ، مخطوط بكلية دار العلوم ، جامعة القاهرة .
ميزان الاعتدال ، لأبى عبد الله محمد بن أحمد الذهبى تحقيق على محمد البجاوى ، طبعة دار إحياء الكتب العربية ، بيروت سنة 1282هـ ، 1963م .
نشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام ، للدكتور على سامى النشار ، طبعة دار المعارف ، القاهرة سنة 1969هـ .
نقد المنطق ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، تحقيق الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزه ، سليمان بن عبد الرحمن الصفع ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، سنة 1370 هـ ، 1951 م .
نهاية الإقدام فى علم الكلام ، لأبى الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستانى ، تحقيق ألفردجيوم ، طبعة اكسفورد سنة 1934م .
نوادر الأصول فى معرفة أخبار الرسول ، لأبى عبد الله محمد بن الحسن الحكيم الترمذى ، طبعة استانبول ، تركيا سنة 1293 هـ .
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، لابن خلكان تحقيق محمد محى الدين عبد الحميد ، طبعة مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة سنة 1367هـ ، 1948م .
** ** **(200/44)
الموضوع ... الصفحة
- المقدمة .............................
- أهمية الموضوع ...........................
- منهج البحث .................................
- خطة البحث ...................................
- الباب الأول :..................................
دراسة فى مفهوم الحرية وواقع الصوفية ..........
- الفصل الأول:.................................
واقع التصوف والصوفية .........................
- المبحث الأول .................................
التصوف نسبته ومعناه ............................
- المبحث الثانى...................................
دراسة العوامل التى أسهمت فى ظهور التصوف
والصوفية..........................................
- المبحث الثالث .................................
موضوع التصوف وأهم قضاياه ...................
الفصل الثانى : ...................................
دراسة فى مفهوم الحرية .........................
- المبحث الأول ..................................
الحرية لغة وشرعا............................... ... 2
6
8
10
13
14
15
20
33
43
44
الموضوع ... الصفحة
- المبحث الثانى ..................................
الحرية فى تاريخ الفكر الإسلامى .................
- أولا مذهب الجبرية ............................
- ثانيا مذهب القدرية .............................
- ثالثا المذهب السلفى ............................
- المبحث الثالث .................................
الحرية ومنهج الحياة الإسلامية ..................
- الحرية فى المجال السياسى ....................
- الحرية فى المجال الدينى ......................
- الحرية فى المجال الاقتصادى .................
- الحرية فى المجال الاجتماعى .................
- الباب الأول :.................................(201/1)
مفهوم القضاء والقدر وعلاقته بالحرية عند أوائل الصوفية .......................................
- الفصل الأول :...............................
موقف أوائل الصوفية من صفات الله وعلاقته بموضوع القدر والحرية ........................
- المبحث الأول :...............................
منهج أوائل الصوفية فى فهم المسائل الاعتقادية ... 51
51
54
56
63
63
66
69
72
74
75
76
الموضوع ... الصفحة
1- التسليم للوحى فيما ثبت من نصوص الصفات وغيرها..........................................
2- جواز إعمال العقل فى خدمة النقل............
3- إفراد ذات الله وصفاته وأفعاله عن المقاييس
التى تحكم المخلوق .............................
4- إثبات الصفات على الحقيقة لا على المجاز....
- المبحث الثانى :...............................
موقف أوائل الصوفية من صفات الذات وصفات الفعل ...........................................
- اثبات القدم فى صفات الذات وفى صفات الأفعال
- صفات الأفعال وأبدية المفعولات ...............
- معية الله فى مجال الصفات دون الذات ........
- المبحث الثالث :...............................
إفراد الله بالفاعلية أساس عقيدة القضاء والقدر عند مشايخ الصوفية .................................
- الصوفية أجمعوا على خلق الله لأفعال العباد...
- رأى الكلاباذى ................................
- رأى التسترى .................................
- رأى الجنيد بن محمد .......................... ... 77
82
86
89
94
94
101
108
113
114
116
119
120
الموضوع ... الصفحة
- رأى الواسطى...............................
- المبحث الرابع :............................
مراتب الإيمان بالقدر عند مشايخ الصوفية......
1- العلم.......................................
2- الكتابة......................................(201/2)
3- القضاء.....................................
4- القدر.......................................
- أنواع التقدير................................
- الفصل الثانى :..............................
الحرية وأصالتها فى الذات الإنسانية عند أوائل الصوفية ......................................
- المبحث الأول :.............................
مفهوم الذات الإنسانية عند أوائل الصوفية......
- موقف أوائل الصوفية من الذات الانسانية يختلف عن المذاهب الفلسفية والنظرية..........
- الجهد الصوفى قائم على إصلاح النفس فى ذات الإنسان ..................................
- الامتداد الغيبى للوجود الإنسانى فى الزمان ..
تحقيق الذات الإنسانية عند مشاغ الصوفية ..... ... 123
125
125
127
129
129
130
142
143
144
146
149
154
الموضوع ... الصفحة
- المبحث الثانى :...............................
الإرادة الحرة وأصالتها فى الذات الإنسانية .....
- الإرادة الحرة هى الركيزة الأولى فى الاختيار
عند أوائل الصوفية..............................
- الإرادة هى علة الفعل والدافع لوقوعه.........
- الفرق بين النية وحديث النفس ...............
- الصوفية اشترطوا شرطين لقبول العمل.......
- الصوفية وإسقاط الإرادة......................
- المبحث الثالث :.............................
دوافع الإرادة وبواعثها عند أوائل الصوفية......
- الخواطر عند الصوفية مبنية على ركنين ....
1- الروح فى مقابل النفس.....................
2- الملك فى مقابل الشيطان....................
- التفاعل بين النازعين والهاتفين وعلاقة ذلك بالإرادة........................................
- رأى التسترى...............................
- رأى أبى طالب المكى.......................
- كيفية التعرف على مصدر الخواطر.........
- شكل توضيحى لبواعث الخواطر عند الصوفية ... 158
159
160
161(201/3)
170
175
183
183
183
186
189
191
195
197
198
الموضوع ... الصفحة
- المبحث الرابع ...............................
موضوع الاختيار البشرى ومجاله عند الصوفية..
- موضوع الاختيار البشرى فى القرآن .........
- أوائل الصوفية يجمعون على الإيمان بوجود الجنة والنار....................................
- موضوع الاختيار البشرى واتساع دائرته عند أوائل الصوفية ................................
- رأى ابن تيمية فى ذلك......................
- رأى ابن القيم...............................
- الحلاج وموقفه من موضوع الاختيار ومجاله
- المبحث الخامس :..........................
العلاقة بين المشيئه الإلهية المطلقة والإرادة الإنسانية الحادثة ...............................
- رأى ابن خفيف الشيرازى ..................
- الصوفية فرقوا بين وجهين لإرادة الله ......
- الوجه الأول ................................
- الوجه الثانى ................................
- رأى سهل بن عبد الله التسترى .............
- رأى الحكيم الترمذى ....................... ... 201
202
203
211
214
215
222
227
231
233
233
234
235
237
الموضوع ... الصفحة
- تفصيل المكى لأعمال العباد وتعلقها بالمشيئة .
- الفرض......................................
- النفل .......................................
- المعصية ...................................
- الباب الثانى................................
الحرية من الجانب العملى السلوكى............
- الفصل الأول :..............................
الاستطاعة البشرية والفاعلية الإلهية ...........
- المبحث الأول :.............................
الاستطاعة من مقومات الحرية عند أوائل
الصوفية.......................................
- رأى الخراز.................................
- رأى المحاسبى..............................(201/4)
- رأى الترمذى...............................
- أوائل الصوفية أجمعوا على إثبات الاستطاعه الذاتية للإنسان ................................
- عودة إلى رأى المحاسبى....................
- رأى ابن خفيف الشيرازى...................
- رأى الكلاباذى ............................. ... 239
242
242
243
246
247
248
248
250
252
256
257
259
260
الموضوع ... الصفحة
- شكل توضيحى للفرق بين الكسب عند الأشعرى والكسب عند أوائل الصوفية.....................
- الاستطاعة عند التسترى قبل الفعل وأثناؤه وبعده.........................................
- المبحث الثانى :............................
الاستطاعة وعلاقتها بالعلل الطبيعية...........
- أوائل الصوفية التزموا النهج الإسلامى فى مبحث العلية..................................
- مقومات التوكل وعلاقة ذلك بالأسباب......
- معلولات بلاعلة ..........................
- علل بلا معلولات..........................
- الاستطاعة وعلاقتها بما سبق .............
- رأى المكى...............................
- المبحث الثالث :..........................
العلاقة بين الفاعلية الإلهية والفاعلية الإنسانية
- الصوفية أثبتوا وجهين للفعل البشرى......
- الأدلة من القرآن على ذلك................
- رأى المكى...............................
- مفهوم المكى للأواسط المشهودة والغيبية.. ... 263
266
269
270
273
281
282
285
287
293
295
296
298
300
الموضوع ... الصفحة
- رأى الحكيم الترمذى .......................
- رأى التسترى ..............................
- ذل الحجاب ولطف الحجاب.................
- رأى الهجويرى.............................
- المبحث الرابع :............................
الحكمة من خلق الأواسط والأسباب عند مشايخ الصوفية.....................................(201/5)
- الأسباب حق بالنظر إلى القدر الإلهى فى وجودها......................................
- القرآن يثبت الأسباب باعتبار وينفيها باعتبار آخر..........................................
- موقع الأسباب بالنسبة للقدرة كموقع الآلة بيد الصانع........................................
- المكى يرد على القائلين بخلق القرآن من خلال استتار الفاعلية الإلهية بالأسباب........
- الابتلاء علة احتجاب القدرة بالأواسط والأسباب ..................................
- تعليق ابن القيم .............................
- رأى سهل بن عبد الله ..................... ... 303
305
306
308
309
311
312
314
316
322
324
325
الموضوع ... الصفحة
- المكى يؤكد على رأى التسترى .............
- الفصل الثانى :.............................
الحرية ومنهج العبودية........................
- المبحث الأول : ...........................
العقل والعلم من مقومات الحرية عند أوائل الصوفية......................................
- الترابط بين مقومات الحرية ................
- العلم ينبثق من معنى الإبتلاء................
- رأى الترمذى ..............................
- رأى المحاسبى .............................
- المحاسبى يحدد مجالين لعمل العقل .........
- المجال الأول ..............................
- الهجويرى يتفق مع المحاسبى فى تقسيمه...
- المجال الثانى .............................
- الرسول صلى الله عليه وسلم فصل بين المجالين ....................................
- العلوم نوعان .............................
عودة إلى كلام المحاسبى ...................
- المبحث الثانى :........................... ... 328
335
336
337
338
338
344
344
344
348
350
353
354
355
الموضوع ... الصفحة
الحرية فى الإصطلاح الصوفى...............(201/6)
- الإصطلاح الصوفى للحرية إضافة جديدة للتراث الإسلامى.............................
- الاصطلاح الصوفى للحرية مؤثر فى البحث من وجهين.....................................
- الوجه الأول..................................
- الوجه الثانى..................................
- الحرية وارتباطها بالعبوديه فى الحديث النبوى
- رأى الجنيد فى مصطلح الحرية...............
- رأى بشر بن الحارث.........................
- حرية الباطن وحرية الظاهر..................
- التحرر من طلب العوض.....................
- التحرر من التكاليف الشرعية.................
- حرية الباطن والتحرر من الضرورات النفسية
- مخالفة النفس رأس العبادة ومظهر الحرية ....
- رأى المحاسبى فى ذلك ......................
- رأى السلمى فى ذلك ........................
- حرية الظاهر والتحرر من الضروريات الطبيعية....................................... ... 359
359
360
360
362
365
366
368
368
370
371
372
376
376
377
379
الموضوع ... الصفحة
- عبوديات القلب واللسان والجوارح ...........
- الغلو فى العبادة وموقف الصوفية منه .......
- الموقف النبوى...............................
- شكل توضيحى للغلو فى العبادة ..............
- المبحث الثالث :............................
المقامات الصوفية وإرادة الحرية...............
- المقامات الصوفية درجات فى طريق الحرية
1- التوبة......................................
2- الورع .....................................
- الورع درجات فى موطنه....................
3- الزهد......................................
- الزهد عند المحاسبى.........................
- الزهد عند أبى سعيد الخراز.................
- الزهد عند المكى ...........................
4- الصبر ....................................(201/7)
- الصبر درجات فى موطنه ..................
5- التوكل ....................................
- التوكل درجات فى موطنه ..................
6- الرضا .................................... ... 382
383
384
390
394
394
396
401
402
404
405
407
409
413
415
417
418
419
الموضوع ... الصفحة
7- الحرية ....................................
- شكل توضيحى للمقامات الصوفية من التوبة إلى الحرية......................................
- المبحث الرابع : .............................
الأحوال الصوفية وثمرة الحرية.................
- الثمرة الأولى للحرية.........................
أحوال الحب....................................
1- الخوف والرجاء ..........................
2- القبض والبسط ............................
3- الهيبة والأنس.............................
4- التواجد والوجد والوجود....................
شكل توضيحى................................
- الثمرة الثانية للحرية.........................
أحوال الفناء....................................
1- الفناء والبقاء..............................
- الفناء عند سهل بن عبد الله التسترى........
- الفناء عند الجنيد ...........................
- حقيقه هامة فى فهم الفناء ...................
2- الجمع والفرق ............................ ... 421
423
424
425
426
427
428
429
430
433
433
434
434
437
439
441
443
الموضوع ... الصفحة
3- الغيبة والحضور ..........................
4- المحو والإثبات ...........................
5- التلوين والتمكين ..........................
6- بين الفناء والتحقق ........................
- شكل توضيحى..............................
- الحقيقة والشريعة وبيان الهدف من علوم التصوف......................................(201/8)
- الخاتمة :...................................
- ملخص البحث .............................
- أولا : نتائج البحث .........................
- نتائج على مستوى موضوع البحث .........
- نتائج على مستوى موضوع التصوف ......
- ثانيا : أهم التوصيات ......................
- فهرس المراجع............................
- فهرس الموضوعات .......................
- ملخص البحث باللغة الإنكليزية ............
تم بحمد الله
** ** ** ... 446
447
448
449
451
452
455
456
458
458
466
470
473
496
511(201/9)
الباب الأول
دراسة فى مفهوم الحرية وواقع الصوفية
ويشتمل على فصلين :
الفصل الأول : واقع التصوف والصوفية فى القرنين
الهجريين الثالث والرابع .
الفصل الثانى : دراسة فى مفهوم الحرية .
الفصل الأول
واقع التصوف والصوفية
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : التصوف نسبته ومعناه .
المبحث الثانى: دراسة العوامل التى أسهمت فى
ظهور التصوف والصوفية .
المبحث الثالث : موضوع التصوف وأهم قضاياه .
الفصل الثانى
دراسة فى مفهوم الحرية
وقد اشتمل على ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : الحرية لغة وشرعا .
المبحث الثانى : الحرية فى تاريخ الفكرالإسلامى .
المبحث الثالث : الحرية ومنهج الحياة الإسلامية .
المقدمة(202/1)
مفيد المستفيد
في كفر تارك التوحيد
شيخ الإسلام المجدد
محمد بن عبد الوهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين و عليه نتوكل
مما قال الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى : لما ارتاب بعض من يدعي العلم من أهل العيينة . لما ارتد أهل حريملاء ، فسئل الشيخ أن يكتب كلاماً ينفعه الله به :
فقال رحمه الله تعالى :
روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال : كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة , وأنهم ليسوا على شيء , وهم يعبدون الأوثان , قال : فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرأ عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له , وما أنت ؟ . قال : ( أنا نبي ) ! . قلت : وما نبي ؟ قال : ( أرسلني الله ) ! . فقلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال : ( أرسلني بصلة الأرحام , وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ) ! . فقلت له : ومن معك على هذا ؟ . قال : ( حر وعبد ) ! . قال : ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه ، فقلت : إني متبعك . قال : ( إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا , ألا ترى حالي وحال الناس , ولكن ارجع إلى أهلك , فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني ) . قال : فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكنت في أهلي ، فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة , حتى قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة , فقلت : ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟ فقالوا الناس إليه سراع ! وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك , فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟ قال : ( نعم ! أنت الذي لقيتني بمكة ) . قال : قلت بلى ، فقلت : يا نبي الله علمني مما علمك الله وأجهله , أخبرني عن الصلاة . قال : ( صلِ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس , وحتى ترتفع , فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان(203/1)
, وحينئذ يسجد لها الكفار , ثم صلِ فان الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح , ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم , فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر , ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ) وذكر الحديث .
قال أبو العباس رحمه الله تعالى : فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها معللاً ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان , وأنه حينئذ يسجد لها الكفار ، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله ، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان , ولا أن الكفار يسجدون لها ، ثم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة . ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن ولم يصمد له صمداً ، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة ، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل لما فيه من مشابهة السجود لغير الله . انتهى كلامه .
فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر فإن الله سبحانه وتعالى يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة فيقيس حاله بحالهم ، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا .
فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير , وهذا فسر به قوله تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي حرصاً على تعلم الدين : ( لأسمعهم ) أي لأفهمهم , فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدلا منه سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين .(203/2)
فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين , فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا المطلب , فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه وعنده من يعرض عليه التعليم ولا يرفع بذلك رأساً ، فان حضر أو استمع فكما قال تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم ) .
وفيه من العبر أيضا أنه لما قال : ( أرسلني الله ) . قال : بأي شيء أرسلك ؟ قال : بكذا وكذا . فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية ، والدعوة النبوية ، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان , ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة وتجريد السيف ، فتأمل زبدة الرسالة .
وفيه أيضاً أنه فهم المراد من التوحيد ، وفهم أنه أمر كبير غريب ، ولأجل هذا قال : من معك على هذا ؟ قال : ( حر وعبد ) فأجابه أن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر ، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل وأن الباطل قد يملأ الأرض .
ولله در الفضيل بن عياض حيث يقول : لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين . وأحسن منه قوله تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ).(203/3)
وفي الصحيحين أن بعث النار من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة وفي الجنة واحد من كل ألف ، ولما بكوا من هذا لما سمعوه قال صلى الله عليه وسلم : ( إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا أكملت من المنافقين ) قال الترمذي حسن صحيح . فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث من صفة بدء الإسلام ، ومن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ) تبين له الأمر إن هداه الله وانزاحت عنه الحجة الفرعونية : ( فما بال القرون الأولى ) والحجة القرشية : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى في كتاب ( إقتضاء الصراط المستقيم ) في الكلام على قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه ، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله ، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور ، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال ، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ، وهذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن . انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين ، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة ، وتصريحه أن المنافق يصير مرتداً بذلك ، وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين .(203/4)
وقال أيضا في الكتاب المذكور : وكانت الطواغيت الكبار التي تشد أليها الرحال ثلاثة اللات ، والعزى ، ومناة ، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب ، فكانت اللات لأهل الطائف ، ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره . وأما العزى : فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات ، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون . وأما مناة : فكانت لأهل المدينة وكانت حذو قديد من ناحية الساحل .
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان ، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه ، حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه ، وما ذكره الأزرقي وغيره في أخبار مكة من العلماء .(203/5)
ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس : يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال : ( الله أكبر ، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم ) فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم . فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه . إلى أن قال : ( فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق ) مثل مسجد يقال له مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبى طالب حتى هدم الله ذلك الوثن ، وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد ، وفي الحجاز منها مواضع . ثم ذكر كلاماً طويلاً في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند القبور فقال : العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك . ذكر ذلك الشافعي وغيره ، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد ، كأبي بكر الأثرم عللوا بهذه العلة ، وقد قال تعالى : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا ..) الآية ، ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ، ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره .(203/6)
ومما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد ، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجساً ، وقال عن نفسه : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) فعلم أن نهيه عن ذلك كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها سداً للذريعة لئلا يصلى في هذه الساعة وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله ، ولا يدعو إلا لله ، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها ، وكلا الأمرين قد وقع ، فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعوها بأنواع الأدعية ، وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثيرا من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام , وصنف بعض المشهورين فيه كتاباً على مذهب المشركين مثل أبي معشر البلخي , وثابت بن قرة وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت والجبت وهم ينتسبون إلى الكتاب كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ). انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين كيف ذكر عن مثل الفخر الرازي وهو من أكابر أئمة الشافعية ، ومثل أبى معشر وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهما أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام ، والفخر هو الذي ذكره الشيخ في الرد على المتكلمين ، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا قال : وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى .
وتأمل أيضاً ما ذكره في اللات والعزى ومناة وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعله بدمشق وغيرها وتأمل قوله على حديث ذات أنواط .
هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه ، فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام .(203/7)
وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم قال رحمه الله تعالى : أنا من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير ، أو تبديع ، أو تفسيق ، أو معصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى . انتهى كلامه .
وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة ، وأما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير ، أو تفسيق ، أو معصية .
وصرح رضي الله عنه أن كلامه في غير المسائل الظاهرة ، فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا قال : وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها ، وكفر من خالفها ، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم ، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين .
وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبدالله الرازي ( يعني الفخر الرازي ) قال وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . انتهى كلامه .فتأمل هذا وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكر أعداء الله ، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً .(203/8)
على أن الذي نعتقده وندين لله به ونرجو أن يثبتناً عليه أنه لو غلط هو أو أجلَّ منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة ، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين ، أو يزعم أنه على حق ، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة ، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط من غلط .
فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة ، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) أو حجة قريش : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .
وقال الشيخ رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم ، قال : فإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر صلى الله عليه وسلم بقتالهم ، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان وذلك بأسباب ، منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) وعلي ابن أبى طالب حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كنده فقذفهم فيها ، واتفق الصحابة على قتلهم ، ولكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء .
وكذلك الغلو في بعض المشائخ ، بل الغلو في علي ابن أبى طالب ، بل الغلو في المسيح ونحوه ، فكل من غلا في نبي ، أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلهية ، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني ، أو أغثني ، أو ارزقني ، أو أجبرني ، أو أنا في حسبك ، ونحو هذه الأقوال فكل هذه شرك وضلال يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل .(203/9)
فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له لا يجعل معه إلهاً آخر ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النباتات ، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون : ( إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ) ( ويقولون هؤلاء هم شفعاؤنا عند الله ) .
فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة ، قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) الآية ، قال : طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وعزيراَ والملائكة . ثم ذكر رحمة الله تعالى آيات .
ثم قال وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل : ما شاء الله وشئت . قال : ( أجعلتني لله نداً ، بل ما شاء الله وحده ) ونهى عن الحلف بغير الله وقال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) . وقال في مرض موته : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا . وقال : ( اللهم لا تجعل قبري وثناًَ يعبد ) . وقال : ( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراًَ وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها ، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور .(203/10)
ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق ، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاًَ إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الآية ، ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه . وأعظم آية في القرآن آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ) والإله هو الذي تألهه القلوب عبادة له واستعانة به ورجاء وخشية وإجلالاً . انتهى كلامه رحمه الله .
فتأمل أول الكلام وآخره ، وتأمل كلامه فيمن دعا نبياً أو ولياً ، مثل أن يقول يا سيدي فلان أغثني ونحوه ، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل هل يكون هذا إلا في المعين والله المستعان . وتأمل كلامه في اللات والعزى ومناة وما ذكر بعده يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في باب التوبة : وأما الشرك فهو نوعان أكبر ، وأصغر . فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله ، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويبغضون لمنتقص معبودهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين ، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش وهو لا ينكر ذلك ، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ، وهكذا كان عباد الأصنام سواء .(203/11)
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم ، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر ، وغيرهم اتخذوها من البشر ، قال تعالى حاكياًَ عن أسلاف هؤلاء : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية .
فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى ، وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره ، والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله ، وأخبر أن الشفاعة كلها له . ثم ذكر الشيخ ( يعني ابن القيم ) رحمه الله فصلاً طويلاً في تقرير هذا الشرك الأكبر .
ولكن تأمل قوله : وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره . يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد ، وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .
وذكر في آخر هذا الفصل أعني الفصل الأول في الشرك الأكبر الآية التي في سورة سبأ : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ) إلى قوله : ( إلا لمن أذن له ) وتكلم عليها ، ثم قال : والقرآن مملوء من أمثالها ، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وأرثا ، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، والبدعة سنة ، والسنة بدعة ، ويكفر الرجل بمحض الإيمان ، وتجريد التوحيد ، ويبدأ بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع ، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً فالله المستعان .
فصل(203/12)
وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله ، وقول هذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى ( يعني ابن القيم ) بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر : ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم ، ومن أنواعه النذر لغير الله ، والتوكل على غير الله ، والعمل لغير الله ، والإنابة والخضوع والذل لغير الله ، وابتغاء الرزق من عند غيره ، وإضافة نعمه إلى غيره ، ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً لمن استغاث به ، أو سأله أن يشفع له إلى الله ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده ، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه ، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد ، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن ، والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة ، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود ، وتغيير دينه ، ومعادات أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأوليائه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، أو أنهم أمروهم به ، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم .(203/13)
ولله در خليله إبراهيم حيث يقول : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن اضللن كثيراً من الناس ) وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله ، وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله . انتهى كلامه .
والمراد بهذا أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر ، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر . وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول والثاني صريحاً لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه ، وآخر ما صرح به قوله آنفاً : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره اهـ .
فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد بل الإلحاد .
ولكن تأمل قوله أرشدك الله : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين إلى آخره اهـ . وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعادات أهل الشرك الأكبر وإن لم يعاديهم فهو منهم وإن لم يفعله.
وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين ، أن من دعا علي ابن أبي طالب فهو كافر ، وإن من شك في كفره فهو كافر ، فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له ، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده ، فكيف بمن أحبه ، فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته ، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك ، وقد قال تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد ومعادات المشركين بالخوف على أهله وعياله فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة ، ولكن الأمر كما تقدم عن عمر إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية لهذا لم يعرف معنى القرآن ، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا : ( إن نتبع الهدى معك ) الآية .(203/14)
ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاقاً وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون ، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب ، كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه خطه بيده يقول : بيني وبينكم أهل هذه الأقطار وهم خير أمة أخرجت للناس وهم كذا وكذا ، فإذا كان يريد التحاكم إليهم ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، فكيف أيضاً يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة . وما أحسن قول أصدق القائلين : ( والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف . يؤفك عنه من أفك ) ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) .
فرحم الله أمرءً نظر لنفسه وتفكر فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من معادات من أشرك بالله من قريب أو بعيد وتكفيرهم وقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، وعلم ما حكم به محمد صلى الله عليه وسلم فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام ، وما حكم في ذلك الخلفاء الراشدون كعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه وغيره لما حرقهم بالنار مع أن غيرهم من أهل الأوثان الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق والله الموفق .
وقال أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم قال : وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له ، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه ، بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد يرجح غيره المشركين ، وقد يعرض عن الأمرين جميعاً ، فتدبر هذا فإنه نافع جداً .(203/15)
ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك ، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك ، أو يأمرون به أولا يوجبون التوحيد ، وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك . وهم إذا ادعوا التوحيد إنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل ، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له ، وهذا شيء لا يعرفونه فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل ، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لابد أن يعبد الله وحده ويتخذ إلهاً دون ما سواه ، وهذا هو معنى قول ( لا إله إلا الله ) . انتهى كلام الشيخ .
فتأمل رحمك الله هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جداً ، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين لك حال من أقر بهذا الدين ، وشهد أنه الحق ، وأن الشرك هو الباطل ، وقال بلسانه ما أريد منه ، ولكن لا يدين بذلك إما بغضاً له ، أو عدم محبته كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا ، وإما يثار الدنيا مثل تجارة أو غيرها فيدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ، كما قال تعالى : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ) الآية ، وقال تعالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره ) إلى قوله : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ) فإذا قال هؤلاء بألسنتهم نشهد أن هذا دين الله ورسوله ، ونشهد أن المخالف له باطل ، وأنه الشرك بالله غر هذا الكلام ضعيف البصيرة .(203/16)
وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملاء ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين ، وأن الحق ما عليه أكثر الناس يستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه من الدين ، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها ، فإذا قالوا التوحيد حق والشرك باطل وأيضاً لم يحدثوا في بلدهم أوثاناً جادل الملحد عنهم وقال : أنهم يقرون أن هذا شرك ، وأن التوحيد هو الحق ، ولا يضرهم عندهم ما هم عليه من السب لدين الله ، وبغي العوج له ، ومدح الشرك وذبهم دونه بالمال واليد واللسان فالله المستعان .
وقال أبو العباس أيضاً : في الكلام على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها ، وهذا لم يعهد عنه الخلفاء والصحابة ، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما : ( والله لو منعوني عقالاً ـ أو عناقاً ـ كانوا يؤودنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه ) فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب . وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة وهي مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ، والشاهدة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعهم أهل الردة . وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما يتوقف غيره فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله . وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة ، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم . انتهى .
فتأمل كلامه رحمه الله في تكفير المعين والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة ، فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين عدم تكفير المعين .
قال رحمه الله : بعد ذلك وكفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة . انتهى كلامه .(203/17)
ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال عمن قصد اتباع الحق ، إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة وإدخالهم في أهل الردة وسبي ذراريهم ، وفعلهم فيهم ما صح عنهم وهو أول قتال وقع في الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين . فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام على هذا النوع أعني المدعين للإسلام وهي أوضح الوقعات التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى وقتنا هذا .
وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام ، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا وإلقاء الخرق على الشجر إقتداء لمن عبد اللات والعزى . انتهى كلامه . والمراد منه قوله : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع .(203/18)
وقال أيضاً في كتاب الفنون : لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم ، حيث أباحه الشرك عند الإكراه ، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه لحقيق أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره ، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته ، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك , وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقاً عليك من مشقة الخلع واللبس ، وأباحك الميتة سد لرمقك وحفظاً لصحتك , وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل , وخرق العوائد لأجلك , وأنزل الكتب إليك , أيحسن لك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك منهمكاً , ولما أمرك تاركاً ، وعلى ما زجرك مرتكباً ، وعن داعيه معرضاً ، ولداعي عدوه فيك مطيعاً ، يعظمك وهو هو ، وتهمل أمره وأنت أنت ، هو حط رتبة عباده لأجلك ، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك ، هل عاديت خادماً طالت خدمته لك لترك صلاة ، هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي فإن لم تعترف اعتراف العبد للموالى ، فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي ، ما أفحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان ، بيناً هو بحضرة الحق سبحانه وملائكة السماء سجود له ، ترامى به الأحوال والجهات إلى أن يوجد ساجداً لصورة في حجر ، أو لشجرة من الشجر ، أو لشمس أو لقمر ، أو لصورة ثور خار ، أو لطائر صفر .
ما أوحش زوال النعم ، وتغير الأحوال ، والحور بعد الكور ، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يرى إلا عابداً الله في دار التكليف ، أو مجاورا لله في دار الجزاء والتشريف ، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها . انتهى كلامه .
والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله ، ومثله بأنواع : منها السجود للشمس أو للقمر ، ومنها السجود للصورة كما في الصور التي في القباب على القبور .(203/19)
والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض ، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض ، كما فسر به قوله تعالى : ( أدخلوا الباب سجدا ) قال ابن عباس : أي ركعاً.
وقال ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) في إنكار تعظيم القبور : وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه ( مناسك المشاهد ) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام . انتهى . وهذا الذي ذكره ابن القيم ، رجل من المصنفين يقال له ابن المفيد ، فقد رأيت ما قال فيه بعينه ، فكيف ينكر تكفير المعين ؟ . وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير ، فنذكر منه قليلاً من كثير .
أما كلام الحنفية فكلامهم في هذا من أغلظ الكلام ، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال مصيحف أو مسيجد وصلى صلاة بلا وضوء ونحو ذلك . وقال في النهر الفائق ، وعلم أن الشيخ قاسماً ، قال في شرح درر البحار : إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعاً لوجوه . إلى أن قال : ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر . إلى أن قال : وقد ابتلى الناس بذلك ، لاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي . انتهى كلامه .
فانظر إلى تصريحه إن هذا كفر ، مع قوله أنه يقع من أكثر العوام ، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته .
وقال القرطبي رحمه الله لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال : هذا حرام بالإجماع .
وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام ، جمال الملة أن مستحل هذا كافر ، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله ، فقد رأيت كلام القرطبي وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير .(203/20)
وقال أبو العباس رحمه الله حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال : كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا كان كافرا ذكياً ، فهذا إمام الحنفية في زمنه حكى عن فقهاء بخاري جملة كفر ابن سينا وهو رجل معين منصف يتظاهر بالإسلام .
وأما كلام المالكية في هذا أكثر من أن يحصر وقد أشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس ، وقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من ذلك طرفاً ، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر ، وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه .
وأما كلام الشافعية ، فقال صاحب الروضة رحمه الله أن المسلم في الكلام إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر . وقال أيضاً : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر . وكل هذا دون ما نحن فيه .
وقال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ) وما معناه إن من دعا غير الله فهو كافر . وصنف في هذا النوع كتابا مستقلا سماه ( الإعلام بقواطع الإسلام ) ذكر فيه أنواعا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه ، وتمام الكلام في هذا أن يقال الكلام هنا في مسألتين :
الأولى : أن يقال هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين ومع كثير من الأحياء والأموات والجن من التوجه إليهم ودعائهم لكشف الضر والنذر لهم لأجل ذلك هل هو الشرك الأكبر الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم .(203/21)
فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك ويكفرهم ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، أم هذا شرك أصغر وشرك المتقدمين غير هذا ، فاعلم أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه بسبب أن علماء المشركين اليوم يقرون أنه الشرك الأكبر ولا ينكرونه إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه كابن إسماعيل وابن خالد مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم ، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة .
وتارة يقولون لا يكفر إلا من كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتارة يقولون إنه شرك أصغر وينسبونه لابن القيم رحمه الله في المدارج كما تقدم ، وتارة لا يذكرون شيئاً من ذلك بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة ، وأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم وغير ذلك من الأقاويل المضطربة ، وجواب هؤلاء كثير في الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
ومن أصرح ما يجاوبون به إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر ، وأيضاً إقرار غيرهم من علماء الأقطار ، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد أهل التوحيد ، لكن لم يجدوا بداً من الإقرار به لوضوحه .
المسألة الثانية : الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة ، وكذب الرسول والقرآن واتبع اليهودية أو النصرانية أو غيرهما ، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات ، وإلا المسألة الأولى قلَّ الجدال فيها ولله الحمد لما وقع من إقرار علماء الشرك بها .
فاعلم أن تصور هذه المسألة تصوراً حسناً يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين :(203/22)
الأول : أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها في التكفير لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها وكذب الرسول والقرآن فهو كافر وإن لم يعبد الأوثان كاليهود ، فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول لا إله إلا الله ويصلي ويفعل كذاو كذا لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة أو العمى أو العرج ، فان كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم ، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر ، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع .
الوجه الثاني : أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية ، فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو من أجهل الناس أو أبلدهم ، ما تقول فيمن عصى الرسو ل صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك ، مع أنه يدعي أنه مسلم متبع إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول بأن هذا كافر من غير نظر في الأدلة أو سؤال أحد من العلماء .
ولكن لغلبة الجهل وغربة العلم وكثرة من يتكلم بهذه المسألة من الملحدين أشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق ، فلا تحقرها وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت ويجعلك من الأئمة الذين يهدون بأمره .
فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها ويزيد المؤمن يقيناً ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء بعدهم فيمن انتسب إلى الإسلام ، كما ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث البراء ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله .
ومثل همه بغزو بني المصطلق لما قيل أنهم منعوا الزكاة . ومثل قتال الصديق وأصحابه لمانع الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وتسميتهم مرتدين .(203/23)
ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا لما فهموا من قوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) حل الخمر لبعض الخواص .
ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان في تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه ، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم . ومثل تحريق علي رضي الله عنه أصحابه لما غلوا فيه .
ومثل إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه ، مع أنه يدعي أنه يطلب بدم الحسين وأهل البيت . ومثل إجماع التابعين ومن بعدهم على قتل الجعد بن درهم وهو مشهور بالعلم والدين وهلم جرا ، ومن وقائع لا تعد ولا تحصى .
ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره كيف تقاتل بنى حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون , ويزكون . وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا وهلم جرا .
إلى زمن عبيد القداح الذين ملكوا لمغرب ومصر والشام وغيرها مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة ونصب القضاة والمفتين لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم ولم يتوقفوا فيه وهم في زمن ابن الجوزي , والموفق , وصنف ابن الجوزي كتاباً لما أخذت مصر منهم سماه ( النصر على مصر ) .(203/24)
ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله لأجل ادعائهم الملة , أو لأجل قول لا إله إلا الله ، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام ، إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ، ولكن من فعله أو حسنه أو كان مع أهله أو ذم التوحيد أو حارب أهله لأجله أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة ، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها الإسلام ، هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين ، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه ، ولكن الأمر كما قال اليمني في قصيدته :
أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا * تساوي فلساً إن رجعت إلى نقد
…ولنختم الكلام في هذا النوع بما ذكره البخاري في صحيحه حيث قال : ( باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ) . ثم ذكر بإسناده قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة ) وذو الخلصة صنم لدوس يعبدونه فقال صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله : ( ألا تريحني من ذي الخلصة ) فركب إليه بمن معه فأحرقه وهدمه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال فبرك على خيل أحمس ورجالها خمساً . …وعادة البخاري رحمه الله إذا لم يكن الحديث على شرطه ذكره في الترجمة ، ثم أتى بما يدل على معناه مما هو على شرطه ، ولفظ الترجمة وهو قوله : ( يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ) لفظ حديث أخرجه غيره من الأئمة والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولنذكر من كلام الله تعالى ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلام أئمة العلم جملاً في جهاد القلب واللسان ومعادات أعداء الله وموالات أوليائه ، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك فنقول :
باب في وجوب عداوة أعداء الله
من الكفار والمرتدين والمنافقين(203/25)
وقول الله تعالى : ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزؤ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) وقوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) إلى قوله : ( كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) وقوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
وقال ( الإمام الحافظ ) محمد بن وضاح : أخبرني غير واحد ، أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات : إعلم يا أخي أن ما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس ، وحسن حالك مما أظهرت من السنة ، وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم ، بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بيدك وصاروا ببدعتهم مستترين ، فأبشر يا أخي بثواب ذلك واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد ، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أحيا شيئاً من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين ـ وضم بين إصبعيه ـ ) وقال : ( أيما داع دعى إلى هدى فاتُبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة ) فمتى يدرك أجر هذا بشيء من عمله . وذكر أيضاً أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً يذب عنها وينطق بعلامتها .(203/26)
فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرا لك من كذا وكذا ) وأعظم القول فيه . فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة ، كما جاء في الأثر فاعمل على بصيرة ونية وحسبة ، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفاً من نبيك صلى الله عليه وسلم فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه ، وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء في الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام . وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى .
وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع وأن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ولا فريضة ولا تطوعاً وكلما ازدادوا اجتهادا وصوماً وصلاة ازدادوا من الله بعداً ، فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده .
انتهى كلام أسد رحمه الله تعالى .
واعلم رحمك الله أن كلامه وما يأتي من كلام أمثاله من السلف في معادات أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تخرج عن الملة ، لكنهم شددوا في ذلك و حذروا منه لأمرين :
الأول : غلظ البدعة في الدين في نفسها فهي عندهم أجل من الكبائر ، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون به أهل الكبائر كما تجد في قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم ولو كان عالماً عابداً أبغض وأشد ذنباً من السني المجاهر بالكبائر .(203/27)
الأمر الثاني : أن البدع تجر إلى الردة الصريحة كما وجد من كثير من أهل البدع ، فمثال البدعة التي شددوا فيها مثل تشديد النبي صلى الله عليه وسلم فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح خوفاً مما وقع من الشرك الصريح الذي يصير به المسلم مرتداً ، فمن فهم هذا فهم الفرق بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة ومجاهدة أهلها ، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات ، ومثل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ) الآية ، وقوله تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير . يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) الآية . وقال ابن وضاح في كتاب ( البدع والحوادث ) بعد حديث ذكره أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة ، قال رحمه الله : إن فتنة الكفر هي الردة يحل فيها السبي والأموال ، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي والأموال ، وهذا الذي نحن فيه فتنة ضلاله لا يحل فيها السبي ولا الأموال . وقال رحمه الله أيضا : أخبرنا أسد أخبرناً رجل عن ابن المبارك قال : قال ابن مسعود : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه يذب عنه وينطق بعلامتها ، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله . قال ابن المبارك : وكفى بالله وكيلاً ، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : لإن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إليَّ من اعتكاف شهر .(203/28)
أخبرنا أسد عن أبي إسحاق الحذاء عن الأوزاعي قال : كان بعض أهل العلم يقولون لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ، ولا صدقة ، ولا صياماً ، ولا جهاداً ، ولا حجاً ، ولا صرفاً ، ولا عدلاً ، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم وتشمئز منهم قلوبهم ويحذرون الناس بدعتهم . قال : ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أن يهتك عنهم سترا ، ولا يظهر منهم عورة ، الله أولى بالأخذ بها أو بالتوبة عليها ، فإما إذا جاهروا به فنشر العلم حياة ، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة يعتصم بها على مصر ملحد . ثم روى بإسناده قال : جاء رجل إلى حذيفة وأبو موسى الأشعري قاعد فقال : أرأيت رجل ضرب بسيفه غضباً لله حتى قتل ، أفي الجنة أم في النار ؟ . فقال أبو موسى في الجنة ! . فقال : حذيفة استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فلما كان في الثالثة قال : والله لأستفهمه فدعا به حذيفة فقال : رويدك وما يدريك أن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة ، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار . ثم قال : والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا . ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك . ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره ، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار ، وإما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموه ، وإني واثق بنفسي ، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه . ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام .(203/29)
أخبرنا أسد قال : حدثنا كثير أبو سعيد قال : من جلس إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه . أخبرنا أسد ابن موسى قال : أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب قال : قال أبو قلابة لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون . قال : أيوب وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب .
أخبرنا أسد بن موسى قال أخبرنا زيد عن محمد بن طلحة قال : قال إبراهيم : لا تجالسوا أصحاب البدع ، ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم أخبرنا أسد بالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) .
أخبرنا أسد أخبرنا مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن أيوب قال دخل على محمد بن سيرين يوماً رجل فقال : يا أبا بكر اقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن اقرأها ثم أخرج ، فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أحرَّج عليك إن كنت مسلماً لما خرجت من بيتي . قال : فقال يا أبا بكر إني لا أزيد على أن أقرا ثم أخرج . قال : فقام بإزاره يشده عليه وتهيأ للقيام ، فأقبلنا على الرجل فقلنا قد حرَّج عليك إلا خرجت ، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته . قال : فخرج ، فقلنا : يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج . قال : إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ولكنني خفت أن يلقي في قلبي شيئاً أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع .
أخبرنا أسد قال : أخبرنا ضمرة عن سودة قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى فتركه إلا آل إلى ما هو شر منه . قال : فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه ) .(203/30)
أخبرنا أسد قال : أخبرنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن زيد عن أيوب قال : كان رجل يرى رأياً فرجع عنه ، فأتيت محمداً فرحاً بذلك أخبره ، فقلت أشعرت أن فلاناً ترك رأيه الذي كان يرى . فقال : انظروا إلى ما يتحول ، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله يمرقون من الإسلام لا يعودون إليه .
ثم روى بإسناده عن حذيفة أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه ، ثم قال : إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة ثم أخذ كفاً من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال : والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة .
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن أبي الدرداء قال : لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم إليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة . قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم . قال عيسى ( يعني الراوي عن الأوزاعي ) : فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان . أخبرنا سليمان بن محمد بإسناده عن علي أنه قال : تعلموا العلم تعرفون به ، وأعملوا به تكونوا من أهله ، فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم .
أخبرنا يحي بن يحي بإسناده عن أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال : ما أعرف منكم شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة . حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده عن أنس قال : ما أعرف منكم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس قولكم لا إله إلا الله .(203/31)
أخبرنا محمد بن سعيد قال أخبرنا أسد بإسناده عن الحسن قال : لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ، ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً ، قال : ووضع يده على خده ثم قال : إلا هذه الصلاة . ثم قال : أما والله لمن عاش في هذه النكرا أو لم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته ورأى صاحب يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجراً عظيماً فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى .
حدثني عبد الله بن محمد بإسناده عن ميمون بن مهران قال : لو أن رجلاً نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة . أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده عن أم الدرداء قالت : دخل علي أبو الدرداء مغضباً ، فقلت له : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جمعياً . وفي لفظ : لو أن الرجل تعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده ما عرف منه شيئاً .
حدثني إبراهيم بإسناده عن عبدالله بن عمرو قال : لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه .
قال مالك : وبلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا : ( إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ) فقال : والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا كما دخلوا فيه أفواجاً .
قف تأمل رحمك الله إذا كان هذا في زمن التابعين بحضرة أواخر الصحابة فكيف يغتر المسلم بالكثرة أو تشكل عليه أو يستدل بها على الباطل .(203/32)
ثم روى ابن وضاح بإسناده عن أبي أمية قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ، قلت : قول الله تعالى : ( لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال : أما والله قد سألت عنها خبيراَ ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأى برأيه ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله ) قيل يا رسول الله : أجر خمسين منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ) .
ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( طوبى للغرباء ـ ثلاثاً ـ ) قالوا : يا رسول الله ومن الغرباء ؟ قال : ( ناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يبغضهم أكثر ممن يحبهم ) .
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن المعافري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( طوبى للغرباء الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر ويعلمون بالسنة حين تطفى ) . أخبرنا محمد بن يحي أخبرنا أسد بإسناده عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بدأ الإسلام غريباً ، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس , ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس ) . أخبرنا محمد بن يحي أخبرنا أسد بإسناده عن عبدالرحمن أنه سمع رسول الله يقول : ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : ( الذين يصلحون إذا فسد الناس ) هذا آخر ما نقلته من كتاب البدع والحوادث للإمام الحافظ محمد بن وضاح رحمه الله .(203/33)
فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة وبعضها في الصحيح مع كثرتها وشهرتها ، وتأمل إجماع العلماء كلهم أن هذا قد وقع من زمن طويل ، حتى قال ابن القيم رحمه الله : الإسلام في زماننا أغرب منه في أول ظهوره .
فتأمل هذا تأملاً جيداً لعلك أن تسلم من هذه الهوة الكبيرة التي هلك فيها أكثر الناس وهي الإقتداء بالكثرة والسواد الأكبر والنفرة من الأقل فما أقل من سلم منها ما أقله ما أقله !! .
ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويعتقدون بأمره ) وفي رواية : ( يهتدون بهديه ، ويستنون بسنته ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) انتهى ما نقلته والحمد لله رب العالمين .
وقد رأيت للشيخ تقي الدين ، رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه لما أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق بخصومه ليتخلص من السجن أحببت أن أنقل أولها لعظم منفعته .
قال رحمه الله تعالى : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :(203/34)
فقد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الإخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان , وأدخلهم مدخل صدق , وأخرجهم مخرج صدق , وجعل لهم من لدنه ما ينصر به من السلطان ، سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصرة بالسنان والأعوان , وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه الغالبين , لمن ناوأهم من الأقران , ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والإعلان ، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن ، لكن بما اقتضت حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان ، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان , من أهل النفاق والبهتان , إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من أدعى الإيمان , والعقوبة لذوي السيئات والطغيان ، فقال تعالى : ( آلم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ) فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب ، وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب .(203/35)
وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) وأخبر سبحانه وتعالى بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة , الذي يعبد الله فيها على حرف , وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه , بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا ، فقال تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) وقال تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) وقال تعالى : ( ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) .
وأخبر سبحانه أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ) فهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان , والصابرون على الامتحان , كما قال تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) إلى قوله : ( والله يحب المحسنين ) .(203/36)
فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يقضي له من القضاء خيراً له , كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له ) والصبار الشكور هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه ، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال , وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي به إلى قبيح المال , فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي محن الأنبياء والصديقين , وفيها تثبيت أصول الدين ، وحفظ الإيمان والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان , فالحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى , وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة , ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين الذين أمرنا بجهادهم والإغلاظ عليهم في كتابه المبين . انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس رحمه الله في الرسالة المذكورة وهي طويلة .
ومن جواب له رحمه الله لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز ، فقال : أكل هذه الحشيشة حرام وهي من أخبث الخبائث المحرمة سواء أكل منها كثيراً أو قليلاً لكن الكثير المسكر منها حرام بإتفاق المسلمين , ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين .
وحكم المرتد أشر من حكم اليهود والنصارى وسواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر , وأنها تحرك العزم الساكن وتنفع الطريق .(203/37)
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة متأولا ًقوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ) فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا ، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا . انتهى ما نقلته من كلام الشيخ رحمه الله تعالى .
فتأمل كلام هذا الذي ينسب إليه عدم تكفير المعين إذا جاهر بسب دين الأنبياء وصار من أهل الشرك , ويزعم أنهم على الحق ويأمر بالمصير معهم وينكر على من لا يسب التوحيد ويدخل مع المشركين لأجل انتسابه إلى الإسلام .
أنظر كيف كفر المعين ولو كان عابداً بإستحلال الحشيشة ولو زعم حلها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا وكلامه في المعين , وكلام الصحابة في المعين فكيف بما نحن فيه مما لا يساوي إستحلال الحشيشة جزء من ألف جزء منه ، والله أعلم .
والحمد الله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
تم تحميل هذا الملف من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info(203/38)
مقدمة كتاب الموفي بمعرفة التصوف والصوفي / مفيدة جدا
---
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب نادر في نقد الصوفية اسمه: الموفي بمعرفة التصوف والصوفي.
تأليف: الإمام كمال الدين أبي الفضل جعفر بن ثعلب الأدفوي المصري (685-748هـ).
حققه وقدم له وعلّق عليه: الدكتور محمد عيسى صالحية.
مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع- الكويت.
- تمهيد:
شهد القرن الثاني الهجري ظهور الحركة الصوفية، حيث بدأ إعراضُ الناس عن السبيل السويّ من مراقبة الله وخشيته وذكره في السِّرّ والعَلن والزهد في الدنيا. فقد هالَ جماعة الصالحين تكالبُ الناس على الدنيا.
واستياقهم للانهماكِ في الملذات والملاهي، فانتحوا جانبا متجهين إلى الحقِّ سبحانه، متبتلين يتلون كتاب الله ويقومون الليل تهجدا وتهليلا بالسر والعلن.
وأخذ جماعة من هؤلاء على أنفسهم تبيين السلوك العملي للصوفية، فوصف المحاسبي في كتابه"الرعاية لحقوق الله تعالى" سلوك الصوفية باسلوب علمي.
وكانت مسالك الصوفية حتى القرن السادس الهجري بصورة عامة قريبة إلى الزهد، مع ما خالطها في بعض الأحيان من ابتعاد عن جادة الصواب.
غير أن الأحداث الجسام التي تعاقبت على الدولة الإسلامية منذ أواخر القرن السادس الهجري وأوائل القرن السابع الهجري، أوجدت ردة فعل معاكسة، فانصرف بعضهم عن الحياة وشؤونها ومالوا إلى التواكل، وغدا الزهد في أعرافهم نوعا من اللامبالاة يصل لدرجة الخنوع.
لقد كانت البداية حين عقد الأيوبيين العزم على التصدي للتيار الشيعي إثر إنهيار الدويلة الفاطمية، إذ أنشأ الأيوبيين العديد من المدارس ودور الحديث في مصر والشام واستدعى علماء وفقهاء السنة ليقوموا بدورهم في تلك المؤسسات، فأصبحت مدن إسلامية كثيرة مثل الأسكندرية والقاهرة وقوص وأسيوط والقدس وحلب ودمشق وطرابلس مراكز نابضة لعلوم السنة والفكر السني.(204/1)
ثم جاءت الهجمة الصليبية الشرسة لتضيف أعباء أخرى، حيث ألقت بكاهلها على صلاح الدين، فعمل على تثبيت عروبية وإسلامية البلاد التي كانت مطمع الغزاة الجدد، فأقام الخوانق والربط والزوايا والتكايا، إضافة إلى المساجد والمدارس ودور الحديث والبيمارستانات، وكان هدف صلاح الدين من وراء ذلك النهوض بالشعور الديني عند المسلمين، ورفع استعدادات الأمة الغسلامية لمقلومة الأخطار التي تهددها.
واحتل جماعة من الناس تلك الأماكن، امتهنوا الذكر وقراءة القرآن . وسلكوا السبيل القويم، وكانوا نماذج خيرة للأتقياء والعبَّاد. ولكن تلك الأماكن ما لبثت أن أصبحت ملجأ وملاذا لكل طالب راحة، حيث يجد فيها ضالته من من الطعام واللباس والشراب دون عناء يذكر، وتلا ذلك ازدياد أعداد المنتظمين في سلك الصوفية، لا سيما بعد تضخم عدد الخانقات والرُّبط والزوايا والتكايا، ومبالغة الناس في حبس الأوقات عليها، وتباري السلاطين والأمراء والأغنياء في تقديم الأموال والهدايا لمرتاديها، فسهلت حياة المتصوفة ونعموا بعيشة مترفة باذخة، قادت إلى تفشي البدع فيما بعد.
وإزاء ذلك فقد كثر إتساع التصوف بقصد التعيّش، فأمَّ العديدون الخانقات ولبسوا الصوف وحلقوا الرؤوس. ولكنهم لم يتخلقوا بأخلاق الزهاد والصوفية، وغدا الصوفي على الأغلب، رجلا أكولاً كثير الفضول يضرب بتطفله المثل، فقالوا:"نعوذ بالله من النار، ومن الصوفي إذا عرف باب الدار". وفي وصف آخر لحالهم بأنهم:"أكلة، بطلة، سطلة، لاشغل لهم ولا مشغلة".
وعرّف كثير من الفقهاء جماعة المتصوفة بأنهم رجال يظهرون الإسلام ويبطنون فاسد العقيدة، في أرجلهم جماجم وعذباتهم من قام.(204/2)
ومما زاد في تكالب جماعات من الناس على الانضواء في سلك الصوفية، وقوع الهجمة التترية المغولية المدمرة على العالم الإسلامي، وما أورثته في النفوس من شعور بالمرارة وخيبة الأمل وما اتصف به ذلك العصر من شظف في العيش نتيجة القحط والجذب فاستدامت المجاعات وانتشرت الأمراض السارية كالطاعون والجدري وغير ذلك من الأمراض الفتاكة.
ووجد هؤلاء في الخانقات بسطة في العيش وسعة في الحال، بل وترفا في المأكل والمشرب والملبس، ذلك أن العديد من المصالح والمنشآت كالبساتين والدكاكين والحمامات والأسواق قد وقفت على الصوفية، فخانقاه سعيد السعداء بمصر التي انُشئت سنة569هـ = 1173م، أوقفت عليها جملة من المصالح لينفق من ريعها على فقراء الصوفية، من جملتها بستان الحبانية وقيسارية شراب، وكان يخصص لكل صوفي فيها ثلاثة أرغفة زنتها ثلث رطل في مرق، ويعمل لصوفيتها الحلوى كل شهر ويفرّق عليهم الصابون.
أما صوفية خانقاه ركن الدين بيبرس فقد ألحق بها مطبخ، يوزع منه على المجاورين اللحم والطعام وثلاثة أرغفة كل يوم إضافة إلى الحلوى ، ولصوفية خانقاه شيخو علاوة على ماذُكر، الزيت والصابون.
أما صوفية خانقاه سرياقوس فلهم كل سنة ثمن كسوة وتوسعة في كل رمضانوالعيدين والمواسم، فوق ماكان لهم من طعام شهي وخبز نقي إضافة إلى حلوى وزيت الزيتون والصابون وثمن الفواكه، هذا عدا مافي الخانقاه من سكر وألوان من الشراب وأنواع الأدوية.
كما ألُحق بالخوانق الحمامات والمطابخ والمدافن ، ومدت أرضيتها بالفرش وآلات النحاس والكتب والقناديل وغيرها من الأدوات النفسية، التي لا يقتنيها إلا الملوك والأمراء.
إن من يطلع على وقفيات الخوانق والزوايا والأربطة يدرك مدى العبء الاقتصادي الذي عاناه المجتمع بسبب ضيق القاعدة التي تستفيد من المصالح الاقتصادية المحبوسة على الصوفية دون غيرهم من شرائح المجتمع.(204/3)
وكدليل على حياة البذخ والترف التي نعم بها الصوفيون، نقدّم أنموذجين لسماعين عقدا في مصر والشام سنة 659هـ=1261م .
" قال المولى قطب الدين-رحمه الله-: حكى لي بعض الناصرية، قال: لما دخلنا الدِّيار المصرية، اتفق أن بعض أكابر الأمراء عمل سماعا، عنده، فلما كان عشاء الآخرة، مضى ونحن معه-جماعة من مماليكه وخواصه-إلى دار الأمير، فلما دخل وجد جماعة من الأمراء جلوسا في إيوان الدار، وجماعة من الفقراء في وسط الدار، فوقف، ولم يدخل وقال لصاحب الدار: أخطأتم فيما فعلتم،كان ينبغي أن يقعد القراء فوق وأنتم في أرض الدار، ولم يجلس حتى تحول الفقراء إلى مكان الأمراء، والأمراء إلى مكان الفقراء، وقعد هو ونحن بين الأمراء، فلما غنّى المغني، قام أحدهم والدف بيده يستعطي، وهذه كانت عادة المغاني في الدُّيار المصرية، فلما رآه الأمير جمال الدين انتهره، وقال: والك ".
وتمضي الرواية في شرح حال الصوفية وهم يرقصون ويجمعون النقود من الذهب والفضة من الأمراء، ثم أكلهم مالذ وطاب من المطعم والمشرب.- ا هـ حبيب الزيات: ليلة رقص وسماع أميرية للفقراء – وانصرافهم فرحين جذلين.
كما أورد قطب الدين اليونيني في "ذيله" على "مرآة الزمان" لبسط ابن الجوزي عرضا دقيقا، وصف فيه إحدى تلك الليالي الراقصة، جاءت في ترجمة لاجين بن عبد الله حسام الدين الجوكندراي (ت 662 هـ/63-1264م ).
حيث قال: "....وكان له في الفقر والصالحين عقيدة حسنة، ويكثر من الإحسان إليهم والبر بهم، وافتقادهم بالنفقة والكسوة وغير ذلك، وكان يعمل لهم سماعات، ويحضر فيها من المآكل والمشارب والأراييح الطيبة والشموع مايبهر العقل ويتجاوز الحد، فكان يقدر ما يغرمه على السماع الواحد تقريبا ثمانية آلاف درهم....إلخ .- ا هـ اليونيني:"ذيل مرآة الزمان" ص 112-113 .(204/4)
ويمضي اليونيني في وصف ليلة سماع حضرها هو بنفسه في دارة لاجين الكائنة بالعُقَيبة بدمشق أواخر 659 هـ ، ذلك أن الدار أضيئت بالشموع الكافوية في أنوار (شمعدانات) الفضة، والمطعمة بصنوف الجواهر والأحجار الكريمة.
حتى إذا قضيت صلاة المغرب مدَّ للفقراء سماطا اشتمل على قريب مئة زبدية عادلية، في كل زبدية خروف صحيح رضعي، وحوالي ثلاث مئة زبدية في كل واحدة ثلاثة طيور دجاج وغير ذلك من أنواع الطعام، وبعد العشاء وإتمام الصلاة شرع الحاضرون في الغناء والرقص، حتى إذا ما تعبوا مدَّ سماطا من الحلوى والقطائف الرطبة والمقلوة المصنوعة بالسكر المصري والفستق والمسك ثم رقصوا وغنوا جميعا، ومن ثم مُد سماطا عظيما من الفواكه النادرة في غير موسمها من سفرجل وتفاح وكمثرى ورمان وبطيخ، وبعدها عادوا إلى الرقص والغناء ، ومن ثم مَدَّ سماطا من الكسرات على أنواعها من قصب عراقي وفستق وبندق وزبيب، والكعك المحشو والخشكنان (أقراص من الدقيق والحلوى) ، والبقسماط وغيرها، وكان شرابهم مصنوعا بالثلج والسكر وماء الخلاف (نوع من الصفصاف المصري المستقطر) ، وماء الورد إضافة إلى المباخر المعمرة بالند والعنبر والعود الهندي حتى إذا كان وقت السحر دخلوا حماما مجاورا لدار لاجين، فاستحمّوا وأُلبسوا القمصان والثياب الجدد، وبعد الحمام عادوا إلى الدار فأُشربوا الأشربة التي تناسب الحمام، ومن ثم مد لهم سماطا من الحلوى الساخنة، وبعدها ينصرفون.
ولتقدير حالة الناس آنذاك فقد علّق اليونيني على وقوع هذا السماع، بأنه أقيم، والناس في ضنك، فغرارة القمح بدمشق ثمنها ثلاث مئة درهم، ورطل اللهم بالدمشقي ثمنه سبعة دراهم، والدجاجة ثمنها ثلاثة دراهم. وجميع الأشياء غالية جدا.
فانظر أي ترف ورخاء، عاش في صوفية ذلك العصر؟(204/5)
ولم يقتصر دور الصوفية على التخريب الاقتصادي، بل تعداه إلى التأثير في الأحداث السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال تغلغل الحركة من خلال العامة والخاصة، ومن ثم فإن الدولة اعترفت بمؤسسات الصوفية وقربت مشايخ الصوفية، حتى إن السلاطين كانوا يفاخرون ببناء الأربطة والخوانق والزوايا لجماعة الصوفية، لاعتقادهم أن بإمكان الفقراء المتصوفة الإتيان بالخوارق، وكشف الضّرّ عن السلاطين، والادعاء بالمكاشفة ومشاهدة الحق .- ا هـ الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف ص 16 - .
ولذا فإن فقراء الصوفية كثيرا ما دعوا ليرفعوا الضَّرر عن مصاب، أو ليدعوا بالعافية لمريض .
وقد بلغ من تأثير شيخ شيوخ خانقاه سعيد السعداء أن نجح في إبعاد ابن تيمية عن مصر إلى الشام 707 هـ - 1307م
حيث حُبس في الشام بدعوة تكلمه على مشايخ الطريقة، وكان شيخ سعيد السعداء قد جمع فوق خمس مئة صوفي من صوفية الخانقاه وسار بهم في تظاهرة إلى القلعة وكانت جماعات غفيرة من العامة قد انضمت إلى المظاهرة، وفي القلعة شكوا للسلطان ابنَ تيمية، الذي أحالهم بدوره إلى القاضي الشافعي فدفعهم عنه إلى تقي الدين علي بن الزواوي المالكي، والذي أصدر بدوره الحكم الذي أشرنا إليه. – ا هـ ابن طولون: مفاكهة الخلان ج1 ص 21 –
وفي دمشق أيضا عُنِّف ابنُ رمضان الشاهد، لأنه تكلم في حقِّ الفقراء وضُرب حتى طلب التوبة والاستغفار.
بل إن الصوفية كثيرا ما قاموا بإراقة الخمور والبوزة لأنها محرمة على غيرهم، وقد يخرجون إلى الشوارع لإطلاق سراح أحدهم من السجن، وأمورا أخرى كثيرة .
وسدر الصوفية في مفاسدهم، حتى إن بعضهم أفتى بحرام الكسب إلا عند الضرورة، لأن الكسب في عرفهم ينفي التوكل على الله أو ينقص منه، وقدم أمرهم الله بالتوكل، ورزقهم في السماء وما يوعدون. – ا هـ الشيباني: الكسب ص 37 –(204/6)
ثم إن بعض الصوفية كانوا لا يقيمون الصلاة أبدا، مدَّعين أنهم لا يقومون بأدائها إلا في الأماكن المقدسة فقط.- ا هـ الشعراني اليواقيت والجواهر،1/125 –
لقد عمَّ الفساد حياة الصوفية في عاداتهم وأخلاقهم ورسومهم وسننهم وملابسهم ومشاربهم ومآكلهم، واشتهر المتفقرون من المتصوفة بالجشع في الأكل والشرب، والولع بالرقص والتهافت على السماع والغناء .
حيث قال فيهم الشاعر الطاهر: [الوافر]
أرى جيلَ التصوف شرَّ جيلِ**** فقل لهمُ وأَهونْ بالحلولِ
أقالَ اللهُ حين عشقتموه**** كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
- ا هـ وردت الأبيات في النص المنشور من رسالة ابن القارح، علي منصور الحلبي، الذي كان معاصرا لأبي العلاء المعري، والتي جاءت رسالة الغفران ردا على رسالة ابن القارح لأبي العلاء، وقد جاء في الشطر الأول من البيت الثاني: أقال الله حين عشقتموه ولعله الأصوب، لأن الصوفية تعشق بينما العبادة لكل البشر، انظر: أبو العلاء المعري: رسالة الغفران ومعها نص محقق من رسالة ابن القارح، د. بنت الشاطئ، ط. السادسة، دار المعارف، 1977 ص 36-37، بنت الشاطئ: جديد في رسالة الغفران، ط بيروت 1972، ص 51 - .
وعليه فإن أبرز مظاهر الفساد في حياة المتصوفة علاوة على ماذكر، يمكن إيجازها بما يلي :
أولاً. السماع والرقص:
والسماع عند الصوفية، ليالي تعقد، فيها ينشدون وبرقصون، وفي عرفهم أن السماع بولد حالة في القلب تسمّى بالوجد، وهذا بدوره يحرك أعضاء البدن، فإن كانت الحركات غير موزونة كانت إضطرابات، وإن كانت موزونة فحينئذ تكون تصفيقا ورقصا. – ا هـ الغزالي: أحياء علوم الدين،2/236, ابن الجوزي: تلبيس إبليس 267 - .
ويبدو أن نوعا من الهوى والغلبة قد سيطرا على الصوفي، فإن سمع غناءً أو إيقاعاً بقضيب، تواجد وصفق وربما مزّق ثيابه ورماها .- ا هـ إبن الجوزي: تلبيس إبليس،247،250،260 -.(204/7)
وقد أنكر عليهم جماعة من العلماء مثل هذا السلوك الشائن، وصنفوا الكتب ووضعوا القصائد في ذم سلوكهم، فالإمام موفق الدين، عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي وضع رسالة في ذم ما عليه مدّعو التصوف من الغناء والرقص والتواجد وضرب الدّف وسماع المزامير، ورفع الأصوات المنكرة بما يسمونه ذكرا وتهليلا، بدعوى أنها من أنواع القُرَبِ إلى الله تعالى .
وهجاهم كثير من الشعراء مثل شدَّاد بن إبراهيم الملقب بالطاهر الجزري، والعميد أبو محمد، عبد الله، أحمد بن إبراهيم الزواوي الكاتب، وظهير الدين قاضي السَّلّاميَّة ت 610هـ=1213م .
الذي هجا مكي شيخ زاوية الفقراء بالبوازيخ، البليدة القريبة من السَّلّاميَّة، فقال:[المتقارب]
أَلا قُل لِمَكّي قَوْلَ النَّصُوحِ**** فَحقُّ النصيحة أن تُستَمَعْ
متى سمع النَّاسُ في دِيِنهم**** بأَنَّ الغِنا سُنّةٌُ تُتَّبعْ؟
وَأَنْ يَأْكُلَ المَرْءُ أَكلَ البَعِيْرِ**** وَيَرْقُصَ في الجَمْع حتَّى يَقَعْ
وَلَوْ كَانَ طاوي الحَشَا جائعاً**** لما دار من طَرَبٍ واسْتَمعْ
وقَالوا سَكُرْنا بحبُّ الإِلهِ**** وَمَا أسْكَرَ القَوْمَ إلا القِصَع
كذاك الحميرُ إذا أخصْبتْ **** يُنَقّزها ريّها وَ الشَبَعْ
ثانياً. مصاحبة المرد والأحداث:
إستحل بعض الصوفية كل المحرمات والكبائر، وتظاهروا بالفسق والفجور والمخازي، فليلة الماشوش تتم علانية عند متصوفة شيراز(1). وقد روى خبرها التنوخي في نشوار المحاضرة، - ا هـ مجلة المجمع العربي بدمشق، العدد17ص261-262 – ذلك أن ابن خفيف البغدادي، شيخ متصوفية شيراز، وقدمات رجل صوفي من أصحابه، وخلف زوجة صوفية، فاجتمع النساء الصوفيات يعزينها، حتَّى إذا انتهت مراسيم الدفن، وصل ابن خفيف الدار وأخذ يعزي المرأة بكلام من كلام الصوفية إلى أن قال: أعزبت.
قال لها: ها هنا غير(2).
فقالت: لا غير(3).(204/8)
فقال: فما معنى التزام النفوس آفات الهموم وتعذيبها بعذاب الغموم؟ ولأي معني تترك الامتزاج(4)، لتلتقي الأنوار(5)وتصفو الأرواح وتقع الاختلافات وتنزل البركات. فقالت النساء: إذا شئت .
فاختلط جماعة الرجال بجماعة النساء طول ليلتهم، فلما كان سحراً خرجوا، ويبدو أن ذلك الحادث قد وقع في اليوم الأول من الصوم، أو الأحد الأول من الصوم حسب رواية الشابشتي في الديارات(6)، وأصبح ذلك اليوم إحتفالاً لهم يختلط فيه الرجال مع النساء.
وقد أشار ابن الجوزي إلى أن صوفية عصره قد سدُّوا على أنفسهم باب النظر إلى النساء الأجانب، لبعدهم عن مصاحبتهن وامتناعهم عن مخالطتهن، واشتغلوا بالتعبد عن النكاح. واتفقت لهم صحبة الأحداث على وجه الإرادة وقصد الزهادة(7) .
ويقرر ابن الجوزي أن آفة الصوفية في عصره في صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد(8)، ولم يقف البلاء عند هذا الحد بل تعداه لإضفاء مشروعية ذلك للمتصوفة، فقد صنف أبو الفضل محمد بن طاهر، المعروف يابن القيسراني الشيباني ت507هـ=1113م رسالة في إباحة السماعة والنظر إلى المرد(9) . واشتهر من المتصوفة بالتهتك والاستباحة خضر الكردي شيخ الملك الظاهر بيبرس، والشيخ أبي الحسن الحريري، وسليمان بن المولّه المجذوب.
وكان علي الحريري أكثر المتصوفة تهتكاً في معاشرة الأحداث" فكان من وقع نظره عليه من الأحداث وأولاد الجند والأمراء وغيرهم يحسن ظنه فيه ويميل إليه، ولا يعود ينتفع به أهله، بل يلازمه ويقيم عنده، إعتقاداً فيه وميلاً إليه"(10)
ومع أن ظاهرة مصاحبة المُرد والأحداث والمخنثين كانت واضحة في العصور العباسية المتأخرة، فقد اشتدت في عصر المماليك وذلك إثر قدوم طائفة من الأويراتية التترية(11)، المشهورين بالجمال سنة 695هـ=1295م.
ــــــــــــــــــــ
(1)انظر الزيات(حبيب): كتاب الديارات في الجزء الأول من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري . مجلة المشرق 42: 1948 ، 297 .(204/9)
(2)أي هل يوجد هنا من هو غير صوفي.
(3) لايوجد من يخالف.
(4)كناية عن الوطء.
(5)أي النور الإلهي.
(6)وردت عند الحديث عن دير الخواص ص93، وانظر ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار، 1/280-282(تحقيق أحمد زكي باشا).
(7)ابن الجوزي: تلبيس إبليس،ص 265 .
(8)المرجع السابق،ص 276 .
(9)الشعراني: الطبقات الكبرى، 2/129 .
(10)الدلجي: الفلاكة،72 ، ابن الفوطي: الحوادث الجامعة،325 .
(11)قبائل مغولية سكنت الجزء الأعلى من خط نهر venessei بأواسط آسيا.
وانتشارهم في مصر والشام، ومن ثم دخولهم في خدمة الأمراء المماليك، وتنافس أمراء المماليك على اقتناء صبيانهم وبناتهم، ومن تبقى من هؤلاء الأويراتية بعد ذلك انخرط في الجيش ، وتفرقوا في الممالك لتنتشر معهم المفاسد، ووجدت جماعات من الصوفية فيهم ضالتهم ، فبالغوا في إضفاء مشروعية صوفية على فعلتهم النكراء، وقد أورد لنا الشعراني- أحد كبار متصوفة القرن العاشر الهجري –خبر الصالح محمد بن عراقي، الذي كان لا يمكّن ابنه علياً من الخروج إلى السوق، حين كان أمرد إلا أن يُبَرقَع خوفاً عليه من السوء والفتنة(1).
ولم يقف الأمر عند المرد والأحداث بل تعداه إلى سواه من البهائم والحيوانات، فقد كان الشيخ الصوفي علي وحيش (ت917هـ/1511م) كثير الاعتداء على البهائم والأتن(2).
لقد كان هذا من التصوف استهزاءً بالأديان، وبعداً عن جادة الزهد والعبادة، وتهتكاً، حتى استحق صوفية القرون التالية للقرن السادس هجري، لقب "الفقراء المخربين" ، لأنهم يناقضون السنن و العادات ويخرجون عن الآداب والشرائع(3).
ثالثاً. تعاطي الحشيش:
دأب عدد من الصوفية على تعاطي الحشيشة، بدعوى أنها تذهب الهموم الكثيفة عن قلوبهم، وتجلو بفعلها أفكارهم الشريفة.(204/10)
وليس بين أيدينا نص موثوق حول كيفية دخولها إلى العالم الإسلامي، فقد تعددت الروايات حولها، فبعض الروايات تنسبها إلى الهندي بيرزطن الذي حملها معه من الهند إلى فارس في القرن الأول الهجري، ومن ثم انتقلت بواسطة جماعة القلندرية الذين كانوا ينتظمون في سلك الصوفية، وقد حلقوا الرؤوس والحواجب والشوارب(3).
ورواية أخرى تنسب كشفها إلى الشيخ حيدر ت618هـ=1221م، والذي جعلها وقفاً على رفاقه من متصوفة خراسان، وأوصى أن يزرعوها على قبره بعد وفاته، ومن ثم انتقلت إلى بغداد فالشام ومصر، ومن الجدير بالذكر أن جماعة الحيدرية قدموا إلى دمشق بعد سنة 655هـ=1257م، وعلى رؤوسهم طراطير، ولحاهم مقصوصة، وشواربهم بغير قص، وبنوا لهم زاوية خارج دمشق، ومنها وصلوا إلى مصر(4).
وقد تغنّى شعراء الصوفية بمحاسن الحشيشة، وأطلقوا عليها عدة أسماء مثل حشيشة الفقراء، ومدامة حيدر، والقلندرية .
وكان شاعرهم محمد بن علي بن الأعمى، أكثر الشعراء لهجاً بمزايا الحشيشة، فقال:[الطويل]
دع الخمر واشرب من مدامة حيدر**** معنبرة خضراء مثل الزبرجد
يعاطيكَها ظبيٌُ من الترك أغيد**** يميسُ على غصنٍ من ألبانِ أملدِ
فتحبسها في كفّه إذ يديرها**** كرقم عذار فوق خدِّ مورَّد
يرنحها أَدنى نسيم تنسَّمت**** فتهفو إلى بردِ النَّسيم المردود
وتشدو على أغصانها الوُرقُ في الضحى**** فيطربها سجعُ الحمامِ المغرّدِ
هي البِكرُ لَمْ تُنْكَح بماءِ سحابةٍ**** ولا عُصرتْ يوماً برجلٍ ولا يدِ
ولا عبثَ القسيس يوماً بكأْسها**** ولا قرَّبوا مِنْ دنّها كلَّ مقعدِ
ولاَ نصَّ في تحريمها عندَ مالكٍ**** ولا [هي]عند الشافعيّ وأحمدِ
ولا أثبت النُّعمانٌ تنجيسَ عينِها**** فخُذها بحدّ المشرفي المهنَّد
وكُف أكفَّ الهمّ بالكيف واسترح **** ولا تطرحنَّ يومَ السرورِ إلى غدِ(204/11)
لقد أدخل الصوفية الحشيشة إلى العالم الإسلامي منذ القرن السادس الهجري ، ولا زالت أمتنا تعاني من آثار هذا المرض الاجتماعي حتى اليوم .
رابعاً. الإدعاء بالإتيان بالإتيان بالخوارق والكرامات:
عمَّ بين الصوفية اعتقاد، بأن الإنسان إذا ارتاض وجاهد في العبادة، فإنه قد يلتحق بالملائكة الكرام حتّى يطير في الهواء ويمشي على الماء، فبالرياضة حسب اعتقادتهم ينسلخ الصوفي بالكليَّة عن الحظوظ البشرية، وهذا الاعتقاد في أساسه، اعتقاد البراهمة (5). ولكنه شاع عند الصوفية، وكانوا يحرصون على نشر الأخبار التي تروي طيران أحدهم في الهواء، فالشيخ أبو يوسف، صفي الدين الحسين بن جمال الدين الأنصاري الخزري" ارتفع بجلسته إلى العلو قدر
ــــــــــــــــــــ
(1)الشعراني: لواقح الأنوار، 2/257، زكي مبارك: التصوف، 1/257.
(2)الشعراني: الطبقات الكبرى،2/129-130.
(3)ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات، 2/112.
(4)المقيرزي: السلوك، ج1، ق1، ص407.
(5)المقيرزي: الخطط،3/40.
قامتين، ودار وسع المجلس الذي كان الصوفية فيه، ثم نزل إلى موضعه !!"(1)
وقد أنكر ابن تيميّة على صوفية الأحمدية ما تفعلونه من دخولهم في النيران المشتعلة، وأكلهم الحيّات، ولبسهم الأطواق الحديدية في أعانقهم، وتقلدهم بالسلاسل على مناكبهم، وعمل الأساور الحديد في أيديهم(2) وغيرها من الخوارق.
لقد حفلت القرون من السابع الهجري إلى العاشر الهجري بأخبار كرامات وخوارق هؤلاء الصوفية حتى غدت أمرا مصدوقا، يتعرّض من كذّبه إلى التعزير والإيذاء، وانسحبت آثار ذلك على العصور التالية، وخاصة في العهد العثماني، حين أصبحت الطرق الصوفية واسعة الانتشار، كثيرة الأتباع .(204/12)
كانت الصوفية في ذلك العصر شراً أصاب المجتمع، وإفساداً للقيم والآداب وتخريبا للشرائع والسنن، وقد عيّر كل من فتح الدين ابن سيد الناس، وصلاح الدين الصفدي عن حال الصوفية بعبارات مقنعة، تعكس واقع حال المتصوفة، فالشيخ فتح الدين محمد بن محمد بن سيد الناس يقول فيهم: [الخفيف]
ما شروط الصوفي في عصرنا اليو**** م سوى ستة بغير زيادة
وهي....* العلوق والسكر والسطْـ**** ـلة والرقص والغنا والقيادة
وإذا ما هذى وأبدى اتّحاداً**** وحلولاً من جهله وأعاده
وأتى المنكراتِ عقلاً وشرعاً**** فهو شيخُ الشُّيوخ ذو السِّجَّادَة**
كما وصف الصفدي هيئة أحد رجال الصوفية، فقال:
"شيخ مسن فقير، حرفوش، مكشوف الرأس، منفوش الشعر، عليه دلق رقيق، بالي الخلقة رقيق، قد تمكن منه الوسخ ونبت فيه ورسخ، قد جمعه من عدة رقاع، له مدفأة يستدفئ بنارها"(4)
تحليل مادة الرسالة التي ننشرها:
ناقشت الرسالة، مسألة اقتصادية مهمة، وهي هل يصح الوقف والوصية للصوفية أم لا؟ ذلك أن عددا كبيرا من مصالح البلدان، كالدكاكين والحمامات والأسواق والبساتين والقرى الفلاحية والطواحين والمعاصر وغيرها، كانت توقف على صوفية خانقاه أو يوصى بإنفاق ريعها على جماعة صوفية معينة، وبالتالي فإنه لايستفيد من هذه المصالح إلا حفنة من المجتمع حظيت بخيراته وهباته، بل وأثرت في مجرى الأحداث السياسية والاجتماعية في الأمة، فغدت هي المتنفذة المقربة من أُلي الأمر، بل إن أُولي الأمر أنفسهم باتوا يخشونهم، فتزلفوا لهم بالمبالغة في إكرامهم وإغداق الأموال عليهم.(204/13)
لقد شكل هؤلاء الصوفية عبئاً ثقيلاً على اقتصاد المجتمع، وأُرهِق الأهالي والفلاحون بتوفير احتياجاتهم طمعاً في إرضائهم ونيل دعواتهم، وانعكست الأهداف وغرق الصوفية في المفاسد والإفساد، وسيروا الحياة الاجتماعية وفق ما يرغبون، وطغى هيلمانهم، واستفحل تأثيرهم، فقام جماعة من العلماء وأخذوا على عاتقهم تنبيه المجتمع لحالة التردي التي وصلت إليها الحركة الصوفية، وذلك من خلال إيقاظ الأحاسيس بأصول الصوفية
ــــــــــــــــــــ
(1)صفي الدين الخزرجي: سير الأولياء، 30،مأمون محمود ياسين وعفت وصال، ط بيروت.
(2)المقيرزي: السلوك، ج2 ق1 ص 16.
* كلمة فاحشة بذيئة.
(3)المقيرزي: الخطط، 2/424، ابن شاكر الكتبي: فوات الوفيات3/287.
(4)سلام: الأدب في العصر المملوكي، ج1 ص203.(204/14)
من كتاب هدم المنارة
الأحاديث التي يستشهد بها القبوريون
الحديث الأول:
وهو ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (فتح: 2 /494):
حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، قال: سمعت ابن عمر يتمثل يشعر أبي طالب:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثِمال اليتامى عصمة للأرامل
وقال عمر بن حمزة: حدثنا سالم، عن أبيه:
ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب:
وأبيض يُستسقي الغمام بوجهه ثِمال اليتامى عصمة للأرامل
وهو قول أبي طالب.
قال المؤلف ( (ص: 116): (وهو نص صريح في توسل ابن عمر رضي الله عنهما بذاته ).
قلت: هذه مجازفة، فليس في الخبر ما يدل على ذلك البتة، والشعر في نفسه لا يدل على أنهم كانوا يستسقون بوجه وذات عبد المطلب، وإنما كان يخرج هو بنفسه فيستسقي لهم، ويدعو الله لهم وهو ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية عمر بن حمزة، فإنه قد ورد فيها: »ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستقي«.
فدلت هذه العبارة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقي، وهذا مقتضاه الدعاء، فلا أدري أين التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم ؟! فإن كان يقصد المؤلف أنه قد وقع من ابن عمر، فمحال؛ لأنه إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، وهم يؤمنون على دعائه، ويبعد كل البعد، أن يفارق ابن عمر التأمين على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لكي يدعو منفرداً، ويتوسل بجاهه، هذا أمر.
وأمر آخر فهذا الشعر لا يدل على التوسل بالجاه، وإنما ذُكر فيه الوجه، وهو كناية على الاستقبال بالدعاء، لا التوسل بالجاه، فتنبه إلى هذا المعنى.
الحديث الثاني
وهو ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (فتح: 2/494) من طريق: ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس:(205/1)
أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال:
اللهم! إنا كنَّا نتوسل إليك بنبينا فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون.
قال المؤلف:
(وهو صريح في التوسل بالصالحين، لاسيما إذا كانوا من أهل البيت النبوي عليهم السلام، قال الحافظ في "الفتح" (2/497): "ويُستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس، وفضل عمر لتواضعه للعباس، ومعرفته بحقه").
قلت: هذا الكلام منتقض بأن الأثر وإن كان صريحاً في التوسل بالصالحين، إلا أن توسلهم كان على غير الهيئة المبتدعة التي يروِّج لها المؤلف، من التوسل بالجاه، وإنما كانت بالتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر جداً من مجموع الأحاديث الواردة في الاستسقاء.
وقد أخرج البخاري في "الصحيح" (1/295)، ومسلم (2/614)، والنسائي (3/166) من طريق: الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس – رضي الله عنه – قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة، قام أعرابي، فقال: يا رسول الله! هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه، وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده! ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، وبعد الغد، والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي – أو قال: غيره – فقال: يا رسول الله! تهدّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه، فقال: "اللهم! حوالينا ولا علينا"… الحديث.(205/2)
فدلَّ هذا الحديث دلالة قوية ظاهرة على أن توسلهم به صلى الله عليه وسلم كان توسلاً بدعائه، لا بجاهه، وهذا ظاهر من قوله: »فادع الله لنا«، ولو كان التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم مشروعاً لما تأخروا في ذلك لاسيما مع عظم المصيبة أولاً بالقحط، وأخراً بالهدم والغرق.
فكان توسل الصحابة بعده عليه السلام في حادثة القحط بدعاء العباس، لا بجاهه، كما سوف يأتي تقريره بدليله.
وأما استدلال المؤلف بقول الحافظ ابن حجر السابق ذكره فهو من باب التدليس، فإن الحافظ لم يستدل بهذا الحديث على جواز التوسل بالجاه، وإنما استدل به على جواز الاستشفاع بأهل الخير، والاستشفاع لا يأتي بمعنى التوسل بالجاه، وإنما يأتي بمعنى التوسل بالدعاء كما سوف يأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى.
ثم إن قصة عمر في توسله بالعباس – رضي الله عنهما – لا تدل بحال أنه كان توسلاً بجاهه، بل هو على اليقين توسلاً بدعائه جرياً على ما كانوا يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم، من التوسل بدعائه.
وقد نقل الحافظ في الفتح ما يدل على ذلك، فقال (2/577):
» وقد بيَّن الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر، قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال، حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس «.
قلت: فهذا دليل ظاهر على ما ذكرنا وتؤيد هذه الرواية ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (3/92) من حديث ابن عباس: أن عمر استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فاستسق، فقام العباس، فقال: - فذكر فيه دعاءً آخر.
إلا أن سنده ضعيف جداً، فهو من رواية إبراهيم الأسلمي، وهو واهٍ.
وقد حمل البيهقي هذا الأثر على ما حملناه عليه، فبوَّب له في "السنن الكبرى" (3/52):(205/3)
[ باب: الاستسقاء بمن تُرجى بركة دعائه ].
وكذا فعل الموفق المقدسي – رحمه الله – فقال في "المغني" (2/439):
» ويُستحب أن يُستسقى بمن ظهر صلاحه، لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء، فإن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: استسقى عمر عام الرمادة بالعباس، فقال: اللهم! إن هذا عم نبيك صلى الله عليه وسلم، نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله عز وجل، وروي أن معاوية خرج يستسقي فلما جلس على المنبر، قال: أين يزيد بن الأسود الجرشي؟ فقام يزيد، فدعاه معاوية، فأجلسه عند رجليه، ثم قال: اللهم! إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يا يزيد! ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الله تعالى، فثارت إلى الغرب سحابة مثل الترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم، واستسقي به الضحاك مرة أخرى «.
قلت: أثر معاوية مع يزيد الجرشي، أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/2/155): أخبرت عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر الخبائزي، أن السماء قحطت مخرج معاوية… فذكره بنحوه.
قلت: وهذا سند صحيح لولا ما فيه من الانقطاع بين ابن سعد وبين أبي اليمان الحكم ابن نافع.
وهذا يدل على أن المستقر عند أهل العلم في فهم هذا الأثر وأشباهه التوسل بالدعاء، لا التوسل بالجاه.
وإن كان توسلاً بجاه، فما كان عمر في حاجة إلى تقديم العباس للدعاء، وإنما كان يكفيه أن يدعو هو متوسلاً بجاه العباس، ولا اعتبار حينئذ بوجوده أو عدم وجوده، وإن كان الأمر كذلك فقد كان حريًّا بعمر – رضي الله عنه – أن يتوسل بجاه النبي × لأفضليته، فلما لم يقع ذلك، ثبت القول بأنه كان توسلاً بالدعاء، لا بالجاه.(205/4)
ودلَّ أثر معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – في توسله بيزيد بن الأسود الجرشي أنه توسل بدعائه، لا بجاهه، هذا مع تقدم معاوية في الفضل على يزيد، لكونه من الصحابة، من جهة، ومن جهة أخرى فهو خال المؤمنين، ومن كُتَّاب الوحي.
وقد وقعت رواية واهية لهذا الأثر عند الطبراني في "الدعاء" (221)، والحاكم في "المستدرك" (3/334) من طريق:
الزبير بن بكار، حدثني ساعدة بن عبيد الله المزني، عن داود بن عطاء المدني، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، أنه قال:
استسقى عمر عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم! هذا عم نبيك العباس، نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله، قال: فخطب عمر الناس، فقال: أيها الناس! إن رسول الله × كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده، يعظمه، ويفخمه، ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله × في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله عز وجل فيما نزل بكم.
قال الذهبي في "تلخيص المستدرك":
"هو في جزء البانياسي بعلو، وصح نحوه من حديث أنس، فأما داود فمتروك".
قلت: قد وهاه الأئمة، فقال البخاري وأبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال أحمد: "ليس بشيء"، وقال الدارقطني: "متروك".
وأما المؤلف، فقد أورد هذا الأثر، وهوَّن من ضعفه لكي يسوغ له الاحتجاج به بمجموع الطرق، فقال (ص: 119):
(فيه داود بن عطاء المدني، ضعيف، وقد ضعّفه به الذهبي في تلخيص المستدرك، وأما الحاكم فلم يتكلم عليه).
قلت: هكذا لتكن الأمانة في النقل والوصف!! فإنه لم ينقل عبارة الذهبي – رحمه الله – لئلا تنكشف حيلته في تقوية هذه الرواية برواية أخرى هي عنده من قبيل الضعف المحتمل، وفي حقيقة أمرها هي مضطربة، وفيها نكارة.
وهذه الرواية الثانية هي التي أشار إليها ابن حجر في "الفتح" (2/577)، وعزاها إلى البلاذري، من طريق: هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، فقال: عن أبيه، بدلاً عن "ابن عمر".
قال الحافظ: "فيحتمل أن يكون لزيد فيه شيخان".(205/5)
وقد تلقَّف المؤلف هذه العبارة من الحافظ، فقال (ص: 120): (واحتمال الحافظ قوي وله نظائر).
قلت: يا للعجب! من هذه المغالطات، بل قول الحافظ لا يُعرَّج عليه بحال، ولا يُشتغل به إلا على وجه التعجب، فكيف يكون لزيد فيه شيخان، والأثر الأول لا يصح عن زيد من أصله، ومثله الأثر الثاني، فإن هشام بن سعد هذا ضعيف، عامة أهل العلم على تضعيفه، بل قال ابن معين: "ليس بشيء".
إلا أنه دون داود بن عطاء في الضعف، فإن داود بن عطاء شديد الضعف، ولا تنفعه المتابعة بحال، فإنه منكر الحديث متروكة.
وعليه فالأصح رواية هشام بن سعد، وهي مردودة أيضاً، فمرد الخبر إلى وجه واحد بهذا اللفظ.
ثم وجدت ما يدل على تناقض المؤلف، فإنه قال عقب ما نقلناه عنه:
(والعجب أن الألباني لم يذكر هذا الاحتمال القوي في توسله! ولذلك وجه آخر: وهو أن هشام بن سعد من رجال مسلم، فالقول قوله).
فدلَّ ذلك على أنه نقض تقويته لكلام الحافظ، بترجيحه لرواية هشام بن سعد، ورواية هشام بن سعد هذه لم يورد الحافظ متنها حتى يُتبين إن كان منها محل الشاهد.
وعلى التسليم له بصحة هذه الرواية، فلا مجال للاستدلال بها على جواز التوسل بالجاه، وذلك لأن الخبر صريح في أنه توسل به لمكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا محمول على تقديم التوسل به حيًّ لا ميتاً، إذ لو كان ميتاً لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالتقديم منه لعلو منزلته، وسمو مكانته عند الله تعالى على سائر الأنبياء، فكيف بمقارنته بسائر البشر؟!
وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا مجال للقول بأن التوسل به حيًّا هو توسل بجاهه؛ لأنه إذا كان كذلك، فيجب تقديم التوسل بجاه النبي × وإن كان ميتاً، فإن جاهه عظيم عند الله تعالى حيًّا وميتاً، وما كان الله تعالى يقدِّم عليه أحداً من البشر في التفضيل والمكانة حيًّا أو ميتاً، في حياته أو في موته، فإذا تقرر ذلك، فلا مجال إلا القول بتوسلهم بدعائه – رضي الله عنه -.(205/6)
وبذلك يتبين لك وهاء ما احتج به المؤلف على جواز التوسل بالجاه من حيث السند تارة، ومن حيث وجه الدلالة تارة أخرى.
وأما ما ختم به المؤلف بحثه في هذا الحديث من كلامه الساقط (ص: 121):
(وفيه أيضاً أن التوسل كان بالعباس، وليس بدعائه، بدليل قول عمر: واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم، فالضمير يعود على شخص العباس قولاً واحداً، إلا عند أهل التحريف).
فهذا من باب الشغب والتهويل، فإن الضمير وإن كان عائداً على العباس – رضي الله عنه-، إلا أن تقدير الكلام يكون:
"واتخذوه وسيلة إلى الله بدعائه"، كما أيدته بعض الروايات التي سبق ذكرها، وكما استقر عند الصحابة في هذا المعنى، وكما رجحه أهل العلم كالبيهقي والموفق- رحمهما الله – من أن التوسل بالدعاء لا بالجاه، ولما ذكرناه من أن على القائل بأن التوسل الذي توسل به عمر بالعباس إذا كان توسل بالجاه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أولى به وإن كان ميتاً، مما يدل على أن التوسل لم يكن بالجاه إلا في عقول أهل التخريف.
الحديث الثالث
وهو حديث عثمان بن حنيف – رضي الله عنه -:
أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم! إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي، اللهم! فشفعه فيَّ.
وهذا الحديث أخرجه أحمد (4/138)، والترمذي (3578)، والنسائي في "اليوم والليلة" (663و 664)، وابن ماجة (1385) بسند صحيح، وإن كان في طرقه بعض الاختلاف.
إلا أن هذا الحديث حجة عليه فيما ادعاه من جواز التوسل بالجاه وهذا ظاهر جداً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك"، ومن جواب الرجل عليه: "فادعه".(205/7)
فإن التوسل هنا مختص بالدعاء، ويؤيده قول الرجل في دعائه: "اللهم! فشفعه فيَّ"، وهذا مقتضاه حصول الدعاء من النبيصلى الله عليه وسلمإلى ربه لأجل هذا الرجل في محنته.
لأن مقتضى الشفاعة ومعناها: الدعاء والطلب للغير.
قال ابن منظور في "لسان العرب" (4/2289):
"وروي عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى: ] مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) قالا: الشفاعة: الدعاء ها هنا، والشفاعة: كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، وشفع إليه: في معنى طلب إليه... ".
قلت: وهذا يؤيده:
ما رواه الشيخان (البخاري: 4/385، ومسلم: 1/180) من طريق: قتادة، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"يجمع الله المؤمنين يوم القيامة، كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أما ترى الناس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك، حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناك... ".
فهذا ظاهر جداً على أن الاستشفاع لا يكون توسلاً بالجاه، وإنما هو بالدعاء، فلو كان بالجاه لكفاهم أن يتوسلوا بجاه أحد الأنبياء دون الحاجة إلى التردد بين الأنبياء جميعاً، كما ورد في متن الحديث، وهذا لم يقع منهم، ومن ثَمَّ فلا شفاعة بغير دعاء أو طلب أو سؤال.
ولكن احتج المؤلف على أن الاستشفاع المذكور هنا والتوسل مختص بالجاه بما أخرجه الطبراني في "الصغير" (الروض الداني: 508).
حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري التميمي، حدثنا أصبغ بن الفرج، حدثنا عبد الله بن وهب، وعن شبيب بن سعيد المكي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف:(205/8)
أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان – رضي الله عنه – في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصلِّ فيه ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أسألك، وأتوجه إليك بنبينا نبي الرحمة، يا محمد! إني أتوجه بك إلى ربك ربي جل وعز، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له عثمان، ثم أتى باب عثمان، فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عثمان بن عفان، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك، فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فأتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله! ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير..... فذكر الحديث المرفوع.
قال الطبراني:
"لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي، وهو ثقة، وهو الذي يحدِّث عنه ابن أحمد بن شبيب، عن أبيه، عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، واسمه عمير بن يزيد، وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر بن فارس، عن شعبة، والحديث صحيح، وروى هذا الحديث عون بن عمارة، عن روح بن القاسم، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، وهم فيه عون بن عمارة، والصواب حديث شبيب بن سعيد".
قلت: لا معارضة فيما حكم به الطبراني رحمه الله بالصحة على الحديث، إلا أن تلك القصة الموقوفة هي محل النظر، فقد تفرد بها شيخ الطبراني، طاهر بن عيسى بن قيرس، وهو في عداد المجاهيل، فقد تفرد الطبراني بالرواية عنه، ولم يتعرض له أحد بجرح أو تعديل، وإنما ذكره الذهبي في "تاريخ الإسلام" (وفيات: 291 – 300هـ) (ص:169).(205/9)
وأما المؤلف، فقال (ص: 127):
(من علل الحديث بجهالة شيخ الطبراني أبعد جداً عن معرفة الحديث، وغاير قواعده، فإن القصة الموقوفة تفرّد بها شبيب، ثم رواها عن شبيب ثلاثة، ورواها عن الثلاثة المذكورين ثلاثة آخرون، وعنهم آخرون، فلم يتفرد أحد برواية القصة إلا شبيب، فلا مدخل لشيخ الطبراني هنا فتأمل.
قد صحح الطبراني الحديث، وتصحيحه يعني توثيق رجال إسناده، ومنهم شيخه طاهر بن عيسى المصري وهو أعلم به من غيره).
قلت: وهذا الكلام فيه مغالطات من وجوه:
الأول: أن هذه القصة الموقوفة قد تفرد بها شيخ الطبراني طاهر بن عيسى، ولم يتابعه عليها إلا من هو في مثل حاله.
وإنما رواه ثلاثة عن شبيب، أحدهم ابن وهب من طريق طاهر بن عيسى، والآخران هما:
1- أحمد بن شبيب بن سعيد، عن أبيه.
أخرجه الحاكم (1/526)، وابن السني في "اليوم والليلة" (628)، باللفظ المرفوع فقط دون الموقوف، وثمة رواية أخرى زعم المؤلف أنها موقوفة، وسوف يرد الرد عليه فيها.
2- إسماعيل بن شبيب، عن أبيه.
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة " (6/167) من طريق:
محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال، قال: أنبأنا أبو عروبة، حدثنا العباس بن الفرج، حدثنا إسماعيل بن شبيب بالحديث المرفوع، والقصة الموقوفة أيضاً.
قلت: وإسماعيل هذا ليس له ذكر في كتب التراجم، ولا ذُكر ضمن الرواة عن شبيب ابن سعيد، ولم يذكر المترجمون لشبيب أن له ابناً اسمه إسماعيل.
وفي هذا السند محمد بن علي بن إسماعيل، الشاشي القفال، وهو من كبار الشافعية وأئمتهم، إلا أن من ترجمه لم يذكر فيه ما يدل على ضبطه، وجل عنايته كانت بالفقه، وهو مبرَّز فيه، فلعله وقع منه الوهم في هذا السند.
ثم تبين لي بعد ذلك أنه قد وهم فيها ولا ريب، فقد خالفه في هذه الرواية ابن السني في "اليوم والليلة" (628)، وهو حافظ كبير، فرواه عن أبي عروبة به، وقال: حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، باللفظ المرفوع فقط، هذا من جهة.(205/10)
ومن جهة أخرى فالرواية بالقصة الموقوفة معلولة من كل وجه.
فأما رواية ابن وهب التي عند الطبراني في الصغير، فقد خولف فيها شيخ الطبراني طاهر بن عيسى بن قيرس.
خالفه عبد المتعال بن طالب، حدثنا ابن وهب، عن أبي سعيد، عن روح بسنده، دون القصة الموقوفة.
أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/3/210).
وعبد المتعال بن طالب هذا من الثقات، وترجمته في "التهذيب" مبسوطة.
وكذلك فرواية أحمد بن شبيب تؤيد القول بالوقف، لأنه على فرض التسليم بأن ابن وهب قد رواه باللفظ الزائد، فأحمد بن شبيب أوثق من ابن وهب في أبيه، يدل على ذلك ما ذكره ابن عدي في ترجمته من "الكامل" (4/1346)، قال:
"حدَّث عنه ابن وهب بالمناكير".
وإنما كان يحدِّث ابنه أحمد من نسخة صحيحة من كتب أخيه.
قال ابن المديني – رحمه الله – كما في "الكامل":
"شبيب بن سعيد بصري، ثقة كان يختلف في تجارة إلى مصر وكتابه كتاب صحيح، قال علي: وقد كتبها عنه – في المطبوعة: عن وهو تصحيف – ابنه أحمد بن شبيب".
الثاني: أن تصحيح الطبراني للحديث لا يقتضي توثيق رجاله، لأنه إنما حكم بالصحة على الحديث، وهذا حكم عام، لا على هذا السند خاصة، وفرق بين الحكم بالصحة على الحديث، وبين الحكم بالصحة على السند، فكل حديث صحيح لا يقتضي أن يكون رواته في عموم الأسانيد والمتابعات ثقات، بل ربما ورد من بعض الطرق الضعيفة أو الواهية، فهذا الوصف (حديث صحيح) مختص بالمتن، أي أنه ثابت، وهذه مسألة بديهية عند أهل العلم بالحديث، وقد أشار إليها العلماء في مصنفاتهم، وعلى رأسهم الإمام مسلم – رحمه الله – حينما أنكر عليه أبو زرعة الرازي – رحمه الله – إخراج حديث جماعة من الضعفاء في "جامعه الصحيح"، فأجاب عن ذلك كما في "تاريخ بغداد" (4/274) بسند صحيح، قال:(205/11)
"إنما قلت صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات".
فبيَّن أن وصف الحديث بالصحة لا يقتضي أن يكون السند المروي به رواته من الثقات، لأن هذا حكم متعلق بالمتن.
وانظر ما علَّقه ابن الصلاح في "علومه" (ص:38)، وما أورده الحافظ في "النكت" (1/474) على هذه المسالة.
الثالث: أن الطبراني إنما قال: "والحديث صحيح"، وهذا ينصرف إلى تصحيح المتن المرفوع وحده دون القصة الموقوفة، لأنه لا يُقال للموقوف: حديث، بل يُقال فيه: أثر، وربما يُطلق عليه خبر، وأما الحديث فهو مختص بالمرفوع.
وتبقى مغالطة أخرى وقع فيها المؤلف، وهي جعله الاختلاف في الحديث على أحمد ابن شبيب من باب تحديث الراوي الحديث على وجهين، فقال (ص: 139):
(وجواب هذا الاختلاف الذي ارتآه الألباني فقط: أن أحمد بن شبيب كان يحدِّث الحديث بطوله، وفيه قصة مجيء الرجل لعثمان بن عفان – رضي الله عنه – حدَّث بذلك الحافظ الثقة المتقن يعقوب بن سفيان الفسوي كما في دلائل النبوة للبيهقي (6/168).
وكان أحمد أحياناً أخرى لا ينشط، فيقتصر على أصل الحديث فقط، أخرج ذلك ابن السني والحاكم، فكان ماذا؟ والرجل، أي أحمد ثقة، اللهم إلا التعنت والتعصب).
قلت: وهذا الكلام ظاهر الفساد على مذهب المحققين من أهل الحديث، فإنهم يرجحون في مثل هذه الحالات من الاختلاف بالحفظ والكثرة.
وهذه الرواية التي أشار إليها المؤلف هي ما أخرجه البيهقي عقب رواية إسماعيل بن شبيب، فقال:
أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أنبأنا عبد الله بن جعفر بن درستويه، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد... فذكره بطوله، وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سنة أربع وأربعين.(205/12)
ولو تدبر القارئ الكريم قول البيهقي: "وهذه زيادة ألحقتها به في شهر رمضان سنة أربع وأربعين" لظهر له أن إيراد هذه الزيادة من هذا الوجه إنما هو من تصرف البيهقي – رحمه الله -، لا أن هذه الزيادة من أصل الحديث، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فعلى تسليم الأمر بأن الزيادة من أصل هذا الطريق، فلا بد من الترجيح بالقرائن.
فممن رواه عن أحمد بن شبيب بغير هذه الزيادة:
1- محمد بن علي بن زيد الصائغ.
عند الحاكم (1/526).
2- العباس بن فرج الرياشي، والحسين بن يحيى الثوري.
عند ابن السني (628).
وهؤلاء الثلاثة اثنان منهم من الثقات، والثالث لم أقف له على ترجمة، وقد خالفهم يعقوب بن سفيان – على فرض التسليم للمؤلف بهذا -، وقد رجح المؤلف رواية يعقوب على رواية الجماعة، وقال (ص:140):
(1 ـ هؤلاء الثلاثة الذين قال عنهم: ثقات إذا أضيف إليهم مثلهم لم يرجحوا على الإمام الحافظ العلم يعقوب بن سفيان الفسوي، فهو ثقة، وفوق الثقة، وقد قال أبو زرعة الدمشقي: قدم علينا رجلان من نبلاء الناس أحدهما وأرجلهما يعقوب بن سفيان، يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلاً.
ومن المعروف أن الشيوخ إذا خالفهم حافظ، يرجح قول الحافظ على الشيوخ، فالقول قول الحافظ، وإن اجتمع الشيوخ عليه، ويعقوب الفسوي إمام حافظ، وفوق الحافظ).
قلت: وهذه محاولة عجيبة في ترجيح رواية يعقوب بن سفيان علي رواية الأكثر، وهذا مخالف للقواعد الحديثية.
وكون الراوي من الحفاظ، أو وصف بعضهم له بالحفظ فهذا لا يقتضي الإتقان والضبط، وكم من راوٍ وصف أنه من الحفاظ وكان متكلماً في حفظه، وربما في عدالته، كسليمان الشاذكوني، وعثمان بن مقسم البري، وعثمان بن أبي شيبة، ونحوهم.
وليست هذه محاولة للطعن في الإمام الحافظ يعقوب الفسوي، وإنما هذا تقرير لبعض ما تغاضى عنه المؤلف.(205/13)
وأما أن رواية الحافظ تُقدَّم على رواية الشيوخ، فهذا على وجه الانفراد، أما على وجه الاجتماع، فرواية الشيوخ الثقات تؤيد بعضها بعضاً، وترجح على رواية الحافظ بالكثرة؛ لأنه إنما وصف بالحفظ لكثرة روايته وسعتها، وأما الضبط فهم جميعاً مشتركون فيه، لاسيما وأن الحديث من جميع طرقه ورد بالرواية الناقصة المرفوعة، دون الرواية الموقوفة.
ثم قال المؤلف (ص: 141):
(2- العباس بن فرج روى الوجهين، فقد أسند القصة عن إسماعيل بن شبيب، عن أبيه، أخرجها البيهقي في "دلائل النبوة"، فوافق الحجة العلم يعقوب بن سفيان الفسوي).
قلت: قد تقدَّم إعلال هذه الرواية بالمخالفة، وهي رواية منكرة بذكر إسماعيل هذا، والحمل فيها على الفقيه الشاشي، وقد خالف ابن السني الحافظ الكبير، كما تقدَّم ذكره وبيانه.
ويبقى الآن الكلام على رواية شاذة أخرى، نافح عنها المؤلف منافحة المستميت لإثبات صحتها، وهي:
ما أخرجه ابن أبي خيثمة في "تاريخه":
حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا أبو جعفر الخطمي، عن عمارة ابن خزيمة، عن عثمان بن حنيف – رضي الله عنه -: أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إني أُصبت في بصري، فادع الله لي، قال:
"اذهب فتوضأ، وصلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم! إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني استشفع بك على ربي في ردِّ بصري، اللهم! فشفعني في نفسي، وشفِّع نبيي في ردِّ بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك".
وهذه الرواية كان قد أعلها العلاَّمة الألباني – حفظه الله – في "التوسل" (ص:83) تبعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "التوسل والوسيلة" (ص:102) بتفرد حماد بن سلمة بزيادة:
"وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك".
وهي محل الشاهد الذي احتج به المؤلف على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد حشد المؤلف كل ما يملك في إبطال هذا الإعلال.(205/14)
والصواب: أن الحمل في هذا الحديث ليس على حماد بن سلمة – رحمه الله -، وإنما هو على من رواه عنه، وهو مسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وهو وإن كان من الثقات، إلا أنه قد خالفه من هو أوثق منه في الضبط، وهو حبان بن هلال الباهلي البصري، فرواه عن حماد بن سلمة بسنده ومتنه، دون هذه الزيادة.
أخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (663).
وحبان بن هلال وثقة ابن معين، والترمذي والنسائي، وقال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة"، وقال البزار: "ثقة مأمون على ما يحدث به"، وقال الخطيب: "كان ثقةً ثبتاً".
ويؤيد هذه الرواية رواية شعبة لهذا الحديث دون هذه الزيادة.
ثم وجدت متابعة لحبان بن هلال عند البخاري في "التاريخ الكبير" (2/3/209) من رواية: شهاب بن عباد العبدين، عن حماد به دون الزيادة.
وشهاب بن عباد من شيوخ الشيخين، وهو ثقة رضي.
فهذا يدل على شذوذ الزيادة.
ولا يُقعقع بما قعقع به المؤلف، من أن الزيادة من الثقة مقبولة، فهذا المذهب مذهب جماعة الفقهاء، وأما المحققين من أهل الحديث لاسيما المتقدمين فلا يقبلون الزيادة إلا من الثقة الحافظ الثبت، بل منهم من لا يقبل الزيادة من الحافظ إن كانت تفيد حكماً زائداً، حتى يتابع عليها، كما توقف الإمام أحمد في زيادة: "من المسلمين" في حديث صدقة الفطر الذي يرويه الإمام مالك من حديث ابن عمر، حتى تابعه عليها العمريان، والمسألة فيها تفصيل كبير محله كتب المصطلح.
الحديث الرابع
وهو ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (24/352) قال: حدثنا أحمد بن حماد ابن زغبة، حدثنا روح بن صلاح، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن أنس بن مالك، قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها، فقال:
"رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة".(205/15)
ثم أمر أن تُغسّل ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور، سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، وأبا أيوب الأنصاري، وعمر بن الخطاب، وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيهن ثم قال:
"الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين".
وكبَّر عليها أربعاً، وأدخلوها اللحد، هو والعباس، وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم.
ومن طريقة أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/121)، وقال:
"غريب من حديث عاصم والثوري لم نكتبه إلا من حديث روح بن صلاح، تفرد به".
ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/269).
قال المؤلف (ص: 148):
(وهو حديث حسن).
قلت: هذا الحكم فيه مجازفة كبيرة، فقد تفرد روح بن صلاح بهذا الحديث عن سفيان الثوري، ولم يشاركه أحد من أصحاب سفيان الثقات الحفاظ فيه، وعلى التسليم للمؤلف أن روح هذا صدوق حسن الحديث فلا يُقبل منه مثل هذا التفرد عن الثوري، بل عد مسلم مثل هذا التفرد منكراً، فقال في مقدمة "الصحيح" (1/7):
"فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه، وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث، مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس".(205/16)
فهذا على فرض التسليم للمؤلف بأن روح هذا صدوق، وأما على التحقيق، فهو ضعيف الحديث، لا يقوم بما تفرد به حجة، لاسيما إن كان فيه مثل هذه النكارة اللائحة على السند والمتن.
وروح هذا ضعّفه ابن عدي في "الكامل" (3/1005) وأورد له حديثين منكرين، وقال: "في بعض حديثه نكرة".
وقال الدارقطني: "ضعيف في الحديث"، وقال ابن ماكولا: "ضعفوه"، وقال ابن يونس: "رويت عنه مناكير".
وأما ابن حبان فأورده في الثقات جرياً على قاعدته، وقال الحاكم: "ثقة مأمون".
وقد تمسك المؤلف بقول الحاكم، وبذكر ابن حبان له في "الثقات"، وبرواية يعقوب بن سفيان الفسوي عنه استدلالاً على ثقته وضبطه، بل اعتبر ما ورد فيه من جرح مبهماً، ولا يعتد بالجرح المبهم إذا خالفه التوثيق.
وهذه مغالطات مجتمعة، وتدليسات مجموعة لا تنطلي على من اشتغل بعلم الحديث الشريف.
بل أقول: إن طريقته هذه في تقوية المناكير ليس فيها شيء من النزاهة التي يجب على طالب العلم – فضلاً عن طالب الحديث – أن يتحلى بها، والإنصاف من أهم ما يجب على طالب الحديث أن يترسمه في خطاه في التصحيح والتضعيف، فإن الأمر صعب، ويُخشى على مثل هذا أن يندرج تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".
فمن هذه المغالطات:
اعتداده بذكر ابن حبان له في الثقات، وابن حبان من المشهورين بالتساهل، إلا أن يرد في عبارته ما يدل على أنه قد سبر حال الراوي، وهذا منتف في ترجمته لروح بن صلاح، فقد قال في "الثقات" (8/244):
"روح بن صلاح: من أهل مصر، يروي عن يحيى بن أيوب، وأهل بلده، روى عنه محمد بن إبراهيم البوشنجي، وأهل مصر".
فهذا لا يدل بحال على أنه قد سبر حاله، بل في هذه الترجمة ما يدل على أن حديثه هذا من جملة مناكيره، وهو أنه قد روى عن أهل مصر، وروى عنه أهل مصر، وهذا الحديث إنما يرويه عن الثوري، وفي هذا غرابة ظاهرة، وقد أشار إلى ذلك أبو نعيم في "الحلية" كما تقدَّم.(205/17)
وأما الحاكم فهو أشد تساهلاً من ابن حبان.
وقد نقل السيوطي في "التدريب" (1/108) عن الحافظ العراقي قوله: "الحاكم أشد تساهلاً منه".
وقد عقد الحافظ ابن حجر – رحمه الله – فصلاً في مقدمة "اللسان" (1/25) في بيان تساهل ابن حبان في مذهبه في التعديل، وأن ذلك قائم عنده بمجرد ارتفاع جهالة العين، وقال الحافظ:
"والجمهور على خلافه، وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات الذي ألفه".
إلا أن المؤلف قد حاول جاهداً على إعمال توثيق ابن حبان ومثله توثيق الحاكم، فقال (ص: 151):
(فتوثيق ابن حبان على قسمين نصَّ عليهما في مقدمة ثقاته:
فالأول: من اختلف فيه علماء الجرح والتعديل، فإذا ثبت عنده أنه ثقة أدخله في ثقاته، وإلا فأودعه كتابه الآخر.
الثاني: من لم يُعرف بجرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه، والراوي عنه ثقة، ولم يأتِ بحديث منكر، فهو ثقة عنده، ولم ينفرد ابن حبان بذلك المذهب، ولكن هذا النوع من الرواة عند الجمهور يكون مجهول الحال.
وأما نسبة التساهل إليه فبالنظر للنوع الثاني فقط، فإهدار توثيق ابن حبان مطلقاً خطأ، ولا تصح نسبة التساهل إليه مطلقاً..
إذا علم ذلك، فإن رد توثيق ابن حبان لروح بن صلاح بدعوى تساهله فيه نظر، فروح بن صلاح روى عنه يعقوب بن سفيان الحافظ، ومحمد بن إبراهيم البوشنجي الفقيه الحافظ، وأحمد بن حماد بن زغبة صاحب النسائي الثقة، وأحمد بن رشدين، وابنه عبد الرحمن، وعيسى بن صالح المؤذن، وفيه جرح وتعديل، وبعضهم سبق ابن حبان في الكلام عليه، كابن يونس).
قلت: وهذا الكلام المذكور منتقض في حق روح بن صلاح، فكون أن ابن يونس أن ابن عدي قد تقدَّما ابن حبان بجرحه، فليس بالضرورة أنه قد وقف على جرحهما له، ولم يرد ما يدل على ذلك البتة، ولو صح أنه قد وقف على جرحهما له، فلا يمنع هذا أن جرحهما مقدَّم على توثيقه، ولا يدفع عنه الوصف بالتساهل في التعديل، وجَعْلُ ما تقدَّم نقله عن المؤلف قاعدة مطردة فيه نظر كبير.(205/18)
وأما توثيق الحاكم، فقال المؤلف (ص:153):
(تساهل الحاكم خاص بالحكم على الأحاديث في المستدرك... أما كلامه في غير المستدرك فكغيره من الأئمة النقاد).
قلت: وهذا أيضاً منازع فيه، وهي دعوى مجردة، ويدرؤها قول الحازمي: "ابن حبان أمكن في الحديث من الحاكم".
وهذا على العموم، لا على خصوص كتابيهما في الحديث.
وبتتبع سؤالات مسعود بن علي السجزي للحاكم، والتي ورد فيها توثيق روح بن صلاح يظهر تساهل الحاكم – رحمه الله -.
وأنا أضرب على ذلك بعض الأمثلة:
1- أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال الحاكم (20):
"كثير السماع والطلب، متقن فيه، من بيت الحديث والزهد والتصوف".
قلت: هو متكلم فيه، قال محمد بن يوسف القطان: "كان يضع الحديث للصوفية"، وقال الذهبي: "ليس بعمدة".
2- محمد بن ثابت البناني، قال الحاكم (33):
"لا بأس به، فإنه لم يأتِ بحديث منكر، لكن الشيخين لم يخرجاه، وهو عزيز الحديث، أسند خمسة عشر حديثاً".
قلت: عامة أهل العلم على ضعفه، بل قال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال أبو حاتم: "منكر الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به"، وقال البخاري: "فيه نظر".
3- عبد العزيز بن يحيى المدني، قال الحاكم (127):
"صدوق لم يُتهم في رواياته عن مالك".
وقد أنكر عليه الذهبي – رحمه الله – هذا القول ، فقال في "الميزان" (2/636):
"كذا قال بسلامة باطن".
قلت: قد كذبه إبراهيم بن المنذر الحزامي، وقال أبو حاتم: "ضعيف"، وقال البخاري: "يضع الحديث".
4- حسين بن قيس الرحبي، قال الحاكم (187):
"بصري ثقة".
قلت: هو متفق على وهائه وسقوطه، وانظر ترجمته من "التهذيب" (2/313-314).
وبعد؛ فهذه الأمثلة تدل ولا شك على تساهل الحاكم – رحمه الله – في التوثيق، ومخالفته للجمهور في مواضع كثيرة.(205/19)
وعلى فرض التسليم للمؤلف بأن ما وقع للحاكم من التساهل إنما هو في "المستدرك" وحده، فهذا لا يمنع من تأخير قوله بتوثيق روح بن صلاح، لكونه خالف الأكثر ممن جرحوه، بل هذا الحديث الذي هو قيد البحث لأدل دليل على قلة ضبط روح لاسيما وقد تفرد به عن الثوري دون باقي أصحابه، وتفرد بمتن فيه نكارة ظاهرة.
وأما احتجاج المؤلف على توثيق روح بن صلاح برواية الفسوي عنه فهذا من باب المجازفة، والحشد بغير تحقيق.
قال المؤلف (ص: 148):
(وروى عنه يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ، فهو ثقة عنده، قال الفسوي: كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات).
قلت: هذا التنصيص فيه نظر، لأن الرواية في ذلك منكرة.
وقد أوردها الحافظ المزي – رحمه الله – في "تهذيب الكمال" (32/324) من رواية:
عبد الله بن عمر بن عبد الله بن الهيثم الأصبهاني، حدثنا أبو بكر الحافظ، قال: سمعت أبا عبد الرحمن النهاوندي الحافظ يقول: سمعت يعقوب بن سفيان، يقول: كتبت عن ألف شيخ وكسر كلهم ثقات.
وقد استنكر الحافظ الذهبي هذه القصة، فقال في "السير" (13/181):
"قلت: ليس في مشيخته إلا نحو من ثلاثمائة شيخ، فأين الباقي، ثم في المذكورين جماعة قد ضُعِّفوا".
قلت: الحمل فيها على عبد الله بن عمر الأصبهاني، فإنه في عداد مجهولي الحال، وقد ترجمه الذهبي في "السير" (20/576)، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً، فلا يصح الاحتجاج برواية الفسوي عن روح بن صلاح على توثيقه له.
وبهذا يظهر للقارئ الكريم ما يغالط به المؤلف القراء حتى يتسنى له إثبات مذهبه في هذه المسألة.
الحديث الخامس
وهو ما أخرجه البزار (كشف الأستار: 845):
حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله، عن النبي ×، قال:
"إن لله ملائكة سياحيين يبلغوني عن أمتي السلام".
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(205/20)
"حياتي خير لكم، تُحدثون، ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم، يُعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم".
قال البزار:
" لا نعلمه يُروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد".
قلت: قد أورد المؤلف هذا الحديث في كتابه، مدافعاً عن صحته، وابتدأ كلامه عليه ببتر الجزء الأول من الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سياحيين يبلغوني عن أمتي السلام".
وذلك ليروج على القراء الكرام بأن هذا حديث مستقل بذاته، ومن ثم فلا يجوز إعلاله بالمخالفة.
فهذا الحديث قد أخرجه النسائي في "اليوم والليلة" (66) من طريق: عبد الله بن المبارك، عن الثوري، بسنده بالشطر الأول فقط دون الشطر الثاني من الحديث، الذي هو محل الشاهد عند المؤلف.
وتابع ابن المبارك وكيع وعبد الرزاق ومعاذ بن معاذ عند النسائي في "المجتبى" (3/43) باللفظ الناقص.
وتابعهم أبو إسحاق الفزاري عنده في "الكبرى" كما في "التحفة" (7/21).
وهؤلاء من الحفاظ الأثبات الثقات، ومن كبار أصحاب الثوري، وقد خالفهم عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وهو وإن كان ثقة إلا أنه قد روى بعض الأحاديث التي غلط فيها، وخالف الثقات، منها الحديث الفرد المعروف الصحيح: "إنما الأعمال بالنيات..".
وهو لا يُقارن بهؤلاء في الحفظ والتثبت والتقدم في الثوري، فهذا يدل دلالة قوية على شذوذ هذا الحرف.
إلا أن المؤلف قد ساغ له اعتبار أن هذا المتن حديث آخر، لا زيادة من زيادات الحديث، والجواب عن ذلك:(205/21)
بأن عبد المجيد وسائر أصحاب الثوري لا يروون عنه صحيفة، فيقال: إن بعضهم قد روى هذا الحديث، ولم يرو الآخر، ورواهما عبد المجيد معاً، كما هو الحال مثلاً في صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وإنما هذا الحديث مما تعلقوه عنه سماعاً، وهمم الأصحاب متوافرة على رواية حديث الشيخ، ولا يظن بأن عبد المجيد بن أبي رواد تعلو همته فيروي هذا الحديث بهذا اللفظ الزائد، وتفتر همم أصحاب الثوري في روايته.
وحتى على تسليم الأمر للمؤلف بأن هذه الزيادة حديث مستقل، فهو أيضاً معلول بتفرد عبد المجيد به دون باقي أصحاب الثوري، وقد تقدَّم النقل عن الإمام مسلم – رحمه الله – ما يدل على هذه القاعدة.
وكذلك فالحديث من هذا الوجه بهذه الزيادة قد تفرد بها البزار – رحمه الله -، وهو وإن كان من الحفاظ العارفين بالعلل والرجال، إلا أنه متكلم في حفظه وضبطه بما لا يجوز رده، وقد حدَّث بالمسند بمصر من حفظه فأخطأ في أحاديث كثيرة.
قال أبو أحمد الحاكم: "يخطئ في الإسناد والمتن"، وقال الدارقطني: "يخطئ في الإسناد والمتن، حدَّث بالمسند بمصر حفظاً، ينظر في كتب الناس، ويحدِّث من حفظه، ولم يكن معه كتب، فأخطأ في أحاديث كثيرة، جرحه النسائي، وهو ثقة يخطئ كثيراً".
وللحديث شواهد ثلاثة ذكرها المؤلف، وهي:
الأول: مرسل بكر بن عبد الله المزني.
أخرجه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" (ص: 38 و39) بسند صحيح.
الثاني: عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -:
أخرجه المخلص في "الفوائد" بسند ساقط عن مالك بن دينار، عنه به.
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/945) من وجه آخر من طريق: أبي سعيد العدوي، عن خراش بن عبد الله، عن أنس به.
وقد أغفل المؤلف الكلام على علة ضعف هذا السند، وهو وهاء خراش هذا، قال الذهبي:
"ساقط عدم، ما أتى به غير أبي سعيد العدوي الكذاب".
الثالث: عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، بنحوه.(205/22)
وقد عزاه المؤلف إلى أبي جعفر الطوسي في أماليه تبعاً لشيخه أحمد بن الصديق الغماري في "الاكتفاء في تخريج أحاديث الشفاء"، وأعلّه بوهاء أحد رواته.
فمما سبق يتبين أن الحديث لا يصح من أي وجه من الوجوه، كما لا يصح تقوية طرقه بعضها ببعض، وإن كان مرسل بكر المزني صحيحاً لأن باقي الطرق ما بين ساقطة، أو ملفقة، أو شاذة.
إلا أن المؤلف قد خالف القواعد الحديثية، وأبعد القول بإلزام الشيخ الألباني – حفظه الله – بتقوية مرسل بكر المزني بحديث ابن مسعود – رضي الله عنه – فقال (ص: 168):
(قد تقرر أن الحديث المرسل يتقوى بأمور، منها إذا ورد هذا المرسل من طريق آخر موصول ضعيف تقوى المرسل به، وصار من باب الحسن لغيره، وبه تقوم الحجة، ويلزم العمل به، وإذا كان الموصول الذي فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد من قسم الضعيف كما ارتآه الألباني – دفعاً بالصدر! – فإن المرسل الصحيح إذا ضُمَّ إليه صار من قسم الحسن المقبول الذي يجب العمل به اتفاقاً.
ولم أجد مبرراً عند الألباني يبعده عن إتباع القواعد الحديثية هنا إلا التعنت، وإتباع الهوى في رد مثل هذه الأحاديث).
قلت: هذه مغالطة بيِّنة أراد بها المؤلف النيل من العلاَّمة الألباني – حفظه الله -، فإن خبر ابن مسعود من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ضعفه غير محتمل، بل ضعفه شديد، لأنه شاذ، ومن شروط التقوية التي وضعها الترمذي وتبعه عليها أكثر أهل العلم أن لا يكون الحديث شاذًّا ولا معللاً.
ومن ثم فهذا يُظهر دقة نظر الألباني – حفظه الله – في عدم تقوية المرسل بخبر ابن أبي رواد من رواية ابن مسعود، والله أعلم.
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ فليس ثمة دلالة من هذا الحديث على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما غايته إثبات فضل حياته صلى الله عليه وسلم، وفضل مماته على المسلمين.
الحديث السادس(205/23)
وهو ما أخرجه أحمد (3/21)، وابن ماجه (778)، وابن خزيمة في "التوحيد" (1/42)، والطبراني في "الدعاء" (421) من طريق: فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم! إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ أقبل الله عليه بوجهه، واستغفر له سبعون ألف ملك".
وقد حسَّن المؤلف إسناد هذا الخبر، موافقة للحافظ الدمياطي، وأبو الحسن القدسي شيخ المنذري، والعراقي، والحافظ ابن حجر.
قلت: وهذه مجازفة، وقد حاول الحافظ ابن حجر – رحمه الله – دفع الضعف عن عطية العوفي في "نتائج الأفكار" (1/271)، فقال:
"ضعف عطية إنما جاء من قبل التشيع ومن قبل التدليس، وهو في نفسه صدوق، وقد أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، وأخرج له أبو داود أحاديث ساكتاً عليها، وحسَّن له الترمذي عدة أحاديث بعضها في أفراده".
قلت: وهذا الكلام منتقض من وجوه:
أولها: أن الحافظ نفسه قد وصفه في "التقريب" بقلة الضبط، فقال: "صدوق يخطئ كثيراً".
والخطأ الكثير لا تعلق له بالتدليس، ولا بالتشيع، بل هو متعلق بالضبط ولا شك.
ثانيها: أن تعليق ضعفه بالتشيع وبالتدليس تنقضه أقوال أهل العلم فيه.
ثالثها: أن إخراج أبي داود لأحاديثه وسكوته عليها لا يرقي أمره، لأنه قد تكلم عليه بما يغني عن الإعادة في "السنن"، فقد قال فيه" "ليس بالذي يُعتمد عليه".(205/24)
رابعها: أن تحسين الترمذي لحديثه لا يعني تقوية أمره، فالترمذي قد يحسن أحاديث جماعة من الضعفاء، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في "النكت"، بل إخراجه لأفراده وتحسينه لها يدل دلالة قوية على أنه أراد بذلك المعنى اللغوي، لا الاصطلاحي، إذ لو كان الاصطلاحي للزم توفر شروطه التي اشترطها الترمذي، ومنها أن يرد من غير وجه، فلما كان من أفراده دلَّ على أنه أراد بذلك معنىً آخر غير الاصطلاح.
وقد دلَّت كلمات الحفاظ الكبار وأئمة الشأن على ضعف ووهاء العوفي، أما المؤلف فقد تناولها بالتأويل تارة، وبالطعن فيها أخرى، وبلي عنقها ثالثة حتى يتسنى له توثيق العوفي.
وأنا أذكر هنا – إن شاء الله تعالى – أقوال أهل العلم في تجريح عطية العوفي، وما تناولها به المؤلف، والرد عليه في ذلك.
1- قال البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/412):
قال علي: عن يحيى: عطية، وأبو هارون العبدي، وبشر بن حرب عندي سواء، وكان هُشيم يتكلم فيه يعني عطية.
قلت: علي هو ابن المديني، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وليس ابن معين كما ظنه المؤلف.
قال المؤلف (ص: 208):
(معناه – والله أعلم – أنهم سواء في الطبقة والمذهب، فهم من شيعة التابعين، ويشتركون في الرواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وكيف يسوي يحيى بن معين بين أبي هارون العبدي، وعطية العوفي، وقد قال عن أولهما: غير ثقة، وكان يكذب، بينما وثق الثاني ورفع شأنه).
قلت: المؤلف أحق بكلمته التي شان نفسه بها في كتابه (ص:220):
"لا أدري لماذا يسارع هؤلاء بالتصنيف؟ للدعاوي الفارغة، أم للتجارة البائرة".
وكان ينبغي للمؤلف قبل أن ينسب هذا القول أن يتأكد من نسبة يحيى الوارد في هذا الأثر، لاسيما مع وروده في "التاريخ" مهملاً.
وابن المديني إنما يروي عن يحيى بن سعيد القطان، ولم يذكر في الرواة عن ابن معين، ولا ذكر ابن معين في شيوخه، وإن كانا متعاصريْن.(205/25)
ومما يدل على أن يحيى هذا هو ابن سعيد ما نقله الحافظ في "التهذيب" (7/361) في ترجمة عمارة بن جوين أبي هارون العبدي:
"قال ابن المديني: عن يحيى بن سعيد، ضعفه شعبة".
فإذا علمت ذلك تبين لك أن التسوية بينهم في الضعف لا في الرواية عن أبي سعيد، فإنه لا وجه لمساواتهم في ذلك جميعاً، بل كلمة القطان أن هشيم كان يتكلم في عطية يدل على أن ذلك مختص بالرواية والأداء لا التشيع، ولذلك فقد بتر المؤلف هذه العبارة الأخيرة لكي لا يستبين القارئ الفَهِم حيلته وتدليسه.
2- وعن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، قال: كان سفيان الثوري يضعف حديث عطية، وسمعت أبي وذكر حديث عطية العوفي، قال: هو ضعيف الحديث.
وقد روى عبد الله في "العلل" (1307) عن أبيه، عن أبي أحمد الزبيري، قال: سمعت الثوري، قال: سمعت الكلبي قال: كناني عطية "أبا سعيد".
وقال الإمام أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي، فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد.
قلت: وهذا الطعن مفسر، وهو كاف كما قال العلامة الألباني لتهمة العوفي، لاسيما فيما يرويه عن أبي سعيد الخدري.
إلا أن المؤلف قد نحا منحىً عجيباً في ردِّ هذا التضعيف، فقال (ص: 184):
(أنت أيها القارئ المنصف إذا نظرت بعين الناقد المتجرد تجد أن أحمد قد ضعف عطية العوفي، ثم ذكر مستنده في تضعيفه وهي حكاية الكلبي، وهي سبب كلام هشيم في عطية، وحكى أحمد تضعيف الثوري لعطية بعد أن أسند البلاغ من طريق الثوري، فحكاية الكلبي هي أصل مستند الثوري أيضاً في تضعيفه عطية العوفي..
وهذا الذي اعتمدوا عليه فيه نظر، ولا يصح سنده، لأن مداره على محمد بن السائب الكلبي، وحاله معروف، فهو تالف متهم بالكذب، فالسند الذي يكون فيه ذلك الرجل لا يُنظر إليه ولا يُعتمد عليه في شيء، ومع ذلك فقد سارت الركبان بمقولته التالفة، وتوارد البعض على حكايتها..).(205/26)
قلت: ثمة فرق بين حكاية المتهم حكاية تقع موقع السرد والأداء، وبين حكايته ما يقع موقع الإقرار.
فحكم من راوٍٍ من الكذابين، قد تركه العلماء، ووهنوا أمره باعترافه بوضع الحديث، فهل ردوا اعترافه هذا بسبب كذبه؟
لا، لأن ذلك يقع موقع الإقرار، وإنما اعتمدوا قوله في إقراره هذا، لأن رده بجواز كذبه فيه؛ فيه فتح لأبواب السفسطة.
وقد أنكر الحافظ الذهبي – رحمه الله – في "الموقظة" (ص: 37) على شيخه ابن دقيق العيد في قوله:
"إقرار الراوي بالوضع، في رده ليس بقاطع في كونه موضوعاً، لجواز أن يكذب في الإقرار".
قال الحافظ الذهبي:
"هذا فيه بعض ما فيه، ونحن لو افتتحنا باب التجويز والاحتمال البعيد لوقعنا في الوسوسة والسفسطة".
قلت: هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الثوري يستحيل عليه، وكذا على من تبعه من علماء الأمة أن يتواطئوا على الخطأ في الاحتجاج بهذه الحكاية كما يزعم المؤلف، وإنما كان يعلم الثوري بصدق ما يرويه الكلبي من كذبه.
فقد أخرج ابن حبان في "المجروحين" (2/256) قال: قال لنا الثوري: اتقوا الكلبي، فقيل له: إنك تروي عنه؟ قال: أنا أعرف صدقه من كذبه.
ومن جهة ثالثة فإن اعتماد أهل الشأن لهذه الحكاية يؤكد صدقها لاسيما وأن الكلبي والعوفي على دين واحد تقريباً، فليس ثمة داع يدعوه إلى الافتراء عليه، لاسيما وأن الافتراء عليه في هذا الباب سوف يكون سبباً لهدر روايات العوفي عن أبي سعيد، والتي منها روايات الكلبي المدلَّسة.
ثم إن أهل الحديث قد اتفق عامتهم على جرحه وإن كان بمثل هذه الحكاية، واتفاقهم على الشيء حجة.
قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (2/156) في سماع حبيب بن أبي ثابت من عروة ابن الزبير:
"قال ابن أبي حاتم في كتاب "المراسيل":أهل الحديث اتفقوا على ذلك، قال: واتفاقهم على الشيء يكون حجة".
قلت: وأما المؤلف فقد رمى أئمة الحديث على مدى العصور بالخطأ، والتتابع على تضعيف حديث العوفي بغير حجة !! قال (ص:185):(205/27)
(ولم أجد من تنبه لهذا الخطأ من أهل الحديث إلا اثنين:
أولهما: الحافظ البارع أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي..
ثانيهما: الحافظ السيد أحمد بن الصديق الغماري..).
وكأن علماء الأمة اعتمدوا هذه الحكاية وحدها دون سبر حديثه، وتتبع رواياته، فوقع الثوري، والقطان، وأحمد، وهشيم، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وكل من ضعفه في هذا الخطأ وتابعهم عليه أئمة الحديث ممن جاءوا بعدهم، فلكأن الأمة اجتمعت على ضلالة والعياذ بالله، حتى أتى من لا يفرق بين يحيى القطان ويحيى بن معين فأزال عنهم الغمة!!
أقول: ومما يدل على أن هؤلاء العلماء إنما ضعفوا أحاديثه من قبل حفظه – أيضاً – بعد السبر:
3- أن الإمام البخاري – رحمه الله – قال في "الأوسط" (1/412):
وقال أحمد في حديث عبد الملك، عن عطية ، عن أبي سعيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تركت فيكم الثقلين" أحاديث الكوفيين هذه مناكير.
قلت: وهذا ظاهر على أن الإمام أحمد قد سبر حديثه، ولم يضعفه اعتماداً على رواية الكلبي وحدها.
إلا أن هذا النقل لم يسلم من تأويلات المؤلف، ولو سلمت نصوص الكتاب والسنة من تأويلاته وتأويلات مشايخه لسلم هذا النقل.
قال المؤلف (ص: 196) بعد أن أورد عبارة الإمام أحمد – رحمه الله- المتقدِّمة:
(قلت : النكارة لها معان: أحدها: مرادفة الشاذ، ثانيها: مخالفة الضعيف لمن هو أوثق منه، ثالثها: تفرد الضعيف الذي لا يُحتمل تفرده، ولا يوجد من يتابعه أو يشهد له، رابعها: كون المتن غريباً ومخالفاً للأصول مع ركاكة الألفاظ، خامسها: مطلق التفرد ولو بوجه من الوجوه.(205/28)
أما عن الأول: وهو مرادفته للشاذ، فلم يخالف عطية العوفي أحداً لا في متن ولا في إسناد ، وعن الثاني: فمثله، وعن الثالث: فالحديث ليس فرداً فلا ينطبق عليه، وعن الرابع: فإنه منتف تماماً هنا ف لاتعارض بينه وين غيره، بل هو مفيد للعلم، فلم يبق إلا الوجه الخامس: وهو مطلق التفرد من جهة عطية، عن أبي سعيد الخدري، وهذا الوجه يجب أن يحمل عليه قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى).
قلت: هذا الترجيح الذي رجحه المؤلف لا وزن له، لأن عطية قد تفرد بهذا الحديث عن أبي سعيد، وهو ضعيف عند الإمام أحمد كما تقدَّم النقل عنه، فالنكارة هنا بمعناها الاصطلاحي، وهو تفرد الضعيف بما لا يحتمل منه التفرد به.
وأما ذلك القيد الذي وضعه المؤلف في حد النكارة:
(ولا يوجد من يتابعه أو يشهد له).
ليس على إطلاقه، فليس كل متابعة تفيد، وأما الشاهد فقد يفيد من في حفظه ضعف يسير، وأما من في حال العوفي، فلا تقوية الشواهد.
وقد أعل غير واحد من أهل العلم أحاديثه التي يرويها، وليس الإمام أحمد وحده، أو ابن عدي وحده كما يروج المؤلف لتقوية حال العوفي هذا، وأنا أورد بعض ما حضرني في ذلك.
* الحافظ الذهبي – رحمه الله - :
أخرج الحاكم في "المستدرك" (4/222) حديثاً عن طريق العوفي، عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة عليها الصلاة والسلام:
"قومي إلى أضحيتك، فاشهديها، فإن لك بأول قطرة تقطر من دمها: يُغفر لك ما سلف من ذنوبك.. " الحديث.
قال الذهبي:
"عطية واه".
* الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
روى الفضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد: أن الخدري – رضي الله عنه – مرفوعاً:
"لو أن لابن آدم وادياً من مال لا بتغى إليه ثانياً.." الحديث.
قال السخاوي في الأجوبة المرضية" (1/187)، عقب أن أورد هذا الحديث: "وعطية ضعيف".
4 و 5 قال أبو زرعة: "ليِّن".
وقال أبو حاتم الرازي: "ضعيف الحديث، يكتبه حديثه".(205/29)
قال المؤلف (ص : 197):
(هذا من الجرح المبهم غير المفسر، فهو يرد كما تقرر في قواعد الحديث، وكما استقر العمل على ذلك، والأخذ في مقابل ذلك بالتعديل الوارد في عطية العوفي.. إن هذا الجرح غير المفسَّر في حقيقته يرجع إلى الأمرين اللذين ظُلم بسببهما، وهما التشيع والتدليس .... بقى أن تعلم أن أبا حاتم الرازي قد جاء عنه توثيق لعطية كما سيأتي إن شاء الله تعالى).
قلت: الجرح المبهم مردود إذا عارضه تعديل معتبر، وهذا منتف في حال العوفي هذا، فإن غالب من وثقه من المتساهلين كما سوف يأتي بيانه.
وأما ادعاؤه أن هذا الجرح بسبب التشيع والتدليس، فينقضه دلالة عبارة أبي حاتم، ووصف أبي زرعة، فهما مختصان بالضبط، لا بالتشيع ولا بالتدليس.
وأما توثيق أبي حاتم المزعوم، فقد احتج له المؤلف (ص: 209) بتمام عبارة أبي حاتم حين سئل عن عطية.
إلا أن المؤلف قد بتر العبارة عند ذكر الجرح ليتمكن من رد الجرح بالإبهام، ثم حرفها عند إثبات التعديل موهماً أن لأبي حاتم في الرجل قولين، فقال:
(قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أبي نضرة، وعطية، فقال: أبو نضرة أحب إليَّ.
وهذا في حقيقته مقارنة بين ثقتين، فإن أبا نضرة المنذر بن مالك العبدي ثقة).
فانظر أيها القاريء الكريم إلى هذا التدليس والتحريف البيِّن لعبارة أبي حاتم، حتى يتمكن المؤلف من رد الجرح، بل وإثبات التعديل بالزور والبهتان.
فهذه العبارة مجتمعة كما نقلناها بنصها من "الجرح والتعديل" (1/3/383):
ضعيف الحديث، يكتب حديثه، وأبو نضرة أحب إليَّ من عطية.
تفيد ضعف عطية العوفي، بل وتدل على أن أبا حاتم قد صدر منه هذا الحكم بعد سبر وتتبع، وإلا فكيف يفاضل بينه وبين راو غيره إلا بالنظر في أحاديثهما.(205/30)
وعلى فرض التسليم للمؤلف في نقله، فإن المقارنة لا تدل على التوثيق، بل قد يوصف العالم الراوي بالثقة، وهو ضعيف من باب المقارنة، كما سوف يأتي بيانه قريباً، فكيف بهذه الحالة التي أثبت فيها أبو حاتم تقديم أبي نضرة على عطية، لا غير.
6- قال النسائي: "ضعيف".
7- وقال الساجي: "ليس بحجة، وكان يقدِّم عليً على الكل".
قلت : قد تناول المؤلف جرح الساجي هذا لعطية العوفي بالرد ، فقال (ص: 192):
(إن الساجي كان بصرياً، والبصريون كثر فيهم النصب، قال الحافظ في "اللسان" (4/439): النصب معروف في كثير من أهل البصرة.
وهم يفرطون فيمن تشيع لأنهم عثمانيون، وخاصة فيما كان بين أظهرهم، كذا في "التهذيب" (7/413).
والساجي – رحمه الله تعالى – كان شديداً متصلباً، فجرحه للكوفيين ينبغي التدقيق فيه، فإنه قد يجرح الرجل بسبب مذهبه كما حدث لعطية العوفي هنا، فإنه قال عنه: ليس بحجة، ثم أبان عن سبب قوله، فقال: وكان يقدِّم علياً على الكل، وإن كان الرجل شيعياً يقدِّم عليّاً على الكل، فلا بد أن يجرح عند المخالف لقوله، ولا يكون حجة عنده).
قلت: لم يوصف الساجي بالنصب، وإنما هو من أئمة أهل السنة والجماعة، وعنه أخذ الأشعري مقولة السلف في الصفات، ولم يتكلم عليه أحد بتصريح أو بتلميح، من قريب أو من بعيد بأنه ناصبي، أو أن فيه نصباً، وكون النصب معروفاً في كثير من أهل البصرة، فهذا لا يقتضي بحال أن يكون هو مذهب الساجي، والهمم متوافرة لنقل اعتقاده، لا سيما مع شهرته، وتقدمه في الحفظ والرواية، بل المشهور عنه أنه كان صلباً في السنة، فإن كانت الصلابة في السنة نصباً، فما سلم منه أحد من أهل السنة.(205/31)
وأما عبارته فلا تفيد أنه ضعفه لأجل التشيع، فإن الواو الفاصلة بين العبارتين تدل على العطف، لزيادة العلم، لا لتقرير سبب الجرح، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الساجي من أئمة الجرح والتعديل، وله كتاب في "الضعفا"، وقد اعتمد عليه ابن عدي في "كامله"، فهو أعلم من غيره بأن التشيع لا يضر الراوي إلا أن يكون داعيةً، ويروي ما يؤيد بدعته، وبذلك يظهر أن قوله: "ليس بحجة" متعلق بالضبط.
ومما ينبغي التنبيه عليه ما غالط به المؤلف اعتقاد أهل السنة والجماعة، مما يكنه في قلبه من التشيع الشديد، فقال (ص:192) في الحاشية تعليقاً على قول الساجي: "وكان يقدِّم علياً على الكل":
(وهذا مذهب عدد من الصحابة ، ذكرهم ابن عبد البر في الاستيعاب أثناء ترجمته لعلي عليه السلامن وفاته جماعة منهم (أبو جحيفة) انظر ترجمته في أسد الغابة).
قلت: قد تتبعت ما في ترجمة علي بن أبي طالب من "الاستيعاب" فلم أقف على مثل هذا الهراء، وحاشا الصحابة أن يقع منهم مثل هذه المخالفة التي يروج لها المؤلف، بل صح عن ابن عمر – رضي الله عنه – ما ينقضها.
فعند البخاري (3/8) من طريق : يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمرن قال:
كنا نخيِّر بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخيِّر ابا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان – رضي الله عنه-.
بل صح عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – أنه قال:
ألا ولن يبلغني عن أحد يفضلني عليهما – أي أبي بكر وعمر – إلا جلدته حد المفترى.
أخرجه أبو إسحاق الفزاري في "السير" (ص: 327) – ومن طريقه الخطيب في "الكفاية" (ص:44) – بسند حسن.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "المذكِّر " (18)، والعشاري في "فضائل أبي بكر" (39) بسند فيه ضعف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في "مجموع الفتاوى" (4/421):(205/32)
"أما تفضيل أبي بكر، ثم عمر على عثمان وعلي: فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة، وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي وأحمد، وإسحاق، ,أبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة، وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك، فقال: ما أدركت أحداً ممن أقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر".
وأما المؤلف فقد جعل حب العوفي لعلي سبباً لطعن أهل العلم فيه ، ومن ثم تضعيفه، بل زاد الطين بلة فوصفهم – بإطلاق بأنهم نواصب، قال (ص:193):
(ومما زاد في جرحهم لعطية أنه كان محباً لعلي بن أبي طالب عليه السلام بحيث عرض النواصب عليه سبه فأبى، وكان هذا ينبغي أن يحسب له، ولكن للنواصب شدة وصوله.
قال ابن سعد في "الطبقات" (6/403):
خرج عطية مع ابن الأشعث، فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي، فإن لم يفعل فاضربه أربع مائة سوط، وأحلق لحيته، فاستدعاه، فأبى أن يسب، فأمضى حكم الحجاج فيه).
قلت : هذا الجرح الذي أطلقه المؤلف أراد به كل من جرح عطية العوفي بما فيهم أئمة الشأن كالإمام أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم والساجي وغيرهم، والتشيع معروف مشهور فيه وفي مشايخه ومن أتصل بهم كالسقاف البغيض المبتدع الأثيم، وطعنهم في معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – وفي أهل السنة مشهور، لا يخفى على طلاب العلم.
وأما الحكاية التي اعتمدها فلا يصح الاحتجاج بها، لأن ابن سعد لم يورد مستنده فيها، ثم إن اعتماد ابن سعد الأول على الواقدي المتهم الكذاب، ولا يُستبعد أن تكون هذه القصة مما تلقاه عنه.
8- ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود قوله:
" ليس بالذي يعتمد عليه".(205/33)
9- وقال ابن معين: "ضعيف"، وفي رواية: "ضعيف إلا أنه يكتب حديثه"، وفي رواية ابن الجنيد، عن ابن معين، قال:
"كان ضعيفاً في القضاء ضعيفاً في الحديث".
قلت: قد كان للمؤلف مع عبارات ابن معين في جرح العوفي خطباً جليلاً ليردها به، ويثبت أن ابن معين قد عدله.
قال (ص: 202 – 203):
(أما إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين فقد وثقه، ونقل عنه ذلك عدة مرات، ففي سؤالات الدوري (2/407) قيل ليحيى: كيف حديث عطية؟ قال: صالح.
وفيه أيضاً: سألت عن عطية، وعن أبي نضرة، فقال : أبو نضرة أحب إليَّ.
وهذا النص توثيق منه لعطية، لأن أبا نضرة ثقة عند يحيى بن معين كما في "التهذيب"، فهو في حقيقته مقارنة بين ثقتين.
وقال ابن أبي خيثمة: قيل لابن معين: عطية مثل أبي الوداك؟
قال: لا، قيل: فمثل أبي هارون، قال أبو الوداك ثقة، ما له ولأبي هارون. كذا في "التهذيب" (2/60)، فانظر إلى ارتضاء ابن معين لمقارنته بأبي الوداك الثقة، فهو توثيق لعطية العوفي.
ونظائره كثيرة جداً في كتب الجرح والتعديل في المقارنة بين الثقات، فيحيى بن معين يحب عطية العوفي، وأبو نضرة أحب إليه فتدبر).
قلت: وهذه مجازفات وظلمات بعضها فوق بعض.
فإن قول العالم في الراوي: "صالح الحديث" ليس معناه التوثيق الذي يُحتج بالموصوف به، وإنما هو ممن يُعمل النظر في رواياته، فهذا الوصف ليس بمرق لصاحبه إلى درجة الاحتجاج مطلقاً.
وقد قال ابن أبي حاتم: إذا قيل "صالح الحديث"، فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
وقال ابن الصلاح في "علومه" (ص: 125):
"وجاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان، قال: كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف، وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث".
وقال الحافظ الذهبي في "الموقظة" (ص: 82):
"هذه العبارات كلها جيدة، ليست مضعفة لحال الشيخ، نعم ولا مرقية لحديثه إلى درجة الصحة الكاملة المتفق عليها، لكن كثير ممن ذكرنا متجاذب بين الاحتجاج به وعدمه".(205/34)
فهذه النقول تنقض قول المؤلف بأن هذا الوصف يقتضي التوثيق.
بل أزيد المؤلف بياناً، فأقول:
ثمة فرق بين الكلام على حال الرواي، وبين الكلام على حال مرويات الراوي، وما ورد في تاريخ الدوري مختص بمرويات العوفي، لا بحاله، والعبارة واضحة في ذلك، وهي:
قيل ليحيى: كيف حديث عطية؟ قال: صالح.
ومعنى قوله: "صالح" أي حديثه صالح للاعتبار وللمتابعة، وفي هذا دلالة على أنه العوفي عنده ضعيف إلا أن ضعفه محتمل، ولكنه لا يرتقي إلى درجة الاحتجاج، لا سيما إذا تفرد بحديث كالحديث الذي نحقق القول فيه، ومن ثم فلا عبرة بما ذكره المؤلف من أن عبارة ابن معين هذه تفيد توثيق العوفي.
يبقى الآن الكلام على مقارنة ابن معين للعوفي بأبي نضرة مرة، وبأبي الوداك مرة أخرى.
فأما مقارنته بأبي نضرة ، فلا يفيد توثيقاً ألبتة، وإنما كان قوله في تقديم أبي نضرة على عطية جواباً على سؤال من سأله عن ذلك، لكثرة رواية هذين الراويين عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه-.
وكثيراً ما يقع السؤال عن أصحاب الشيخ الواحد، أو الرواة الذين اشتركوا في الرواية عن صحابي معين، حتى يُعلم من يُقدَّم عند الترجيح، وقد يقع السؤال من غير عارف، فيكون الجواب كما سبق.
بل قد يجيب المجرِّح أو المعدِّل بالتوثيق، ولا يريد أنه ثقة، وإنما هو مقارنة بغيره، وقد وقع هذا من ابن معين، وأشار إليه أبو الوليد الباجي في "الجرح والتعديل"، وتابعه الحافظ في "اللسان"، فقال في مقدمته (1/28) :(205/35)
"وينبغي أن يتأمل أيضاً أقوال المزكين ومخارجها، فقد يقول المعدل: فلان ثقة، ولا يريد به أنه ممن يحتج بحديثه، وإنما ذلك على حسب ما هو فيه، ووجه السؤال له، فقد يُسأل عن الرجل الفاضل المتوسط في حديثه، فيقرن بالضعفاء، فيقال: ما تقول في فلان، وفلان، وفلان؟ فيقول: فلان ثقة، يريد أنه ليس من نمط من قرن به، فإذا سئل عنه بمفرده بيَّن حاله في التوسط، فمن ذلك: أن الدوري قال عن ابن معين أنه سئل عن ابن إسحاق، وموسى بن عبيدة الربذين أيهما أحب إليك؟ فقال: ابن إسحاق ثقة، وسئل عن محمد بن إسحاق بمفرده، فقال: صدوق، وليس بحجة، ... وهذا حكم على اختلاف السؤالن وعلى هذا يُحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة أهل الجرح والتعديل ممن وثق بجلاً في وقت ، وجرحه في وقت آخر".
قلت: وعلى هذا تُحمل أيضاً رواية أبي خالد الدقاق عن ابن معين (256) قال: عطية العوفي ليس به بأس، قيل: يُحتج به؟ قال: ليس به بأس.
قلت : هذا ظاهره التوقف، وإن وصفه بوصف من أوصاف التعديل، وإنما يُعمل به على التعديل إن ورد منفرداً أو معضداً بروايات أخرى عن ابن معين بالتوثيق، ولم يرد عنه التضعيف أو الجرح له.
وأما مقارنة ابن معين بين العوفي وأبي الوداك فلا يقتضي كذلك توثيقه للعوفي، بل قوله هذا يدل دلالة قوية على أنه لم يقر مساواته لأبي الوداك، لأن أبي الوداك ثقة، كما أنه لم يقر مساواته بأبي هارون العبدي المتروك، وهذا لا يدل ألبتة على أن العوفي ثقة.
وأما قول المؤلف: "فيحيى بن معين يحب عطية العوفي، وأبو نضرة أحب إليه".
فتمثيل غير صحيح، فالحب شيء، والضبط شيء آخر.
ثم وجدت المؤلف قد نقل نقلاً عن "التهذيب" (6/207)، فقال (ص: 203):
(وقال ابن الجنيد عن ابن معين: هو وعمرو بن أبي قيس لا بأس بهما، قلت: ثقتان، قال: ثقتان، كذا في"التهذيب" (6/207)، وهو ظاهر في ترادف اللفظين، فهو اصطلاح خاص بيحيى بن معين، ولا مشاحة فيه).(205/36)
هذه العبارة موهمة بان المقارنة بين العوفي، وبين عمرو بن أبي قيس، وأن التوثيق هنا مختص بالعوفي، وليس كذلك، وكان يجب على المؤلف أن يبين ذلكن ولكن لما كان هذا النقل المتصرف فيه يخدم قضيته، لم يتكلم عليه بأي بيان أو إيضاح.
ونص النقل كما في "سؤالات ابن الجنيد" (210):
قلت ليحيى بن معين: عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، فقال: رازي لا بأس به، قلت: عمرو بن أبي قيسظ قال: لا بأس به، قلت: ثقتان؟ قال: ثقتان.
فتبين أن المقارنة بين راو آخر غير العوفي وبين عمرو بن أبي قيس.
وأما كونه احتج به على أن وصف ابن معين للراوي بعبارة "لا بأس به" تفيد التوثيق، فهذا لا دافع له، لا سيما وقد نص هو نفسه على ذلك، ولكنه محمول على التوثيق في حالة عدم توقفه في الراوي كما وقع في رواية أبي خالد الدقاق عنه، وفي حالة عدم جرحه للراوي كما في باقي الرواياتز
وعلى فرض التسليم للمؤلف بثبوت تعديل ابن معين للعوفي، فلا بد من التوفيق بين الجرح والتعديل، وهذا لا يكون غلا بتقديم الجرح، لأن مقتضاه زيادة العلم على التوثيق كما بين ذلك أهل العلم، فإن قيل: فبعض العبارات وردت عنه مبهمة، فالجواب: إن ذلك لا يضر، لأنه اختلاف على المعدل في الجرح والتعديل، والأصل في الراوي عنده أن لا يكون مجروحاً، فإذا وثقه فقد وافق الأصل، وإن جرحه، فهذا مقتضاه أن يكون قد وقف على علم زائد بحاله اقتضى جرحه له، ومن ثم فجرحه مقدَّم على تعديله.
بقي الآن التعريج على ما احتج به المؤلف من النقول على تعديل جماعة من أهل العلم للعوفي، فمن هؤلاء:
1- ابن شاهين.
قال المؤلف (ص: 208):
(ومنهم ابن شاهين، وقد أدخل عطية العوفي في "الثقات"، فهو من موثقيه، فإن قيل: قد ذكره أيضاً في الضعفاء، فقال: ضعفه أحمد ويحيى.(205/37)
قلت: التوثيق هو الراجح، لما قد علمت مما سبق من اعتماد أحمد علي رواية محمد بن السائب الكلبين وهي رواية تالفة لا يُعتمد عليها في جرح عطية العوفي، وأن يحيى بن معين من موثقيه كما تقدَّم).
قلت: هذا الكلام فيه مناقشات:
أولها: أنه زعم أن ابن شاهين من الموثقين له بذكره في "الثقات"، والمعلوم أن ابن شاهين وإن كان من المحدثين والحفاظ إلا أنه ليس من أهل الشأن في الجرح والتعديل، فمثله مثل سالم المرادي الذي لم يرتض المؤلف قوله في جرح العوفي، وقال (ص: 191):
(المرادي هو ابن عبد الواحد الكوفي، ليس هو من الحفاظ، ولا من النقاد الذين يقف المرء عند قولهم في الجرح والتعديل).
وقد قال الذهبي فيه في "السير" (16/434):
"ما كان الرجل بالبارع في غوامض الصنعة، ولكنه راوية الإسلام رحمه الله".
ثانيها: أن اعتماد ابن شاهين في كتاب الثقات، ومثله الضعفاء على كتب الغير، لا سيما تواريخ ابن معين، فهو جمَّاع في هذا الباب، ولا يحرر حال الرجل، وهذا يبينه الذي بعده.
ثالثها: أنه قد نقل قول ابن معين من رواية أبي خالد الدقاق في العوفي، وليس هذا مقتضاه الإقرار، أو حتى التوثيق للرجل، وليس فيه التحرير أو التدقيق، وهذا يؤيده قوله في مقدمة كتابه (ص:25):
"كتاب الثقات ممن روى حديثاً ممن انتهى إلينا ذكره عن نقاد الحديث ممن قُبلت شهادته واشتهرت عدالته وعرف ونقل مثل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل...".
رابعها: أن الرواية التي اعتمدها في "الثقات" لا تقتضي التوثيق كما أثبتناه آنفاً.
خامسها: أنه قد أورد العوفي ف ي"الضعفاء"، مما يدل على أنه لم يحرر حاله، وإنما عمله في الكتابين الترتيب والجمع فقط، كما صرح بذلك في مقدمة "الضعفاء" (ص: 39) قال:
"وذكرت هؤلاء – [أي الضعفاء والهلكى]- في كتابي هذا على مثل ما ذكرت الثقات، ليقرب على المستفيد إدراك ما أراد من هؤلاء".(205/38)
ومن ثمَّ فلا يصح التعبير بأ، ابن شاهين قد وثقه، فإنه لم يفعل، وإنما أورده في الرواة الذين ورد فيهم صيغة توثيق، ثم أورده في الرواة الذين ورد فيهم صيغة تجريح.
2- أبو بكر البزار:
قال المؤلف (ص: 208 – 209):
(ومنهم صيغة تعديل تعادل قولهم: صالح الحديث، مقارب الحديث، ونحو ذلك كما يُعلم من قواعد الحديث).
قلت: هذه من عجائب المؤلف وأوابده، أن يجعل مثل هذا القول عبارة تدل على التوثيق، فرواية جلة من الناس عنه لا تقتضي أن يكون ثقة، لا سيما وإن كان مكثراً عن أبي سعيد الخدري كالعوفي، وكم من إمام كبير قد روى عن جماعة من الهلكى طلباً للغرائب، واعتباراً بحديثه، لكي لا يدلسه مدلس أو يهم فيه واهم فيجعله ثقة عن ثقة، وهذا هو الثوري مع جلالته قد روى عن جابر الجعفي.
ومقتضى هذه العبارة أن العوفي لم يُترك حديثه، وهذا لا يقتضي التوثيق، ولا يمنع من إعمال الجرح فيه، فليست هي من عبارات التوثيق كما يتوهم المؤلف، أو كما يُوهمز
3- أبو حاتم الرازي.
وقد تقدَّم بيان ما فيه.
4- يحيى القطان.
قال المؤلف (ص: 209):
(ومنهم يحيى بن سعيد القطان، فقد قال عن جبر بن نوف أبي الوداك كما في "التهذيب" (2/60) هو أحب إليَّ من عطية.
قلت: هذا أيضاً مقارنة بين ثقتين).
قلت: لا اعتبار بهذه المقارنة كما تقدمَّم بيانه من وجوه، ثم إن يحيى بن سعيد قد تقدَّم النقل عنه بجرح العوفي، إلا أن المؤلف قد وهم في معرفته، فظن أنه ابن معين.
فقد أخرج البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/412):
قال علي: عن يحيى : عطية ، وأبو هارون العبدي، وبشر بن حرب عندي سواء.
فساواه القطان بأبي هارون العبدي المتهمن وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مقارنته بأبي الوداك لا تقتضي تعديلهن لا سيما وأن القطان لم يُنقل عنه قولاً بتعديل أبي الوداك هذا، فتنبه.
5- ابن خزيمة.
قال المؤلف (ص: 209) :(205/39)
(فإنه أخرج الحديث في صحيحه، قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/98): رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق: فضيل ابن مرزوق، فهو صحيح عنده.
قلت : فمقتضى تصحيح الحديث توثيق رجاله ومنهم عطية العوفي).
قلت: قد يخرج ابن خزيمة أحاديث بعض الضعفاء، ولكن ليس على سبيل الاعتداد والحجة، بل على سبيل الاستئناس، ويشير على أن في القلب من حديث فلان شيء، يعني أنه لا يخرجه احتجاجاً، وقد تكرر صنيعه هذا في مواطن كثيرةز
ومنها حديث عطية العوفي.
فقد ذكره المنذري – رحمه الله – في الرواة المختلف فيهم في آخر كتابه: "الترغيب والترهيب " (4/575)، وقثال:
"وأخرج حديثه ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال: في القلب من عطية شيء؟.
فدل هذا على أن عطية ليس بثقة عند ابن خزيمة كما زعم المؤلف.
6- الإمام الترمذي:
قال المؤلف (ص:211):
(ومنهم الإمام أبو عيسى الترمذي، فإنه حسَّن له عدة أحاديث انفرد بها فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي – كما في الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه – انظرها في طتحفة الأشراف". ومقتضى ذلك التحسين أن يكون صدوقاً عند الترمذي، كما صرح بذلك الحافظ في "تعجيل المنفعة" ص:153).
قلت: قد تقدَّم الجواب عن ذلك، وأزيده إيضاحاً، فأقول:
لايقتضي تحسين الترمذي لأحاديث العوفي أن يكون صدوقاً عندهن لأن إطلاق الترمذي الحسن لا يقتضي الاحتجاج به عنده كما اشار الحافظ ابن حجر في "النكت" في مبحث الحسن.
إلا أن المؤلف تناقض فقال:
(وعليه: فعطية صدوق عند الترمذي، وهو شرط الحسن لذاته).
قلت: الحسن عند الترمذي معروف بشروط وضعها هو نفسه، وصرح بها في "العلل الصغيرط (الجامع: 5/758)، فقال:
" وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن، فإنما أردنا به حُسن إسناده عندنا: كل حديث يُروى لا يكون في إسناده من يُتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن".(205/40)
وهذا الحد هو الذي اعتمده العلماء في الحسن بمجموع الطرق، لا الحسن لذاته كما يدعي المؤلف، ومن ثم فكون الترمذي قد حسن حديث العوفي فهذا معناه أنه غير متهم بالكذب عنده، وليس بكذاب، إلا أن الضعف لا ينفك عنه، وإلا لما وصف حديثه بالحسن.
وأما الأحاديث التي وصفها الترمذي بالحسن من أفراد العوفي فلا تنصرف إلى الحسن لذاته، لأن الترمذي قد حكى حد الحسن عنده، وما ذهب غليه المؤلف من اجتهاده، وكما قال المؤلف في كتابه (ص: 203):
(هذه حكاية عن نفسهن ونص من عنده، ولا اجتهاد مع وجود النص).
7- ابن سعد
فقد قال في "الطبقات الكبرى ": "وكان ثقة إن شاء الله".
قلت ك كما تقدَّم بيانه فإن اعتماد ابن سعد في كتابه على شيخه الواقدي، وهو متهم لا يُعول عليه، إلا أن المؤلف اعتذر عن ذلك (ص: 200- 201) بقوله : (أما عن اعتماد ابن سعد علي الواقدي غالباً فهو ما صرح به الحافظ، لكن هذا ليس على إطلاقه ، فإذا رأيت ابن سعد ترجم للرجل ترجمة عارف بأحواله وبحديثه وبكلام الناس فيه، فلا مدخل عند ذلك للواقدي).
قلت : ترجمة العوفي عند ابن سعد لا تتجاوز ثلاثة أرباع الصفحة، وليس فيها ما يدل على أنه قد سبر حاله كما يزعم المؤلف إلا قوله:
"وكان ثقة إن شاء الله وله أحاديث صالحة، ومن الناس من لا يحتج به".
والظاهر أنه أطلق التوثيق هنا بمعنى أنه لا يتهم بالكذب، ثم بين أن أحاديثه صالحة، أي للمتابعة والاعتبار ، لا أنها من الواهيات، فهذا مشعر انه ليس ممن يحتج به على الانفراد.
وعلى فرض التسليم للمؤلف فيما ادعاهن وأن ابن سعد قد وثقه عن عناية ومعرفة، فكذلك من ضعفه قد ضعفه بجرح مفسر- كما بيناه فيما سبق – غير مبهم.
ولا يعدل ابن سعد أئمة الشأن الكبار مثل: هشيم، ويحيى القطان، والثوري، وأحمد ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وابن معين على الراجح، وابن عدي، وغيرهم، إذا اجتمعوا على جرح راوٍ. وممن لم يرد ذكرهم في "التهذيب":
1- الدارقطني:(205/41)
قال في "العلل" (4/6): "مضطرب الحديث".
وقال في "السنن" (4/39): "ضعيف".
2- البيهقي:
قال في "السنن الكبرى" (2/126 و6/30 و7/66 و 8/126):
" لا يُحتج به".
3- عبد الحق الإشبيلي:
نقله عنه الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (4/51)، وعزاه إلى "الأحكام"، قال:
"عطية العوفي لا يُحتج به، وإن كان الجلة قد رووا عنه".
وهذه العبارة تدل على أنه لا اعتبار برواية الناس عنه مع ثبوت ضعفه.
4- الحافظ الذهبي:
قال في "تلخيص المستدرك" (4/222):
"واهٍ".
وقال في "المغني" (2/436):
"مجمع على ضعفه".
والحاصل من ذلك أن كلمة العلماء مجتمعة ولا شك على ضعف العوفي وسقوط الاحتجاج به، لاسيما في روايته عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - .
وإن كان المؤلف قد سمى بحثه في تقوية حال العوفي الشيعي: "القول المستوفي في الانتصار لعطية العوفي".
فسمِّ هذا الرد إن شئت:
"الرد المغني ببيان ضعف عطية العوفي".
ويبقى الآن الكلام على ما وقع في هذا الحديث من الاختلاف.
فقد اختلف في هذه الرواية على فضيل بن مرزوق.
فأخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في "الصلا" – كما في "نتائج الأفكار" للحافظ ابن حجر (1/273) - : عن فضيل بسنده موقوفاً.
وتابعه عليه وكيع، عن فضيل به موقوفاً أيضاً.
أخرجه ابن أبي شيبة (6/25).
قال أبو حاتم الرازي في "العلل" لابنه (2048):
"موقوف أشبه".
إلا أن المؤلف لم يرَض بمثل هذا الترجيح، ولم يقنع به، لأنه سوف يفسد عليه استدلاله بالحديث، فحشد ما يرد به حكم غمام المحققين أبي حاتم الرازي، فاستدرك عليه !! بقوله (ص: 219):
(وللمحدثين في ذلك مسلكان كلاهما يقوي الرفع:
فأولهما: إن الرفع زيادة ثقة، وهي مقبولة، إذ إن الحكم لمن أتى بالزيادة، وهو مذهب الخطيب البغدادي وجماعة من أئمة الفقه والحديث والأصول.
وثانيهما: الترجيح باعتبار القرائن ، وهو ما يقوي الحكم بالرفع أيضاً، فإن من رفع الحديث أكثر عدداً، وهم ستة، ممن وقفه وهم اثنان فقط).(205/42)
قلت: كلام المؤلف هذا فيه مناقشات:
الأولى : أنه موهم بأن الأمر على التخيير بين المسلكين، وليس كذلك، فالمسلك الأول هو مسلك الفقهاء، وعنهم أخذه بعض أهل الحديث كالخطيب وغيرهن وقد أنكر المحققون إطلاق القول باستخدام هذا المسلك.
فقال الحافظ ابن حجر في "النزهة" (ص: 30):
"اشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاً، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه، والعجيب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح، وكذا الحسن.
والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي والدارقطني، وغيرهم اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها، ولا يُعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة".
وقد تقدَّم النقل عن ابن دقيق العيد والعلائي ما يؤيد ذلك.
الثانية: أنه قد أوهم أن العلة في الاختلاف في الوقف والرفع إنما هي الخلاف بين الرواة عن فضيل بن مرزوق، وليست كذلكن بل هي من فضيل نفسه، فقد شك في روايته كما عند الإمام أحمد في "المسند" (3/21) قال:
حدثنا يزيد، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، فقلت لفضيل: رفعه، قال: أحسبه قد رفعه ... الحديث.
وأما المؤلف فقد نحى منحى غريباً في تأويل هذا الشكن فقال (ص:218):
(هذا ظن راجح تقوى "بقد" وهو حرف تحقيق هنا دخل على الماضي فقربه من الحالن وعليه فرواية يزيد بن هارون من قسم المرفوع، ولابد ، وهو صنيع من تكلم على الحديث ممن تأخر من الحفاظ).
قلت: وهذا اعتذار ساقط لا قيمة له، ذلك لأن كلمة: "أحسب" تفيد الظن ولا شك، والظن أكذب الحديث.(205/43)
وعلى فرض التسليم للمؤلف بأنه ظن راجح، فهذا لا ينفي ورود الظن على الفضيل فيهن وإن رجح الرفع بـ "قد"، وإن كان ذلك كذلك، فالعلة في الاختلاف قائمة عليه هو، لا على من رواه عنه.
وهذا يؤيده ترجيح أبي حاتم للموقوف، وهو من أئمة هذه الصنعة ، وممن أرسى قواعدها، فلا يقدَّم عليه فيها المتأخرون.
الثالثة: أنه على فرض التسليم بأنه مما أختلف فيه الرواة عن فضيل بن غزوان، وهم جميعاً ثقات سواءً من رواه بالرفع أو من رواه بالوقف، فإن كانوا كذلك، فطريقة المحققين من أهل العلم إعلال الحديث بمن ورد فيه نوع جرح بدلاً من تخطئة الثقات، وفضيل بن مرزوق قد تكلم بعض أهل العلم في حفظه، فتخطئته فيه بروايته مرفوعاً تارة، وموقوفاً تارة أخرى أولى من تخطئة حافظين، وهما أبو نعيم ووكيع، أو ستة من الرواة الثقات، فيهم حافظ كبير مثل يزيد بن هارون – رحمه الله -.
الرابعة: أن الفضل بن دكين الملائي من الحفاظ المتثبتين المقدَّمين على أقرانه، وقد قال يحيى القطان: "إذا وافقني هذا الأحول ما أبالي من خالفني"، وقال ابن معين: "ما رأيت أثبت من رجلين يعني في الأحياء أبي نعيم وعفان"، وقال الفسوي: "أجمع أصحابنا أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان"، وقال أبو حاتم: "أبو نعيم حافظ متقن".
ومثله وكيع من الحفاظ الكبار، وقد خالفا خمسة من الثقات، والسادس وهو من الحفاظ وهو يزيد بن هارون في روايته شك وظن.
وقد تقدَّم أن المؤلف قد رجح رواية الفسوي على ثلاثة من الرواة؛ اثنين منهم من الثقات، فَلِمَ لم يرجح رواية حافظين كبيرين كابي نعيم ووكيع على هؤلاء الستة؟ إلا لأجل الانتصار لمذهبه الفاسد.
وللحديث شاهد واه من حديث بلال – رضي الله عنه – وفيه الوازع بن نافع العقيلي، وهو تالف الحال، قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال أحمد وابن معين: "ليس بثقة"، وقال النسائي: "متروك".
ومثل هذا الشاهد لا يصح التقوية به، والله أعلم.
الحديث السابع(205/44)
أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/267):
حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق، حدثنا معروف بن حسان السمرقندي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد: يا عباد الله احبسوا عليَّ، فإن الله في الأرض حاضراً سيحبسه عليكم".
وأخرجه أبو يعلى في "المسند" (9/177): حدثنا الحسن بن عمر بن شقيق... به.
ومن طريقه ابن السني (508) إلا أنه وقع فيه زيادة عن ابن بريدة، "عن أبيه"، فزاد (عن أبيه).
وأظنه من التحقيق فإن غالب النسخ المطبوعة غير مخدومة الخدمة العلمية اللائقة.
وقد هوَّن المؤلف من ضعف هذا السند، فقال (ص: 225):
(قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/132) بعد أن عزاه لأبي يعلى والطبراني: فيه معروف بن حسان وهو ضعيف، وكذا قال الحافظ البوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة...، وقال الحافظ في تخريج الأذكار 0شرح ابن علان 5/150) بعد أن عزاه لابن السني والطبراني: وفي السند انقطاع بين ابن بريدة وابن مسعود. أ.هـ.
ومع ذلك فللحديث طرق تقوية وترفعه من الضعف إلى الحسن المقبول المعمول به).
قلت: هذه العبارة الأخيرة فيها مجازفة كبيرة، وتدليس عريض.
فإنه يوهم القراء الكرام بان ضعف معروف بن حسان من قبيل الضعف المحتمل الذي يتقوى بمجيء مثله من وجه آخر وليس كذلك، بل لا أظنه قد خفي عن المؤلف حال معروف هذا، فإنه شديد الضعف.
فقد قال فيه أبو حاتم الرازي: "مجهول"، وقال ابن عدي: "منكر الحديث"، وكلاهما من قبيل التضعيف الشديد والمؤلف على معرفة تامة بذلكن وقد خطَّ بيده في كتابه ما يدل على ذلك، فقال (ص:149):(205/45)
(قال ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" كما في "نصب الراية" (1/179)، و"فتح المغيث" (1/347): قولهم: "روى مناكير" لا تقتضي بمجرده ترك روايته حتى تكثر المناكير في روايته، وينتهي أن يُقال فيه: "منكر الحديث"، لأن منكر الحديث وصف في الرجل يستحق به الترك لحديثه أ.هـ.).
وقال ابن عدي أيضاً: "ومعروف هذا قد روى عن عمر بن ذر نسخة طويلة وكلها غير محفوظة". وقال الخليلي: "له في الحديث والأدب محل، وروى كتاب العين عن الخليل بن أحمد، روى عن عمر بن ذر نسخة لا يتابعه أحد".
قلت: قد تفرد بهذا الحديث من هذا الوجه، دون باقي أصحاب سعيد بن أبي عروبة، والمتن فيه نكارة ظاهرة، ويكفي ما جُرِّح به الرجل حتى يُردُّ حديثه، ولا يُقوى بالمتابعة، فتنبه.
وأما الشواهد التي ذكرها المؤلف للتقوية فهي:
1- ما أخرجه الطبراني في "الكبير" (17/117-118):
حدثنا الحسين بن إسحاق التستري، حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، حدثنا عبد الرحمن بن شريك – وتصحفت في المعجم إلى سهل - ، حدثني أبي، عن عبد الله بن عيسى، عن زيد بن علي، عن عتبة بن غزوان، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال:
"إذا أضل أحدكم شيئاً، أو أراد أحدكم عوناً وهو بأرض ليس بها أنيس، فليقل: يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني، فإن لله عباداً لا نراهم". وقد جُرِّب ذلك.
قلت : وهذا إسناد ضعيف، فقد تفرد به من هذا الوجه عبد الرحمن بن شريك، عن أبيه ، وكلاهما متكلم فيه.(205/46)
وقد صحَّف المؤلف اسم زيد بن علي إلى يزيد بن علي في موضعين، مع أنه قد ورد عند الطبراني على الوجه الصحيح، والظاهر أنه فعل ذلك تعمية لأمر زيد هذان فإن زيد هذا هو ابن علي بن الحسين، وبين ولادته وبين وفاة عتبة بن غزوان عمراً طويلاً، فزيد بن علي ولد سنة ثمانين، ووفاة عتبة بن غزوان سنة سبع عشرة وبينهما بون شاسع من الزمن، فالسند ليس أقل من أن يكون معضلاً، والمعضل شديد الضعف، ولا يتقوى بالمتابعة كما هو معلوم في علم الحديث.
2- مرسل أبان بن صالح.
وهو عند أبن أبي شيبة (10/424):
حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا نفرت دابة أحدكم أو بعيره بفلاة من الأرض لا يرى بها أحداً، فليقل: أعينوني عباد الله، فإنه سيعان".
قلت: وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن محمد بن إسحاق صدوق، موصوف بالتدليس وقد عنعن هذا الخبر.
وأما المؤلف فقد لمز العلاَّمة الألباني – حفظه الله – فقال (ص: 226):
(وأعله الألباني في "ضعيفته" (2/109) بالإعضال وهو خطأ لأن أبان بن صالح من صغار التابعين).
قلت: هذه حجة من لا بضاعة له في هذا العلم ، فقد وصف – قبل الألباني – مراسيل هذه الطبقة من العلماء بالإعضال جماعة منهم الحافظ الذهبي، فقال في "الموقظة" (ص: 40):"من أوهى المراسيل عندهم: مراسيل الحسن.
وأوهى من ذلك: مراسيل الزهري، وقتادة، وحميد الطويل من صغار التابعين، وغالب المحققين يعدون مراسيل هؤلاء معضلات ومنقطعات، فإن غالب روايات هؤلاء عن تابعي كبير، عن صحابي، فالظن بمرسله أنه أسقط من إسناده اثنين".
قلت: أبان بن صالح روى عن الزهري، وعن الحسن، فهما من شيوخه، وقد حكم المحققون على مراسيل هذين الراويين بأنها معضلات، فكيف بمرسل من يروي عنهما ؟! هذا من جهة.(205/47)
ومن جهة أخرى فإنه لم يصح له له الرواية عن أحد من الصحابة، وإنما ذكروا له حديثاً عن أنس بن مالك عند الترمذي: "الدعاء مخ العبادة"، وهو حديث ضعيف، روي من طريق ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن أبان به، ووصفه الترمذي بالغرابة، فقال: "غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".
وقد رواه عن أبن لهيعة الوليد بن مسلم، وابن لهيعة حاله مشهورة، فالحديث ليس بحجة على ثبوت رواية أبان بن صالح عن أنسن ومن ثم فوصف مرسله هذا بأنه معضل هو الصواب، والمعضل لا يتقوى بالمتابعة.
3- حديث ابن عباس – رضي الله عنه - .
أخرجه البزار (كشف: 3128) من طريق:
حاتم بن إسماعيل ، عن أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"إن لله ملائكة في الأرض، سوى الحفظة، يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة، فليناد: أعينوا عباد الله".
قلت: وهذا إسناد فيه ضعف، فإن أسامة بن زيد متكلم فيه، وله مناكير، وقد اختلف عليه فيه.
فرواه جعفر بن عون، وروح بن عبادة، وعبد الله بن فروخ، ثلاثتهم عن أسامة بن زيد بسنده موقوفاً.
ولقائل أن يقول: فالأصح على هذا الوقف لأنه قول الأكثر والأوثق؟!
فالجواب: هذا محتمل إن كان المختلف عليه ثقة، وأما إن كان ضعيفاً فالأولى الحمل عليه فيه، بدلاً من تخطئة الثقات الذين رووه عنه، وحينئذ يوصف بأنه قد اضطرب فيه.
وعلى أي وجه ترجح القول سواء بالرفع أو بالوقف فثمة مخالفة أخرى بين أسامة بن زيد وبين أبن إسحاق، فإن ابن إسحاق أوثق ولابد من أسامة، وقد أرسله، فهو المحفوظ إن شاء الله تعالى.
وأما المؤلف فقد كان له خطباً جليلاً مع هذا الحديث، فقال (ص:227):
(وأعل الألباني في ضعيفته (2/112) الطريق المرفوعة عن ابن عباس بهذه الموقوفة، فقال: جعفر بن عون أوثق من حاتم بن إسماعيل... ولذلك فالحديث عندي معلول بالمخالفة، والأرجح أنه موقوف .أ هـ.(205/48)
قلت: هذا خطأ من وجهين:
أولهما: تقرر في علم الحديث أنه إذا تعارض الرفع والوقف فالحكم فيه للرفع...
ثانيهما: إن حاتم بن إسماعيل لم ينفرد برفع الحديث، بل وافقه على الرفع محمد بن إسحاق كما تقدم بالإضافة إلى شاهد عبد الله ابن مسعود المذكور أولاً.
والصواب هنا أن يُقال: إن أبان بن صالح كان يرفعه أحياناً، وأحياناً أخرى لا ينشط لرفعه، ونظائره كثيرة جداً).
قلت: وهذا كلام ساقط كعامة منافحاته عن الأحاديث الساقطة في كتابه.
وقد ناقض نفسه بنفسه ، ودل على جهله بقلمه.
فالذي قرره في هذا الموضع أنه عند تعارض الرفع والوقف فالرفع مقدَّم، وقبلها بصفحات قليلة ناقض هذا القول، فقال (ص: 219) أن للمحدِّثين مسلكين في هذه المسالة، قال:
(فأولهما : إن الرفع زيادة ثقة، وهي مقبولة، إذ إن الحكم لمن أتى بالزيادة، وهو مذهب الخطيب البغدادي وجماعة من أئمة الفقه والحديث والأصول.
وثانيهما: الترجيح باعتبار القرائن...).
فلماذا لم يعتبر بالترجيح بالقرائن هنا كما فعل هناك ؟! لسبب بسيط، وهو أن الترجيح بالقرائن سوف يفسد عليه حديثه، لا سيما وأن ثلاثة من الرواة قد رووه عن أسامة بن زيد موقوفاً، وخالفهم واحد فقط، فيه كلام من حيث الضبط.
ثم إن الذي قرره هذا من تقديم الرفع على الوقف إنما هو قول الفقهاء لا قول المحققين من أهل الحديث، لا سيما الأئمة المتقدمين من أهل العلم، وقد تقدَّم النقل عن العلماء كابن دقيق العيد، والعلائي، والحافظ ابن حجر ما يدل على ذلك.
وأما ترجيحه المرفوع بتعضيده بالمرسل المرفوع وبالشاهد المنكر عن ابن مسعود فلم أر من أهل العلم من فعلها قبله، أن يعضد الراجح بالمرجوح والمنكر، وإنما أراد بذلك التمويه على من لا علم له بهذه الصناعة، فإن حديث ابن مسعود لا دخل له بهذا الحديث، ولا اشتراك بينهما في السند ألبتة، والمرسل متعارض مع الموصول المرفوع، فلا بد من الترجيح، لا التعضيد.(205/49)
وأخيراً: فعلى فرض التسليم له بصحة الحديث الأخير، فهو دال على أن ذلك استعانة بالمخلوقين الأحياءن وقد دلت رواية ابن عباس على أنهم من الملائكة، ولم يمنع أحد أن يستعين الناس بغيرهم من المخلوقين على ما يقدروا على فعله، وليس هو بمجيز للتوسل بالجاه، ولا هو من هذا الباب في شيء، فتنبه إلى ذلك ترشد إن شاء الله.
فصل
ومن أغرب الحجج التي احتج بها المؤلف على تقوية هذا الحديث: ادعاؤه بأن بعض الأمة قد انعقد عملها به، وأن ما انعقد به عمل الأمة من الأحاديث، وإن كانت ضعيفة السند، فهي مقبولة.
قال المؤلف (ص:229):
(إذا ورد حديث بسند ضعيف يصير من قسم المقبول الذي هو أعم من الصحيح والحسن إذا تلقته الأمة بالقبول، أما إذا عمل به بعض الأمة – كحديثنا هذا – ففي عملهم تقوية له).
وقال (ص: 230):
(والحاصل أن للناقد مسلكين في تقوية هذا الحديث:
أحدهما : تقويته بالشواهد، فيصير حسناً، ولا ريب في ذلك.
ثانيهما: تقويته بعمل الأمة به.
وأحد المسلكين أقوى من الآخر).
قلت: هذه المسألة، أقصد مسألة الحكم على الحديث بالقبول إذا تأيد بعمل الأمة مما تفرد به بعض المتأخرين، وأما المتقدمون، فلا يذهبون إلى مثل هذه التقوية، وتفصيل هذه المسألة كما يلي:
قال السيوطي في الحديث المقبول في "البحر الذي ذخر":
"ما تلقاه العلماء بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح".
وقال في "التعقبات على الموضوعات":
"قد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به، وإن لم يكن له إسناد صحيح".
قلت: قد نُقلت بعض العبارات في ذلك عن ابن الهمام، وأبي إسحاق الأسفرائيني.
واغتر من أطلق القول بذلك ما ورد عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال:
"وما قلت: يعني في تنجيس الماء بحلول النجاسة فيه من أنه إذا تغير طعم الماء أو ريحه أو لونه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، لكنه قول العامة، لا أعلم بينهم خلافه".(205/50)
وهذا القول إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الحجة في ذلك الاتفاق على ذات الأمر، والاتفاق وإن وافق معنى الحديث أو متنه فلا يدل على قبول الحديث بحال، ولا تثبيته، وإنما الحجة في الاتفاق، وما قامت الحجة بمدلوله إلا بقيام الاتفاق عليه.
والقبول إنما هو تثبيت نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ولا شك ليس من شروط الصحة في شيء، فإن أئمة الحديث لم يشترطوا ضمن شروط الصحة قبول الأمة واتفاقهم عليه، بل الأمة وقع بين علمائها الخلاف في تصحيح وتضعيف جملة كبيرة من الأحاديث.
ويؤيد ذلك ما نقله ابن القيم – رحمه الله – في الروح في حديث تلقين الميت، قال:
"سئل عنه الإمام أحمد – رحمه الله – فاستحسنه، واحتج عليه بالعمل".
قلت: والحديث المروي في الباب ضعيف، وإنما احتج عليه أحمد بعمل السلف، ولم ينقل عنه تصحيحه ألبتة.
وقد ذكر العراقي عن العز ابن عبد السلام: أن بعض المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته، قال:
"وهو مذهب رديء".
والمسألة فيها تفصيل قد ذكرته في غير هذا الموضع.
والشاهد: أن هذا المذهب ضعيف، ولا تقوم به حجة يتقوى بها الحديث.
ولو سلمنا للمؤلف بهذا المذهب، فإن الأمة لم ينقل عنها العمل بهذا الحديث، وإنما حكاه عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى -، والطبراني، والنووي، وقد خالفهم فيه من هو أعلم منهم وأقدم وهو ابن المبارك – رحمه الله-.
فقد أخرج أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (3/110):
أن ابن المبارك – رحمه الله – كان قد ضل في بعض أسفاره في طريق، وكان قد بلغه أن من اضطر إلى مفازة فنادى: عباد الله أعينوني، أُعين، قال: فجعلت أطلب الجزد، أنظر إسناده.
فلم يستجز أن يدعو بدعاء لا يرضى إسناده.
ثم احتج المؤلف على تثبيت هذا المذهب بأن ابن المبارك كان يصلي صلاة التسابيح، وأنه قد تداولها الصالحون بعضهم عن بعض.
قلت: وهذا تمويه عجيب، وقول مردود من وجوه:(205/51)
الأول: أن حديث صلاة التسابيح قد اختلف فيها العلماء، فمنهم من صححها، والأكثر على تضعيفها، ولها طريق يقرب من شرط الحسن من رواية ابن عباس – رضي الله عنه - ، وقد اغتر به بعض أهل العلم فصححوه، وخالفهم المحققون من المتقدمين والمتأخرين، فأعلوا هذه الرواية بالشذوذ.
الثاني: أن ابن المبارك لم يعمل بحديث صلاة التسابيح لما فيه من النكارة الظاهرة، لا سيما الجلوس بين كل ركعتين للتسبيح، وهي مذكورة في الأحاديث، إلا أن ابن المبارك لم يكن يفعل هذه الجلسة للتسبيح التي هي قبل القيام، وكان يفعل باقي التسابيح، لأنها تندرج تحت أصل أصيل وهو جواز التسبيح والتهليل والتكبير والحمد بعد القراءة، وأثناء السجود والركوع، وعليه فلا يتجه القول بأن ابن المبارك قد تداول هذه الصلاة على الصفة المذكورة في الأحاديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في "منهاج السنة" (4/116): "وأما ابن المبارك فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة التي فيها التسبيح قبل القيام، بل استحب صفة أخرى توافق المشروع لئلا تثبت سنة بحديث لا أصل له".
وقال – كما في "مجموع الفتاوى" (11/579)-:
"وأما ابن المبارك ، والمنقول عنه، فشيء مثل الصلاة المعروفة، فإن تلك فيها قعدة طويلة بعد السجدة الثانية، وهذا يخالف الأصول، فلا يجوز أن يثبت بمثل هذا الحديث".
الثالث: أن هذه الصلاة ليس فيها نقل صحيح عن الأئمة الأربعة إلا عن الإمام أحمد – رحمه الله – فقد ذهب إلى ضعف حديثها، وما ادعاه الحافظ ابن حجر برواية موهمة من رجوع الإمام أحمد عن تضعيفها فغير صحيح كما بيناه تفصيلاً في كتابنا : "النقد الصريح"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأئمة لم يعتبروا بحديثها، ولم يتداولوها فيما بينهم، بل لم يعرِّجوا على ذكرها في كتبهم لا في أبواب التطوع، ولا في غيرها ، وإنما أوردها أصحاب الرواية والحديث، من باب جمع ما في الباب.(205/52)
ثم لو أننا سلمنا بهذا كله للمؤلف، فليس في الحديث ما يدل على جواز التوسل بالجاه، وإنما هو من قبيل طلب العون من الأحياء فيما يقدرون عليه، وهذا لم يمنع منه أحد ، ولا حتى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ، وبون شاسع بين هذا وبين التوسل بجاه المخلوقين.
الحديث الثامن
أخرجه أبو يعلى الموصلي في "المسند" (4/418) :
حدثنا عقبة، حدثنا يونس، حدثنا سليمان الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"ليأتين على الناس زمان يخرج الجيش من جيوشهم، فيُقال: هل فيكم أحد صحب محمداً فتستنصرون به فَتُنصروا؟ ثم يقال: هل فيكم من صحب محمداً فيقال: لا ، فمن صحب أصحابه؟ فيُقال: لا ، فيُقال: من رأى من صحب أصحابه؟ فلو سمعوا به من وراء البحر لأتوه".
قال المؤلف (ص: 231):
(إسناده صحيح).
ثم أورد له متابعة عند أبي يعلى أيضاً (4/200) من طريق: محاضر بن المورع، عن الأعمش به.
قلت: السند الأول فيه يونس بن بكير، صدوق فيه ضعف، وقد تُكُلِّم في حفظه، وقد رواه عن الأعمش دون باقي أصحاب الأعمش الكبار.
وقد تفرد بلفظه: "فتستنصرون به فتنصروا".
وقد خالفه محاضر بن المورع، وهو وإن كان فيه بعض الكلام غلا أنه مقدَّم عليه في الأعمش.
قال ابن عدي: "روى عن الأعمش أحاديث صالحة مستقيمة".
وقد رواه بلفظ:
"يبعث بعث، فيقال لهم: هل فيكم أحد صحب محمداً؟ فيقال: نعم، فيُلتمس، فيوجد الرجل، فيستفتح، فيفتح عليهم..".وبون شاسع بين هذا اللفظ، وبين اللفظ الذي قبلهن ومما يؤيد هذا اللفظ أصل الحديث الذي في الصحيحين من رواية جابر عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - ، وهو:
"يأتي زمان يغزو فئام من الناس، فيُقال: فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ؟، فيقال: نعم، فيُفتح عليه..".
وفي رواية مسلم: "فيُفتح لهم".
وفي رواية ثانية عنده: "فيفتح لهم به".
أخرج البخاري (فتح:6/68)، ومسلم (نووي: 8/300).(205/53)
قلت: وهذا لا يدل ألبتة على أن الاستنصار كان بجاهه عند الله، ولا بالتوسل بجاهه، إذ لو كان كذلك فلا حاجة للسؤال عن وجوده أو عدم وجوده، وإنما هو بدعائه وإخلاصه، ولا قائل بالمنع من التوسل بدعاء الصالحين.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" في شرح الحديث:
"فإن كان القوي يترجح بفضل شجاعته، إن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه".
قلت: ومما يدل على تدليس المؤلف أنه لم يورد الحديث الذي قبله في الباب الذي عند البخاري، وهو أظهر في الدلالة من هذا، وهو حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال:
رأى سعد- رضي الله عنه – أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم".
قلت: والنصر والرزق المعني هنا هو نفسه المعني في الحديث الذي قبلهن وهو نصر ورزق بإخلاصهم ودعائهم وصلاتهم، لا بالتوسل بجاههم كما يروج له المؤلف، ويدل على ذلك رواية النسائي (6/45) لهذا الحديث بسند صحيح ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم".
وهذا ظاهر من الحديث الذي ترجم به المؤلف، فإنما حصر الفتح والنصر بالقرون الثلاثة الأولى، لأن الإخلاص والصدق في الدعاء والالتزام بالشرائع أظهر فيهم من غيرهم، ولأجل هذا فُضلوا على غيرهم من القرون.
وبهذا يبطل الاستدلال بهذا الحديث على جواز التوسل بالجاه.
الحديث التاسع
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (1/292) من طريق:
عيسى بن يونس- [وهو ابن أبي إسحاق] – حدثني أبي، عن أبيه، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين.
قلت قد أعله المؤلف بعنعنة أبي إسحاق السبيعي، وقال (ص:233) : (ولولا عنعنة أبي إسحاق – فإنه مذكور في المرتبة الثالثة من المدلسين (ص:42) – لكان الحديث مرسلاً صحيح الإسناد).(205/54)
قلت : أمية بن عبد الله من التابعين، فحديثه هذا مرسل، وإن صح فيُحمل على ما حُمل عليه ما قبله.
ويدل على ذلك : ما أخرجه أبو داود (2594)، والترمذي (1702)، والنسائي (6/45 – 46) بسند صحيح من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ابغوني الضعيف، فإنكم إنما ترزقون وتُنصرون بضعفائكم".
وقد تقدَّم بيان أن ذلك بإخلاصهم، وبدعائهم، ولما علم فيهم الله تعالى من الضعف، لا بجاههم.
الحديث العاشر
أخرجه أحمد في "مسنده" (5/422):
حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا كثير بن زيد، عن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر، فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب، فقال: نعم، جئت رسول الله، ولم آت الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله".
ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم (4/515) وصححه.
قلت: وهذا سند منكر بمرة، غير معروف، بل هو من أوهام كثير بن زيد، فهو وإن كان صدوقاً في نفسه، إلا أنه قد تُكُلِّم في حفظه، قال أبو زرعة: "صدوق فيه لين"، وقال النسائي: "ضعيف"، وقال أبو حاتم: "صالح، ليس بالقوي، يُكتب حديثه"، وقال ابن معين في رواية ثالثة: "ليس به بأس"، وقال أحمد: "ما أرى به بأساً".
وأما المؤلف فخلط خلطاً عجيباً في تقوية هذا الحديث، ودلَّس تدليساً عريضاً لأجل الوصول إلى غرضه، فقال (ص: 234 – 235):
(داود بن أبي صالح قال عنه الذهبي في "الميزان" (2/9): "لا يُعرف"، وسكت عنه ابن أبي حاتم الرازي (الجرح 3/416).
وذكره الحافظ ابن حجر تمييزاً، وقال في "التقريب": مقبول.(205/55)
فإذا تشددت وأعرضت عن تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له لأن التصحيح هو توثيق للراوي، فهذا الإسناد فيه ضعف يسير يزول بالمتابعة، وداود بن أبي صالح قد تابعه المطلب بن عبد الله بن حنطب فيما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (4/189)، والأوسط (1/199)، وأبو الحسين يحيى بن الحسن في أخبار المدينة كما في شفاء السقام ص :152.
والمطلب بن عبد الله بن حنطب صدوق يدلس، ومثله يصلح للمتابعة، صرح بالسماع أو لم يصرح، أدرك أبا أيوب أو لم يدركه.
فغاية هذا الإسناد أن فيه انقطاعاً يسيراً قد زال بالمتابعة المتقدِّمة.
وبهذه المتابعة يثبت الحديث ويصير من قسم الحسن لغيره). وهذا الكلام فيه مغالطات ومناقشات:
أولها: أن داود بن أبي صالح هذا مجهول، لم يرو عنه إلا كثير بن زيد، ولم يوثقه معتبر، إلا تصحيح الحاكم لحديثه، والحاكم متساهل كما تقدَّم بيانه، وأما ما ادعاه المؤلف من موافقة الذهبي له فغير صحيح، وغنما غاية أمر الذهبي أنه يذكر في تلخيصه حكاية حكم الحاكم على الحديث، وإن أراد التعقيب قال: "قلت: ...."، ومن ثم فليس ذكره لحكم الحاكم على الحديث موافقة له، لا سيما وأنه قال فيه في الميزان: "حجازي ، لا يُعرف، له عن أبي أيوب الأنصاري، روى عنه الوليد بن كثير".
وهذا وهم من الحافظ الذهبي، كما بينه الحافظ في "التهذيب"، فإنما روى عنه كثير بن زيد، فانقلب الاسم على الذهبي ووهم فيه.
وأما قول الحافظ فيه: "مقبول" فغير مقبول، لأنه لم يرو عنه غير واحد، ولا وثق ولا ضعف، فالذي تقرر في المصطلح أن مثل هذا يكون مجهول العين، ومثله لا يحتج بحديثه، ولا تنفعه المتابعة ولا يتقوى بها.(205/56)
ثانيها: أن الراجح أن ذكر هذا الراوي بهذا الاسم وهم من كثير ابن زيد كما تقدَّم ذكره، وذلك أن الرواية قد اختلفت على كثير في تسمية شيخه، فرواه الطبراني في "الأوسط" (284 و9366)، وفي "الكبير" (4/158) من طريق : سفيان بن بشرن حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، قال: قال أبو أيوب لمروان... فذكره دون ذكر القصة التي هي محل الشاهد من الحديث، والتي يحتج بها المؤلف على جواز إتيان القبر والتوسل بالجاه، وإن كان بميت.
وهذا إن دل على شيء فيدل على أن كثيراً قد اضطرب في رواية هذا الحديث، على هذين الوجهين، ولا يُقال: إن له فيه شيخين، فليس هو من الحفاظ المكثرين الذين يجوز تعدد الأسانيد عنهم، وهذا الوجه الأخير هو الراجح، لأن الوجه الأول لما سمى فيه شيخه سمى شيخاً مجهولاً تفرد بالرواية عنه، ولا يُعرف عند أهل العلم، وقد رجح الطبراني هذا الوجه الثاني، فقال:"لا يُروى هذا الحديث عن أبي أيوب إلا بهذا الإسناد، تفرد به حاتم".
أي أنه لا يُعرف – بمعنى لا يُحفظ – إلا من هذا الوجه، ذلك لأن الوجه الآخر غير معروف، بل هو من أوهام كثير بن زيد.
ثالثها: على تقدير أن الروايتين محفوظتان، فإن الرواية الأولى التي قد تفرد بها داود بن أبي صالح المجهول هي التي حوت محل الشاهد، وأما الرواية الثانية فقد خلت من محل الشاهد فيكون داود قد تفرد بهذه القصة، فهي ضعيفة ولا شك.
رابعها: أن الرواية الأولى تفرد بها مجهول عين، والرواية الثانية منقطعة، ومجهول العين لا تتقوى روايتهن ولا تقوي غيرها كما تقرر في المصطلح.
الحديث الحادي عشر والحديث الثاني عشر
فأما الحديث الحادي عشر فهو:(205/57)
"اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل... أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، بكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك أن تقبلني في هذه الغداة أو في هذه العشية، وأن تجيرني من النار بقدرتك".
وأما الحديث الثاني عشر فهو:
"إذا ظنت أذن أحدكم فليذكرني، وليصلِّ عليَّ".
كلاهما قد وهاه المؤلف، فلا حاجة للتعليق عليهما.
الحديث الثالث عشر
أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/615):
حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل، حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري، حدثنا إسماعيل بن مسلمة، أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما اقترف آدم الخطيئة قالك يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يارب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق غليَّن ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك".
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أو حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب". وتعقبه الحافظ الذهبي فقال:
"قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ،...، رواه عبد الله ابن مسلم الفهري، ولا أدري من ذا، عن إسماعيل بن مسلمة، عنه".
وحكم عليه في "الميزان" بالبطلان، وأعله بالفهري هذا، وقال الحافظ في "اللسان" (3/442):
"لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله، فإنه من طبقته".
يشير بذلك إلى عبد الله بن مسلم بن رشيد، الذي يروي عن الليث ومالك.
قال ابن حبان: "يضع على ليث ومالك وابن لهيعة".
وأخرجه الآجري في "الشريعة" (2/248-249):(205/58)
حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا أبو الحارث الفهري، قال: حدثني سعيد بن عمرو قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بن عبد الله ابن إسماعيل بن بنت أبي مريم، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب موقوفاً به.
فاضطرب فيه الفهري أو وضع له سنداً، ثم رواه على التوهم، فزاد فيه سعيد بن عمرو، وأوقفه على عمر – رضي الله عنه -.
وكذلك ففي السند عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف جداً من قبل حفظه، وإن كنت أرجح أن هذا الخبر قد وُضع عليه، وما أظنه حدَّث به.
بل الذي أرجحه أن الفهري قد سرق هذا الحديث من عثمان بن خالد العثماني، وأنشأ له هذا الإسناد، ورفعه تارة، وأوقفه أخرى.
فقد أخرج الآجري في "الشريعة" (2/246) من طريق: عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: من الكلمات التي تاب الله بها على آدم عليه السلام قال:
"اللهم إني أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم عليك، قال الله عز وجل: يا آدم، وما يدريك بمحمد؟ قال: يارب، رفعت رأسي، فرأيت مكتوباً على عرشك لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك".
وعثمان بن خالد هذا متروك الحديث كما قال الحافظ في "التقريب"، وقد حدَّث عن مالك وغيره بأحاديث موضوعة وابن أبي الزناد متكلم فيه.
وقد ذكر المؤلف عدة متابعات واهية، وبيَّن ما فيها من الضعف، تبعاً لما ذكره العلامة الألباني – حفظه الله – في "التوسل".
إلا أنه عقب ذلك (ص: 247 – 248):
(وبعد كتابة ما تقدَّم ؛ وجدت لحديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم شاهداً قوياً.(205/59)
فقد أخرج الحافظ أبو الحسن بن بشران، قال حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، حدثنا محمد بن صالح، حدثنا محمد بن سنان العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بُديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة، قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ قال: "لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وخلق العرش كتب على ساق العرش: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب أسمى على الأبواب، والأوراق، والقباب، والخيام، وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى: نظر إلى العرش ، فرأى اسمي، فأخبره الله أنه سيد ولدكن فلما غرهما الشيطان، تابا واستشفعا باسمي إليه".
وأخرجه ابن الجوزي في الوفا.....
وذكره شيخنا العلامة المحقق السيد عبد الله بن الصديق الغماري – نوَّر الله مرقده- في الرد المحكم المتين (ص:138 – 139)، وقال: إسناد هذا الحديث قوين وهو أقوى شاهد وقفت عليه لحديث عبد الرحمن بن زيد. أ. هـ.
وكذا قال الحافظ ابن حجر.
قلت: إسناده مسلسل بالثقات، ما خلا راو واحد صدوق).
قلت: بل الحديث منكر بمرة بهذا اللفظ، بل لا أستبعد أن يكون موضوعاً.
فقد أخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (4/1/374) هذا الحديث عن محمد بن سنان العوقي، بسنده بلفظ:
"كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد".
وتوارد الرواة على روايته عن العوقي بهذا اللفظ المختصر.
فأخرجه الحاكم (2/608)، والبيهقي في "الدلائل" (2/129): عن أبي النضر الفقيه، ومحمد بن سلمة العنزي، عن العوقي به باللفظ المختصر.
ثم تبين لي أن الحديث بهذا اللفظ المطول لا يُحفظ عن ابن بشران الذي عزى المؤلف الحديث إليه.
فقد أخرجه البيهقي في "الدلائل" (1/85):(205/60)
أخبرنا أبو الحسين بن بشران، ببغداد، قال: حدثنا أبو جعفر: محمد بن عمرو الرزاز، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح قال: حدثنا محمد بن سنان العوقي، قالك حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بُديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبياً؟ قال:
"وآدم بين الروح والجسد".
فهذا هو المحفوظ من رواية ابن بشران، وهو إسناد صحيح، وليست فيه تلك الزيادة المنكرة، ولا فيه ذلك الراوي الذي اضطرب المؤلف في تحديده: (محمد بن صالح)، بل قد صرح أحمد بن إسحاق بن صالح بالسماع من العوقي.
وتابع العوقي عن إبراهيم على هذا الحديث باللفظ المختصر:
عثمان بن سعيد الدارمي عند الحاكم والبيهقي، ومعاذ بن هانيء البهراني عند ابن سعد في "الطبقات" (7/41).
وهذا كله يؤكد أن الحديث لا يصح إلا باللفظ المختصر.
والظاهر أن العلة في اللفظ المطول ممن هم دون ابن بشران، وقد تفرد ابن الجوزي بروايته بهذا اللفظ المطول المنكر من طريق ابن بشران، وهذا غريب جداً.
وعندي أن المؤلف قد اطلع على الرواية المختصرة للحديث من طريق ابن بشران ولابد، لأنه قد عزى الحديث إليها في الحاشية (ص:248)، وإنما تغاضي عنها لأن فيها إعلال الحديث باللفظ المطول، فتنبه ، وتمعن .
فإذا علمت ما سبق تبين لك سقوط قول المؤلف (ص:249) :
(فالصواب أن هذا الإسناد من شرط الحسن على الأقل، ويصححه من يُدخل الحسن في الصحيح من الحفاظ كابن حبان والحاكم ) .
الحديث الرابع عشر
ومتنه:
"من أراد أن يؤتيه الله حفظ القرآن وحفظ العلم فيكتب هذا الدعاء في إناء نظيف بعسل، ثم يغسله بماء مطر، يأخذه قبل أن يقع إلى الأرض، ثم يشربه على الريق ثلاثة أيام، فإنه يحفظ بإذن الله:
اللهم إني أسألك بأنك مسؤول لم يُسأل مثلك، أسألك بحق محمد رسولك ونبيك، وإبراهيم خليلك وصفيك، وموسى كليمك ونجيك، وعيسى كلمتك وروحك..." الحديث.
قد حكم عليه المؤلف بالوضع، فلا تعقيب عليه فيه.(205/61)
( المرجع : كتاب : هدم المنارة لمن صحح أحاديث الزيارة ، للشيخ عمرو عبد المنعم سليم ، يرد فيه على القبوري المعاصر ممدوح سعيد ، ص 101 – 206 )(205/62)
مناظرة بين عالم سني و صوفي شيخ الطريقة التيجانية
يقول الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق -حفظه الله- في شريطهِ القيم "الفكر الصوفي" :
سأذكر حادثة شخصية وقعت بيني وبين أحد رجال هذه الطائفة -يعني التيجانية- الذي هو الشيخ محمد حافظ التيجاني،وهذا الرجل يرأس الآن في مصر ومنطقة كبيرة من شمال أفريقيا.
حدث بيني وبينه الحوار التالي:
في عام (61م) لقيت هذا الرجل،وكان معي صاحب،فقال لي:
هذا محمد الحافظ.
فقلت لهُ:أعرفهُ.
سلم صاحبي هذا على الرجل وقبل يدهُ وجلسَ،وأما أنا فسلمت عليه كسلام المسلمين وجلست.
فغضب!!
سألني عن اسمي؟
فقلتُ لهُ.
ثم قال لي: أين تتعلم؟!
فقلتُ: في المدينة المنورة.
قال: أنت وهابي.
قلتُ لهُ: لا،ولكني مسلم اتبع الكتاب والسنة.
قال: الوهابيون يرسمون (الله) في الكاريكاتير!!
فقلتُ: والله أنا ما رأيتُ هذا لا في كتبهم،ولا في صحفهم!! فكيف هذا؟؟يعني بيرسمون؟!
فقال لي: يصنعون هكذا،سبع سماوات،ويقولون: الله فوق السماء أو في السماء!
فقلتُ لهُ: ليسوا هم الذين يقولون هذا؟!
قال: إذاً منّ؟!!
قلتُ: الله سبحانهُ وتعالى يقول: {الرحمن على العرشِ استوى} .
قال لي: أنت تقول بأن الله ينزل؟؟!!
قلتُ: ما أنا الذي أقول؛ولكن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم الله عليه وسلم في حديث في الصحيحين حديث أبي هريرة يقول: ((ينزل ربنا كلك ليلة إلى السماء الدنيا،فيقول:هل من سائلٍ فأعطيه ..))إلى آخر الحديث.
فقال لي: هل تعلم أن الفجر يتغير مطالعه في الكرة الأرضية؟؟!!
قلتُ لهُ: نعم أعلم.
فقال لي: يعني الله طالع نازل؟؟!!
فقلتُ لهُ: والله لو كان الله مثلي ومثلك؟! نعم يطلع وينزل ..
أما إذا كان الله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} فهو ينزل كما يشاء ، ويستوي كما يشاء ، سبحانهُ وتعالى.
فأنقطع!!
ولم يستطع أن ينبس بكلمة.
انتهى هجومهُ،فبدأت أنا الهجوم..(206/1)
فقلتُ لهُ: يا شيخ ؛ إنك الآن شيخ الطريقة في مصر ، ماذا تقول في الذكر الذي عندكم يفضل القرآن [ ستة آلاف مرة ] !!؟
فرأى أنهُ قد وقع!
فأتى لي بقصة طويلة ليصرفني عن الموضوع ، ويقول بأن الإنسان ممكن أن ينتشر عنه شيء لم يقله.
فقلتُ لهُ: يا شيخ ؛ ولكن هذا الكلام عندكم!!
يعني أنا ما أقولهُ بالنص إذا أردت الكتب التي تقولون فيها هذا ، أتيت لك بها .
فانقطع أيضاً!
هذه –للأسف- صورة من الصور الحية الموجدة في مجتمعنا والتي تنتمي إلى هذا الفكر ."
أقول وبعد هذه المناظرة لابد لنا من وقفة،وإن كان الموضوع واضح:
1- أن هذا الفكر فكرٌ يعتمدُ على التهييج،والكذب على الخصوم،وعدم رغبة الحوار،إلا بمصارعة الألفاظ بعيداً عن الحجة بالدليلِ والبرهان كالكتاب والسنة!!
2- مع أنه قد بان لهُ الحق،وأقيمت عليه الحجة!! أخذته العزة بالإثم،وكابر والعياذ بالله!
3- كانت الأولى كافية!ولكن الثانية قد أبين.
4- أن من الصوفية من يستخدم [التقية] والكذب..والصوفية لم تظهر إلا من رحم التشيع.
5- أن هذا المشهد،يبين بجلاء من الذين يشبهون الله بخلقه،إنهم بلا شك المأوله،الذين يزعمون تنزيه البارئ،وما أتوا إلا من دواخلِ أنفسهم.
6- أن في هذه المناظرة تبين كيفية تسليم وتنزه أهل السنة أتباع السلف الصالح لله عز وجل،فهم أبعد ما يكون عن هذا المجسم الذي يُريد تشبيه الله بخلقه.
7- وغيرها من النقاط..فقط قف!! ودقق تجد الكثير من الصور.
....
من حوار مع الدكتور جعفر شيخ إدريس - من علماء السودان
الشيخ جعفر:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.(206/2)
أنا من عائلة سودانية كانت تنتمي كمعظم السودانيين آنذاك إلى طريقة صوفية، وكانت الطريقة التي ينتمي إليها الوالدان هي الختمية، وكما هو معلوم أن الطرق الصوفية ولا سيما المنتشرة في بلادنا الآن، مبتلاة بكثير من المسائل الشركية لكن ربنا سبحانه أنعم عليّ بوالدين أثرا في حياتي الدينية والخلقية، فالوالدة لم تكن امرأة عالمة ولكنها كانت شديدة التدين وحازمة جداً، وقد أثرت علي تأثيرا كبيراً في موضوع الصلاة أكثر من الوالد، فقد كانت حازمة جداً في هذا الموضوع، وأذكر أنها كانت توقظنا أحياناً لتسألنا هل صلينا العشاء؟
وانعم الله سبحانه علينا بالوالد وكان رجلا متسامحاً معنا ، فكان يعاملنا معاملة الكبار آنذاك، ويستشيرنا في بعض أموره، وهذا لم يكن شائعاً في السودان , ولكنهما كانا ينتميا إلى هذه الطائفة، فأول شيء أثر في حياتي تأثيرا كبيرا مازلت أحمد الله عليه وأن أحد أقاربناكان من أول من نشر الدعوة السلفية في السودان، وكان من جماعة أنصار السنة المحمدية في بلدنا ببورسودان، وكنت آنذاك في الثانية عشر حيث تركت انتمائي إلى طائفة والديّ تحت تأثير هذا القريب، مما أحدث مشكلة بيني وبين الوالدين لاسيما أمي، حيث كانت تظن أن هذا نوع من الانحراف فقاطعتني وصارت لا تتكلم معي.
لكن ساعدني أن هؤلاء الذين تأثرت بهم كانوا من الأقارب وكان منهم رجلاً تحترمه الوالدة احتراماً كبيراً، وهو رجل بسيط يعمل خياطاً لكنه كان رجلاً عالماً، فجاء إلى أمي عند حصول هذه المقاطعة وأصلح بيننا، وبعد مدة تغير الوالد -وكان رجلاً يحفظ القرآن –حيث كنت آتي إليه وأقرا عليه بعض الكتب....
العصر: هل تتذكر بعض عناوينها؟(206/3)
الشيخ جعفر: ……… كانت كتباً صغيرة مؤلفة في مصر، وكان ضمنها كتاب غاب عني اسمه الآن كان له أثراً عظيماً آنذاك، ومازالت أقرأ على الوالد حتى اقتنع وتغيرت بعده الوالدة أيضا وأعد ذلك من نعم الله علي أن كنت السبب في إنقاذهما من الخرافات والشركيّات ولله الحمد سبحانه.حادث في الصغر:
وكان الحادث تعرضت له في الصغر اثر في تأثيراً ليس بالضرورة فكرياً، ولكنّي لمست نتائجه فيما بعد، إذ أصبت آنذاك، وكنت ألعب على صناديق كبيرة كانت لبعض السيارات، فقفزت من فوق إحداها على مسمار يبدو أنّه أحدث كسراً في العظم بالداخل، وتألمت لذلك ألماً شديداً وتعقّدت الأمور –وكنت حينئذ في السادسة من عمري- واستمر المرض إلى السنة التاسعة تقريباً، وكان ذلك في زمن الإنجليز، وعند أن عرضت على الطبيب قرر هذا أن تُقطع رجلي، فوافق الوالد لكن الوالدة رفضت وبحزم شديد، ثم ذهبت تستشير السيد علي الميرغني –وكانت ما تزال في الطائفة حينئذ- فأجابها قائلاً: نعم.. اسمعوا كلام الطبيب.
وما كان يظن أحد أن أمي ستخالف رئيس الطائفة لكنها فعلت ورفضت قوله ذاك فقال لها الطبيب: إما أن تقطع رجله أو يموت فقالت: خلّيه يموت!!!.. يموت برجلين ولا يعيش بواحدة.
فكان من نتائج ذلك أن تأخرت في الالتحاق بالدراسة، لكن هذا التأخير أفادني جداً، إذ جئت إلى الدراسة بعد ذلك بنهم شديد، فأنا ما كنت بدأت أصلاً، وعندما بدأت الدراسة كان زملائي في السنة الرابعة، وأنا في السنة الأولى، وكان لي أخ ضمنهم، وكنا قد ذهبنا سويّة إلى المدرسة فقُبل هو ولم أُقبل لصغر سني، فكان أخي هذا يمازحني بعد ذلك فيقول: احمد الله على هذا الحادث فلولاه ما دخلت الجامعة.(206/4)
وقد كانت المنافسة في الدخول إلى الثانوية كبيرة جدّاً آنذاك. إذ لم يكن في السودان وقتئذ غير ثلاث مدارس ثانوية فقط، فكان الدخول إلى أحدها في غاية الصعوبة .لكني أتيت إلى المدرسة في مرحلة نضج واجتهاد شديد، فكنت أذهب إلى الكتّاب باختياري إذ يوقظني الوالد لصلاة الفجر وأبقى في الكتّاب إلى السادسة، ثم أعود فأستعد للذهاب إلى المدرسة وعند رجوعي منها أذهب إلى الكتّاب مرة أخرى وبعد ذلك أنال شيئاً من الراحة، أعود بعدها إلى الكتّاب عند المغرب.
حلقات المساجد:
بدأت بعد ذلك دروس كان يلقيها رجل سنّي، فكنت أذهب إليها، ومن الرسائل التي بدأت أقرأها مبكراً وأمارس حفظ بعض الأحاديث منها رسالة الأربعين النووية، ثم لما ذهبنا المدرسة المتوسطة كنت أحضر مع الوالد دروساً في السنة كان يلقيها رجل عالم بالسنة,تخرج بالأزهر وكان مشهوراً في بلدنا، يدرّس كتب السنة فقط، وفي هذه الفترة بدأت أقرأ بعض الرسائل الصغيرة لشيخ الإسلام ابن تيميه....
.......
ضلالهم في معاقبتهم لأّنفسهم
قال ابن عطيّة:
استدلَّ العُبَّادُ في تأديب أَنفسهم بالبأساء في تفريق الأَموال،والضراء في الحمل على الأَبدان بالجوع والعُري بقوله تعالى:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) } .
قُلتُ-أي الإمام القُرطبي- :
هذه جهالة ممن فعلها،وجعل هذه الآية أصلاً لها،هذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده أن يمتحنهم بها،ولا يجوز لنا أن نمتحن أَنفسنا ونكافئها قياساً عليها،فإنها المطية التي نبلغ عليها دار الكرامة،ونفوز بها من أَهوالِ يومِ القيامة،وفي التنزيل: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً }(206/5)
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }
فأمرَ المؤمنين بما خاطب بهِ سيد المرسلين،وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأَصحابه يأكلون الطيبات،ويلبسون أحسنَ الثياب،ويتجمّلونَ بها،وكذلك التابعون بعدهم إلى هلمّ جراً.
ولو كان كما زعموا واستدلوا،لما كان في امتنان الله تعالى بالزّروع والجنّات وجميع الثمار والنبات والأنعام التي سخرها،وأَباح لنا أكلها وشرب ألبانها والدفء بأصوافها،إلى غير ذلك مما امتنّ به،كبير فائدة،فلو كان ما ذهبوا إليه فيه الفضل لكان أولى به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء.
من كلام الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (6/424-425) .
.....
ومضة عن سبب هداية الدكتور تقي الدين الهلالي:
شيخ التوحيد في بلاد المغرب والذي كان صوفيا (تيجانيا) فأكرمه الله بدعوة التوحيد, يقول عن سبب خروجه من الطريقة التيجانية:
"لقد كنت في غمرة عظيمة وضلال مبين وكنت أرى خروجي من الطريقة التيجانية كالخروج من الاسلام ولم يكن يخطر لي ببال ان اتزحزح عنها قيد شعرة, وجرت مناظرة حول ادعاء الشيخ التيجاني في انه رأي النبي يقظة, وقد ثبت بطلان ذلك "يمكن الرجوع للمناظرة بكاملها في كتاب (الفكر الصوفي ص 474) وكذلك يذكر انه اجتمع بالشيخ عبدالعزيز بن ادريس واوضح له بطلان الطريقة التيجانية".
.......
ومضة عن سبب هداية الشيخ المصري عبدالرحمن الوكيل:
وكيل جماعة انصار السنة بمصر, صاحب كتاب "هذه هي الصوفية"(206/6)
يقول "كانت لي بالتصوف صلة, وهي صلة العبرة بالمأساة, حيث كان يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية وتستقبل النفس كل صروف الاقدار بالفرحة الطروب".
ويضيف "ألا فاسمعوها غير هيابة ولا وجلة, واصغوا الى هتاف الحق يهدر بالحق
ان التصوف ادنأ وألام كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ولرسوله, انه قناع كل عدو صوفي للدين الحق, فتش فيه تجد برهمية وبوذية, وزرادشتية, ويهودية ونصرانية ووثنية جاهلية..."
.......
اعترافات ..
كنت قبوريًا
للأستاذ : عبد المنعم الجداوي
((الخرافة )) عجوز متصابية تتعلق بصاحبها ... !
(( التوحيد )) يهدم أولاً .. ثم يبني من جديد ..!
ليس سهلاً أن يتراجع (( القبوري)) ..!
(( التوحيد )) يحتاج إلى إرادة واعية ... !
تردّدت كثيراً في كتابة هذه الاعترافات لأكثر من سبب .. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب ، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة .. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون : ما لنا ولتخريف أحد معظِّمي القبور .. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشها قبل تصحيح عقيدتي .. فيقرأون اعترافاتي فيفهمون ، ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة - وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس - ما دام ذلك سوف يكون سبباً في هداية بعضهم إلى حقيقة التوحيد .. ؟
ولقد كنت من كبار معظّمي القبور ، فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أو ضريح لشيخ عظيم إلا وأهرع فوراً للطواف به ... سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها .. أحياناً أخترع لهم كرامات ... أو أتصورها .. أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام .. كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور ..وإذا شُفيت زوجتي ، كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله !..(206/7)
وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي ، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلان والنشر عن جمعية العزيز بالله القاهرية ، والتي تضم مساجد أخرى ، ورسالتها الأولى ((التوحيد ))، وتصحيح العقيدة ، وبحكم اللقاءات المتكررة .. كان لابد من صلاة الجمعة في مسجد العزيز بالله .. وهاجم (( الدكتور جميل )) في بساطة ، وبعقلانية شديدة هذا المنحنى المخيف في العقيدة ، وسماه : شركاً بالله ؛ وذلك لأن العبد في غفلة من عقله يطلب المدد والعون من مخلوق ميت!!..
أفزعني الهجوم ، وأفزعتني الحقيقة .. وما أفزع الحقيقة للغافلين ... ولو أن (( الدكتور جميل )) اكتفى بذلك لهان الأمر .. لكنه في كل مرة يخطب لا بدّ أن يمس الموضوع بإصرار .. فالضّريح لا يضم سوى عبد ميت فقط .. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضرّ ..!
* في أول الأمر اهتززت .. فقدت توازني .. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً .. شيء ما يجثم فوق صدري .. يقيد أحاسيسي ومشاعري .. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر ... هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام ؟ ..أم أن صديقي (( الدكتور )) قد بالغ في الأمر .. فأنا أعتقد أن كل من نطق بالشهادة لا يمكن أن يكون كافراً لهفوة من الهفوات أو زلةٍ من الزلات .. !
شيءآخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء ... إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء ، والخطباء على المنابر صباح مساء .. يعلنونها صريحة : إن الذي يؤذي ولياً .. فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى ، وهناك حديث صحيح في هذا المعنى .. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والأضرحة ؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه - جل جلاله- ...!
وقلت : إن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم .. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب
بإمكانك إكمال الموضوع على هذا الرابط:
http://www.d-sunnah.net/forum/showt...;threadid=13892(206/8)
...........
تائب من معتقدات الصوفية!!! معنا في منتدى الدفاع عن السنة
هذا الرجل أعرفه وجرت بيني وبينه مُراسلات واتصال هاتفي اسأل الله أن يبارك به ويثبته..
هذا الحديث نقلته من كلام أخي الحبيب بنغازي أحد المهتدين إلى السنة من معتقدات اخُرافةِ الصوفية..فأردت تخصيصه ليطلع عليه أكثر من شخص ويدعوا لأخينا بالثبات..
وهذا من أحد ردوده على الأخت فاطمه..
اقتباس:
--------------------------------------------------------------------------------
ماحكته الاخت الكريمه: فاطمه تماما يحدث في الصوفيه وانا من زمان اقول ان الصوفيه فيها رائحة التشيع، فلقد كنت صوفيا يوما وكان شيخنا يقول لنا ان الامام ينظر الينا ويراقبنا فعلينا ان نتأدب معه وان الولي فلان او علان هو من سيأخذ بيدنا الي الجنة وان الاولياء والاقطاب والاوتاد والابدال يجتمعون سنويا فوق في السماء السابعه مع الامام علي ويقرروا حال العالم وكانوا يقصون علينا هذه الخرافات رفقة مؤثرات صوتيه من نواح وعواء حتي لا يجعلوا لعقولنا فرصة النظر والتبصر فكنا نضيع ونشرد مع العواء باكين كا الانعام مثلهم وكانوا يخبروننا عن خرافات لم ارها الا في مغامران السنباد { الرسوم المتحركه} حيث ينئوننا ان سيدي فلان خرج من مدينة بنغازي الي مدينة طرابلس في رمشة عين مع ان المسافه بين المدينتين الف كم والطائره تقطعها في ساعه تقريبا او اقل.. كما كانوا يقصون علينا من كرامات الاولياء انهم يحجون دون تاشيره او جواز سفر حتي فيقولون ان سيدي فلان في الحج الان مع انه امام عيني اراه يصلي معنا فيقولون لي مسكين انته خرف هضا اللي تشوف فيه راهو الظاهر بس ..المهم الشاهد في القول ان العفن الصوفي مشابه كثيرا للعفن الشيعي والاثنين يشبهان الكثير الكثير من البرهميه الهتديه ماعدا تميز الشيعه الانجاس وتوافقهم مع اليهود في حب اللون الاسود.(206/9)
والحمد لله الذي انقذني من ضلال التصوف وافرحي وابشري اختي فاطمه فنحن الان علي الجادة باذن الله طالما تمسكنا بسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام وابتعدنا عن البدع والشركيات.
وآخر كلامي ان الحمد لله رب العالمين.. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلاما علي المرسلين والحمد لله رب العالمين.
........
نظم القصيد في الدفاع عن أهل التوحيد وقمع أهل الشرك والتنديد
إذا الصوفي حل بأرض قوم ***** فما للقوم إلا أن يشدُّوا
لأن روائح الصوفي تؤذي ******وهل بمعاطن الخنزير وَرْدُ
ضرير ... للضرير مضى دليلاً ******** فهل للعمي بعد التيه عودُ
مقدمة تزيدك كيل غي ****وقبضة سامري منك تبدو
أعباد القبور أذاك حق ****لربي أن يساوى فيه ندُّ
أذاك الحق أن يُدعى ضعيف ****** ويعرض عن كريم لا يَرُدُّ
قريب قادر رب رحيم ******غني واحد أحد وفردُ
أفاض على العباد من العطايا ****وفضل الله لا يحصيه عدُّ
فلا حق الإله عرفتموه *****وليس لكم عن الكفران بدُّ
رغبتم عن عبادته فزغتم *****وساوركم من الكفران إدُّ
أقول نعم ..! لنا سد منيع ****هو التوحيد ذا الأمر الأشدُّ
لنا نور ونبراس مضيء ******لنا عز ومفخرة ومجدُ
به قامت سماوات وأرض *****به انقسم الأنام شقاً وسعدُ
ورايات الجهاد به تسامت *****وللرايات غايات وقصدُ
أجيبوني لماذا الرسل جائت ****وفي أي الخصومات اسْتُبِدُّوا
وما لرسولنا يدعو فيَؤُذى **** ويلفيه من الأقوام طرد
أكانوا منكرين فعال ربي ****وهل للرَّزق والإنعام جُحْدُ
فلا والله بل كل مُقِرُّ *****ولكن في ألوهته يَنِدُّوا
وأنتم بالألوهة قد كفرتم **** وكل منكموا بالشرك يحدو
خسرتم في تنسككم فأنتم ***كذات الغزل تنقض ما تَشدُّ
فمن شاء الإله هداه رُشداً *****ومن أشقاه ما عقباه حَمْدُ
فتباً للألي حادوا فزاغوا *****عن النور المبين وعنه صُدُّوا
وتباً للعداة دعاة شرك ****لهم في جملة البلدان جِدُّ(206/10)
فلن يروى غليل القوم حتى *****تُرى الأكوان بالإشراك تبدو
أما يكفيهمو من ذاك شرك *****بمقبرة البقيع نراه يغدو
أما في المسجد النبوي صوت **** بتلك البردة الرعناء يشدو
أما للمصطفى نرنوا دعاء ***** ونحو ضريحه الأيدي تُمَدُّ
أما في مكة للشرك رأسٌ ***** وطاغوت على الإسلام ضدُّ
هو العلوي لا أعلاه ربي ***** بل الزنديق من بالشرك جَلْدُ
وذا قارون كامل (واليماني) ****فللأقوام في الإعلام جُهدُ
أليس لهم مع (التبليغ) فرع *****وفي (الإخوان) تأسيس مُعَدُّ
أيا صوفية رميت بشهب ***** ثواقب من شريعتنا تَهُدُّ
ألا موتي بغيظك إن فينا ****غطارفة على التوحيد رَصدُ
أجبتكموا أيا عمرو الخزاعي *****وخذ مني القصيد فذاك نَقدُ
ترقب في غدٍ سترى علانا ****وإن تنعر بأنفك يا عُرُدُّ
بل ارقب يا عدو الله سيفاً ****قريباً لا يرق فذاك وعدُ
وهذا رد مجمل وإن تشأ الصوفية أتحفناها برد مفصل والله المعين وعليه التكلان
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه / عبيد آل رمال الشمري
........
أسرع مناظرة مع صوفي:وإعلان توبته من مذهب الشرك وتكفير ابن تيمية
يقول الشيخ السوري عدنان عرعور..
حُببت إلي المناظرة ، وكشف لي غطاؤها ، ووضح أمامي طريقها ، والحمد لله ، وله المنة ، وهي كثيرة لا أكاد أحصيها ، أو أضبطها ، وإنني عازم بمشيئة الله على نسخها ، فمنها الطويلة جداً ، ومنها القصيرة جداً
فمنها : أن أحدهم جاء عقب إحدى المحاضرات للمناظرة في كفر ابن تيمية ، وأحضر معه أكثر من سبعة كتب .. وحذرني الشباب من مناظرته ، لقدرته العلمية ، وتحضيره المسبق ، ولغلظته في الكلام
وقالوا : أنت متعب وغير محضر وو…
فأبيت إلا الجلوس ..فقال : عندي أدلة على أن ابن تيمية كافر .(206/11)
قلت : ابن تيمية معروف عند كثيرين بالكفر ، فقد كنت أسمع تكفيره منذ صغري - وقصدت أنه معروف بالكفر عند الروافض ، وغلاة الصوفية ، وكثير من المقلدين ، وفهم هو أني موافق على ذلك -
المحاور : ـ مقاطعاً ـ : هل يجوز مثل هذا ؟
الشيخ : يجوز مثل هذا في المناظرات على أن يبين المقصود بعد ذلك ، حتى لا يكون ثمة تلبيس فقد قال إبراهيم أكبر من هذا !! قال : عن النجم والقمر والشمس ] هذا ربي [ ، المهم أني أدركت للوهلة الأولى ، أنه يكفره لإثباته العلو لله ،
فقلت له : دعك من ابن تيمية وتكفيره ، وأجبني عن رجل قال في سجوده : سبحان ربي الأسفل ، فهل يجوز هذا ..؟!
فدهش ثم قال لا يجوز ..!!
قلت : لم لا يجوز؟؟ ألستم أنتم تنفون عن الله صفة العلو ؟! فهو سبحانه عندكم في العلو وفي الاسفل -!!! وعلى هذا يجوز أن يقال: سبحان ربي الأعلى, وسبحان ربي الأسفل, مادام الله عندكم اتصف بالصفتين .
قال : لكن الله قال : سبح اسم ربك الأعلى!
قلت : هل هو الأعلى في صفاته وذاته ؟! أم في صفاته دون ذاته ؟؟
فحار وتردد ، وسكت سكوت المتفكر!...
قلت : هذا جائز على منهجكم ، لأن الله عندكم في العلو وفي السفل ، والآن :
إما أن تثبت هذه الصفة "الأعلى" بشمولها : فهو الأعلى ذاتاً وصفاتاً ، وتنفي ما يضادها من قولكم : ((موجود في كل مكان )) وإما أن الأعلى لا تشمل الذات ، فهو "الأعلى"في صفاته ، " والأسفل "و الأعلى بذاته ، وعلى هذا يجوز أن يقول القائل : سبحان ربي الأسفل .
قال : أنظرني إلى غد .
قلت : فإنك من المنظرين .
وفي اليوم التالي : أظهر بعض الإشكالات ، على سبيل الاسترشاد لا على سبيل العناد ، وتم إزالتها واهتدى .. ثم بينت له الموقف الصحيح من ابن تيمية, وأزلنا عنه الإشكالات ، فاقتنع و الحمد لله .
قلتً:
جزى الله الشيخ خير الجزاء 00 فقد أسقطه بالضربة القاضية 00 مع الجولة الأولى 00(206/12)
والحمد لله أن هدى هذا المُضلل من قِبل الصوفية 00 ولم يركبه الشيطان فيتبع هواه فيضل وهو يعلم فيشقى 00
والحق أبلج والباطل لجلج 00
فعلى منكري العلو أن لا يسجدوا ويقولوا سبحان ربي الأعلى بل يقولوا الأسفل والأيسر والأيمن لأنه بزعمهم في كل مكان 00والحق أن علم محيط بكل شيء 00 أم ذاته {الرحمن على العرش استوى} استواء يليق بجلاله 00
ولا أنسى أن أذكركم بهذه المناظرة بين الشيخ السني عبدالرحمن والصوفي شيخ الطريقة التيجانية وكان فيها جانب عن علو الله ...
وهذا لأنه وقف وقفة حساب وصل إلى الهدى .. فنزع الهوى واتبع الحق لما ظَهَرَ لهُ.
اختارها وجمعها
أبو عمر المنهجي - شبكة الدفاع عن السنة(206/13)
موقف أهل السنة والجماعة
من البدع والمبتدعة
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، وبشيراً ونذيراً للناس أجمعين، فهدى به من شاء إلى الصراط المستقيم، وأضل من شاء عن الهدى المبين.
ونسأله سبحانه أن يجعلنا ممن هداه، ووفقه إلى التزام الحق، والعمل به إلى أن نلقاه على الإسلام والدين.. أما بعد:
سبب تأليف هذه الرسالة:
فهذه رسالة جمعتها لبيان موقف أهل السنة والجماعة ممن يخالفونهم في الاعتقاد والعمل، أسأل الله أن يشرح لها الصدور، ويوفق الجميع للأخذ بما جاء فيها من الحق. أنه هو السميع العليم.
عبدالرحمن بن عبدالخالق
الأحد 6 من ذي القعدة 1416هـ
17 أبريل 1996م
الباب الأول
مقدمات
1- أولاً: حقيقة الدين.
الدين الحق الذي لا يجوز لأحد خلافه هو اتباع كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع أمة الإسلام، وهذه الأصول الثلاثة هي أصول الدين المعصومة فقط التي لا يتطرق إليها خلل مطلقاً.
فأما الكتاب فهو كلام الله الذي: {لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد}، كتاب قد فصل الله آياته، وجعله هداية للعالمين، وأمرنا بتدبره، وتعلمه وأعلمنا سبحانه أنه قد يسره للذكر. قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر:17)، فلا حجة لأحد في الإعراض عنه بأي عذر، فهو بلسان عربي مبين، وهو واضح المقاصد، بين الهدف، محكم العبارة، مفصل القول. قال تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود:1)، {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} (ص:29)(207/1)
وأما السنة النبوية فهي معصومة بعصمة الله لنبيه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو شارح القرآن، ومبينه بأقواله وأفعاله وتقديره. قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (النحل:44)، وكذلك هو الذي أنزلت عليه الحكمة كما أنزل عليه القرآن، قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة:2)، والكتاب القرآن، والحكمة سنته صلى الله عليه وسلم.. وقد أوتي النبي الكريم القرآن ومثله وهي سنته، وفيها من الأحكام في الحلال والحرام والوجوب والندب والتحريم مثل ما في القرآن من الأحكام..
كما قال صلى الله عليه وسلم: [ألا وإني أوتيت هذا الكتاب، ومثله معه] (أخرجه أبو داود (4604) عن المقدام بن معدي يكرب في صحيح الجامع الصغير برقم(2643)).
وأدلة عصمة السنة كثيرة منها قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3-4)، وقوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة:44-47)
وأما الإجماع فهو: اتفاق أمة الإسلام على قول في الدين، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على ضلاله، قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً} (النساء:115). فجعل سبيل المؤمنين واجب الاتباع كالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمعت الأمة على معظم قضايا الدين: ككمال القرآن، وحجية السنة، ووجوب العمل بها، وخلافة الصديق ، وصحة قتال المرتدين، والصلوات الخمس، والأذان والإقامة... الخ مما أجمعوا عليه.(207/2)
وهذا الذي قدمناه يعني –بحمد الله- أن مجمل قضايا الدين عقيدة وشريعة ثابتة، واضحة، لأن القرآن حوى معظم الأحكام، وأصول التشريع في كل شأن من شئون حياتنا، كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (النحل:89) والسنة لم تترك أدق التفاصيل في حياة المسلم إلا وقد بينته، ووضحته، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمد الله قد طبقوا الدين كله وأجمعوا على عامة أصوله وكثير من فروعه، بل ليس لهم خلاف في قضية أصولية عقائدية أصلاً، وإنما خلافاتهم في فروع من الدين يجوز فيها الخلاف ولا يتوقف عليها كفر، وإيمان.
2- ثانياً: البدع والأهواء والفرق.
ومعلوم أن كثيراً ممن انتسبوا إلى الإسلام قد اختلفوا في حقيقة الدين، وخالفوا كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وخرجوا عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، واتبعوا أهواءهم، وجعلوا هذه الأهواء أقوالاً واعتقاداً، وتحزبوا حولها وافترقوا بها عن سائر الأمة ممن بقي متمسكاً بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأهواء لا شك أنها نشأت جميعاً بعد قرن الصحابة فلم يكن من الصحابة أحد -بحمد الله- داعياً إلى بدعة، ولا صاحب هوى ولا صاحب طريقة مخالفة للكتاب والسنة، وإنما نشأت البدع فيمن بعدهم، وتصدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيان هذه البدع.. كما تصدوا لبدعة الخوارج، والقدرية، والمرجئة. ثم نشأت البدع الأخرى كالرفض، والجهمية ومنكري الصفات، والباطنية ممن يظهرون معتقداً ويخفون ديناً آخر، ويحملون القرآن والسنة على دينهم الباطني الباطل الذي لم يكن عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(207/3)
ولا شك أن المسلم ليعجب أشد العجب عندما يقف على مقالات الفرق التي انتسبت للإسلام حيث يرى أقوالاً واعتقادات هي في غاية الكفر والشناعة والتردي إلى مهاوي الإنحطاط والرذيلة!! ومن ذلك على سبيل المثال القول بحلول ذات الله وصفاته في ذوات المخلوقين، واكتساب بعض المخلوقين صفات الرب سبحانه وتعالى من الأحياء، والإماتة، والرزق، والخلق، وإدخال الجنة، والإخراج من النار، والعلم بالغيب كله.. ومن الأقوال الشنيعة كذلك تفضيل بعض البشر على الرسل والأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وتكفير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة فقط، والقول بتحريف القرآن ونقصه، والقول برجعة الناس إلى الدنيا للحساب على أعمالهم قبل يوم القيامة وأن الذي يحاسبهم هو الحسين بن علي رضي الله عنهما، أو علي رضي الله عنه!!
ومن الأقوال الشنيعة كذلك، تكفير المسلم بالمعصية، وتكفير علي بن أبي طالب، وعثمان رضي الله عنهما، وتكفير الحكمين، والخروج على المسلمين بالسيف لمعاصيهم، والقول بخلود مرتكب الكبيرة، ونفي رؤية الله تعالى في الآخرة.
ومن الأقوال البالغة في الكفر والمروق القول بوحدة الوجود وأنه لا موجود إلا الله، وأن ما عداه هو العدم، وأن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم هو التجسد الكامل لله سبحانه وتعالى .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(207/4)
ولو ذهبنا نعدد مقالات الفرق الضالة لبلغ ذلك المجلدات. والقصد هو بيان أن أهل الإسلام والمنتمين له اختلفوا في حقيقة الدين اختلافاً كبيراً كما كان الشأن فيمن قبلهم من اليهود والنصارى كما قال الله سبحانه وتعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} (البقرة:213).
فأخبر الله سبحانه أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين اختلفوا فيه، وأن منهم من هداه الله إلى الحق ومنهم من ضل سواء السبيل.. كما قال صلى الله عليه وسلم: [افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة] (أخرجه أبو داود (5496)، والترمذي (2640) عن أبي هريرة. انظر صحيح الجامع (1083)).
وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والأرض مليئة باليهود، والنصارى ولكنهم جميعاً كانوا كفاراً مشركين حكم الله تعالى بكفرهم وشركهم وضلالهم مع ادعائهم أنهم على الحق وأنهم أهل الجنة دون الناس، ولا شك أن هذا وقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن الله سبحانه وتعالى وفق هذه الأمة وميزها بأن تبقى منها طائفة متمسكة بالدين الحق، ظاهرة عليه ولا تزال كذلك إلى قيام الساعة كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يقاتل آخرهم الدجال] (صحيح الجامع (7287، 7296)).
3- ثالثاً: من هم أهل السنة والجماعة؟
ذكرنا أن الاختلاف وقع في أتباع الإسلام كما وقع في اليهود والنصارى، وأن الله امتن على هذه الأمة الإسلامية بأن جعل منها طائفة على الحق إلى قيام الساعة، فمن هذه الطائفة؟ وما صفاتها؟(207/5)
والجواب: إن أهل السنة، والجماعة، والطائفة الحقة المنصورة الباقية على الدين الصحيح إلى قيام الساعة هم الذين اعتصموا بأصول الإسلام المعصومة، وهذه الأصول هي الكتاب، والسنة وما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينا أن هذه الأصول هي الأصول المعصومة، التي لا يتطرق إليها خلل، أو شك.
وأهل السنة يردون كل قول، وكل خلاف إلى هذه الأصول، فما وافق الكتاب، والسنة، والإجماع، قبلوه، وما خالفها رفضوه من قائله كائناً من كان، فإنه لا أحد معصوماً، ولا قولاً معصوماً سوى ذلك، أي: الكتاب، والسنة، والإجماع.
وقد سميت هذه الطائفة بأهل السنة لأنهم تمسكوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل واجب الإتباع، وكذلك في المقابل أهل البدعة الذين اخترعوا أقوالاً، وأعمالاً مبتدعة في الدين جعلوها أصلاً يجتمعون عليه، ويتسمون به، ويفترقون به عن أهل الإسلام، كما زعم الرافضة أن الله أنزل خلافة علي، وأحد عشر من أولاده نصاً في القرآن، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم واجتمعوا على ذلك وسموا أنفسهم شيعة، ورافضة.
كذلك اخترع الخوارج مقالات في الدين: كتحريم الاجتهاد، وقولهم (لا حكم إلا لله) يعنون نص القرآن، وهي كلمة حق يراد بها باطل، وأن مرتكب الكبيرة كافر، حلال الدم، مخلد في النار، ومن أجل ذلك افترقوا بأنفسهم عن سائر المسلمين فكفروا علياً، وعثمان، ومعاوية، والحكمين، وخرجوا على الجميع بالسيف، فسموا: "خوارج" بفعلتهم القبيحة، وسموا أنفسهم: (الشراة) زعماً أنهم شروا أنفسهم لله...، وهكذا كل أصحاب بدعة تسموا ببدعتهم، أو برأس بدعتهم، ومخترع مقالتهم، أو من نسبوا أنفسهم إليه، وليس هو منهم كالإسماعيلية والقدرية والجهمية... الخ، والمرجئة.(207/6)
وأما أهل السنة، والجماعة، فإنهم تسموا بهذا الإسم (الجماعة) لالتزامهم بالجماعة، وهي جماعة أهل الإسلام، ونبذهم الفرقة، والخلاف، وحكمهم بإسلام كل من قال: لا إله إلا الله، ولم يخرج عنها بمكفر ظاهر.
ومن أجل ذلك كان أهل هذه الطائفة الحقة هم الذين قام فيهم الإسلام واضحاً جلياً من حيث الاتباع، والالتزام، والحفظ، والتعهد فهم أهل الحديث، والفقه، وهم علماء الحديث، والأثر المتقدمين بحمد الله على هذا المنهج الحق، وجميع فقهاء أهل الإسلام المشهورين، وأئمة الدين المتبوعين، وسادة المسلمين من الصحابة والتابعين.
وشأن هذه الطائفة الاجتماع على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ الفرقة، والخلاف ولذلك كانوا بحمد الله هم سواد أهل الإسلام وعامة المسلمين وأما غيرهم ففرق، وشراذم، وأهل ضلالات يظهر بعضها، ويختفي بعضها على مدى العصور، وتنتشر ضلالتهم حيناً، ثم تختفي، وتبور أحياناً أخرى.
وأهل السنة، والجماعة هم الأمة الحقيقية للإسلام، والسواد الأعظم، والقرون الإسلامية المتصلة جيلاً بعد جيل، والطائفة الظاهرة المنصورة القائمة باقية قولاً، وعملاً على مدار السنين، والتي حافظت على أصول الإسلام المعصومة، وعملت بمقتضاها في الجملة. وهذه الأصول هي: الكتاب، السنة، وإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحصر الإجماع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، إنما كان لأنه لم يتحقق إجماع بمعني الإجماع إلا في زمانهم، ولأن الله سبحانه وتعالى شهد لهم بالإيمان والفضل، وأثنى عليهم في كتابه، كما قال سبحانه وتعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة:285)، وشهد لهم بالفضل، كما قال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} (الفتح:29).(207/7)
وشهد سبحانه أنه رضي عنهم كما قال جل وعلا: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (الفتح:18).
وأخبر أنه سبحانه قد تاب عليهم كما قال جل وعلا: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} (التوبة:117)
ووعدهم الله عز وجل بالنصر، والتمكين، ووفى لهم، كما قال جل وعلا: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} (النور:55) وقد فعل سبحانه.
نعم قد كان فيهم منافقون بين الله أخبارهم وهتك أستارهم، ولكنهم كانوا قلة معلومة محصورة. وأما عامة الصحابة، وسوادهم فكانوا من المؤمنين المخلصين المتقين، ولذلك قال لهم الله سبحانه وتعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران:110).
فإذا أطلق اسم الجماعة، كما جاء الحديث: [عليكم بالجماعة]، كان أول من يدخل في مسمى الجماعة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: [إن الله لا يجمع أمتي] أو قال: [أمة محمد على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار] (أخرجه الترمذي رقم (2168) في كتاب الفتن باب لزوم الجماعة، والحاكم (1/116)).
وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: [إن الله تعالى اطلع في قلوب العباد، فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم، فبعثه برسالته، وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده، فاختار له أصحاباً، فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح]. (أخرجه الإمام أحمد برقم (3600)، والهيثمي في مجمع الزوائد (1/177))(207/8)
ومن أجل ذلك فإن أهل السنة، والجماعة، يجعلون إجماع الصحابة على أمر ما حجة قاطعة في الدين، ويقدمون فقههم، واجتهادهم على كل فقه واجتهاد، ويفسرون القرآن ويفهمون السنة على النحو الذي طبقوه، فهم أعنى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم قدوة أهل السنة والجماعة في فهم الإسلام، والعمل به.
ومن أجل هذا كانت البدعة هي ما خالف القرآن، والسنة، وإجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الباب الثاني
ضوابط وقواعد في البدعة وأهل البدع
4- تعريف البدعة.
البدعة: "طريقة مستحدثة في الدين، يراد بها التعبد، تخالف الكتاب، والسنة وإجماع سلف الأمة"، وقد عرفها بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: "والبدعة: ما خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات: كأقوال الخوارج والروافض، والقدرية، والجهمية وكالذين يتعبدون بالرقص، والغناء في المساجد، والذين يتعبدون بحلق اللحى، وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة. والله أعلم" (الفتاوى 18/346).
وهذا الكلام على قلته جامع مانع في تعريف البدعة من حيث أنها ما خالف القرآن، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وذلك في الاعتقادات والعبادات. كأقوال الخوارج القائلين بإخراج المسلم من الإسلام بالمعصية التي لا تبلغ حد الكفر، والشرك، وقتال أهل الإسلام، وترك أهل الأوثان، وغير ذلك من بدعهم، وكذلك بدع الروافض الذين زعموا أن الله نص على اثني عشر إماماً بأعيانهم وأن من خالف ذلك فهو كافر، ونحو ذلك من أقوالهم التي خالفوا فيها القرآن والسنة، والإجماع، وكالقول بنقص القرآن، وتحريفه، والقول بالرجعة، والبداء، وكذلك القدرية في إنكارهم عموم المشيئة، والجهمية في جحدهم معاني الأسماء والصفات، ومثل الصوفية الذين يبيحون السماع، والرقص في المساجد، ومصاحبة الولدان، وأكل الحشيش!!! الخ.
5- البدعة اللغوية.(207/9)
والبدعة التي لم تخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً لسلف الأمة، هذه البدعة إنما سميت بدعة في اللغة، إلا أنها قد لا تكون سيئة، بل قد تكون حسنة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة، قال الشافعي رحمه الله: البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتاباً وسنة وإجماعاً، وأثراً عن بعض (أصحاب) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر: [نعمت البدعة هذه] وهذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح في المدخل، ويروي عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قل العلم ظهر الجفا، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء" (الفتاوى 20/163).
ومثل هذا ما استحدث من وسائل، وأساليب في العلم، والتعلم، والدعوة، كالمدارس، والجامعات، وطبع القرآن، ونشره، وتنظيم الجيوش، والدواوين، وما قد يدخل في المصالح المرسلة، وما لا يتم الواجب إلا به. وقد فصلنا هذا كثيراً في مواضع كثيرة عند البحث في أساليب الدعوة ووسائلها.
6- حد البدعة التي يكون بها الرجل من أهل الأهواء.
لا يجوز الحكم على مسلم بأنه مبتدع، إلا إذا جاء، أو اتبع بدعة تخالف الكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والبدعة التي يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة كبدعة الخروج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، فإن عبدالله بن المبارك، ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا: "أصول اثنتين وسبعين فرقة هي أربع: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة"، قيل لابن المبارك: فالجهمية؟ قال: ليست الجهمية من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.(207/10)
و"الجهمية" نفاة الصفات، الذين يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن محمداً لم يعرج به إلى الله، وأن الله لا علم له، ولا قدرة، ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة، والمتفلسفة، ومن اتبعهم، وقد قال عبدالرحمن بن مهدي: هما صنفان، فاحذروهما: الجهمية، والرافضة. فهذان الصنفان شرار أهل البدع، ومنهم دخلت القرامطة الباطنية كالنصيرية، والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الاتحادية، فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية".
و"الرافضة" في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية، فانهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة، ثمن قد يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية، ونحوهم من أهل الزندقة، والاتحاد. والله ورسوله أعلم" (الفتاوى 35/414-415).
7- أصول البدع.
أصول البدع القديمة خمسة هي: "الرفض، والخروج، والتجهم، وإنكار القدر، والإرجاء" والبدعة -كما مر- طريقة مستحدثة في الدين، ولها صور كثيرة متعددة فإما تكون بإحداث زيادة ليست في الدين وجعلها منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: [من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد] (متفق عليه)، وإما بحذف ما هو من الدين كبدعة من أنكر السنة، وقالوا حسبنا كتاب الله، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: [يوشك رجل شبعان على أريكته يقول حسبنا كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإني أوتيت هذا القرآن، ومثله معه] (أخرجه أبو داود (4604) عن المقدام بن معدي يكرب في صحيح الجامع الصغير برقم(2643)). فنفاة السنة مبتدعة، وأما أن تكون البدعة بتحريف معاني النصوص من آيات، وأحاديث، كما هي بدعة المؤولة من الجهمية، والمعطلة، وإما أن تكون بجهل، وتطرف، ومروق من الدين كما هي بدعة الخوارج..(207/11)
*وأصول البدع قديماً أربعة، وهي: (الرفض، والخروج، والإرجاء، والقدر)، وهذه الأصول تفرعت بعد ذلك، وتشعبت، فالرافضة افترقوا على أكثر من خمسة عشر فرقة، وأكثر من مائة مقالة مختلفة، وكذلك الخوارج والمرجئة والقدرية.. وأما الجهمية المعطلة فإن عبدالله بن المبارك لما سئل عنهم قال: "ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا لنحكي كلام اليهود، والنصارى، ولا نستطيع أن نعدهم مسلمين" والزنادقة منافقون يتسترون بالإسلام، ولكن يلبسون كفرهم لباساً إسلامياً، ويخرجون بأقوال ومقالات غاية في الكفر، ويحملون عليها آيات القرآن ولا وجه لحملها مطلقاً، فليس لهم قط تأويل سائغ، ويدخل في هؤلاء أهل التأويل الباطني لكلام الله، وأصول البدع الأربعة، أو الخمسة إذا أضيف إليها التجهم، وهو نفي الصفات ومعاني الأسماء، أصولها ما زال لها وجود، وتشعبات إلى اليوم.
8- اللادينية بدعة العصر الحاضر.
وقد نشأ ما هو شر من ذلك كله، وهو (اللادينية) أو (العلمانية) وهي البدعة التي يفرق أصحابها بين الدين والدنيا، وجعل أحكام الدين التي يجب اتباعها إنما هي في العقائد، وأعمال القلوب فقط، وإخراج المعاملات، والسياسات، والحلال، والحرام عن حكم الدين، والشريعة، وجعل التشريع في هذه الأمور خاصاً للأمة، أو الشعب، والناس، وإبطال فريضة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أجل القول بأن الدين سلوك فردي، واختيار شخصي، ولا سلطان لأحد على أحد فيه.. وهذه أعظم بدعة معاصرة، وعلى أساس هذه البدعة تقوم اليوم معظم الحكومات، والجامعات، والأحزاب، والمؤسسات، والنظم السياسية المعاصرة، وخاصة الديمقراطية التي تقوم على هذه العقيدة وهي الفصل بين الدين، والدنيا، وجعل الحكم للشعب، والأمة، وليس لله سبحانه وتعالى.(207/12)
وهذه أعظم البدع العقائدية المعاصرة بإطلاق، وهي التي يقوم حولها الصراع بين أنصار العقيدة الإسلامية التي تقوم أساساً على أن الحكم لله، وأن الجميع منفذ لأمره، خاضع لمشيئته، وبين أنصار عقيدة الحياة، أو العلمانية التي تقوم عقيدتهم على أن الحكم للشعب، وأن ما ارتضاه هو ما يجب تشريعه، وما لم يرتضيه فلا يجوز أن يجبر عليه، وكذلك رفض ما يسمى بالحكومة الدينية.
9- زيادة تفصيل في بدعة (العلمانية).
وأما البدعة المعاصرة التي هي بحق شر من البدع جميعاً فهي البدعة التي جاءت إلى هذه الأمة من النصارى، واليهود، ولعل هذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: [لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه]، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: [ومن الناس إلا أولئك] (متفق عليه).
وهذه البدعة نشأت أولاً في أوربا في عصورها المسماة بالوسطى حيث كان رجال الكنيسة يتولون الحكم فلما فسقوا، وفجروا، وتكبروا، وساعدوا الطغيان، وأنكروا العلوم العصرية، والقوانين الطبيعية، وأحرقوا علماء الطبيعة، وأكلوا السحت، وحولوا الأديرة إلى مباءات للفساد، وكنزوا الذهب، والفضة التي يستحلونها ببيع المغفرة والجنة، واطلع الناس بعد ذلك على حقيقة أحوالهم، وأنهم ليسوا رهباناً امتنعوا عن الزواج وكسب العيش للعبادة، وإنما ملوك فسقة جبابرة جهلاء يمارسون الفاحشة مع الراهبات، ويعيشون حياة جنسية مبتذلة، ورفاهية فائقة، قامت الثورة عليهم، ورفع شعار: (اقتلوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس)! ثم استحدث الناس النظام اللاديني الذي فصل بين الكنيسة والحياة، وجعل للكنيسة قدراً لا تتعداه، وهو الشعائر العبادية فقط دون التدخل في حياة الناس، وجعل الحكم في كل الأمور الحياتية للشعب والأمة.(207/13)
ولقد كان هذا سبباً في رقي أوروبا، وامتلاكها ناصية العلم المادي وتحولها إلى أمم غازية، محاربة، مستعمرة، وقد فوجئ العالم الإسلامي الذي كان غارقاً في الجهل، والتفكك بهجوم أوروبا اللادينية عليهم، وقام من أبناء المسلمين من ينادي بأن يفعل بالإسلام ما فعل بالنصرانية، فيعزل الدين ورجاله وعلماؤه عن الحياة، وتقام دساتير وقوانين يجعل التشريع فيها للشعب، والأمة، وذلك اقتداء بأوربا التي لم تنهض إلا بذلك!!!،
*ولما كان الإسلام غير النصرانية المحرفة، وكان علماء الإسلام، وخلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا كملوك أوروبا وأباطرتها.. قامت المعركة طويلاً وما زالت بين أهل الإسلام الحقيقي المنتمين لأهل السنة، والجماعة، واللادينيين الذين انسلخوا عن أمتهم، ودينهم، وينادون بأن يكون الحكم لله في المسجد فقط، والحكم للبشر في سائر أنحاء الحياة!!
هذه خلاصة عاجلة لمفهوم (العلمانية واللادينية) وهي أخطر البدع التي تجابه المسلمين اليوم لأن المفتونين بها الآن هم كثرة الناس، وسوادهم، ومتعلموهم، والغرب الكافر الآن يساعد أصدقاءه، وأولياءه ممن يدينون بالعلمانية من الحكام، والكتاب والمدرسين والمثقفين والجيوش.
ولا يزال هذا الصراع قائماً حتى تعلو بحول الله راية الحق في النهاية مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: [ولن يترك الله بيت مدر، ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز، يعز الله به الإسلام، وأهله، وبذل ذليل، يذل الله به الكفر، وأهله] (السلسلة الصحيحة لشيخنا محمد ناصر الدين الألباني 35).
ولا شك أن (اللادينية أو العلمانية) كفر، وخروج عن الإسلام لأن حقيقتها أنه ليس لله أمر، ولا نهي، ولا حكم، وأن الأديان كلها سواء، وليس فيها حق، وباطل وأن من دان بالإسلام عقيدة كمن دان بالبوذية، أو الهندوسية، أو اليهودية بلا تفريق، وأنه لا جهاد، ولا دعوة، ولا عمل لإعلاء كلمة الله في الأرض، وكل هذا كفر وردة.(207/14)
وقد ذكرنا العلمانية في مسمى البدع لأن كثيراً من أهل الإسلام أصبح يدين بها، وكثير من هؤلاء يصلون، ويصومون ويزكون، ويحجون، ولكنهم يقولون: إن الحكم لا يجوز أن يكون ديناً، ولا أن تقوم حكومة على أساس الدين، وإنما يجب أن يفصل بين الدين، والدنيا، فيكون الدين فقط في شئون الآخرة، وأما المعاملات الدنيوية، والحياة، فالبشر وحدهم هم الذين يختارون فيه ما يشاءون.
وهذه البدعة هي بدعة العصر في الوقت الحاضر، ويجب التصدي لها، وبيان خطورتها على الإسلام، وفضح الدعاوي العريضة التي تزكيها، وتدعو إليها، وتصور للمسلم أنه يبقى مسلماً مع اعتناقها!!!
10- البدعة المركبة.
وهناك من أهل البدع من جمعوا أكثر من بدعة، فالرافضة مع الرفض جهمية ينكرون الصفات ورؤية الله في الآخرة وهم على منهج المعتزلة في الأسماء والصفات. والمعتزلة جهمية في الصفات، وهم مع التجهم قدرية. والخوارج كذلك على منهج المعتزلة في الأسماء والصفات.
11- بدعة الزنادقة.
من أشر ما ابتدعه الزنادقة في الدين، التأويل الباطني لكلام الله، وحمل كلام الله وكلام رسوله على العقائد الضالة التي هي للمجوس والمشركين والصابئة، والفلاسفة، فالفرق الباطنية جميعها تقوم على هذه البدعة (الزندقة). فمقالات الإسماعيلية الباطنية ومقالات الحلولية والاتحادية، ووحدة الوجود وتألية البشر، وتعمد الكذب على الله ورسوله، وتفسير القرآن بما سموه الباطن كقولهم: {وإلهكم إله واحد} أي إمامكم إمام واحد، وقولهم: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد} فسروه لا تتخذوا إمامين اثنين!! وحملوا قوله تعالى: {أإله مع الله} قالوا معناها: (أإمام هدى مع إمام ضلالة)!!.. وقالوا إن الإمام المقصود بعد رسول الله هو علي بن أبي طالب واتخاذ أبي بكر إماماً باطل واستدلوا بقوله تعالى: {أإله مع الله}..(207/15)
فهذا ومثله من التأويل الباطني الخبيث لكلام الله سبحانه وتعالى هو فعل الزنادقة الملحدين الذين صرفوا كلام الله عن معانيه الحقيقية إلى هذه المعاني الباطلة.
وحركة الزندقة كانت حركة عظيمة سرية أفسدت الدين وأدخلت في عقائد الفرق الضالة مقالات شنيعة تهدم الدين من أساسه.
وقد تصدى لهذه البدعة منذ أول ظهورها علماء الإسلام كما رد الإمام أحمد عليهم في كتاب (الرد على الزنادقة) وهم الذين نفوا وجود الله فوق عرشه سبحانه وتعالى..
وكتب الغزالي كتاباً عظيماً سماه (فضائح الباطنية) كشف فيه جانباً عظيماً من تلبيساتهم وتأويلاتهم.
12- الصوفية بدعة البدع جمعت كل البدع.
التصوف من البدع المركبة فهو يبدأ بالبدع العملية في الأذكار والأوراد، كالسماع، وينتهي بأشنع البدع وأشدها نكارة وفحشاً وكفراً وهو (وحدة الوجود)..
وفيما بين هاتين البدعتين جمع التصوف ادعاء علم الغيب، والغلو في الصالحين، وادعاء الولاية للزنادقة الملحدين، وصرف الناس عن العلم الشرعي والكتاب والسنة، واتباع سبيل المشعوذين الضالين إخوان الشياطين، وادعاء الولاية، والفتوة، والصفاء والصلاح، مع العكوف على أعظم البدع والمنكرات، وبدعة التصوف من التلبيس والتلون والخفاء بحيث تخفى على كثير من الناس، وقد تتبعنا بحمد الله هذه البدعة منذ أول ظهورها في الإسلام وإلى عصرنا الحاضر مع بيان عقائد أهلها، وشرائعهم وطرائقهم وتلبيسهم على الناس، وكشفنا بحمد الله هذا كله في كتابنا الفريد (الفكر الصوفي على ضوء الكتاب والسنة) فليراجع لمعرفة أبعاد هذه البدعة الخطيرة التي كان من آثارها تحويل جمهور عظيم من أمة الإسلام عن الإسلام الحق، وتقويض آخر خلافة إسلامية للمسلمين، وفتح ديار المسلمين لدخول الزنادقة والملحدين بل وجعلهم أئمة في الدين وقدوة للمؤمنين والحال أنهم زنادقة ملحدون.
13- مفاسد بدعة الخوارج.
ولا شك أن بدعة الخوارج من شر البدع وذلك لأمور كثيرة منها:(207/16)
أ- أن ظاهر تمسكهم بالدين يوهم عموم الناس، ومن لا فقه له بأنهم أحق الناس بالدين، والإسلام، وهم في الحقيقة على غير ذلك. ولذلك فهم يشتبهون على كثير من الناس. كما سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. فقيل: فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله بكرة وأصيلاً. قيل:من هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا. (جامع الأصول لابن الأثير 10/79-87)
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: هم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين (صحيح البخاري 12/295).
ب- أن حربهم وبأسهم لا يكون إلا على المسلمين، وما عرف خارجي في القديم، ولا سائر على منهجهم في الحديث إلا وكل همه نصب العداوة لأهل الإسلام وترك أهل الكفر والأوثان!!
ج- إنها أول البدع ظهوراً، وأبقاها على مدى العصور، كما قال صلى الله عليه وسلم: [كلما خرجوا قطعوا حتى يخرج آخرهم مع الدجال] (أخرج ابن ماجة (174) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ينشأ نشئٌ يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم كلما خرج فرق قطع حتى يخرج في أعراضهم الدجال] السلسلة الصحيحة(2455)).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أول البدع ظهوراً في الإسلام، وأظهرها ذماً في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة، فإن أولهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه: اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتالهم، وقاتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مستفيضة بوصفهم، وذمهم، والأمر بقتالهم".(207/17)
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة] (متفق عليه).
والحرورية لهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم أولاهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: اعدل فإنك لم تعدل، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: [ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل] (مسلم (1063) عن جابر). فقوله: فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي صلى الله عليه وسلم سفهاً وترك عدل، وقوله: اعدل، أمر له بما اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة، وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة، أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل، لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف -بزعمهم- ظاهر القرآن.(207/18)
وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا، فإنهم يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكي عن عمرو بن عبيد في حديث الصادق والمصدوق، وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة، إما برد النقل وإما بتأويل المنقول. فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن. وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن.
والأمر الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين، وأموالهم، وأن دار الإسلام دار حرب ودارهم دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة، وجمهور المعتزلة، والجهمية، وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم.
فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفراً. (الفتاوى 19/71-73)
14- إياك ومنهج الخوارج.
وسبب ضلال الخوارج ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله أنهم جعلوا ما ليس بسيئة سيئة، وما ليس بحسنة حسنة، وكذلك أنهم حكموا على المسلمين بالكفر بما رأوه ذنباً وعاملوهم معاملة الكفار، فاستحلوا بذلك دماءهم وأعراضهم وأموالهم..
ومما يشابه منهم الخوارج من وجه هؤلاء الذين يتهمون إخوانهم في الدين والعقيدة، ويخرجونهم من أهل السنة والجماعة وبذلك يستحلون أعراضهم، وحربهم، وتحذير الناس منهم، وقد يتقربون إلى الحكام بدمائهم.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فينبغي للمسلم أن يحذر من هذين الأصلين الخبيثين وما يتولد عنهما من بغض المسلمين وذمهم ولعنهم واستحلال دمائهم وأموالهم".(207/19)
وهذان الأصلان هما خلاف السنة والجماعة، فمن خالف السنة فيما أتت به أو شرعته فهو مبتدع خارج عن السنة. ومن كفر المسلمين بما رآه ذنباً سواء كان ديناً أو لم يكن ديناً وعاملهم معاملة الكفار فهو مفارق للجماعة وعامة البدع والأهواء إنما تنشأ من هذين الأصلين" (الفتاوى 19/75)
وقد لا يصل بعض المتشددين أن يكون خارجياً فيقف دون التكفير لإخوانه ولكنه يشتط في معاداة إخوانه المسلمين، وظلمهم، وبغضهم فيفرط في حقوق الموالاة لهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وأما التكفير باعتقاد بدعي فيد بينته في غير هذا الموضع، ودون التكفير قد يقع من البعض والذم والعقوبة -وهو العدوان- أو من ترك المحبة والدعاء والإحسان وهو التفريط ببعض هذه التأويلات بما لا يسوغ، وجماع ذلك ظلم في حق الله تعالى أو في حق المخلوق، كما بينته في غير هذا الموضع. ولهذا قال أحمد بن حنبل لبعض أصحابه: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس" (الفتاوى 19/75).
15- التفريق بين المبتدع الداعي إلى بدعته ومن ليس بداع إليها.
هذا ولقد فرق السلف رضوان الله عليهم بين المبتدع الداعي إلى بدعته ومن ليس بداع إليها، فرقوا في الرواية عنه، والسلام عليه حياً، والصلاة عليه ميتاً، وزيارته، ومودته، والاستفادة من علمه في غير هذه البدعة كأن يكون قارئاً للقرآن معلماً له أو عالماً بالأخبار، أو التواريخ ونحو ذلك. قال أبو داود:
"قلت لأحمد لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله لماذا لا تقرئهم؟"
أخبرنا أبو بكر قال حدثنا أبو داود قال: قلت لأحمد: نكلمهم؟ قال: نعم إلا أن يكون داعياً ويخاصم فيه" (مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص276)
قال عبدالله:(207/20)
قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث، يأتون الشيخ لعله يكون مرجئا، أو شيعيا، أو فيه شيء من خلاف السنة، أينبغي أن أسكت فلا أحذر عنه، أو أحذر عنه؟ قال: إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها تحذر منه. (مسائل الإمام أحمد لأبي داود ص276)
ويقول شيخ الإسلام في معرض بيان منهج أهل السنة في عدم تأثيم المجتهد وإن أخطأ في اجتهاده:
"ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع". (الفتاوى 13/125)
ثم قال بعد ذلك:
"ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويصلون خلفهم، ومن ردها كمالك وأحمد فليس مستلزماً لإثمهما، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، ولهذا فرق أحمد، وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره، وكذلك قال الخرقي: ومن صلى خلف من يجهر ببدعة أو منكر أعاد". (الفتاوى 13/125)
والشاهد هنا هو قول شيخ الإسلام بأن الإمام أحمد فرق بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره ممن يعتقد هذه البدعة ولا يدعو لها.
16- القول في تكفير أهل البدع.
عرفنا في الفصل السابق أصول البدع القديمة وما تفرع عنها وأهم البدع المعاصرة وهي (اللادينية أو العلمانية) ونأتي الآن إلى الحكم الشرعي على أهل البدع، أكفار هم أم لا؟ وإذا قيل كفار فهل هم من المخلدين في النار؟
وننقل هنا كلاماً جامعاً مانعاً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال:(207/21)
"وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدم من بلغنا أنه تكلم في تضليلهم يوسف بن أسباط، ثم عبدالله بن المبارك، وهما إمامان جليلان من أجلاء أئمة المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا:
"إن الجهمية كفار لا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم الزنادقة"
وقال آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم: بل الجهمية داخلون في الاثنتين والسبعين فرقة وجعلوا أصول البدع خمس، فعلى قول هؤلاء: يكون كل طائفة من (المبتدعة الخمسة) اثنا عشر فرقة.
وهذا يبنى على أصل آخر، وهو (تكفير أهل البدع) فمن أخرج الجهمية منهم لم يكفرهم، فإنه لا يكفر سائر أهل البدع بل يجعلهم من أهل الوعيد بمنزلة الفساق والعصاة، ويجعل قوله: هو في النار، مثل ما جاء في سائر الذنوب، مثل أكل مال اليتيم وغيره كما قال تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً يأكلون في بطونهم ناراً} (النساء:10)
ومن أدخلهم فيهم فهم على قولين:
منهم من يكفرهم كلهم، وهذا إنما قاله بعض المتأخرين المنسبين إلى الأئمة أو المتكلمين.(207/22)
وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير (المرجئة) (والشيعة) المفضلة (الشيعة المفضلة هم الشيعة الأُول الذين فضلوا علياً على أبي بكر وعمر وهؤلاء لا يكفرون وإن كانوا مخالفين للصحابة جميعاً بما فيهم علي بن أبي طالب نفسه الذي ثبت عنه من ثمانين وجها أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وقال: من فضلني على أبي بكر جلدته حد المفترى. وأما الشيعة الآخرون وهم أكثر من سبعين فرقة منهم الأمامية الإثنا عشرية، فهم الذين يقولون إن الله نص على إمامة علي واثنى عشر من أولاده، وهؤلاء يكفرون جميع المخالفين والصحابة إلا ثلاثة أو خمسة، ويقول جمهورهم بل اجماعهم في القرن الثالث والرابع بتحريف القرآن، ويفضلون هؤلاء الائمة الإثنى عشر على سائر الأنبياء والمرسلين، وكذلك الملائكة، ويدعون لهم علم الغيب والعصمة، وأنهم مفوضون في التشريع يشرعون ما شاءوا) ونحو ذلك، ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء، وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع -من هؤلاء وغيرهم- خلافاً عنه، أو في مذهبه، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم، وهذا غلط على مذهبه، وعلى الشريعة (لأن الذي لم يبلغه الحق والصواب، ومن لُبِّس عليه، فهو معذور والسلف يرون العذر بالجهل في الأصول والفروع).
ومنهم من لم يكفر أحداً من هؤلاء إلحاقاً لأهل البدع بأهل المعاصي، قالوا فكما أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحداً بذنب فكذلك لا يكفرون أحداً ببدعة.
والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير (الجهمية المحضة) الذين ينكرون الصفات، وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى، ولا يباين الخلق، ولا له علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر ولا حياة، بل القرآن مخلوق، وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار، وأمثال هذه المقالات.(207/23)
وأما الخوارج والروافض ففي تكفيرهم نزاع وتردد عند أحمد وغيره. وأما القدرية الذين ينفون (الكتابة) والعلم فكفروهم (أي من ينفي أن يكون الله قد علم أفعال الخلق قبل أن يخلقهم، أو ينفي كتابة المقادير قبل الخلق)، ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال. (الفتاوى 3/351-353)
17- ضوابط تكفير أهل البدع.
ومعلوم أن السلف رضوان الله عليهم قد تحرزوا وتورعوا كثيراً في قضية التكفير، ولم يشهدوا على أحد ممن انتسب إلى الأمة بكفر إلا أن يكون كفراً معلوماً صريحاً فيه من الله برهان، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أصلين في ذلك نذكرهما قال:
"وفصل الخطاب في هذا الباب بذكر أصلين:
أحدهما: الناس صنفان فقط: مؤمن وكافر:
أن يعلم أن الكافر في نفس الأمر من أهل الصلاة لا يكون إلا منافقاً، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وهاجر إلى المدينة فصار الناس ثلاثة أصناف: مؤمن به، وكفار به مظهر الكفر ومنافق مستخف بالكفر
ولهذا ذكر الله هذه الأصناف الثلاثة في أول سورة البقرة، وذكر أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتين في الكفار، وبضع عشر آية في المنافقين.(207/24)
وقد ذكر الله الكفار والمنافقين في غير موضع من القرآن، كقوله {ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب:48). وقوله: {إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً} (النساء:140) وقوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا} (الحديد:15) وعطفهم على الكفار ليميزهم عنهم بإظهار الإسلام، وإلا فهم في الباطن شر من الكفار كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء:45). وكما قال: {ولاتصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله} (التوبة:84) وكما قال: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين. وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} (التوبة:53-54).
وإذا كان كذلك فأهل البدع فيهم المنافق الزنديق فهذا كافر، ويكثر مثل هذا في الرافضة والجهمية، فإن رؤساءهم كانوا منافقين زنادقة. وأول من ابتدع الرفض كان منافقاً (هو عبدالله بن سبأ اليهودي الأصل، والذي ادعى الإسلام في عهد عثمان، وألب الناس عليه، وهو أول من قال بأن علياً هو وصي الرسول صلى الله عليه وسلم، وعنده أسرار الدين، ولما قتل علي رضي الله عنه قال: لو أتيتمونا برأسه في سبعين صرة مرة، فلن نؤمن بأنه قتل، أو مات، وإنما رفع إلى السماء). وكذلك التجهم فإن أصله زندقة ونفاق. ولهذا كان الزنادقة المنافقون من القرامطة الباطنية المتفلسفة وأمثالهم يميلون إلى الرفض والجهمية لقربهم منها.
ومن أهل البدع من يكون فيه إيماناً باطناً وظاهراً، لكن فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقاً أو عاصياً، وقد يكون مخطئاً متأولاً مغفوراً له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، فهذا أحد الأصلين.(207/25)
وهذا الكلام المجمل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تفصيله كالآتي:
1) الناس صنفان فقط مؤمن وكافر.. والمنافق الخالص داخل في مسمى الكافر. لأنه كافر بقلبه ويظهر الإسلام كذبا.
2) من المبتدعة كفار وهم الزنادقة الملحدون، وطوائف الباطنية الذين تظاهروا بالإسلام زوراً وأرادوا هدم الإسلام، واخترعوا مقالاتهم ليضلوا المسلمين وألبسوها لباس الإسلام زوراً وهم يعلمون حقيقة ما يصنعون. كابن سبأ مخترع الرفض، وجهم وأشكالهما.
3) ومنهم مبتدع جاهل أو متأول يظن أن ما قاله واعتقده من البدعة حق، وأن هذا هو دين الله، وهذا لا يجوز إخراجه من الإسلام.
والأصل الثاني:
18- يجب التفريق بين الكفر والكافر.
إن المقالة تكون كفراً كجحد وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحليل الزنا والخمر والميسر ونكاح ذوات المحارم، ثم القائل بها قد يكون بحيث لم يبلغه الخطاب فلا يكفر وكذا لا يكفر به جاحده، كمن هو حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه شرائع الإسلام، فهذا لا يحكم بكفره بجحد شيء مما انزل على الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يعلم أنه أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ومقالات الجهمية هي من هذا النوع، فإنها جحد لما هو الرب تعالى عليه ولما أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم.
19- أوجه فساد مقالة الجهمية.
وتغلظ مقالاتهم من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن النصوص المخالفة لقولهم في الكتاب والسنة والإجماع كثيرة جدا مشهورة وإنما يردونها بالتحريف.
الثاني: أن حقيقة قولهم تعطيل الصانع. وإن كان منهم من لا يعلم أن قولهم مستلزم تعطيل الصانع. فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله فأصل الكفر الإنكار لله.(207/26)
الثالث: أنهم يخالفون ما اتفقت عليه الملل كلها وأهل الفطر السليمة كلهم، لكن مع هذا قد يخفي كثير من مقالاتهم على كثير من أهل الإيمان حتى يظن أن الحق معهم، لما يوردونه من الشبهات. ويكون أولئك المؤمنون بالله ورسوله باطناً وظاهراً وإنما التبس عليهم واشتبه هذا كما التبس على غيرهم من أصناف المبتدعة، فهؤلاء ليسوا كفاراً قطعاً، بل قد يكون منهم الفاسق والعاصي، وقد يكون منهم المخطئ المغفور له، وقد يكون معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه.
20- أصل قول أهل السنة.
وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية، والمعتزلة، والمرجئة (يعني شيخ الإسلام أصل قول أهل السنة في مسألة الإيمان) أن الإيمان يتفاضل ويتبعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يخرج من النار من كان في قلبه مثال ذرة من إيمان] (متفق عليه) وحينئذ تتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك.
21- أصل قول الخوارج.
وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب ويعتقدون ذنباً ما ليس بذنب ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب -وإن كانت متواترة- ويكفرون من خالفهم ويستحلون منه -لارتداده عندهم- ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال صلى الله عليه وسلم فيهم: [يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان] (صحيح الجامع الصغير (2227) عن أبي سعيد الخدري) ولهذا كفروا عثمان وعلياً وشيعتهما، وكفروا أهل صفين -الطائفتين- ونحو ذلك من المقالات الخبيثة.
ثم قال شيخ الإسلام:(207/27)
"وأصل قول الرافضة: ان النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي نصاً قاطعاً للعذر، وأنه إمام معصوم ومن خالفه كفر، وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم، واتبعوا أهواءهم وبدلوا الدين وغيروا الشريعة وظلموا واعتدوا، بل كفروا إلا نفراً قليلاً: إما بضعة عشر أو أكثر، ثم يقولون: إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين. وقد يقولون: بل آمنوا ثم كفروا، وأكثرهم يكفر من خالف قولهم ويسمون أنفسهم المؤمنين ومن خالفهم كفاراً، ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة أسوأ حالا من مدائن المشركين والنصارى، ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين، ويوالون الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين، وكذا يوالون اليهود على جمهور المسلمين. ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق، كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم، ولا ريب أنهم طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة، ولهذا كانوا من المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة، فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي، فإذا قال أحدهم: أنا سني فإنما معناه لست رافضياً.
ولا ريب أنهم شر من الخوارج: لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة. وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف الخوارج، فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة، وهم منتسبون اليهم، وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق، والروافض معروفون بالكذب. والخوارج مرقوا من الإسلام، وهؤلاء نابذوا الإسلام.
22- القدرية المحضة الذين لم يجمعوا مع القول بنفي القدر غير ذلك من البدع أخف من الخوارج، والروافض.
وأما القدرية المحضة فهم خير من هؤلاء بكثير وأقرب إلى الكتاب والسنة لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضاً، وقد يكفرون من خالفهم ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك.
23- الإرجاء أخف البدع.(207/28)
وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المعضلة، بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة، وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة، حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة.
ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون: تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيراً عن مقالتهم، كقول سفيان الثوري:
"من قدم علياً على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك". أو نحو هذا القول. قاله لًّما نُسب إلى تقديم عليٍّ بعضُ أئمة الكوفيين.
وكذلك قول أيوب السختياني:
"من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار" قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين. وقد روى أنه رجع عن ذلك وكذلك قول الثوري، ومالك، والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين. أ.هـ (الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/325-357)
24- هل كفر الإمام أحمد رحمه الله الجهمية بأعيانهم؟
وقد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القضية في الفتاوى ورجح أن الإمام أحمد رحمه الله لم يكفر الجهمية بدليل أن دعا للخليفة، وحلل جميع الذين آذوه مما فعلوه معه وعفا عنهم بالرغم من أنهم دعوه إلى القول الذي كفر وهو القول بخلق القرآن، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الإستغفار لهم.
وهذا هو تحقيق شيخ الإسلام في هذه القضية: قال:(207/29)
"إن الإمام أحمد -مثلاً- قد باشر (الجهمية) الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل عن الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئاً من بيت المال، ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية، ويمتحنون الناس عن الولاية والشهادة، والإفتكاك من الأسر وغير ذلك. فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعياً إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه.
ومعلوم أن هذه من أغلظ التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب. ثم إن الإمام أحمد رحمه الله دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الإستغفار لهم، فإن الإستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة.(207/30)
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوماً معينين. فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم." (الفتاوى 12/488-489) وأخبر شيخ الإسلام أنهم ربما كانوا معذورين بجهلهم في ذلك أو عدم وصول المعنى الصحيح لهم، أو تأويلهم الخاطئ لنصوص القرآن والسنة، وقال:
"وأيضاً فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، ولبعضهم في قتال بعض ولعن بعض وإطلاق تكفير بعض أقوال معروفة.(207/31)
وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرأ: {بل عجبتُ} (أي بناء المتكلم والضمير يعود لله سبحانه وتعالى، والمعنى أنه عجب سبحانه من إنكار الكفار لإعادتهم البعث والحال أنهم يقرون بأنه هو الذي خلقهم جل وعلا أول مرة وذلك في قوله تعالى {بل عجبت ويسخرون} وفي القراءة الأخرى بل عجبتَ بالفتح للمخاطب) ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي فقال: إنما شريحٌ شاعرٌ يعجبه علمه. كان عبدالله أفقه منه، فكان يقول:(بل عجبتُ) فهذا قد أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب و السنة، واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة، وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن، مثل إنكار بعضهم قوله: {أفلم ييأس الذين آمنوا} (الرعد:31) وقال: إنما هي: أو لم يتبين الذين آمنوا، وإنكار الآخر قراءة قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} (الإسراء:23) وقال: إنما هي: ووصى ربك. وبعضهم حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت. وهذا خطأ معلوم بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل المتواتر." (الفتاوى 2/492-493)
وجمع شيخ الإسلام رحمه الله موجبات عدم الحكم بتكفير المتأول في الدين فقال:
"فمن كان قد آمن بالله ورسوله ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم يؤمن به تفصيلاً، إما إنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها." (الفتاوى 12/493)
25- لا يكفر المجتهد المخطئ سواء كان ذلك في أصول الدين أم فروعه.
وبين في آخر تحقيقه أن المجتهد المخطئ لا يكفر ما دام أنه في دائرة الإجتهاد ولو كان ذلك فيما اصطلح عليه بأصول الدين، أو فروعه فقال:(207/32)
"وأيضاً فقد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما لا يكفر مخالفه بل ولا يفسق، بل ولا يأثم، مثل الخطأ في الفروع العملية، وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذان القولان شاذان، ومع ذلك فلم يقل أحد بتكفير المجتهدين المتنازعين فيها، ومع ذلك فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع فيها بالنصوص والإجماع القديم، مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا، واستحلال آخرين لبعض أنواع الخمر، واستحلال آخرين للقتال في الفتنة.
26- لا يفسق المعروف بالخير من المسلمين بخطأ أخطأ فيه أو تأويل باجتهاد.
وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير، كالصحابة المعروفين، وغيرهم من أهل الجمل وصفين من الجانبين لا يفسق أحد منهم، فضلاً عن أن يكفر، حتى عدى ذلك من عداه من الفقهاء إلى سائر أهل البغي، فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يحكم بفسقهم لأجل التأويل، كما يقول هؤلاء الأئمة: إن شارب النبيذ المتنازع فيه متأولاً لا يجلد ولا يفسق. فقد قال تعالى: {وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث، إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً} (الأنبياء:77-79) وقال تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} (الحشر: 5) وثبت في الصحاح من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر] وثبت في الصحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم] (الفتاوى 12/495)(207/33)
27- المجتهد المخطئ في طلب الحق مغفور له سواء كان في المسائل النظرية (التي يسميها بعض الناس أصول الدين) أو المسائل العملية (التي يسميها بعض الناس فروع الدين).
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده، ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية. هذا الذي كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وجماهير أئمة الإسلام.
وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها، ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.(207/34)
فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع، فهذا التفريق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم، وهو تفريق متناقض، فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الإعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل قيل له: فتنازع الناس في محمد صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه أم لا وفي أن عثمان أفضل من علي، أم علي أفضل وفي كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الإعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالإتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالإتفاق، وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية. قيل له: كثير من مسائل العلم قطعية، وكثير من مسائل العلم ليست قطعية، وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية، وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له، كمن سمع النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وتيقن رده منه، وعند رجل آخر لا تكون ظنية، فضلاً عن أن تكون قطعية لعدم بلوغه النص، أو لعدم ثبوته عنده، أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته.
وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الذي قال لأهله: [إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. فأمر الله البر برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب! فغفر الله له] فهذا شك في قدرة الله وفي المعاد، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له (الفتاوى 23/346-347)
وقال أيضاً:(207/35)
"ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع، بل جعل الدين (قسمين) أصولاً وفروعاً لم يكن معروفاً في الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم لا في الأصول ولا في الفروع، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم، وحكوا عن عبيدالله بن الحسن العنبري أنه قال: كل مجتهد مصيب، ومراده أنه لا يأثم. وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما.
ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويُصلون خلفهم، ومن ردها -كمالك وأحمد- فليس ذلك ملزماً لإثمهما، لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة، فإذا هجر ولم يصل خلفه ولم تقبل شهادته كان ذلك منعاً له من إظهار البدعة، ولهذا فرق أحمد وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره، وكذلك قال الخرقي: "ومن صلى خلف من يجهر ببدعة أو منكر أعاد" (الفتاوى 13/125)
وهذا واضح أن الإمام أحمد وشيخ الإسلام لم يكفرا المجتهد المخطئ وأن تركهما للصلاة خلف أهواء إنما كان لزجرهم وليس للقول بكفرهم، وأن هذا كان للمصلحة الشرعية في تقليل شر البدعة وحصرها لا أن أصحابها كفار مارقون.
وقد كان هذا هو رأي جمهور السلف أيضاً كما نقل البغوي أن الإمام الشافعي رحمه الله أجاز شهادة أهل البدع والصلاة خلفهم مع الكراهة (شرح السنة 1/228) ونقل عن أبي سليمان الخطابي أنه لا يكفر أهل الأهواء الذين تأولوا فأخطأوا ويجيز شهادتهم، ما لم يبلغ من الخوارج والروافض في مذهبه أن يكفر الصحابة. أو من القدرية أن يكفر من خالفه من المسلمين فقد كان يرى بطلان الصلاة خلف هؤلاء، وعدم نفاذ قضاء قضاتهم (شرح السنة 1/228-229)
28- هل حكم الإمام البخاري بكفر الجهمية؟(207/36)
وقد نقل عن الإمام البخاري رحمه الله تكفير الجهمية وعدم جواز الصلاة خلفهم فقد قال: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوماً أضل في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهلُ من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم، وقال: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى." (خلق أفعال العباد 71)
ولكن من المعلوم أن الإمام البخاري رحمه الله روى عن عدد منهم، بل وعن كثير من أهل الأهواء يقاربون السبعين نفساً، ولو كان يرى كُفْرَهم ما استحل الرواية عنهم.
وكذلك كان يَرى جواز الصلاة خلف المبتدع والمفتون، كما روى رحمه الله في صحيحه أن عثمان رضي الله عنه أمر بالصلاة خلف الخوارج الذين خرجوا عليه. (انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب الأذان باب 56)
وتكفير البخاري رحمه الله للجهمية يبدو أنه (للجهمية الغالية) التي تنفي الأسماء والصفات كلها وتقول وجود الله مطلقٌ عن كل اسم وصفة، هذا مع قولهم بالجبر، وأن الإيمان هو المعرفة فقط إلى آخر مقالاتهم الشنيعة.
أما الذين روى عنهم البخاري فهم ممن فيهم تجهم لا يبلغ إلى هذا الحد، فالتجهم درجات كما قال ابن تيمية رحمه الله فقد قال:
"كذلك التجهم على ثلاث درجات: فشرها (الغالية) الذين ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى قالوا هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ولا يتكلم...!!(207/37)
(والدرجة الثانية) من التجهم هو تجهم المعتزلة ونحوهم الذين يقرون بأسماء الله في الجملة ولكن ينفون صفاته، وهم أيضاً لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة، ويجعلون كثيراً منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون. (والدرجة الثالثة) هم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية ولكن فيهم نوع من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، ويردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية وغير الخبرية ويتأولونها، كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الواردة في القرآن دون الحديث، كما عليه بعض من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث، (ومنهم) من يقر بالصفات الواردة في الأخبار في الجملة ولكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، ولكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعاً عظيماً فيما يثبتونه من الصفات (أو ينفونه من الصفات)، وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر وقدموهم على أهل السنة والإثبات، وخالفوا أوليهم. (ومنهم) من يتقارب نفيه وإثباته، وأكثر الناس يقولون: إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه بين النفي، والإثبات." أ.هـ (بيان تلبيس الجهمية ج 1/12)
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن مراد بعض السلف من إطلاق لفظ الجهمية على قائل ما أنه وافقهم في بعض مقالتهم ليتبين ضعف قوله: قال:(207/38)
"ومن المعلوم أنهم أرادوا بذلك افتراقهم في (مسائل القرآن) خاصة، وإلا فكثير من هؤلاء يثبت الصفات والرؤية والإستواء على العرش، وجعلوه من الجهمية في بعض المسائل: أي أنه وافق الجهمية فيها: ليتبين ضعف قوله لا أنه مثل الجهمية، ولا أن حكمه حكمهم، فإن هذا لا يقوله من يعرف ما يقول". (مجموع الفتاوى 12/206 عن التسعينية لابن تيمية).
29- خلاصة ما جاء في هذا الباب.
1- البدعة هي ما خالف الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة من الإعتقادات والعبادات.
2- أصول البدع خمس هي: الرفض، والخروج، والتجهم، والقدر، والإرجاء.
3- بدعة العلمانيين (اللادينية) هي بدعة العصر، وهي شر البدع التي ظهرت في أمة الإسلام.
4- الناس في نهاية الأمر صنفان مؤمن، وكافر، وأما المنافق فهو داخل في الكفار.
5- المجتهد المخطئ معذور سواء كان اجتهاده فيما سماه الناس أصول الدين أو فروعه.
6- البدعة قد تكون كفراً لكن قائلها لا يُكَفَّر إلا وفق ضوابط التكفير وهو ألا يكون متأولاً، أو جاهلاً.
7- القول في التبديع كالقول في التكفير.
8- أهل البدعة الواحدة درجات في بدعتهم. فالتشيع درجات والتجهم درجات، والخروج درجات، وكذلك الإرجاء.
*فأدنى التشيع تفضيل علي على عثمان، وبعده تفضيل علي على الشيخين دون الحط من الشيخين، وبعده مع الحط على الشيخين. وبعده تكفير الشيخين وهذا زندقة وكفر.
*وأدنى التجهم تأويل بعض الصفات الخبرية، وفوقه تأويل جميع الصفات ما عدا ثلاثة، وما عدا سبعة، وفوقها نفي الصفات جميعاً ومعاني الأسماء كلها، وفوق النفي نفي النفي كذلك وهذا الذي قبله زندقة وكفر.(207/39)
*والخروج درجات أدناه تكفير المسلم بالمعصية، وفوقه استحلال دمه مع القعود عن ذلك (وهو قول القعدة) وفوقه السعي في قتله، وفوقه ملاينة أهل الكفر وقتل أهل الإسلام... والنص على كفر الذين قاتل بعضهم بعضاً من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. والإرجاء درجات أدناه ترك الاستثناء في الإيمان... وأعلاه القول بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب.
والقدرية درجات أقلها إخراج أفعال العباد من المشيئة، وأعلاها نفي علم الله السابق في عباده وهذا كفر.
الباب الثالث
مواقف السلف من أهل البدع
تقديم:
عرفنا في الباب السابق بحمد الله وتوفيقه ضوابط البدعة، ومتى يحكم على المبتدع بالكفر، ومتى لا يحكم عليه بكفر. والآن نأتي إلى بيان الضوابط الشرعية للتعامل مع المبتدع، وكيف يكون؟ والمدى الذي يوصل إليه في التعامل معه:
30- أولاً: حراسة الدين. وإبطال البدع.
*أول موقف لأهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة هو نَفيرهم الدائم لحراسة الدين، وإبطال البدع فما كان يطلع للبدعة قرن إلا ويهب الرجال العاملون والعلماء المخلصون لاستئصال شأفة هذه البدعة وإماتتها وقطعها عن طريق الأمة.
*وذلك أن الإسلام يشبه الثوب النظيف المصنوع من نسيج واحد، والبدعة إما رقعة دخيلة تشوه جمال الثوب، أو قذارة مشينة تعلق بالثوب، أو استبدال كامل للدين الحق بدين باطل.
وكان دأب السلف رضوان الله عليهم من الصحابة وتابعيهم بإحسان هو إبقاء ثوب الإسلام نسيجاً وحده، والمحافظة على طهارته ونقاوته..(207/40)
*وإذا أردت مثلاً آخر فقل: الإسلام كَنَهْر رائق عذب صاف، مصدره الكتاب الحكيم، والسنة المطهرة، والبدعة قذارة تُلقى في النهر، وإبعاد هذه القذارات ليبقى النهر صافياً، والأخذ من المعين صالحاً: ولذلك وجد في كل قرن من ينفي عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وابتداع المبتدعين.. وتزييف المزيفين.. وهذا من كمال الأمة الإسلامية المرحومة التي لا تزال طائفة منها على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال..
*والدجال آخر شر وبدعة تظهر في الأرض حيث يدعي أنه الله خالق السموات والأرض، وما هو إلا كذاب دجال أعور العين..
*وكان أول بدعة ظهرت في الدين التفريق بين الصلاة والزكاة، والادعاء أن الزكاة لا تؤدى إلا للرسول ولا تعطي لخلفائه من بعده، فتصدى الصديق رضي الله عنه لهذه البدعة وقال قولته المشهورة: [والله لو منعوني عقالاً يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه] فقاتل رضي الله عنه القائلين بهذه البدعة المنكرة، ووأدها في مهدها قبل أن يستفحل ضررها وشرها.. ولو ترك أبو بكر ذلك فلم يقاتلهم لانْثَلَم الإسلام، ولما التأم بعد ذلك أبداً، ولأصبحت هذه البدعة سنة مُتّبعةً يأخذ بها الناس بعدهم فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويفعلون ما يحلو لهم من الدين ويتركون ما لا يشتهون.. لو ترك أبو بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة وأقرهم على ذلك لأصبح هذا ديناً إلى يومنا هذا..
*وفي عهد الفاروق رضي الله عنه حصلت بعض البدع الصغيرة فأماتها كاتباع متشابه القرآن، واستحلال الخمر بزعم أن القرآن يبيح ذلك، والزعم أن الصحابة لا يطبقون القرآن كله.. الخ(207/41)
*وفي عهد عثمان رضي الله عنه حدثت أوائل الفتنة الكبرى وهي الخروج على الإمام الحق بالسيف، وانتهت بدعتهم بمقتله رضي الله عنه، وكان هذا بداية فتنة عظمى في الإسلام وظهور بدعة الخوارج التي لا تزال إلى يوم القيامة، ولقد قام أهل السنة والجماعة فردوا هذه البدعة بالعلم والبرهان والدليل، وبينوا ما فيها من الضلال وإن لم يستطيعوا أن يقضوا عليها بالسيف.. واستمر خروج الخوارج بدءاً من الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا يزال يخرج في قرن منهم طائفة حتى يخرج آخرهم مع الدجال..
ثم توالت البدع فجاءت القدرية وجاءت المرجئة، وجاءت الرافضة، وجاء الزنادقة، والفرق الباطنية، وجاءت الجهمية منكرو الصفات والأسماء، وكلما ظهرت بدعة من هذه البدع كان أهل الإسلام الحق لها بالمرصاد، فأما الأمراء الصالحون فقد وضعوا السيف في أصحابها ومروجيها، وأما العلماء الأبرار فقد قاموا بالرد والإبطال لها.
*واستمرت هذه المعركة عبر التاريخ الإسلامي كله: أهل الباطل يريدون اختراع دين جديد، أو إدخال باطلهم إلى هذا الدين، وأهل الحق ينافحون عن هذا الدين ويحمونه من أهل الانتحال والمبطلين ولا تكاد توجد بدعة أو مقالة من مقالات الخارجين عن الكتاب والسنة إلا ولعلماء السنة والجماعة جهاد مشكور وردود تدحض هذه البدعة، وتبين زيفها وبعدها عن الحق.(207/42)
فلما ظهر الذين قالوا (لا قدر وإنما الأمر أُنف)... قام من يرد عليهم من الصحابة والتابعين قائلاً (لا يقبل الله من أحد صرفاً ولا عدلاً إلا أن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى)، وعندما قالت الجهمية القرآن مخلوق رد عليهم أهل السنة قائلين: (القرآن كلام الله غير مخلوق) وعندما نَفَوْا استواء الله على العرش جعل أهل السنة من أصول الإيمان القول أن الله سبحانه فوق العرش وأن منكر هذا كافر، ولما قال تلاميذ الجهمية إن الله فوق العرش مكانةً ورفعةً لا مكاناً، قال أهل السنة بل يجب الاعتقاد بأن الله بذاته فوق عرشه سبحانه وتعالى... وكلما أضاف أهل البدعة في بدعتهم، أضاف أهل السنة في السنة فقالوا (يجب الاعتقاد أن الله فوق عرشه بائن من خلقه).
وهكذا كلما أحدث المبتدعة بدعة، قام أهل السنة بإظهار السنة لتكون رداً على البدعة..
ولا يزال الصراع هكذا بين الذين يكونون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبين الذين يبتدعون في هذا الدين.
*والخلاصة أن موقف أهل السنة والجماعة من البدع والمبتدعة هو أنهم كشفوا اللثام عن كل قول أو فعل يخالف القرآن والسنة ويخرج عن إجماع الأمة، وصاحوا بأهل البدع من كل مكان في الأرض يبينون زيف مقالاتهم، وكذب ادعاءاتهم، وخروجهم ببدعتهم عن الإسلام الصحيح، والدين الخالص.
وبهذا بقي الإسلام بحمد الله عبر القرون هو الإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولم يحصل لهذه الأمة ما حدث للأمم السابقة من موت الدين الحق، واستبداله بدين آخر مبتدع غير ما جاء به الرسول كما هو حادث لليهود والنصارى الآن، فإن كلاً منهم اخترع ديناً غير الدين الذي بعث به موسى وعيسى عليهما السلام.(207/43)
وأما هذه الأمة المرحومة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة فإن الصراط المستقيم فيها قائم إلى قيام الساعة، ولن يستطيع ضال أن يصرفها كلها إلى سبل الضلال... بل تبقى منها طائفة على الحق ملتزمة الصراط المستقيم إلى قيام الساعة، ونسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء.
31- ثانياً: الهجر.
اعلم أولاً حفظني الله وإياك وعلمنا ما ينفعنا أن الهجر بمعنى المفارقة، والمقصود بهجر المبتدع في كلام السلف هو مفارقة بدعته، وقد نص بعضهم على ترك الصلاة خلف أصحاب بدع بأعيانها، واتباع جنازتهم، وقبول شهادتهم وروايتهم على التفصيل الذي مضى في نوع البدع ومدى شناعتها وبعدها عن الكتاب والسنة والإجماع.
ولا شك أنه يندرج تحت هجر البدعة والمبتدع التحذير منها وبيان شرها وتنفير الناس عنها، ولكن هذا لا يعني بحال ظلم المبتدع بالتقول عليه والكذب والافتراء عليه وإلزامه ما لا يلزمه واستخراج لوازم من كلامه لا يقول بها ولا يعتقدها، وكذلك لا يدخل في هجر المبتدع هجر محاسنه وإبطال حسناته إن كانت له محاسن ما دام أنه مسلم داخل في دائرة الإسلام وفيه شيء من الإيمان ولو حبة خردل لم يبطلها الكفر، والشرك، فما دام أن المبتدع من أهل لا إله إلا الله وجب أن نشهد له بحسنته، وننفي بدعته، ونواليه فيما أحسن فيه، ونحبه بقدر إحسانه، ونعاديه بقدر بدعته فقط، ونكرهه بقدر هذه البدعة، وقد يجتمع فيه من أجل ذلك حب وبغض، وموالاة ومعاداة بقدر ما فيه من الإيمان والبدعة، ومن الطاعة والمعصية. وهذا الذي جاء به القرآن والسنة وعليه إجماع سلف الأمة، ومن خالف ذلك فهو غالط متبع لسنة الخوارج الذي يهدرون عمل المسلم كله بالمعصية ويخرجونه من الدين بالذنب، ويستحلون ماله وعرضه ودمه بذلك والحال أنه من أهل الإيمان!!!
وأهم الضوابط المستفادة من كلام السلف في الهجر ما يلي:(207/44)
1- أن يكون المبتدع من أهل البدع العقائدية الخمس وما تفرع منها تعريفها، وهي: "الخروج، والرفض، والقدر، والتجهم، والإرجاء"، وكذلك أهل البدعة الكبرى والمخرجة من الدين وهي (العلمانية) أو (اللادينية).
2- أن يكون الهجر مفيداً في تقليل البدعة، أو إماتتها، وأما إذا كان الهجر يؤدي إلى نشر البدعة وشيوعها فقد يكون التأليفُ أولى.
3- أن يكون الهاجر قادراً على الهجر ومستطيعاً له، ونعني بالهجر هنا إظهار العداوة للمهجور، كما سئل الإمام أحمد رحمه الله عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: (الحق به كل بلية!!، قيل فيظهر العداوة لهم أم يداريهم؟ قال: أهل خراسان لا يقوون بهم) أ.هـ (الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 28/210)
ويحسن هنا أن ننقل بالنص فتوى شيخ الإسلام رحمه الله حول أحكام الهجر، وحكمته، فقد سئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره، أو كلاهما لله تعالى؟ (أي البغض والهجر).
وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران؟ وإذا بدأ المهجور بالسلام فهل يجب الرد عليه؟ وهل يستمر البغض والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها؟ أم هل يكون لذلك مدة معلومة؟ فإن كان لها مدة معلومة فما حدها؟
فأجاب: الهجر الشرعي نوعان: (أحدهما) بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها.
فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (الأنعام:86)، وقوله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} (النساء:140)(207/45)
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك، بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقول (حاضر المنكر كفاعله)، وفي الحديث: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر] (صحيح الجامع 6506). وهذا الهجر من جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات، كما قال صلى الله عليه وسلم: [المهاجر من هجر ما نهى الله عنه] (البخاري 10)
ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر، والفسوق إلى دار الإسلام، والإيمان. فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى: {والرجز فاهجر} (المدثر:5)
النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، فيهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا -حتى أنزل الله توبتهم- حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير، وإن كان منافقاً، فهنا الهجر بمنزلة التعزير.
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات، وفعل المحرمات: كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.(207/46)
وهذه حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون. فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا، فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم، ولهذا جاء في الحديث: [إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة] (موضوع انظر السلسلة الضعيفة (1612) وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم الله بعقاب منه] (أنظر صحيح الجامع (1974)).
فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة.
32- وجوب مراعاة المصلحة الشرعية في الهجر.
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور، وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله. فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين. كما أن الثلاثة الذين خلفوا كانوا خيراً من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال، والمصالح.(207/47)
وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل. ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين، وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه.
33- يجب أن يكون الهجر لله وفي الله.
وإذا عُرِفَ هذا، فالهجر الشرعي هو من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صواباً، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمور كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس وما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله!!
والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام] فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث، كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا] فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت. وكما رخص في هجر الثلاث.(207/48)
فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق نفسه. (فالأول): مأمور به، و(الثاني): منهي عنه، لأن المؤمنين أخوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: [لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم] (متفق عليه) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن: [ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر،ولكن تحلق الدين] (أخرجه أبو داود، والترمذي. صحيح الجامع:2595). وقال في الحديث الصحيح: [مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى] (أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير)
34- حكمة الهجر أن يكون الدين كله لله.
وهذا لأن الهجر من "باب العقوبات الشرعية"، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادي في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه، وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، وقال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون أخوة} (الحجرات:9-10) فجعلهم أخوة مع وجود القتال، والبغي، والأمر بالإصلاح بينهم.
35- لا يجوز أن يكون الهجر نقضاً للموالاة في الله والأخوة بين المسلمين.(207/49)
فليتدبر المؤمن الفرق بين هذه النوعين، فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته، وإن ظلمك، واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته، وإن أعطاك، وأحسن إليك، فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه، والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه، والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، ومعصية، وسنة، وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا، وهذا كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته (أرجو أن يتدبر الأخوة المؤمنون هذا الكلام النفيس حتى لا يكونوا من الجاهلين. الذين يريدون إقامة أمر من أمور الذين فيهدمون غيره، كالخوارج الذين أرادوا إقامة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهدموا أخوة الدين، وقتلوا أهل الإسلام).
هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج، والمعتزلة، ومن وافقهم عليهم، فلم يجعلوا الناس لا مستحقاً للثواب فقط. ولا مستحقاً للعقاب فقط. وأهل السنة يقولون: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجه منها بشفاعة من يأذن له في الشفاعة بفضل رحمته، كما استفاضت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصل اللهم على محمد، وعلى آله وصحبه وأجمعين. أ.هـ (الفتاوى 28/203-210).
وقال رحمه الله:(207/50)
وفي مسائل اسحق بن منصور وذكره الخلال في "كتاب السنة" في باب مجانبة من قال: القرآن مخلوق عن اسحق أنه قال لأبي عبدالله: من قال: القرآن مخلوق؟ قال: ألحق به كل بلية. قلت: فيظهر العداوة لهم أم يداريهم؟ قال: أهل خراسان لا يقوون بهم (أي أن أهل السنة هناك قلة ولا يستطيعون إظهارها ولا مجانبة أهل البدع). وهذا الجواب منه مع قوله في القدرية: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة (وفي هذا دليل على عدم هجران المبتدع الذي يمكن الاستفادة مما عنده من العلم)، ومع ما كان يعاملهم به في المحنة من الدفع بالتي هي أحسن ومخاطبتهم بالحجج، يفسر ما في كلامه وأفعاله من هجرهم، والنهي عن مجالستهم ومكالمتهم، حتى هجر في زمن غير ما أعيان من الأكابر، وأمر بهجرهم لنوع ما من التجهم. أ.هـ
36- الهجر أحياناً عقوبة شرعية يجب أن توضع في موضعها.
فإن الهجرة نوع من أنواع التعزير، والعقوبة نوع من أنواع الهجرة التي هي ترك السيئات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [المهاجر من هجر السيئات] وقال: [من هجر ما نهى الله عنه]. فهذا هجرة التقوى. وفي هجرة التعزير والجهاد: هجرة الثلاثة الذين خلفوا، وأمر المسلمين بهجرهم حتى تِيبَ عليهم.
37- والهجر أحياناً يكون تركاً من المسلم للمعصية.
فالهجر تارة يكون من نوع التقوى، إذا كان هجراً للسيئات، كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين، وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون} (الأنعام:68-69)، فبين سبحانه أن المتقين خلاف الظالمين، وأن المأمورين بهجران مجالس الخوض في آيات الله هم المتقون، وتارة يكون من نوع الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وهو عقوبة من اعتدى، وكان ظالماً.
38- شروط استخدام الهجر عقوبة شرعية.(207/51)
وعقوبة الظالم وتعزيره مشروط بالقدرة، فلهذا اختلف حكم الشرع في نوعي الهجرتين: بين القادر، والعاجز، وبين قلة نوع الظالم المبتدع، وكثرته، وقوته وضعفه، كما يختلف الحكم بذلك في سائر أنواع الظلم: من الكفر، والفسوق، والعصيان، فإن كل ما حرمه الله فهو ظلم: إما في حق الله فقط، وإما في حق عباده، وإما فيهما. وما أمر به من هجر الترك، والانتهاء، وهجر العقوبة، والتعزير، إنما هو إذا لم يكن فيه مصلحة دينية راجحة على فعله، وإلا فإذا كان في السيئة حسنة راجحة لم تكن سيئة، وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة، بل تكون سيئة، وإن كانت مكافئة لم تكن حسنة ولا سيئة.
39- حكمة الهجر.
فالهجران قد يكون مقصوده ترك سيئة البدعة التي هي ظلم، وذنب وإثم، وفساد، وقد يكون مقصوده فعل حسنة الجهاد والنهي عن المنكر، وعقوبة الظالمين لينزجروا، ويرتدعوا، وليقوى الإيمان، والعمل الصالح عند أهله. فإن عقوبة الظالم تمنع النفوس عن ظلمه، وتحصنها على فعل ضد ظلمه: من الإيمان، والسنة، ونحو ذلك. فإذا لم يكن في هجرانه انزجار أحد، ولا انتهاء أحد، بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم تكن هجرة مأموراً بها، كما ذكره أحمد رحمه الله عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية، فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم سقط الأمر بفعل هذه الحسنة وكانت مداراتهم فيها دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي. وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لاندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم، فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس. ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل.(207/52)
40- لا يجوز جعل ما أفتى به الإمام في قضية مخصوصة من قضايا الهجر حكماً عاماً في جميع الأحوال، والأزمان.
كثير من أجوبة الإمام أحمد، وغيره من الأئمة رحمهم الله تعالى خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله، أو خرج خطاباً لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يثبت حكمها في نظيرها. فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر، والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب، ولا يستحب، وربما تركوا به الواجبات، أو مستحبات، وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره، أو وقعوا فيها، وقد يتركونها ترك المنتهي الكاره، ولا ينهون عنها غيرهم، ولا يُعَاقبون بالهجر ونحوه مَن يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجاباً أو استحباباً، فهم بين فعل المنكر، أو ترك النهي عنه، وذلك فعْلُ ما نُهوا عنه، وتَرْكُ ما أُمِرُوا به. فهذا هذا. ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. والله سبحانه أعلم. (مجموع الفتاوى 28/203-213)
الخلاصة:
41- الفوائد التي نستفيدها من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في حكمة الهجر.
*ونستفيد من كلام شيخ الإسلام السابق ما يلي:
أن لهجر المبتدع أو العاصي حكم عظيمة في الشرع منها:
1- تأديب المهجور وزجره ووعظه وتقويمه، قاله ابن القيم في الزاد في معرض تعداده للأحكام والحكم المستفادة من غزوة تبوك:
"وفيه دليل أيضاً على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المراد تأديبه لا إتلافه". (زاد المعاد 3/3578)(207/53)
2- تقليل البدعة واحتواؤها وتحذير الناس من شرها. وذلك أن المبتدع متى ما هُجِرَ كان شأنه كالبعير الأجرب الذي يعزل عن السليمة حتى يبرأ ولا يعدي غيره.
3- البعد بالنفس عن المبتدع حتى لا تقع شبهته، وبدعته في نفس المجالس، والزائر له، فكم من حاذق وعالم جالس أصحاب البدع فتأثر بهم!!
4- إنه امتثال لأمر الله الذي أمرنا باجتناب أماكن المعصية والمجالس التي يخاض فيها في آيات الله كما قال سبحانه وتعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}.
5- أن الهجر يختلف حكمه بحسب قوة الهاجر وضعفه وكونه أنفع لبعض الناس وكون التأليف أنفع من الهجر أحياناً. ولذلك فإنه ينظر فيه إلى المنافع والمفاسد والقدرة وهذا يختلف من بلد إلى بلد، ومن مبتدع إلى آخر.
6- أن الهجر الشرعي هو ما كان لله سبحانه وتعالى، وليس لحظ النفس، والغضب لها، أو الحسد، والمنافسة للمهجور.
7- أن المهجور في الله يُواليَ بحسب طاعته، ويُعَادي بحسب معصيته، وأنه لا يكون حكمه حكم الكافر الذي يُعَادي مطلقاً، ولا تجوز موالاته وإن أحسن إليك، وأما المؤمن فإنه لا يجوز معاداته وإن أساء إليك، وأن هجره والتشديد عليه إنما هو بحسب بدعته، ومن أجل ردعه وإصلاحه وليس من أجل قتله وإبعاده.
42- الغاية التي ينتهي عندها الهجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"ومن كان مبتدعاً ظاهر البدعة وجب الإنكار عليه، ومن الإنكار المشروع أن يهجر حتى يتوب، ومن الهجر امتناع أهل الدين من الصلاة عليه لينزجر من يتشبه بطريقته، ويدعو إليه، وقد أمر بمثل هذا مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من الأئمة، والله أعلم". (الفتاوى 24/292).
وقال الإمام البخاري في صحيحه:(207/54)
"باب من لم يُسلِّم على من اقترف ذنباً ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته وإلى متى تتبين توبة العاصي؟ وقال عبدالله بن عمرو: لا تسلموا على شرِبَة الخمر.
وساق بإشارة، أن عبدالله بن كعب قال (سمعت كعب بن مالك يُحدث حين تخلف عن تبوك ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه برد السلام أم لا؟ حتى كملت خمسون ليلة، وآذن النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر).
وقال ابن حجر: قوله (باب من لم يسلم على من اقترف ذنباً، ومن لم يرد سلامه حتى تتبين توبته، وإلى متى تتبين توبة العاصي؟ أما الحكم الأول فأشار إلى الخلاف فيه وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع. قال الإمام النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي، وزاد وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال الله رقيب عليكم. وقال المهلب: ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية، وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع، وخالف في ذلك جماعة كما تقدم في الباب قبله.(207/55)
وقال ابن وهب: يجوز ابتداء السلام على كل أحد ولو كان كافراً، واحتج بقوله تعالى: {وقولوا للناس حسناً} وتعقب بأن الدليل أعم من الدعوى. وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة، ككثرة المزاح واللهو وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء ونحو ذلك، وحكى ابن رشد قال: قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء. قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك سبيل التأديب لهم والتبري منهم. وأما الحكم الثاني فاختلف فيه أيضاً فقيل: يستبرأ حاله سنة وقيل ستة أشهر وقيل خمسين يوماً كما في قصة كعب، وقيل ليس لذلك حد محدود بل المدار على وجود القرائن الدالة على صدق ما ادعاه في توبته، ولكن لا يكفي ذلك في ساعة ولا يوم، ويختلف ذلك باختلاف الجناية والجاني. وقد اعترض الداودي على من حده بخمسين ليلة أخذاً من قصة كعب فقال: لم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين، وإنما أخر كلامهم إلى أن أذن الله فيه، يعني فتكون واقعة حال لا عموم فيها.
وقال النووي: وأما المبتدع ومن اقترف ذنباً عظيماً ولم يتب منه فلا يسلم عليهم ولا يرد عليهم السلام كما قال جماعة من أهل العلم، واحتج البخاري لذلك بقصة كعب بن مالك انتهى. والتقيد بمن لم يتب جيد لكن في الإستدلال لذلك بقصة كعب نظر، فإنه ندم على ما صدر منه وتاب، ولكن أخر الكلام معه حتى قبل الله توبته، وقضيته أن لا يكلم حتى تقبل توبته، ويمكن الجواب بأن الإطلاع على القبول في قصة كعب كان ممكناً، وأما بعده فيكفي ظهور علامة الندم والإقلاع وأمارة صدق ذلك. (فتح الباري 11/42-43 طبع الريان).
43- هل يهجر أهل البدع العملية كأهل بدعة (السماع) الصوفي.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"وقال الشافعي رحمه الله: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه (التغبير) يصدون به الناس عن القرآن.(207/56)
وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقال: هو محدث أكرهه، قيل له: إنه يرق عليه القلب، فقال: لا تجلسوا معهم، قيل له: أيهجرون؟ فقال: لا يبلغ بهم هذا كله. فبين أنه بدعة لم تفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في مصر، ولا في العراق ولا خراسان. ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف". (الفتاوى 11/ 592).
ومعنى هذا أن الإمام أحمد رحمه الله رأى أن هذه بدعة صغيرة لا تستلزم الهجران كله.
بل رأى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن بعض الشيوخ ممن حضروا هذا السماع كانوا من الشيوخ ممن حضروا هذا السماع كانوا من المشايخ الصالحين ويرى شيخ الإسلام أنهم أخطئوا في اجتهادهم والله يغفر لهم. وهذا قوله في ذلك:
"والذين حضروا هذا السماع من المشايخ الصالحين شرطوا له شروطاً لا توجد إلا نادراً، فعامة هذا السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطأوا والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة وإن كانوا معذورين". (الفتاوى 11/597).
*وهذا كما قدمنا في بدعة التصوف إذا كان هؤلاء من أهل هذه البدعة العملية فقط فأما إذا كانوا من أهل البدعة المركبة فجمعوا مع السماع فساد الإعتقاد كالقول (بوحدة الوجود)، وهو زندقة وكفر، أو القول (بالحقيقة المحمدية) فهذا كفر أكبر مخرج من الملة، أو القول بأن الأولياء يتصرفون في الكون، وأنهم يُدعَون من دون الله، فمثل هؤلاء يجب فيهم ما يجب في أشباههم من الزنادقة الملحدين، والمبتدعة الضالين.
44- ثالثاً: حُكم الصلاة خلف أهل البدع.
اعلم أن خلاصة أقوال أهل العلم وسلف الأمة في ذلك ما يأتي:
1- أن الصلاة لا تجوز خلف الكافر الأصلي والكافر المرتد، ولا من أقيمت عليه الحجة بكفره عينا وشهد أهل العلم بذلك، وهذا بمثابة الإجماع.
2- أن ترك الصلاة خلف المستور ومن لم تُعْرَف عقيدته بدعة، وأنه لم يقل أحد من السلف إنه لا يجوز الصلاة إلا خلف من عُرِفَتْ عقيدته.(207/57)
3- أن الصلاة جائزة ومشروعة خلف المبتدع الذي لم يُكَفَّرْ ببدعته (حسب الضوابط في الفقرة الأولى)، وأن هذا هو الذي جرى عليه سلف الأمة وعلماؤُها.
وإليك أقوال أهل العلم في ذلك:
45- رأي الإمام البخاري رحمه الله في الصلاة خلف المبتدع.
قال: باب إمامة المفتون والمبتدع.
وَعَلَّقَ قَوْل الحسن: (صلِّ وعليه بدْعَتُهُ)، وأورد حديث عبيدالله بن عدي بن خيار: [أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج؟! فقال: الصلاة أحسنُ ما يَعْمَلُ الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم]. (صحيح البخاري كتاب الأذان 56).
واستدلاله بهذا الحديث موافق للترجمة تماماً، وذلك أن الخارجين على إمام الهدى عثمان بن عفان رضي الله عنه قد كانوا بُغَاةً أشراراً فُجَّاراً حصروا من اتفق المسلمون على خلافته، ونَقَضُوا عهده، ووثبوا إلى محرابه، وهو سلطانه محراب النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد أجاز عثمان رضي الله عنه الصلاة خلفهم، بل أمر الناس بذلك خوفاً من تضييع الصلاة. ويبدو أن هذا هو رأي البخاري رحمه الله بدليل تعليقه قول الحسن رضي الله عنه.
46- تحقيق الإمام ابن حجر في الصلاة خلف المبتدع.
وقد حقق الإمام ابن حجر رحمه الله معنى قول عثمان رضي الله عنه: [الصلاة خير ما يعمل الناس.... الخ] فقال:(207/58)
"قوله (فإذا أحسن الناس فأحسن) ظاهرة أنه رَخَّصَ له في الصلاة معهم، وكأنه يقول: لا يضرك كونه مفتوناً، بل إذا أحسن فوافقه على إحسانه، واترك ما افْتُتِنَ به، وهو المطابق لسياق الباب، وهو الذي فهمه الداودي حتى احتاج إلى تقدير حذف في قوله إمام فتنة، وخالف ابن المنير فقال: يحتمل أن يكون رأي أن الصلاة خلفه لا تصح، فحاد عن الجواب بقوله إن الصلاة أحسن، لأن الصلاة التي هي أحسن هي الصلاة الصحيحة، وصلاة الخارجي غير صحيحة، لأنه إما كافر أو فاسق. انتهى. وهذا ما قاله نصرة لمذهبه في عدم صحة الصلاة خلف الفاسق، وفيه نظر، لأن سيفاً روى في الفتوح عن سهل بن يوسف الأنصاري، عن أبيه: قال: كره الناس الصلاة خلف الذين حصروا عثمان إلا عثمان فإنه قال: من دعا إلى الصلاة فأجيبوه. انتهى. فهذا صريح في أن مقصوده بقوله (الصلاة أحسن) الإشارة إلى الإذن بالصلاة خلفه، وفيه تأييد لما فهمه المصنف من قوله إمام فتنة، وروى سعيد بن منصور من طريق مكحول قال: قالوا لعثمان: إنا نَتَحَرَّجُ أن نصلي خلف هؤلاء الذين حصروك، فذكر نحو حديث الزهري، وهذا منقطع إلا أنه اعتُضِدَ.
قوله: (وإذا أساءوا فاجتنب) فيه تحذير من الفتنة والدخول فيها، ومن جميع ما ينكر من قول أو فعل أو اعتقاد، وفي هذا الأثر الحض على شهود الجماعة ولا سيما في زمن الفتنة لئلا يزداد تفرق الكلمة، وفيه أن الصلاة خلف من تكره الصلاة خلفه أولى من تعطيل الجماعة، وفيه رد على من زعم أن الجمعة لا يجزئ أن تقام بغير إذن الإمام." (فتح الباري 2/222).
قلت: لعل الإمام البخاري رحمه الله كان يرى كفر الجهمية على الخصوص من سائر أهل البدع، وذلك لشناعة أقوالهم كما ذكر ابن المبارك أيضاً: (إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نحكي كلام الجهمية) أي: لبلوغه الغاية في إنكار معاني أسمائه وصفاته.(207/59)
ولكن يجب أن يعلم أيضاً أن التجهم درجات، فربما وجد في التجهم من تأول بعض الآيات في الصفات، وقد يصل إلى النفي المحض، بل نفي النفي، ونفي الإثبات ممن يقول: لا أنفي ولا أثبت.
47- موقف الإمام ابن تيمية في حكم الصلاة خلف المبتدع.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الصلاة خلف أهل البدع، فقال:
"ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات ولا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صلى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: أنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يُعْلَمُ أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره، فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد رحمهما الله وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر، كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر، وليس هناك جمعة أخرى فهذه تُصَليَّ خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم. وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نُقِلَ ذلك عن أحمد رحمه الله أنه ذكر ذلك لمن سأله، ولم يقل أحمد رحمه الله أنه لا تصح إلا خلف من أعرف حاله.(207/60)
ولما قدم أبو عمر وعثمان بن مرزوق إلى ديار مصر، وكان ملوكها في ذلك الزمان مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع، وظهرت بالديار المصرية، أمر أصحابه ألا يصلوا إلا خلف من يعرفونه لأجل ذلك، ثم بعد موته فتحها ملوك السنة مثل صلاح الدين رحمه الله، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلو والسنة يكثر بها ويظهر.
فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة، وقد كان الصحابة رضوان اله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة رضي الله عنهم خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، وصلى مرة الصبح أربعاً، وجلده عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك.
وكان عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عُبَيْد وكان متهماً بالإلحاد وداعياً إلى الضلال." (الفتاوى 3/280-281).
وسُئلَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الصلاة خلف من يقول على المنبر: (إن الله تكلم بكلام أزلي قديم ليس بحرف ولا صوت فهل تسقط الجمعة خلفه؟ وعن الصلاة خلف من يأكل الحشيشة وعن الصلاة خلف المرازقة؟ فأجاز الصلاة خلف هؤلاء جميعاً؟ وقال:
"إذا كان الإمام مبتدعاً فإنه يصلى خلفه الجمعة، وتسقط بذلك، والله أعلم". (الفتاوى 23/351،356،361،370).
وقد بنى شيخ الإسلام رحمه الله هذا الحكم على الأصل الآتي حيث قال:(207/61)
"ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة:285) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.
والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنه، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يَسْبِ حريمهم، ولم يغنم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هم أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه.(207/62)
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع: [إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، وفي شهركم هذا] (البخاري:76) وقال صلى الله عليه وسلم: [كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه] (مسلم:2564) وقال صلى الله عليه وسلم: [من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله] (البخاري:391) وقال صلى الله عليه وسلم: [إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد أن يقتل صاحبه] (البخاري:31) وقال صلى الله عليه وسلم: [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] (البخاري:121) وقال صلى الله عليه وسلم: [إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما] (البخاري:6103) وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.
وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يُكَفَّرْ بذلك كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: [أنه قد شهد بدراً، وما يُدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟] وهذا في الصحيحين. وفيهما أيضاً من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير رضي الله عنه قال لسعد بن عبادة رضي الله عنه: إنك منافق، تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان، فأصلح النبي بينهم، فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا بل شهد للجميع بالجنة.(207/63)
وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قتل رجلاً بعد ما قال: لا إله إلا الله، وعَظَّمَ صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره، وقال: [يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكرر ذلك عليه، حتى قال أسامة: تمنيت إني لم أكن أسلمت إلا يومئذ]. ومع هذا لم يوجب عليه قوداً، ولا دية، ولا كفارة فإنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القاتل لظنه أنه قالها تعوذاً.
فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين، ونحوهم، وكلهم مسلمون كما قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} (الحجرات:9) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبَغْيِ بعضهم على بعض أخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.
ولهذا كان السلف مع القتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين، ولا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض، ويتوارثون، ويتناكحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه [أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يُعْطَ ذلك] وأخبر أن الله تعالى لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً.
وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم} قال [أعوذ بوجهك] {ومن تحت أرجلكم} قال [أعوذ بوجهك] {أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} قال [هاتان أهون].(207/64)
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء} (الأنعام:159) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: [عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة]، وقال: [الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد] (رواه الترمذي. انظر صحيح الترمذي (1758-1760)) وقال: [الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم] ( رواه الإمام أحمد، وذكره شيخنا الألباني في ضعيف الجامع (1477)، وأخرج أبو داود، والنسائي عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية. انظر صحيح الجامع (5701)).
48- خلاصة رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الصلاة خلف المبتدع.
فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ويوالي المؤمنين، ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإذا كان قادراً على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من أظهر البدع والفجور منعه.
وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه والأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: [يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا سواء فأقدمهم هجره، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً] (رواه الإمام مسلم 673،674).(207/65)
وإن كان في هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خُلِّفُوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا وُلِّى غيره بغير إذنه، وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة، والجماعة. جهلاً وضلالاً، وكان قد رَدَّ بدعة ببدعة.
وأما الذي صلى الجمعة خلف الفاجر فقد اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم، حتى قال أحمد بن حنبل رحمه الله في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين، لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف أهل الفجور والبدع، ولم يأمر الله تعالى أحداً إذا صلى كما أمر بحسب استطاعته أن يعيد الصلاة. وبهذا كان أصح قولي العلماء أن من صلى بحسب استطاعته أن لا يعيد، حتى المتيمم لخشية البرد ومن عدم الماء والتراب إذا صلى بحسب حاله، والمحبوس وذووا الأعذار النادرة، والمعتادة، والمتصلة والمنقطعة لا يجب على أحد منهم أن يعيد الصلاة إذا صلى الأولى بحسب استطاعته.
وقد ثبت في الصحيح أن الصحابة صلوا بغير ماء ولا تيمم لما فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل وأبلغ من ذلك أن من كان يترك الصلاة جهلاً بوجوبها لم يأمره بالقضاء، فعمر وعمار لما أجنبا، وعمر لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة لم يأمرهما بالقضاء، والمستحاضة لما استحاضت حيضة شديدة منكرة منعتها الصلاة والصوم لم يأمرها بالقضاء.(207/66)
والذين أكلوا في رمضان حتى يتبين لأحدهم الحبل الأبيض من الحبل الأسود لم يأمرهم بالقضاء، وكانوا قد غلطوا في معنى الآية، فظنوا أن قوله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} (البقرة:187) هو الحبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إنما هو سواد الليل وبياض النهار] (البخاري 1916) ولم يأمرهم بالقضاء، والمسيء في صلاته لم يأمره بإعادة ما تقدم من الصلوات، أو الذين صلوا إلى بيت المقدس بمكة والحبشة وغيرهم بعد أن نسخت (بالأمر بالصلاة إلى الكعبة)، وصاروا يصلون إلى الصخرة حتى بلغهم النسخ لم يأمرهم بإعادة ما صلوا، وإن كان هؤلاء أعذر من غيرهم لتمسكهم بشرع منسوخ.
وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله، هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ؟ على ثلاثة أقوال. في مذهب أحمد وغيره: قيل يثبت، وقيل لا يثبت، وقيل لا يثبت المبتدأ دون الناسخ، والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وما كنا معذبين حنى نبعث رسولاً} (الإسراء:15) وقوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (النساء:165) وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين] (رواه البخاري 7461).
فالمتأول والجاهل المعذور ليس حكمه حكم المعاند، والفاجر، بل جعل الله لكل شيء قدراً. أ.هـ (الفتاوى 3/282،288).
49- رابعاً: حكم شهادة أهل البدع.
قال الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين، وعمدة المفتين:
"في شهادة المبتدع جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يُكَفِّرون أحداً من أهل القبلة، ولكن اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه تكفير الذين ينفون علم الله تعالى بالمعدوم ويقولون: ما يعلم الأشياء حتى يخلقها، ونقل العراقيون عنه تكفير النافين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتأوله الإمام فقال: ظني أنه ناظر بعضهم، فألزمه الكفر في الحجاج، فقيل إنه كَفَّرَهُمْ ".(207/67)
قلت: أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو الجزئيات، فلا شك فيه، وأما من نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن فالمختار تأويله، وسننقل إن شاء الله تعالى عن نصه في (الأم) ما يؤيده، وهذا التأويل الذي ذكره الإمام حسنٌ، وقد تأوله الإمام الحافظ الفقيه الأصولي أبو بكر البيهقي رضي الله عنه وآخرون تأويلات متعارضة، على أنه ليس المراد بالكفر الإخراج من الملة وتحَتُّم الخلود في النار، وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ، واستدلوا بأنهم (لم) يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك. والله أعلم.
ثم من كُفِّرَ من أهل البدع لا تُقْبَلُ شهادته، وأما من لا يُكَفَّرُ من أهل البدع والأهواء فقد نص الشافعي رحمه الله في (الأم) و(المختصر) على قبول شهادتهم إلا الخطابية، وهم قوم يَرَوْن جواز شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول: لي على فلان كذا، فيصدقه بيمين أو غيرها ويشهد له اعتماداً على أنه لا يكذب هذا نصه. وللأصحاب فيه ثلاث فرق: فرقة جرت على ظاهر نصه، وقبلت شهادة جميعهم، وهذه طريقة الجمهور، ومنهم ابن القاص، وابن أبي هريرة، والقضاة ابن كج، وأبو الطيب، والروياني، واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم، ولم يظهر منهم ما يسقط الثقة بقولهم، وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف رضي الله عنهم، لأنه أقدم عليه عن اعتقاد لا عن عداوة وعناد، قالوا: ولو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول الشافعي بأن قال: سمعت فلاناً يقر بكذا لفلان، أو رأيته أقرضه قُبِلَتْ شهادته.(207/68)
وفرقة منهم الشيخ أبو حامد، ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع، وردوا شهادة أهل الأهواء كلهم، وقالوا هم بالرد أولى من الفسقة. وفرقة ثالثة توسطوا فردوا شهادة بعضهم دون بعض، فقال أبو اسحاق: من أنكر إمامة أبي بكر رضي الله عنه ردت شهادته لمخالفته الإجماع، ومن فضل علياً على أبي بكر رضي الله عنهما لم ترد شهادته، ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة، ويقذفون عائشة رضي الله عنها، فإنها محصنة كما نطق به القرآن وعلى هذا جرى الإمام الغزالي، والبغوي، وهو حسن. وفي (الرقم) أن شهادة الخوارج مردودة لتكفير أهل القبلة.
قلت (أي النووي رحمه الله): الصواب ما قالته الفرقة الأولى، وهو قبول شهادة الجميع فقد قال الشافعي رحمه الله في الأم: ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تبايناً شديداً، واستحل بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادماً: منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم، فلم نعلم أحداً من سلف الأمة يقتدي به، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم. هذا نصه بحروفه وفيه التصريح بما ذكرنا، وبيان ما ذكرناه في تأويل تكفير هذا القائل بخلق القرآن. ولكن قاذف عائشة رضي الله عنها كافر، فلا تقبل شهادته، ولنا وجه (أن) الخطابي (أي من كان من فرقة الخطابية، وهي إحدى فرق الغلاة، الروافض الذين يستحلون الكذب، ومن حلف لهم بالإمام قبل قوله مطلقاً، ولو كان فيه ادعاء على غيره بدم، أو مال!!!) لا تقبل شهادته وإن بين ما يقطع لاحتمال اعتماده قول صاحبه". (روضة الطالبين 11/239،241).(207/69)
*وقد ذهب الإمام ابن القيم رحمه الله إلى قبول شهادة أهل البدع ما لم يكفروا ببدعتهم أو يستحلوا الكذب.. وتأول رحمه الله كلام الإمام أحمد وغيره في رد شهادة أهل البدع بأن مقصوده إنما كان من باب الزجر عن بدعهم لا أن هذا هو حكمهم.
قال رحمه الله في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية:
*الحكم بشهادة الفساق، وذلك في صور:
*إحداها: الفاسق باعتقاده، إذا كان متحفظاً في دينه، فإن شهادته مقبولة وإن حكمنا بفسقه، كأهل البدع والأهواء الذين لا نكفرهم، كالرافضة والخوارج والمعتزلة ونحوهم، هذا منصوص الأئمة.
*قال الشافعي: أقبل شهادة أهل الأهواء بعضهم على بعض، إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالشهادة لموافقيهم على مخالفيهم.
ولا ريب أن شهادة من يكفر بالذنب ويعد الكذب ذنباً أولى بالقبول ممن ليس كذلك، ولم يزل السلف والخلف على قبول شهادة هؤلاء وروايتهم.
وإنما منع الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته والصلاة خلفه هجراً له وزجراً لينكف ضرر بدعته عن المسلمين، ففي قبول شهادته وروايته والصلاة خلفه واستقضائه وتنفيذ أحكامه رضىً ببدعته، وإقراراً له عليها، وتعريض لقبولها منه.
*قال حرب: قال أحمد: لا تجوز شهادة القدرية والرافضة وكل من دعا بدعة ويخاصم عليها.
*وقال إسحاق ابن منصور، قلت لأحمد: كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلاً لا يستحل شهادة الزور، قال أحمد: ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة.
*وقال الميموني: سمعت أبا عبدالله يقول: من أخاف عليه الكفر مثال الروافض والجهمية لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم.
خامساً: أحكام الرواية عن المبتدع.
50- مواطن الإختلاف والاتفاق عند علماء الحديث في حكم قبول رواية المبتدع.
قال البغوي في شرح السنة:(207/70)
"وكذلك اختلفوا في رواية المبتدعة وأهل الأهواء فقبلها أكثر أهل الحديث، إذا كانوا فيها صادقين، فقد حدَّث محمد بن اسماعيل عن عباد بن يعقوب الرواجني، وكان محمد بن اسحاق بن خزيمة يقول: حدثنا الصدوق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب!!
واحتج أيضاً البخاري في (الصحيح) بمحمد بن زياد الألهاني، وحزير بن عثمان الرحبي، وقد اشتهر عنهما النصب، واتفق البخاري ومسلم على الإحتجاج بأبي معاوية محمد بن خازم الضرير، وعُبيد الله بن موسى، وقد اشتُهِرَ عنهما الغُلُو.
وأما مالك بن أنس فيقول: لا يؤخذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هذا الإختلاف في قبول رواية هؤلاء الحاكم أبو عبدالله الحافظ في كتابه.
وسئل أحمد بن حنبل: يكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: نعم إذا لم يكن يدعو إليه، ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعياً فلا" (شرح السنة للبغوي 1/248،249).
وقال الذهبي رحمه الله في ميزان الإعتدال عند ترجمته لأبان بن تغلب الكوفي. قال:
"أبان بن تغلب الكوفي شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته."
وقد وثقه أحمد بن حنبل، وابن معين وابن أبي حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيع، وقال السعدي: زائغ مجاهر.
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة؟
وجوابه أن البدعة على ضربين. فبدعة صغرى كغلو التشيع (أي في زمن الصحابة، كان من تكلم في عثمان، والزبير، وطلحة، ومعاوية يعتبرونه شيعياً غالباً) كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رُدَّ حديث هؤلاء لذهب جمله من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة.(207/71)
ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعوة إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يُقبل نقل من هذا حاله؟! حاشا وكلا. فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم، هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه وتعرض لسبهم. والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال مُعثَّر (ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما) (ميزان الإعتدال 1/5،6).
51- وخلاصة مذهب المحدثين في قبول رواية المبتدع.
1- منهم من يرى قبول رواية المبتدع إذا لم يكن رأساً في البدعة كما روى الخطيب البغدادي عن علي بن الحسن بن شقيق أنه قال لعبدالله بن المبارك سمعت من عمرو بن عبيد فقال بيده هكذا: أي كثرة، قلت له فلم لا تسميه وتسمي غيره من القدرية: قال:لأن هذا كان رأساً؟ (الكفاية ص 203).
2- ومنهم من رأي الرواية عن صاحب البدعة الصغيرة التي لا تبلغ حد الكفر كما روى عن الإمام أحمد في قبول رواية المرجئة لأنه لم ير بدعتهم كبيرة.
3- واتفق جمهور المحدثين على أن أهل الأهواء المكفرة لا تقبل روايتهم كما قال الإمام الحافظ الذهبي رحمه الله:
"البدعة على ضربين: فبدعة صغرى.. وبدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعوة إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة". (ميزان الاعتدال 1/6).
4- واتفقوا جميعاً وأجمعوا على أن شرط قبول الرواية الصدق من كل أحد سواء كان صاحب بدعة أم لا. فالكذاب مردود الرواية ولو كان من أحسن الناس اعتقاداً.(207/72)
وفي تهذيب التهذيب للإمام ابن حجر رحمه الله أن البرتي ذكر في الطبقات أن الأمام مالك رحمه الله سئل كيف رويت عن داود بن الحصين، وثور بن زيد وذكر غيرهما وكانوا يرمون بالقدر؟ فقال: كانوا لأن يخروا من السماء إلى الأرض أسهل عليهم من أن يكذبوا كذبة. أ.هـ (تهذيب التهذيب 2/29).
ولذلك قال المحقق العالم المحدث الشيخ أحمد شاكر:
"والعبرة في الرواية بصدق الراوي، وأمانته، والثقة بدينه وخلقه، والمتتبع لأحوال الرواية يرى كثيراً من أهل البدع موضعاً للثقة والإطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيراً منهم لا يوثق بأي شيء يرويه". (الباعث الحثيث ص 111،112).
وقد كان مذهب الإمام ابن حجر العسقلاني أمير المؤمنين في الحديث رحمه الله أن المبتدع إذا كان داعية لبدعته فلا يقبل، ولكن يقبل إذا لم يكن داعية، أو كان داعية وتاب، أو كان داعية لكن اعتضدت روايته بمتابع. (هدى الساري ص 483).
52- توصيف البدع التي رمي بها بعض الرواة.
قال ابن حجر في مقدمته هدى الساري:
"والإرجاء بمعنى التأخير، وهو عندهم على قسمين: منهم من أراد به تأخير القول في الحكم في تصويب إحدى الطائفتين اللذين تقاتلوا بعد عثمان، ومنهم من أراد تأخير القول في الحكم على من أتى الكبائر وترك الفرائض بالنار، لأن الإيمان عندهم الإقرار والإعتقاد، ولا يضر العمل مع ذلك.
والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه، ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي فإن أضاف إلى ذلك السب، أو التصريح بالبغض فغال في الرفض. وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو.
والقدري من يزعم أن الشر فعل العبد وحده.
والجهمي من ينفي صفات الله تعالى التي أثبتها الكتاب والسنة ويقول إن القرآن مخلوق.
والنصب بغض علي وتقديم غيره عليه.
والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم.(207/73)
والإباضية منهم أتباع عبدالله بن أباض.
والقعدية الذين يزينون الخروج على الأئمة، ولا يباشرون ذلك.
والواقف في القرآن من لا يقول مخلوق ولا ليس بمخلوق". (هدي الساري ص 483).
53- أسماء الرواة الذين أخرج لهم البخاري ومسلم أو أحدهما وقد رمي كل منهم ببدعة من أصول البدع.
وقد سمى السيوطي أسماء من رمي ببدعة (ولا شك أن بعض هؤلاء نوزع في نسبة البدعة إليهم إلا أنه قد صح في الجملة في عدد كثير منهم، ومعلوم أن منهج أهل الحديث هو قبول رواية المبتدع ما لم يكفر ببدعة، أو يستحل الكذب أو كان داعياً إلى بدعته عند بعضهم) وجاءت روايته في البخاري ومسلم أو أحدهما. فكانت على النحو التالي:
أ- الذين رموا بالقدر:
1) ثور بن زيد المدني 2) ثور بن يزيد الحمصي 3) حسان بن عطية المحاربي 4) الحسن بن ذكوان 5) داود بن الحصين 6) زكريا بن إسحاق 7) سالم بن عجلان 8) سالم بن مسكين 9) سيف بن سليمان المكي 10) شبل بن عباد 11) شريك بن أبي نمر 12) صالح بن كيسان 13) عبدالله بن عمرو 14) أبو معمر عبدالله بن أبي لبيد 15) عبدالله بن أبي نجيح 16) عبدالأعلى بن عبدالأعلى 17) عبدالرحمن بن إسحاق الدني 18) عبدالوارث بن سعيد التنوري 19) عطاء بن أبي ميمونة 20) العلاء بن الحارث 21) عمرو بن زائدة 22) عمران بن مسلم القصير 23) عمير بن هاني 24) عوف الأعرابي 25) كهمس بن المنهال 26) محمد بن سواء البصري 27) هارون بن موسى الأعور النحوي 28) هشام الدستوائي 29) وهب بن منبه 30) يحيى بن حمزة الحضرمي.
ب- والذين رموا بالتشيع:(207/74)
إسماعيل بن أبان 2) إسماعيل بن زكريا الخلقاني 3) جرير بن عبدالحميد 4) أبان بن تغلب الكوفي 5) خالد بن مخلد القطواني 6) سعيد بن فيروز أبو البختري 7) سعيد بن أشوع 8) سعيد بن عفير 9) عباد بن العوام 10) عباد بن يعقوب 11) عبدالله بن عيسى بن عبدالرحمن بن أبي ليلى 12) عبدالرزاق بن همام 13) عبدالملك بن أعين 14) عبيدالله بن موسى العبسي 15) عدي بن ثابت الأنصاري 16)علي بن الجعد 17)علي بن هاشم بن البريد 18) الفضيل بن دكين 19) فضيل بن مرزوق الكوفي 20) فطر بن خليفة 21) محمد بن جحاده الكوفي 22) محمد بن فضيل بن غزوان 23) مالك بن إسماعيل أبو غسان 24) يحيى بن الخراز، هؤلاء رموا بالتشيع وهو تقديم علي على الصحابة.
ج- والذين قالوا بخلق القرآن:
بشر بن السرى، ورمى برأي جهم وهو نفي صفات الله تعالى والقول بخلق القرآن.
د- والذين رموا بالخروج:
1)عكرمة مولى ابن عباس (قال ابن حجر: "والذي أنكر عليه مالك إنما هو بسبب رأيه على أنه لم يثبت عنه من وجه قاطع أنه رأى ذلك، وإنما كان يوافقه في بعض المسائل، فنسبوه إليهم، وقد برأه أحمد والعجلي من ذلك فقال في كتاب الثقات له "عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما مكي تابعي ثقة بريء مما يرميه من الحرورية" وقال ابن جرير: "لو كان كل من ادعى عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك لزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما فيهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه" هدى الساري ص 428) 2) الوليد بن كثير، وهؤلاء الحرورية وهم الخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرءوا منه ومن عثمان وذويه وقاتلوهم.
هـ- ومن رمي بالوقف بالقرآن:
علي بن أبي هاشم رمي بالوقف، وهو أن لا يقول القرآن مخلوق.
و- وممن رمي بالخروج قولاً لا فعلاً:
عمران بن حطان من القعدية، الذين يرون الخروج على الأئمة ولا يباشرون ذلك.
ز- والذين اتهموا بالإرجاء:(207/75)
وهم: 1) إبراهيم بن طهمان 2) أيوب بن عائذ الطائي 3) ذر بن عبدالله المرهبي 4) شبابة بن سوار 5) عبدالحميد بن عبدالرحمن أبو يحيى الحماني 6) عبدالمجيد بن عبدالعزيز بن أبي رواد 7) عثمان بن غياث البصري 8) عمر بن ذر 9) عمر بن مرة 10) محمد بن خازم أبو معاوية الضرير 11) ورقاء بن عمر اليشكري 12) يحيى بن صالح الوحاضي.
ح- الذين اتهموا بالنصب وهو بغض علي رضي الله عنه:
1) إسحاق بن سويد العدوي 2) بهز بن أسد 3) حريز بن عثمان 4) حصين بن نمير الواسطي 5) خالد بن سلمة الفأفاء 6) عبدالله بن سالم الأشعري 7) قيس بن أبي حازم (انظر هدى الساري 483،484).
وممن أخرج لهم مسلم أيضاً دون البخاري وهم من أهل الأهواء جعفر بن سليمان الضبعي البصري. قال عنه الذهبي في السير:
" كان من عباد المتشيعة، وعلمائهم، وقد حج وتوجه إلى اليمن فصحبه عبدالرزاق وأكثر عنه، وبه تشيع". (السير 8/198).
ومعلوم أن نسبة هذين الفاضلين إلى التشيع إنما هو بمعنى تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وأما من سب الشيخين فهو رافضي غال وبدعته كبيرة ولا تقبل روايته.
54- رأي الخطيب البغدادي في الرواية عن أهل البدع.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في بيان مذاهب أهل الحديث في قبول رواية المبتدع:
"اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة، وفي الإحتجاج بما يروونه، فمنعت طائفة من السلف ذلك لعلة أنهم كفار عند من ذهب إلى تكفير المتأولين، وفساق عند من لم يحكم بكفر متأول، وممن يروى عنه ذلك مالك بن أنس رحمه الله.
وقال من ذهب إلى هذا المذهب: إن الكافر والفاسق بالتأويل بمثابة الكافر المعاند والفاسق العامد فيجب أن لا يقبل خبرهما ولا تثبت روايتهما.(207/76)
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى قبول أخبار أهل الأهواء الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب والشهادة لمن وافقهم بما ليس عندهم فيه شهادة، وممن قال بهذا القول من الفقهاء أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله فإنه قال:
"وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم" وحكي أن هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، وروي مثله عن أبي يوسف القاضي.
وقال كثير من العلماء: تقبل أخبار غير الدعاة من أهل الأهواء، فأما الدعاة فلا يحتج بأخبارهم، وممن ذهب إلى ذلك عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل.
وقال جماعة من أهل النقل والمتكلمين: أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة، وإن كانوا كفاراً وفساقاً بالتأويل (الكفاية في علم الرواية ص 120،121).
وكأن الخطيب البغدادي رحمه الله رجح قول من يقول أنه تقبل رواياتهم إذا علم منهم الصدق والدين والأمانة في النقل حيث يقول:(207/77)
"والذي يعتمد عليه في تجويز الإحتجاج بأخبارهم ما اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم، ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك، لما رأوا من تحرّيهم الصدق، وتعظيمهم الكذب، وحفظهم أنفسهم من عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم، ويتعلق بها مخالفوهم في الإحتجاج عليهم، فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج، وعمرو بن دينار، وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع، وكان عكرمة أباضياً، وابن أبي نجيح معتزلياً، وعبدالوارث بن سعيد وشبل بن عباد وسيف بن سليمان وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين كانوا قدرية، وعلقمة بن مرثد وعمرو بن مرة ومسعر بن كدام، كانوا مرجئة، وعبيدالله بن موسى وخالد بن مخلد وعبدالرزاق بن همام، كانوا يذهبون إلى التشيع، في خلق كثير لا يتسع ذكرهم، دوّن أهل العلم قديماً وحديثاً رواياتهم، واحتجوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب" (الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص125).
55- لماذا لا تجوز الرواية عن الرافضة؟
ولم يجوز الأئمة عن الرافضة لاستحلالهم الكذب، قال الخطيب في الكفاية:
"أخبرنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي قال: ثنا علي بن عبدالعزيز البرذعي قال ثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم قال حدثني أبي قال أخبرني حرملة بن يحي قال سمعت الشافعي يقول لم أر أحداً من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة!!!
أخبرنا أحمد بن محمد الروياني قال ثنا محمد بن العباس الخزاز قال ثنا أبو أيوب سليمان بن اسحاق الجلاب، قال سمعت إبراهيم الحربي يقول: سمعت علي بن الجعد يقول سمعت أبا يوسف يقول أجيز شهادة أهل الأهواء أهل الصدق منهم إلا الخطابية والقدرية الذين يقولون إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون.(207/78)
قال أبو أيوب سئل إبراهيم عن الخطابية، فقال صنف من الرافضة، وصفهم إبراهيم فقال: إذا كان لك على رجل ألف درهم ثم جئت إلي فقلتَ إن لي على فلان من الناس ألف درهم وأنا لا أعرف فلاناً، فأقول لك وحق الإمام إنه هكذا؟ فإذا حلف ذهبتُ فشهدتُ لك هؤلاء الخطابية" (الكفاية ص 126).
ونقل السيوطي عن الذهبي أنه قال:
"اختلفت الناس في الإحتجاج برواية الرافضة على ثلاثة أقوال: المنع مطلقاً، والترخيص مطلقاً إلا من يكذب ويضع، والثالث: التفصيل بين العارف بما يحدّث وغيره. وقال أشهب: سئل مالك عن الرافضة، فقال: لا تكلموهم ولا ترووا عنهم. وقال الشافعي: لم أر أشهد بالزور من الرافضة. وقال يزيد بن هارون: يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة. وقال شرَيك: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة. وقال ابن المبارك: لا تحدّثوا عن عمروا بن ثابت فإنه كان يسب السلف" أ.هـ (تدريب الراوي 1/327،328).
56- الإمام أبو حنيفة يسوي بين بدعة الرافضة، ومن يأتي السلطان الظالم في عدم جواز قبول روايته.
روي الخطيب البغدادي الأثر الآتي عن الإمام أبو حنيفة رحمه الله:
"أخبرني أبو بشر محمد بن عمر الوكيل قال ثنا عمر بن أحمد بن عثمان الواعظ قال: ثنا محمد بن الحسن المقري قال: ثنا عبدالله بن محمود المروزي قال: ثنا أحمد بن مصعب قال: ثنا عمر بن إبراهيم قال: سمعت ابن المبارك يقول: سأل أبو عصمة أبا حنيفة ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتى السلطان طائعاً، أما إني لا أقول إنهم يكذبونهم أو يأمرونهم بما لا ينبغي ولكن وطئوا لهم حتى انقادت العامة بهم فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين" (الكفاية في علم الرواية ص 126).(207/79)
وهكذا جعل الإمام أبو حنيفة رحمه الله الشيعة الذين يرون تضليل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتدعة لا يجوز قبول روايتهم لطعنهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من يأتي السلاطين الظلمة طواعية أي دون أن يدعوهم ويضطروه معللاً ذلك أنهم وطأوا لهم مع ظلمهم.
سادساً: حكم الصلاة، والترحم على أهل البدع.
57- خلاصة أقوال أهل العلم وعلماء السلف في الصلاة والترحم على أهل البدع.
1- أن من مات كافراً أصلياً لم يدخل الإسلام، أو دخل في الإسلام ولكنه مات بعد ذلك شاهداً على نفسه بالكفر، أو حكم بردته وخروجه من الدين ومات على ذلك أو كفر ببدعته وأقيمت عليه الحجة بعينه، فإنه لا يجوز الصلاة عليه ولا الترحم عليه وهذا مجمع عليه.
2- أن من مات عاصياً، أو مبتدعاً ولو ببدعة لا تخرج من الدين، فإنه يشرع للإمام، وأهل العلم ترك الصلاة عليه زجراً للناس عن معصيته وبدعته والعياذ بالله.
3- أن ترك الإمام وبعض أهل العلم للصلاة والترحم على أهل البدع والمعاصي لا يعني تحريم ذلك على الجميع بل تجب الصلاة عليه فرض كفاية، ما دام أنه لم يمت كافراً من الذين حكم بخلودهم في النار خلوداً أبدياً والعياذ بالله.
58- ترك الصلاة والترحم من بعض العلماء على بعض أهل البدع لا يستلزم تحريم ذلك على الجميع.
واعلم أنه إذا قام بعض العلماء بترك الصلاة والترحم على أهل البدع فليس هذا مانعاً لغيرهم من عموم المسلمين من الصلاة عليهم وطلب الرحمة لهم لأن ما يفعله بعض العلماء قد يكون للزجر. وإذا كان صاحب البدعة لم يمت على بدعة تخرجه من الإسلام وتكفره فإنه يحسن بل يجب وجوباً كفائياً الصلاة عليه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً:(207/80)
"وإذا ترك الإمام، أو أهل العلم والدين (الصلاة) على بعض المتظاهرين ببدعة أو فجور زجراً عنها، لم يكن ذلك محرماً للصلاة عليه والإستغفار له، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن كان يمتنع عن الصلاة عليه وهو الغال، وقاتل نفسه والمدين الذي لا وفاء له: (صلوا على صاحبكم) وروي أنه كان يستغفر للرجل في الباطن وإن كان في الظاهر يدع ذلك زجراً عن مثل مذهبه، كما روي في حديث محلم بن جثامة" أ.هـ (الفتاوى 7/217).
وبالتالي فكل من مات ونحن نعتقد أنه مات على الإسلام وليس على الكفر فلا يترك الصلاة عليه، والترحم عليه، بل يجب وجوباً كفائياً.
وقد فسر شيخ الإسلام رحمه الله هذا الوجوب الكفائي بقوله:
"وأما من كان مظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر، فهؤلاء لا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين. ومن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل ما فعله، كما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، وعلى المدين الذي لا وفاء له، وكما كان كثير من السلف يمتنعون من الصلاة على أهل البدع كان عمله بهذه السنة حسناً. وقد قال لجندب بن عبدالله البجلي ابنه:إني لم أنم البارحة بشماً (أي أنه أكل كثيراً حتى يفسد الطعام في معدته، وهذا معنى البشم) فقال: أما إنك لو مت لم أصل عليك. كأنه يقول: قتلت نفسك بكثرة الأكل. وهذا من جنس هجر المظهرين للكبائر حتى يتوبوا، فإذا كان في ذلك مثل هذه المصلحة الراجحة كان ذلك حسناً، ومن صلى على أحدهم يرجو له رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة، كان ذلك حسناً، ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين أولى من تفويت إحداهما.(207/81)
وكل من لم يعلم منه النفاق وهو مسلم يجوز الإستغفار له، والصلاة عليه، بل يشرع ذلك، ويؤمر به. كما قال تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} (محمد:19) وكل من أظهر الكبائر فإنه تسوغ عقوبته بالهجر وغيره، حتى ممن هجره مصلحة له راجحة فتحصل المصالح الشرعية في ذلك بحسب الإمكان، والله أعلم" (الفتاوى 24/286،287).
فأما الذي تُترَك الصلاة عليه فهو الكافر بالكلية والذي يموت على كفر معلوم أو نفاق اعتقادي معلوم وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"وليس في الكتاب والسنة المطهرون للإسلام إلا قسمان: مؤمن أو منافق، فالمنافق في الدرك الأسفل من النار، والآخر مؤمن، ثم قد يكون ناقص الإيمان فلا يتناوله الإسم المطلق، وقد يكون تام الإيمان، وهذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله في مسألة الإسلام والإيمان، وأسماء الفساق من أهل الملة، لكن المقصود هنا أنه لا يُجعل أحد بمجرد ذنب أذنبه، ولا ببدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن، إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به وقد غلط في بعض ما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً" (انظر الفتاوى 12/489).
وهذا بحمد الله هو العدل الذي لا يجوز المحيد عنه.
والإمام أحمد رحمه الله وإن نقل عنه أنه يقول بكفر من قال بخلق القرآن، إلا أنه كذلك دعا للخليفة وغيره ممن ضربوه وحبسوه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم، ودعوتهم إياه إلى القول بخلق القرآن وهو كفر. ولا شك أنهم لو كانوا مرتدين وكفاراً أو أنه لا يستجيز الصلاة على صاحب البدعة مطلقاً ما ترحم على هؤلاء ولا استغفر لهم فإن الإستغفار للكفار لا يجوز ويحرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
وهذا الذي ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الراجح كذلك من مذهب الإمام الشافعي رحمه الله فإنه رأى الصلاة خلف أهل البدع وأنهم لا يكفرون.(207/82)
كما نقل ذلك النووي رحمه الله حيث يقول:
"وتكره أيضاً خلف المبتدع الذي يكفر بدعته، وأما الذي يكفر ببدعته، فلا يجوز الإقتداء به. وحكمه ما تقدم في غيره من الكفار. وعد صاحب (الإفصاح) من يقول بخلق القرآن، أو ينفي شيئاً من صفات الله تعالى، كافراً. وكذا جعل الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، والمعتزلة ممن يكفر. والخوارج، لا يكفرون. ويحكي القول بتكفير من يقول بخلق القرآن، عن الشافعي. وأطلق القفال، وكثيرون من الأصحاب، القول بجواز الإقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون. قال صاحب (العدة): وهو ظاهر مذهب الشافعي.
قلت (أي النووي): هذا الذي قاله القفال، وصاحب (العدة) هو الصحيح، أو الصواب. فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة، وغيرهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم. وقد تأول الإمام الحافظ الفقيه، أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين، ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على كفران النعم، لا كفر الخروج من الملة، وحملهم علي هذا التأويل، ما ذكرته من إجراء أحكام المسلمين عليهم. والله أعلم" (روضة الطالبين 1/355 طبع المكتب الإسلامي).
سابعاً: الموقف الشرعي من كتب ومصنفات أهل البدع أو من رمي ببدعة.
59- ضوابط الحكم على مصنفات وكتب من رمي ببدعة.
خلاصة موقف السلف وأهل السنة والجماعة من مصنفات أهل البدع كما يلي:
1- الكتب المؤلفة في البدعة نصراً وشرحاً وترويجاً لها لا يجوز إقتناؤها ولا تداولها بحال، وذلك ككتب الكفر والزندقة والإلحاد، والتصوف الفلسفي، والكلام واللادينية، ومن طلب الهداية في هذه الكتب ضل. كما قاله الإمام الشافعي في كتب الكلام أنها لا يجوز بيعها ولا تقع في الملك بالوراثة، وهكذا الحال في كتب الفسق والفجور والإباحية..(207/83)
2- يجوز اقتناء الكتب الموصوفة في الفقرة السابقة وذلك من أجل الرد على مؤلفيها أو تابعيها، وذلك من أجل إبطال منكر أصحابها كما ذكر الله مقالة اليهود ورد عليهم، وكما فعل أئمة الدين من الرد والإبطال لكتب الزنادقة والمبتدعة، وهذا ما فعله الإمام أحمد رحمه الله في الرد على الزنادقة، وابن تيمية رحمه الله في الرد على اليهود والنصارى والرافضة وسائر المبتدعة.
3- الكتب والمصنفات المؤلفة في علوم الدين كالتفسير والحديث والتاريخ والسيرة وغير ذلك، والتي صنف فيها بعض من رموا ببدعة فينظر:
أ) إن كان الغالب عليها الخير والصواب فيجب نشرها وترويجها، وهذه الكتب كفتح الباري شرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله، وهذا الكتاب هو الذي قيل فيه بأنه لم يسبق إلى مثله وأعجز مؤلفه من بعده عن تأليف مثله، وإن كان صاحبه قد رمي ببدعة الأشعرية والتخبط في عقيدته، ولكن الكتاب لا يوجد فيه إلا سقطات قليلة لا توهن منه ولا تضعف من شأنه... وهذه يمكن التنبيه عليها وبيانها... ومن حذر من مثل هذا الكتاب فهو جاهل جلف، أو ساع في هدم الدين وإبطال السنة. ومثل هذا أيضاً كتب الفقه للإمام أبي حنيفة، والنووي، وابن الجوزي، وابن حزم رحمهم الله.
ب) هناك بعض الكتب المؤلفة في فروع الدين كالتفسير لبعض من رمي ببدعة من علماء الإسلام ويغلب عليها الخير ولكن نسبة الدس فيها كبيرة، وقد عمد أصحابها إلى ترويج مذهبهم ونشره بطريق خفي، وذلك نحو تفسير الزمخشري رحمه الله، وتفسير ابن عطية، ولا شك أن تفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري ومثل هذه الكتب ينبغي للمبتدئ في طلب العلم ألا يبدأ بها، وهي نافعة لمن كان عنده إلمام بالمعتقد الصحيح وحقيقة بدعة الإعتزال ويعرف كيف يتحرز من العبارات الخفية التي تندس في هذه الكتب...
وهذه الكتب لغلبة الخير فيها ولعظيم الفائدة منها لا يحذر منها على الإطلاق ولكن ينظر إلى حال القارئ.(207/84)
وإليك بعض شهادات أهل العلم في مصنفات من رمي ببدعة.
60- أقوال شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كتب التصوف.
سئل شيخ الإسلام عن (إحياء علوم الدين) و(وقوت القلوب) فأجاب:
"أما كتاب (قوت القلوب) وكتاب (الإحياء) تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب: مثل الصبر والشكر، والحب والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك. وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقاً، وأبعد عن البدعة مع أن في (قوت القلوب) أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة.
وأما ما في (الإحياء) من الكلام في (المهلكات) مثل الكلام على الكبر، والعجب والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، ومنه ما هو منازع فيه.
و(الإحياء) فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين.
وقد أنكر أئمة الدين على (أبي حامد) هذا في كتبه، وقالوا: مرضه (الشفاء) أي كتابه (الشفاء). وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم.
وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، وهو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه (الفتاوى 10/551،552).
قلت: وهذا كلام في غاية الإنصاف والعدل، وشهادة بحق، ولم يأمر شيخ الإسلام بهجر الكتابين مطلقاً بل حذر مما فيهما من الشر، ولما كان هناك كثير من المسلمين متعلقين بكتاب (الإحياء) فإن الحافظ العراقي -رحمه الله- خرج أحاديثه من أجل التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وتصدى بعض السلفيين كذلك لتنقيته.(207/85)
61- رأي شيخ الإسلام في تفسيري الزمخشري وابن عطية.
قال شيخ الإسلام:
"و(تفسير ابن عطية وأمثاله) أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيراً ما ينقل من (تفسير محمد بن جرير الطبري) وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدراً، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف، لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب" (الفتاوى 13/361).
وفي كلام شيخ الإسلام من الفوائد ما يلي:
1- تفضيل شيخ الإسلام لـ (تفسير ابن عطية) على تفسير (الزمخشري) مما يدل على اطلاعه التام على التفسيرين كليهما، ولقد كنت بحمد الله ممن اطلع على هذين الكتابين واستفدت منهما فوائد لغوية وبلاغية عظيمة.. ولم يكن تفسير ابن عطية عندي عندما كان يدرسنا شيخنا الجليل الذي لم تر عيني مثله، ألا وهو أستاذي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وجزاه عنا أحسن الجزاء، وكنت أكتب عنه عندما كان يلقي علينا في الجامعة الإسلامية، ثم لما وقع تفسير ابن عطية في يدي وجدت طرفاً عظيماً مما يلقيه شيخنا في هذا الكتاب وخاصة الشواهد العربية لمعاني ألفاظ القرآن.
2- الزمخشري وابن عطية وإن كانا من المعتزلة إلا أنهما (كانا أقرب إلى أهل السنة) وهذا يفيدك أنه كان من أتباع الفرقة الواحدة من هم أقرب للسنة من بعض.
3- إنه يجب أن يعطى كل ذي حق حقه وذلك عند التقييم والسؤال. وهذا يهدم الأصل الذي أراد أن يؤصله بعض من كتب في هجر المبتدع أنه لا يجوز أن تذكر حسنة لمبتدع.
62- تقييم شيخ الإسلام رحمه الله لعدد من التفاسير.(207/86)
ولما سئل أيضاً عن أقرب التفاسير إلى الكتاب والسنة، الزمخشري أم القرطبي أم البغوي أم غير هؤلاء؟ أجاب:
"وأما (التفاسير) التي في أيدي الناس فأصحها (تفسير محمد بن جرير الطبري) فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين: كمقاتل بن بكير والكلبي، والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبدالرزاق، ووكيع وابن أبي قتيبة، وأحمد بن حنبل، واسحاق بن راهويه.
وأما (التفاسير الثلاثة) المسؤول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة (البغوي) لكنه مختصر من (تفسير الثعلبي) وحذف من الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك.
وأما (الواحدي) فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليداً لغيره. وتفسيره (تفسير الواحدي البسيط والوجيز) فيها فوائد جليلة وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها.
وأما (الزمخشري) فتفسيره محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة.
و(أصولهم خمسة) يسمونها التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وانفاذ الوعيد، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لكن معنى (التوحيد) عندهم يتضمن نفي الصفات، ولهذا سمي ابن التومرت أصحابه الموحدين، وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته.
ومعنى (العدل) عندهم يتضمن التكذيب بالقدر، وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على كل شيء، ومنهم من ينكر تقدم العلم والكتاب، لكن هذا قول أئمتهم، وهؤلاء منصب (هكذا بالأصل ولعل المعنى: وهذا ليس مذهب الزمخشري) الزمخشري، فإن مذهبه مذهب المغيرة بن علي، وأبي هاشم وأتباعهم. ومذهب أبي الحسن والمعتزلة الذين على طريقته نوعان: مشايخية وخشبية.(207/87)
وأما (المنزلة بين المنزلتين) فهي عندهم أن الفاسق لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافراً، فنزلوه بين منزلتين.
و(انفاذ الوعيد) عندهم معناه أن فساق الملة مخلدون في النار، لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك كما تقوله الخوارج.
و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف. وهذه الأصول حشا (بها) كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها، ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين.
و(تفسير القرطبي) خير منه بكثير، وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأبعد عن البدع، وإن كان كل من هذه الكتب لا بد أن يشتمل على ما ينقد، لكن يجب العدل بينها، وإعطاء كل ذي حق حقه.
و(تفسير ابن عطية) خير من تفسير الزمخشري وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها.
وثم تفاسير أخر كثيرة جداً كتفسير ابن الجوزي والماوردي. أ.هـ (الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية 13/385،388).
ويستفاد من إجابة شيخ الإسلام رحمه الله الفوائد الآتية:
1- أن الإسلام رحمه الله لم ينه عن قراءة هذه الكتب ولا شرائها أو بيعها مع العلم أن الزمخشري بث المذهب في ثنايا تفسيره بعبارة ناعمة خفية، كما قال شيخ الإسلام (وهذه الأصول أي أصول المعتزلة حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها، ولا المقاصد فيها). ومع ذلك فإن شيخ الإسلام لم يقل أنه يجب هجره مطلقاً ولا يجوز بيعه واقتناؤه.
2- إن شيخ الإسلام رحمه الله أعطى المؤلف حقه وقال في ختام تقييمه لهذه التفاسير: (لكن يجب العدل بينها وإعطاء كل ذي حق حقه)، وهذا هو الإنصاف، والشهادة بالحق على مصنفات من رمي ببدعة.
63- ثامناً: الموقف من العالم العابد العامل إذا وقع في بدعة.
قال الإمام الذهبي:(207/88)
"إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له زلَله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" (سير أعلام النبلاء 5/271).
قال هذا في ترجمة (قتادة بن دعامة) وقد رمى بالقدر حيث يقول عنه الذهبي: "وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مُدلس معروف بذلك، وكان يرى بالقدر، نسأل الله العفو. ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وقد بذل وسعه، لإله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل" (سير أعلام النبلاء 5/271).
وهذا الأصل الذي حققه الإمام الذهبي رحمه الله هو منهج أهل السنة والجماعة في الحكم على علماء الإسلام وقادة الأمة حتى من رمي منهم ببدعة أو من كان له تأويل مخالف للكتاب والسنة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأقواله في ذلك كثيرة مشهورة، ولو جمعنا كل ذلك لكان مجلداً كبيراً ولكن حسبنا أن ننقل بعض عباراته في ذلك.
من ذلك: ما ذكره عن أبي حامد الغزالي، والذي لعل الغث في كتبه أكثر من السمين، والخطأ أكثر من الصواب، وقد نسبت إليه بعض كتب الزندقة ومع ذلك فهذه شهادة شيخ الإسلام فيه:
64- شهادة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الغزالي.(207/89)
"وتجد أبا حامد الغزالي مع أن له من العلم بالفقه، والتصوف، والكلام والأصول، وغير ذلك، مع الزهد والعبادة وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك يذكر في كتاب (الأربعين) ونحوه كتابه: (المضنون به على غير أهله). فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق، وغاية المطالب وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم، ومن لم يعلم حقائق مقالات العباد، ومقالات أهل الملل يعتقد أن ذاك هو السر الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي، فإن أبا حامد كثيراً ما يحيل في كتبه على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد، ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبدالسلام فيما علقه عنه ينكر أن يكون (بداية الهداية) من تصنيفه، ويقول إنما هو تقول عليه، ومع أن هذه الكتب مقبولها أضعاف مردودها، والمردود منها أمور مجملة، وليس فيها عقائد، ولا أصول الدين.
وأما (المضنون به على غير أهله) فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه، وأما أهل الخبرة به وبحاله فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضاً، ولكن كان هو وأمثاله كما قدمت مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن كما قدمناه وأهل الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.(207/90)
ولهذا كان الشيخ (أبو عمرو بن الصلاح) يقول فيما رأيته بخطه: (أبو حامد كثر القول فيه ومنه. فأما هذه الكتب يعني المخالفة للحق (أي نحو الأربعين والمضنون به على غير أهله) فلا يلتفت إليها. وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلى الله).
ومقصوده: أنه لا يذكر بسوء لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لا سيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح، والعمل الصالح والقصد الحسن. وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية.
ولهذا: فقد رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي فإنه قال: (شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر" (الفتاوى 4/63-66).
قلت: فأنظر أخي المسلم في هذا الكلام الجليل لشيخ الإسلام رحمه الله في رجل لو ذهبت تعدد مقالاته وكتبه في البدعة وما يمكن أن يحكم على قائلها بالكفر لكان كثيراً جداً. ومع ذلك كان ما نقلته لك هو شهادة شيخ الإسلام رحمه الله.
65- كلام شيخ الإسلام في ابن حزم.
وأما ابن حزم العالم الجهبذ الفذ رحمه الله فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال فيه:
"وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة أهل السنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل (القدر) و(الإرجاء) ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك.(207/91)
لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات، وإن كان (أبو محمد بن حزم) في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره، لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى.
وبمثل هذا صار يذمه من الفقهاء والمتكلمين، وعلماء الحديث، باتباعه لظاهر لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات، ونحوه من عبادات القلوب. مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر.
وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الإطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء" (الفتاوى 4/18-20).
قلت: وهذه بلا شك شهادة إنصاف وعدل من شيخ الإسلام رحمه الله في شأن علم عظيم من أعلام الإسلام وهو الإمام ابن حزم رحمه الله ونقول رحمه الله وعفا عنا وعنه خلافاً للناشئة الجدد الذين ينكرون على من يقول ابن حزم رحمه الله ويعتقدون أنه مبتدع يجب هجره، ومن الهجر عندهم ترك الترحم عليه وكذلك ترك الإستفادة بعلمه وكتبه رحمه الله فلا حول ولا قوة إلا بالله.
66- شهادة شيخ الإسلام رحمه الله في أبي عبدالرحمن السلمي.
وهذا شيخ الإسلام ينصف (أبا عبدالرحمن السلمي) علماً بأنه من مؤسسي علم التصوف وهو أول من جمع تفسيراً لهم، وأول من كتب وترجم لطبقات الصوفية ولكن شيخ الإسلام عندما يعرض له يقول:(207/92)
"وكان الشيخ أبو عبدالرحمن السلمي رحمه الله فيه من الخير والزهد والدين والتصوف ما يحمله على أن يجمع من كلام الشيوخ والآثار التي توافق مقصوده كل ما يجده، فلهذا يوجد في كتبه من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خبرة له" (الفتاوى 5/578).
تاسعاً: تأييد أهل البدع إذا تصدوا لما هو شر من بدعتهم.
67- قاعدة في المصالح والمفاسد.
ولا شك أن منهج الأنبياء والرسل والصحابة وتابعيهم بإحسان هو تحصيل أعظم المنافع في الدين والدنيا، وارتكاب أخف الضررين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"والله تعالى بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها والنبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق بغاية الإمكان، ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان قال تعالى: {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون} (الأحقاف:19)"، وقد رتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه القاعدة العظيمة على ما يلي مما نحن بصدده من تأييد بعض أصحاب البدع دفعاً لما هو شر من بدعتهم حيث يقول: "وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين: من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً" (الفتاوى 13/96). (فانظر هذا، وقارن بين من يقال لهم: إن جماعة التبليغ مثلاً أسلم على يدي دعاتها خلق كثير وتاب على أيديهم كثير من العصاة، والزناة، وشاربو الخمور، فيقولون ما كانوا فيه خير مما دخلوا إليه!!!)
وقال أيضاً في من يدعو إلى الإسلام متخذاً الخرافات والأحاديث الموضوعة طريقاً للدعوة، وكذلك أهل الكلام المبتدع الذين يتخذون مناهجهم العقلية طريقاً لإثبات دين الإسلام فيقول شيخ الإسلام:(207/93)
"وهذه الأمور يُسلمُ بسببها ناس ويتوب بسببها ناس يكونون أضل من أصحابها، فينتقلون بسببها إلى ما هو خير مما كانوا عليه، كالشيخ الذي فيه كذب وفجور من الإنس قد يأتيه قوم كفار فيدعوهم إلى الإسلام فيسلمون ويصيرون خيراً مما كانوا، وإن كان قصد ذلك الرجل فاسداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم] وهذا كالحجج والأدلة التي يذكرها كثير من أهل الكلام والرأي، فإنه ينقطع بها كثير من أهل الباطل، وتقوى بها قلوب كثير من أهل الحق، وإن كانت في نفسها باطلة فغيرها أبطل منها، والخير والشر درجات، فينتفع بها أقوام ينتقلون مما كانوا عليه إلى ما هو خير منه" (الفتاوى 13/95).
وقال أيضاً في ضرب الأمثلة على هذه القاعدة:
"وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثماً بذلك، ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين، وذلك كان شراً بالنسبة إلى القائم بالواجب، وأما بالنسبة إلى الكفار فهو خير" (الفتاوى 13/95).
وضرب مثالاً آخر فقال:
"وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة في الترغيب والترهيب والفضائل والأحكام والقصص، قد يسمعها أقوام فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه، وإن كانت كذباً وهذا كالرجل يسلم رغبة في الدنيا ورهبة من السيف، ثم إذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الإيمان في قلبه، فنفس ذل الكفر الذي كان عليه وانقهاره ودخوله في حكم المسلمين خير من أن يبقى كافراً، فانتقل إلى خير مما كان عليه، وخف الشر الذي كان فيه. ثم إذا أراد الله هدايته أدخل الإيمان في قلبه" (الفتاوى 13/96).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله كذلك:(207/94)
"وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين، فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً، وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها وهي بدعة أهل السنة" (الفتاوى 13/97).
ولأجل هذا مدح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض الفئات من أهل الكلام كالكلابية، والكرامية، والأشعرية مع ما هو معلوم من بدعهم في التأويل وذلك لتصديهم لما هو شر منهم من الفرق كالمعتزلة والرافضة، وكذلك لردهم على عموم الكفار والملحدين والزنادقة لأن ما يدعون غيرهم إليه خير مما هم عليه من الكفر والبدع، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:
"... وكذلك متكلمة أهل الإثبات، مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة، والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة.
فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث. وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم..." (الفتاوى 4/12).(207/95)