ولما كانت الخوارق كثيرًا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى، كما يتوب من الذنوب : كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك ألا يقف عندها ولا يجعلها همته ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول : هنيئًا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول : خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة أو تمر به أنوار، أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله .
وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له : أنا من أمر الله، ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له الخوارق، /مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينًا أو شمالاً ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له : هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه : كيف تصوروا بصورة المردان ؟ ! فيرفع رأسه فيجدهم بلحي ويقول له : علامة أنك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان .(186/256)
وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى : { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } [ الفجر : 15، 16 ] قال الله تبارك وتعالى : { كَلَّا } [ الفجر : 17 ] ، ولفظ { كَلَّا } فيها زجر وتنبيه : زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرمًا له بها، ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهينًا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلى عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده ليستدرجه بذلك، وقد يحمى منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منها .
/وأيضًا [ كرامات الأولياء ] لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء، وإنما تحصل عند الشرك : مثل دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات : كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات، ومثل الغناء والرقص، لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدًا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد . فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] .(186/257)
فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 124 : 126 ] يعني تركت العمل بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكفل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة؛ ثم قرأ هذه الآية .
فصل
ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، فعليه أن يصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر، سواء كان إنسيًا أو جنيًا .
ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ببطن نخلة لما رجع من الطائف، وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ الأحقاف : 29 : 32 ] .(186/258)
وأنزل الله تعالى بعد ذلك : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 1-6 ] أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء .(186/259)
وقال غير واحد من السلف : كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال : أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانًا وكفرًا كما قال تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا } [ الجن : 6، 8 ] وكانت الشياطين ترمي بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا، وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا، كما قالوا : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا } [ الجن : 9 ] ، /وقال تعالى في الآية الأخرى : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 210-212 ] ، قالوا : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [ الجن : 10، 11 ] ، أي على مذاهب شتى، كما قال العلماء : منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا } [ الجن : 12 ] ، أخبروا أنهم لا يعجزونه : لا إن أقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ(186/260)
فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } [ الجن : 13، 14 ] أي الظالمون، يقال : أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار وظلم، { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [ الجن : 14ـ22 ] ، أي ملجأ ومعاذًا، { إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا } [ الجن : 23، 24 ] .
/ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وهم جن نصيبين، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود، وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن، وكان إذا قال : { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد .(186/261)
ولما اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال : ( لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علفًا لدوابكم ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لإخوانكم من الجن ) وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة، وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك، وقالوا : فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى .
ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الإنس والجن، وهذا أعظم قدرًا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام، فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك، ومحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم يأمرهم بما أمر الله به ورسوله، لأنه عبد الله ورسوله، ومنزلة العبد الرسول فوق منزلة النبي الملك .
وكفار الجن يدخلون النار بالنص والإجماع، وأما مؤمنوهم فجمهور/العلماء على أنهم يدخلون الجنة، وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول . لكن منهم النذر، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر .
والمقصود هنا أن الجن مع الإنس على أحوال :
فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس بذلك، فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه .
ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك، وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول : كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .(186/262)
ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل، كتمريضه /وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص : إما فاسق وإما مذنب غير فاسق، وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات : مثل أن يستعين بهم على الحج، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة، ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكروا به .
وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركًا يعبد الكواكب والأوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة، ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أو شيخ صالح، فيظن أنه صالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان، قال الله تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40، 41 ] .(186/263)
/ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له، ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون . فإن كان نصرانيًا واستغاث بجرجس أو غيره، جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به، وإن كان منتسبًا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين جاء في صورة ذلك الشيخ، وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك .
ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به، وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم نقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم، وإنما هو بتوسط الشيطان .
ولقد أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة، فقال : يرونني الجن شيئًا براقًا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه مايطلب منه الإخبار به، قال : فأخبر الناس به، ويوصلون إلى كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه .
وكان كثيرمن الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها وقال : إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة، كما /يدخل النار بحجر الطلق وقشور النارنج، ودهن الضفادع ، وغير ذلك من الحيل الطبيعية فيعجب هؤلاء المشايخ ويقولون : نحن والله لا نعرف شيئًا من هذه الحيل، فلما ذكر لهم الخبير إنكم لصادقون في ذلك، ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه لما تبين لهم الحق، وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله، فلا تحصل عند ما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية، فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه؛ لا من كرامات الرحمن لأوليائه .(186/264)
والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله وسلم على محمد سيد رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه صلاة وسلامًا نستوجب بهما شفاعته [ آمين ] .
/وقال الشيخ الإمام العالم العلامة، العارف الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه وأرضاه :
الحمد لله رب العالمين ، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا إله سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وهداه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين .
قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات
وإن كان اسم [ المعجزة ] يعم كل خارق للعادة في اللغة ، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره ـ ويسمونها : الآيات ـ لكن كثير من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل [ المعجزة ] للنبي، و [ الكرامة ] للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة .
فنقول : صفات الكمال ترجع إلى [ ثلاثة ] : العلم، والقدرة، والغنى، وإن شئت أن تقول : العلم، والقدرة . والقدرة إما على الفعل وهو التأثير، وإما على الترك وهو الغني، والأول أجود . وهذه الثلاثة لا تصلح على وجه الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علما، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين .(186/265)
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } [ الأنعام : 50 ] ، وكذلك قال نوح عليه السلام . فهذا أول أولى العزم، وأول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولى العزم كلاهما يتبرأ من ذلك . وهذا لأنهم يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم تارة بعلم الغيب كقوله : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يس : 48 ] ، و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } [ الأعراف : 187 ] وتارة بالتأثير، كقوله : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلًا } /إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا } [ الإسراء : 90 - 93 ] وتارة يعيبون عليه الحاجة البشرية، كقوله : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا } [ الفرقان : 7، 8 ] .(186/266)
فأمره أن يخبر أنه لا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الله، ولا هو ملك غني عن الأكل والمال، إن هو إلا متبع لما أوحى إليه، واتباع ما أوحى إليه هو الدين، وهو طاعة الله، وعبادته علما وعملا بالباطن والظاهر، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله تعالى فيعلم منه ما علمه إياه، ويقدر منه على ما أقدره الله عليه، ويستغنى عما أغناه الله عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة غالب الناس .
فما كان من الخوارق من [ باب العلم ] فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره . وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومنامًا، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحيا وإلهامًا، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى كشفًا ومشاهدات، ومكاشفات ومخاطبات : فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة، ويسمى ذلك كله [ كشفًا ] ، و [ مكاشفة ] أي كشف له عنه .
/وما كان من [ باب القدرة ] فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقًا ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه، كقوله : ( من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة ـ وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب ) . ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك .
وكذلك ما كان من [ باب العلم والكشف ] . قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المبشرات : ( هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ) ( وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنتم شهداء الله في الأرض ) .(186/267)
وكل واحد [ من الكشف والتأثير ] قد يكون قائمًا به، وقد لا يكون قائمًا به، بل يكشف الله حاله ويصنع له من حيث لا يحتسب، كما قال يوسف بن أسباط : ما صدق الله عبد إلا صنع له . وقال أحمد بن حنبل : لو وضع الصدق على جرح لبرأ . لكن من قام بغيره له من الكشف والتأثير فهو سببه أيضًا، وإن كان خرق عادة في ذلك الغير، فمعجزات الأنبياء وأعلامهم ودلائل نبوتهم تدخل في ذلك .
/وقد جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميع أنواع [ المعجزات والخوارق ] : أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل إخبار نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم بما يوافق ما عند أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم، وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم، ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء، تارة بما في أيديهم من الكتب الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر، وتارة بما يعلمه الخاصة من علمائهم، وفي مثل هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه .(186/268)
فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من [ باب العلم الخارق ] وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته، وزوال مملكة فارس والروم، وقتال الترك، وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في [ كتب دلائل النبوة ] ، و [ سيرة الرسول ] و [ فضائله ] و [ كتب التفسير ] ، و [ الحديث ] و [ المغازي ] مثل دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي، وسيرة ابن إسحاق، وكتب الأحاديث المسندة كمسند الإمام أحمد، والمدونة كصحيح البخاري، وغير ذلك مما / هو مذكور أيضًا في [ كتب أهل الكلام والجدل ] : كإعلام النبوة للقاضي عبد الجبار وللماوردى، والرد على النصارى للقرطبي، ومصنفات كثيرة جدًا، وكذلك ما أخبر عنه غيره مما وجد في كتب الأنبياء المتقدمين وهي في وقتنا هذا اثنان وعشرون نبوة بأيدي اليهود والنصارى، كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وكتاب شعيًا، وحبقوق، ودانيال، وأرميا وكذلك أخبار غير الأنبياء من الأحبار والرهبان وكذلك أخبار الجن والهواتف المطلقة، وأخبار الكهنة كسطيح وشق وغيرهما، وكذلك المنامات وتعبيرها : كمنام كسرى وتعبير الموبذان، وكذا أخبار الأنبياء المتقدمين بما مضى وما عبر هو من أعلامهم .
وأما [ القدرة والتأثير ] فإما أن يكون في العالم العلوي أو ما دونه، وما دونه إما بسيط أومركب، والبسيط إما الجو وإما الأرض، والمركب إما حيوان وإما نبات وإما معدن، والحيوان إما ناطق وإما بهيم، فالعلوي كانشقاق القمر، ورد الشمس ليوشع بن نون، وكذلك ردها لما فاتت عليًا الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم نائم في حجره ـ إن صح الحديث ـ فمن الناس من صححه كالطحاوي والقاضي عياض . ومنهم من جعله موقوفًا كأبي الفرج ابن الجوزي وهذا أصح . وكذلك معراجه إلى السموات .(186/269)
/وأما [ الجو ] فاستسقاؤه، واستصحاؤه غير مرة : كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره، وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .
وأما [ الأرض والماء ] فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومزادة المرأة .
وأما [ المركبات ] فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة، وفي أسفاره، وجراب أبي هريرة، ونخل جابر بن عبد الله، وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه، وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة .
وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل .
وكذلك من باب [ القدرة ] عصا موسى صلى الله عليه وسلم وفلق البحر والقمل والضفادع والدم، وناقة صالح، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى، كما أن من باب العلم إخبارهم بما يأكلون /وما يدخرون في بيوتهم .
وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها، وإنما الغرض التمثيل بها .
وأما المعجزات التي لغير الأنبياء من [ باب الكشف والعلم ] فمثل قول عمر في قصة سارية، و إخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلًا، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام .
و [ القدرة ] مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد، و سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها فإن تعداد هذا مثل المطر، وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس . وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله فمثل نصر الله لمن ينصره وإهلاكه لمن يشتمه .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=228 - TOP#TOPفصل(186/270)
الخارق كشفًا كان أو تأثيرًا إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها دينًا وشرعًا، إما واجب وإما مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكرًا، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهى تحريم أو نهى تنزيه كان سببًا للعذاب أو البغض، كقصة الذي أوتي الآيات فانسلخ منها : بلعام بن باعوراء، لكن قد يكون صاحبها معذورًا لاجتهاد أو تقليد أو نقص عقل أوعلم أو غلبة حال أو عجز أو ضرورة، فيكون من جنس برح العابد .
و [ النهي ] قد يعود إلى سبب الخارق وقد يعود إلى مقصوده، فالأول مثل أن يدعو الله دعاء منهيًا عنه اعتداء عليه . وقد قال تعالى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ الأعراف : 55 ] ومثل الأعمال المنهي عنها إذا أورثت كشفًا أو تأثيرًا . والثاني أن يدعو على غيره بما لا يستحقه أو يدعو للظالم بالإعانة، ويعينه بهمته كخفراء العدو وأعوان الظلمة من ذوي الأحوال؛ فإن كان صاحبه من عقلاء المجانين والمغلوبين غلبة /بحيث يعذرون، والناقصين نقصًا لا يلامون عليه كانوا برحية . وقد بينت في غير هذا الموضع ما يعذرون فيه وما لا يعذرون فيه . وإن كانوا عالمين قادرين كانوا بلعامية، فإن من أتى بخارق على وجه منهي عنه أو لمقصود منهي عنه، فإما أن يكون معذورًا معفوًا عنه كبرح، أو يكون متعمدًا للكذب كبلعام .
فتلخص أن الخارق [ ثلاثة أقسام ] : محمود في الدين، ومذموم في الدين، ومباح لا محمود ولا مذموم في الدين؛ فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة، وإن لم يكن فيه منفعة كان كسائر المباحات التي لامنفعة فيها كاللعب والعبث .(186/271)
قال أبو علي الجوزجاني : كن طالبًا للاستقامة لا طالبًا للكرامة . فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة . قال الشيخ السهروردي في عوارفه : وهذا الذي ذكره أصل عظيم كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبدًا نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئًا من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهمًا لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك، ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله /يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك بابا، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة تفننا، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا، والخروج من دواعي الهوى، وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب، ومن كوشف بصدق اليقين أغنى بذلك عن رؤية خرق العادات، لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين، فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقينًا . فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضع استغناء به، وتقتضي الحكمة كشف ذلك لآخر لموضع حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعدادًا وأهلية من الأول . فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة . ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك . وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة .
فتعلم هذا، لأنه أصل كبير للطالبين، والعلماء الزاهدين، ومشايخ الصوفية .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=228 - TOP#TOPفصل(186/272)
كلمات الله تعالى [ نوعان ] : كلمات كونية، وكلمات دينية . فكلماته الكونية هي : التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ) وقال سبحانه : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، وقال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [ الأنعام : 115 ] والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية .
و [ النوع الثاني ] الكلمات الدينية وهي : القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي : أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العبد عمومًا وخصوصًا من الأول العلم بالكونيات، والتأثير فيها، أي بموجبها .
فالأولى قدرية كونية والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما /أن الأولى تنقسم إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء وجلوسه على النار، وإلى تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنًا وظاهرًا، وإلى تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله؛ فيطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تقبل النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات . كما قبلت من الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات .(186/273)
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علمًا وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن وجود ذلك في حقه مأمورًا به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير الإنسان ناقصًا مذمومًا إما أن يجعله مستحقًا للعقاب، وإما أن يجعله محرومًا من الثواب، وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته وثوابه، وإما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلًا في الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم .
إذا عرف هذا فالأقسام ثلاثة : إما أن يتعلق بالعلم والقدرة أو بالدين /فقط، أو بالكون فقط .
فالأول : كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا } [ الإسراء : 80 ] فإن السلطان النصير يجمع الحجة والمنزلة عند الله، وهو كلماته الدينية، والقدرية، والكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء عليهم السلام تجمع الأمرين، فإنها حجة على النبوة من الله وهي قدرية . وأبلغ ذلك القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد صلى الله عليه وسلم على نبوته، ومجيئه من الخوارق للعادات، فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة .(186/274)
وأما القسم الثاني : فمثل من يعلم بما جاء به الرسول خبرًا وأمرًا ويعمل به ويأمر به الناس، ويعلم بوقت نزول المطر وتغير السعر، وشفاء المريض، وقدوم الغائب، ولقاء العدو، وله تأثير إما في الأناسي، وإما في غيرهم بإصحاح وإسقام وإهلاك، أو ولادة أو ولاية أو عزل . وجماع التأثير إما جلب منفعة كالمال والرياسة؛ وإما دفع مضرة كالعدو والمرض، أو لا واحد منهما مثل ركوب أسد بلا فائدة، أو إطفاء نار ونحو ذلك .
وأما الثالث : فمن يجتمع له الأمران؛ بأن يؤتي من الكشف /والتأثير الكوني ما يؤيد به الكشف والتأثير الشرعي، وهو علم الدين والعمل به، والأمر به، ويؤتي من علم الدين والعمل به، ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني، بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية، بحيث ينال من العلوم الدينية، ومن العمل بها، ومن الأمر بها، ومن طاعة الخلق فيها، ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذه أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وعمر وكل المسلمين .(186/275)
فهذا القسم الثالث هو مقتضى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] إذ الأول هو العبادة، والثاني هو الاستعانة، وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والخواص من أمته المتمسكين بشرعته ومنهاجه باطنًا وظاهرًا، فإن كراماتهم كمعجزاته لم يخرجها إلا لحُجّة أو حاجة، فالحجة ليظهر بها دين الله ليؤمن الكافر ويخلص المنافق ويزداد الذين آمنوا إيمانًا، فكانت فائدتها اتباع دين الله علمًا وعملًا، كالمقصود بالجهاد، والحاجة كجلب منفعة يحتاجون إليها كالطعام والشراب وقت الحاجة إليه، أو دفع مضرة عنهم ككسر العدو بالحصى الذي رماهم به فقيل له : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] ، وكل من هذين يعود إلى منفعة الدين كالأكل والشرب وقتال العدو والصدقة على /المسلمين، فإن هذا من جملة الدين والأعمال الصالحة .
وأما القسم الأول : وهو المتعلق بالدين فقط فيكون منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة، والتابعين وصالحي المسلمين، وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لابد أن يكون لهم حاجة أو انتفاعًا بشيء من الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون نقصًا، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصًا وقد لا يكون نقصًا، فإن كان لإخلاله بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصا وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصًا عن رتبة أصحاب اليمين المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسبب بالكونيات التي لا يكون عدمها ناقصًا لثواب لم يكن ذلك نقصًا، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافي أو يجىء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه .(186/276)
وأما القسم الثاني : و هو صاحب الكشف والتأثير الكوني فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصًا، وتارة لا له ولا عليه وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة، /وهذا الثاني بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبيًا، فيكون خير أهل الأرض، وقد يكون ظالمًا من شر الناس، وقد يكون ملكًا عادلًا فيكون من أوساط الناس، فإن العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها بالملك وأسبابه، فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنة روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جسمانية . وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء .
وذلك من وجوه :
أحدها : أن علم الدين طلبًا وخبرًا لا ينال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسل وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه إلا هم وأتباعهم .
الثاني : أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله، وصفوته وأحباؤه وأولياؤه، ولا يأمر به إلا هم .
/وأما التأثير الكوني : فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر تأثيره في نفسه وفي غيره، كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصًا بالصالحين أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون .
الثالث : أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة ولا يضره . وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة بل قد يضره كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 103 ] .(186/277)
الرابع : أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون، فإن لم يكن فيه فائدة؛ كالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة، والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر، فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله . وهو تحت القدرة والسلطان في الكون، مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام الحالة عند الناس بلا فائدة، فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالبا بغير الخوارق أكثر مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب أخرى، /وأما الآخر أيضًا فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين . والدين وحده موجب للآخرة بلا خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة كحال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق إنما هو مع الدين . وإلا فالخوارق وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثرًا ضعيفًا .
فإن قيل : مجرد الخوارق إن لم تحصل بنفسها منفعة لا في الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية .(186/278)
قلت : نحن لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارق في نفسه من غير فعل الناس، وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول أولا : الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر، والمطيع بها خيار بني آدم عقلا ودينًا،وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل فيها إلا جهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي والجبال ونحوهم ممن لا عقل له ولا دين .
/ثم نقول ثانيا : لو كان الخارق يناله من الرياسة والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكًا من الملوك، بل ملكه إن لم يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا التي ينالها الملوك بسياستهم و شجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد، فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة .
الخامس : أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير .(186/279)
وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات،وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها ـ كما يفعله مولهو الأحمدية ـ فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقى نفسه شقاء لا مزيد عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات، وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه لعقوبتهم /ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين ـ فهذا القدر إذا فعله الإنسان مع الناس ولم يكن عمله دينًا يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان للناس يحفظ أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من جنس عمل أولئك سواء .
ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه يحابي بذلك أقوامًا ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من هذه الأمة وغيرهم . وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله؛ لأن ما أمر الله به ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى .(186/280)
السادس : أن للدين علما وعملا إذا صح فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه،قال الله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2، 3 ] ، وقال تعالى : { إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } [ الأنفال : 29 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [ النساء : 66-68 ] ، وقال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [ يونس : 62 : 64 ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ثم قرأ قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] رواه الترمذي وحسنه من رواية أبي سعيد .
وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه ) فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوبه به يعلم سمعًا وبصرًا، وبه يعمل بطشًا وسعيًا، وفيه أنه يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف عنه ما يستعيذ به من المضار، وهذا باب واسع .(186/281)
وأما الخوارق فقد تكون، مع الدين، وقد تكون مع عدمه أو فساده أو نقصه .
/السابع : أن الدين هو إقامة حق العبودية وهو فعل ما عليك وما أمرت به، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية إذا لم يؤمر العبد بها، وإن كانت بسعى من العبد فإن الله هو الذي يخلقها بما ينصبه من الأسباب، والعبد ينبغي له أن يهتم بما عليه وما أمر به، وأما اهتمامه بما يفعله الله إذا لم يؤمر بالاهتمام به فهو إما فضول فتكون لما فيها من المنافع كالمنافع السلطانية المالية التي يستعان بها على الدين، كتكثير الطعام والشراب وطاعة الناس إذا رأوها، ولما فيها من دفع المضار عن الدين بمنزلة الجهاد الذي فيه دفع العدو وغلبته .
ثم هل الدين محتاج إليها في الأصل، ولأن الإيمان بالنبوة لا يتم إلا بالخارق أو ليس بمحتاج في الخاصة بل في حق العامة . هذا نتكلم عليه .
وأنفع الخوارق الخارق الديني وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر ،وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة " أخرجاه في الصحيحين . وكانت آيته هي دعوته وحجته بخلاف غيره من الأنبياء،ولهذا نجد كثيرًا من المنحرفين منا إلى العيسوية يفرون من القرآن، والقال إلى الحال، كما أن المنحرفين منا إلى الموسوية يفرون من الإيمان والحال إلى/ القال، ونبينا صلى الله عليه وسلم صاحب القال والحال، وصاحب القرآن والإيمان .
ثم بعده الخارق المؤيد للدين المعين له، لأن الخارق في مرتبة { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، والدين في مرتبة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، فأما الخارق الذي لم يعن الدين فإما متاع دنيا، أو مبعد صاحبه عن الله تعالى .(186/282)
فظهر بذلك أن الخوارق النافعة تابعة للدين حادثة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن جعلها هي المقصودة وجعل الدين تابعًا لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل فهو يشبه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة فإن ذلك مأمور به،وهو على سبيل نجاة وشريعة صحيحة .
والعجب أن كثيرًا ممن يزعم أن همه قد ارتفع وارتقى عن أن يكون دينه خوفًا من النار أو طلبًا للجنة، يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا، ولعله يجتهد اجتهادًا عظيمًا في مثله وهذا خطأ، ولكن منهم من يكون قصده بهذا تثبيت قلبه وطمأنينته وإيقانه بصحة طريقه وسلوكه، فهو يطلب الآية علامة وبرهانًا على صحة دينه، كما /تطلب الأمم من الأنبياء الآيات دلالة على صدقهم، فهذا أعذر لهم في ذلك .
ولهذا لما كان الصحابة رضي الله عنهم مستغنين في علمهم بدينهم وعملهم به عن الآيات بما رأوه من حال الرسول ونالوه من علم، صار كل من كان عنهم أبعد مع صحة طريقته يحتاج إلى ما عندهم في علم دينه وعمله .
فيظهر مع الأفراد في أوقات الفترات وأماكن الفترات من الخوارق مالا يظهر لهم ولا لغيرهم من حال ظهور النبوة والدعوة .
فصل
العلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة : حسية وعقلية وكشفية وسمعية، ضرورية ونظرية وغير ذلك، وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك، وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما يتبع منها وما لا يتبع في الأحكام الشرعية، أعني الأحكام الشرعية على العلم بالكائنات من طريق الكشف يقظة ومنامًا كما كتبته في الجهاد .
أما العلم بالدين وكشفه فالدين نوعان : أمور خبرية اعتقادية وأمور /طلبية عملية .(186/283)
فالأول : كالعلم بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل في ذلك إخبار الأنبياء وأممهم ومراتبهم في الفضائل، وأحوال الملائكة وصفاتهم وأعمالهم، ويدخل في ذلك صفة الجنة والنار وما في الأعمال من الثواب والعقاب، وأحوال الأولياء والصحابة وفضائلهم ومراتبهم وغير ذلك .
وقد يسمى هذا النوع أصول دين، ويسمى العقد الأكبر، ويسمى الجدال فيه بالعقل كلامًا، ويسمى عقائد واعتقادات، ويسمى المسائل العلمية والمسائل الخبرية، ويسمى علم المكاشفة .
والثاني : الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارح والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علمًا واعتقادًا أو خبرًا صادقًا أو كاذبًا يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأمورًا به أو منهيًا عنه يدخل في القسم الثاني، مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمنًا يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافرًا يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني .(186/284)
/قد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع، أم لا تعلم إلا بالسمع ؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها ؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا تثبت به تلك المسائل، فإثباتها بالعقل حتى يزعم كثير من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته، وأنه مستوٍ على العرش .
ويزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقًا؛ بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين بما زعموا .
ويزعم كثير من أهل البدع أنه لا يستدل بالأحاديث المتلقاة بالقبول على مسائل الصفات والقدر ونحوهما مما يطلب فيه القطع واليقين .
/يزعم قوم من غالية المتكلمين أنه لا يستدل بالإجماع على شيء، ومنهم من يقول لا يصح الاستدلال به على الأمور العلمية لأنه ظني،وأنواع من هذه المقالات التي ليس هذا موضعها .
فإن طرق العلم والظن وما يتوصل به إليهما من دليل أو مشاهدة، باطنة أو ظاهرة، عام أو خاص، فقد تنازع فيه بنو آدم تنازعًا كثيرًا .(186/285)
وكذلك كثير من أهل الحديث والسنة قد ينفي حصول العلم لأحد بغير الطريق التي يعرفها، حتى ينفي أكثر الدلالات العقلية من غير حجة على ذلك . وكذلك الأمور الكشفية التي للأولياء من أهل الكلام من ينكرها، ومن أصحابنا من يغلو فيها، وخيار الأمور أوساطها .
فالطريق العقلية والنقلية والكشفية والخبرية والنظرية طريقة أهل الحديث وأهل الكلام وأهل التصوف قد تجاذبها الناس نفيًا وإثباتًا، فمن الناس من ينكر منها ما لا يعرفه، ومن الناس من يغلو فيما يعرفه، فيرفعه فوق قدره وينفي ما سواه . فالمتكلمة والمتفلسفة تعظم الطرق العقلية وكثير منها فاسد متناقض، وهم أكثر خلق الله تناقضًا واختلافًا، وكل فريق يرد على الآخر فيما يدعيه قطعيًا .
/طائفة ممن تدعى السنة والحديث يحتجون فيها بأحاديث موضوعة وحكايات مصنوعة يعلم أنها كذب، وقد يحتجون بالضعيف في مقابلة القوى، وكثير من المتصوفة والفقراء يبني على منامات وأذواق وخيالات يعتقدها كشفًا وهي خيالات غير مطابقة . وأوهام غير صادقة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [ النجم : 28 ] فنقول :
أما طرق الأحكام الشرعية التي نتكلم عليها في أصول الفقه فهي ـ بإجماع المسلمين ـ [ الكتاب ] لم يختلف أحد من الأئمة في ذلك، كما خالف بعض أهل الضلال في الاستدلال على بعض المسائل الاعتقادية .
والثاني : [ السنة المتواترة ] التي لا تخالف ظاهر القرآن، بل تفسره، مثل أعداد الصلاة وأعداد ركعاتها، ونصب الزكاة وفرائضها وصفة الحج والعمرة، وغير ذلك من الأحكام التي لم تعلم إلا بتفسير السنة .(186/286)
وأما السنة المتواترة التي لا تفسر ظاهر القرآن، أو يقال : تخالف ظاهره كالسنة في تقدير نصاب السرقة ورجم الزاني وغير ذلك، فمذهب جميع السلف العمل بها أيضًا إلا الخوارج، فإن من قولهم ـ أو قول بعضهم ـ مخالفة السنة، حيث قال أولهم للنبي صلى الله عليه وسلم في وجهه : ( إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ) . ويحكى عنهم أنهم لا يتبعونه صلى الله عليه وسلم إلا فيما بلغه عن الله /من القرآن والسنة المفسرة له، وأما ظاهر القرآن إذا خالفه الرسول فلا يعملون إلا بظاهره، ولهذا كانوا مارقة مرقوا من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأولهم : ( لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ) فإذا جوز أن الرسول يجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه الله عليه من الأموال، وهو معتقد أنه أمين الله على وحيه، فقد اتبع ظالمًا كاذبًا، وجوز أن يخون ويظلم فيما ائتمنه من المال من هو صادق أمين فيما ائتمنه الله عليه من خبر السماء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني ؟ ) أو كما قال . يقول صلى الله عليه وسلم : إن أداء الأمانة في الوحي أعظم والوحي الذي أوجب الله طاعته هو الوحي بحكمه وقسمه .
وقد ينكر هؤلاء كثيرًا من السنن طعنًا في النقل لا ردًا للمنقول، كما ينكر كثير من أهل البدع السنن المتواترة عند أهل العلم كالشفاعة والحوض والصراط والقدر وغير ذلك .(186/287)
الطريق الثالث : [ السنن المتواترة ] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إما متلقاة بالقبول بين أهل العلم بها، أو برواية الثقات لها . وهذه أيضًا مما اتفق أهل العلم على اتباعها من أهل الفقه والحديث والتصوف وأكثر أهل العلم، وقد أنكرها بعض أهل الكلام . وأنكر كثير منهم أن يحصل العلم بشيء منها وإنما يوجب العلم،فلم /يفرقوا بين المتلقى بالقبول وغيره، وكثير من أهل الرأي قد ينكر كثيرًا منها بشروط اشترطها، ومعارضات دفعها بها ووضعها، كما يرد بعضهم بعضًا، لأنه بخلاف ظاهر القرآن فيما زعم، أو لأنه خلاف الأصول، أو قياس الأصول، أو لأن عمل متأخري أهل المدينة على خلافه، أو غير ذلك من المسائل المعروفة في كتب الفقه والحديث وأصول الفقه .
الطريق الرابع : الإجماع، وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة، وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالبًا، ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة، والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم، والإجماع السكوتي وغير ذلك .
الطريق الخامس : القياس على النص والإجماع، وهو حجة أيضًا عند جماهير الفقهاء، لكن كثيرًا من أهل الرأي أسرف فيه حتى استعمله قبل البحث عن النص، وحتى رد به النصوص، وحتى استعمل منه الفاسد، ومن أهل الكلام وأهل الحديث وأهل القياس من ينكره رأسًا، وهي مسألة كبيرة والحق فيها متوسط بين الإسراف والنقص .(186/288)
/الطريق السادس : [ الاستصحاب ] ، وهو البقاء على الأصل فيما لم يعلم ثبوته وانتفاؤه بالشرع، وهو حجة على عدم الاعتقاد بالاتفاق، وهل هو حجة في اعتقاد العدم ؟ فيه خلاف، ومما يشبهه الاستدلال بعدم الدليل السمعي على عدم الحكم الشرعي، مثل أن يقال : لو كانت الأضحية أو الوتر واجبًا لنصب الشرع عليه دليلا شرعيًا، إذ وجوب هذا لا يعلم بدون الشرع، ولا دليل، فلا وجوب .
فالأول يبقى على نفي الوجوب والتحريم المعلوم بالعقل حتى يثبت المغير له، وهذا استدلال بعدم الدليل السمعي المثبت على عدم الحكم، إذ يلزم من ثبوت مثل هذا الحكم ثبوت دليله السمعي، كما يستدل بعدم النقل لما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، وما توجب الشريعة نقله، وما يعلم من دين أهلها وعادتهم أنهم ينقلونه على أنه لم يكن، كالاستدلال بذلك على عدم زيادة في القرآن وفي الشرائع الظاهرة، وعدم النص الجلي بالإمامة على علي أو العباس أو غيرهما، ويعلم الخاصة من أهل العلم بالسنن والآثار وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه انتفاء أمور من هذا، لا يعلم انتفاءها غيرهم ولعلمهم بما ينفيها من أمور منقولة يعلمونها هم، ولعلمهم بانتفاء لوازم نقلها، فإن وجود أحد الضدين ينفي الآخر، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم .(186/289)
الطريق السابع : [ المصالح المرسلة ] ، وهو أن يرى المجتهد أن هذا /الفعل يجلب منفعة راجحة، وليس في الشرع ما ينفيه؛ فهذه الطريق فيها خلاف مشهور . فالفقهاء يسمونها [ المصالح المرسلة ] . ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم، فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان . وليس كذلك، بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين .
وجلب المنفعة يكون في الدنيا وفي الدين، ففي الدنيا كالمعاملات والأعمال التي يقال فيها مصلحة للخلق من غير حظر شرعي، وفي الدين ككثير من المعارف والأحوال والعبادات والزهادات التي يقال فيها مصلحة للإنسان من غير منع شرعي . فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال ليحفظ الجسم فقط فقد قصر .
وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، /وربما قدم على المصالح المرسلة كلامًا بخلاف النصوص، وكثير منهم من أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعًا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك ولم يعلمه .
وحجة الأول : أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح، بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة الثاني : أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصًا ولا قياسًا .(186/290)
والقول بالمصالح المرسلة يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبًا . وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك . فإن الاستحسان طلب الحسن والأحسن كالاستخراج، وهو رؤية الشيء حسنًا كما أن الاستقباح رؤيته قبيحًا، والحسن هو المصلحة، فالاستحسان والاستصلاح متقاربان، والتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن، لكن بين هذه فروق .
والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي صلى الله عليه وسلم وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان /الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له، إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس بمصلحة، وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة، وكثيرًا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى في الخمر والميسر : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [ البقرة : 219 ] .
وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك حسبوه منفعة أو مصلحة نافعًا وحقًا وصوابًا ولم يكن كذلك، بل كثير من الخارجين عن الإسلام من اليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس يحسب كثير منهم أن ما هم عليه من الاعتقادات والمعاملات والعبادات مصلحة لهم في الدين والدنيا، ومنفعة لهم، فقد { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 104 ] وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنًا، فإذا كان الإنسان يرى حسنًا ما هو سيّئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب .(186/291)
وهذا بخلاف الذين جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا . فإن باب جحود الحق ومعاندته غير باب جهله والعمى عنه، والكفار فيهم هذا وفيهم هذا، وكذلك في أهل الأهواء من المسلمين القسمان . فإن الناس كما أنهم في باب الفتوى والحديث /يخطئون تارة ويتعمدون الكذب أخرى، فكذلك هم في أحوال الديانات، وكذلك في الأفعال قد يفعلون مايعلمون أنه ظلم وقد يعتقدون أنه ليس بظلم هو ظلم، فإن الإنسان كما قال الله تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [ الأحزاب : 72 ] فتارة يجهل وتارة يظلم : ذلك في قوة علمه وهذا في قوة عمله .
واعلم أن هذا الباب مشترك بين أهل العلم والقول وبين أهل الإرادة والعمل، فذلك يقول : هذا جائز أو حسن بناء على ما رآه وهذا يفعله من غير اعتقاد تحريمه أو اعتقاد أنه خير له كما يجد نفعًا في مثل السماع المحدث : سماع المكاء والتصدية واليراع التي يقال لها : الشبابة والصفارة والأوتار وغير ذلك، وهذا يفعله لما يجده من لذته وقد يفعله لما يجده من منفعة دينه بزيادة أحواله الدينية كما يفعل مع القرآن .
وهذا يقول : هذا جائز لما يرى من تلك المصلحة والمنفعة،وهو نظير المقالات المبتدعة . وهذا يقول : هو حق لدلالة القياس العقلي عليه . وهذا يقول : يجوز ويجب اعتقادها وإدخالها في الدين إذا كانت كذلك، وكذلك سياسات ولاة الأمور من الولاة والقضاة وغير ذلك .
واعلم أنه لا يمكن العاقل أن يدفع عن نفسه أنه قد يميز بعقله بين الحق والباطل، والصدق والكذب، وبين النافع والضار، /والمصلحة والمفسدة، ولا يمكن المؤمن أن يدفع عن إيمانه أن الشريعة جاءت بما هو الحق والصدق في المعتقدات، وجاءت بما هو النافع والمصلحة في الأعمال التي تدخل فيها الاعتقادات، ولهذا لم يختلف الناس أن الحسن أو القبيح إذا فسر بالنافع والضار والملائم للإنسان والمنافي له واللذيذ والأليم ـ فإنه قد يعلم بالعقل، هذا في الأفعال .(186/292)
وكذلك إذا فسر حسنه بأنه موجود أو كمال الموجود يوصف بالحسن ومنه قوله تعالى : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } [ الأعراف : 180 ] ، وقوله : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] كما نعلم أن الحي أكمل من الميت في وجوده، وأن العالم أكمل من الجاهل، وأن الصادق أكمل من الكاذب ـ فهذا أيضًا قد يعلم بالعقل . وإنما اختلفوا في أن العقل هل يعتبر المنفعة والمضرة . وأنه هل [ باب التحسين ] واحد في الخالق والمخلوق .
فأما الوجهان الأولان فثابتان في أنفسهما، ومنهما ما يعلم بالعقل : الأول في الحق المقصود، والثاني في الحق الموجود . [ الأول ] متعلق بحب القلب وبغضه وإرادته وكراهته وخطابه بالأمر والنهي . و [ الثاني ] متعلق بتصديقه وتكذيبه وإثباته ونفيه وخطابه الخبري المشتمل على النفي والإثبات، والحق والباطل يتناول النوعين، فإن الحق يكون بمعنى الموجود الثابت، والباطل بمعنى المعدوم المنتفي، والحق بإزاء ما ينبغي قصده وطلبه وعمله، وهو النافع .(186/293)
والباطل بإزاء مالا ينبغي قصده ولا طلبه ولا عمله، وهو /غير النافع . والمنفعة تعود إلى حصول النعمة واللذة والسعادة التي هي حصول اللذة، ودفع الألم هو حصول المطلوب، وزوال المرهوب . حصول النعيم وزوال العذاب . وحصول الخير وزوال الشر . ثم الموجود والنافع قد يكون ثابتًا دائمًا، وقد يكون منقطعًا لا سيما إذا كان زمنًا يسيرًا فيستعمل الباطل كثيرًا بإزاء ما لا يبقى من المنفعة، وبإزاء ما لا يدوم من الوجود . كما يقال : الموت حق والحياة باطل، وحقيقته أنه يستعمل بإزاء ما ليس من المنافع خالصًا أو راجحًا، كما تقدم القول فيه فيما يزهد فيه، وهو ما ليس بنافع، والمنفعة المطلقة هي الخالصة أوالراجحة، وأما ما يفوت أرجح منها أو يعقب ضررًا ليس هو دونها فإنها باطل في الاعتبار، والمضرة أحق باسم الباطل من المنفعة . وأما ما يظن فيه منفعة وليس كذلك أو يحصل به لذة فاسدة فهذا لا منفعة فيه بحال . فهذه الأمور التي يشرع الزهد فيها وتركها وهي باطل؛ ولذلك ما نهى الله عنه ورسوله باطل ممتنع أن يكون مشتملًا على منفعة خالصة أو راجحة . ولهذا صارت أعمال الكفار والمنافقين باطلة لقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } [ الآية البقرة : 264 ] . وأخبر أن صدقة المرائي والمنان باطلة لم يبق فيها منفعة له .
وكذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] وكذلك الإحباط في /مثل قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] ولهذا تسميه الفقهاء العقود .(186/294)
والعبادات بعضها صحيح، وبعضها باطل، وهوما لم يحصل به مقصوده ولم يترتب عليه أثره، فلم يكن فيه المنفعة المطلوبة منه . ومن هذا قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء } [ الآية النور : 39 ] . وقوله : { مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا
صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } [ آل عمران : 117 ] ، وقوله : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } [ الفرقان : 23 ] ولذلك وصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة ليست مطابقة ولا حقًا، كما أن الأعمال ليست نافعة .
وقد توصف الاعتقادات والمقالات بأنها باطلة إذا كانت غير مطابقة إن لم يكن فيها منفعة، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ) فيعود الحق فيما يتعلق بالإنسان إلي ما ينفعه من علم وقول وعمل وحال، قال الله تعالى : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ } [ الرعد : 17 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } إلى قوله : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } [ محمد 1-3 ] .(186/295)
/وإذا كان كذلك وقد علم أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل حابط لا ينفع صاحبه وقت الحاجة إليه، فكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل،لأن ما لم يرد به وجهه إما أن لا ينفع بحال، وإما أن ينفع في الدنيا أو في الآخرة . فالأول ظاهر، وكذلك منفعته في الآخرة بعد الموت، فإنه قد ثبت بنصوص المرسلين أنه بعد الموت لا ينفع الإنسان من العمل إلا ما أراد به وجه الله .
وأما في الدنيا فقد يحصل له لذات وسرور، وقد يجزى بأعماله في الدنيا . لكن تلك اللذات إذا كانت تعقب ضررًا أعظم منها وتفوت أنفع منها وأبقى فهي باطلة أيضًا،فثبت أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل وإن كان فيه لذة مَّا .
وأما الكائنات فقد كانت معدومة منتفية، فثبت أن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكما قال صلى الله عليه وسلم : ( أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ) وأنها تجمع الحق الموجود والحق المقصود، وكل موجود بدون الله باطل، وكل مقصود بدون قصد الله فهو باطل، وعلى هذين فقد فسر قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] : إلا ما أريد به وجهه، وكل شيء معدوم إلا من جهته .
هذا على قول، وأما القول الآخر وهو المأثور عن طائفة من السلف وبه فسره الإمام أحمد ـ رحمه /الله تعالى ـ في رده على الجهمية والزنادقة قال أحمد : وأما قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، وذلك أن الله أنزل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] فقالت الملائكة : هلك أهل الأرض، وطمعوا في البقاء، فأنزل الله تعالى أنه يخبر عن أهل السموات والأرض أنكم تموتون فقال : كل شيء من الحيوان هالك ـ يعني ميتًا ـ إلا وجهه، فإنه حي لا يموت، فلما ذكر ذلك أيقنوا عند ذلك بالموت، ذكر ذلك في رده على الجهمية قولهم أن الجنة والنار تفنيان .(186/296)
وقد تبين مما ذكرناه أن الحسن هو الحق والصدق والنافع والمصلحة والحكمة والصواب . وأن الشيء القبيح هو الباطل والكذب والضار والمفسدة والسفه والخطأ .
وأما مواضع الاشتباه والنزاع واختلاف الخلائق فموضع واحد، وذلك أن فعل الله كله حسن جميل، قال الله عز وجل : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [ السجدة : 7 ] ، وقال تعالى : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] ، وقال تعالى : { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 180 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله جميل يحب الجمال ) وهو حكم عدل، قال الله تعالى : { شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } [ النساء : 40 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } [ الأنعام : 73 ] . وهذا كله متفق عليه بين الأمة مجملًا غير مفسر فإذا فسر تنازعوا فيه .
وذلك أن هذه الأعمال الفاسدة والآلام وهذا الشر الوجودي المتعلق بالحيوان، وأنه لا يخلو عن أن يكون عملًا من الأعمال، أو أن يكون ألمًا من الآلام الواقعة بالحيوان، وذلك العمل القبيح والألم شره من ضرره، وهذا العمل والتألم : المعتزلة ومن اتبعها من الشيعة تزعم أن الأعمال ليست من خلقه ولا كونها شيء، وإن الآلام لا يجوز أن يفعلها إلا جزاء على عمل سابق، أو تعوض بنفع لاحق، وكثير من أهل الإثبات ومن اتبعهم من الجبرية يقولون : بل الجميع خلقه، وهو يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا فرق بين خلق المضار والمنافع، والخير والشر بالنسبة إليه .(186/297)
ويقول هؤلاء : إنه لا يتصور أن يفعل ظلمًا ولا سفها أصلا، بل لو فرض أنه فعل أي شيء كان فعله حكمة وعدلًا وحسنًا، إذ لا قبيح إلا ما نهى عنه وهو لم ينهه أحد، ويسوون بين تنعيم الخلائق وتعذيبهم، وعقوبة المحسن، ورفع درجات الكفار والمنافقين .
والفريقان متفقان على أنه لا ينتفع بطاعات العباد ولا يتضرر /بمعصيتهم،لكن الأولون يقولون : الإحسان إلى الغير حسن لذاته وإن لم يعد إلى المحسن منه فائدة .
والآخرون يقولون : ما حسن منا حسن منه، وما قبح منا قبح منه، والآخرون مع جمهور الخلائق ينكرون، والأولون يقولون : إذا أمر بالشيء فقد أراده منا . لا يعقل الحسن والقبيح إلا ما ينفع أو يضر، كنحو ما يأمر الواحد منا غيره بشيء فإنه لابد أن يريده منه ويعينه عليه، وقد أقدر الكفار بغاية القدرة، ولم يبق يقدر على أن يجعلهم يؤمنون اختيارًا، وإنما كفرهم وفسوقهم وعصيانهم بدون مشيئته واختياره . وآخرون يقولون : الأمر ليس بمستلزم الإرادة أصلا، وقد بينت التوسط بين هذين في غير هذا الموضع، وكذلك أمره . والأولون يقولون : لا يأمر إلا بما فيه مصلحة العباد، والآخرون يقولون : أمره لا يتوقف على المصلحة .
وهنا مقدمات، تكشف هذه المشكلات .
إحداها : أنه ليس ما حسن منه حسن منا وليس ما قبح منه يقبح منا، فإن المعتزلة شبهت الله بخلقه، وذلك أن الفعل يحسن منا لجلبه المنفعة، ويقبح لجلبه المضرة، ويحسن لأنا أمرنا به، ويقبح لأنا نهينا عنه، وهذان الوجهان منتفيان في حق الله تعالى قطعًا، ولو كان /الفعل يحسن باعتبار آخر كما قال بعض الشيوخ :
ويقبح من سواك الفعل عندي ** وتفعله فيحسن منك ذاكا(186/298)
المقدمة الثانية : إن الحسن والقبح قد يكونان صفة لأفعالنا، وقد يدرك بعض ذلك بالعقل، وإن فسر ذلك بالنافع والضار والمكمل والمنقص فإن أحكام الشارع فيما يأمر به وينهى عنه تارة تكون كاشفة للصفات الفعلية ومؤكدة لها وتارة تكون مبينة للفعل صفات لم تكن له قبل ذلك، وإن الفعل تارة يكون حسنه من جهة نفسه، وتارة من جهة الأمر به وتارة من الجهتين جميعًا . ومن أنكر أن يكون للفعل صفات ذاتية لم يحسن إلا لتعلق الأمر به وإن الأحكام بمجرد نسبة الخطاب إلى الفعل فقط، فقد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر، وما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها .
المقدمة الثالثة : أن الله خلق كل شيء وهو على كل شيء قدير . ومن جعل شيئًا من الأعمال خارجًا عن قدرته ومشيئته فقد ألحد في أسمائه وآياته بخلاف ما عليه القدرية .(186/299)
المقدمة الرابعة : أن الله إذا أمر العبد بشيء فقد أراده منه إرادة شرعية دينية، وإن لم يرده منه إرادة قدرية كونية، فإثبات إرادته في الأمر مطلقًا خطأ، ونفيها عن الأمر مطلقًا خطأ، وإنما الصواب التفصيل كما جاء في التنزيل : { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } [ النساء : 28 ] ، { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] وقال : { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } [ الأنعام : 125 ] ، وقال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [ المائدة : 41 ] ، وقال : { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ البقرة : 253 ] وأمثال ذلك كثير .
المقدمة الخامسة : أن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني، وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة . هذا قول جمهور أهل السنة .
ومن قال : إن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات، فإنه يستلزم أحد الأمرين : إما أن الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته، وهذا قول القدرية، أو يقول : إنه لما كان مريدًا لها شاءها فهو محب لها راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات . وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وليس هذا /المعنى ثابتًا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .(186/300)
وأحسن ما يتعذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات : إن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونًا . فكذلك أحبها ورضيها كونا . وهذا فيه نظر مذكور في غير هذا الموضع .
فإن قيل : تقسيم الإرادة لا يعرف في حقنا، بل إن الأمر منه بالشيء إما يريده أو لا يريده، وأما الفرق بين الإرادة والمحبة فقد يعرف في حقنا فيقال : وهذا هو الواجب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء، وليس أمره لنا كأمر الواحد منا لعبده وخدمه، وذلك أن الواحد منا إذا أمر عبده فإما أن يأمره لحاجته إليه أو إلى المأمور به أو لحاجته إلى الأمر فقط، فالأول كأمر السلطان جنده بما فيه حفظ ملكه ومنافعهم له، فإن هداية الخلق وإرشادهم بالأمر والنهي هي من باب الإحسان إليهم، والمحسن من العباد يحتاج إلى إحسانه قال الله تعالى : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، وقال : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] .(186/301)
والله تعالى لم يأمر عباده لحاجته إلى خدمتهم ولا هو محتاج إلى /أمرهم وإنما أمرهم إحسانًا منه ونعمة أنعم بها عليهم، فأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم . وإرسال الرسل، وإنزال الكتب من أعظم نعمه على خلقه كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] ، وقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 57، 58 ] فمن أنعم الله عليه مع الأمر بالامتثال فقد تمت النعمة في حقه كما قال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] ، وهؤلاء هم المؤمنون . ومن لم ينعم عليه بالامتثال بل خذله حتى كفر وعصى فقد شقى لما بدل نعمة الله كفرًا كما قال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28 ] والأمر والنهي الشرعيان لما كانا نعمة ورحمة عامة لم يضر ذلك عدم انتفاع بعض الناس بهما من الكفار، كإنزال المطر وإنبات الرزق هو نعمة عامة وإن تضرر بها بعض الناس لحكمة أخرى كذلك مشيئته لما شاءه من المخلوقات وأعيانها وأفعالها لا يوجب أن يحب كل شيء منها فإذا أمر العبد بأمر فذاك إرشاد ودلالة، فإن فعل المأمور به صار محبوبًا لله، وإلا لم يكن محبوبًا له وإن كان مرادًا له، وإرادته له تكوينًا لمعنى آخر . فالتكوين غير التشريع .(186/302)
فإن قيل : المحبة والرضا يقتضيان ملاءمة ومناسبة بين المحب /والمحبوب ويوجب للمحب بدرك محبوبه فرحًا ولذة وسرورًا، وكذلك البغض لا يكون إلا عن منافرة بين المبغض والمبغض، وذلك يقتضي للمبغض بدرك المبغض أذى وبغضًا ونحو ذلك، والملاءمة والمنافرة تقتضي الحاجة، إذ ما لا يحتاج الحي إليه لا يحبه، وما لا يضره كيف يبغضه ؟ والله غني لا تجوز عليه الحاجة، إذ لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه وإمكانه وهو غني عن العالمين، وقد قال تعالى ـ أي في الحديث القدسي ـ : ( يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ) فلهذا فسرت المحبة والرضا بالإرادة إذ يفعل النفع والضر . فيقال الجواب من وجهين :
أحدهما : الإلزام، وهو أن نقول : الإرادة لا تكون إلا للمناسبة بين المريد والمراد، وملائمته في ذلك تقتضي الحاجة، وإلا فما لايحتاج إليه الحي لاينتفع به ولا يريده، ولذلك إذا أراد به العقوبة والإضرار لا يكون إلا لنفرة وبغض، وإلا فما لم يتألم به الحي أصلا لا يكرهه ولا يدفعه، وكذلك نفس نفع الغير وضرره هو في الحي متنافر من الحاجة، فإن الواحد منا إنما يحسن إلى غيره لجلب منفعة أو لدفع مضرة، وإنما يضر غيره لجلب منفعة أو دفع مضرة، فإذا كان الذي يثبت صفة وينفي أخرى يلزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه لم يكن إثبات إحداهما ونفى الأخرى أولى من العكس، ولو عكس عاكس فنفى ما أثبته من الإرادة /وأثبت ما نفاه من المحبة لما ذكره لم يكن بينهما فرق، وحينئذ فالواجب إما نفي الجميع ولا سبيل إليه للعلم الضروري بوجود نفع الخلق والإحسان إليهم وإن ذلك يستلزم الإرادة، وإما إثبات الجميع كما جاءت به النصوص، وحينئذ فمن توهم أنه يلزم من ذلك محذور فأحد الأمرين لازم، إما أن ذلك المحذور لا يلزم أو أنه إن لزم فليس بمحذور .(186/303)
الجواب الثاني : إن الذي يعلم قطعًا هو أن الله قديم واجب الوجود كامل، وأنه لا يجوز عليه الحدوث ولا الإمكان ولا النقص، لكن كون هذه الأمور التي جاءت بها النصوص مستلزمة للحدوث والإمكان أو النقص هو موضع النظر، فإن الله غني واجب بنفسه، وقد عرف أن قيام الصفات به لا يلزم حدوثه ولا إمكانه ولا حاجته . وأن قول القائل بلزوم افتقاره إلى صفاته اللازمة بمنزلة قوله مفتقر إلى ذاته، و معلوم أنه غني بنفسه، وأنه واجب الوجود بنفسه، وأنه موجود بنفسه، فتوهم حاجة نفسه إلى نفسه، إن عنى به أن ذاته لا تقوم إلا بذاته فهذا حق، فإن الله غني عن العالمين وعن خلقه، وهوغني بنفسه .
وأما إطلاق القول بأنه غني عن نفسه فهو باطل فإنه محتاج إلى نفسه،وفي إطلاق كل منهما إيهام معنى فاسد، ولا خالق إلا الله تعالى، فإذا كان سبحانه عليمًا يحب العلم، عفوًا يحب العفو، جميلًا يحب /الجمال، نظيفًا يحب النظافة، طيبًا يحب الطيب، وهو يحب المحسنين والمتقين والمقسطين، وهو سبحانه الجامع لجميع الصفات المحبوبة، والأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو يحب نفسه ويثنى بنفسه على نفسه، والخلق لا يحصون ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه، فالعبد المؤمن يحب نفسه، ويحب في الله من أحب الله وأحبه الله، فالله سبحانه أولى بأن يحب نفسه، ويحب في نفسه عباده المؤمنين، ويبغض الكافرين، ويرضى عن هؤلاء ويفرح بهم، ويفرح بتوبة عبده التائب من أولئك، ويمقت الكفار ويبغضهم، ويحب حمد نفسه والثناء عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأسود بن سريع لما قال : إنني حمدت ربي بمحامد فقال : ( إن ربك يحب الحمد ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، ولا أحد أصبر على أذى من الله، يجعلون له ولدا وشريكًا وهو يعافيهم ويرزقهم ) .(186/304)
فهو يفرح بما يحبه، ويؤذيه ما يبغضه، ويصبر على ما يؤذيه، وحبه، ورضاه وفرحه وسخطه وصبره على ما يؤذيه كل ذلك من كماله وكل ذلك من صفاته وأفعاله، وهو الذي خلق الخلائق وأفعالهم، وهم لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، وإذا فرح ورضي بما فعله بعضهم فهو سبحانه الذي خلق فعله، كما أنه إذا فرح ورضى بما يخلقه فهو الخالق، وكل الذين يؤذون الله ورسوله هو الذي مكنهم وصبر على أذاهم بحكمته /فلم يفتقر إلى غيره، ولم يخرج شيء عن مشيئته ولم يفعل أحد ما لا يريد، وهذا قول عامة القدرية ونهاية الكمال والعزة .
وأما الإمكان لو افتقر وجوده إلى فرح غيره، وأما الحدوث فيبنى على قيام الصفات فيلزم منه حدوثه، وقد ذكر في غير هذا الموضع أن ما سلكه الجهمية في نفي الصفات فمبناه على القياس الفاسد المحض وله شرح مذكور في غير هذا الموضع .(186/305)
ومن تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها في غاية الإحكام والإتقان وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال، وأنه تعالى ليس له كمال ينتظر بحيث يكون قبله ناقصًا؛ بل من الكمال أنه يفعل ما يفعله بعد أن لم يكن فاعله، وأنه إذا كان كاملا بذاته وصفاته وأفعاله لم يكن كاملًا بغيره ولا مفتقرًا إلى سواه، بل هو الغني ونحن الفقراء، وقال تعالى : { لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ } [ آل عمران : 181 ] ، وهو سبحانه في محبته ورضاه ومقته وسخطه وفرحه وأسفه وصبره وعفوه ورأفته له الكمال الذي لا تدركه الخلائق وفوق الكمال، إذ كل كمال فمن كماله يستفاد، وله الثناء الحسن الذي لا تحصيه العباد، وإنما هو كما أثنى على نفسه، له الغنى الذي لا يفتقر إلى سواه، { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 93 : 95 ] .
/فهذا الأصل العظيم وهو مسألة خلقه وأمره وما يتصل به من صفاته وأفعاله من محبته ورضاه وفرحه بالمحبوب وبغضه وصبره على ما يؤذيه هي متعلقة بمسائل القدر ومسائل الشريعة، والمنهاج الذي هو المسؤول عنه ومسائل الصفات ومسائل الثواب والعقاب والوعد والوعيد، وهذه الأصول الأربعة كلية جامعة وهي متعلقة به وبخلقه .
وهي في عمومها وشمولها وكشفها للشبهات تشبه مسألة الصفات الذاتية والفعلية، ومسألة الذات والحقيقة والحد وما يتصل بذلك من مسائل الصفات والكلام في حلول الحوادث ونفي الجسم وما في ذلك من تفصيل وتحقيق .
فإن المعطلة والملحدة في أسمائه وآياته كذبوا بحق كثير جاءت به الرسل بناء على ما اعتقدوه من نفي الجسم والعرض ونفي حلول الحوادث ونفي الحاجة .(186/306)
وهذه الأشياء يصح نفيها باعتبار ، ولكن ثبوتها يصح باعتبار آخر، فوقعوا في نفي الحق الذي لا ريب فيه، الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وفطرت عليه الخلائق، ودلت عليه الدلائل السمعية والعقلية، والله أعلم .
قال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=230 - TOP#TOPفصل
تكلم طائفة من الصوفية في [ خاتم الأولياء ] ، وعظموا أمره كالحكيم الترمذي ـ وهو من غلطاته، فإن الغالب على كلامه الصحة بخلاف ابن عربي، فإنه كثير التخليط، لاسيما في الاتحاد ـ وابن عربي وغيرهم، وادعى جماعة كل واحد أنه هو، كابن عربي، وربما قيده بأنه ختم الولاية المحمدية، أو الكاملة، أو نحو ذلك، لئلا يلزمه ألا يخلق بعده لله ولي، وربما غلوا فيه، كما فعل ابن عربي في فصوصه فجعلوه مُمِدا في الباطن لخاتم الأنبياء، تبعًا لغلوهم الباطل، حيث قد يجعلون الولاية فوق النبوة، موافقة لغلاة المتفلسفة الذين قد يجعلون الفيلسوف الكامل فوق النبي .
وكذلك جهال القدرية، والأحمدية، واليونسية، قد يفضلون شيخهم /على النبي، أو غيره من الأنبياء، وربما ادعوا في شيخهم نوعًا من الإلهية .
وكذلك طائفة من السعدية : يفضلون الولي على النبي . وقال بعضهم : يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر، وكذلك غالية الرافضة، الذين قد يجعلون الإمام كان ممدًا للنبي في الباطن، كما قد يجعلونه إلهًا، فأما الغلو في ولي غير النبي حتى يفضل على النبي، سواء سمى وليًا أو إمامًا، أو فيلسوفًا، وانتظارهم للمنتظر الذي هو : محمد بن الحسن، أو إسماعيل بن جعفر، نظير ارتباط الصوفية على الغوث، وعلى خاتم الأولياء، فبطلانه ظاهر بما علم من نصوص الكتاب والسنة، وما عليه إجماع الأمة، فإن الله جعل الذين أنعم عليهم أربعة : النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين .(186/307)
فغاية من بعد النبي أن يكون صديقًا، كما كان خير هذه الأمة بعد نبيها صديقًا؛ ولهذا كانت غاية مريم ذلك في قوله : { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ
الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } [ المائدة : 75 ] .
وبهذا استدللت على ما ذكره طائفة : كالقاضي أبي يعلى، وغيره من أصحابنا، وأبي المعالي، وأظن الباقلاني، من الإجماع على أنها لم تكن نبية ليقرروا كرامات الأولياء، بماجرى على يديها، فإن بعض الناس زعم أنها كانت نبية، فاستدللت بهذه الآية، ففرح مخاطبي بهذه الحجة، فإن الله ذكر ذلك في بيان غاية فضلها، دفعًا لغلو النصارى فيها، كما /يقال لمن ادعى في رجل أنه ملك من الملوك، أو غني من الأغنياء ونحو ذلك، فيقال : ما هو إلا رئيس قرية، أو صاحب بستان، فيذكر غاية ما له من الرئاسة والمال، فلو كان للمسيح مرتبة فوق الرسالة أو لها مرتبة فوق الصديقية لذكرت .
ولهذا كان أصل الغلو في النصارى، ويشابههم في بعضه غالية المتصوفة والشيعة، ومن انضم إليهم من الصابئة المتفلسفة، فالرد عليهم من جهة واحدة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر : ( هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين ) فهذه المسألة لشرحها موضع غير هذا وهي أن كل من سوى الأنبياء دونهم .
وإنما الكلام هنا فيما يذكرونه من خاتم /الأولياء، فنقول : هذه تسمية باطلة، لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا كلام مأثور عمن هو مقبول عند الأمة قبولا عاما، لكن يعلم من حيث الجملة أن آخر من بقى من المؤمنين المتقين في العالم فهو آخر أولياء الله .(186/308)
ونقول ثانيًا : إن آخر الأولياء، أو خاتمهم، سواء كان المحقق، أو فرض مقدر، ليس يجب أن يكون أفضل من غيره من الأولياء ، فضلا عن أن يكون أفضلهم، وإنما نشأ هذا من مجرد القياس على خاتم الأنبياء، لما رأوا خاتم الأنبياء هو سيدهم . توهموا من ذلك قياسا بمجرد الاشتراك في لفظ خاتم . فقالوا : خاتم الأولياء أفضلهم . وهذا خطأ في الاستدلال، فإن فضل خاتم الأنبياء عليهم لم يكن لمجرد كونه خاتمًا، بل لأدلة أخرى دلت على ذلك .
ثم نقول : بل أول الأولياء في هذه الأمة، وسابقهم هو أفضلهم، فإن أفضل الأمة خاتم الأنبياء . وأفضل الأولياء سابقهم إلى خاتم الأنبياء، وذلك لأن الولي مستفيد من النبي وتابع له، فكلما قرب من النبي كان أفضل وكلما بعد عنه كان بالعكس، بخلاف خاتم الأنبياء فإن استفادته إنما هي من الله . فليس في تأخره زمانا ما يوجب تأخر مرتبته، بل قد يجمع الله له ما فرقه في غيره من الأنبياء، فهذا الأمر الذي ذكرناه من أن السابقين من الأولياء هم خيرهم . هو الذي دل عليه الكتاب والسنن المتواترة وإجماع السلف، ويتصل بهذا ظن طوائف أن من المتأخرين من قد يكون أفضل من أفاضل الصحابة . ويوجد هذا في المنتسبين إلى العلم، وإلى العبادة، وإلى الجهاد، والإمارة، والملك . حتى في المتفقهة من قال : أبو حنيفة أفقه من علي . وقال بعضهم : يقلد الشافعي ولا يقلد أبو بكر وعمر .
ويتمسكون تارة بشبهة عقلية، أو ذوقية، من جهة أن متأخري كل فن يحكمونه أكثر من المتقدمين . فإنهم يستفيدون علوم الأولين مع العلوم التي اختصوا بها، كما هو موجود في أهل الحساب، والطبائعيين والمنجمين وغيرهم .(186/309)
/ومن جهة الذوق، وهو ما وجدوه لأواخر الصالحين، من المشاهدات العرفانية، والكرامات الخارقة، ما لم ينقل مثله عن السلف، وتارة يستدلون بشبه نقلية مثل قوله : ( للعامل منهم أجر خمسين منكم ) وقوله : ( أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره ) ، وهذا خلاف السنن المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود، وعمران ابن حصين ومما هو في الصحيحين، أو أحدهما، من قوله : ( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) وقوله : ( والذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) وغير ذلك من الأحاديث .
وخلاف إجماع السلف : كقول ابن مسعود : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد . وقول حذيفة : يا معشر القراء، استقيموا، وخذوا سبيل من كان قبلكم، فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا . وقول ابن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبًا، /وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم . وقول جندب وغيره مما هو كثير مكتوب في غير هذا الموضع، بل خلاف نصوص القرآن في مثل قوله : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ } الآية [ التوبة : 100 ] ، وقوله : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } الآية [ الحديد : 10 ] ، وقوله : { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ } الآية [ الحشر : 10 ] ، وغير ذلك، فإنه لم يكن الغرض بهذا الموضع هذه المسألة، وإنما الغرض : الكلام على خاتم الأولياء .(186/310)
ومما يشبه هذا ظن طائفة كابن هود، وابن سبعين، والنفري والتلمساني : إن الشىء المتأخر ينبغي أن يكون أفضل من المتقدم، لاعتقادهم أن العالم متنقل من الابتداء إلى الانتهاء، كالصبي الذي يكبر بعد صغره، والنبات الذي ينمو بعد ضعفه، ويبنون على ذلك أن المسيح أفضل من موسى، ويبعدون ذلك إلى أن يجعلوا بعد محمد واحدًا من البشر أكمل منه، كما تقوله الإسماعيلية، والقرامطة، والباطنية، فليس على هذا دليل أصلا . إن كل من تأخر زمانه من نوع، يكون أفضل ذلك النوع، فلا هو مطرد ولا منعكس .
بل إبراهيم الخليل قد ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه خير البرية ) أي بعد النبي . وكذلك قال الربيع بن خيثم : لا أفضل على نبينا أحدًا، /ولا أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحدًا، وبعده جميع الأنبياء المتبعين لملته مثل موسى وعيسى وغيرهما، وكذلك أنبياء بني إسرائيل كلهم بعد موسى، وقد أجمع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى : على أن موسى أفضل من غيره من أنبياء بني إسرائيل، إلا ما يتنازعون فيه من المسيح .
والقرآن قد شهد في آيتين لأولى العزم فقال في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] ، وقال : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } [ الشورى : 13 ] فهؤلاء الخمسة أولو العزم، وهم الذين قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحاح : أنهم يترادون الشفاعة في أهل الموقف بعد آدم . فيجب تفضيلهم على بنيهم، وفيه تفضيل لمتقدم على متأخر، ولمتأخر على متقدم .(186/311)
وأصل الغلط في هذا الباب : أن تفضيل الأنبياء، أو الأولياء أو العلماء أو الأمراء بالتقدم في الزمان، أو التأخر أصل باطل، فتارة يكون الفضل في متقدم النوع، وتارة في متأخر النوع، ولهذا يوجد في أهل النحو، والطب والحساب ما يفضل فيه المتقدم كبطليموس، وسيبويه، وبقراط وتارة بالعكس .
/وأما توهمهم أن متأخري كل فن أحذق من متقدميه، لأنهم كملوه، فهذا منتقض أولا، ليس بمطرد، فإن كتاب سيبويه في العربية لم يصنف بعده مثله، بل وكتاب بطليموس، بل نصوص بقراط لم يصنف بعدها أكمل منها .
ثم نقول : هذا قد يسلم في الفنون التي تنال : بالقياس، والرأي والحيلة . أما الفضائل المتعلقة باتباع الأنبياء فكل من كان إلى الأنبياء أقرب مع كمال فطرته : كان تلقيه عنهم أعظم، وما يحسن فيه هو من الفضائل الدينية، المأخوذة عن الأنبياء، ولهذا كان من يخالف ذلك هو من المبتدعة، الخارج عن سنن الأنبياء، المعتقد أن له نصيبًا من العلوم والأحوال خارجًا عن طور الأنبياء، فكل من كان بالنبوة وقدرها أعظم، كان رسوخه في هذه المسألة أشد .
وأما الأذواق والكرامات فمنها ما هو باطل، والحق منه كان للسلف أكمل، وأفضل بلا شك، وخرق العادة تارة يكون لحاجة العبد إلى ذلك، وقد يكون أفضل منه لا تخرق له تلك العادة، فإن خرقها له سبب، وله غاية، فالكامل قد يرتقى عن ذلك السبب، وقد لا يحتاج إلى تلك الغاية المقصودة بها، ومع هذا فما للمتأخرين كرامة إلا وللسلف من نوعها ما هو أكمل منها .
/وأما قوله : ( لهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون على الخير أعوانًا ) فهذا صحيح، إذا عمل الواحد من المتأخرين، مثل عمل عمله بعض المتقدمين كان له أجر خمسين، لكن لا يتصور أن بعض المتأخرين يعمل مثل عمل بعض أكابر السابقين، كأبي بكر وعمر، فإنه ما بقى يبعث نبي مثل محمد، يعمل معه مثلما عملوا مع محمد صلى الله عليه وسلم .(186/312)
وأما قوله : ( أمتي كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره ) ، مع أن فيه لينا فمعناه : في المتأخرين ما يشبه المتقدمين، ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة، لا يدري الذي ينظر إليه، أهذا خير أم هذا ؟ وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيرًا . فهذا فيه بشرى للمتأخرين بأن فيهم من يقارب السابقين، كما جاء في الحديث الآخر : ( خير أمتي أولها وآخرها . وبين ذلك ثبج أو عوج . وددت أني رأيت إخواني ) قالوا : أو لسنا إخوانك ؟ قال : ( أنتم أصحابي ) هو تفضيل للصحابة، فإن لهم خصوصية الصحبة التي هي أكمل من مجرد الأخوة .
وكذلك قوله : ( أي الناس أعجب إيمانًا ) إلى قوله : ( قوم يأتون بعدي يؤمنون بالورق المعلق ) هو يدل على أن إيمانهم عجب، أعجب من إيمان غيرهم، ولا يدل على أنهم أفضل، فإن في الحديث أنهم /ذكروا الملائكة والأنبياء، ومعلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق .
ونظيره كون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فإنه لا يدل على أنهم بعد الدخول يكونون أرفع مرتبة من جميع الأغنياء، وإنما سبقوا لسلامتهم من الحساب .
وهذا ـ باب التفضيل بين الأنواع في الأعيان، والأعمال والصفات أو بين أشخاص النوع ـ باب عظيم، يغلط فيه خلق كثير، والله يهدينا سواء الصراط .
/وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=230 - TOP#TOPفصل
تكلم أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي في كتاب [ ختم الولاية ] بكلام مردود، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، حيث غلا في ذكر الولاية، وما ذكره من خاتم الأولياء، وعصمة الأولياء ونحو ذلك مما هو مقدمة لضلال ابن عربي، وأمثاله، الذين تكلموا في هذا الباب بالباطل والعدوان، منها قوله :(186/313)
فيقال لهذا المسكين : صف لنا منازل الأولياء ـ إذا استفرغوا مجهود الصدق ـ كم عدد منازلهم ؟ وأين منازل أهل الفرية ؟ وأين الذين جازوا العساكر ؟ بأي شىء جازوا ؟ وإلى أين منتهاهم ؟ وأين مقام أهل المجالس والحديث ؟ وكم عددهم ؟ وبأي شىء استوجبوا هذا على ربهم ؟ وما حديثهم ونجواهم ؟ وبأي شىء يفتتحون المناجاة ؟ وبأي / شىء يختمونها ؟ وماذا يخافون ؟ وكيف يكون صفة سيرهم ؟ ومن ذا الذي يستحق خاتم الولاية كما استحق محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة ؟ وبأي صفة يكون ذلك المستحق لذلك ؟ وما سبب وكم مجالس هذه الأبدان حتى ترد إلى مالك الملك ؟ إلى مسائل أخر كثيرة ذكرها من هذا النمط .
ومنها فيه : قال له قائل : فهل يجوز أن يكون في هذا الزمان من يوازي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ؟ قال : إن كنت تعني في العمل فلا، وإن كنت تعني في الدرجات فغير مدفوع، وذلك أن الدرجات بوسائل القلوب، وتسمية ما في الدرجات بالأعمال فمن الذي حوّل رحمة الله عن أهل هذا الزمان حتى لا يكون فيهم سابق ولا مقرب ولا مجتبى، ولا مصطفى، أو ليس المهدي كائنًا في آخر الزمان ؟ فهو في الفتنة يقوم بالعدل، فلا يعجز عنها . أو ليس كائنًا في آخر الزمان من له ختم الولاية ؟ وهو حجة الله على جميع الأولياء يوم الموقف ؟ فكما أن محمدًا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، فأعطى ختم النبوة وهو حجة الله على جميع الأنبياء، فكذلك هذا الولي آخر الأولياء في آخر الزمان .(186/314)
/قال له قائل : فأين حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( خرجت من باب الجنة، فأُتيت بالميزان فوضعت في كفة، وأمتي في كفة فرجحتُ بالأمة، ثم وضع أبو بكر مكاني فرجح بالأمة . ثم وضع عمر مكان أبي بكر فرجح بالأمة ) . فقال : هذا وزن الأعمال، لا وزن ما في القلوب، أين يذهب بكم يا عجم ؟ ما هذا إلا من غباوة أفهامكم . ألا ترى أنه يقول : خرجت من باب الجنة، والجنة للأعمال، والدرجات للقلوب؛ والوزن للأعمال، لا لما في القلوب، إن الميزان لا يتسع لما في القلوب .(186/315)
وقال فيه : ثم لما قبض الله نبيه صير فيهم أربعين صديقًا؛ بهم تقوم الأرض فهم أهل بيته، وهم آله، فكلما مات منهم رجل خلفه من يقوم مقامه؛ حتى إذا انقرض عددهم، وأتى وقت زوال الدنيا؛ بعث الله وليًا اصطفاه واجتباه وقربه وأدناه وأعطاه ما أعطى الأولياء وخصه بخاتم الولاية، فيكون حجة الله يوم القيامة على سائر الأولياء . فيوجد عنده ذلك الختم صدق الولاية، على سبيل ما وجد عند محمد صلى الله عليه وسلم صدق النبوة؛ لم ينله القدر، ولا وجدت النفس سبيلا إلى الأخذ بحظها من الولاية، فإذا برز الأولياء يوم القيامة، وأقبضوا صدق الولاية والعبودية، وجد ألوفًا عند هذا الذي ختم الولاية تمامًا؛ فكان حجة الله عليهم وعلى سائر الموحدين من بعدهم، /وكان شفيعهم يوم القيامة، فهو سيدهم . ساد الأولياء كما ساد محمد صلى الله عليه وسلم الأنبياء، فينصب له مقام الشفاعة، ويثنى على الله ثناء، ويحمده بمحامد يقر الأولياء بفضله عليهم في العلم بالله، فلم يزل هذا الولي مذكورًا أولًا في البدء أولا في الذكر، وأولا في العلم، ثم الأول في المسألة، ثم الأول في الموازنة، ثم الأول في اللوح المحفوظ، ثم الأول في الميثاق، ثم الأول في الحشر، ثم الأول في الخطاب، ثم الأول في الوفادة، ثم الأول في الشفاعة، ثم الأول في الجواز وفي دخول الدار، ثم الأول في الزيارة، فهو في كل مكان أول الأولياء، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء، فهو من محمد صلى الله عليه وسلم عند الأذن، والأولياء عند القفا .
فهذا عند مقامه بين يديه في ملك الله ونجواه، مثال في المجلس الأعظم، فهو في منصته، والأولياء من خلفه درجة درجة، ومنازل الأنبياء مثال بين عينيه، فهؤلاء الأربعون في كل وقت هم أهل بيته . ولست أعنى من النسب، إنما أهل بيت الذكر .
/وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=230 - TOP#TOPفصل(186/316)
قال القاضي أبو يعلى في عيون المسائل : مسألة : ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافًا للأشعرية في قولهم : لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول .
وقال : نحن لا نمنع صحة النظر، ولانمنع حصول المعرفة به وإنما خلافنا هل تحصل بغيره، واستدل بأن النبوة إذا ثبتت بقيام المعجزة علمنا أن هناك مرسلًا أرسله، إذ لا يكون هناك نبي إلا وهناك مرسل، وإذا ثبت أن هناك مرسلا أغنى ذلك عن النظر والاستدلال في دلائل العقول على إثباته .
/وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد ما ذكره الخطابي أيضًا في ( الغنية عن الكلام وأهله ) وقد سلك بعض من بحث في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة، ومعجزات الرسالة؛ لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا إليه النبي، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسول، وذكر قصة جعفر وأصحابه مع النجاشي، وقصة الأعرابي الذي قال : من خلق السماء وغير ذلك ؟
قلت : كثير من المتكلمين يقولون : لابد أن تتقدم المعرفة أولا بثبوت الرب وصفاته التي يعلم بها أنه هو، ويظهر المعجزة، وإلا تعذر الاستدلال بها على صدق الرسول، فضلا عن وجود الرب .(186/317)
وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت، وقد جاء القرآن بها في قصة فرعون فإنه كان منكرا للرب . قال تعالى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } إلى قوله : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ } [ الشعراء : 16-33 ] .(186/318)
فهنا : قد عرض عليه موسى الحجة البينة التي جعلها دليلًا على صدقه في كونه رسول رب العالمين . وفي أن له إلها غير فرعون يتخذه . وكذلك قال تعالى : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَّ } [ هود : 14 ] فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة، وذلك لأن المعجزة ـ التي هي فعل خارق للعادة ـ تدل بنفسها على ثبوت الصانع، كسائر الحوادث، بل هي أخص من ذلك، لأن الحوادث المعتادة ليست في الدلالة كالحوادث الغريبة، ولهذا يسبح الرب عندها، ويمجد ويعظم ما لا يكون عند المعتاد، ويحصل في النفوس ذلة من ذكر عظمته ما لا يحصل للمعتاد، إذ هي آيات جديدة فتعطى حقها، وتدل بظهورها على الرسول، وإذا تبين أنها تدعو إلى الإقرار بأنه رسول الله، فتتقرر بها الربوبية والرسالة، لاسيما عند من يقول : دلالة المعجزة على صدق الرسول ضرورية، كما هو قول طائفة من متكلمي المعتزلة : كالجاحظ، وطوائف من غيرهم، كالأشعرية والحنبلية الذين يقولون : يحصل الفرق بين المعجزة والسحر والكرامة بالضرورة .
/ومن يقول : إن شهادة المعجزة على صدق النبي معلوم بالضرورة، وهم كثير من الأشعرية والحنبلية، وكثير من هؤلاء يقول : لأن عدم دلالتها على الصدق مستلزم عجز البارئ، إذ لا طريق سواها .
وأما المعتزلة : فلأن عندهم أن ذلك قبيح، لا يجوز من الباري فعله . والأولون يقولون : ليس . كأمور كثيرة جدًا، وقد بينت في غير هذا الموضع أن العلم موجود ضروري، وهو الذي عليه جمهور .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=230 - TOP#TOPوسئل :(186/319)
أيما أولى : معالجة ما يكره الله من قلبك مثل : الحسد والحقد والغل والكبر والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب، وغير ذلك، مما يختص بالقلب من درنه، وخبثه ؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة : من الصلاة والصيام وأنواع القربات : من النوافل والمنذورات مع وجود تلك الأمور في قلبه ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب ـ رحمه الله ـ :
الحمد لله . من ذلك ما هو عليه واجب : وأن للأوجب فضل وزيادة . كما قال تعالى فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : ( ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ) . ثم قال : ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ملك، والأعضاء جنوده . فإذا خبث الملك خبثت جنوده، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ) وكذلك أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد . وإذا كان المقدم هو الأوجب، سواء سمى /باطنًا أو ظاهرًا، فقد يكون ما يسمى باطنًا أوجب مثل ترك الحسد والكبر فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام، وقد يكون ما سمى ظاهرًا أفضل : مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من جنس الغبطة ونحوها، وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعين الآخر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتورث الخشوع، ونحو ذلك من الآثار العظيمة : هي أفضل الأعمال والصدقة . والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=230 - TOP#TOPوسئل :
هل قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( زدني فيك تحيرًا ؟ ) ، وقال بعض العارفين : أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة . قيل : من أين تقع الحيرة ؟ قيل : من معنيين :(186/320)
أحدهما : كثرة اختلاف الأحوال عليه . والآخر : شدة الشر، وحذر الإياس . وقال الواسطي : نازلة تنزل بقلوب العارفين بين الإياس والطمع لا تطمعهم في الوصل فيستريحون، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون، وقال بعضهم : متى أصل إلى طريق الراجين، وأنا مقيم في حيرة المتحيرين ؟ . وقال محمد بن الفضل العارف : كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة . وقال : أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا . وقال الجنيد : انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة . وقال ذو النون [ ذو النون المصري هو : ثوبان بن إبراهيم، وقيل : فيض بن أحمد، وقيل : فيض بن إبراهيم النوبي الأخميمي، يكني أبا الفيض، ولد في أواخر أيام المنصور . روى عن مالك، والليث، وابن لهيعة وغيرهم، وروى عنه أحمد بن صحيح الفيومي، وربيعة بن محمد الطائي وغيرهم، وقلَّ ما روى من الحديث، ولا كان يتقنه . وقال الدارقطني : روى عن مالك أحاديث فيها نظر . وكان واعظًا . قال ابن يونس : كان عالمًا فصيحًا حكيما . توفى في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومئتين . [ سير أعلام النبلاء : 11/532 : 536 ] . : غاية العارفين التحير . وأنشد بعضهم :
قد تحيرت فيك خذ بيدي ** يا دليلا لمن تحير فيه
فبينوا لنا القول في ذلك بيانًا شافيًا ؟
/فأجاب :(186/321)
الحمد لله، هذا الكلام المذكور : ( زدني فيك تحيرًا ) من الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وإنما يرويه جاهل أو ملحد، فإن هذا الكلام يقتضي أنه كان حائرا، وأنه سأل الزيادة في الحيرة، وكلاهما باطل، فإن الله هداه بما أوحاه إليه وعلمه ما لم يكن يعلم، وأمره بسؤال الزيادة من العلم بقوله : { رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114 ] وهذا يقتضي أنه كان عالمًا، وأنه أمر بطلب المزيد من العلم، ولذلك أمر هو والمؤمنون بطلب الهداية في قوله : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] ، وقد قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، فمن يهدي الخلق كيف يكون حائرًا ؟ والله قد ذم الحيرة في القرآن في قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ } [ الأنعام : 71 ] .(186/322)
وفي الجملة، فالحيرة من جنس الجهل والضلال، ومحمد صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق علمًا بالله وبأمره، وأكمل الخلق اهتداء في نفسه، وهديا لغيره، وأبعد الخلق عن الجهل والضلال . قال تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } [ النجم : 1-3 ] ، وقال تعالى : / { الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ إبراهيم : 1 ] ، وقال تعالى : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ } إلى قوله : { فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] فالله قد هدى المؤمنين به، وقال تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 28 ] فقد كفل الله لمن آمن به أن يجعل له نورًا يمشي به . كما قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [ الأنعام : 122 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، ومثل هذا كثير في القرآن والحديث .(186/323)
ولم يمدح الحيرة أحد من أهل العلم والإيمان، ولكن مدحها طائفة من الملاحدة : كصاحب [ الفصوص ] ابن عربي وأمثاله من الملاحدة، الذين هم حيارى، فمدحوا الحيرة وجعلوها أفضل من الاستقامة، وادعوا أنهم أكمل الخلق، وأن خاتم الأولياء منهم يكون أفضل في العلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله منهم، وكانوا في /ذلك . كما يقال فيمن قال : [ فخر عليهم السقف من تحتهم ] لا عقل ولا قرآن، فإن الأنبياء أقدم، فكيف يستفيد المتقدم من المتأخر، وهم عند المسلمين واليهود والنصارى ليسوا أفضل من الأنبياء، فخرج هؤلاء عن العقل والدين : دين المسلمين واليهود والنصارى . وهؤلاء قد بسطنا الرد عليهم في غير هذا الموضع .
ولهم في : [ وحدة الوجود والحلول والاتحاد ] كلام من شر كلام أهل الإلحاد، وأما غير هؤلاء من الشيوخ الذين يذكرون الحيرة : فإن كان الرجل منهم يخبر عن حيرته، فهذا لايقتضي مدح الحيرة، بل الحائر مأمور بطلب الهدى، كما نقل عن الإمام أحمد أنه علم رجلا أن يدعو يقول : يا دليل الحائرين دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين .
فأما الذي قال : أول المعرفة الحيرة، وآخرها الحيرة، فقد يريد بذلك معنى صحيحًا مثل أن يريد : أن الطالب السالك يكون حائرًا قبل حصول المعرفة والهدى، فإن كل طالب للعلم والهدى هو قبل حصول مطلوبه في نوع من الحيرة، وقوله : آخرها الحيرة، قد يراد به أنه لا يزال طالب الهدى والعلم، فهو بالنسبة إلى ما لم يصل إليه حائر، وليس في ذلك مدح الحيرة، ولكن يراد به أنه لابد أن يعترى الإنسان نوع من الحيرة التي يحتاج معها إلى العلم والهدى .
/وقوله : والحيرة من معنيين :(186/324)
أحدهما : كثرة اختلاف الأحوال . والآخر : شدة الشر، وحذر الإياس، إخبار عن سلوك معين، فإنه ليس كل سالك يعتريه هذا، ولكن من السالكين من تختلف عليه الأحوال، حتى لا يدري ما يقبل وما يرد وما يفعل وما يترك، والواجب على من كان كذلك دوام الدعاء لله سبحانه وتعالى، والتضرع إليه والاستهداء بالكتاب والسنة .
وكذلك بشدة الشر وحذر الإياس، فإن في السالكين من يبتلى بأمور من المخالفات يخاف معها أن يصير إلى اليأس من رحمة الله، لقوة خوفه وكثرة المخالفة عند نفسه، ومثل هذا ينبغي أن يعلم سعة رحمة الله، وقبول التوبة من عباده وفرحه بذلك .
وقول الآخر : نازلة تنزل بقلوب العارفين بين اليأس والطمع، فلا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا، فيقال : هذا أيضًا حال عارض لبعض السالكين، ليس هذا أمرًا لازمًا لكل من سلك طريق الله، ولا هو أيضًا غاية محمودة ولكن بعض السالكين يعرض له هذا . كما يذكر عن الشبلي [ الشِّبْليُّ : قيل : اسمه دلف بن جحدر، وقيل : جعفر بن يونس، شيخ الطائفة، أبو بكر، الشبلي البغدادي . أصله من الشبلية قرية . ومولده بسامراء . كان فقيهًا عارفًا بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة . وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن، لكنه كان يحصل له جفاف دماغ وسكر . فيقول أشياء يعتذر عنه . توفى ببغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة . عن نيف وثمانين سنة . [ سير أعلام النبلاء 51/367 : 369 ] ، أنه كان ينشد في هذا المعنى :
/أظلت علينا منك يومًا سحابة ** أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها
فلا غيمها يجلو فييأس طامع ** ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها(186/325)
وصاحب هذا الكلام إلى أن يعفو الله عنه ويغفر له مثل هذا الكلام أحوج منه إلى أن يمدح عليه أو يقتدى به فيه، ومثل هذا كثير قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع، لما تكلمنا على ما يعرض لطائفة من كلام فيه معاتبة لجانب الربوبية، وإقامة حجة عليه بالمجنون المتحير، وإقامة عذر المحب، وأمور تشبه هذا، قد تحيز من قال بموجبها إلى الكفر والإلحاد، إذ الواجب الإقرار لله بفضله وجوده وإحسانه، وللنفس بالتقصير والذنب . كما في الحديث الصحيح : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
وفي الحديث الصحيح الإلهي : ( يقول الله تعالى : يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ) . وفي الحديث الصحيح : / ( يقول الله : من تقرب إليَّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعَا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) وفي الحديث الصحيح : ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ) وقد ثبت : أن الله تعالى كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وقد ثبت من حكمته ورحمته وعدله ما يبهر العقول؛ لأن هذه المسألة تتعلق بأصول كبار من مسائل [ القدر ] و [ الأمر ] و [ الوعد ] و [ الوعيد ] و [ الأسماء والصفات ] قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع .(186/326)
والمقصود هنا : الكلام على ما ذكر عن هؤلاء الشيوخ، فقول القائل : لا تطمعهم في الوصول فيستريحوا، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا . هي حال عارض لشخص قد تعلقت همته بمطلوب معين وهو يتردد فيه بين اليأس والطمع، وهذا حال مذموم، لأن العبد لا ينبغي له أن يقترح على الله شيئًا معينًا، بل تكون همته فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور . فمتى أعين على هذه الثلاثة جاء بعد ذلك من المطالب : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . ولو تعلقت همته بمطلوب فدعا الله به فإن الله يعطيه إحدى خصال ثلاث : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها .
ولفظ [ الوصول ] لفظ مجمل؛ فإنه ما من سالك إلا وله غاية /يصل إليها . وإذا قيل : وصل إلى الله، أو إلى توحيده أو معرفته أو نحو ذلك، ففي ذلك من الأنواع المتنوعة والدرجات المتباينة ما لا يحصيه إلا الله تعالى .
ويأس الإنسان أن يصل إلى ما يحبه الله ويرضاه من معرفته وتوحيده كبيرة من الكبائر، بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه . لكن من رجا شيئًا طلبه، ومن خاف من شىء هرب منه، وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال، وإذا رأى أنه لا ينشرح صدره ولا يحصل له حلاوة الإيمان ونور الهداية فليكثر التوبة والاستغفار وليلازم الاجتهاد بحسب الإمكان، فإن الله يقول : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وعليه بإقامة الفرائض ظاهرًا وباطنًا، ولزوم الصراط المستقيم مستعينًا بالله، متبرئًا من الحول والقوة إلا به .(186/327)
ففي الجملة ليس لأحد أن ييأس، بل عليه أن يرجو رحمة الله كما أنه ليس له ألا ييأس، بل عليه أن يخاف عذابه . قال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 57 ] . قال بعضهم : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو /حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد .
وأما قول القائل : متى أصل إلى طريق الراجين ؟ وأنا مقيم في حيرة المتحيرين؛ فهذا إخبار منه عن حال مذموم هو فيها، كما يخبر الرجل عن نقص إيمانه، وضعف عرفانه، وريب في يقينه، وليس مثل هذا مما يطلب، بل هو مما يستعاذ بالله منه .
وأما قول محمد بن الفضل : أنه قال : العارف كلما انتقل من حال إلى حال استقبلته الدهشة والحيرة . فهذا قد يراد به أنه كلما انتقل إلى مقام من المعرفة واليقين حصل له تشوق إلى مقام لم يصل إليه من المعرفة، فهو حائر بالنسبة إلى ما لم يصل إليه دون ما وصل إليه .
وقوله : أعرف الناس بالله أشدهم فيه تحيرًا، أي أطلبهم لزيادة العلم والمعرفة؛ فإن كثرة علمه ومعرفته توجب له الشعور بأمور لم يعرفها بعد، بل هو حائر فيها طالب لمعرفتها والعلم بها، ولا ريب أن أعلم الخلق بالله قد قال : ( لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) والخلق ما أتوا من العلم إلا قليلًا .
وما نقل عن [ الجنيد ] أنه قال : انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة؛/فهذا ما أعرفه من كلام الجنيد، وفيه نظر، هل قاله ؟ ! ولعل الأشبه أنه ليس من كلامه المعهود، فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه، لم يرد بذلك أن الأنبياء والأولياء لم يحصل لهم يقين ومعرفة وهدى وعلم، فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا، وهذا الكلام مردود على من قاله .(186/328)
لكن إذا قيل : إن أهل المعرفة مهما حصلوا من المعرفة واليقين والهدى فهناك أمور لم يصلوا إليها فهذا صحيح . كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو حاتم في صحيحه : ( اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي ) قال : ( من قال هذا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا ) فقد أخبر أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده وهذه لا يعلمها ملك ولا بشر .
فإذا أراد المريد أن عقول العقلاء لم تصل إلى معرفة مثل هذه الأمور فهذا صحيح، وأما إذا أراد أن العقلاء ليس عندهم علم ولا يقين بل حيرة وريب، فهذا باطل قطعًا .
وما ذكر عن [ ذي النون ] في هذا الباب، مع أن ذا النون قد وقع منه كلام أنكر عليه، وعزره الحارث بن مسكين، وطلبه /المتوكل إلى بغداد واتهم بالزندقة، وجعله الناس من الفلاسفة، فما أدري هل قال هذا أم لا ؟ بخلاف الجنيد فإن الاستقامة والمتابعة غالبة عليه، وإن كان كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ثم معصوم من الخطأ غير الرسول، لكن الشيوخ الذين عرف صحة طريقتهم علم أنهم لا يقصدون ما يعلم فساده بالضرورة من العقل والدين . وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة، والله أعلم .
سئل عن رجل يحب رجلاً عالمًا . فإذا التقيا ثم افترقا حصل لذلك الرجل شبه الغشى من أجل الافتراق . وإذا كان الرجل العالم مشغولا بحيث لا يلتفت إليه لم يحصل له هذا الحال . فهل هذا من الرجل المحب ؟ أم هو تأثير الرجل العالم ؟
فأجاب :(186/329)
الحمد لله، سببه من هذا ومن هذا، مثل الماء إذا شربه العطشان حصل له لذة وطيب، وسببها عطشه وبرد الماء، وكذلك النار إذا وقعت في القطن سببه منها، ومن القطن . والعالم المقبل على الطالب يحصل له لذة وطيب وسرور بسبب إقبال هذا وتوجهه، وهذا حال المحب مع المحبوب . والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=231 - TOP#TOPسئل :
ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات وما سوى ذلك من الأحوال ـ مع قلة علمهم، وجهل بعضهم ـ ما لا يفتح على المشتغلين بالعلم ودرسه ؟ والبحث عنه ؟ حتى لو بات الإنسان متوجها مشتغلا بالذكر والحضور لا بد أن يرى واقعه أو يفتح عليه شيء، ولو بات ليلة يكرر على باب من أبواب الفقه لا يجد ذلك، حتى إن كثيرًا من المتعبدين يجد للذكر حلاوة ولذة . ولا يجد ذلك عند قراءة القرآن . مع أنه قد وردت السنة بتفضيل العالم على العابد، لا سيما إذا كان العابد محتاجًا إلى علم هو مشتغل به عن العبادة .
ففي الحديث : ( إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل للعابدين والمجاهدين : ادخلوا الجنة، فيقول العلماء : بفضل علمنا عبدوا وجاهدوا، فيقول الله عز وجل لهم : أنتم عندي كملائكتي، اشفعوا فيشفعون . ثم يدخلون الجنة وغير ذلك من الأحاديث والآثار .(186/330)
ثم إن كثيرًا من المتعبدين يؤثر العبادة على طلب العلم، مع جهله بما يبطل كثيرًا من عبادته، كنواقض الوضوء، أو مبطلات الصلاة والصوم . و ربما يحكي بعضهم حكاية في هذا المعنى : بأن : [ رابعة العدوية ] ـ رحمها الله ـ أتت ليلة بالقدس تصلي حتى الصباح، وإلى جانبها بيت فيه فقيه يكرر على باب الحيض إلى الصباح، فلما أصبحت رابعة قالت له : يا هذا، وصل الواصلون إلى ربهم، وأنت مشتغل بحيض النساء، أو نحوها . فما المانع أن يحصل للمشتغلين بالعلم ما يحصل للمشتغلين بالعبادة مع فضله عليه ؟
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين، لا ريب أن الذي أوتي العلم والإيمان أرفع درجة من الذين أوتوا الإيمان فقط،كما دل على ذلك الكتاب والسنة، والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثته الأنبياء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن العلماء ورثة الأنبياء؛ إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) .
وهذا العلم ثلاثة أقسام :
/علم بالله وأسمائه وصفاته : وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي، ونحوهما .
والقسم الثاني : العلم بما أخبر الله به، مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك .
والقسم الثالث : العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها وأقوال الجوارح وأعمالها، و هذا العلم يندرج فيه العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، وهذا العلم يندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزء من جزء من جزء من علم الدين، كما أن المكاشفات التي تكون لأهل الصفا جزء من جزء من جزء من علم الأمور الكونية .(186/331)
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل، لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي /القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب . ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها . ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر . ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها ) .
فقد يكون الرجل حافظًا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنا بل يكون منافقًا . فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه . وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان . وأما الذي أوتي العلم والإيمان فهو مؤمن عليم، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته .
وههنا [ أصل آخر ] وهو أنه ليس كل عمل أورث كشوفًا أو تصرفًا في الكون يكون أفضل من العمل الذي لا يورث كشفًا وتصرفًا، فإن الكشف والتصرف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله وإلا كان من متاع الحياة الدنيا . وقد يحصل ذلك للكفار من المشركين وأهل الكتاب، وإن لم يحصل لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة، وأولئك أصحاب النار .
/ففضائل الأعمال ودرجاتها لا تتلقى من مثل هذا، وإنما تتلقى من دلالة الكتاب والسنة، ولهذا كان كثير من الأعمال يحصل لصاحبه في الدنيا رئاسة ومال، فأكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن عبد الله بغيرعلم فقد أفسد أكثر مما يصلح، وإن حصل له كشف وتصرف، وإن اقتدى به خلق كثير من العامة، وقد بسطنا الكلام في هذا الباب في مواضعه، فهذا [ أصل ثان ] .(186/332)
و [ أصل ثالث ] أن تفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقًا مثل تفضيل أصل الدين على فرعه، وقد يكون مقيدًا . فقد يكون أحد العملين في حق زيد أفضل من الآخر، والآخر في حق عمرو أفضل، وقد يكونان متماثلين في حق الشخص، وقد يكون المفضول في وقت أفضل من الفاضل، وقد يكون المفضول في حق من يقدر عليه وينتفع به أفضل من الفاضل في حق من ليس كذلك .
مثال ذلك : أن قراءة القرآن أفضل من مجرد الذكر بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة ـ ولا اعتبار بمن يخالف ذلك من جهال العباد ـ ثم الركوع والسجود ينهي فيه عن قراءة القرآن، ويؤمر فيه بالذكر، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف وعرفة ونحوهما، أفضل من قراءة القرآن، وكذلك الأذكار المشروعة : مثل ما يقال عند سماع النداء ودخول المسجد والمنزل والخروج منهما، وعند سماع /الديكة والحمر ونحو ذلك أفضل من قراءة القرآن في هذا الموطن، وأيضًا فأكثر السالكين إذا قرؤوا القرآن لا يفهمونه . وهم بعد لم يذوقوا حلاوة الإيمان الذي يزيدهم بها القرآن إيمانًا، فإذا أقبلوا على الذكر أعطاهم الذكر من الإيمان ما يجدون حلاوته ولذته، فيكون الذكر أنفع لهم حينئذ من قراءة لا يفهمونها، ولا معهم من الإيمان ما يزداد بقراءة القرآن، أما إذا أوتي الرجل الإيمان فالقرآن يزيده من الإيمان ما لا يحصل بمجرد الذكر، فهذا [ أصل ثالث ] .
و [ أصل رابع ] وهو أن الرجل قد يأتي بالعمل الفاضل من غير قيام بشروطه، ولا إخلاص فيه، فيكون بتفويت شرائطه دون من أتى بالمفضول المكمل .
فهذه الأصول ونحوها تبين جواب هذا السائل، وإن كان تفصيل ذلك لا تتسع له الورقة ،والله أعلم .(186/333)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=231 - TOP#TOPسئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن قوم داوموا على [ الرياضة ] مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا، فقالوا : لا نبالي الآن ما عملنا، وإنما الأوامر والنواهي رسوم العوام، ولو تجوهروا لسقطت عنهم، وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد منها ضبط العوام، ولسنا نحن من العوام، فندخل في حجر التكليف؛ لأنا قد تجوهرنا، وعرفنا الحكمة فهل هذا القول كفر من قائله ؟ أم يبدع من غير تكفير ؟ وهل يصير ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم ؟
فأجاب :
لا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا القول من أعظم الكفر وأغلظه . وهو شر من قول اليهود والنصارى، فإن اليهودي والنصراني آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وأولئك هم الكافرون حقا كما ذكر أنهم يقرون بأن لله أمرًا ونهيًا، ووعدًا ووعيدًا، وأن ذلك متناول لهم إلى حين الموت . هذا إن كانوا متمسكين باليهودية والنصرانية المبدلة المنسوخة .
وأما إن كانوا من منافقي أهل ملتهم ـ كما هو الغالب على متكلمهم /ومتفلسفهم ـ كانوا شرًا من منافقي هذه الأمة، حيث كانوا مظهرين للكفر ومبطنين للنفاق، فهم شر ممن يظهر إيمانًا ويبطن نفاقًا .
والمقصود أن المتمسكين بجملة منسوخة فيها تبديل خير من هؤلاء الذين يزعمون سقوط الأمر والنهي عنهم بالكلية، فإن هؤلاء خارجون في هذه الحال عن جميع الكتب والشرائع والملل، لا يلتزمون لله أمرًا ولا نهيًا بحال، بل هؤلاء شر من المشركين المستمسكين ببقايا من الملل : كمشركي العرب الذين كانوا مستمسكين ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام، فإن أولئك معهم نوع من الحق يلتزمونه، وإن كانوا مع ذلك مشركين، وهؤلاء خارجون عن التزام شيء من الحق، بحيث يظنون أنهم قد صاروا سدى لا أمر عليهم ولا نهي .(186/334)
فمن كان من قوله هو أنه أو طائفة غيره قد خرجت عن كل أمر ونهي، بحيث لا يجب عليها شيء، ولا يحرم عليها شيء، فهؤلاء أكفر أهل الأرض، وهم من جنس فرعون وذويه،وهم مع هذا لا بد أن يلتزموا بشيء يعيشون به، إذ لا يمكن النوع الإنساني أن يعيش إلا بنوع أمر ونهي، فيخرجون عن طاعة الرحمن وعبادته إلى طاعة الشيطان وعبادته، ففرعون هو الذي قال لموسى : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] ثم كانت له آلهة يعبدها . كما قال له قومه : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] .
/ولكن كثيرا من هؤلاء لا يطلقون السلب العام، ويخرجون عن ربقة العبودية مطلقًا . بل يزعمون سقوط بعض الواجبات عنهم، أو حل بعض المحرمات لهم، فمنهم من يزعم أنه سقطت عنه الصلوات الخمس لوصوله إلى المقصود وربما قد يزعم سقوطها عنه إذا كان في حال مشاهدة وحضور، وقد يزعمون سقوط الجماعات عنهم استغناء عنها بما هو فيه من التوجه والحضور، ومنهم من يزعم سقوط الحج عنه مع قدرته عليه، لأن الكعبة تطوف به،أو لغير هذا من الحالات الشيطانية، ومنهم من يستحل الفطر في رمضان لغير عذر شرعي زعمًا منه استغناؤه عن الصيام، ومنهم من يستحل الخمر زعمًا منه أنها إنما تحرم على العامة الذين إذا شربوها تخاصموا وتضاربوا دون الخاصة العقلاء، ويزعمون أنها تحرم على العامة الذين ليس لهم أعمال صالحة، فأما أهل النفوس الزكية والأعمال الصالحة، فتباح لهم دون العامة .(186/335)
وهذه [ الشبهة ] كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن عبد الله شربها هو وطائفة وتأولوا قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [ المائدة : 93 ] ، فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا .
وقال عمر /لقدامة : أخطأت استك الحفرة . أما أنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر، وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب : أن الله سبحانه لما حرم الخمر ـ وكان تحريمها بعد وقعة أحد ـ قال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم تحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين .(186/336)
وهذا كما أنه لما صرف القبلة وأمرهم باستقبال الكعبة بعد أن كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس، فقال الله تعالى : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم إلى بيت المقدس . فبين سبحانه أن من عمل بطاعة الله أثابه الله على ذلك، وإن نهى عن ذلك في وقت آخر، ومن استحل ما لم يحرمه لم يكن عليه جناح، إذا كان من المؤمنين المتقين وإن حرم الله ذلك في وقت آخر، فأما بعد أن حرم الخمر فاستحلالها بمنزلة الصلاة إلى الصخرة بعد تحريم ذلك، وبمنزلة التعبد بالسبت واستحلال الزنا، وغير ذلك مما استقرت الشريعة على خلاف ما كان، وإلا فليس لأحد أن يستمسك من شرع منسوخ بأمر . ومن فعل ذلك كان بمنزلة المستمسك بما نسخ من الشرائع؛ فلهذا اتفق الصحابة على أن من استحل الخمر قتلوه، ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا، وعلموا أنهم أخطؤوا وأيسوا من التوبة . فكتب /عمر إلى قدامة يقول له : { حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [ غافر : 1-3 ] ، ما أدري أي ذنبيك أعظم استحلالك المحرم أولًا ؟ أم يأسك من رحمة الله ثانيًا ؟
وهذا الذي اتفق عليه الصحابة،هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك، ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة : كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة : كالفواحش، والظلم والخمر والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة : كالخبز واللحم والنكاح ـ فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن أضمر ذلك كان زنديقًا منافقًا ،لا يستتاب عند أكثر العلماء، بل يقتل بلا استتابة، إذا ظهر ذلك منه .(186/337)
ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش : كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلو بهن، زعمًا منه أنه يحصل لهن البركة بما يفعله معهن وإن كان محرمًا في الشريعة . وكذلك من يستحل ذلك من المردان ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم هو طريق لبعض السالكين حتى يترقى من محبة المخلوق إلى محبة الخالق ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى، وقد يستحلون الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول : إن التلوط مباح بملك اليمين . فهؤلاء كلهم كفار باتفاق المسلمين، وهم /بمنزلة من يستحل قتل المسلمين بغير حق، ويسبي حريمهم ويغنم أموالهم، وغير ذلك من المحرمات، التي يعلم أنها من المحرمات تحريمًا ظاهرًا متواترًا .
لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به، فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [ الإسراء : 15 ] ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه، أو لم يعلم أن الخمر يحرم، لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا، بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية، بل قد اختلف العلماء فيمن أسلم بدار الحرب ولم يعلم أن الصلاة واجبة ثم علم . هل يجب عليه قضاء ما تركه في حال الجهل ؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره :
أحدهما : لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب أبي حنيفة .(186/338)
والثاني : يجب عليه القضاء، وهو المشهور عند أصحاب الشافعي، بل النزاع بين العلماء في كل من ترك واجبًا قبل بلوغ الحجة : مثل ترك الصلاة عند عدم الماء يحسب أن الصلاة لا تصح بتيمم، أو من أكل حتى تبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويحسب أن ذلك هو المراد بالآية، كما جرى ذلك /لبعض الصحابة، أو مس ذكره، أو أكل لحم الإبل ولم يتوضأ، ثم تبين له وجوب ذلك، وأمثال هذه المسائل هل يجب عليه القضاء ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره . وأصل ذلك هل يثبت حكم الخطاب في حق المكلف قبل التمكن من سماعه ؟ على [ ثلاثة أقوال ] في مذهب أحمد وغيره :
قيل : يثبت مطلقًا، وقيل : لا يثبت مطلقًا، وقيل : يفرق بين الخطاب الناسخ، والخطاب المبتدأ، كأهل القبلة . والصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية : أن الخطاب لا يثبت في حق أحد قبل التمكن من سماعه، فإن القضاء لا يجب عليه في الصور المذكورة ونظائرها مع اتفاقهم على انتفاء الإثم؛ لأن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، فإذا كان هذا في التأثيم فكيف في التكفير .
وكثير من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يندرس فيها كثير من علوم النبوات، حتى لا يبقى من يبلغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا مما يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة عن أهل العلم والإيمان، وكان حديث العهد بالإسلام، فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث : ( يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا زكاة ولا /صومًا ولا حجًا إلا الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقول : أدركنا آباءنا وهم يقولون : لا إله إلا الله، وهم لا يدرون صلاة ولا زكاة ولا حجا، فقال : ولا صوم ينجيهم من النار ) .(186/339)
وقد دل على هذا الأصل ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قال رجل ـ لم يعجل حسنة قط ـ لأهله إذا مات فحرقوه، ثم أذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذبنه أحدًا من العالمين . فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه،ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال : من خشيتك يارب، وأنت أعلم؛ فغفر الله له ) ، وفي لفظ آخر : ( أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال : إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في البحر . فوالله لئن قدر على ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا . قال : ففعلوا ذلك به . فقال للأرض : أدّ ما أخذت، فإذا هو قائم . فقال له : ما حملك على ما صنعت . قال : خشيتك يارب . أو قال : مخافتك، فغفر له بذلك ) ، وفي طريق آخر : ( قال الله لكل شيء أخذ منه شيئًا : أد ما أخذت منه ) .
وقد أخرج البخاري هذه القصة من حديث حذيفة وعقبة بن عمرو أيضًا عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كان /رجل فيمن كان قبلكم كان يسىء الظن بعمله، فقال لأهله : إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا، فجمعه الله . ثم قال : ما حملك على الذي فعلت ؟ فقال : ما حملني إلا مخافتك، فغفر له ) .
وفي طريق آخر : ( إن رجلا حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلت لحمي، ووصلت إلى عظمي، فامتحشت، فخذوها فاطحنوها ثم انظروا يومًا فذروني في اليم . فجمعه الله فقال له : لم فعلت ذلك ؟ قال : من خشيتك . فغفر الله له ) قال عقبة بن عمرو : أنا سمعته ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ يقول ذلك : ( وكان نباشًا ) .(186/340)
فهذا الرجل ظن أن الله لا يقدر عليه إذا تفرق هذا التفرق، فظن أنه لا يعيده إذا صار كذلك، وكل واحد من إنكار قدرة الله تعالى، وإنكار معاد الأبدان وإن تفرقت كفر . لكنه كان مع إيمانه بالله وإيمانه بأمره وخشيته منه جاهلًا بذلك، ضالًا في هذا الظن مخطئًا . فغفر الله له ذلك، والحديث صريح في أن الرجل طمع ألا يعيده إذا فعل ذلك، وأدنى هذا أن يكون شاكا في المعاد، وذلك كفر ـ إذا قامت حجة النبوة على منكره حكم بكفره ـ هو بين في عدم إيمانه /بالله تعالى ومن تأول قوله : لئن قدر الله على بمعنى قضى، أو بمعنى ضيق، فقد أبعد النجعة، وحرف الكلم عن مواضعه، فإنه إنما أمر بتحريقه وتفريقه لئلا يجمع ويعاد . وقال : إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا .
فذكر هذه الجملة الثانية بحرف الفاء عقيب الأولى يدل على أنه سبب لها، وإنه فعل ذلك لئلا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، فلو كان مقرًا بقدرة الله عليه إذا فعل ذلك كقدرته عليه إذا لم يفعل لم يكن في ذلك فائدة له، ولأن التقدير عليه والتضييق موافقان للتعذيب، وهو قد جعل تفريقه مغايرًا، لأن يقدر الرب . قال : فوالله، لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين، فلا يكون الشرط هو الجزاء، ولأنه لو كان مراده ذلك لقال : فوالله لئن جازاني ربي أو لئن عاقبني ربي ليعذبني عذابًا، كما هو الخطاب المعروف في مثل ذلك، ولأن لفظ : [ قدر ] بمعنى ضيق لا أصل له في اللغة .(186/341)
ومن استشهد علي ذلك بقوله : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } [ سبأ : 11 ] ، وقوله : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] قد استشهد بما لا يشهد له . فإن اللفظ كان بقوله : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } ، أي أجعل ذلك بقدر، ولا تزد ولا تنقص . وقوله : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } ، أي جعل رزقه قدر ما يغنيه /من غير فضل، إذ لو ينقص الرزق عن ذلك لم يعش .
وأما [ قدر ] بمعنى قَدَّرَ أي أراد تقدير الخير والشر، فهو لم يقل : إن قدر علي ربي العذاب، بل قال : لئن قدر علي ربي، والتقدير يتناول النوعين، فلا يصح أن يقال : لئن قضى الله علي؛ لأنه قد مضى وتقرر عليه ما ينفعه وما يضره، ولأنه لو كان المراد التقدير أو التضييق لم يكن ما فعله مانعًا من ذلك في ظنه،ودلائل فساد هذا التحريف كثيرة ليس هذا موضع بسطها،فغاية ما في هذا أنه كان رجلا لم يكن عالمًا بجميع ما يستحقه الله من الصفات، وبتفصيل أنه القادر، وكثير من المؤمنين قد يجهل مثل ذلك، فلا يكون كافرًا .(186/342)
ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : بلى، قالت : لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، واضطجع فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت، فأخذ رداءه رويدًا، وانتقل رويدًا، وفتح الباب رويدًا، فخرج، ثم أجافه رويدًا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه /ثلاث مرات،ثم انحرف فانحرفت وأسرع فأسرعت فهرول وهرولت وأحضر وأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فقال : ( ما لك يا عائشة حَشْيَاءَ رابية ؟ ) قالت : لاشيء . قال : ( لتخبريني،أو ليخبرني اللطيف الخبير ) . قالت : قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته . قال : ( فأنت السواد الذي رأيت أمامي ؟ ) قلت : نعم، فلهزني في صدري لهزة أوجعتني . ثم قال : ( أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ ! ) قالت : قلت : مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال : ( نعم ) . قال : ( فإن جبريل ـ عليه السلام ـ أتاني حين رأيت فناداني، فأخفاه منك فأجبته وأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننتُ أنك رقدت، وكرهت أن أوقظك وخشيت أن تستوحشي ـ فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم ) قلت : كيف أقول يا رسول الله ؟ قال قولي : ( السلام على أهل الديار من المؤمنين، والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) .(186/343)
فهذه عائشة أم المؤمنين، سألت النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم الله كل ما يكتم الناس ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعم ) ، وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة، وإن كان الإقرار بذلك /بعد قيام الحجة من أصول الإيمان، وإنكار علمه بكل شيء كإنكار قدرته على كل شيء، هذا مع أنها كانت ممن يستحق اللوم على الذنب، و لهذا لهزها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( أتخافين أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ ! ) وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع .
فقد تبين أن هذا القول كفر، ولكن تكفير قائله لا يحكم به حتى يكون قد بلغه من العلم ما تقوم به عليه الحجة التي يكفر تاركها، ودلائل فساد هذا القول كثيرة في الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ومشائخها، لا يحتاج إلى بسطها، بل قد علم بالاضطرار من دين الإسلام : أن الأمر والنهي ثابت في حق العباد إلى الموت .
وأما قول القائل : هل يصدر ذلك عمن في قلبه خضوع للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ .
فيقال : هذا لا يصدر عمن هو مقر بالنبوات مطلقًا، بل قائل ذلك كافر بجميع الأنبياء والمرسلين؛ لأنهم جميعًا أتوا بالأمر والنهي للعباد إلى حين الموت بل لايصدر هذا القول ممن في قلبه خضوع لله وإقرار بأنه إله العالم، فإن هذا الإقرار يستلزم أن يكون الإنسان عبدًا لله خاضعًا له، ومن سوغ لإنسان أن يفعل ما يشاء من غير تعبد بعبادة الله، فقد أنكر أن يكون الله إلهه .
/وأما قولهم : إنهم قد تجوهروا، فقالوا : لا نبالي الآن ماعملنا ؟(186/344)
فيقال لهم : ماذا تعنون بقولكم ؟ فإن أرادوا أن النفس بقيت صافية طاهرة، لا تنازع إلى الشهوات والأهواء المردية، فهذا لو كان حقًا لكان معناه : أن النفس قد صارت مطيعة ليس فيها دواعي المعصية فتكون منقادة إلى فعل المأمور، ولا تميل إلى المحظور، وهذا غايته أن تكون معصومة لا تطلب فعل القبيح، وهذا ما يخرجها أن تكون مأمورة منهية كالملائكة .
وإذا قال مثل هؤلاء : لا ينافى ما عملنا، قيل لهم : الذي تعملونه إن كان من جنس الأهواء المردية فقد تناقضتم في زعمكم أن نفوسكم لم يبق لها هوى، وإن كان من جنس الأعمال الصالحة فهذا جنس لا ينكر، فعلم أنهم متناقضون في هذا الكلام إذا أرادوا بتجوهر النفس صفاءها وطهارتها عن الأكدار البشرية، مع أن هذا الكمال ممتنع في حق البشر ما دامت الأرواح في الأجسام، ولهذا أنكر المشائخ ذلك على من ادعاه، كالآثار المعروفة في ذلك عن الشيخ أبي علي الروذباري [ أبو علي الروذباري هو : أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور، وقيل : اسمه حسن بن هارون شيخ الصوفية، سكن مصر، وصحب الجنيد، وأبا الحسين النووي حدَّث عن مسعود الرملي وغيره وقال : أستاذي في الفقه ابن سريج، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث إبراهيم الحربي . قال أبو علي الكاتب : ما رأيت أحدًا أجمع لعلم الشريعة والحقيقة من أبي علي . توفى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة . سير أعلام النبلاء 41/535، 536 ] ، وغيرهم وأعظم الناس درجة الأنبياء عليهم السلام، وقد أمرهم الله بالتوبة والاستغفار، حتى خاتم الرسل أمره الله في أواخر ما أنزل عليه من القرآن ما أمره به بقوله : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] .(186/345)
/ولهذا كان الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن الأنبياء إنما هم معصومون من الإقرار على الذنوب،وإن الله يستدركهم بالتوبة التي يحبها الله ـ { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } [ البقرة : 222 ] ـ وإن كانت حسنات الأبرار سيئات المقربين . وإن ما صدر منهم من ذلك إنما كان لكمال النهاية بالتوبة لا لنقص البداية بالذنب . و أما غيرهم فلا تجب له العصمة، وإنما يدعي العصمة المطلقة لغير الأنبياء الجهال من الرافضة وغالية النساك، وهذا مبسوط في موضعه .
وأما قولهم : حاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، فلا ريب أن الله يبعث الأنبياء لما فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد، ولا ريب أن الله أمر العباد بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم، ولا ريب أن الحكمة هي العلم والعمل بها، كما فسرها بذلك مالك بن أنس وغيره من الأئمة، لكن أي شيء في هذا مما يوجب سقوطها عن بعض العباد ؟ وإنما يخرج عن الحكمة والمصلحة من يكون سفيها مفسدًا { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] ، { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] .
وأما قولهم : المراد منها ضبط العوام ولسنا نحن من العوام .
فالكلمة الأولى : زندقة ونفاق،والثانية كذب واختلاق، فإنه ليس المراد من الشرائع مجرد ضبط العوام، بل المراد منها الصلاح باطنًا /وظاهرًا، للخاصة والعامة في المعاش والمعاد، ولكن في بعض فوائد العقوبات المشروعة في الدنيا ضبط العوام . كما قال عثمان ابن عفان ـ رضي الله عنه : ( إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ) فإن من يكون من المنافقين والفجار فإنه ينزجر بما يشاهده من العقوبات، وينضبط عن انتهاك المحرمات، فهذا بعض فوائد العقوبات السلطانية المشروعة .
وأما فوائد الأمر والنهي : فأعظم من أن يحصيها خطاب أو كتاب، بل هي الجامعة لكل خير يطلب ويراد، وفي الخروج عنها كل شر وفساد .(186/346)
ودعوى هؤلاء أنهم من الخواص، يوجب أنهم من حثالة منافقي العامة، وهم داخلون فيما نعت الله به المنافقين في قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 8- 18 ] ، وفي مثل قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ(186/347)
الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 60 : 65 ] . ولبسط الكلام على أمثال هؤلاء موضع غير هذا .
ومن هؤلاء من يحتج بقوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، ويقول معناها : اعبد ربك حتى يحصل لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت العبادة . وربما قال بعضهم : اعمل حتى يحصل لك حال، فإذا حصل لك حال تصوفي سقطت عنك العبادة، وهؤلاء فيهم من إذا ظن حصول مطلوبه من المعرفة والحال استحل ترك الفرائض، وارتكاب المحارم، وهذا كفر، كما تقدم .
ومنهم من يظن استغناءه عن النوافل حينئذ، وهذا مغبون منقوص جاهل ضال خاسر باعتقاد الاستغناء عن النوافل واستخفافه بها حينئذ، /بخلاف من تركها معتقدًا كمال من فعلها حينئذ معظمًا لحاله، فإن هذا ليس مذمومًا، وإن كان الفاعل لها مع ذلك أفضل منه، أو يكون هذا من المقربين السابقين، وهذا من المقتصدين ،أصحاب اليمين .(186/348)
ومن هؤلاء من يظن أن الاستمساك بالشريعة ـ أمرًا ونهيًا ـ إنما يجب عليه ما لم يحصل له من المعرفة أو الحال، فإذا حصل له لم يجب عليه حينئذ الاستمساك بالشريعة النبوية، بل له حينئذ أن يمشي مع الحقيقة الكونية القدرية، أو يفعل بمقتضى ذوقه ووجده وكشفه ورأيه من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وهؤلاء منهم من يعاقب بسلب حاله حتى يصير منقوصًا عاجزًا محرومًا، ومنهم من يعاقب بسلب الطاعة حتى يصير فاسقًا، ومنهم من يعاقب بسلب الإيمان حتى يصير مرتدًا منافقًا، أو كافرًا ملعنًا . وهؤلاء كثيرون جدًا، وكثير من هؤلاء يحتج بقصة موسى والخضر .(186/349)
فأما استدلالهم بقوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، فهي عليهم لا لهم، قال الحسن البصري : إن الله لم يجعل لعمل المؤمنين أجلا دون الموت، وقرأ قوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ، وذلك أن اليقين هنا الموت وما بعده باتفاق علماء المسلمين وهؤلاء من المستيقنين . وذلك مثل قوله : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } إلى قوله : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَع الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين } ُ [ المدثر : 42 : 47 ] . فهذا قالوه وهم في جهنم . وأخبروا أنهم كانوا على ما هم عليه من ترك الصلاة والزكاة والتكذيب بالآخرة، والخوض مع الخائضين حتى أتاهم اليقين . ومعلوم أنهم مع هذا الحال لم يكونوا مؤمنين بذلك في الدنيا، ولم يكونوا مع الذين قال الله فيهم : { وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] ، وإنما أراد بذلك أنه أتاهم ما يوعدون، وهو اليقين . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما توفى عثمان بن مظعون ـ وشهدت له بعض النسوة بالجنة . فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( وما يدريك ؟ إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي ) وقال : ( أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه ) أي أتاه وعده وهو اليقين .(186/350)
و [ يقين ] على وزن فعيل، وسواء كان فعيل بمعنى مفعول، أي الموت . كالحبيب والنصيح والذبيح، أو كان مصدرًا وضع موضع المفعول . كقوله : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } [ لقمان : 11 ] ، وقوله : { أَتَى أَمْرُ اللّهِ } [ النحل : 1 ] وقوله : ضرب الأمير، وغفر الله لك . قيل : وقولهم قدرة عظيمة . وأمثال ذلك، فإنه كثير . فعلى التقديرين المعنى لا يختلف، بل اليقين هو ما وعد به العباد من أمر الآخرة، وقوله : { حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] كقولك : يأتيك ما توعد .
فإما أن يظن أن المراد : اعبده حتى يحصل لك إيقان، ثم لا عبادة /عليك . فهذا كفر باتفاق أئمة المسلمين، ولهذا لما ذكر للجنيد بن محمد أن قومًا يزعمون أنهم يصلون من طريق البر إلى ترك العبادات . فقال : الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء، ومازال أئمة الدين ومشائخه يعظمون النكير على هؤلاء المنافقين، وإن كانوا من الزهاد العابدين وأهل الكشف والتصرف في الكون وأرباب الكلام والنظر في العلوم، فإن هذه الأمور قد يكون بعضها في أهل الكفر والنفاق ومن المشركين وأهل الكتاب . وإنما الفاصل بين أهل الجنة وأهل النار، الإيمان والتقوى . الذي هو نعت أولياء الله . كما قال : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] وأما احتجاجهم بقصة موسى والخضر فيحتجون بها على وجهين :(186/351)
أحدهما : أن يقولوا : إن الخضر كان مشاهدا الإرادة الربانية الشاملة، والمشيئة الإلهية العامة، وهي [ الحقيقة الكونية ] . فلذلك سقط عنه الملام فيما خالف فيه الأمر والنهي الشرعي، وهو من عظيم الجهل والضلال، بل من عظيم النفاق والكفر، فإن مضمون هذا الكلام : أن من آمن بالقدر وشهد أن الله رب كل شيء، لم يكن عليه أمر ولا نهي، وهذا كفر بجميع كتب الله و رسله ،وما جاؤوا به من الأمر والنهي، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } ، قال الله /تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } [ الأنعام : 148 ] ، ونظير هذا في سورة النحل، وفي سورة يس : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ يس : 47 ] وكذلك في سورة الزخرف : { وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [ الزخرف : 20 ] .
وهؤلاء هم : [ القدرية المشركية ] الذين يحتجون بالقدر على دفع الأمر والنهي هم شر من القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة، الذين روى فيهم : ( إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ) ؛ لأن هؤلاء يقرون بالأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن أنكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، وربما أنكروا سابق العلم .(186/352)
وأما [ القدرية المشركية ] فإنهم ينكرون الأمر والنهي والثواب والعقاب، لكن وإن لم ينكروا عموم الإرادة والقدرة والخلق، فإنهم ينكرون الأمر والنهي والوعد والوعيد، ويكفرون بجميع الرسل والكتب، فإن الله إنما أرسل الرسل مبشرين، من أطاعهم بالثواب . ومنذرين من عصاهم بالعقاب . وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا .
/وأيضًا، فإن موسى عليه السلام كان مؤمنًا بالقدر، وعالمًا به، بل أتباعه من بني إسرائيل كانوا أيضًا مؤمنين بالقدر . فهل يظن من له أدنى عقل أن موسى طلب أن يتعلم من الخضر الإيمان بالقدر، وإن ذلك يدفع الملام، مع أن موسى أعلم بالقدر من الخضر، بل عموم أصحاب موسى يعلمون ذلك .
وأيضًا، فلو كان هذا هو السر في قصة الخضر بين ذلك لموسى . وقال : إني كنت شاهدًا للإرادة والقدر، وليس الأمر كذلك، بل بين له أسبابًا شرعية تبيح له ما فعل . كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
وأما [ الوجه الثاني ] : فإن من هؤلاء من يظن : إن من الأولياء من يسوغ له الخروج عن الشريعة النبوية، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى، وأنه قد يكون للولي في المكاشفة والمخاطبة ما يستغنى به عن متابعة الرسول في عموم أحواله أو بعضها، وكثير منهم يفضل الولي في زعمه، إما مطلقًا، وإما من بعض الوجوه على النبي، زاعمين أن في قصة الخضر حجة لهم، وكل هذه المقالات من أعظم الجهالات والضلالات بل من أعظم أنواع النفاق والإلحاد والكفر .
فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام : أن رسالة محمد بن عبد/الله صلى الله عليه وسلم لجميع الناس : عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم، وإنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة الثقلين الجن والإنس، وإنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين . وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته .(186/353)
وقال الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] ، قال ابن عباس : ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه .
وفي سنن النسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال : ( أمتهوكون [ التهوك : كالتهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية . النهاية 5/282 ] يا بن الخطاب ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي ) ـ هذا أو نحوه ـ ورواه أحمد في المسند ولفظه : ( ولو كان موسي حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ) . وفي مراسيل أبي داود قال : ( كفى بقوم ضلالة أن يبتغوا كتابًا غير كتابكم . أنزل على /نبي غير نبيهم ) وأنزل الله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [ العنكبوت : 51 ] .
بل قد ثبت بالأحاديث الصحيحة : ( أن المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء فإنه يكون متبعًا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ) فإذا كان صلى الله عليه وسلم يجب اتباعه ونصره على من يدركه من الأنبياء . فكيف بمن دونهم ؟(186/354)
بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره، كموسى وعيسى . فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة رسول، فكيف بالخروج عنه والرسل ؟ كما قال تعالى : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة : 136، 137 ] . وقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] .
/ولهذا لما كان قد دخل فيما ينقله أهل الكتاب عن الأنبياء تحريف وتبديل، كان ما علمنا أنه صدق عنهم آمنا به، وما علمنا أنه كذب رددناه، وما لم نعلم حاله لم نصدقه ولم نكذبه، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم . فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم . وقولوا : آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ) .(186/355)
ومما يبين الغلط الذي وقع لهم في الاحتجاج بقصة موسى والخضر على مخالفة الشريعة : أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر ولا أوجب الله على الخضر متابعته وطاعته، بل قد ثبت في الصحيحين : أن الخضر قال له : يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه . وذلك أن دعوة موسى كانت خاصة .
وقد ثبت في الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ـ فيما فضله الله به على الأنبياء ـ قال : ( كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ) فدعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع العباد، ليس لأحد الخروج عن متابعته وطاعته، ولا استغناء عن رسالته، كما ساغ للخضر الخروج عن متابعة موسى وطاعته /مستغنيًا عنه بما علمه الله . وليس لأحد ممن أدركه الإسلام أن يقول لمحمد : إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، ومن سوغ هذا أو اعتقد أن أحدًا من الخلق ـ الزهاد والعباد أو غيرهم ـ له الخروج عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فهو كافر باتفاق المسلمين . ودلائل هذا من الكتاب والسنة أكثر من أن تذكر هنا .
وقصة الخضر ليس فيها خروج عن الشريعة؛ ولهذا لما بين الخضر لموسى الأسباب التي فعل لأجلها ما فعل وافقه موسى، ولم يختلفا حينئذ . ولو كان ما فعله لالخضر مخالفًا لشريعة موسى لما وافقه .(186/356)
ومثل هذا وأمثاله يقع للمؤمنين بأن يختص أحد الشخصين بالعلم بسبب يبيح له الفعل في الشريعة، والآخر لا يعلم ذلك السبب، وإن كان قد يكون أفضل من الأول . مثل شخصين : دخلا إلى بيت شخص، وكان أحدهما يعلم طيب نفسه بالتصرف في منزله، إما بإذن لفظي أو غيره، فيتصرف . وذلك مباح في الشريعة، والآخر الذي لم يعلم هذا السبب لا يتصرف، وخرق السفينة كان من هذا الباب، فإن الخضر كان يعلم أن أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، وكان من المصلحة التي يختارها أصحاب السفينة، إذا علموا ذلك؛ لئلا يأخذها . . . خير من انتزاعها منهم .
/ونظير هذا حديث الشاة التي أصابها الموت فذبحتها امرأة بدون إذن أهلها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأذن لهم في أكلها ولم يلزم التي ذبحت بضمان ما نقصت بالذبح؛ لأنه كان مأذونًا فيه عرفًا، والأذن العرفي كالإذن اللفظي؛ ولهذا بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان في غيبته بدون استئذانه لفظًا، ولهذا لما دعاه أبو طلحة ونفرًا قليلاً إلى بيته، قام بجميع أهل المسجد، لما علم من طيب نفس أبي طلحة، وذلك لما يجعله الله من البركة . وكذلك حديث جابر .
وقد ثبت أن لحامًا دعاه فاستأذنه في شخص يستتبعه؛ لأنه لم يكن يعلم من طيب نفس اللحام ما علمه من طيب نفس أبي طلحة وجابر وغيرهما، وكذلك قتل الغلام كان من باب دفع الصائل على أبويه، لعلمه بأنه كان يفتنهما عن دينهما؛ وقتل الصبيان يجوز إذا قاتلوا المسلمين، بل يجوز قتلهم لدفع الصول على الأموال لهذا ثبت في صحيح البخاري أن نجدة الحروري لما سأل ابن عباس عن قتل الغلمان قال : إن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم .(186/357)
وكذلك في الصحيحين : أن عمر لما استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل ابن صياد، وكان مراهقًا، لما ظنه الدجال، فقال : ( إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله ) فلم يقل : إن يكنه فلا خير لك في قتله، بل قال : ( فلن تسلط عليه ) .
/وذلك يدل على أنه لو أمكن إعدامه قبل بلوغه لقطع فساده لم يكن ذلك محذورًا، وإلا كان التعليل بالصغر كافيًا، فإن الأعم إذا كان مستقلاً بالحكم كان الأخص عديم التأثير، كما قال في الهرة : ( إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) .
وأما بناء الجدار فإنما فيه ترك أخذ الجعل مع جوعهم، وقد بين الخضر : أن أهله فيهم من الشيم وصلاح الوالد ما يستحقون به التبرع، وإن كان جائعًا .
ومن ذلك أن من أسباب الوجوب والتحريم والإباحة ما قد يكون ظاهرًا، فيشترك فيها الناس، ومنه ما يكون خفيًا عن بعضهم ظاهرًا لبعضهم على الوجه المعتاد، ومنه ما يكون خفيًا يعرف بطريق الكشف، وقصة الخضر من هذا الباب . وذلك يقع كثيرًا في أمتنا . مثل أن يقدم لبعضهم طعام فيكشف له أنه مغصوب فيحرم عليه أكله، وإن لم يحرم ذلك على من لم يعلم ذلك . أو يظفر بمال يعلم أن صاحبه أذن له فيه فيحل له أكله، فإنه لا يحل ذلك لمن لم يعلم الإذن . وأمثال ذلك .(186/358)
فمثل هذا إذا كان الشيخ من المعروفين بالصدق والإخلاص كان مثل هذا من مواقع الاجتهاد، الذي يصيب فيه تارة ويخطئ أخرى، /فإن المكاشفات يقع فيها من الصواب والخطأ نظير ما يقع في الرؤيا وتأويلها، والرأي، والرواية، وليس شيء معصومًا على الإطلاق إلا ما ثبت عن الرسول، ولهذا يجب رد جميع الأمور إلى ما بعث به ولهذا كان الصديق المتلقى عن الرسول كل شيء، مثل أبي بكر أفضل من المحدث مثل عمر، وكان الصديق يبين للمحدث المواضع التي اشتبهت عليه، حتى يرده إلى الصواب، كما فعل أبو بكر بعمر يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قتال مانعى الزكاة، وغير ذلك . وهذا الباب قد بسطناه في غير هذا الموضع .
والمقصود أنه ليس في قصة الخضر ما يسوغ مخالفة شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلق . نعم لفظ [ الشرع ] قد صار فيه اشتراك في عرف العامة، منهم من يجعله عبارة عن حكم الحكام، ولا ريب أن حكم الحاكم قد يطابق الحق في الباطن، وقد يخالفه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أم سلمة : ( إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) .
وقد اتفق المسلمون على أن حكم الحاكم بالحقوق المرسلة لا يغير الشيء عن صفته في الباطن، فلو حكم بمال زيد لعمر، لإقرار أو بينة /كان ذلك باطلاً في الباطن، ولم يبح ذلك له في الباطن، ولا يجوز له أخذه مع العلم بالحال باتفاق المسلمين، وكذلك عند جماهير الأمة لو حكم بعقد أو فسخ نكاح أو طلاق وبيع فإن حكمه لا يغير الباطن عندهم .
وإن كان منهم من يقول : حكمه يغير ذلك في هذا الموضع؛ لأن له ولاية العقود والفسوخ . فالصحيح قول الجمهور، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وسائر فقهاء أهل الحجاز والحديث، وكثير من فقهاء العراق .(186/359)
وأيضًا فلفظ [ الشرع ] في هذا الزمان، يطلق على ثلاثة معان :
شرع منزل، وشرع متأول، وشرع مبدل .
[ فالمنزل ] : الكتاب والسنة، فهذا الذي يجب اتباعه على كل واحد، ومن اعتقد أنه لا يجب اتباعه على بعض الناس فهو كافر .
و [ المتأول ] موارد الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، فاتباع أحد المجتهدين جائز لمن اعتقد أن حجته هي القوية، أو لمن ساغ له تقليده ولا يجب على عموم المسلمين اتباع أحد بعينه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فكثير من المتفقهة إذا رأى بعض الناس من المشائخ الصالحين، يرى أنه يكون الصواب مع ذلك، وغيره قد خالف /الشرع، وإنما خالف ما يظنه هو الشرع، وقد يكون ظنه خطأ فيثاب على اجتهاده، وخطؤه مغفور له وقد يكون الآخر مجتهدا مخطئًا .
وأما [ الشرع المبدل ] : فمثل الأحاديث الموضوعة، والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم، فهذا يحرم أيضًا، وهذا من مثار النزاع، فإن كثيرًا من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتباع مذهبه المعين، وتقليد متبوعه، والتزام حكم حاكمه باطنًا وظاهرًا، ويرى خروجه عن ذلك خروجًا عن الشريعة المحمدية، وهذا جهل منه وظلم، بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق .
كما أن كثيرًا من المتصوفة والمتفقرة يرى مثل ذلك في شيخه ومتبوعه، وهو في هذا نظير ذلك . وكل من هؤلاء قد يسوغ الخروج عما جاء به الكتاب والسنة، لما يظنه معارضًا لهما، إما لما يسميه هذا ذوقًا ووجدًا، ومكاشفات ومخاطبات، وإما لما يسميه هذا قياسًا ورأيًا وعقليات وقواطع، وكل ذلك من شعب النفاق، بل يجب على كل أحد تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به، وطاعته في جميع ما أمر به، وليس لأحد أن يعارضه بضرب الأمثال، ولا بآراء الرجال، وكل ما عارضه فهو خطأ وضلال .
/وقد ذكرنا من تفصيل ذلك في غيرهذا الموضع ما لا يتسع له هذا المجال .(186/360)
والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة، وفي جميع الأحوال . والله سبحانه وتعالى أعلم . والحمد لله وحده، وصلواته وسلامه على نبيه محمد وآله وصحبه وسلم .
سئل شيخ الإسلام عن الحديث المروي في الأبدال : هل هو صحيح أم مقطوع ؟ وهل ( الأبدال ) مخصوصون بالشام ؟ أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم ؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعدًا في جماعة ويغيب جسده ؟
وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة، ويقولون : هذا غوث الأغواث، وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم، وهذا القطب الكبير، وهذا خاتم الأولياء ؟
فأجاب :
أما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل [ الغوث ] الذي بمكة، و [
الأوتاد الأربعة ] و [ الأقطاب السبعة ] و [ الأبدال الأربعين ] و [ النجباء الثلاثمائة ] : فهذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى؛ ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، ولا ضعيف يحمل عليه ألفاظ الأبدال .
/فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن فيهم ـ يعني أهل الشام ـ الأبدال أربعين رجلا، كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ) ، ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف، كما هي على هذا الترتيب . ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعاني عن المشائخ المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا، وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشائخ، وقد قالها إما آثرًا لها عن غيره أو ذاكرًا .
وهذا الجنس ونحوه من علم الدين قد التبس عند أكثر المتأخرين حقه بباطله، فصار فيه من الحق ما يوجب قبوله، ومن الباطل ما يوجب رده، وصار كثير من الناس على طرفي نقيض .(186/361)
قوم كذبوا به كله لما وجدوا فيه من الباطل .
وقوم صدقوا به كله لما وجدوا فيه من الحق، وإنما الصواب التصديق بالحق والتكذيب بالباطل، وهذا تحقيق لما أخبر به النبي عليه السلام عن ركوب هذه الأمة سنن من قبلها حذو القذة بالقذة .
فإن أهل الكتابين لبسوا الحق بالباطل، وهذا هو التبديل /والتحريف الذي وقع في دينهم، ولهذا يتغير الدين بالتبديل تارة، وبالنسخ أخرى، وهذا الدين لا ينسخ أبدًا لكن يكون فيه من يدخل من التحريف والتبديل والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفًا عن الرسل، فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فيحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون .
فالكتب المنزلة من السماء، والأثارة من العلم المأثورة عن خاتم الأنبياء، يميز الله بها الحق من الباطل، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وبذلك يتبين أن هذه الأسماء على هذا العدد، والترتيب والطبقات ليست حقًا في كل زمان، بل يجب القطع بأن هذا على عمومه وإطلاقه باطل، فإن المؤمنين يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقل فيهم السابقون المقربون تارة، ويكثرون أخرى، وينتقلون في الأمكنة، وليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل فيهم من السابقين المقربين لزوم مكان واحد في جميع الأزمنة، وليس من شرط أولياء الله أهل الإيمان والتقوى ومن يدخل فيهم من السابقين المقربين تعيين العدد .(186/362)
وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل من سبعة، ثم أقل من أربعين، ثم أقل من سبعين، ثم أقل من /ثلاثمائة فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه الأعداد، ومن الممتنع أن يكون ذلك في الكفار . ثم هاجر هو وأصحابه إلى المدينة، وكانت هي دار الهجرة والسنة والنصرة، ومستقر النبوة وموضع خلافة النبوة، وبها انعقدت بيعة الخلفاء الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وإن كان قد خرج منها بعد أن بويع فيها، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل منهم .
ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان في المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين، بل من الصديقين السابقين المقربين عدد لا يحصى عدده إلا رب العالمين، لا يحصرون بثلاثمائة ولا بثلاثة آلاف، ولما انقرضت القرون الثلاثة الفاضلة كان في القرون الخالية من أولياء الله المتقين، بل من السابقين المقربين من لا يعرف عدده، وليسوا بمحصورين بعدد ولا محدودين بأمد، وكل من جعل لهم عددًا محصورًا فهو من المبطلين عمدًا أو خطأ، فنسأله من كان القطب والثلاثة إلى سبعمائة، في زمن آدم ونوح وإبراهيم، وقبل محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة ؟ ! قال الله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا } [ النحل : 120 ] أي كان مؤمنًا وحده وكان الناس كفارًا جميعًا، وفي صحيح البخاري أنه قال لسارة : ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وقال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا
مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } [ الجمعة : 2 ] .(186/363)
وإن زعموا أنهم كانوا بعد رسولنا عليه السلام نسألهم في أي زمان كانوا ؟ ومن أول هؤلاء ؟ وبأية آية ؟ وبأي حديث مشهور في الكتب الستة ؟ وبأي إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبت وجود هؤلاء بهذه الأعداد حتى نعتقده ؟ لأن العقائد لا تعقد إلامن هذه الأدلة الثلاثة، ومن البرهان العقلي { قٍلً هّاتٍوا بٍرًهّانّكٍمً إن كٍنتٍمً صّادٌقٌينّ } [ البقرة : 111 ] ، فإن لم يأتوا بهذه الأدلة الأربعة الشرعية فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم .
ويلزم منه أن يرزق الله سبحانه وتعالى الكفار وينصرهم على عدوهم بالذات بلا واسطة، ويرزق المؤمنين وينصرهم بواسطة المخلوقات، والتعظيم في عدم الواسطة، كروح الله، وناقة الله، تدبر ولا تتحير، واحفظ القاعدة حفظًا .
/فأما لفظ الغوث والغياث ) فلا يستحقه إلا الله فهو غياث المستغيثين، فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره، لا بملك مقرب ولا نبي مرسل .
ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها /كشف الضر عنهم، ونزول الرحمة إلى الثلاثمائة، والثلاثمائة إلى السبعين، والسبعون إلى الأربعين، والأربعون إلى السبعة، والسبعة إلى الأربعة، والأربعة إلى الغوث، فهو كاذب ضال مشرك، فقد كان المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] .(186/364)
فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعده بوسائط من الحجاب ؟ وهو القائل تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة : 186 ] ، وقال إبراهيم عليه السلام داعيًا لأهل مكة : { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفي عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء } [ إبراهيم : 37 : 39 ] .
وقال النبي عليه السلام لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالذكر : ( أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا وإنما تدعون /سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) وهذا باب واسع .
وقد علم المسلمون كلهم أنه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون يرفعون إلى الله حوائجهم، لا ظاهرًا ولا باطنًا بهذه الوسائط والحجاب، فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك وسائر ما يقوله الظالمون علوًا كبيرًا، وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لابد في كل زمان من إمام معصوم يكون حجة الله على المكلفين لا يتم الإيمان إلا به، ثم مع هذا يقولون : إنه كان صبيًا دخل السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر، ولا يدرك له حس ولا خبر .(186/365)
وهؤلاء الذين يدعون هذه المراتب فيهم مضاهاة للرافضة من بعض الوجوه، بل هذا الترتيب والأعداد تشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية، والنصيرية، ونحوه في السابق والتالي والناطق، والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب، الذي ما نزل الله به من سلطان .
/وأما الأوتاد : فقد يوجد في كلام البعض أنه يقول : فلان من الأوتاد، يعني بذلك أن الله تعالى يثبت به الإيمان، والدين في قلوب من يهديهم الله به، كما يثبت الأرض بأوتادها، وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء، فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة، والجبال الكبيرة، ومن كان بدونه كان بحسبه، وليس ذلك محصورًا في أربعة ولا أقل ولا أكثر، بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة بقول المنجمين في أوتاد الأرض .
وأما القطب : فيوجد أيضًا في كلامهم فلان من الأقطاب، أو فلان قطب، فكل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا، باطنًا أو ظاهرًا فهو قطب ذلك الأمر ومداره، سواء كان الدائر عليه أمر داره أو دربه، أو قريته أو مدينته، أمر دينها أو دنياها، باطنًا أو ظاهرًا، ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر، لكن الممدوح من ذلك من كان مدارًا لصلاح الدنيا والدين دون مجرد صلاح الدنيا، فهذا هو القطب في عرفهم، فقد يتفق في بعض الأعصار أن يكون شخص أفضل أهل عصره، وقد يتفق في عصر آخر أن يتكافأ اثنان أو ثلاثة في الفضل عند الله سواء، ولا يجب أن يكون في كل زمان شخص واحد هوأفضل الخلق عند الله مطلقًا .(186/366)
/وكذلك لفظ [ البدل ] جاء في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي عليه السلام، فإن الإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام، وكانت الشام والعراق دار كفر، ثم لما كان في خلافة علي ـ رضي الله عنه ـ قد ثبت عنه ـ عليه السلام ـ أنه قال : ( تمرق مارقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام، ومعلوم أن الذين كانوا مع علي ـ رضي الله عنه ـ من الصحابة مثل عمار بن ياسر، وسهل بن حنيف ونحوهما، كانوا أفضل من الذين كانوا مع معاوية، وإن كان سعد بن أبي وقاص ونحوه من القاعدين أفضل ممن كان معهما، فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال جميعهم الذين هم أفضل الخلق كانوا في أهل الشام ؟ ! هذا باطل قطعًا، وإن كان قد ورد في الشام وأهله فضائل معروفة فقد جعل الله لكل شىء قدرًا .
والكلام يجب أن يكون بالعلم والقسط، فمن تكلم في الدين بغيرعلم دخل في قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] ، وفي قوله تعالى : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ومن تكلم بقسط وعدل دخل في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } [ النساء : 135 ] ، وفي قوله تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } [ الأنعام : 152 ] ، وفي قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [ الحديد : 25 ] .(186/367)
والذين تكلموا باسم البدل فسروه بمعان : منها أنهم أبدال الأنبياء /ومنها أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلًا، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات، وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر، ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض، وبهذا التحرير يظهر المعنى في اسم ( النجباء ) .
فالغرض أن هذه الأسماء تارة تفسر بمعان باطلة بالكتاب والسنة وإجماع السلف، مثل تفسير بعضهم [ الغوث ] هو الذي يغيث الله به أهل الأرض في رزقهم ونصرهم، فإن هذا نظير ما تقوله النصارى في الباب وهو معدوم العين والأثر شبيه بحال المنتظر الذي دخل السرداب من نحو أربعمائة وأربعين سنة .
وكذلك من فسر [ الأربعين الأبدال ] بأن الناس إنما ينصرون ويرزقون بهم فذلك باطل، بل النصر والرزق يحصل بأسباب من آكدها دعاء المؤمنين، وصلاتهم وإخلاصهم، ولايتقيد ذلك لا بأربعين ولا بأقل ولا بأكثر، كما جاء في الحديث المعروف أن سعد بن أبي وقاص قال : يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، أيسهم له مثل ما يسهم لأضعفهم ؟ فقال : ( ياسعد، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ) .(186/368)
وقد يكون للرزق والنصر أسباب أخر؛ فإن الفجار والكفار /أيضًا يرزقون وينصرون، وقد يجدب الأرض على المؤمنين ويخيفهم من عدوهم لينيبوا إليه ويتوبوا من ذنوبهم، فيجمع لهم بين غفران الذنوب وتفريج الكروب، وقد يملي للكفار ويرسل السماء عليهم مدرارًا، ويمددهم بأموال وبنين ويستدرجهم من حيث لا يعلمون . إما ليأخذهم في الدنيا أخذ عزيز مقتدر، وإما ليضعف عليهم العذاب في الآخرة، فليس كل إنعام كرامة، ولا كل امتحان عقوبة، قال الله تعالى : { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا } [ الفجر : 15 : 17 ] .
وليس في أولياء الله المتقين، ولا عباد الله المخلصين الصالحين، ولا أنبيائه المرسلين، من كان غائب الجسد دائمًا عن أبصار الناس، بل هذا من جنس قول القائلين : إن عليًا في السحاب، وإن محمد ابن الحنفية في جبال رضوى، وإن محمد بن الحسن بسرداب سامري، وإن الحاكم بجبل مصر، وإن الأبدال الأربعين رجال الغيب بجبل لبنان، فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان، نعم قد تخرق العادة في حق الشخص، فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو عنه، وإما لغير ذلك، وأما أنه يكون هكذا طول عمره فباطل، نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله تعالى وأمانته وأنواره، ومعرفته غيبًا عن أعين الناس، ويكون صلاحه وولايته غيبًا عن /أكثر الناس، فهذا هو الواقع، وأسرار الحق بينه وبين أوليائه، وأكثر الناس لا يعلمون، وقد بينا بطلان اسم الغوث مطلقًا، واندرج في ذلك غوث العجم ومكة والغوث السابع .(186/369)
وكذلك لفظ ( خاتم الأولياء ) لفظ باطل لا أصل له، وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعى أنه خاتم الأولياء : كابن حمويه وابن عربي وبعض الشيوخ الضالين بدمشق وغيرها، وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي عليه السلام من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان، وكل ذلك طمعًا في رياسة خاتم الأولياء لما فاتتهم رياسة خاتم الأنبياء، وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك خاتم الأولياء، فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر رضي الله عنه، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه، وخير قرونها القرن الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وخاتم الأولياء في الحقيقة آخر مؤمن تقي يكون في الناس، وليس ذلك بخير الأولياء، ولا أفضلهم بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم عمر : اللذان ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=232 - TOP#TOPقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ـ :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليمًا دائمًا إلى يوم الدين .(186/370)
أما بعد، فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر [ البطائحية ] يوم السبت تاسع جمادي الأولى سنة خمس، لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه، فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة، /ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويره لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة، والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين .
وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء [ البطائحية ] ، وطريقهم وطريق [ الشيخ أحمد بن الرفاعي ] وحاله، وما وافقوا فيه المسلمين وما خالفوهم، ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم .
وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع ـ وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد ـ فيوجد أيضًا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول، والاستخفاف بشريعة الإسلام، والكذب والتلبيس، /وإظهار المخارق الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله ما يوجد .(186/371)
وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق : مثل ملابسة النار والحيات، وإظهار الدم، واللاذن [ اللاذن واللاذنة من العلوك، وقيل : هو دواء بالفارسية، وقيل : هو ندى يسقط على الغنم في بعض جزائر البحر . انظر : اللسان، مادة " لذن " ] والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك فلما رأوا معارضتي لهم، رجعوا ودخلوا على أن أسترهم فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك .
وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق، وكان له صنم يعبده، قال : فقال لي : هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بينا يرى فيه ! ! فأنكرت ذلك، فقال لي : إن كان يأكل أنت تموت ؟ فقلت : نعم، قال : فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر ! فاستعظم ذلك /التتري وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل، لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك، فقلت لهذا الشيخ : أنا أبين لك سبب ذلك . ذلك التتري كافر مشرك، ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام، وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض، فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا !(186/372)
وقلت لهم في مجلس آخر، لما قالوا : تريد أن نظهر هذه الإشارات ؟ قلت : إن عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن ـ من الأعراب والفلاحين، أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة ـ لم يحسب لكم ذلك . فمن معه ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلىّ عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش ومن الصفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك . فقالوا لي : لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا، فقلت : همتي ليست معكم، بل أنا معارض لكم مانع لكم، لأنكم تقصدون بذلك أبطال شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا . فانقلبوا صاغرين .
/فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر، مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن، فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينًا يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وإنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم ـ أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه ـ خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع، وقلت : هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدى بهم، ولا يجوز التعبد بذلك، ولا التقرب به إلى الله؛ لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك وهو أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى على رجل خاتمًا من حديد فقال : ( مالي أرى عليك حلية أهل النار ) .(186/373)
وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه بأهل النار من المنكرات، وقال بعض الناس : قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيًا، قال في آخره : ( أحب القيد وأكره الغل . القيد ثبات في الدين ) فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة ؟ !
فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحوًا منه مع /زيادة، وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله، ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به، وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله، الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم .
فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينًا لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات ؟ ! ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح أو مكروه أو محرم لم يجب عليه فعله، كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه، بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شىء عليه، فلا /يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة [ طاعة وعبادة ] .(186/374)
ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين كعهود أهل [ الفتوة ] و [ رماة البندق ] ونحو ذلك ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله إلا ما كان دينًا وطاعة لله ورسوله في شرع الله، لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك، ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الكتاب والسنة، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل : إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك . وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال : إنه قربة وطاعة .
فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه دينًا ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة وعمل .
وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد، يرون الشىء /إذا لم يكن محرمًا لا ينهى عنه، بل يقال : إنه جائز، ولا يفرقون بين اتخاذه دينا وطاعة وبرًا، وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينا بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصي وسيئات .
فصل(186/375)
فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة، ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر [ ذلك الشيخ ] لمسجد الجامع . وكان قد كتب إلى كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل .
فقلت لهم : الجواب يكون بالخطاب . فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، /وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] ، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع : أهل الأهواء .(186/376)
فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب . فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله . فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة، وكأنهم اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو ـ على ما ذكر لي ـ وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب، فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلبًا للبيان والتبصرة، ورجاء المنفعة والتذكرة، فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردي، وإظهار التوله /الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال، الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال .
فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له : هم مشتكون، فقال : ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم، وأظهر من الشكوى عليَّ ودعوى الاعتداء مني عليهم كلامًا كثيرًا لم يبلغني جميعه، لكن حدثني من كان حاضرًا أن الأمير قال لهم : فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : بل يقوله عن الله و رسوله صلى الله عليه وسلم، قال : فأي شىء يقال له ؟ قالوا : نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال : فنسمع كلامه، فمن كان الحق معه نصرناه، قالوا : نريد أن تشد منا، قال : لا، ولكن أشد من الحق سواء كان معكم أو معه، قالوا : ولا بد من حضوره ؟ قال : نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلى بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء .(186/377)
فلما علمت ذلك ألقى في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة /الحال، وإني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وإن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان، فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا عليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة . وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض؛ كبلاد الترك ومصر وغيرها : أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرع محمد بن عبد الله . وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق .
ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لابد من حضورهم لموعد الاجتماع، فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستنصرته واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقى في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون بردًا وسلامًا على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذه السبيل، وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم إمام الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء .
وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، نسب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والباطنية /كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم إلى الإشراك، ثم إلى جحود الحق تعالى . ومن شركهم الغلو في البشر، والابتداع في العبادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو به لائق، كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد .(186/378)
فلما أصبحنا ذهبت للميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحدًا للإسعاد، لكن ذهب أيضًا بعض من كان حاضرًا من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب . وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعًا مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالًا لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وإن لهم طريقًا لا يعرفها أحد من العلماء، وإن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وإنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة، وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر، وأن لهم طريقًا وله طريق، وهم الواصلون إلى كنه التحقيق، وأشباه هذه الدعاوى ذات الزخرف والتزويق .
وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، /وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لايزول بقول قائل .
قال المخبر : فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلىَّ مرة ثانية، فبلغه أني في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في حضورهم . فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ماذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء . وقال : إنهم قالوا : إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت : هذا من البهتان .(186/379)
وها أنا ذا أصف ما كان، قلت للأمير : نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار . وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم . وذكرت /تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري [ هو أيدمر بن عبد الله التركي، المكنى بعلم الدين المحيوي، شاعر،له قصائد وموشحات جيدة السبك، تركي الأصل، له اشتغال بالحديث، توفي سنة 674هـ . [ الأعلام للزركلي 2/34 ] . ، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضًا على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماة، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم . فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشبًا طوالًا وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض وأخذوا منه مالا كثيرا ثم انكشف له أمرهم .(186/380)
قلت للأمير : وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلًا في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا : إنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق : الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز، /فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي : إنه لما انقضى المجلس وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابا وهو نائب السلطنة بحماة يخبره بصورة ما جرى .
وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام كما سأذكره .
قلت للأمير : أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالًا يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا : هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه ـ سواء وافق الشرع أو خالفه ـ وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار .(186/381)
فقال الأمير : ولم ذاك ؟ قلت : لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق وغير ذلك /من الحيل المعروفة لهم، و أنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال : أتفعل ذلك ؟ فقلت له : نعم ! قد استخرت الله في ذلك وألقى في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء؛ فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لابد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا،فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات .
وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة؛ لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم . فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير، الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط، بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال : اليوم ترى حربًا عظيمًا، ولعل ذلك كان /جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل .(186/382)
وحضر شيوخهم الأكابر، فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير : إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وإن لهم فيهم ظنًا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال، فإنه ذكر لي ذلك .
وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وأكرمه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، الطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } [ لقمان : 19 ] .
فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكى، وشيخ آخر /يسمى نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين، وهم يسمونه : عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك . وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني ،فبقى في نفسي أن هذا خفي على تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفي على تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر فبقى ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه .(186/383)
فلما حضروا، تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع، ومتبعون للشريعة . فقلت : أما التوبة فمقبولة . قال الله تعالى : { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [ غافر : 3 ] ، هذه إلى جنب هذه . وقال تعالى : { ن نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [ الحجر : 49، 50 ] .
فأخذ شيخهم المشتكى ينتصرللبسهم الأطواق وذكر أن وهب بن منبه روى أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعل في عنقه طوقًا، في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت .
/فقلت لهم : ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال : ( أمتهوكون يابن الخطاب ؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ) ، وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال : ( كفي بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم ) ، وأنزل الله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [ العنكبوت : 51 ] .
فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا، كما قال تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } [ المائدة : 49 ] ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ(186/384)
عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] ، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها ؟ ! وما علينا من عباد بني إسرائيل ؟ ! { لْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ البقرة : 134 ] ، هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح؛ كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية .
/فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير : نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية .
فقلت له : هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني [ هو محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، كمال الدين، المعروف بابن الزملكاني فقيه، انتهت إليه رياسة الشافعية في عصره، ولد وتعلم بدمشق وتوفي في بلبيس ودفن بالقاهرة، له رسالة في الرد على ابن تيمية في مسألتي [ الطلاق والزيارة ] وله كتاب في التاريخ، وكتب أخرى، وكان شكله حسنًا ومنظره رائعًا، وعقيدته صحيحة متمكنة أشعرية . [ فوات الوفيات 4/7-11 ( 488 ) ] ، مفتى الشافعية ودعوته وقلت : ياكمال الدين ما تقول في هذا ؟ فقال : هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة، أو كما قال . وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك .
وقلت : ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر، فإني تكلمت بكلام بَعُد عهدي به .(186/385)
فانتدب ذلك الشيخ [ عبد الله ] ورفع صوته . وقال : نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه : مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وإن لنا أمرًا لا يقف عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا .
/فقلت له ـ ورفعت صوتي وغضبت ـ : الباطن والظاهر والجالس والمدارس، والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولامن الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . وذكرت هذا ونحوه .
فقال ـ ورفع صوته ـ : نحن لنا الأحوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة؛ كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها .
فقلت ـ ورفعت صوتي وغضبت ـ : أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت : فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك ؟ فقلت : لأن لهم حيلا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء : من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق . فضج الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال : أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت . فقلت : فقم، /وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص فقلت : لا ! حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم، فقال : من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال : حزمة حطب . فقلت : هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود بل قنديل يوقد وأدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت أصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت : فهو مغلوب . فلما قلت ذلك تغير وذل . وذكر لي أن وجهه اصفرّ .(186/386)
ثم قلت لهم : ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك مايدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء : أمطري فتمطر، وللأرض : أنبتى فتنبت، وللخربة : أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلا ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له : قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب .
وذكرت قول أبي يزيد البسطامي : لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي : أتدري /ما قال صاحبنا، يعني الليث بن سعد ؟ قال : لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به . فقال الشافعي : لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به، وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به . ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير، والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها .
فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا مامضمونه : { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 118، 119 ] ،وذكروا أيضًا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهما، فقلت : ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب أنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة . وأنه دخل إلى الروم واستحوذ عليهم .(186/387)
فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون رجعوا، وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى /داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما تطلب منهم فقلت : متابعة الكتاب والسنة مثل ألا يعتقد أنه لا يجب عليه اتباعهما، أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما، ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر، وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه .
فقالوا : نحن ملتزمون الكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق ؟ نحن نخلعها . فقلت : الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئًا معينًا،وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال الأمير : فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة ؟ فقلت : حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزامًا عامًا، ومن خرج عنه ضربت عنقه ـ وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان ـ وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًا في حق جميع الناس، فإن هذا مشهد عام مشهور قد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة، وأهل الديوان، والعلماء والعباد، وهؤلاء وولاة الأمور ـ أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه .(186/388)
/قلت : ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، فإن من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته، حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا على في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة : يا سيدي أحمد، شيء لله . وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة . وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا وهذا منكر يبطل الصلاة .
فقال : هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس .
فقلت : العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب ولا يملك أحدهم دفعه،وأما هذا الصياح فهو من الشيطان،وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى : مثل قول أحدهم : أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر كذا وكذا من الإمام، ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالنوبة، وأنا أعلم أنهم متولون للشياطين ليسوا / مغلوبين على ذلك، كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها .(186/389)
فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم قلت له : أهذا موافق للكتاب والسنة ؟ فقال : هذا من الله حال يرد عليهم، فقلت : هذا من الشيطان الرجيم لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال : مافي السموات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له : هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل مافي العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن .
فقال : فبأي شيء تبطل هذه الأحوال . فقلت : بهذه السياط الشرعية . فأعجب الأمير وضحك، وقال : أي والله، بالسياط الشرعية تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية، وأمسكت سيف الأمير وقلت : هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير / هذا الكلام، وأخذ بعضهم يقول : فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن ؟ فقلت : اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته . فأفحموا لذلك .
و [ حقيقة الأمر ] أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لم يقر، ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًا فهو إما مرتد وإما مشرك وإما زنديق ظاهر الزندقة .(186/390)
وذكرت ذم [ المبتدعة ] فقلت : روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : ( إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) .
وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين / من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) وفي رواية : ( وكل ضلالة في النار ) .
فقال لي : البدعة مثل الزنا، وروى حديثًا في ذم الزنا، فقلت : هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها، وكان قد قال بعضهم : نحن نتوب الناس، فقلت : مماذا تتوبونهم ؟ قال : من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك . فقلت : حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي .(186/391)
قلت مخاطبًا للأمير والحاضرين : أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد فلعنه رجل مرة . وقال : / لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ) . قلت : فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنه .
وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) وفي رواية : ( لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل ) وفي رواية : ( شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه ) .(186/392)
قلت : فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، /وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي : لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء . فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر . أخذ شيخهم عبد الله يقول : يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز ـ يعني أتباع أحمد بن الرفاعي ـ فقلت منكرًا بكلام غليظ : ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز ياذو الزرجنة ،تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال : يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت : مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم : إن لهم سرًا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم . وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل .
وقلت لهم : يا شبه الرافضة يا بيت الكذب ـ فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ماقد يقاربون به الرافضة في ذلك،أو يساوونهم، / أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم : لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا : أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم : أنا كافر بكم وبأحوالكم، فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون .
ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .(186/393)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=233 - TOP#TOPسئل شيخ الإسلام، وناصر السنة، فريد الوقت، وبحر العلوم، بقية المجتهدين، وحجة المتأخرين، تاج العارفين، وقدوة المحققين، رحلة الطالبين، ونخبة الراسخين، إمام الزاهدين ومنال المجتهدين، الإمام الحجة النوراني، والعالم المجتهد الرباني، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ـ أدام الله علو قدره في الدارين، وجعله يتسنم ذروة الكمال مسرور القلب قرير العين ـ عن [ المرشدة ] كيف كان أصلها وتأليفها ؟ وهل تجوز قراءتها أم لا ؟
فأجاب ـ رحمه الله تعالى ـ قائلا :
الحمد لله رب العالمين، أصل هذه : أنه وضعها أبوعبد الله محمد بن عبد الله بن التومرت، الذي تلقب بالمهدي، وكان قد ظهر في المغرب في أوائل المائة الخامسة من نحو مائتي سنة، وكان قد دخل إلى بلاد العراق، وتعلم طرفًا من العلم، وكان فيه طرف من الزهد والعبادة .
ولما رجع إلى المغرب صعد إلى جبال المغرب، إلى قوم من البربر / وغيرهم جهال لا يعرفون من دين الإسلام إلا ما شاء الله، فعلمهم الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك من شرائع الإسلام، واستجاز أن يظهر لهم أنواعًا من المخاريق، ليدعوهم بها إلى الدين، فصار يجيء إلى المقابر يدفن بها أقوامًا ويواطئهم على أن يكلموه إذا دعاهم، ويشهدوا له بما طلبه منهم، مثل أن يشهدوا له بأنه المهدي، الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يواطئ اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه . وأنه الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلا، كما ملئت جورا وظلمًا، وأن من اتبعه أفلح، ومن خالفه خسر، ونحو ذلك من الكلام . فإذا اعتقد أولئك البربر إن الموتى يكلمونه ويشهدون له بذلك، عظم اعتقادهم فيه وطاعتهم لأمره .(186/394)
ثم إن أولئك المقبورين يهدم عليهم القبور ليموتوا، ولا يظهروا أمره، واعتقد أن دماء أولئك مباحة بدون هذا، وأنه يجوز له إظهار هذا الباطل ليقوم أولئك الجهال بنصره واتباعه، وقد ذكر عنه أهل المغرب وأهل المشرق الذين ذكروا أخباره من هذه الحكايات أنواعًا . وهي مشهورة عند من يعرف حاله عنه .
ومن الحكايات التي يأثرونها عنه أنه واطأ رجلا على إظهار الجنون وكان ذلك عالمًا يحفظ القرآن والحديث والفقه، فظهر بصورة الجنون والناس لا يعرفونه إلا مجنونًا . ثم أصبح ذات يوم وهو عاقل يقرأ القرآن والحديث والفقه، وزعم أنه علم ذلك في المنام، وعوفي مما كان / به، وربما قيل : إنه ذكر لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه ذلك فصاروا يحسنون الظن بذلك الشخص، وأنه كان لهم يوم يسمونه يوم الفرقان، فرق فيه بين أهل الجنة وأهل النار بزعمه، فصار كل من علموا أنه من أوليائهم جعلوه من أهل الجنة، وعصموا دمه، ومن علموا أنه من أعدائهم جعلوه من أهل النار، فاستحلوا دمه، واستحل دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية، الذين كانوا من أهل الكتاب والسنة على مذهب مالك وأهل المدينة، يقرؤون القرآن والحديث : كالصحيحين، والموطأ وغير ذلك، والفقه على مذهب أهل المدينة، فزعم أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل هذه المقالة، ولا يعرف عن أحد من أصحاب مالك إظهار القول بالتشبيه والتجسيم .
واستحل أيضًا أموالهم، وغير ذلك من المحرمات بهذا التأويل ونحوه، من جنس ما كانت تستحله الجهمية المعطلة ـ كالفلاسفة والمعتزلة، وسائر نفاة الصفات من أهل السنة والجماعة ـ لما امتحنوا الناس في [ خلافة المأمون ] وأظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، و نفوا أن يكون لله علم، أو قدرة أو كلام أو مشيئة، أو شيء من الصفات القائمة بذاته .(186/395)
وصار كل من وافقهم على هذا التعطيل عصموا دمه وماله، وولوه الولايات وأعطوه الرزق من بيت المال، وقبلوا شهادته وافتدوه من / الأسر، ومن لم يوافقهم على أن القرآن مخلوق وما يتبع ذلك من بدعهم قتلوه، أو حبسوه أو ضربوه أو منعوه العطاء من بيت المال، ولم يولوه ولاية، ولم يقبلوا له شهادة، ولم يفدوه من الكفار . يقولون : هذا مشبه، هذا مجسم، لقوله : إن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله استوى على العرش، ونحو ذلك . فدامت هذه المحنة على المسلمين بضع عشرة سنة، في أواخر خلافة المأمون، وخلافة أخيه المعتصم، والواثق بن المعتصم، ثم إن الله تعالى كشف الغمة عن الأمة، في ولاية المتوكل على الله، الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة .
فأمر المتوكل برفع المحنة وإظهار الكتاب والسنة، وأن يروى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، من الإثبات النافي للتعطيل . وكان أولئك الجهمية المعطلة قد بلغ من تبديلهم للدين أنهم كانوا يكتبون على ستور الكعبة : ( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم ) ولا يقولون : { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ، وأنهم كانوا يمتحنون الناس بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، فإذا قالوا : وهو السميع البصير أنكروا عليهم، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير / تكييف ولا تمثيل، فلا ينفون عن الله ما أثبته لنفسه، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه، بل يعلمون أن الله ليس كمثله شيء . لا في ذاته ولا في صفاته، ولافي أفعاله، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات .(186/396)
والله تعالى بعث الرسل فوصفوه بإثبات مفصل، ونفي مجمل . وأعداء الرسل ـ الجهمية الفلاسفة ونحوهم ـ وصفوه بنفي مفصل، وإثبات مجمل . فإن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه بأنه : بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه حي قيوم، وأنه عزيز حكيم، وأنه غفور رحيم، وأنه سميع بصير، وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضي لعباده الكفر، وأنه رضي عن المؤمنين ورضوا عنه، وأنه يغضب على الكفار ويلعنهم، وإنه إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه، وأنه كلم موسى تكليمًا، وأن القرآن نزل به الروح الأمين من الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . كما قال : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } [ النحل : 102 ] ، وروح القدس هو جبريل كما قال في الآية الأخرى : { قُل ْمَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة : 97 ] ، وقال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ } [ الشعراء : 193، 194 ] ، وقال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22، 23 ] ، وقال تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 62 ] .(186/397)
/وقد ثبت في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، نادى مناد : يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون : ماهو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة ) وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح أنه قال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته ) ، وإن الناس قالوا : يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : ( هل تضامون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب ؟ ) قالوا : لا . قال : ( فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب ؟ ) قالوا : لا . قال : ( فإنكم سترون ربكم، كما ترون الشمس والقمر ) فشبه صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي، فإن العباد لا يحيطون بالله علمًا، ولا تدركه أبصارهم . كما قال تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } [ الأنعام : 103 ] .
وقد قال غير واحد من السلف والعلماء : إن [ الإدراك ] هو الإحاطة؛ فالعباد يرون الله تعالى عيانًا ولا يحيطون به، فهذا وأمثاله مما أخبر الله به ورسوله .(186/398)
وقال تعالى في النفي : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، { فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا } [ البقرة : 22 ] ، / { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] ، فبين في هذه الآيات أن الله لا كفو له، ولا ند له، ولا مثل له ولا سَمِيَّ له، فمن قال : إن علم الله كعلمي، أو قدرته كقدرتي أو كلامه مثل كلامي، أو إرادته ومحبته ورضاه وغضبه مثل إرادتي ومحبتي ورضائي وغضبي، أو استواءه على العرش كاستوائي، أو نزوله كنزولي، أو إتيانه كإتياني، ونحو ذلك فهذا قد شبه الله ومثله بخلقه، تعالى الله عما يقولون، وهو ضال خبيث مبطل، بل كافر .
ومن قال : إن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا كلام، ولا مشيئة، ولا سمع ولا بصر، ولا محبة ولا رضي، ولا غضب، ولا استواء، ولا إتيان ولا نزول فقد عطل أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، و ألحد في أسماء الله وآياته، وهو ضال خبيث مبطل بل كافر، بل مذهب الأئمة والسلف إثبات الصفات ونفي التشبيه بالمخلوقات، إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل، كما قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخارى : من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهًا .
ومما يبين ذلك : أن الله تعالى أخبرنا أن في الجنة ماء ولبنًا وخمرًا وعسلًا ولحمًا وفاكهة وحريرًا وذهبًا وفضة، وغير ذلك . وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء . فإذا /كانت المخلوقات في الجنة توافق المخلوقات في الدنيا في الأسماء، والحقائق ليست مثل الحقائق، فكيف يكون الخالق مثل المخلوق إذا وافقه في الاسم ؟ !(186/399)
والله تعالى قد أخبر أنه سميع بصير، وأخبر عن الإنسان أنه سميع بصير،و ليس هذا مثل هذا، وأخبر أنه حي، وعن بعض عباده أنه حي، وليس هذا مثل هذا . و أخبر أنه رؤوف رحيم، وأخبر عن نبيه أنه رؤوف رحيم، وليس هذا مثل هذا . وأخبر أنه عليم حليم وأخبر عن بعض عباده بأنه عليم حليم، وليس هذا مثل هذا، وسمى نفسه الملك، وسمى بعض عباده الملك، وليس هذا مثل هذا . وهذا كثير في الكتاب والسنة، فكان سلف الأمة وأئمتها كأئمة المذاهب؛ مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، على هذا، إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، لا يقولون بقول أهل التعطيل، نفاة الصفات، ولابقول أهل التمثيل المشبهة للخالق بالمخلوقات، فهذه طريقة الرسل، ومن آمن بهم .
وأما المخالفون للرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ من المتفلسفة وأشباههم، فيصفون الرب تعالى [ بالصفات السلبية ] ليس كذا، ليس كذا، ليس كذا، ولا يصفونه بشيء من صفات الإثبات، بل بالسلب الذي يوصف به المعدوم فيبقى ما ذكروه مطابقًا للمعدوم، فلا يبقى / فرق بين ما يثبتونه وبين المعدوم، وهم يقولون : إنه موجود ليس بمعدوم، فيتناقضون، يثبتونه من وجه، ويجحدونه من وجه آخر . ويقولون : إنه وجود مطلق، لا يتميز بصفة .
وقد علم الناس أن المطلق لا يكون موجودًا، فإنه ليس في الأمور الموجودة ما هو مطلق لا يتعين، ولا يتميز عن غيره، وإنما يكون ذلك فيما يقدره المرء في نفسه، فيقدر أمرًا مطلقًا، وإن كان لا حقيقة له في الخارج، فصار هؤلاء المتفلسفة الجهمية المعطلون لا يجعلون الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ موجودًا مباينًا لخلقه، بل إما أن يجعلوه مطلقًا في ذهن الناس، أو يجعلوه حالا في المخلوقات، أو يقولون : هو وجود المخلوقات .(186/400)
ومعلوم أن الله كان قبل أن يخلق المخلوقات، وخلقها فلم يدخل فيها، ولم يدخلها فيه، فليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، فالجهمية المعطلة نفاة الصفات من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم ـ الذين امتحنوا المسلمين، كما تقدم ـ كانوا على هذا الضلال، فلما أظهر الله تعالى أهل السنة والجماعة، ونصرهم، بقى هذا النفي في نفوس كثير من أتباعهم، فصاروا يظهرون تارة مع الرافضة القرامطة الباطنية، وتارة مع الجهمية الاتحادية وتارة يوافقونهم / على أنه وجود مطلق، ولايزيدون على ذلك .
وصاحب [ المرشدة ] كانت هذه عقيدته كما قد صرح بذلك في كتاب له كبير شرح فيه مذهبه في ذلك، ذكر فيه أن الله تعالى وجود مطلق، كما يقول ذلك ابن سينا وابن سبعين وأمثالهم .
ولهذا لم يذكر في [ مرشدته ] الاعتقاد الذي يذكره أئمة العلم والدين من أهل السنة والجماعة؛ أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، كما يذكره أئمة الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الكلام : من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم، ومشائخ التصوف والزهد، وعلماء أهل الحديث، فإن هؤلاء كلهم متفقون على أن الله تعالى حي عالم بعلم، قادر بقدرة، كما قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } [ البقرة : 255 ] ، وقال تعالى : { لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] ،وقال تعالى : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [ فاطر : 11 ] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] وقال تعالى : { وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } [ الذاريات : 47 ] أي : بقوة .(186/401)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن . يقول : / ( إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة . ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ـ ويسميه باسمه ـ خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان . ثم رضني به ) .
والأئمة الأربعة وسائر من ذكر متفقون على أن الله تعالى يُرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله .
فصاحب [ المرشدة ] لم يذكر فيها شيئًا من الإثبات الذي عليه طوائف أهل السنة والجماعة، ولا ذكر فيها الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا باليوم الآخر وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الجنة والنار والبعث والحساب وفتنة القبر والحوض وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر . فإن هذه الأصول كلها متفق عليها بين أهل السنة والجماعة . ومن عادات علمائهم أنهم يذكرون ذلك في العقائد المختصرة، بل اقتصر فيها على ما يوافق أصله وهو القول بأن الله وجود مطلق، وهو قول المتفلسفة والجهمية، / والشيعة، ونحوهم ممن اتفقت طوائف أهل السنة والجماعة، أهل المذاهب الأربعة وغيرهم على إبطال قوله، وتضليله .(186/402)
فذكر فيها ما تقوله نفاة الصفات، ولم يذكر فيها صفة واحدة لله تعالى ثبوتية، وزعم في أولها أنه قد وجب على كل مكلف أن يعلم ذلك، وقد اتفقت الأئمة على أن الواجب على المسلمين ما أوجبه الله و رسوله، وليس لأحد أن يوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله ورسوله والكلام الذي ذكره بعضه قد ذكره الله ورسوله، فيجب التصديق به، وبعضه لم يذكره الله ولا رسوله ولا أحد من السلف والأئمة، فلا يجب على الناس أن يقولوا ما لم يوجب الله قوله عليهم . وقد يقول الرجل كلمة وتكون حقًا، لكن لا يجب على كل الناس أن يقولوها،وليس له أن يوجب على الناس أن يقولوها، فكيف إذا كانت الكلمة تتضمن باطلًا ؟
وما ذكره من النفي يتضمن حقًا وباطلًا، فالحق يجب اتباعه، والباطل يجب اجتنابه، وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتاب كبير . وذكرنا سبب تسميته لأصحابه بالموحدين، فإن هذا مما أنكره المسلمون؛ إذ جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم موحدون، ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد .
/و [ التوحيد ] هو ما بينه الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص ] ، وهذه السورة تعدل ثلث القرآن . وقوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ سورة الكافرون ] ، وقال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .(186/403)
فنفاة الجهمية من المعتزلة وغيرهم سموا نفي الصفات توحيدًا . فمن قال : إن القرآن كلام الله وليس بمخلوق . أو قال : إن الله يرى في الآخرة أو قال : ( استخيرك بعلمك . وأستقدرك بقدرتك ) لم يكن موحدًا عندهم، بل يسمونه مشبهًا مجسمًا، وصاحب [ المرشدة ] لقب أصحابه موحدين، اتباعًا لهؤلاء الذين ابتدعوا توحيدًا ما أنزل الله به من سلطان، وألحدوا في التوحيد الذي أنزل الله به القرآن .
وقال أيضًا في قدرة الله تعالى : إنه قادر على ما يشاء، وهذا يوافق قول الفلاسفة وعلى الأسواري وغيره من المتكلمين الذين يقولون : إنه لا يقدر على غير ما فعل، ومذهب المسلمين أن الله على /كل شيء قدير، سواء شاءه أو لم يشأه، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } [ الأنعام : 65 ] .(186/404)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } قال : ( أعوذ بوجهك ) { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } ، قال : ( أْعوذ بوجهك ) ، { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } ، قال : ( هاتان أهون ) قالوا : فهو يقدر الله عليهما وهو لا يشاء أن يفعلهما، بل قد أجار الله هذه الأمة على لسان نبيها ألا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فيجتاحهم، أو يهلكهم بسنة عامة . وقد قال تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 3، 4 ] فالله قادر على ذلك،وهو لا يشاؤه، وقد قال تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] وقال تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ هود : 118 ] فالله تعالى قادر على ذلك . فلو شاءه لفعله بقدرته، وهو لا يشاؤه .
وقد شرحنا ما ذكره فيها كلمة كلمة وبينا ما فيها من صواب وخطأ ولفظ مجمل في كتاب آخر .(186/405)
/فالعالم الذي يعلم حقائق ما فيها، ويعرف ماجاء به الكتاب والسنة لا يضره ذلك، فإنه يعطي كل ذي حق حقه، ولا حاجة لأحد من المسلمين إلى تعلمها وقراءتها، ولا يجوز لأحد أن يعدل عما جاء في الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها إلى ما أحدثه بعض الناس مما قد يتضمن خلاف ذلك، أو يوقع الناس في خلاف ذلك، وليس لأحد أن يضع للناس عقيدة ولا عبادة من عنده، بل عليه أن يتبع ولا يبتدع، ويقتدي ولا يبتدي، فإن الله سبحانه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وقال له : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] وقال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 ] والنبي صلى الله عليه وسلم علم المسلمين ما يحتاجون إليه في دينهم .
فيأخذ المسلمون جميع دينهم من الاعتقادات والعبادات، وغير ذلك من كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وليس ذلك مخالفًا للعقل الصريح فإن ما خالف العقل الصريح فهو باطل، وليس في الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولكن فيه ألفاظ قد لا يفهمها بعض الناس، أو يفهمون منها معنى باطلا، فالآفة منهم لا من الكتاب والسنة، فإن / الله تعالى قال : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] .
والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل . وما توفيقي إلا بالله . عليه توكلت وإليه أنيب .
سئل عن رجل تخاطب هو وإنسان على من قرأ [ المرشدة ] .
قال الأول : قال بعض العلماء : المرشدة لا يجوز أن نقرأها، قال الآخر : من لا يقرأها فهو كافر ؟
الجواب :(186/406)
الحمد لله، أما هذا القائل الثاني الذي قال : من لا يقرؤها فهو كافر، فإنه كاذب ضال مخطئ جاهل يجب أن يستتاب عن مثل هذا القول، فإن تاب وإلا عوقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله عن مثل هذا .
بل إذا فهم مضمون قوله : من لم يقرأها فهو كافر، وأصر عليه بعد العلم، كان هو الكافر المستحق لأن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPسئل شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ـ عن قوم منتسبين إلى المشائخ : يتوبونهم عن قطع الطريق، وقتل النفس والسرقة، وألزموهم بالصلاة؛ لكنهم يصلون صلاة عادة البادية، فهل يجب إقامة حدود الصلاة أم لا ؟ ومع هذا شعارهم الرفض، وكشف الرؤوس، وتفتيل الشعر، وحمل الحيات . ثم غلب على قلوبهم حب الشيوخ . حتى كلما عثر أحدهم أو همه أمر استغاث بشيخه، ويسجدون لهم مرة في غيبتهم، ومرة في حضورهم . فتارة يصادف السجود إلى القبلة، وتارة إلى غيرها ـ حيث كان شيخه ـ ويزعمون هذا لله . ومنهم من يأخذ أولاد الناس حوارات برضى الوالدين، وبغير رضاهم، وربما كان ولد الرجل معينًا لوالديه على السعي في الحلال فيأخذه ويعلمه الدروزة . وينذر للموتى، ومنهم من يواخي النسوان فإذا نهوا عن ذلك قال : لو حصل لي أمك وأختك، وأختيهما فإذا قيل : لا تنظر أجنبية . قال : أنظر عشرين نظرة، ويحلفون / بالمشائخ . وإذا نهوا عن شىء من ذلك . قال : أنت شرعي . فهل المنكر عليهم مأجور أم لا ؟
وهل اتخاذ الخرقة على المشائخ له أصل في الشرع أم لا ؟ وهل انتساب كل طائفة إلى شيخ معين يثاب عليه أم لا ؟ وهل التارك لها آثم أم لا ؟ ويقولون : إن الله يرضى لرضا المشائخ، ويغضب بغضبهم ويستندون إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب ) و ( أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله ) فهل ذلك دليل لهم، أم هو شىء آخر ؟ ومن هذه حاله هل يجوز دفع الزكاة إليه ؟(186/407)
فأجاب ـ قدس الله روحه :
وأما كشف الرؤوس وتفتيل الشعر وحمل الحيات، فليس هذا من شعار أحد من الصالحين لا من الصحابة ولا التابعين ولا شيوخ المسلمين لا المتقدمين ولا المتأخرين ولا الشيخ أحمد بن الرفاعي ولا غيره، وإنما ابتدع هذا بعد موت الشيخ أحمد بمدة طويلة، ابتدعه طائفة انتسبت إليه فخالفوا طريق المسلمين وخرجوا عن حقائق الدين، وفارقوا طريق عباد الله الصالحين وهم نوعان :
أهل حال إبليسي، وأهل محال تلبيسي، فأما أهل [ الأحوال ] / منهم : فهم قوم اقترنت بهم الشياطين، كما يقترنون بإخوانهم . فإذا حضروا سماع المكاء والتصدية أخذهم الحال، فيزبدون ويرغون . كما يفعله المصروع، ويتكلمون بكلام لا يفهمونه هم ولا الحاضرون، وهي شياطينهم تتكلم على ألسنتهم عند غيبة عقولهم، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ولهم مشابهون في الهند من عباد الأصنام . ومشابهون بالمغرب يسمى أحدهم المصلي، وهؤلاء الذين في المغرب من جنس الزط الذين لا خلاق لهم، فإذا كان لبعض الناس مصروع أو نحوه أعطاهم شيئًا فيجيئون ويضربون لهم بالدف والملاهي ويحرقون ويوقدون نارًا عظيمة مؤججة ويضعون فيها الحديد العظيم حتى يبقى أعظم من الجمر وينصبون رماحًا فيها أسنة، ثم يصعد أحدهم يقعد فوق أسنة الرماح قدام الناس، ويأخذ ذلك الحديد المحمي ويمره على يديه، وأنواع ذلك .
ويرى الناس حجارة يرمى بها ولا يرون من رمى بها، وذلك من شياطينهم الذين يصعدون بهم فوق الرمح،وهم الذين يباشرون النار وأولئك قد لا يشعرون بذلك، كالمصروع الذي يضرب ضربًا وجيعًا وهو لا يحس بذلك،لأن الضرب يقع على الجني، فكذا حال أهل الأحوال الشيطانية،ولهذا كلما كان الرجل أشبه بالجن والشياطين كان حاله أقوى ،ولا يأتيهم الحال إلا عند مؤذن الشيطان وقرآنه، فمؤذنه المزمار، وقرآنه الغناء .(186/408)
/ ولا يأتيهم الحال عند الصلاة والذكر والدعاء والقراءة، فلا لهذه الأحوال فائدة في الدين، ولا في الدنيا، ولو كانت أحوالهم من جنس عباد الله الصالحين، وأولياء الله المتقين، لكانت تحصل عند ما أمر الله به من العبادات الدينية، ولكان فيها فائدة في الدين والدنيا لتكثير الطعام والشراب عند الفاقات، واستنزال المطر عند الحاجات، والنصر على الأعداء عند المخافات، وهؤلاء أهل الأحوال الشيطانية في التلبيس يمحقون البركات، ويقوون المخافات، ويأكلون أموال الناس بالباطل، لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، ولا يجاهدون في سبيل الله، بل هم مع من أعطاهم وأطعمهم وعظمهم، وإن كان تتريا، بل يرجحون التتر على المسلمين، ويكونون من أعوانهم ونصرائهم الملاعين، وفيهم من يستعين على الحال بأنواع من السحر والشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله .
وأما أهل [ المحال ] منهم : فهم يصنعون أدوية كحجر الطلق، ودهن الضفادع، وقشور النارنج ونحو ذلك، يمشون بها على النار ويمسكون نوعًا من الحيات ويأخذونها بضعة، ويقدمون على أكلها بفجور وما يصنعونه من السكر واللاذن، وماء الورد، وماء الزعفران والدم، فكل ذلك حيل وشعوذة يعرفها الخبير بهذه الأمور .
ومنهم من تأتيه الشياطين، وذلك هم أهل المحال الشيطاني .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل
وأما ما ذكروا من غلوهم في الشيوخ : فيجب أن يعلم أن الشيوخ الصالحين الذين يقتدى بهم في الدين هم المتبعون لطريق الأنبياء والمرسلين كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ومن له في الأمة لسان صدق ـ وطريقة هؤلاء دعوة الخلق إلى الله، وإلى طاعته وطاعة رسوله، واتباع كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .(186/409)
والمقصود أن يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا . فإن الله تعالى يقول : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 56 : 58 ] .
والرسل أمروا الخلق ألا يعبدوا إلا الله، وأن يخلصوا له الدين، فلا يخافون غيره، ولا يرجون سواه، ولا يدعون إلا إياه . قال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [ الجن : 18 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] ، / فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، فالإيتاء لله والرسول : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، والحلال ما حلله رسول الله والحرام ما حرمه . والدين ما شرعه، ليس لأحد من الأولين والآخرين خروج عن طاعته وشريعته، ومن لم يقر به باطنًا وظاهرًا فهو كافر مخلد في النار .(186/410)
وخير الشيوخ الصالحين، وأولياء الله المتقين : أتبعهم له وأقربهم وأعرفهم بدينه وأطوعهم لأمره : كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر التابعين بإحسان، وأما الحسب فلله وحده ولهذا قالوا : { حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ، ولم يقولوا : ورسوله . كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] أي : إن الله وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين . فهو وحده يكفيهم فإنه سبحانه له الملك وله الحمد وهو كاف عبده، كما قال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 63 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } الآية [ البقرة : 186 ] .
/ وروى أن بعض الصحابة قال : يا رسول الله، هل ربنا قريب فنناجيه ؟ أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فهو سبحانه سميع قريب مجيب رحيم، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وهو يعلم من أحوال العباد ما لا يعلمه غيره، ويقدر على قضاء حوائجهم التي لا يقدر عليها غيره، ويرحمهم رحمة لا يرحمهم بها غيره .(186/411)
والشيوخ الذين يقتدى بهم يدلون عليه، ويرشدون إليه، بمنزلة الأئمة في الصلاة، يصلون ويصلى الناس خلفهم،وبمنزلة الدليل الذي للحاج هو يدلهم على البيت، وهو وهم جميعًا يحجون إليه، ليس لهم من الإلهية نصيب، بل من جعل لهم شيئًا من ذلك فهو من جنس النصارى المشركين، الذين قال الله في حقهم : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، وقد قال نوح عليه السلام : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [ الأنعام : 50 ] وهكذا أمر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول .
فليس لأحد أن يدعو شيخًا ميتًا أو غائبًا، بل ولا يدعو ميتًا ولا غائبًا : لا من الأنبياء ولا غيرهم، فلا يقول لأحدهم : يا سيدي فلان ! أنا في حسبك أو في جوارك، ولا يقول : بك أستغيث، وبك أستجير، ولا يقول : إذا عثر : يا فلان ! ولا يقول : محمد ! وعلي ! ولا الست نفيسة / ولا سيدي الشيخ أحمد، ولا الشيخ عدي، ولا الشيخ عبد القادر، ولا غير ذلك، ولا نحو ذلك مما فيه دعاء الميت والغائب، ومسألته، والاستغاثة به، والاستنصار به، بل ذلك من أفعال المشركين، وعبادات الضالين .(186/412)
ومن المعلوم أن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، قد ثبت في صحيح البخاري : أن الناس لما أجدبوا استسقى عمر بالعباس . وقال : اللهم إنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا فيسقون . فكانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتوسلون بدعائه، وشفاعته لهم، كما يتوسل به الناس يوم القيامة، ويستشفعون به إلى ربهم،فيأذن الله له في الشفاعة فيشفع لهم . ألا ترى الله يقول : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] . و قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِير وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] ، فبين ـ سبحانه ـ أن المخلوقات كلها ليس لأحد منها شىء في الملك، ولا له شريك فيه، ولا له ظهير، أي : معين لله تعالى كما تعاون الملوك، وبين أن الشفاعة عنده لا تنفع إلا لمن أذن له .
وإذا كان يوم القيامة يجىء الناس إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيطلبون الشفاعة منهم، فلا يشفع لهم أحد من هؤلاء الذين هم سادة الخلق، حتى يأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم / فيأتي ربه فيحمده بمحامد ويسجد له، فإذا أذن له في الشفاعة شفع لهم . فهذه حال هؤلاء الذين هم أفضل الخلق، فكيف غيرهم ؟(186/413)
فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يدعونه،ولا يستغيثون به ولا يطلبون منه شيئًا لا عند قبره ولا بعيدًا من قبره،بل ولا يصلون عند قبره ولا قبر غيره، لكن يصلون ويسلمون عليه ويطيعون أمره ويتبعون شريعته،ويقومون بما أحبه الله تعالى من حق نفسه وحق رسوله وحق عباده المؤمنين،فإنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم . فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله ) ، وقال : ( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد ) ، وقال : ( لا تتخذوا قبري عيدًا،وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) . وقال : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما فعلوا وقال له رجل : ما شاء الله وشئت فقال : ( أجعلتني لله ندًا ؟ قل : ما شاء الله وحده ) ، وقال : ( لا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء محمد ) .
وفي المسند أن معاذ بن جبل سجد له . فقال : ( ما هذا يا معاذ ؟ ) فقال : يارسول الله، رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم ويذكرون ذلك عن أنبيائهم فقال : ( يا معاذ، لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها ) ، وقال : ( يا / معاذ، أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدًا لقبري ) قال : لا . قال : ( فإنه لا يصلح السجود إلا لله ) أو كما قال .
فإذا كان السجود لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا ولا ميتًا، ولا لقبره، فكيف يجوز السجود لغيره ؟ بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) فقد نهى عن الصلاة إليها، كما نهى عن اتخاذها مساجد ولهذا لما أدخلوا حجرته في المسجد لما وسعوه جعلوا مؤخرها مسنما منحرفًا عن سمت القبلة لئلا يصلي أحد إلى الحجرة النبوية، فما الظن بالسجود إلى جهة غيره . كائنا من كان ؟ !(186/414)
وأماقول القائل : هذا السجود لله تعالى فإن كان كاذبًا في ذلك فكفى بالكذب خزيا، وإن كان صادقًا في ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن السجود لا يكون إلا على الوجه المشروع وهو السجود في الصلاة،وسجود السهو وسجود التلاوة، وسجود الشكر على أحد قولي العلماء . وأما السجود عقيب الصلاة بلا سبب فقد كرهه العلماء وكذلك ما يفعله بعض المشايخ من سجدتين بعد الوتر لم يفعله أحد من السلف ولا استحبه أحد من الأئمة، ولكن هؤلاء بلغهم حديث رواه أبو موسى الذي في [ الوظائف ] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان / يصلي سجدتين بعد الوتر ففعلوا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه : ( أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس ولم يداوم على ذلك ) فسميت الركعتان سجدتين . كما في أحاديث أخر . فهذا هو أصل ذلك . والكلام في هاتين الركعتين مذكور في غير هذا الموضع .
وأما السجدتان فلا أصل لهما أولا للسجود المجرد بلا سبب وقالوا : هو بدعة فكيف بالسجود إلى جهة مخلوق من غير مراعاة شروط الصلاة، وهذا يشابه من يسجد للشرق في الكنيسة مع النصارى ويقول : لله، أو يسجد مع اليهود إلى الصخرة ويقول : لله؛ بل سجود النصارى واليهود لله وإن كان إلى غير قبلة المسلمين خير من السجود لغير الله . بل هذا بمنزلة من يسجد للشمس عند طلوعها وغروبها ويسجد لبعض الكواكب والأصنام ويقولون : لله .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل(186/415)
وأما فساد الأولاد : بحيث يعلمه الشحاذة، ويمنعه من الكسب الحلال، أو يخرجه ببلاده مكشوف الشعر . . . في الناس، فهذا يستحق / صاحبه العقوبة البليغة، التي تزجره عن هذا الإفساد، لاسيما إن أدخلوهم في الفواحش، وغير ذلك من المنكرات، ويجب تعليم أولاد المسلمين ما أمر الله بتعليمهم إياه، وتربيتهم على طاعة الله و رسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ) .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل
وأما [ النذر للموتى ] من الأنبياء والمشائخ وغيرهم، أو لقبورهم أو المقيمين عند قبورهم، فهو نذر شرك ومعصية لله تعالى . سواء كان النذر نفقة أو ذهبًا أو غير ذلك وهو شبيه بمن ينذر للكنائس، والرهبان وبيوت الأصنام . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) ، وقد اتفق العلماء على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين في أحد قولي العلماء، وهذا إذا كان النذر لله، وإما إذا كان النذر لغير الله، فهو كمن يحلف بغير الله، وهذا شرك . فيستغفر الله منه، وليس في هذا وفاء ولا كفارة . ومن تصدق بالنقود على أهل الفقر والدين، فأجره على رب العالمين .
/وأصل عقد النذر منهي عنه . كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال : ( إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ) ، وإذا نذر فعليه الوفاء بما كان طاعة لله كالصلاة والصدقة والصيام والحج، دون ما لم يكن طاعة لله تعالى .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل(186/416)
فأما مؤاخاة الرجال النساء الأجانب، وخلوهم بهن ونظرهم إلى الزينة الباطنة منهن، فهذا حرام باتفاق المسلمين، ومن جعل ذلك من الدين، فهو من إخوان الشياطين . قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ) ، وقال : ( إياكم والدخول على النساء ) . قالوا : يا رسول الله، أرأيت الحمو ؟ قال : ( الحمو الموت ) ومن لم ينته عن ذلك عوقب عقوبة بليغة تزجره، وأمثاله من أهل الفساد والعناد .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل
وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة، ولم ينازعوا إلا في الحلف برسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة . والجمهور على أنه لا تنعقد اليمين لا به ولا بغيره، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت ) ، وقال : ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) ، فمن حلف بشيخه أو بتربته أو بحياته أو بحقه على الله، أو بالملوك أو بنعمة السلطان أو بالسيف أو بالكعبة أو أبيه أو تربة أبيه أو نحو ذلك كان منهيًا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل
وأما قول القائل لمن أنكر عليه : أنت شرعي، فكلام صحيح، فإن أراد بذلك أن الشرع لا يتبعه، أو لا يجب عليه اتباعه، وأنا خارج عن اتباعه، فلفظ الشرع قد صار له في عرف الناس ( ثلاث معان ) : الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل .(186/417)
/فأما الشرع المنزل : فهو ما ثبت عن الرسول من الكتاب والسنة، وهذا الشرع يجب على الأولين والآخرين اتباعه، وأفضل أولياء الله أكملهم اتباعًا له، ومن لم يلتزم هذا الشرع، أو طعن فيه أو جوز لأحد الخروج عنه، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل .
وأما المؤول فهو ما اجتهد فيه العلماء من الأحكام، فهذا من قلد فيه إمامًا من الأئمة ساغ ذلك له، ولا يجب على الناس التزام قول إمام معين .
وأما الشرع المبدل فهو الأحاديث المكذوبة،والتفاسير المقلوبة،والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه، والحكم بغير ما أنزل الله . فهذا ونحوه لا يحل لأحد اتباعه .
وإنما حكم الحكام بالظاهر . والله تعالى يتولى السرائر، وحكم الحاكم لا يحيل الأشياء عن حقائقها . فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ) فهذا قول إمام الحكام،وسيد ولد آدم .
/وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا اجتهد الحاكم : فإن أصاب فله أجران،وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) . وقال : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة . رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس بجهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ) .
ومن خرج عن الشرع الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم ظانًا أنه متبع للحقيقة . فإنه مضاه للمشركين المكذبين للرسل، ولفظ [ الحقيقة ] يقال : على [ حقيقة كونية ] و [ حقيقة بدعية ] و [ حقيقة شرعية ] .
فـ [ الحقيقة الكونية ] مضمونها الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الله خالق كل شىء وربه ومليكه . وهذا مما يجب أن يؤمن به، ولا يجوز أن يحتج به، بل لله علينا الحجة البالغة . فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر عن المعاصي فعذره غير مقبول .(186/418)
وأما [ الحقيقة البدعية ] فهي سلوك طريق الله سبحانه وتعالى، مما يقع في قلب العبد من الذوق والوجد، والمحبة والهوى، من غير اتباع الكتاب والسنة، كطريق النصارى، فهم تارة يعبدون غير الله، وتارة يعبدون بغير أمر الله . كالنصارى المشركين الذين اتخذوا أحبارهم / ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وابتدعوا الرهبانية فأشركوا بالله مالم ينزل به سلطانًا، وشرعوا من الدين مالم يأذن به الله . وأما دين المسلمين فكما قال الله تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] ، قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه، قالوا : وما أخلصه وأصوبه ؟ . قال : إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل . وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول في دعائه : ( اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا ) .
وأما [ الحقيقة الدينية ] وهي تحقيق ما شرعه الله ورسوله، مثل الإخلاص لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والشكرلله، والصبر لحكم الله، والحب لله ورسوله، والبغض في الله ورسوله، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فهذا حقائق أهل الإيمان، وطريق أهل العرفان .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل(186/419)
والأمر بالمعروف، وهو الحق الذي بعث الله به رسوله . والنهي عن المنكر، وهو ما خالف ذلك من أنواع البدع والفجور، بل هو من أعظم الواجبات، وأفضل الطاعات، بل هو طريق أئمة الدين . ومشائخ الدين، نقتدي بهم فيه . قال الله تعالى : { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ آل عمران : 104 ] وهذه الآية بها استدل المستدلون على أن شيوخ الدين، يقتدى بهم في الدين، فمن لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر لم يكن من شيوخ الدين، ولا ممن يقتدى به .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل
وأما لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشائخ المريدين، فهذه ليس لها أصل يدل عليها الدلالة المعتبرة من جهة الكتاب والسنة، ولا كان المشائخ المتقدمون وأكثر المتأخرين يلبسونها المريدين . ولكن طائفة من / المتأخرين رأوا ذلك واستحبوه،وقد استدل بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص ثوبًا، وقال لها : سنا، والسنا بلسان الحبشة الحسن . وكانت قد ولدت بأرض الحبشة، فلهذا خاطبها بذلك اللسان، واستدلوا أيضًا بحديث البردة التي نسجتها امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم . فسأله إياها بعض الصحابة فأعطاه إياها وقال : ( أردت أن تكون كفنًا لي ) .(186/420)
وليس في هذين الحديثين دليل على الوجه الذي يفعلونه، فإن إعطاء الرجل لغيره ما يلبسه كإعطائه إياه ما ينفعه، وأخذ ثوب من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه البركة كأخذ شعره على وجه البركة، وليس هذا كلباس ثوب أو قلنسوة على وجه المتابعة والاقتداء، ولكن يشبه من بعض الوجوه خلع الملوك التي يخلعونها على من يولونه كأنها شعار وعلامة على الولاية والكرامة ولهذا يسمونها تشريفًا،وهذا ونحوه غايته أن يجعل من جنس المباحات فإن اقترن به نية صالحة كان حسنًا من هذه الجهة، وأما جعل ذلك سنة وطريقًا إلى الله سبحانه وتعالى فليس الأمر كذلك .
وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين : فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن . كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم التابعون؛ وبذلك يحصل اتباع السابقين / الأولين بإحسان، فكما أن المرأ له من يعلمه القرآن ونحوه، فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر، ولا يتعين ذلك في شخص معين، ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخ معين، كل من أفاد غيره إفادة دينية هو شيخه فيها، وكل ميت وصل إلى الإنسان من أقواله وأعماله وآثاره ما انتفع به في دينه فهو شيخه من هذه الجهة، فسلف الأمة شيوخ الخلفاء قرنًا بعد قرن، وليس لأحد أن ينتسب إلى شيخ يوالي على متابعته، ويعادي على ذلك، بل عليه أن يوالي كل من كان من أهل الإيمان، ومن عرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم، ولا يخص أحدًا بمزيد موالاة، إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدم من قدم الله تعالى ورسوله عليه، ويفضل من فضله الله ورسوله، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] .(186/421)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لافضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ) .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل
وأما قول القائل : أنت للشيخ فلان، وهو شيخك في الدنيا والآخرة .
فهذه بدعة منكرة من جهة أنه جعل نفسه لغير الله، ومن جهة أن قوله : شيخك في الدنيا والآخرة كلام لا حقيقة له، فإنه إن أراد أنه يكون معه في الجنة، فهذا إلى الله لا إليه، وإن أراد أنه يشفع فيه فلا يشفع أحد لأحد إلا بإذن الله تعالى، إن أذن له أن يشفع فيه وإلا لم يشفع، وليس بقوله : أنت شيخي في الآخرة يكون شافعًا له ـ هذا إن كان الشيخ ممن له شفاعة ـ فقد تقدم أن سيد المرسلين والخلق لايشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة بعد امتناع غيره منها . وكم من مدع للمشيخة وفيه نقص من العلم والإيمان ما لا يعلمه إلا الله تعالى .
وقول القائل : لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به هو من كلام أهل الشرك والبهتان، فإن عباد الأصنام أحسنوا ظنهم بها فكانوا هم وإياها من حصب جهنم، كما قال الله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] . لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا . وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) ومن أمكنه الهدى من غير انتساب إلى شيخ معين فلا حاجة به إلى ذلك، ولا يستحب له ذلك، بل يكره له .(186/422)
وأما إن كان لايمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك، مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى والعلم والإيمان والدين، يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم أو يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه، فإنه يفعل الأصلح لدينه،وهذا لا يكون في الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده .
فأما الانتساب الذي يفرق بين المسلمين، وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة، وسلوك طريق الابتداع، ومفارقة السنة والاتباع، فهذا مما ينهى عنه، ويأثم فاعله، ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=234 - TOP#TOPفصل
وأما قول القائل : إن الله يرضى لرضا المشائخ، ويغضب لغضبهم .
فهذا الحكم ليس هو لجميع المشائخ، ولا مختص بالمشائخ، بل كل من كان موافقًا لله يرضى ما يرضاه الله، ويسخط ما يسخط الله كان الله، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، من المشائخ وغيرهم، ومن لم يكن كذلك من المشائخ، لم يكن من أهل هذه الصفة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وكان قد جرى بينه وبين صهيب وخباب وبلال وغيرهم كلام في أبي سفيان بن حرب؛ فإنه مر بهم فقالوا : ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها . فقال : أتقولون هذا لكبير قريش ؟ ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال : ( لعلك أغضبتهم يا أبا بكر، لئن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربك ) أو كما قال . قال : فخرج عليهم أبو بكر فقال لهم : يا إخواني، أغضبتكم ؟ قالوا : لا يغفر الله لك يا أبا بكر، فهؤلاء كان غضبهم لله .(186/423)
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول / الله تعالى : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) .
فهذا المؤمن الذي تقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض أحبه الله لأنه فعل ما أحبه الله، والجزاء من جنس العمل . قال الله تعالى : { رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ المائدة : 119 ] ، وفي الحقيقة فالعبد الذي يرضى الله لرضاه، ويغضب لغضبه، هو يرضى لرضا الله، ويغضب لغضب الله وليكن هذان مثالان : فمن أحب ما أحب الله، وأبغض ما أبغض الله، ورضى ما رضى الله لما يرضى الله، ويغضب لما يغضب، لكن هذا لا يكون للبشر على سبيل الدوام، بل لابد لأكمل الخلق أن يغضب أحيانًا غضب البشر، ويرضى رضا البشر .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما مسلم سببته أو لعنته وليس لذلك بأهل فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه إليك يوم القيامة ) ، / وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ( لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ) في قضية معينة، لكون غضبه لأجل أبي سفيان وهم كانوا يغضبون لله، وإلا فأبو بكر أفضل من ذلك، وبالجملة فالشيوخ والملوك وغيرهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله أطيعوا، وإن أمروا بخلاف ذلك لم يطاعوا، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليس أحد معصومًا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في الشيخ الذي ثبت معرفته بالدين وعمله به .(186/424)
وأما من كان مبتدعًا بدعة ظاهرة، أو فاجرًا فجورًا ظاهرًا . فهذا إلى أن تنكر عليه بدعته وفجوره، أحوج منه إلى أن يطاع فيما يأمر به، لكن إن أمر هو أوغيره بما أمر الله به ورسوله، وجبت طاعة الله ورسوله، فإن طاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد ،في كل حال، ولو كان الآمر بها كائنا من كان .
فصل
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب ) فهو من أصح الأحاديث . وقال أنس : فما فرح المسلمون بشىء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أحشر / معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم، وكذلك ( أوثق عرى الإسلام الحب في الله والبغض في الله ) لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله ومن يحب الله، فيحب أنبياء الله كلهم، لأن الله يحبهم ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم كالذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وغيرهم من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان .
فمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بالجنة، وأما من لم يشهد له بالجنة، فقد قال طائفة من أهل العلم : لا نشهد له بالجنة ولا نشهد أن الله يحبه، وقال طائفة : بل من استفشى من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه،كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي [ هو أبو محفوظ معروف بن فيروز، وقيل : الفيروزان، وقيل : علي الكرخي الصالح المشهور، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم، وهو صبي، فكان المؤدب يقول له : قل : ثالث ثلاثة، فيقول معروف : بل هو الواحد، فضربه المعلم على ذلك ضربًا مبرحًا فهرب منه .(186/425)
وكان أبواه يقولان : ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه . فرجع فدق الباب فقيل : من بالباب ؟ فقال : معروف، فقيل له : على أي دين ؟ فقال : على الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهورًا بإجابة الدعوة، توفى سنة مائتين، وقيل : إحدى ومائتين، وقيل غير ذلك . [ وفيات الأعيان 5/132-332 ] وعبد الله بن المبارك ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم، شهدنا لهم بالجنة؛ لأن في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا فقال : ( وجبت، وجبت ) ، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها شرًا، فقال : ( وجبت، وجبت ) . قالوا : يا رسول الله، ماقولك : وجبت، وجبت ؟ قال : ( هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا فقلت : وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا فقلت : وجبت لها النار ) ، قيل : / بم يا رسول الله ؟ قال : ( بالثناء الحسن، والثناء السيّئ ) .
وإذا علم هذا فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان، قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك، بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق، كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين، وحزب الله المفلحين، كما أن غير المشائخ فيهم هؤلاء . وهؤلاء في الجنة،والتجار والفلاحون وغيرهم من هذه الأصناف .(186/426)
إذا كان كذلك فمن طلب أن يحشر مع شيخ لم يعلم عاقبته كان ضالًا، بل عليه أن يأخذ بما يعلم، فيطلب أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده . كما قال الله تعالى : وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] ، وقال الله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 55، 56 ] ، وعلى هذا فمن أحب شيخًا مخالفًا للشريعة كان معه، فإذا دخل الشيخ النار كان معه، ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة، فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلال والجهالة، وأما من كان من أولياء الله المتقين : كأبي بكر وعمر وعثمان /وعلي وغيرهم، فمحبة هؤلاء من أوثق عرى الإيمان، وأعظم حسنات المتقين .
ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله، أثابه الله على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه، فإن الأصل هو حب الله وحب ما يحبه الله، فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله .
وكثير من الناس يدعى المحبة من غير تحقيق، قال الله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، قال بعض السلف : ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية، فمحبة الله ورسوله وعباده المتقين تقتضي فعل محبوباته، وترك مكروهاته، والناس يتفاضلون في هذا تفاضلا عظيمًا، فمن كان أعظم نصيبًا من ذلك، كان أعظم درجة عند الله .(186/427)
وأما من أحب شخصًا لهواه، مثل أن يحبه لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتآكله به، أو بعصبية فيه، ونحو ذلك من الأشياء فهذه ليست محبة لله، بل هذه محبة لهوى النفس، وهذه المحبة هي التي توقع أصحابها في الكفر والفسوق والعصيان، وما أكثر من يدعي حب مشائخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي /أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير .
وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله، وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبيل الله . وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا أو غيرهم فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله .
والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهر، فأهل الشرك يتخذون أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون ذلك، لأن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه، ومن أحبه الله، فمحبوب المحبوب محبوب، ومحبوب الله يحب الله، فمن أحب الله فيحبه من أحب الله . وأما أهل الشرك فيتخذون أندادًا أو شفعاء يدعونهم من دون الله، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] .(186/428)
وقال الله تعالى : { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [ يس : 22 : 25 ] وقال الله تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 51 ] وقال الله تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 79، 80 ] .
والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب؛ ليكون الدين كله لله وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ) فالدين واحد وإن تفرقت الشرعة والمنهاج قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] .
وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] وقال الله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .(186/429)
ومن حين بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما يقبل من أحد بلغته الدعوة إلا الدين الذي بعثه به؛ فإن دعوته عامة لجميع الخلائق قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ } [ سبأ : 28 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ) قال الله تعالى : { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ الأعراف : 156 : 158 ] . فعلى الخلق كلهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلا يعبدون إلا الله ويعبدونه بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا بغيرها قال الله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا(186/430)
يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 18، 19 ] ويجتمعون على ذلك ولا يتفرقون كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ) وعبادة الله تتضمن كمال محبة الله وكمال الذل لله فأصل الدين وقاعدته يتضمن أن يكون الله هو المعبود الذي تحبه القلوب وتخشاه ولا يكون لها إله سواه والإله ما تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم والرجاء والخوف والإجلال والإعظام ونحو ذلك .
والله سبحانه أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه [ بمحبته وعن رجاء ما سواه ] برجائه وعن سؤال ما سواه بسؤاله وعن العمل لما سواه بالعمل له وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به؛ ولهذا كان وسط الفاتحة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال : { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال : الله حمدني عبدي . فإذا قال : { الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ } قال : أثنى علي عبدي وإذا قال : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال : مجدني عبدي . وإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال : هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل وإذا قال : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } قال : هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) .(186/431)
فوسط السورة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] فالدين أن لا يعبد إلا الله ولا يستعان إلا إياه والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله كما قال تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا } [ النساء : 172، 173 ] فالحب لغير الله كحب النصارى للمسيح وحب اليهود لموسى وحب الرافضة لعلي وحب الغلاة لشيوخهم وأئمتهم : مثل من يوالي شيخا أو إماما وينفر عن نظيره وهما متقاربان أو متساويان في الرتبة فهذا من جنس أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض وحال الرافضة الذين يوالون بعض الصحابة ويعادون بعضهم وحال أهل العصبية من المنتسبين إلى فقه وزهد : الذين يوالون [ بعض ] الشيوخ والأئمة دون البعض . وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان . قال الله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 9 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه ) - وقال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .(186/432)
وقال عليه السلام : ( لا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) . ومما يبين الحب لله والحب لغير الله : أن أبا بكر كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم مخلصا لله وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله . فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [ الليل : 17 : 21 ] وأما أبو طالب فلم يتقبل عمله؛ بل أدخله النار؛ لأنه كان مشركا عاملا لغير الله . وأبو بكر لم يطلب أجره من الخلق لا من النبي ولا من غيره؛ بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه بنفسه وماله متقربا بذلك إلى الله وطالبا الأجر من الله .(186/433)
ورسوله يبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده قال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [ الرعد : 40 ] . والله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل وهو سبحانه مسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه . والأسباب التي يفعلها العباد مما أمر الله به وأباحه فهذا يسلك وأما ما ينهى عنه نهيا خالصا أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها فهذا لا يسلك . قال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم المبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ثم بين أنه لا شركة لهم ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير؛ لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق . كما يقول بعضهم : إذا كانت لك حاجة استوصي الشيخ فلان فإنك تجده أو توجه إلى ضريحه خطوات وناده يا شيخ يقضي حاجتك وهذا غلط لا يحل فعله وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا فذلك شيطان تمثل له . كما وقع مثل هذا لعدد كثير .
ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده . والعجب من ذي عقل سليم يستوصي من هو ميت يستغيث به ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت ويقوى الوهم عنده أنه لولا استغاثته بالشيخ الميت لما قضيت حاجته . فهذا حرام فعله . ويقول أحدهم إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ .(186/434)
وهذا كلام أهل الشرك والضلال فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته ولا يقدر على قضائها وحده ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفى وهو على كل شيء قدير . فالأسباب منه وإليه وما من سبب من الأسباب إلا دائر موقوف على أسباب أخرى وله معارضات . فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلا فلا تحرق السمندل وإذا شاء الله منع أثرها كما فعل بإبراهيم عليه السلام . وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره ولا مانع لها بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . وهو سبحانه أرحم من الوالدة بولدها : يحسن إليهم ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم وافتقارهم إليه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] . فنفى الرب هذا كله فلم يبق إلا الشفاعة . فقال : { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] وقال : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] فهو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبلها فالجميع منه وحده وكلما كان الرجل أعظم إخلاصا : كانت شفاعة الرسول أقرب إليه . قال له أبو هريرة : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال : ( من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) .(186/435)
وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى ويتعلقون بفلان فهؤلاء من جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من دون الله تعالى . قال الله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } [ الزمر : 43، 44 ] وقال الله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } [ السجدة : 4 ] وقال : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 56، 57 ] . قال طائفة من السلف : كان قوم يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله تعالى أن هؤلاء الملائكة والأنبياء عباده كما أن هؤلاء عباده وهؤلاء يتقربون إلى الله وهؤلاء يرجون رحمة الله وهؤلاء يخافون عذاب الله .(186/436)
فالمشركون اتخذوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله؛ واتخذوا شفعاء يشفعون لهم عند الله ففيهم محبة لهم وإشراك بهم وفيهم من جنس ما في النصارى من حب المسيح وإشراك به؛ والمؤمنون أشد حبا لله : فلا يعبدون إلا الله وحده ولا يجعلون معه شيئا يحبونه كمحبته لا أنبيائه ولا غيرهم؛ بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله؛ وأخلصوا دينهم لله وعلموا أن أحدا لا يشفع لهم إلا بإذن الله؛ فأحبوا عبد الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لحب الله وعلموا أنه عبد الله المبلغ عن الله فأطاعوه فيما أمر وصدقوه فيما أخبر ولم يرجوا إلا الله؛ ولم يخافوا إلا الله ولم يسألوا إلا الله وشفاعته لمن يشفع له هو بإذن الله فلا ينفع رجاؤنا للشفيع ولا مخافتنا له وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله وتوكلنا عليه فهو الذي يأذن للشفيع فعلى المسلم أن يفرق بين محبة المؤمنين، ودينهم ومحبة النصارى، والمشركين ودينهم، ويتبع أهل التوحيد والإيمان .(186/437)
ويخرج عن مشابهة المشركين وعبدة الصلبان . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ) . وقال تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] وقال الله تعالى : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ المائدة : 54 ] وهذا باب واسع ودين الإسلام مبني على هذا الأصل والقرآن يدور عليه .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=235 - TOP#TOPسئل شيخ الإسلام قدس الله روحه
عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد؛ وتعلق كل منهم بسبب؛ واستند إلى قول قيل . فمنهم من هو مكب على حضور السماعات المحرمة التي تعمل بالدفوف التي بالجلاجل والشبابات المعروفة في هذا الزمان . ويحضرها المردان والنسوان ويستند في ذلك إلى دعوى جواز حضور السماع عند الشافعي وغيره من الأئمة .(186/438)
فأجاب : أما السماعات المشتملة على الغناء والصفارات والدفوف المصلصلات : فقد اتفق أئمة الدين أنها ليست من جنس القرب والطاعات بل ولو لم يكن على ذلك كالغناء والتصفيق باليد والضرب بالقضيب والرقص ونحو ذلك فهذا وإن كان فيه ما هو مباح وفيه ما هو مكروه وفيه ما هو محظور أو مباح للنساء دون الرجال .
فلا نزاع بين أئمة الدين أنه ليس من جنس القرب والطاعات والعبادات ولم يكن أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وغيرهم من مشايخ الدين يحضرون مثل هذا السماع لا بالحجاز ولا مصر ولا الشام ولا العراق ولا خراسان . لا في زمن الصحابة والتابعين ولا تابعيهم . لكن حدث بعد ذلك : فكان طائفة يجتمعون على ذلك ويسمون الضرب بالقضيب على جلاجل ونحوه [ التغبير ] .(186/439)
قال الحسن بن عبد العزيز الحراني : سمعت الشافعي يقول : خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين فإن القلب إذا تعود سماع القصائد والأبيات والتذ بها حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات فيستغني بسماع الشيطان عن سماع الرحمن . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) وقد فسره الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما بأنه من الصوت فيحسنه بصوته ويترنم به بدون التلحين المكروه وفسره ابن عيينة وأبو عبيد وغيرهما بأنه الاستغناء به وهذا وإن كان له معنى صحيح فالأول هو الذي دل عليه الحديث فإنه قال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به ) وفي الأثر : ( إن العبد إذا ركب الدابة أتاه الشيطان وقال له : تغن فإن لم يتغن . قال له : تمن ) فإن النفس لا بد لها من شيء في الغالب تترنم به . فمن لم يترنم بالقرآن ترنم بالشعر . وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعارفين والعالمين . قال الله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } الآية [ مريم : 58 ] . وقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } الآية [ المائدة : 83 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الآيتين [ الإسراء : 107 ] وقال : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية [ الزمر : 23 ] . وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الآية [ الأنفال : 2 ] . وهذا [ السماع ] هو الذي شرعه الله للمؤمنين في الصلاة وخارج الصلاة وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ والناس يستمعون . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي(186/440)
موسى وهو يقرأ . فجعل يستمع لقراءته . وقال : ( مررت بك البارحة وأنت تقرأ . فجعلت أستمع لقراءتك فقال : لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ) أي : لحسنته تحسينا . وكان عمر يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون لقراءته . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود : ( اقرأ علي القرآن . فقال : أقرأ عليك وعليك أنزل قال : إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغت هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } ؟ [ النساء : 41 ] فقال : حسبك فنظرت فإذا عيناه تذرفان بالدمع ) فهذا هو السماع الذي يسمعه سلف الأمة وقرونها المفضلة . وخيار الشيوخ إنما يقولون بهذا السماع . وأما الاستماع إلى القصائد الملحنة والاجتماع عليها . فأكابر الشيوخ لم يحضروا هذا السماع كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي وأمثالهم من المتأخرين : كالشيخ عبد القادر والشيخ عدي بن مسافر والشيخ أبي مدين والشيخ أبي البيان وأمثال هؤلاء المشايخ : فإنهم لم يكونوا يحضرون هذا السماع وقد حضره طائفة من الشيوخ وأكابرهم ثم تابوا منه ورجعوا عنه . وكان الجنيد - رحمه الله تعالى - لا يحضره في آخر عمره . ويقول : من تكلف السماع فتن به ومن صادفه السماع استراح به أي من قصد السماع صار مفتونا وأما من سمع بيتا يناسب حاله بلا اقتصاد فهذا يستريح به . والذين حضروا السماع المحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا يجتمعون مع مردان ونسوان ولا مع مصلصلات وشبابات وكانت أشعارهم مزهدات مرققات . فأما [ السماع ] المشتمل على منكرات الدين فمن عده من القربات استتيب فإن تاب وإلا قتل . وإن كان متأولا جاهلا بين له خطأ تأويله وبين له العلم الذي يزيل الجهل . هذا من كونه طريقا إلى الله . وأما كونه محرمًا على من يفعله على وجه(186/441)
اللهو واللعب لا على وجه القربة إلى الله فهذا فيه تفصيل فأما المشتمل على الشبابات والدفوف المصلصلة فمذهب الأئمة الأربعة تحريمه . وذكر أبو عمرو بن الصلاح أن هذا ليس فيه خلاف في مذهب الشافعي فإن الخلاف إنما حكي في اليراع المجرد مع أن العراقيين من أصحاب الشافعي لم يذكروا في ذلك نزاعا ولا متقدمة الخراسانيين وإنما ذكره متأخرو الخراسانيين . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف على وجه الذم لهم وأن الله معاقبهم . فدل هذا الحديث على تحريم المعازف . والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها . ولهذا قال الفقهاء : أن من أتلفها فلا ضمان عليه إذا أزال التالف المحرم وإن أتلف المالية ففيه نزاع ومذهب أحمد المشهور عنه . ومالك أنه لا ضمان في هذه الصور أيضًا وكذلك إذا أتلف دنان الخمر وشق ظروفه وأتلف الأصنام المتخذة من الذهب كما أتلف موسى عليه السلام العجل المصنوع من الذهب وأمثال ذلك . وسئل عمن يؤاخي النسوان ويظهر شيئا من جنس الشعبذة؛ كنقش شيء من القطن أو الخرقة باللاذن أو بغير ذلك أو يمسك النار مباشرة بكفه أو بأصابعه بلا حائل بينه وبينها . إلخ . فأجاب : وأما مؤاخاة النساء وإظهار الإشارات المذكورة؛ فهي من أحوال إخوان الشياطين وأصحاب هذه الإشارات ليس فيهم ولي لله بل هم بين حال شيطاني ومحال بهتاني من حال إبليس ومحال تلبيس . وهؤلاء أصل حالهم أن الشياطين تنزل على من يعمل ما يحبه الشيطان من الكذب والفجور فإذا خرج أحدهم عن العقل والدين وصار من المتهوكين - الذين يطيعون الشيطان ويعصون الرحمن . وله شخير ونخير كأصوات الحمير يحضر أحدهم السماع ويؤاخون النسوان ويتخذون الجيران ويرقصون كالقرود وينقرون في صلاتهم الركوع والسجود . يبغضون سماع القرآن واتباع شريعة الرحمن - تنزلت عليهم الشياطين التي تنزل على كل أفاك(186/442)
أثيم؛ فمنهم من ترفعه في الهواء ومنهم من تدخله النار ومنهم من يمشي ومعه ضوء يريه أن ذلك كرامات ومنهم من يستغيث بالشيخ ويخاطب من يستغيث بالشيخ حتى يرى أن ذلك كرامة للشيخ ومنهم من يحضر طعاما وفاكهة وحلوى إلى أمور أخرى قد عرفناها وعرفنا من وقعت له هذه الأمور وأضعافها . فإذا تاب الرجل والتزم دين الإسلام وصلى صلاة المسلمين وتاب عما حرمه رب العالمين واعتاض بسماع القرآن عن سماع الشيطان ذهبت تلك الأحوال الشيطانية فإن قوي إيمانه حصلت له مقامات الصالحين وإلا كفاه أن يكون من أهل جنة النعيم وهذا بين يعرف المسلم أن هذه الأحوال شيطانية لا كرامات إيمانية . وسئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد ومنهم من يقول : إن غاية التحقيق وكمال سلوك الطريق ترك التكليف . بحيث أنه إذا ألزم بالصلاة يقوم ويقول : خرجنا من الحضرة ووقفنا بالباب . فأجاب : أما من جعل كمال التحقيق الخروج من التكليف . فهذا مذهب الملاحدة من القرامطة والباطنية ومن شابههم من الملاحدة المنتسبين إلى علم أو زهد أو تصوف أو تزهد يقول : أحدهم إن العبد يعمل حتى تحصل له المعرفة فإذا حصلت زال عنه التكليف ومن قال : هذا فإنه كافر مرتد باتفاق أئمة الإسلام فإنهم متفقون على أن الأمر والنهي جار على كل بالغ عاقل إلى أن يموت قال تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . قال الحسن البصري : لم يجعل الله لعمل المؤمن غاية دون الموت؛ وقرأ هذه الآية . و [ اليقين ] هنا ما بعد الموت . كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [ المدثر : 46، 47 ] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ( لما مات عثمان بن مظعون : أما عثمان فإنه أتاه اليقين من ربه ) وقد سئل الجنيد بن محمد - رحمه الله تعالى - عمن يقول : إنه وصل من طريق البر إلى أن تسقط عنه الأعمال .(186/443)
فقال : الزنا والسرقة وشرب الخمر خير من قول هؤلاء ولقد صدق الجنيد - رحمه الله - فإن هذه كبائر وهذا كفر ونفاق والكبائر خير من الكفر والنفاق . وقول الواحد من هؤلاء : خرجنا من الحضرة إلى الباب كلمة حق أريد بها باطل فإنهم خرجوا من حضرة الشيطان إلى باب الرحمن كما يحكى عن بعض شيوخ هؤلاء : أنهم كانوا في سماع فأذن المؤذن فقام إلى الصلاة . فقال : كنا في الحضرة فصرنا إلى الباب ولا ريب أنه كان في حضرة الشيطان فصار على باب الرحمن أما كونه أنه كان في حضرة الله فصار على بابه؛ فهذا ممتنع عند من يؤمن بالله ورسوله فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( بأن العبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد ) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) . وفي الصحيح عن ابن مسعود . عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة على مواقيتها ) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته ) وآخر شيء وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة وكان يقول : ( جعلت قرة عيني في الصلاة ) وكان يقول : ( أرحنا يا بلال بالصلاة ) ولم يقل أرحنا منها فمن لم يجد قرة عينه وراحة قلبه في الصلاة فهو منقوص الإيمان . قال الله تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) .
وهذا باب واسع لا ينكره من آمن بالله ورسوله .(186/444)
سئل شيخ الإسلام الشيخ تقى الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه الله ـ عما أحدثه الفقراء المجردون، والمطوعون من صحبة الشباب، ومؤاخاة النسوان والماجريات، وحط رؤوسهم بين يدى بعضهم بعضًا، وأكلهم مال بعضهم بعضا بغير حق، ومن جنى يشال تحت رجليه، ويضرب بغير حق، ووقوفهم مكشوفو الرؤس، منحنين كالراكعين، ووضع النعال على رؤوسهم، ولباسهم الصوف، والرقع، والسجادة والسبحة، وأكل الحشيشة . وإذا جاءهم أمرد فرضوا عليه أن يصحبه واحد منهم، ويطلبوا منه الصحبة، هل يجوز ذلك ؟ أو نقل عن الصحابة ؟
فأجاب :
الحمد لله، أما صحبة المردان، على وجه الاختصاص بأحدهم ـ كما يفعلونه ـ مع ما ينضم إلى ذلك من الخلوة بالأمرد الحسن، ومبيته مع الرجل، ونحو ذلك، فهذا من أفحش المنكرات عند المسلمين، وعند اليهود، والنصارى، وغيرهم، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ودين سائر الأمم، بعد قوم لوط : تحريم الفاحشة اللوطية، ولهذا بين الله فى كتابه أنه لم يفعلها قبل قوم لوط أحد من العالمين، وقد عذب الله /المستحلين لها بعذاب ما عذبه أحدًا من الأمم، حيث طمس أبصارهم وقلب مدائنهم، فجعل عليها سافلها، وأتبعهم بالحجارة من السماء .
ولهذا جاءت الشريعة بأن الفاحشة التى فيها القتل : يقتل صاحبها بالرجم بالحجارة، كما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين وماعز بن مالك الأسلمى والغامدية وغيرهم، ورجم بعده خلفاؤه الراشدون .(186/445)
والرجم شرعه الله لأهل التوراة والقرآن، وفى السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) . ولهذا اتفق الصحابة على قتلهما جميعًا، لكن تنوعوا فى صفة القتل : فبعضهم قال : يرجموا : وبعضهم قال : يرمى من أعلى جدار فى القرية ويتبع بالحجارة، وبعضهم قال : يحرق بالنار، ولهذا كان مذهب جمهور السلف والفقهاء أنهما يرجمان بكرين كانا أو ثيبين، حرين كانا أو مملوكين، أو كان أحدهما مملوكا للآخر، وقد اتفق المسلمون على أن من استحلها بمملوك أو غير مملوك فهو كافر مرتد .
وكذلك مقدمات الفاحشة عند التذاذ بقبلة الأمرد، ولمسه والنظر إليه، هو حرام باتفاق المسلمين . كما هو كذلك فى المرأة الأجنبية . كما ثبت فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( العينان / تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزنى وزناها السمع، واليد تزنى وزناها البطش، والرجل تزنى وزناها المشى، والقلب يتمنى ويشتهى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) .
فإذا كان المستحل لما حرم الله كافرًا، فكيف بمن يجعله قربة وطريقًا إلى الله تعالى ؟ ! قال الله تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] ، وسبب نزول الآية أن غير الحمس من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، فجعل الله كشف عوراتهم فاحشة، وبين أن الله لا يأمر بالفحشاء، ولها لما حج أبو بكر الصديق قبل حجة الوداع، نادى ـ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحج المسلم والمشرك ـ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان . فكيف بمن يستحل إتيان الفاحشة الكبرى ؟ أو ما دونها ؟ ويجعل ذلك عبادة وطريقًا .(186/446)
وإن كان طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم من ضلال المتنسكة جعلوا عشق الصور الجميلة من جملة الطريق التى تزكى بها النفوس،فليس هذا من دين المسلمين،ولا اليهود ولا النصارى، وإنما هو دين أهل الشرك الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله .
/وإن كان أتباع هؤلاء زادوا على ما شرعه سادتهم وكبراؤهم، زيادات من الفواحش التى لا ترضاها القرود، فإنه قد ثبت فى صحيح البخارى ( أن أبا عمران رأى فى الجاهلية قردًا زنا بقردة، فاجتمعت عليه القرود فرجمته ) . ومثل ذلك قد شاهده الناس فى زماننا فى غير القرود، حتى الطيور .
فلو كانت صحبة [ المردان ] المذكورة خالية عن الفعل المحرم، فهى مظنة لذلك، وسبب له، ولهذا كان المشائخ العارفون بطريق الله يحذرون من ذلك . كما قال فتح الموصلى : أدركت ثلاثين من الأبدال كل ينهانى عند مفارقتى إياه عن صحبة الأحداث، وقال معروف الكرخى : كانوا ينهون عن ذلك . وقال بعض التابعين : ما أنا على الشاب الناسك من سبع يجلس إليه، بأخوف منى عليه من حدث يجلس إليه . وقال سفيان الثورى، وبشر الحافى : أن مع المرأة شيطانًا، ومع الحدث شيطانين، وقال بعضهم : ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه الله بصحبة هؤلاء الأحداث . وقد دخل من فتنة الصور والأصوات على النساك ما لا يعلمه إلا الله، حتى اعترف أكابر الشيوخ بذلك . وتاب منهم من تداركه الله برحمته .
ومعلوم أن هذا من باب اتباع الهوى بغير هدى من الله . { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] . ومن استحل ذلك، أو / اتخذه دينًا،كان ضالًا مضاهيًا للمشركين والنصارى، ومن فعله مع اعترافه بأنه ذنب أو معصية كان عاصيًا أو فاسقًا .(186/447)
وكذلك مؤاخاة [ المرأة الأجنبية ] بحيث يخلو بها، وينظر منها ما ليس للأجنبى أن ينظره حرام باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا كفر وضلال . والمال الذى يؤخذ لأجل إقرارهم، ومعونة على محادثة الرجل الأمرد، هى من جنس جعل القوادة، ومطالبتهم له بالصحبة من جنس العرس على البغى . والله سبحانه أباح النكاح غير مسافحين، ولا متخذى أخدان، فالمرأة المسافحة تزنى بمن اتفق لها . وكذلك الرجل المسافح؛ الذى يزنى مع من اتفق له، وأما المتخذ الخدن فهو الرجل يكون له صديقة، والمرأة يكون لها صديق، فالأمرد المخادن للواحد من هؤلاء من جنس المرأة المتخذة خدنًا، وكذلك الجعل والمال الذى يؤخذ على هذا من جنس مهر البغى، وجعل القوادة ونحو ذلك .
وأما [ الماجريات ] فإذا اختصم رجلان بقول أو فعل وجب أن يقام فى أمرهما بالقسط . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ } [ النساء : 135 ] . وقال { كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ } [ المائدة : 8 ] ، وقال : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } الآية [ الحجرات : 9 ] ، / وقد روى : أن اقتتالهما كان بالجريد والنعال .(186/448)
وقد قال تعالى : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } الآية [ النساء : 114 ] . وقال : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ النساء : 58 ] . وقال : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] . وقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } الآية [ النحل : 126 ] .
فإن كان الشخصان قد اختصما، نظر أمرهما، فإن تبين ظلم أحدهما، كان المظلوم بالخيار بين الاستفاء والعفو، والعفو أفضل، فإن كان ظلمه بضرب أو لطم فله أن يضربه، أو يلطمه، كما فعل به عند جماهير السلف، وكثير من الأئمة، وبذلك جاءت السنة، وقد قيل : إنه يؤدب . ولا قصاص فى ذلك .
وإن كان قد سبه فله أن يسبه مثل ما سبه، إذا لم يكن فيه عدوان على حق محض لله، أو على غير الظالم . فإذا لعنه أو سماه باسم كلب ونحوه، فله أن يقول له مثل ذلك، فإذا لعن أباه لم يكن له أن يلعن أباه، لأنه لم يظلمه، وإن افترى عليه كذبًا لم يكن له أن يفترى عليه كذبًا، لأن الكذب حرام، لحق الله، كما قال كثير من / العلماء فى القصاص فى البدن : إنه إذا جرحه أو خنقه أو ضربه ونحو ذلك يفعل به كما فعل . فهذا أصح قولى العلماء، إلا أن يكون الفعل محرمًا لحق الله، كفعل الفاحشة، أو تجريعه الخمر، فقد نهى عن مثل هذا أكثرهم، وإن كان بعضهم سوغه بنظير ذلك .(186/449)
وإذا اعترف الظالم بظلمه، وطلب من المظلوم أن يعفو عنه، ويستغفر الله له، فهذا حسن مشروع . كما ثبت فى الصحيح عن أبى الدرداء : أنه كان بين أبى بكر وعمر كلام، وإن أبا بكر طلب من عمر أن يستغفر له فأبى عمر، ثم ندم . فطلب أبا بكر فوجده قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له ذلك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يغفر الله لك يا أبا بكر ) ، ثم قال : ( أيها الناس، إنى قد جئت إليكم فقلت : إنى رسول الله، فقلتم : كذبت، وقال أبو بكر : صدقت، فهل أنتم تاركوا لى صاحبى ؟ ) .
وإذا طلب من المظلوم العفو بعد اعتراف الظالم فأجاب، كان من المحسنين الذين أجرهم على الله، وإن أبى إلا طلب حقه لم يكن ظالمًا . لكن يكون قد ترك الأفضل الأحسن، فليس لأحد أن يخرجه عن أهل الطريق بمجرد ذلك، كما قد يفعله كثير من الناس . قال الله تعالى : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الشورى : 41، 42 ] فإنه لو كان من ترك الإحسان الذى لا يجب عليه يحسب خارجًا عن الطريق خرج عنه جمهور أهله .
و [ أولياء الله ] على صنفين : مقربين سابقين، وأصحاب يمين مقتصدين . كما روى البخارى فى صحيحه عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله تعالى : من عادى لى وليًا فقد بارزني بالمحاربة .
وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) .(186/450)
ثم أكثر هؤلاء الذين يذمون تارك العفو إنما يذمونه لأهوائهم لكون الظالم صديق أحدهم أو وريثه، أو قرينه ونحو ذلك .
والله سبحانه أوجب على عباده العدل فى الصلح، كما أو جبه فى الحكم . فقال تعالى : { ٌفَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] . وقيد الإصلاح الذى يثيب عليه بالإخلاص، فقال / تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 114 ] . إذ كثير من الناس يقصدون الإصلاح، إما لسمعة وإما لرياء .
ومن العدل أن يمكن المظلوم من الانتصاف، ثم بعد ذلك الشفاعة إلى المظلوم فى العفو، ويصالحه الظالم، وترغيبه فى ذلك . فإن الله تعالى إذا ذكر فى القرآن حقوق العباد التى فيها وزر الظالم ندب فيها إلى العفو، كقوله سبحانه : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ } [ المائدة : 45 ] ، وقوله : { وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } [ الشورى : 40 ] .
وعن أنس قال : ( ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء فى القصاص إلا أمر فيه بالعفو ) وليس من شرط طلب العفو من المظلوم أن الظالم يقوم على قدميه، ولا يضع نعليه على رأسه، ونحو ذلك مما قد يلتزمه بعض الناس . وإنما شرطه التمكين من نفسه حتى يستوفى منه الحق . فإذا أمكن المظلوم من استيفاء حقه فقد فعل ما وجب عليه . ثم المستحق بالخيار إن شاء عفى، وإن شاء استوفى .
وللمظلوم أن يهجره ثلاثًا، وأما بعد الثلاث فليس له أن يهجره على ظلمه إياه، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لمسلم أن / يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام ) .(186/451)
وأما إذا كان الذنب لحق الله كالكذب، والفواحش، والبدع المخالفة للكتاب والسنة، أو إضاعة الصلاة بالتفريط، وواجباتها، ونحو ذلك، فهذا لا بد فيه من التوبة، وهل يشترط مع التوبة إظهار الإصلاح فى العمل ؟ على قولين للعلماء، وإذا كان لهم شيخ مطاع فإن له أن يعزر العاصى بحسب ذنبه تعزيرًا يليق بمثله أن يفعله بمثله، مثل هجره مدة . كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة المخلفين .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس فى دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس فى أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين .
وهؤلاء أولو أمر تجب طاعتهم فيما يأمرون به من طاعة الله التى هم أولو أمرها . وهو كذلك فسر أولى الأمر فى قوله : { أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [ النساء : 59 ] بأمراء الحرب : من الملوك ونوابهم، وبأهل العلم والدين الذين يعلمون الناس دينهم، ويأمرونهم بطاعة الله، فإن قوام الدين بالكتاب والحديد، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ الحديد : 25 ] .
وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق، كان تقويمهم على رؤسائهم وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه، إذا لم يقم به غيرهم . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان ) .(186/452)
وقد يكون تعزيره بنفيه عن وطنه مدة، كما كان عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ينفى من شرب الخمر . وكما نفى نصر بن حجاج إلى البصرة، لخوف فتنة النساء به، وقد مضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفى فى الزنا، ونفى المخنث، وأمر بعض المشائخ للمسىء بالسفر هذا أصله . وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل طويل ببيان الذنوب، والتوبة منها، وشروط التوبة، وهو حال مستصحب للعبد من أول أمره إلى آخر عمره، كما قال تعالى : { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } الآية [ النصر : 1، 2 ] .
وإذا تاب العبد، وأخرج من ماله صدقة للتطهر من ذنبه، كان ذلك حسنًا مشروعًا قال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } [ التوبة : 104 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فتنة الرجل فى أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) وقال كعب بن مالك : إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ) .
لكن لا يجوز إلزامه بصدقة، ولا تجب عليه لا بإخراج ثيابه، ولا غير ذلك، ولا يجوز أن يقصد مطالبته بالتوبة أن يؤكل ماله، لا سيما إذا أعنت فجعل له ذنب من غير ذنب، فإن هذا يبقى كذبا وظلمًا، وأكلًا للمال بالباطل، ولا يجب أن يكون ما يخرجه صدقة مصروفًا فى طعام يأكلونه، بل الخيرة إليه بوضعه حيث يكون أصلح وأطوع لله ولرسوله .(186/453)
والذى ينبغى أن ينظر أحق الناس بتلك الصدقة فتدفع إليه . وأما أن يجعل من جملة التوبة صنعة طعام، ودعوة، فهذا بدعة . فما زال الناس يتوبون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غير هذه البدعة .
/وأما الشكر الذى فيه إخراج شىء من ماله : كملبوس، أو غيره شكرًا لله على ما أنعم به، إما من توبة، وإما إصلاح، ونحو ذلك، فهو حسن مشروع، فإن كعب بن مالك لما جاءه المبشر بتوبة الله عليه، أعطاه ثوبه الذى كان عليه، واستعار ثوبًا ذهب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . لكن تعيين اللباس وغيره فى الشكر بدعة أيضًا . فإن فعل ذلك أحيانًا فهو حسن، فلا يجعل واجبًا أو مستحبًا، إلا ما جعله الله ورسوله واجبًا أو مستحبًا، ولا ينكر إلا ما كرهه الله ورسوله . فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرم الله .
وضرب الرجل تحت رجليه هو من التعزير، فإن كان له ذنب يستحق به مثل ذلك من دين الله، والمؤدب له ممن له أهلية ذلك، فهو حق . وأما كشف الرؤوس، والانحناء فليس من السنة، وإنما هو مأخوذ عن عادات بعض الملوك، والجاهلية، والمخلوق لا يسأل كشف رأس، ولا ركوع له . وإنما يركع لله فى الصلاة، وكشف الرؤوس لله فى الإحرام .
وأما [ لباس الصوف ] فقد لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة الصوف فى السفر، ولهذا قال الأوزاعى : لباس الصوف فى السفر سنة، وفى الحضر بدعة .
/ومعنى هذا أن المداومة عليه فى الحضر بدعة . كما روينا عن محمد بن سيرين : أنه بلغه أن أقوامًا يتحرون لباس الصوف . قال : أظن هؤلاء بلغهم أن المسيح كان يلبس الصوف، فلبسوه لذلك، وهدى نبينا أحب إلينا من هدى غيره . وفى السنن : ( أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدون الجمعة، ولباسهم الصوف . وفي الحديث الآخر : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم مجتابي النمار ) . والنمار من الصوف، وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم القطن، وغيره .(186/454)
ومعنى هذا أن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقِا إلى الله بدعة . وأما لبسه للحاجة والانتفاع به للفقير لعدم غيره، أو لعدم لبس غيره، ونحو ذلك فهو حسن مشروع . والامتناع من لبسه مطلقًا مذموم، لاسيما من يدع لبسه كبرًا وخيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : ( من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) ، وقال : ( بينما رجل يجر إزاره خيلاء إذ خسفت به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ) وقد كانوا يكرهون الشهرتين من الثياب : المرتفع، والمنخفض .
وليس لأحد أن يجعل من الدين، ومن طريق الله إلا ما شرعه الله ورسوله، لاسيما إذا كان التقييد فيه فساد الدين والدنيا، فإن / لبس الصوف، وترقيع الثوب عند الحاجة حسن، من أفعال السلف . والامتناع من ذلك مطلقًا مذموم .
فأما من عمد إلى ثوب صحيح فمزقه ثم يرقعه بفضلات، ويلبس الصوف الرفيع الذي هو أعلى من القطن، والكتان، فهذا جمع فسادين :
أما من جهة الدين فإنه يظن التقييد بلبس المرقع والصوف من الدين، ثم يريد أن يظهر صورة ذلك دون حقيقته، فيكون ما ينفقه على ذلك أعظم مما ينفق على القطن الصحيح، وهذا مخالف للزهد .
وفساد المال بإتلافه وإنفاقه فيما لا ينفع لا في الدين، ولا في الدنيا .
ما تقول السادة الأعلام، أئمة الإسلام، ورثة الأنبياء عليهم السلام ـ رضي الله عنهم، وأرضاهم ـ في صفة [ سماع الصالحين ] ما هو ؟ وهل سماع القصائد الملحنة بالآلات المطربة هو من القرب والطاعات . أم لا ؟ وهل هو مباح، أم لا ؟
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه :
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا .(186/455)
أصل هذه [ المسألة ] أن يفرق بين السماع الذي ينتفع به في الدين،وبين ما يرخص فيه رفعًا للحرج، بين سماع المتقربين، وبين سماع المتلعبين .
فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده، وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم، وزكاة / نفوسهم ـ فهوسماع آيات الله تعالى . وهو سماع النبيين والمؤمنين، وأهل العلم، وأهل المعرفة .
قال الله تعالى، لما ذكر من ذكره من الأنبياء في قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] ، وقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 107 : 109 ] . وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] .(186/456)
وبهذا السماع أمر الله تعالى، كماقال تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] ، وعلى أهله أثنى كما في قوله تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 17، 18 ] . وقال في الآية الأخرى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْت آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ } [ المؤمنون : 68 ] ، فالقول الذي أمروا بتدبره هو القول الذي أمروا باستماعه . وقد قال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد : 24 ] . وقال تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِه } [ ص : 29 ] .(186/457)
وكما أثنى على هذا السماع، ذم المعرضين عن هذا السماع، فقال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا } [ لقمان : 7 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } [ الفرقان : 30 : 31 ] ، وقال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 : 51 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } [ الإسراء : 45، 46 ] .
وهذا هو السماع الذي شرعه الله لعباده في صلاة الفجر، والعشائين، وغير ذلك .(186/458)
وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون، وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى : / يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون . وهذا هو السماع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهده مع أصحابه، ويستدعيه منهم، كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اقرأ علي القرآن ) ، قلت : أقرأه عليك وعليك أنزل ؟ ! فقال : ( إني أحب أن أسمعه من غيري ) ، فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } [ النساء : 41 ] ، قال : ( حسبك ) ، فنظرت فإذا عيناه تذرفان . وهذا هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمعه هو وأصحابه . كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] ، و ( الحكمة ) هي السنة .
وقال تعالى : { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ } [ النمل : 91، 92 ] . وكذلك غيره من الرسل، قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الأعراف : 35 ] .(186/459)
وبذلك يحتج عليهم يوم القيامة . كماقال تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ الأنعام : 130 ] . وقال تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] .
وقد أخبر أن المعتصم بهذا السماع مهتد مفلح، والمعرض عنه ضال شقي . قال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 123 : 126 ] . وقال تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] .
و [ ذكر الله ] يراد به تارة : ذكر العبد ربه، ويراد به الذكر الذي أنزله الله . كما قال تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] . وقال نوح : { أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى(186/460)
رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } [ الأعراف : 63 ] ، وقال : { وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] ، وقال : { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنبياء : 2 ] ، وقال : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] ، وقال : { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } [ التكوير : 27، 28 ] ، وقال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } [ يس : 69 ] .
وهذا [ السماع ] له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية، يطول شرحها ووصفها، وله في الجسد آثار محمودة من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وهذا مذكور في القرآن . وهذه الصفات موجودة في الصحابة، ووجدت بعدهم آثار ثلاثة : الاضطراب، والصراخ، والإغماء . والموت في التابعين .
وبالجملة، فهذا السماع هو أصل الإيمان؛ فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق أجمعين ليبلغهم رسالات ربهم، فمن سمع ما بلغه الرسول فآمن به واتبعه اهتدى وأفلح، ومن أعرض عن ذلك ضل وشقى .(186/461)
وأما [ سماع المكاء والتصدية ] وهو التصفيق بالأيدي، و المكاء مثل الصفير ونحوه، فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، فأخبر عن المشركين أنهم كانوا يتخذون التصفيق باليد، والتصويت بالفم قربة ودينًا . ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجتمعون على مثل هذا السماع، ولا حضروه قط، ومن قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم حضر ذلك فقد كذب / عليه، باتفاق أهل المعرفة بحديثه وسنته . والحديث الذي ذكره محمد بن طاهر المقدسي [ هو أبوالفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد الإمام الحافظ الجوال الرحال، ذو التصانيف، ولد ببيت المقدس في شوال سنة ثمان وأربعمائة، وسمع بالقدس ومصر، والحرمين والشام، والجزيرة والعراق وأصبهان والجبال، وفارس وخراسان . مات عند قدومه من الحج في يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة . [ سير أعلام النبلاء 91/163- 173 ] . في [ مسألة السماع ] و [ في صفة التصوف ] ورواه من طريقه الشيخ أبو حفص عمر السهروردي هو أبو حفص عمر بن محمد بن عبدالله بن محمد بن عمُّويه، واسمه عبد الله البكري، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق، كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة، وكان شيخ شيوخ بغداد وكان له مجلس وعظ سنين، كان فقيهًا شافعيًا، صالحًا ورعًا، تخرج عليه خلق كثير، ولد بسهرورد في أواخر رجب، أو أوائل شعبان، والشك منه في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وتوفى في مستهل المحرم سنة اثنتين وثلاثين وستمائة ببغداد . [ وفيات الأعيان 3/446 : 448 ] . صاحب عوارف المعارف أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي :
قد لسعت حية الهوي كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به ** فعنده رقيتي وترياقي(186/462)
وأنه تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، فقال له معاوية : ما أحسن لهوكم ! فقال له : ( مهلًا يامعاوية، ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب ) فهو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن .
وأظهر منه كذبًا حديث آخر يذكرون فيه : أنه لما بشر الفقراء بسبقهم الأغنياء إلى الجنة تواجدوا، وخرقوا ثيابهم، وأن جبرائيل نزل من السماء فقال : يا محمد، إن ربك يطلب نصيبه من هذه الخرق، فأخذ منها خرقة فعلقها بالعرش، وإن ذلك هو زيق الفقراء . وهذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ومن بعدهم، ومعرفة الإسلام والإيمان .
/وهو يشبه رواية من روى : أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار لما انكسر المسلمون يوم حنين، أو غير يوم حنين، وأنهم قالوا : نحن مع الله، من كان الله معه كنا معه، ومن روى : أن صبيحة المعراج وجد أهل الصفة يتحدثون بسر كان الله أمر نبيه أن يكتمه، فقال لهم : ( من أين لكم هذا ؟ ) قالوا : الله علمنا إياه، فقال : ( يا رب، ألم تأمرني ألا أفشيه ؟ ) فقال : أمرتك أنت ألا تفشيه، ولكني أنا أخبرتهم به، ونحو هذه الأحاديث التي يرويها طوائف منتسبون إلى الدين، مع فرط جهلهم بدين الإسلام، فيبنون عليها من النفاق والبدع ما يناسبها . تارة يسقطون التوسط بالرسول وأنهم يصلون إلى الله تعالى من غير طريق الرسل مطلقًا . فهذا أعظم من كفر اليهود والنصارى؛ فإن أولئك أسقطوا وساطة رسول واحد، ولم يسقطوا وساطة الرسل مطلقًا .(186/463)
وهؤلاء إذا أسقطوا وساطة الرسل مطلقًا عن أنفسهم، كان هذا أغلظ من كفر أولئك، لكنهم يقولون : لا تسقط الوساطة إلا عن الخاصة، لا عن العامة،فيكونون أكفر من أهل الكتاب من جهة إسقاط السفارة مطلقًا عنهم، في بعض الأحوال، وأهل الكتاب أكفر من جهة إسقاط سفارة محمد مطلقًا، بل أهل الكتاب الذين يقولون : إنه رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب خير من هؤلاء . فإن أولئك أخرجوا عن رسالته من له كتاب، وهؤلاء يخرجون عن رسالته من لا يبقى معه إلا خيالات / ووساوس وظنون ألقاها إليه الشيطان، مع ظنه أنه من خواص أولياء الله، وهو من أشد أعداء الله، وتارة يجعلون هذه الآثار المختلقة حجة فيما يفترونه من أمور تخالف دين الإسلام، ويدعون أنها من أسرار الخواص، كما يفعل الملاحدة والقرامطة والباطنية، وتارة يجعلونها حجة في الإعراض عن كتاب الله وسنة نبيه إلى ما ابتدعوه من اتخاذ دينهم لهوًا ولعبًا .
وبالجملة، قد عرف بالاضطرار من دين الإسلام : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة،مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب، أو الدف . كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته، واتباع ماجاء به من الكتاب والحكمة، لا في باطن الأمر، ولا في ظاهره، ولا لعامي ولا لخاصي، ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه، كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف، ولا يصفق بكف، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( التصفيق للنساء والتسبيح للرجال ) ، و ( لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء ) .
ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء، كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثًا، ويسمون الرجال / المغنيين مخانيثا، وهذا مشهور في كلامهم .(186/464)
ومن هذا الباب حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما دخل عليها أبوها رضي الله عنه في أيام العيد، وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه : أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معرضًا بوجهه عنهما، مقبلا بوجهه الكريم إلى الحائط . فقال : ( دعهما يا أبا بكر، فإن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا أهل الإسلام ) ،ففي هذا الحديث بيان : أن هذا لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم أقر الجواري عليه معللا ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد، كما جاء في الحديث : ( ليعلم المشركون أن في ديننا فسحة ) وكان لعائشة لعب تلعب بهن ويجئن صواحباتها من صغار النسوة يلعبن معها،وليس في حديث الجاريتين أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى ذلك،والأمر والنهي إنما يتعلق بالاستماع، لا بمجرد السماع . كما في الرؤية فإنه إنما يتعلق بقصد الرؤية، لا بما يحصل منها بغير الاختيار .
وكذلك في اشتمام الطيب إنما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لم يقصده فإنه لا شىء عليه . وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس / الخمس : من السمع، والبصر، والشم، والذوق، واللمس، إنما يتعلق الأمر والنهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأما ما يحصل بغير اختياره فلا أمر فيه ولا نهي .
وهذا مما وجه به الحديث الذي في السنن عن ابن عمر : أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت زمارة راع، فعدل عن الطريق، وقال : ( هل تسمع ؟ هل تسمع ؟ ) حتى انقطع الصوت .(186/465)
فإن من الناس من يقول : بتقدير صحة هذا الحديث، لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه، فيجاب بأنه كان صغيرًا، أو يجاب بأنه لم يكن يستمع، وإنما كان يسمع، وهذا لا إثم فيه . وإنما النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك طلبًا للأفضل والأكمل، كمن اجتاز بطريق فسمع قومًا يتكلمون بكلام محرم فسد أذنيه كي لا يسمعه، فهذا حسن، ولو لم يسد أذنيه لم يأثم بذلك . اللهم إلا أن يكون في سماعه ضرر ديني لايندفع إلا بالسد .
و بالجملة : فهذه مسألة السماع تكلم كثير من المتأخرين في السماع : هل هومحظور ؟ أو مكروه ؟ أو مباح ؟ وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج، بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقًا إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب، والتشويق إلى المحبوب، / والتخويف من المرهوب، والتحزين على فوات المطلوب، فتستنزل به الرحمة، وتستجلب به النعمة، وتحرك به مواجيد أهل الإيمان، وتستجلي به مشاهد أهل العرفان، حتى يقول بعضهم : إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه، حتى يجعلونه قوتًا للقلوب، وغذاءً للأرواح، وحاديًا للنفوس، يحدوها إلى السير إلى الله، ويحثها على الإقبال عليه .
ولهذا يوجد من اعتاده، واغتذى به لا يحن إلى القرآن ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وإذا سمعوا سماع المكاء والتصدية خشعت الأصوات، وسكنت الحركات، وأصغت القلوب، وتعاطت المشروب .(186/466)
فمن تكلم في هذا : هل هو مكروه، أو مباح ؟ وشبهه بما كان النساء يغنين به في الأعياد والأفراح، لم يكن قد اهتدى إلى الفرق بين طريق أهل الخسارة، والفلاح، ومن تكلم في هذا : هل هو من الدين ؟ ومن سماع المتقين ؟ ومن أحوال المقربين ؟ والمقتصدين ؟ ومن أعمال أهل اليقين ؟ ومن طريق المحبين المحبوبين ؟ ومن أفعال السالكين، إلى رب العالمين ؟ كان كلامه فيه من وراء وراء بمنزلة من سئل عن علم الكلام المختلف فيه : هل هو محمود ؟ أو مذموم ؟ فأخذ / يتكلم في جنس الكلام وانقسامه : إلى الاسم، والفعل، والحرف، أو يتكلم في مدح الصمت،أو في أن الله أباح الكلام والنطق، وأمثال ذلك مما لا يمس المحل المشتبه المتنازع فيه .
فإذا عرف هذا، فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن،ولا مصر، ولا المغرب،ولا العراق، ولا خراسان، من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية، لا بدف، ولا بكف، ولا بقضيب، وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه .
فقال : الشافعي ـ رضي الله عنه ـ : خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه ( التغبير ) يصدون به الناس عن القرآن، وقال يزيد بن هارون : ما يغبر إلا الفاسق، ومتى كان التغبير ؟ !
وسئل عنه الإمام أحمد، فقال : أكرهه، هو محدث . قيل : أنجلس معهم ؟ قال : لا، وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا أحمد بن أبي الحواري، والسري السقطي، وأمثالهم . والذين حضروه من /الشيوخ المحمودين تركوه في آخر أمرهم . وأعيان المشائخ عابوا أهله، كما فعل ذلك عبد القادر، والشيخ أبو البيان، وغيرهما من المشائخ .(186/467)
وماذكره الشافعي ـ رضي الله عنه ـ من أنه من إحداث الزنادقة كلام إمام خبير بأصول الإسلام، فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة : كابن الراوندي، والفارابي، وابن سينا، و أمثالهم : كما ذكر أبو عبد الرحمن السلمي ـ في مسألة السماع ـ عن ابن الراوندي [ هو أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين الراوندي أو ابن الراوندي فيلسوف مجاهر بالإلحاد، من سكان بغداد، قال ابن كثير : أحد مشاهير الزنادقة، طلبه السلطان فهرب، ومن فرق المعتزلة [ الراوندية ] نسبة إليه . مات برحبة مالك بن طوق، ( بين الرقة وبغداد ) ، وقيل : صلبه أحد السلاطين ببغداد . [ وفيات الأعيان 1/49 ( 53 ) ، والأعلام 1/267، 268 ] . ، قال : إنه اختلف الفقهاء في السماع : فأباحه قوم، وكرهه قوم . وأنا أوجبه ـ أو قال ـ وأنا آمر به . فخالف إجماع العلماء في الأمر به .
و [ الفارابي ] كان بارعًا في الغناء الذي يسمونه [ الموسيقا ] وله فيه طريقة عند أهل صناعة الغناء، وحكايته مع ابن حمدان مشهورة، لما ضرب فأبكاهم، ثم أضحكهم، ثم نومهم ثم خرج .
و [ ابن سينا ] ذكر في إشاراته، في [ مقامات العارفين ] في الترغيب فيه، وفي عشق الصور، ما يناسب طريقة أسلافه الفلاسفة، والصابئين المشركين، الذين كانوا يعبدون الكواكب، والأصنام، كأرسطو وشيعته من اليونان ـ ومن اتبعه كبرقلس، وثامسطيوس، والإسكندر الأفروديسي، وكان أرسطو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني، /والذي تؤرخ له اليهود والنصارى، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة .
وأما [ ذو القرنين ] المذكور في القرآن الذي بنى [ السد ] فكان قبل هؤلاء بزمن طويل، وأما الإسكندر الذي وزر له أرسطو : فإنه إنما بلغ بلاد خراسان ونحوها في دولة الفرس، لم يصل إلى السد وهذه الأمور مبسوطة في غيرهذا الموضع .(186/468)
و [ ابن سينا ] أحدث فلسفة ركبها من كلام سلفه اليونان، ومما أخذه من أهل الكلام المبتدعين الجهمية، و نحوهم . وسلك طريق الملاحدة الإسماعيلية في كثير من أمورهم العلمية والعملية، ومزجه بشىء من كلام الصوفية، وحقيقته تعود إلى كلام إخوانه الإسماعيلية القرامطة الباطنية " فإن أهل بيته كانوا من الإسماعيلية : أتباع الحاكم الذي كان بمصر وكانوا في زمنه، ودينهم دين أصحاب [ رسائل إخوان الصفا ] ، وأمثالهم من أئمة منافقي الأمم الذين ليسوا مسلمين، ولا يهود ولا نصارى .
وكان الفارابي قد حذق في حروف اليونان التي هي تعاليم أرسطو، وأتباعه من الفلاسفة المشائين، وفي أصواتهم صناعة الغناء، ففي هؤلاء الطوائف من يرغب فيه ويجعله مما تزكو به النفوس، وترتاض به، وتهذب به الأخلاق .
/أما [ الحنفاء ] أهل ملة إبراهيم الخليل، الذي جعله الله إماما، وأهل دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا غيره، المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء ليس فيهم من يرغب في ذلك، ولا يدعو إليه، وهؤلاء هم أهل القرآن، والإيمان، والهدى،والسعد، والرشاد، والنور، والفلاح، وأهل المعرفة والعلم، واليقين والإخلاص، والمحبة له، والتوكل عليه، والخشية له، والإنابة إليه .
ولكن قد حضره أقوام من أهل الإرادة، وممن له نصيب من المحبة، لما فيه من التحريك لهم، ولم يعلموا غائلته ولا عرفوا مغبته، كما دخل قوم من الفقهاء أهل الإيمان بما جاء به الرسول في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام، ظنًا منهم أنه حق موافق ولم يعلموا غائلته، ولا عرفوا مغبته، فإن القيام بحقائق الدين علمًا وحالًا وقولا وعملا ومعرفة وذوقًا وخبرة لا يستقل بها أكثر الناس . ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة، فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا .(186/469)
وقد قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 ] ، وقد قال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] قال عبد الله بن مسعود : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخط خطوطًا، عن يمينه وشماله، ثم قال : ( هذا سبيل الله . وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) . ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .
وقد قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] ، فقد رضي الله عن السابقين رضى مطلقًا، ورضى عمن اتبعهم بإحسان . قال عبد الله بن مسعود : إن الله نظر في قلب محمد فوجد قلبه خير قلوب العباد، فاصطفاه لرسالته . ثم نظر في قلوب الناس بعد قلبه فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح . وقال عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا،قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم .(186/470)
ومن كان له خبرة بحقائق الدين، وأحوال القلوب ومعارفها، وأذواقها، ومواجيدها . عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب / للقلوب منفعة، ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه،فهو للروح كالخمر للجسد، يفعل في النفوس فعل حميا الكؤوس .
ولهذا يورث أصحابه سكرًا أعظم من سكر الخمر، فيجدون لذة بلا تمييز . كما يجد شارب الخمر، بل يحصل لهم أكثر وأكبر مما يحصل لشارب الخمر، ويصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، أعظم مما يصدهم الخمر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، أعظم من الخمر، حتى يقتل بعضهم بعضًا من غير مس بيد، بل بما يقترن بهم من الشياطين، فإنه يحصل لهم أحوال شيطانية، بحيث تتنزل عليهم الشياطين في تلك الحال . ويتكلمون على ألسنتهم، كما يتكلم الجني على لسان المصروع : إما بكلام من جنس كلام الأعاجم، الذين لا يفقه كلامهم، كلسان الترك، أو الفرس، أو غيرهم، ويكون الإنسان الذي لبسه الشيطان عربيًا لا يحسن أن يتكلم بذلك، بل يكون الكلام من جنس كلام من تكون تلك الشياطين من إخوانهم . وإما بكلام لا يعقل ولا يفهم له معنى . وهذا يعرفه أهل المكاشفة شهودًا وعيانًا .
وهؤلاء الذين يدخلون النار مع خروجهم عن الشريعة، هم من هذا النمط . فإن الشياطين تلابس أحدهم، بحيث يسقط إحساس بدنه، حتى إن المصروع يضرب ضربًا عظيمًا، وهو لا يحس بذلك، ولا / يؤثر في جلده، فكذلك هؤلاء تلبسهم الشياطين، وتدخل بهم النار وقد تطير بهم في الهواء، وإنما يلبس أحدهم الشيطان مع تغيب عقله، كما يلبس الشيطان المصروع .(186/471)
وبأرض الهند، والمغرب، ضرب من الزط يقال لأحدهم : المصلي، فإنه يصلي النار كما يصلي هؤلاء، وتلبسه ويدخلها ويطير في الهواء، ويقف على رأس الزج، ويفعل أشياء أبلغ مما يفعله هؤلاء، وهم من الزط الذين لا خلاق لهم، والجن تخطف كثيرًا من الإنس وتغيبه عن أبصار الناس، وتطير بهم في الهواء، وقد باشرنا من هذه الأمور ما يطول وصفه، وكذلك يفعل هذا هؤلاء المتولهون والمنتسبون إلى بعض المشائخ إذا حصل له وجد سماعي، وعند سماع المكاء والتصدية، منهم من يصعد في الهواء، ويقف على زج الرمح، ويدخل النار، ويأخذ الحديد المحمي بالنار ثم يضعه على بدنه، وأنواع من هذا الجنس، ولا تحصل له هذه الحال عند الصلاة، ولا عند الذكر، ولا عند قراءة القرآن؛ لأن هذه عبادات شرعية إيمانية إسلامية نبوية محمدية، تطرد الشياطين، وتلك عبادات بدعية شركية شيطانية فلسفية تستجلب الشياطين .
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا / غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) وقد ثبت في الحديث الصحيح : أن أسيد بن حضير لما قرأ سورة الكهف، تنزلت الملائكة لسماعها، كالظلة فيها السرج .
ولهذا كان المكاء والتصدية يدعو إلى الفواحش والظلم، ويصد عن حقيقة ذكر الله تعالى والصلاة كما يفعل الخمر، والسلف يسمونه تغبيرًا؛ لأن التغبير هو الضرب بالقضيب على جلد من الجلود، وهو ما يغبر صوت الإنسان على التلحين، فقد يضم إلى صوت الإنسان، إما التصفيق بأحد اليدين على الأخرى، وإما الضرب بقضيب على فخذ وجلد، وإما الضرب باليد على أختها، أو غيرها على دف أو طبل، كناقوس النصارى، والنفخ في صفارة؛ كبوق اليهود . فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته .(186/472)
وأما إذا فعلها على وجه التمتع والتلعب فمذهب الأئمة الأربعة : أن آلات اللهو كلها حرام، فقد ثبت في صحيح البخارى وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير، والخمر والمعازف، وذكر أنهم يمسخون قردة وخنازير .
و [ المعازف ] هي الملاهي كما ذكر ذلك أهل اللغة، جمع معزفة وهي الآلة التي يعزف بها : أي يصوت بها . ولم يذكر أحد من / أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعًا، إلا أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع وجهين، بخلاف الأوتار ونحوها، فإنهم لم يذكروا فيها نزاعًا، وأما العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه وأتبع له، فلم يذكروا نزاعًا لا في هذا، ولا في هذا، بل صنف أفضلهم في وقته أبو الطيب الطبري [ هو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي الإمام العلامة، شيخ الإسلام، القاضي أبو الطيب، فقيه بغداد . ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة بآمل . سمع من مفقهه أبي الحسن الماسرجسي، وببغداد من الدارقطني، وغيرهم، استوطن بغداد، ودرّس وأفتى وأفاد، وولى قضاء رُبع الكرخ . قال الخطيب : كان شيخنا أبو الطيب ورعًا عاقلًا، عارفًا بالأصول والفروع، محققًا، حسن الخلق، صحيح المذهب، صحيح العقل، ثابت الفهم، توفى في ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة ،وله مائة وسنتان رحمه الله . [ سير أعلام النبلاء : 71/668 : 671 ] ، شيخ أبي إسحق الشيرازي في ذلك مصنفًا معروفًا، ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو : هل هو حرام ؟ أو مكروه ؟ أو مباح ؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال، وذكروا عن الشافعي قولين،ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعًا .(186/473)
وذكر زكريا بن يحيى الساجي ـ وهو أحد الأئمة المتقدمين المائلين إلى مذهب الشافعي أنه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة، وما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي وأبو القاسم القشيري، وغيرهما،عن مالك،وأهل المدينة، في ذلك فغلط، وإنما وقعت الشبهة فيه، لأن بعض أهل المدينة كان يحضر السماع، إلا أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم، بل قال إسحاق بن عيسى الطباع [ هو إسحاق بن عيسى بن نجيح البغدادي أبو يعقوب بن الطباع، روى عن مالك والحمادين وشريك وابن لهيعة وغيرهم، وعنه : أحمد وأبو خيثمة والدارمي وغيرهم، قال البخاري : مشهور الحديث، وقال صالح ابن محمد : لابأس به صدوق، وقال أبو حاتم : أخوه محمد أحب إليّ منه وهو صدوق، ولد سنة 140 وتوفى سنة 214 أو 215 أو 216 . [ التهذيب 1/245 ] : سألت مالكًا عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال : إنما يفعله عندنا الفساق، وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك، وهم أعلم بمذهبه، ومذهب أهل المدينة من طائفة في / المشرق لا علم لها بمذهب الفقهاء، ومن ذكر عن مالك أنه ضرب بعود فقد افترى عليه، وإنما نبهت على هذا، لأن فيما جمعه أبو عبد الرحمن السلمي، ومحمد بن طاهر المقدسي، في ذلك حكايات وآثار، يظن من لا خبرة له بالعلم وأحوال السلف أنها صدق .
وكان [ الشيخ أبوعبد الرحمن ] ـ رحمه الله ـ فيه من الخير والزهد والدين والتصوف ما يحمله على أن يجمع من كلام الشيوخ والآثار التي توافق مقصوده كل ما يجده، فلهذا يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة، والكلام المنقول، ما ينتفع به في الدين، ويوجد فيها من الآثار السقيمة، والكلام المردود، ما يضر من لا خبرة له . وبعض الناس توقف في روايته . حتى إن البيهقي كان إذا روى عنه يقول : حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه، وأكثر الحكايات التي يرويها أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة عنه، فإنه كان أجمع شيوخه لكلام الصوفية .(186/474)
و [ محمد بن طاهر ] له فضيلة جيدة من معرفة الحديث ورجاله، وهو من حفاظ وقته، لكن كثير من المتأخرين : أهل الحديث، وأهل الزهد، وأهل الفقه، وغيرهم، إذا صنفوا في باب ذكروا ما روى فيه من غث وسمين، ولم يميزوا ذلك، كما يوجد ممن يصنف في الأبواب مثل المصنفين في فضائل الشهور، والأوقات، وفضائل الأعمال / والعبادات، وفضائل الأشخاص، وغير ذلك من الأبواب، مثل ما صنف بعضهم في فضائل رجب، وغيرهم في فضائل صلوات الأيام والليالي، وصلاة يوم الأحد، وصلاة يوم الإثنين، وصلاة يوم الثلاثاء، وصلاة أول جمعة في رجب . وألفية رجب، وأول رجب، وألفية نصف شعبان، وإحياء ليلتي العيدين، وصلاة يوم عاشوراء .
وأجود ما يروى من هذه الصلوات حديث صلاة التسبيح، وقد رواه أبو داود، والترمذي .
ومع هذا فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة، بل أحمد ضعف الحديث، ولم يستحب هذه الصلوات . وأما ابن المبارك فالمنقول عنه ليس مثل الصلاة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فإن الصلاة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها قعدة طويلة بعد السجدة الثانية . وهذا يخالف الأصول فلا يجوز أن تثبت بمثل هذا الحديث .
ومن تدبر الأصول علم أنه موضوع . وأمثال ذلك، فإنها كلها أحاديث موضوعة، مكذوبة، باتفاق أهل المعرفة، مع أنها توجد في مثل كتاب أبي طالب، وكتاب أبي حامد، وكتاب الشيخ عبد القادر، وتوجد في مثل أمالي أبي القاسم بن عساكر . وفيما صنفه عبد العزيز الكناني، وأبوعلي بن البنا، وأبو الفضل بن ناصر، وغيرهم . وكذلك / أبو الفرج ابن الجوزي : يذكر مثل هذا في فضائل الشهور، ويذكر في الموضوعات أنه كذب موضوع .(186/475)
والذين جمعوا الأحاديث في [ الزهد والرقائق ] يذكرون ما روى في هذا الباب، ومن أجل ما صنف في ذلك . وأندره [ كتاب الزهد ] لعبد الله بن المبارك . وفيه أحاديث واهية، وكذلك [ كتاب الزهد ] لهناد بن السري، ولأسد بن موسى، وغيرهما، وأجود ما صنف في ذلك : [ الزهد ] للإمام أحمد، لكنه مكتوب على الأسماء، وزهد ابن المبارك على الأبواب . وهذه الكتب يذكر فيها زهد الأنبياء، والصحابة، والتابعين .
ثم إن المتأخرين على صنفين : منهم من ذكر زهد المتقدمين، والمتأخرين، كأبي نعيم في الحلية، وأبي الفرج ابن الجوزي في [ صفة الصفوة ] .
ومنهم من اقتصر على ذكر المتأخرين، من حين حدث اسم الصوفية، كما فعل أبو عبد الرحمن السلمي في [ طبقات الصوفية ] وصاحبه أبو القاسم القشيري في الرسالة، ثم الحكايات التي يذكرها هؤلاء بمجردها، مثل ابن خميس، وأمثاله، فيذكرون حكايات مرسلة، بعضها صحيح، وبعضها باطل .
/مثل ذكرهم : أن الحسن صحب عليا . وقد اتفق أهل المعرفة على أن الحسن البصري لم يلق عليًا، ولا أخذ عنه شيئًا، وإنما أخذ عن أصحابه : كالأحنف بن قيس، وقيس ابن معاذ، وغيرهما . وكذلك حكاياتهم : أن الشافعي وأحمد اجتمعا لشيبان الرعين، وسألاه عن سجود السهو، وكذلك اتفق أهل المعرفة على أن الشافعي وأحمد لم يلقيا شيبان الرعين، بل ولا أدركاه(186/476)
وقد ذكر أبو عبد الرحمن في [ حقائق التفسير ] عن جعفر بن محمد، وأمثاله من الأقوال المأثورة ما يعلم أهل المعرفة أنه كذب على جعفر بن محمد، فإن جعفرًا كذب عليه ما لم يكذب على أحد؛ لأنه كان فيه من العلم والدين، ما ميزه الله به، وكان هو وأبوه ـ أبو جعفر ـ وجده ـ على بن الحسين ـ من أعيان الأئمة علما ودينًا، ولم يجئ بعد جعفر مثله في أهل البيت . فصار كثير من أهل الزندقة والبدع ينسب مقالته إليه حتى أصحاب [ رسائل إخوان الصفا ] ينسبونها إليه، وهذه الرسائل صنفت بعد موته بأكثر من مائتي سنة، صنفت عند ظهور مذهب الإسماعيلية العبيديين، الذين بنوا القاهرة، وصنفت على مذهبهم الذي ركبوه من قول الفلاسفة اليونان، ومجوس الفرس، والشيعة من أهل القبلة، ولهذا قال العلماء : إن ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض .
/ونسبوا إلى جعفر أنه تكلم في تقدم المعرفة عن حوادث الكون : مثل اختلاج الأعضاء، والرعود، والبروق، والهفت، وغير ذلك مما نزه الله جعفرا وأئمة أهل بيته عن الكلام فيه . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن المذكور عن سلف الأمة وأئمتها من المنقولات، ينبغي للإنسان أن يميز بين صحيحه وضعيفه، كما ينبغي مثل ذلك في المعقولات، والنظريات، وكذلك في الأذواق، والمواجيد، والمكاشفات، والمخاطبات، فإن كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة، فيها حق وباطل، ولا بد من التمييز في هذا وهذا .
وجماع ذلك أن ما وافق كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما كان عليه أصحابه فهوحق، وما خالف ذلك فهو باطل . فإن الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي(186/477)
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [ النساء : 59 ] ، وقال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 213 ] .
وفي صحيح مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول : ( اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) . والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع .
وقد تكلمنا على كلام المشائخ في السماع، وما ذكره القشيري في رسالته هو وغيره عنهم، وشرحنا ذلك كلمة كلمة، لكن هذا الموضع لا يتسع لذلك .(186/478)
وجماع الأمر في ذلك أنه إذا كان الكلام في السماع وغيره، هل هو طاعة وقربة ؟ فلابد من دليل شرعي يدل على ذلك، وإذا كان الكلام : هل هو محرم ؟ أوغير محرم ؟ فلابد من دليل شرعي يدل على ذلك . إذ ليس الحرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، والله سبحانه وتعالى ذم المشركين على أنهم ابتدعوا دينًا لم يشرعه الله لهم، وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى . فقال تعالى : / { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ الأعراف : 28، 29 ] .
وكثير من الناس يفعل في السماع وغيره، ما هو من جنس الفواحش المحرمة، وما يدعوا إليها، وزعمهم أن ذلك يصلح القلوب . فهو مما أمر الله به،فهؤلاء لهم نصيب من معنى هذه الآية، قال تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 32، 33 ] .(186/479)
وقد كان المشركون يحرمون من الطعام واللباس أشياء، ويتخذون ذلك دينًا، وكان بعض الصحابة قد عزموا على الترهب، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلًا طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } الآية [ المائدة : 87، 88 ] .
/وجماع الدين ألا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلا بما شرع، ولا نعبده بالبدع، كما قال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] ، قال الفضيل بن عياض : أخلصه، وأصوبه، قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟
قال : إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا، لم يقبل . وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا، لم يقبل . حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص : أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وهذا الذي ذكره الفضيل مما اتفق عليه أئمة المشائخ، كما قال أبوسليمان الداراني : إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين : الكتاب، والسنة، وقال الشيخ أبو سليمان أيضًا : ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يسمع فيه بأثر، فإذا سمع بأثر كان نورًا على نور .
وقال الجنيد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث، لم يصح له أن يتكلم في علمنا هذا، وقال سهل بن عبد الله التستري : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل، وقال : كل عمل على ابتداع فإنه عذاب على النفس، وكل عمل بلا اقتداء فهو غش النفس .
/وقال أبوعثمان النيسابوري : من أمَّرَ السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة، لأن الله يقول : { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [ النور : 54 ] . ومثل هذا كثير في كلامهم .(186/480)
وإذا كان كذلك فليس لأحد أن يسلك إلى الله إلا بما شرعه الرسول لأمته، فهو الداعي إلى الله بإذنه، الهادي إلى صراطه، الذي من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي . آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم .
سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن [ السماع ]
فأجاب :
[ السماع ] الذي أمر الله به ورسوله، واتفق عليه سلف الأمة ومشائخ الطريق : هو سماع القرآن، فإنه سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين، قال سبحانه وتعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 107 : 109 ] .(186/481)
وقال تعالي : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 2-4 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] .
وقال سبحانه وتعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] ، وهذا كثير في القرآن .(186/482)
وكما أثنى سبحانه وتعالى على هذا السماع، فقد ذم المعرضين عنه، كما قال : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [ الفرقان : 73 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } [ المدثر : 49، 50 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ الكهف : 57 ] ، وقال : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 22، 23 ] ، وقال سبحانه وتعالى [ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ُ } [ لقمان : 7 ] .
وهذا كثير في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين يمدحون من يقبل على هذا السماع ويحبه ويرغب فيه، ويذمون من يعرض عنه ويبغضه، ولهذا شرع الله للمسلمين في صلاتهم ولطسهم، شرع سماع المغرب، والعشاء الآخر . وأعظم سماع في الصلوات سماع الفجر الذي قال الله فيه : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [ الإسراء : 78 ] ، وقال عبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنه ـ يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات أن ما قال واقع(186/483)
وهو مستحب لهم خارج الصلوات، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه خرج على أهل الصفة وفيهم واحد يقرأ وهم / يستمعون، فجلس معهم، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : يا أبا موسى،ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون، ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى وهو يقرأ : فجعل يستمع لقراءته، وقال : ( لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير داود ) ، وقال : ( يا أبا موسى،لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك ) فقال : لو علمت أنك تستمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرًا . أي : حسنته لك تحسينًا .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) ، ( زينوا القرآن بأصواتكم ) وقال : ( لله أشد أذنا للرجل حسن الصوت، من صاحب القينة إلى قينته ) وقوله : ( ما أذن الله أذنا ) أي سمع سمعًا، ومنه قوله : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] أي سمعت، والآثار في هذا كثيرة .
وهذا سماع له آثار إيمانية من المعارف القدسية، والأحوال الزكية يطول شرحها، ووصفها . وله في الجسد آثار محمودة . من خشوع القلب، ودموع العين، واقشعرار الجلد، وقد ذكر الله هذه الثلاثة في القرآن . وكانت موجودة في أصحاب رسول الله /صلى الله عليه وسلم الذين أثنى عليهم في القرآن، ووجد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة : الاضطراب، والاختلاج، والإغماء أو الموت، والهيام؛ فأنكر بعض السلف ذلك إما لبدعتهم، وإما لحبهم .(186/484)
وأما جمهور الأئمة والسلف فلا ينكرون ذلك، فإن السبب إذا لم يكن محظورًا كان صاحبه فيما تولد عنه معذورًا . لكن سبب ذلك قوة الوارد على قلوبهم،وضعف قلوبهم عن حمله فلو لم يؤثر السماع لقسوتهم كانوا مذمومين، كما ذم الله الذين قال فيهم : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِك } [ البقرة : 74 ] ، وقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] ، ولو أثر فيهم آثارا محمودة لم يجذبهم عن حد العقل . لكانوا كمن أخرجهم إلى حد الغلبة كانوا محمودين أيضًا ومعذورين .
فأما سماع القاصدين لصلاح القلوب في الاجتماع على ذلك : إما نشيد مجرد، نظير الغبار، وإما بالتصفيق، ونحو ذلك . فهو السماع المحدث في الإسلام، فإنه أحدث بعد ذهاب القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( خير القرون : القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) وقد كرهه أعيان الأمة ولم يحضره أكابر المشايخ .
/وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ : خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن .
وسئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال : هو محدث أكرهه،قيل له : إنه يرق عليه القلب، فقال : لا تجلسوا معهم . قيل له : أيهجرون ؟ فقال : لا يبلغ بهم هذا كله، فبين أنه بدعة لم يفعلها القرون الفاضلة، لا في الحجاز، ولا في الشام،ولا في اليمن،ولا في مصر،ولا في العراق، ولا خراسان، ولو كان للمسلمين به منفعة في دينهم لفعله السلف .(186/485)
ولم يحضره مثل : إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا السري السقطي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي البيان، ولا الشيخ حياة، وغيرهم، بل في كلام طائفة من هؤلاء ـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ النهي عنه . وكذلك أعيان المشائخ .
وقد حضره من المشائخ طائفة، وشرطوا له المكان، والإمكان، والخلان، والشيخ الذي يحرس من الشيطان . وأكثر الذين حضروه من المشائخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمرهم . كالجنيد فإنه حضره وهو شاب، وتركهم في آخر عمره، وكان يقول : من تكلف السماع / فتن به، ومن صادفه السماع استراح به . فقد ذم من يجتمع له، ورخص فيمن يصادفه من غير قصد . ولا اعتماد للجلوس له .
وسبب ذلك أنه مجمل ليس فيه تفصيل . فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب، والوصل والهجر، والقطيعة، والشوق، والتتيم، والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك، هو قول مجمل، يشترك فيه محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الإخوان، ومحب الأوطان، ومحب النسوان، ومحب المردان . فقد يكون فيه منفعة إذا هيج القاطن، وأثار الساكن، وكان ذلك مما يحبه الله ورسوله . لكن فيه مضرة راجحة على منفعته : كما في الخمر والميسر،فإن فيهما إثم كبير، ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما .
فلهذا لم تأت به الشريعة، لم تأت إلا بالمصلحة الخالصة أو الراجحة .
وأما ما تكون مفسدته غالبة على مصلحته، فهو بمنزلة من يأخذ درهما بدينار، أو يسرق خمسة دراهم، ويتصدق منها بدرهمين .(186/486)
وذلك أنه يهيج الوجد المشترك، فيثير من النفس كوامن تضره آثارها، ويغذي النفس ويفتنها، فتعتاض به عن سماع القرآن، حتى لا يبقى فيها محبة لسماع القرآن ولا التذاذ به، ولا استطابة له، بل / يبقى في النفس بغض لذلك، واشتغال عنه، كمن شغل نفسه بتعلم التوراة والإنجيل، وعلوم أهل الكتاب، والصابئين واستفادته العلم والحكمة منها، فأعرض بذلك عن كتاب الله وسنة رسوله، إلى أشياء أخرى تطول .
فلما كان هذا السماع لا يعطي بنفسه ما يحبه الله ورسوله من الأحوال والمعارف، بل قد يصد عن ذلك، و يعطي مالا يحبه الله ورسوله، أو ما يبغضه الله ورسوله، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا سلف الأمة ولا أعيان مشائخها .
ومن نكته أن الصوت يؤثر في النفس بحسنه : فتارة يفرح، وتارة يحزن، وتارة يغضب، وتارة يرضى، وإذا قوى أسكر الروح فتصير في لذة مطربة من غير تمييز . كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص، وللجسد أيضًا إذا سكر بالطعام والشراب، فإن السكر هو الطرب الذي يؤثر لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل، التي صدت عن ذكر الله وعن الصلاة، وأوقعت العداوة والبغضاء .
و بالجملة فعلى المؤمن أن يعلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئًا يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا شيئًا يبعد عن / النار إلا وقد حدث به، وإن هذا السماع لو كان مصلحة لشرعه الله ورسوله، فإن الله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 ] ، وإذا وجد فيه منفعة لقلبه، ولم يجد شاهد ذلك، لا من الكتاب ولا من السنة، لم يلتفت إليه .
قال سهل بن عبد الله التستري : كل وجد لايشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .(186/487)
وقال أبو سليمان الداراني : إنه لتلم بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين : الكتاب، والسنة،وقال أبوسليمان أيضًا : ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يجد فيه أثرًا . فإذا وجد فيه أثرًا كان نورًا على نور .
وقال الجنيد بن محمد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يصلح له أن يتكلم في علمنا .
و أيضا فإن الله يقول في الكتاب : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، قال السلف من الصحابة والتابعين : [ المكاء ] كالصفير ونحوه، من التصويت، مثل الغناء . و [ التصدية ] : التصفيق باليد . فقد أخبر الله عن المشركين أنهم كانوا يجعلون التصدية / والغناء لهم صلاة، وعبادة، وقربة، يعتاضون به عن الصلاة التي شرعها الله ورسوله .
وأما المسلمون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان : فصلاتهم وعبادتهم القرآن، واستماعه، والركوع والسجود، وذكر الله ودعاؤه، ونحو ذلك مما يحبه الله ورسوله، فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك، وشابههم فيما ليس من فعل المؤمنين : المهاجرين والأنصار . فإن كان يفعله في بيوت الله فقد زاد في مشابهته أكبر وأكبر . واشتغل به عن الصلاة وذكر الله ودعائه، فقد عظمت مشابهته لهم . وصار له كفل عظيم من الذم الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } .
لكن قد يغفر له ذلك لاجتهاده، أو لحسنات ماحية، أوغير ذلك . فيما يفرق فيه بين المسلم والكافر . لكن مفارقته للمشركين في غير هذا لا يمنع أن يكون مذمومًا خارجًا عن الشريعة، داخلًا في البدعة التي ضاهى بها المشركين، فينبغي للمؤمن أن يتفطن لهذا، ويفرق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله، وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله .(186/488)
/ويعلم أن هذا السماع المحدث هو من جنس سماع المشركين، وهو إليه أقرب منه إلى سماع المسلمين، وإن كان قد غلط فيه قوم من صالح المسلمين،فإن الله لا يضيع أجرهم وصلاحهم، لما وقع من خطئهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر واحد ) .
وهذا كما أن جماعة من السلف قاتلوا أمير المؤمنين عليا بتأويل، وعلي بن أبي طالب وأصحابه أولى بالحق منهم، وقد قال فيهم : من قصد الله فله الجنة .
وجماعة من السلف والخلف استحلوا بعض الأشربة بتأويل ـ وقد ثبت بالكتاب والسنة تحريم ما استحلوه ـ وإن كان خطؤهم مغفورًا لهم .
والذين حضروا هذا السماع من المشائخ الصالحين شرطوا له شروطًا لا توجد إلا نادرًا، فعامة هذه السماعات خارجة عن إجماع المشائخ، ومع هذا فأخطؤوا ـ والله يغفر لهم خطأهم فيما خرجوا به عن السنة ـ وإن كانوا معذورين .
والسبب الذي أخطؤوا فيه أوقع أممًا كثيرة في المنكر الذي نهوا / عنه، وليس للعالمين شرعة ولا منهاج، ولا شريعة ولا طريقة أكمل من الشريعة التي بعث الله بها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم كما كان يقول في خطبته : ( خير الكلام كلام الله،وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ) .
ومن غلط بعضهم توهمه أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين حضروا هذا السماع، سماع المكاء والتصدية، والغناء والتصفيق بالأكف، حتى روى بعض الكاذبين أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابي شعرًا، قوله :
قد لسعت حية الهوى كبدي ** فلا طبيب لها ولا راقي .
سوى الحبيب الذي شغفت به ** فمنه دائي ومنه ترياقي .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، وقال : ( ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب ) . وهذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأحواله .(186/489)
كما كذب بعض الكذابين : أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع / المشركين، وأمثال هذه الأمور المكذوبة إنما يكذبها من خرج عن أمر الله ورسوله، وأطبقت عليه طوائف من الجاهلين بأحوال الرسول وأصحابه، بل بأصول الإسلام .
وأما [ الرقص ] فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } [ لقمان : 19 ] ، وقال في كتابه : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ
هَوْنًا } [ الفرقان : 63 ] ، أي : بسكينة، ووقار .
وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة، والسكينة، ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع، كسماع القرآن و نحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له : مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال : ورد على الحال، وأنا سكران قيل له : إذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكران معذورًا .
فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقًا فهو مبتدع، ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة،من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى، والمشركين، والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال، / ومن كان كاذبًا فهو منافق ضال .
قال سيد المسلمين في وقته ـ الفضيل بن عياض ـ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] ، قال : أخلصه، و أصوبه، قيل له : يا أبا علي ما أخلصه ؟ وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل ،حتى يكون خالصًا صوابًا . والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة .(186/490)
وكان يقول : من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها، ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمنًا وإيمانًا . وأكثر إشارته وإشارات غيره من المشائخ بالبدعة إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال، كما قال عن النصارى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } [ الحديد : 27 ] ، وقال ابن مسعود : عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله خاليًا فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليًا فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادا في سبيل وسنة، خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم ـ إن كانت اجتهادًا أو اقتصادًا ـ على منهاج الأنبياء وسنتهم .
/وأما قول القائل : هذه شبكة يصاد بها العوام،فقد صدق، فإن أكثرهم إنما يتخذون ذلك شبكة لأجل الطعام، والتوانس على الطعام، كما قال الله فيهم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } [ التوبة : 34 ] ، ومن فعل هذا فهو من أئمة الضلال، الذين قيل في رؤوسهم : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 66-68 ] .(186/491)
وأما الصادقون منهم : فهم يتخذونه شبكة، لكن هي شبكة مخرقة يخرج منها الصيد إذا دخل فيها، كما هو الواقع كثيرًا،فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع في الطريق، ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله، أورثتهم أحوالا فاسدة .
وإلى عبادته ومحبته، وطاعته، والرغبة إليه، والتبتل له والتوكل عليه أحسن من الإسلامية، والشريعة القرآنية، والمناهج الموصلة الحقيقة الجامعة لمصالح الدنيا والآخرة .
/وإذا كان غير مشروع، ولا مأمور به، فالتطهر، أو الإنصات له، واستفتاح باب الرحمة هو من جنس عادة الرهبان، ليس من عبادة أهل الإسلام، والإيمان، ولا عبادة أهل القرآن، ولا من أهل السنة والإحسان، والحمد لله وحده .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=238 - TOP#TOPسئل عمن قال : إن السماع على الناس حرام وعليَّ حلال هل يفسق في ذلك أم لا ؟
فأجاب ـ رضي الله عنه :
من ادعى أن المحرمات تحريمًا عامًا : كالفواحش، والظلم والملاهي، حرام على الناس حلال له فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن ادعى في الدفوف والشباب أنهما حرام على بعض الناس دون بعض فهذا مخالف للسنة، والإجماع، وأئمة الدين، وهو ضال من الضلال . ومن تم مصرًا على مثل ذلك كان فاسقًا . والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=238 - TOP#TOPسئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف، ثم يسجد بعضهم لبعض على وجه التواضع، هل هذا سنة ؟ أو فعله الشيوخ الصالحون ؟ .
الجواب :
لا يجوز السجود لغير الله، واتخاذ الضرب بالدف والغناء والرقص عبادة هو من البدع التي لم يفعلها سلف الأمة، ولا أكابر شيوخها : كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي، والسري السقطي، وغير هؤلاء .(186/492)
وكذلك أكابر الشيوخ المتأخرين مثل : الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، وغير هؤلاء، فإنهم لم يحضروا [ السماع البدعي ] بل كانوا يحضرون [ السماع الشرعي ] سماع الأنبياء، وأتباعهم كسماع القرآن . والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=238 - TOP#TOPسئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص، فأشار عليه رجل . فقال هذه الأبيات :
أنكروا رقصًا وقالوا حرام ** فعليهم من أجل ذاك سلام
أعبد الله يا فقيه، وصل ** والزم الشرع فالسماع حرام
بل حرام عليك، ثم حلال ** عند قوم أحوالهم لا تلام
مثل قوم صفوا وبان لهم من ** جانب الطور جذوة وكلام
فإذا قوبل السماع بلهو ** فحرام على الجميع حرام
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين، هذا الشعر يتضمن منكرًا من القول وزورًا؛ بل أوله يتضمن مخالفة الشريعة، وآخره يفتح باب الزندقة والإلحاد، والمخالفة للحقيقة الإلهية الدينية النبوية . وذلك أن قول القائل :
مثل قوم صفوا وبان لهم من ** جانب الطور جذوة وكلام
/يتضمن تمثيل هؤلاء بموسى بن عمران، الذي نودي من جانب الطور . ولما رأى النار قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [ القصص : 29 ] .
وهذا قول طائفة من الناس، يسلكون طريق الرياضة والتصفية، ويظنون أنهم بذلك يصلون إلى أن يخاطبهم الله، كما خاطب موسى بن عمران، وهؤلاء ثلاثة أصناف :
[ صنف ] يزعمون أنهم يخاطبون بأعظم مما خوطب به موسى بن عمران . كما يقول ذلك من يقول من أهل الوحدة والاتحاد . القائلين بأن الوجود واحد . كصاحب [ الفصوص ] وأمثاله .(186/493)
فإن هؤلاء يدعون أنهم أعلى من الأنبياء، وأن الخطاب الذي يحصل لهم من الله أعلى مما يحصل لإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، و معلوم أن هذا الكفر أعظم من كفر اليهود والنصارى، الذين يفضلون الأنبياء على غيرهم، لكن يؤمنون ببعض الأنبياء، ويكفرون ببعض .
والنوع الثاني : من يقول : إن الله يكلمه مثل كلام موسى بن عمران، كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة والمتصوفة، الذين / يقولون : إن تكليم موسى فيض فاض على قلبه من العقل الفعال، ويقولون : إن النبوة مكتسبة .
و النوع الثالث : الذين يقولون : إن موسى أفضل، لكن صاحب الرياضة قد يسمع الخطاب الذي سمعه موسى، ولكن موسى مقصودًا بالتكليم دون هذا، كما يوجد هذا في أخبار صاحب [ مشكاة الأنوار ] ، وكذلك سلك مسلكه صاحب [ خلع النعلين ] ، وأمثالهما .
وأما قوله في أول الشعر لمن يخاطبه : [ الزم الشرع يا فقيه وصل ] ، يشعر بأنك أنت تبع الشرع، وأما نحن فلنا إلى الله طريق غير الشرع، ومن ادعى أن له طريقًا إلى الله يوصله إلى رضوان الله وكرامته وثوابه غير الشريعة التي بعث الله بها رسوله، فإنه أيضًا كافر، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، كطائفة أسقطوا التكليف، وزعموا أن العبد يصل إلى الله بلا متابعة الرسل .
و [ طائفة ] يظنون أن الخواص من الأولياء يستغنون عن متابعة محمد صلى الله عليه وسلم ،كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، وجهل هؤلاء أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول إلى كل أحد ظاهرًا وباطنًا، مع أن قضية الخضر لم تخالف شريعة موسى، بل وافقتها، ولكن الأسباب المبيحة للفعل لم يكن موسى علمها، فلما علمها تبين أن الأفعال توافق شريعته لا تخالفها .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=238 - TOP#TOPوسئل عن الذين يعملون النار والإشارات، مثل النبل والزعفران، وغير ذلك ؟
فأجاب :(186/494)
أما هؤلاء الذين يظهرون [ الإشارات ] كالنبل والزعفران والمسك، والنار، والجبة، فليسوا من أولياء الله الصالحين؛ بل هم من أحزاب الشياطين، وأحوالهم شيطانية ليست من كرامات الصالحين، وهم يفسدون العقول، والأديان، والأعراض، والنساء، والصبيان . ولا يحسن الظن بهم إلا جاهل عظيم الجهالة، أو عدو لله ورسوله، فإنهم من جنس التتر المحاربين لله ورسوله . والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=238 - TOP#TOPسئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته، وإن في بلده شيخًا أعطاه إجازة، وبقى يأكل الثعابين والعقارب، ونزل عن فلاحته، ويطلب رزقه . فهل تجوز الصدقة عليه أم لا ؟
فأجاب :
الحمد لله، أكل الخبائث، وأكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين . فمن أكلها مستحلا لذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . ومن اعتقد التحريم وأكلها فإنه فاسق عاص لله ورسوله، فكيف يكون رجلا صالحًا ؟ ! ولو ذكى الحية لكان أكلها بعد ذلك حرامًا عند جماهير العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية، والعقرب، والحدأة، والفأر، والكلب العقور ) .
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ذلك في الحل والحرم، وسماهن فواسق؛ لأنهن يفسقن : أي يخرجن على الناس، ويعتدين عليهم، فلا يمكن الاحتراز منهن،كما لايحترز من السباع العادية، فيكون /عدوان هذا أعظم من عدوان كل ذي ناب من السباع،وهن أخبث وأحرم .
وأما الذين يأكلون ويجعلون ذلك من باب ؟ [ كرامات الأولياء ] فهم أشر حالا ممن يأكلها من الفساق؛ لأن كرامات الأولياء لا تكون بما نهي الله عنه ورسوله، من أكل الخبائث، كما لا تكون بترك الواجبات، وإنما هذه المخاريق التي يفعلها هؤلاء المبتدعون : من الدخول في النار،وأخذ الحيات، وإخراج اللاذن ، والسكر، والدم، وماء الورد . هي نوعان :(186/495)
أحدهما : أن يفعلوا ذلك بحيل طبيعية . مثل أدهان معروفة،يذهبون ويمشون في النار، ومثل ما يشربه أحدهم مما يمنع سم الحية : مثل أن يمسكها بعنقصتها حتى لا تضره، ومثل أن يمسك الحية المائية، ومثل أن يسلخ جلد الحية ويحشوه طعامًا، وكم قتلت الحيات من أتباع هؤلاء ؟ ! ومثل أن يمسح جلده بدم أخوين؛ فإذا عرق في السماع ظهر منه ما يشبه الدم، ويصنع لهم أنواعًا من الحيل والمخادعات .
النوع الثاني : وهم أعظم، عندهم أحوال شيطانية تعتريهم عند السماع الشيطاني، فتنزل الشياطين عليهم، كما تدخل في بدن المصروع ويزبد أحدهم كما يزبد المصروع، وحينئذ يباشر النار، والحيات / والعقارب، ويكون الشيطان هو الذي يفعل ذلك، كما يفعل ذلك من تقترن بهم الشياطين من إخوانهم، الذين هم شر الخلق عند الناس، من الطائفة التي تطلبهم الناس لعلاج المصروع، وهم من شر الخلق عند الناس، فإذا طلبوا تحلوا بحلية المقاتلة، ويدخل فيهم الجن، فيحارب مثل الجن الداخل في المصروع، ويسمع الناس أصواتًا، ويرون حجارة يرمى بها، ولا يرون من يفعل ذلك، ويرى الإنسي واقفًا على رأس الرمح الطويل، وإنما الواقف هو الشيطان، ويرى الناس نارًا تحمي، ويضع فيها الفؤوس والمساحي، ثم إن الإنسي يلحسها بلسانه، وإنما يفعل ذلك الشيطان الذي دخل فيه، ويرى الناس هؤلاء يباشرون الحيات والأفاعي وغير ذلك، ويفعلون من الأمور ما هو أبلغ مما يفعله هؤلاء المبتدعون الضالون المكذبون الملبسون، الذين يدعون أنهم أولياء الله، وإنما هم من أعاديه، المضيعين لفرائضه، المتعدين لحدوده .(186/496)
والجهال لأجل هذه الأحوال الشيطانية، والطبيعية، يظنوهم أولياء الله، وإنما هذه الأحوال من جنس أحوال أعداء الله الكافرين، والفاسقين، ولا يجوز أن يعان من هؤلاء على ترك المأمور، ولا فعل المحظور، ولا إقامة مشيخة تخالف الكتاب والسنة، ولا أن يعطى رزقه على مشيخة يخرج بها من طاعة الله ورسوله، وإنما يعان بالأرزاق من قام بطاعة الله ورسوله، ودعا إلى طاعة الله ورسوله، والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=238 - TOP#TOPوسئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل، ويصلي في بيته، ولا يشهد الجماعة، وإذا خرج إلى الجمعة يخرج مغطى الوجه، ثم إنه يخترع العياط من غير سبب، وتجتمع عنده الرجال والنساء، فهل يسلم له حاله ؟ أو يجب الإنكار عليه ؟
فأجاب :
هذه الطريقة طريقة بدعية، مخالفة للكتاب والسنة، ولما أجمع عليه المسلمون . والله تعالى إنما يعبد بما شرع، لا يعبد بالبدع، قال الله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، فإن التعبد بترك الجمعة والجماعة، بحيث يرى أن تركهما أفضل من شهودهما مطلقًا كفر، يجب أن يستتاب صاحبه منه، فإن تاب وإلا قتل . فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام ألا يعبد بترك الجمعة والجماعة، بل يعبد بفعل الجمعة والجماعة، ومن جعل الانقطاع من ذلك دينًا لم يكن على دين المسلمين، بل يكون من جنس الرهبان الذين يتخلون بالصوامع والديارات، والواحد من هؤلاء قد يحصل له بسبب الرياضة، أو الشياطين ـ بتقريبه إليهم، أو غير ذلك ـ نوع كشف، وذلك لا يفيده؛ بل هو كافر بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .(186/497)
والله تعالى أمر الخلق أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا، / ويعبدوه بما شرع، وأمر أن لا يعبدوه بغير ذلك . قال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] .
فالسالك طريق الزهادة والعبادة إذا كان متبعًا للشريعة في الظاهر، وقصد الرياء والسمعة، وتعظيم الناس له كان عمله باطلا لا يقبله الله . كما ثبت في الصحيح أن الله يقول : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه برىء، وهو كله للذي أشرك ) . وفي الصحيح عنه أنه قال : ( من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به ) .
وإن كان خالصًا في نيته لكنه يتعبد بغير العبادات المشروعة : مثل الذي يصمت دائمًا، أو يقوم في الشمس، أوعلى السطح دائمًا، أو يتعرى من الثياب دائمًا، ويلازم لبس الصوف، أو لبس الليف، ونحوه أو يغطى وجهه، أو يمتنع من أكل الخبز، أو اللحم، أو شرب الماء، ونحو ذلك ـ كانت هذه العبادات باطلة، ومردودة . كما ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) . وفي رواية : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال : ( ما هذا ؟ ) قالوا : هذا أبو إسرائيل، نذر الصمت، والقيام والبروز / للشمس مع الصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم وحده؛ لأنه عبادة يحبها الله تعالى ،وما عداه ليس بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته : ( إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها،وكل بدعة ضلالة ) .(186/498)
وثبت عنه في الصحيح : أن قومًا من أصحابه قال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر : أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بال رجال يقول أحدهم : كيت وكيت ! لكني أصوم وأفطر، وأنام، وأتزوج النساء،وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ، فإذا كان هذا فيما هو جنسه عبادة، فإن الصوم والصلاة جنسها عبادة، وترك اللحم والتزويج جائز، لكن لما خرج في ذلك من السنة فالتزم القدر الزائد على المشروع، والتزم هذا ترك المباح، كما يفعل الرهبان، تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن فعل ذلك، حيث رغب عن سنته إلى خلافها، وقال : ( لا رهبانية في الإسلام ) فكيف بمن يرغب عما هو من أعظم شعائر الإسلام، وهو الصلاة في الجمعة، والجماعات ؟ !
وقد روى عن ابن عباس أنهم سألوه غير مرة عمن يصوم / النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعة، ولا جماعة . فقال : هو في النار . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين ) وقال : ( من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع الله على قلبه ) . وفي الصحيح والسنن : إن أعمى قال : يا رسول الله، إن لي قائدًا لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ قال : ( هل تسمع النداء ؟ ) قال : نعم، قال : ( فأجب ) . وفي رواية قال : ( لا أجد لك رخصة ) .
و [ الجمعة ] فريضة باتفاق الأئمة .
و [ الجماعة ] واجبة أيضًا، عند كثير من العلماء، بل عند أكثر السلف، وهل هي شرط في صحة الصلاة على قولين :
أقواهما كما في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من سمع النداء فلم يجب من غير عذر فلا صلاة له ) .
وعند طائفة من العلماء : أنها واجبة على الكفاية .(186/499)
و [ أحد الأقوال ] أنها سنة مؤكدة، ولا نزاع بين العلماء أن صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده خمسًا وعشرين ضعفًا .
/كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولا نزاع بينهم أن من جعل صلاته وحده أفضل من صلاته في جماعة فإنه ضال مبتدع، مخالف لدين المسلمين .
وهذه البدع يذم أصحابها، ويعرف أن الله لا يتقبلها، وإن كان قصدهم بها العبادة، كما أنه لا يقبل عبادة الرهبان، ونحوهم ممن يجتهدون في الزهد والعبادة لأنهم لم يعبدوه بما شرع، بل ببدعة ابتدعوها، كما قال : { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } [ الحديد : 27 ] ، فإن المتعبد بهذه البدع قصده أن يعظم ويزار، وهذا عمله ليس خالصًا لله، ولا صوابًا على السنة، بل هو كما يقال : زغل، وناقص، بمنزلة لحم خنزير ميت، حرام من وجهين .
والواجب على كل مسلم التزام عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة رسوله، والأمر بذلك لكل أحد، والنهي عن ضد ذلك لكل أحد، والإنكار على من يخرج عن ذلك، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء وليس تحت أديم السماء أحد يقر على خلاف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن كان مقرًا بالإسلام ألزمه بطاعة الرسول، واتباع سنته الواجبة، وشريعته الهادية، وإن كان غير مقر بالإسلام كان كافرًا، ولو كان له من الزهد والرهبان ماذا عسى أن يكون .
/والكافر إن كان من أهل الذمة فله حكم أمثاله، وإن كان من أهل الحرب فله حكم أمثاله، ويجب الإنكار على هذا المبتدع وأمثاله بحسن قصد، بحيث يكون المقصود طاعة الله ورسوله، لا اتباع هوى، ولا منافسة ولا غير ذلك . قال الله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [ الأنفال : 39 ] .(186/500)
فالمقصود أن يكون الدين كله لله، ولا دين إلا ماشرعه الله تعالى على ألسن رسله، وفي الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : يارسول الله، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء . فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله ) فيكون المقصود علو كلمة الله، وظهور دين الله . وأن يعلم المسلمون كلهم إن ما عليه المبتدعون المراؤون ليس من الدين، ولا من فعل عباد الله الصالحين، بل من فعل أهل الجهل والضلال والإشراك بالله تعالى، الذين يخرجون عن توحيده، وإخلاص الدين له، وعن طاعة رسله .
و [ أصل الإسلام ] : أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله . فمن طلب بعباداته الرياء والسمعة، فلم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله، / ومن خرج عما أمره به الرسول من الشريعة وتعبد بالبدعة فلم يحقق شهادة أن محمدًا رسول الله .
وإنما يحقق هذين [ الأصلين ] من لم يعبد إلا الله، ولم يخرج عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بلغها عن الله،فإنه قال : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) ، وقال : ( ما تركت من شىء يقربكم إلى الجنة إلا قد حدثتكم به،ولا من شىء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به ) . وقال ابن مسعود : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّا،وخط خطوطًا عن يمينه،وشماله ثم قال : ( هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .(187/1)
فالعبادات والزهادات والمقالات والتورعات الخارجة عن سبيل الله ـ وهو الصراط المستقيم : الذي أمرنا الله أن نسأله هدايته، هو ما دل عليه السنة ـ هي سبل الشيطان، ولو كان لأحدهم من الخوارق ما كان، فليس أحدهم بأعظم من مقدمهم الدجال الذي يقول للسماء : أمطري فتمطر، وللأرضا انبتي فتنبت ،وللخربة أظهري كنوزك فتخرج معه كنوز الذهب والفضة . وهو مع هذا عدو الله، كافر بالله، وأولياء الله هم المذكورون في قوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] فهم المؤمنون المتقون، والتقوى فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، فمن ترك ما أمر الله، واتخذ عبادة نهى الله عنها، كيف يكون من هؤلاء ؟
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تعالى : من عادى لي وليًا ) الحديث . فبين سبحانه أنه ما تقرب العبد إلى الله بمثل أداء ما افترض عليه .
والتقرب بالواجبات فقط طريق المقتصدين أصحاب اليمين، ثم التقرب بعد ذلك بما أحبه الله من النوافل هو طريق السابقين المقربين، والمحبوبات هي ما أمر الله به ورسوله : أمر إيجاب، أو أمر استحباب، دون ما استحبه الرجل برأيه وهواه، والله سبحانه وتعالى أعلم .(187/2)
وسئل شيخ الإسلام علامة الزمان، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني ـ رضي الله عنه ـ عن [ جماعة ] يجتمعون على قصد الكبائر : من القتل، وقطع الطريق، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك . ثم إن شيخًا من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات . فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح، مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا ؟
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين .
أصل جواب هذه المسألة وما أشبهه : أن يعلم أن الله بعث محمدًا / صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا . وأنه أكمل له ولأمته الدين . كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [ المائدة : 3 ] . وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه، والشقاوة لمن عصاه، فقال تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [ الجن : 23 ] .(187/3)
وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [ النساء : 59 ] ، وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] . وقال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } [ الشورى : 52، 53 ] .
وأخبر أنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث . كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 156، 157 ] .(187/4)
وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بكل معروف ونهى عن كل منكر . وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال : ( ما بعث الله نبيا إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ) ، وثبت عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون . قال : فقلنا : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور . فإن كل بدعة ضلالة ) . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما تركت من شىء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به ) . وقال : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) .
/وشواهد هذا [ الأصل العظيم الجامع ] من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب . [ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ] كما ترجم عليه البخارى والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين . وكان السلف ـ كمالك وغيره ـ يقولون : السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقال الزهري : كان من مضى من علمائنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة .
إذا عرف هذا فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك، لكان دين الرسول ناقصًا، محتاجًا تتمة . وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها .(187/5)
والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإن الشارع حكيم . فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] ، وقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] ، ولهذا حرمها الله تعالى بعد ذلك .
وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله، فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، و إلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين .
إذا تبين هذا فنقول للسائل : إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعون على الكبائر . فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية .(187/6)
فلا يجوز أن يقال : إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛ / بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ـ وهم خير أولياء الله المتقين، من هذه الأمة ـ تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية . وأمصار المسلمين وقراهم قديمًا وحديثًا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية .
فلا يمكن أن يقال : إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال : إن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية، عاجزًا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة، وما يخاطب به الناس، ويسمعهم إياه، مما يتوب الله عليهم، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية، إما مع حسن القصد، إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم، وأخذ أموالهم بالباطل، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } [ التوبة : 34 ] ، فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد . وإلا فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين، والعارفين، والمؤمنين . قال تعالى في النبيين : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] .(187/7)
/وقال تعالى في أهل المعرفة : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] . وقال تعالى في حق أهل العلم : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 107 : 109 ] .
وقال في المؤمنين : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2-4 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] .(187/8)
وبهذا السماع هدى الله العباد، وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد، وبه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبه أمر المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وعليه كان يجتمع السلف، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته . وقال : ( لقد أوتي هذا مزمارًا / من مزامير آل داود ) . وقال : ( مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك ) ، فقال : لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرًا . أي : لحسنته لك تحسينًا .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود : ( اقرأ علي القرآن ) ، فقال : أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل ؟ ! فقال : ( إني أحب أن أسمعه من غيري ) . قال : فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } [ النساء : 41 ] ، قال لي : ( حسبك ) ، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء . وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال : ( خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) .(187/9)
ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا . لا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بالشام، ولا بمصر، والعراق، وخراسان، والمغرب . وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك، وقد مدح الله أهل هذا السماع، المقبلين عليه، وذم المعرضين عنه، وأخبر أنه سبب الرحمة، فقال تعالى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [ الفرقان : 73 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } [ الحديد : 16 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، وقال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 : 51 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ الكهف : 57 ] ، وقال تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 123 : 126 ] ، ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس باتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، ويأمرهم بسماع ذلك .(187/10)
وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين في المغرب، والعشاء، والفجر . قال تعالى : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [ الإسراء : 78 ] ، وبهذا مدح عبد الله بن رواحة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :
وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع .
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذ استثقلت بالكافرين المضاجع .
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات إنما قال واقع .
وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله، من وجل القلوب، ودمع العيون، واقشعرار الجلود، وإنما حدث سماع الأبيات بعد هذه القرون، فأنكره الأئمة، حتى قال : الشافعي ـ رحمه الله ـ خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يزعمون أنه يرقق القلوب، يصدون به الناس عن القرآن، وسئل الإمام أحمد عنه فقال : محدث، فقيل له : أنجلس معهم فيه ؟ فقال : لا يجلس معهم .(187/11)
والتغبير هو الضرب بالقضيب على جلودهم، من أمثل أنواع السماع . وقد كرهه الأئمة فكيف بغيره، والأئمة المشائخ الكبار لم يحضروا هذا السماع المحدث، مثل الفضيل ابن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي [ هو سريّ بن مغلس السقطي، أبو الحسن، من كبار المتصوفة، بغدادي المولد والوفاة، قال الجنيد : ما رأيت أعبد من السري السقطي، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعًا إلا في علة الموت، من كلامه : من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز . توفى سنة867م . [ الوفيات 2/357، والأعلام3/82 ] ، وأمثالهم . ولا أكابر الشيوخ المتأخرين : مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي القاسم الحوفي، والشيخ علي ابن وهب، والشيخ حياة [ هو حياة بن الوليد اليحصبي، أحد الأشراف الشجعان . كان في أيام استيلاء عبد الرحمن الأموي على الأندلس، وامتنع مع أمير طليطلة، فوجه إليهما عبد الرحمن جيشًا فأسر حياة، وصلب بقرطبة، مات سنة 764م . [ الأعلام : 2/289 ] ، وأمثالهم . وطائفة من الشيوخ حضروه ثم رجعوا عنه . وسئل الجنيد عنه فقال : من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به . فبين /الجنيد أن قاصد هذا السماع صار مفتوتًا، وأما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس .
فإن النهي إنما يتوجه إلى الاستماع، دون السماع، ولهذا لو مر الرجل بقوم يتكلمون بكلام محرم لم يجب عليه سد أذنيه، لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بسد أذنيه لما سمع زمارة الراعي، لأنه لم يكن مستمعًا بل سامعًا .
وقول السائل وغيره : هل هو حلال ؟ أو حرام ؟ لفظ مجمل به تلبيس، يشتبه الحكم فيه، حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه، وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين :(187/12)
أحدهما : أنه هل هو محرم ؟ أو غير محرم ؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس، وغيرها . مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو، لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله .
والنوع الثاني : أن يفعل على وجه الديانة، والعبادة، وصلاح القلوب ، وتجريد حب العباد لربهم، وتزكية نفوسهم، وتطهير قلوبهم / وأن تحرك من القلوب الخشية، والإنابة، والحب، ورقة القلوب، وغير ذلك مما هو من جنس العبادات، والطاعات، لا من جنس اللعب والملهيات .
فيجب الفرق بين سماع المتقربين، وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس، والأفراح، ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب، والتقرب إلى رب السموات، فإن هذا يسأل عنه : هل هو قربة وطاعة ؟ وهل هو طريق إلى الله ؟ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم، وتحريك وجدهم لمحبوبهم، وتزكية نفوسهم، وإزالة القسوة عن قلوبهم، ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع ؟ كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة، لا على وجه اللهو واللعب .
إذا عرف هذا فحقيقة السؤال : هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي : إما محرمة، أو مكروهة، أو مباحة، قربة وعبادة وطاعة، وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله، ويتوب العاصين، ويرشد به الغاوين، ويهدي به الضالين ؟
ومن المعلوم أن الدين له [ أصلان ] فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله . والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا مالم يحرمه الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله .
/ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين : هل يباح له ذلك ؟ قال : نعم، فإذا قيل : إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة، قال : إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب وإلا قتل .(187/13)
ولو سئل عن كشف الرأس، ولبس الإزار، والرداء : أفتى بأن هذا جائز، فإذا قيل : إنه يفعله على وجه الإحرام، كما يحرم الحاج . قال : إن هذا حرام منكر .
ولو سئل عمن يقوم في الشمس . قال : هذا جائز . فإذا قيل : إنه يفعله على وجه العبادة . قال : هذا منكر . كما روى البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائمًا في الشمس . فقال : ( من هذا ) ؟ قالوا : هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل وليتم صومه ) فهذا لو فعله لراحة، أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهى عنه .
وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت، لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية : / كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف، فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } [ البقرة : 189 ] ، فبين سبحانه أن هذا ليس ببر، وإن لم يكن حراما، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصيًا، مذمومًا، مبتدعًا، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب .(187/14)
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين : إن اتخاذ هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال، مفتر، مخالف لإجماع المسلمين . ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلمًا في الدين بلا علم .
فالسؤال عن مثل هذا أن يقال : هل مايفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا ؟ وهل يثابون على ذلك أم لا ؟ وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله، ففعلوه على أنه قربة / وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى . هل يحل لهم هذا الاعتقاد ؟ وهذا العمل على هذا الوجه ؟
وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول : إن هذا من القرب والطاعات، وأنه من أنواع العبادات، وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعو به هؤلاء إليه، ولا أنه مما أمر الله تعالى به عباده : لا أمر إيجاب، ولا أمر استحباب، وما لم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محمودًا، ولا حسنة، و لا طاعة، ولا عبادة، باتفاق المسلمين .(187/15)
فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب . لا سيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقًا يقدمونه على سماع القرآن وجدًا وذوقًا . وربما قدموه عليه اعتقادًا، فتجدهم يسمعون القرآن بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وحركات مضطربة . وأصوات لا تقبل عليه قلوبهم، ولا ترتاح إليه نفوسهم، فإذا سمعوا [ المكاء ] و [ التصدية ] أصغت القلوب، واتصل المحبوب بالمحب، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، فلا سعلة، ولا عطاس، ولا لغط، ولا صياح، وإن قرؤوا شيئًا من القرآن، أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة، كما لا يسمع الإنسان ما لا حاجة له به، / ولا فائدة له فيه، حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك، وأقبلوا عليه، وعكفت أرواحهم عليه .
فهؤلاء جند الشيطان، وأعداء الرحمن، وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين، وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين، فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى، ويبغض ما أبغض الله تعالى، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، وهؤلاء يحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه، ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان، وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله، وجند الشيطان .
فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائر به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم . وفيهم من يحضر طعامًا، وإدامًا، ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك . فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين، ومن يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل .(187/16)
وقد بسطنا الكلام على [ مسألة السماع ] وذكرنا كلام المشائخ فيه في غير هذا الموضع، وبالله التوفيق والله أعلم . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
/قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=239 - TOP#TOPفصل
قد كتبت فيما تقدم : الكلام في [ المكاشفات، والمشاهدات ] ، وأنها على [ ثلاثة أقسام ] في الظاهر، والباطن . وكذلك [ السماع، والمخاطبات، والمحادثات ] ثلاثة أقسام : في الباطن والظاهر .
فإن [ السامع ] إما أن يسمع نفس الصوت الذي هو كلام المتكلم الصوتي، أو غير كلامه . كما ترى عينه، وإما أن يسمع صدى الصوت ورجعه كما يرى تمثاله في ماء، أو مرآة . فهذه رؤية مقيدة، وسماع مقيد، كما يقال : رأيته في المرآة ، لكن السمع يجمع بين الصورتين .
وإما أن يتمثل له : يعني كلامه في أصوات مسموعة، كما يتمثل له في صورة فيراها . مثل أن ينقر بيده نقرات، أو يضرب بيده أوتارًا، أو يظهر أصواتًا منفصلة عنه، يبين فيها مقصوده .
/وكذلك في الباطن : إما أن يسمع في المنام، أو في اليقظة نفس كلام المتكلم، مثل الملائكة مثلًا، كما يرى بقلبه عين ما يكشف له في المنام، واليقظة . وإما أن يسمع مثال كلامه في نفسه، كما يرى مثاله في نفسه بمنزلة الرؤيا التي يكون تعبيرها عين ما رؤى، وإما أن تتمثل له المعاني في صورة كلام مسموع يحتاج إلى تعبير . كما تتمثل له الأعيان في صورة أشخاص مرئية تحتاج إلى تعبير . وهذا غالب ما يرى، ويسمع في المنام، فإنه يحتاج إلى تأويل، وهو بمنزلة الاستعارة، والأمثال المضروبة، فهذا هذا . والله أعلم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=239 - TOP#TOPفصل
في الكون يقظة ومنامًا : لما كانت الرؤية بالعين للأشياء على وجهين :(187/17)
أحدهما : رؤية العين الشيء بلا واسطة، وهي الرؤية المطلقة . مثل رؤية الشمس، والقمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر ) ، وقد تنازع الناس هل الرؤية انطباع المرئي في العين، أو لانعكاس شعاع البصر، أو لا لواحد منهما . على أقوال معروفة .
/ والثاني : رؤية المثال : وهي الرؤية في ماء، ومرآة، ونحوهما . وهي رؤية مقيدة، ولهذا قال الفقهاء لو حلف : لا رأيت زيدًا، فرأى صورته في ماء، أو مرآة، لم يحنث، لأن ذلك ليس هو المفهوم من مطلق الرؤية، وهذا في الرؤية . كسماع الصدى في السمع، فإذا أراد الإنسان أن يرى ما يمر وراءه من الناس والدواب نظر في المرآة التي تواجهه، فتنجلي له فيها حقائق ما وراءه، فمن هذه الرؤيا قد يرى بيان الحقيقة، وقد تتمثل له الحقيقة بمثال يحتاج إلى تحقيق . كما تمثل جبريل في صورة البشر، وهكذا القلب من شأنه أن يبصر، فإن بصره هو البصر، وعماه هو العمى . كما قال تعالى : { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] .
فتارة يرى الشيء نفسه إذا كشف له عنه، وتارة يراه متمثلا في قلبه الذي هو مرآته، والقلب هو الرائى أيضًا، وهذا يكون يقظة، ويكون منامًا، كالرجل يرى الشيء في المنام، ثم يكون إياه في اليقظة من غير تغير .
وللقلب [ حال ثالثة ] كما للعين نظر في المنام : وهي التي تقع لغالب الخلق . أن يرى الرؤيا مثلا مضروبًا للحقيقة، لا يضبط رؤية الحقيقة بنفسها، ولا بواسطة مرآة قلبه . ولكن يرى ما له تعبير فيعتبر به، و [ عبارة الرؤيا ] هو العبور من الشىء إلى مثاله، ونظيره . وهو /حقيقة المقايسة والاعتبار، فإن إدراك الشىء بالقياس والاعتبار الذي ألفه الإنسان واعتاده أيسر من إدراك شىء على البديهة من غير مثال معروف .(187/18)
ثم المرئي في هذا الوجه، في هذه الحال، وفي الحال التي قبلها هو موجود في قلب الإنسان ونفسه، وإن كان مثلا للحقيقة وواسطة لها .
والمرئي في الوجه الأول : هو عين الموجود في الخارج لا مرئى في القلب، ومن العامة المتفلسفة من يزعم : أن ما يسمعه الأنبياء من الكلام، ويرونه من الملائكة، إنما وجوده في قلوبهم، وذلك مبلغ هؤلاء من العلم؛ لأن ذلك هو غاية ما وجدوه ورأوه من أبناء جنسهم، فظنوا أن ليس وراء ذلك غاية .
وقد يعارضهم من يتوهم أن ما يسمع ويرى لا يكون في نفس الإنسان، بل جميعه من الخارج، وكلاهما خطأ، بل منه ما يكون في نفس الإنسان : مثل ما يراه ويسمعه في المنام، إما مثالًا لا تعبير له، أو له تعبير .
ومنه ما يكون في الخارج : مثل رؤية مريم للرسول، إذ تمثل لها / بشرًا سويًا، ورؤية الصحابة لجبريل في صورة الأعرابي .
فقد ظهر أن رؤية الحقائق بالعين تطابق لرؤياها بالقلب، كل منهما [ ثلاثة أقسام ] إدراك الموجود في الخارج بعينه، وإدراكه بواسطة تمثله في مرآة باطنة أو ظاهرة، وإدراكه متمثلًا في غير صورته، إما باطنًا في القلب، وإما ظاهرًا في العين . والله سبحانه أعلم .
فالقياس في الحسيات، كالقياس في العقليات، وهذا الذي كتبته في المكاشفات يجىء مثله في المخاطبات، فإن البصر والسمع يظهران ما يتلوه .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=239 - TOP#TOPسئل شيخ الإسلام عمن يقول : إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب، وينشق السقف والحيطان، وتنزل الملائكة ترقص معهم، أو عليهم . وفيهم من يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر معهم . فماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد ؟ وما هي صفة رجال الغيب ؟ وهل يكون للتتار خفراء ولهم حال كحال خفراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أم لا ؟
فأجاب :(187/19)
وأما من زعم : أن الملائكة أو الأنبياء تحضر [ سماع المكاء والتصدية ] محبة ورغبة فيه فهوكاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين، وهي التي تنزل عليهم، وتنفخ فيهم . كما روي الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الشيطان قال : يا رب اجعل لي بيتًا . قال : بيتك الحمام . قال : اجعل لي قرآنًا . قال : قرآنك الشعر . قال : يا رب اجعل لي مؤذنًا . قال : مؤذنك المزمار ) ، وقد قال الله تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 64 ] ، وقد فسر ذلك طائفة من / السلف بصوت الغناء . وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله . وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت لهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود، أو شق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية ) كقولهم : وا لهفاه ! وا كبداه ! وا نصيراه ! .
وقد كوشف جماعات من أهل المكاشفات بحضور الشياطين في مجامع السماعات الجاهلية : ذات المكاء، والتصدية، وكيف يكر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني، حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين، ورأى بعض المشائخ المكاشفين أن شيطانه قد احتمله حتى رقص به . فلما صرخ بشيطانه هرب، وسقط ذلك الرجل .
وهذه الأمور لها أسرار، وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية، والمشاهد الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن سبيل المبتدعة، فقد حصل له الهدى، وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي، فإنه يصل إلى مقصوده، ويجد الزاد والماء في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه . ومن سلك خلف غير الدليل / الهادي، كان ضالا عن الطريق . فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق .(187/20)
و [ الدليل الهادي ] هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض .
وآثار الشيطان تظهر في أهل السماع الجاهلي : مثل الإزباد، والإرغاء، والصراخات المنكرة، ونحو ذلك مما يضارع أهل الصرع الذين يصرعهم الشيطان، ولذلك يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت : إما وجد في الهوى المذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية، التي تعترى أهل الاجتماع، على شرب الخمر إذا سكروا بها، فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة؛ فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن، وفهم معانيه، واتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله . ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية . كما يقتل العائن من أصابه بعينه .
ولهذا قال من قال من العلماء : إن هؤلاء يجب عليهم القود والدية / والقصاص، إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة، لأنهم ظالمون، وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من مراداتهم المحرمة، كما يغتبط الظلمة المسلطون .
ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين، والمبتدعين والظالمين، فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة، كما يكون للمشركين، وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ) .(187/21)
وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة، كما يكون لهم ملكة ظاهرة، فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر، ولا يكون من أولياء الله إلامن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون . وما فعلوه من الإعانة على الظلم فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب . وباب القدرة، والتمكن باطنًا وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى، بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان، وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون مسلطًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر، هؤلاء في العباد بمنزلة هؤلاء في الأجناد .
/وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين . كما كان يكون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } [ غافر : 51 ] .
وإذا كان في المسلمين ضَعْفٌ، وكان عدوهم مستظهرًا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرًا . قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا }
[ آل عمران : 155 ] ، وقال تعالى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 165 ] ، وقال تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [ الحج : 40، 41 ] .(187/22)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=239 - TOP#TOPوسئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار، لا يرين الجنة، ولا يشممن رائحتها . وقد روى في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال : لاإله إلا الله دخل الجنة ) .
فأجاب :
قد ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد : نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد الله ) ، ومن زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح بما فيه من الوعيد الشدي، فإنه جاهل ضال عن الشرع يستحق العقوبة التي تردعه، وأمثاله من الجهال الذين يعترضون على الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والأحاديث الصحيحة في [ الوعيد ] كثيرة، مثل قوله : ( من قتل / نفسًا معاهدة بغير حقها لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفًا ) ، ومثل قوله الذي في الصحيح : ( لا يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر ) ، قيل : يارسول الله، الرجل يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، أفمن الكبر ذاك ؟ فقال : ( لا، الكبر بطر الحق، وغمط الناس ) ، و ( بطر الحق ) جحده، و ( غمط الناس ) احتقارهم، وازدراؤهم . ومثل قوله في الحديث الصحيح : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم : شيخ زان، وملك كذاب، وفقير مختال ) .(187/23)
وفي القرآن من آيات الوعيد ما شاء الله، كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] ، وكما في قوله : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا } [ النساء : 29، 30 ] ، وقوله في الفرائض : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء : 13، 14 ] .
/وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين، أن [ الوعيد ] في الكتاب والسنة لأهل الكبائر موجود . ولكن الوعيد الموجود في الكتاب والسنة، قد بين الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يلحق التائب بقوله : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] أي لمن تاب . وقال في الآية الأخرى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] فهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفر، وما دون الشرك إن شاء الله غفره . وإن شاء عاقب عليه .(187/24)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما يصيب المؤمن من نَصَب ولا وَصَب، ولا هَمّ ولا غمّ، ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه ) ولهذا لما نزل قوله : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] قال أبو بكر : يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا ؟ فقال : ( يا أبا بكر، ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأوى ؟ فذلك مما تجزون به ) فالمصائب في الدنيا يكفر الله بها من خطايا المؤمن ما به يكفر، وكذلك الحسنات التي يفعلها . قال الله تعالى : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) ، فالله تعالى لا يظلم/عبده شيئًا . كما قال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7، 8 ] .
فالوعيد : ينتفي عنه : إما بتوبة، وإما بحسنات يفعلها تكافئ سيئاته، وإما بمصائب يكفر الله بها خطاياه، وإما بغير ذلك، وكما أن أحاديث الوعيد تُقٍدَّمُ وكذلك أحاديث الوعد . فقد يقول : لا إله إلا الله . ويجحد وجوب الصلاة، والزكاة، فهذا كافر يجب قتله، وقد يكون من أهل الكبائر المستوجبين للنار .
وهذه ـ مسألة الوعد والوعيد ـ من أكبر مسائل العلم . وقد بسطناها في مواضع، ولكن كتبنا هنا ما تسع الورقة .(187/25)
وسئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن، والحديث . هل لها حد تعرف به ؟ وهل قول من قال : إنها سبع، أو سبعة عشر، صحيح ؟ أو قول من قال : إنها ما اتفقت فيها الشرائع ـ أعني على تحريمها ؟ ـ أو أنها ما تسد باب المعرفة بالله ؟ أو أنها ما تذهب الأموال والأبدان ؟ أو أنها إنما سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها ؟ أو أنها لا تعلم أصلا . وأبهمت كليلة القدر ؟ أو ما يحكي بعضهم أنها إلى التسعين أقرب، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، أو أنها ما رتب عليها حد . أو ما توعد عليها بالنار ؟ .
فأجاب :
الحمد لله رب العالمين، أمثل الأقوال في هذه المسألة القول المأثور عن ابن عباس، وذكره أبو عبيد، وأحمد بن حنبل، وغيرهما وهو : أن الصغيرة ما دون الحدين : حد الدنيا، وحد الآخرة . وهو معنى قول من قال : ما ليس فيها حد في الدنيا . وهو معنى قول القائل : كل ذنب ختم بلعنة، أو غضب، أو نار، فهو من الكبائر .
ومعنى قول القائل : وليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في /الآخرة، أي [ وعيد خاص ] كالوعيد بالنار، والغضب، واللعنة، وذلك لأن الوعيد الخاص في الآخرة، كالعقوبة الخاصة في الدنيا، فكما أنه يفرق في العقوبات المشروعة للناس بين العقوبات المقدرة بالقطع، والقتل، وجلد مائة، أو ثمانين،وبين العقوبات التي ليست بمقدرة : وهي [ التعزير ] فكذلك يفرق في العقوبات التي يعزر الله بها العباد ـ في غير أمر العباد بها ـ بين العقوبات المقدرة : كالغضب، واللعنة، والنار، وبين العقوبات المطلقة .(187/26)
وهذا [ الضابط ] يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل كل ما ثبت في النص أنه كبيرة : كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة مشروعة، وكالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور؛ فإن هذه الذنوب وأمثالها فيها وعيد خاص، كما قال في الفرار من الزحف : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الأنفال : 16 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ] ، وقال : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [ محمد : 22، 23 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 77 ] .(187/27)
وكذلك كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، ولا يشم رائحة الجنة، وقيل فيه : من فعله فليس منا، وأن صاحبه آثم، فهذه كلها من الكبائر . كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة قاطع ) وقوله : ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) وقوله : ( من غشنا فليس منا ) ، وقوله : ( من حمل علينا السلاح فليس منا ) ، وقوله : ( لا يزني الزاني حين يزنى، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ) .
وذلك لأن نفي الإيمان، وكونه ليس من المؤمنين، ليس المراد به ما يقوله المرجئة : أنه ليس من خيارنا، فإنه لو ترك ذلك لم يلزم أن يكون من خيارهم، وليس المراد به ما يقوله الخوارج : إنه صار كافرًا . ولا ما يقوله المعتزلة : من أنه لم يبق معه من الإيمان شىء، بل هو / مستحق للخلود في النار لا يخرج منها، فهذه كلها أقوال باطلة، قد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع .
ولكن المؤمن المطلق في باب الوعد والوعيد،وهو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، هو المؤدي للفرائض،المجتنب المحارم،وهؤلاء هم المؤمنون عند الإطلاق،فمن فعل هذه الكبائر لم يكن من هؤلاء المؤمنين،إذ هو متعرض للعقوبة على تلك الكبيرة . وهذا معنى قول من قال : أراد به نفي حقيقة الإيمان،أو نفي كمال الإيمان،فإنهم لم يريدوا نفي الكمال المستحب،فإن ترك الكمال المستحب لا يوجب الذم والوعيد، والفقهاء يقولون : الغسل ينقسم إلى : كامل،ومجزئ . ثم من عدل عن الغسل الكامل إلى المجزئ لم يكن مذمومًا .(187/28)
فمن أراد بقوله : [ نفي كمال الإيمان ] أنه نفي الكمال المستحب، فقد غلط، وهو يشبه قول المرجئة، ولكن يقتضي نفي الكمال الواجب . وهذا مطرد في سائر ما نفاه الله ورسوله؛ مثل قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2ـ4 ] ومثل الحديث المأثور : ( لاإيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ) ، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة إلا بأم /القرآن ) وأمثال ذلك، فإنه لاينفي مسمى الاسم إلا لانتفاء بعض ما يجب في ذلك، لا لانتفاء بعض مستحباته، فيفيد هذا الكلام أن من فعل ذلك فقد ترك الواجب الذي لا يتم الإيمان الواجب إلا به، وإن كان معه بعض الإيمان . فإن الإيمان يتبعض ويتفاضل . كما قال صلى الله عليه وسلم : ( يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) .
والمقصود هنا أن نفي الإيمان والجنة، أو كونه من المؤمنين، لا يكون إلا عن كبيرة . أما الصغائر فلا تنفي هذا الاسم والحكم عن صاحبها بمجردها، فيعرف أن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة .
وإنما قلنا : إن هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط المذكورة لوجوه :
أحدها : أنه المأثور عن السلف . بخلاف تلك الضوابط، فإنها لا تعرف عن أحد من الصحابة والتابعين والأئمة، وإنما قالها بعض من تكلم في شىء من الكلام، أو التصوف بغير دليل شرعي، وأما من قال من السلف : إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، فهذا لا يخالف ما ذكرناه . وسنتكلم عليها إن شاء الله واحدًا واحدًا .(187/29)
/الثاني : أن الله قال : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا } [ النساء : 31 ] ، فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات، واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته، أو نار أو حرمان جنة، أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد، فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر؛ إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه .
الثالث : أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب، فهو حد يتلقى من خطاب الشارع، وماسوى ذلك ليس متلقى من كلام الله ورسوله، بل هو قول رأي القائل وذوقه من غير دليل شرعي، والرأي والذوق بدون دليل شرعي لا يجوز .
الرابع : أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأما تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر، لأن تلك الصفات لادليل عليها ،لأن الفرق بين ما اتفقت فيه الشرائع واختلفت لا يعلم إن لم يمكن وجود عالم بتلك الشرائع على وجهها،وهذا غير معلوم لنا .
/وكذلك [ ما يسد باب المعرفة ] هو من الأمور النسبية والإضافية، فقد يسد باب المعرفة عن زيد ما لا يسد عن عمرو، وليس لذلك حد محدود .
الخامس : أن تلك الأقوال فاسدة . فقول من قال : إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه، دون ما اختلفت فيه، يوجب أن تكون الحبة من مال اليتيم، ومن السرقة، والخيانة، والكذبة الواحدة، وبعض الإساءات الخفية، ونحو ذلك كبيرة . وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر، إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة، وكذلك يقتضي أن يكون التزوج بالمحرمات بالرضاعة والصهر وغيرهما ليس من الكبائر، لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع، وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث، ووطؤها بعد ذلك . مع اعتقاد التحريم .(187/30)
وكذلك من قال : إنها ما تسد باب المعرفة، أو ذهاب النفوس والأموال، يوجب أن يكون القليل من الغضب والخيانة كبيرة، وأن يكون عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وشرب الخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك ليس من الكبائر .
ومن قال : إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، وأن ما عصى الله / به فهو كبيرة، فإنه يوجب ألا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر، وهذا خلاف القرآن . فإن الله قال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } [ النجم : 32 ] ، وقال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } [ الشورى : 37 ] ، وقال : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] ، وقال : { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] ، وقال : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } [ القمر : 53 ] والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر .
ومن قال : هي سبعة عشر، فهو قول بلا دليل .
ومن قال : إنها مبهمة، أو غير معلومة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها .
ومن قال : إنه ما توعد عليه بالنار، قد يقال : إن فيه تقصيرًا إذ الوعيد قد يكون بالنار، وقد يكون بغيرها، وقد يقال : إن كل وعيد فلابد أن يستلزم الوعيد بالنار .
وأما من قال : إنها كل ذنب فيه وعيد، فهذا يندرج فيما ذكره السلف ؛فإن كل ذنب فيه حد في الدنيا ففيه وعيد من غير عكس، فإن الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقذف المحصنات، ونحو ذلك فيها وعيد . كمن قال : إن الكبيرة ما فيها وعيد، والله أعلم .(187/31)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=240 - TOP#TOPسئل ـ رضي الله عنه ـ عن شرب الخمر وفعل الفاحشة، أيهما أعظم إثمًا عند الله ؟ أم هما مستويان ؟ وما هي الكبائر التي قال عز وجل فيها : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا } [ النساء : 31 ] ، فما هي هذه الكبائر، وما هي السيئات ؟
فأجاب ـ رضي الله عنه :
الحمد لله، الكبائر : هي ما فيها حد في الدنيا، أو في الآخرة : كالزنا، والسرقة، والقذف، التي فيها حدود في الدنيا، وكالذنوب التي فيها حدود في الآخرة، وهو الوعيد الخاص، مثل الذنب الذي فيه غضب الله، ولعنته، أو جهنم، ومنع الجنة، كالسحر، واليمين الغموس، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور،وشرب الخمر، ونحو ذلك . هكذا روى عن ابن عباس، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من العلماء، قال تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا } ، وقال تعالى : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ } [ النجم : 32 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } [ الشورى 37 ] ، وقال تعالى : { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] ، وقال تعالى : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } [ القمر : 53 ] .
و أكبر الكبائر : الإشراك بالله، ثم قتل النفس، ثم الزنا، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُون } الآية [ الفرقان : 68 ] .(187/32)
والزنا أعظم من شرب الخمر، إذا استويا في القدر، مثل من يزني مرة، ويشرب الخمر مرة، فأما إذا قدر أن رجلا زنا مرة، وآخر مدمن على شرب الخمر، فهذا قد يكون أعظم من ذاك . كما أنه لو زنا مرة وتاب كان خيرًا من المصر على شرب الخمر، وكذلك شارب الخمر إذا دعا غيره فيكون عليه إثم شربه وعليه قسط من إثم الذين دعاهم إلى الشرب، وكذلك إذا اقترن بالشرب سماع المزامير، والشرب على بعض الصور المحرمة، ونحو ذلك فهذا مما يتغلظ فيه الشرب .
والذنب يتغلظ بتكراره، و بالإصرار عليه، وبما يقترن به من سيئات أخر، وكذلك لو قدرنا أن الزاني زنا وهو خائف من الله، وجل من عذابه، والشارب يشرب لاهيًا غافلا لا يراقب الله، كان ذنبه أعظم من هذا الوجه، فقد يقترن بالذنوب ما يخففها، وقد يقترن بها / ما يغلظها . كما أن الحسنات قد يقترن بها ما يعظمها، وقد يقترن بها ما يصغرها، فكما أن الحسنات أجناس متفاضلة، وقد يكون المفضول في كثير من المواضع أفضل مما جنسه فاضل . فكذلك السيئات .
فالصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء؛ مع أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر وبعد العصر أفضل من تحري صلاة التطوع في ذلك، وكذلك التسبيح في الركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن فيه، وقد يكون بعض الناس انتفاعه بالذكر والدعاء أعظم من انتفاعه بالقراءة، فيكون أفضل في حقه، فهكذا السيئات، وإن كان القتل أعظم من الزنا، والزنا أعظم من الشرب، فقد يقترن بالشرب من المغلظات ما يصير به أغلظ من بعض ضرر الزنا .(187/33)
وإذا عرف أن الحسنات والسيئات تتفاضل بالأجناس تارة، وتتفاضل بأحوال أخرى تعرض لها ـ تبين أن هذا قد يكون أعظم من هذا، وهذا أعظم من هذا، والعبد قد يأتي بالحسنة بنية وصدق وإخلاص تكون أعظم من أضعافها . كما في حديث صاحب البطاقة الذي رجحت بطاقته التي فيها : [ لا إله إلا الله ] بالسجلات التي فيها ذنوبه، وكما في حديث البغي التي سقت كلبًا بموقها، فغفر الله لها . وكذلك في السيئات . والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=240 - TOP#TOPسئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن رجل مدمن على المحرمات، وهو مواظب على الصلوات الخمس، ويصلي على محمد مائة مرة كل يوم، ويقول : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، كل يوم مائة مرة، فهل يُكَفَّر ذلك بالصلاة والاستغفار ؟
فأجاب :
قال الله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7، 8 ] ، فمن كان مؤمنا وعمل عملاً صالحًا لوجه الله تعالى، فإن الله لايظلمه، بل يثيبه عليه .
وأما ما يفعله من المحرم اليسير فيستحق عليه العقوبة، و يرجى له من الله التوبة . كما قال الله تعالى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 102 ] ،وإن مات ولم يتب فهذا أمره إلى الله . هو أعلم بمقدار حسناته وسيئاته . لا يشهد له بجنة ولا نار ،بخلاف الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون : إنه من فعل كبيرة أحبطت جميع حسناته، وأهل السنة والجماعة لا يقولون بهذا الإحباط، بل أهل الكبائر معهم حسنات وسيئات، وأمرهم إلى الله تعالى .(187/34)
/وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 7 ] أي من اتقاه في ذلك العمل، بأن يكون عملاً صالحًا خالًصا لوجه الله تعالى ،وأن يكون موافقًا للسنة، كما قال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو
لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] . وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحًا واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا . وأهل الوعيد يقولون : لا يتقبل العمل إلا ممن اتقاه بترك جميع الكبائر . وهذا خلاف ما جاء به الكتاب والسنة في [ قصة حمار ] الذي كان يشرب الخمر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه يحب الله ورسوله ) ، وكما في أحاديث الشفاعة، وإخراج أهل الكبائر من النار . حتى يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . فقد قال الله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } الآية [ فاطر : 32 ] .
ومع هذا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) . وقال : ( من شرب الخمر في الدنيا، ولم يتب منها حرمها في الآخرة ) ، وقال : " لعن الله الخمر، وعاصرها ومعتصرها، وبائعها، ومشتريها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها،وساقيها، وآكل ثمنها ) .
/وقال ـ أيضًا ـ شيخ الإسلام ـ رحمه الله : http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=240 - TOP#TOP
فصل(187/35)
وكل من تاب من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [ الزمر : 53-55 ] ، فقد أخبر الله في هذه الآية أنه يغفر الذنوب؛ أي لمن تاب .
وقد قال في الأخرى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] ، وهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفره الله،وما دون الشرك أمره إلى الله، إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عنه .
ومن الشرك أن يدعو العبد غير الله، كمن يستغيث في المخاوف / والأمراض والفاقات بالأموات، والغائبين . فيقول : يا سيدي الشيخ فلان، لشيخ ميت أو غائب، فيستغيث به، ويستوصيه، ويطلب منه ما يطلب من الله من النصر والعافية فإن هذا من الشرك الذي حرمه الله ورسوله باتفاق المسلمين .(187/36)
وهؤلاء المشركون قد يتمثل لأحدهم صورة الشيخ الذي استغاث به، فيظن أنه الشيخ، أو ملك جاء على صورته، وإنما هو شيطان تمثل له ليضله ويغويه لما دعا غير الله، كما كان نصيب المشركين الذين يعبدون الأصنام تخاطبهم الشياطين، وتتراءى لهم، وتخبرهم ببعض الأمور الغائبة، وإن كان فيما يخبرون به من الكذب ما يبين أنهم شياطين . قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] ، وهؤلاء كثيرون في المشركين : من الهند، والترك، والحبشة، وفي المتشبهين بهم من الضلال المنتسبين إلى الإسلام؛ كأهل الإشارات الذين يظهرون إشارات الدم، والزعفران، واللاذن، ويدعون أنهم يغيرون التراب، أو غيره . فيجعلونه كذلك، ومنهم من يدخل النار، ويأكل الحيات، ومنهم من يصرخ في بعض الناس فيمرض، أو يموت .
وهذه الأحوال تعرض لهم عند فعل ما يأمر به الشيطان، مثل السماع البدعي؛ سماع المكاء، والتصدية، وغير ذلك، فإن الذين / يتخذون ذلك قربة ودينا تتحرك به قلوبهم، ويحصل لهم عنده من الوجل والصياح ما تنزل معه الشياطين،كما يدخل الشيطان في بدن المصروع، ولهذا يزبد أحدهم كإزباد المصروع، ويصيح كصياحه وذلك صياح الشياطين على ألسنتهم، ولهذا لا يدري أحد ما جرى منه حتى يفيق،ويتكلم الشيطان على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه الإنسان، ويدخل أحدهم النار، وقد لبسه الشيطان ويحصل ذلك لقوم من النصارى بالمغرب، وغيرهم . تلبسهم الشياطين، فيحصل لهم مثل ذلك .(187/37)
فهؤلاء المبتدعون المخالفون للكتاب والسنة أحوالهم ليست من كرامات الصالحين، فإن كرامات الصالحين إنما تكون لأولياء الله المتقين، الذين قال الله فيهم : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] ، وهم الذين يتقربون إلى الله بالفرائض التي فرضها عليهم، ثم بالنوافل التي ندبهم إليها، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، / يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) .
ولهذا قال أهل العلم والدين ـ كأبي يزيد البسطامي وغيره :
لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي، وقال الشافعي : لو رأيتم صاحب بدعة يطير في الهواء، فلا تغتروا به .
فأولياء الله المتقون هم المتبعون لكتاب الله، وسنة رسوله، كما قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ آل عمران : 31 ] ، وطريقهم طريق أنبياء الله المرسلين، وأولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين .
وأما أهل الشرك والبدع والفجور فأحوالهم من جنس أحوال [ مسيلمة الكذاب ] ، و [ الأسود العنسي ] اللذين ادعيا النبوة في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل منهما شياطين تخبره وتعينه .(187/38)
وكان [ العنسي ] قد استولى على أرض اليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قتله الله على أيدي عباده المؤمنين، وكان قد طلب من أبي مسلم الخولاني أن يتابعه فامتنع، فألقاه في النار فجعلها الله /عليه بردًا وسلامًا،كما جرى لإبراهيم الخليل صلوات الله عليه، وذلك مع صلاته وذكره ودعائه لله مع سكينة ووقار، وهؤلاء أصحاب الأحوال الشيطانية، لا تصير النار عليهم بردًا وسلامًا . بل قد يطفونها كما يطفيها الناس، وذلك في حال اختلاط عقولهم، وهيج شياطينهم، وارتفاع أصواتهم، هذا إن كان لأحدهم حال شيطاني .
وإلا فكثير منهم لا يحصل له ذلك، بل يدخل في نوع من المكر والمحال فيتخذ حجر الطلق، أو دهن الضفادع، وأنواعًا من الأدوية كما يصنعون من جنس ما تصنعه المشعبذون، إخفاء اللاذن، والسكر في يد أحدهم، فإنهم نوعان : خاصتهم أهل حال شيطاني، وعامتهم أهل محال بهتاني .
وهؤلاء لا يعطى أحدهم من الزكاة حتى يتوب، ويلتزم ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، ويكون مع ذلك من مستحقي الزكاة المذكورين في قوله تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [ التوبة : 60 ] .(187/39)
فأما من كان غنيًا ليس من هذه الأصناف، فلا يعطى من الزكاة، لا سيما إذا كان مع غناه من شيوخ الضلال، مثل شيوخ المضلين الأغنياء / الذين ليسوا من الأصناف الثمانية، فإن هؤلاء لا يجوز أن يعطوا من الزكاة بإجماع المسلمين، وهؤلاء إذا قالوا للإنسان : تعطينا وإلا فإني أنلك في نفسك، فإنه قد تعينهم شياطين على إضرار بعض الناس بقضاء الله وقدره، لكن هذا يكون لمن هو خارج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، مثل أهل الفجور والبدع الذين لا يصلون الصلوات الخمس، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فهؤلاء قد تسلط عليهم بعض هؤلاء بذنوبهم وخطاياهم .
وأما الذين يفعلون ما أمر الله به ورسوله من الصلوات الخمس، وغيرها، ويخلصون دينهم لله، فلا يدعون إلا الله، ولا يعبدون غيره ولاينذرون إلا لله، ويحرمون ما حرم الله ورسوله، فهؤلاء جند الله الغالبون، وحزب الله المفلحون، فإنه يؤيدهم وينصرهم . وهؤلاء يهزمون شياطين أولئك الضالين، فلا يستطيعون مع شهود هؤلاء، واستغاثتهم بالله، أن يفعلوا شيئًا من تلك الأحوال الشيطانية، بل تهرب منهم تلك الشياطين . وهؤلاء معترفون بذلك، يقولون : أحوالنا ماتنفذ قدام أهل الكتاب والسنة، وإنما تنفذ قدام من لا يكون كذلك من الأعراب والترك والعامة وغيرهم .
فهؤلاء من أهل الضلال والغي الذين يجب نهيهم، واستتابتهم، ومنعهم من طاعة الشيطان والشرك، والبدع، والفجور، وأمرهم بما / أمر الله به ورسوله، واتباع الكتاب والسنة .(187/40)
ولا يجوز للمؤمن أن يخافهم فإن الله تعالى يقول في كتابه : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 173 : 175 ] ، وقال تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 150 : 152 ] .
/وقال ـ أيضا ـ شيخ الإسلام ـ رحمه الله :
رب يسر وأعن يا كريم .
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله . صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما . http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=240 - TOP#TOP
فصل
في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات(187/41)
والأول : يخفى على كثير من الناس . قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] ، وقال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] ، وقال تعالى : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ، / وقال : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [ هود : 2، 3 ] ، ومثل هذا في القرآن كثير .
فنقول : التوبة والاستغفار يكون من ترك مأمور، ومن فعل محظور، فإن كلاهما من السيئات والخطايا والذنوب، وترك [ الإيمان ] و [ التوحيد ] و [ الفرائض ] التي فرضها الله تعالى على القلب والبدن من الذنوب بلا ريب، عند كل أحد، بل هي أعظم الصنفين . كما قد بسطناه فيما كتبناه من [ القواعد ] قبل ذهابي إلى مصر .
فإن جنس ترك الواجبات أعظم من جنس فعل المحرمات، إذ قد يدخل في ذلك ترك الإيمان والتوحيد، ومن أتى بالإيمان والتوحيد لم يخلد في النار،ولو فعل ما فعل . ومن لم يأت بالإيمان والتوحيد كان مخلدًا ولو كانت ذنوبه من جهة الأفعال قليلة : كالزهاد والعباد من المشركين، وأهل الكتاب كعباد مشركي الهند، وعباد النصارى،وغيرهم،فإنهم لا يقتلون، ولا يزنون، ولا يظلمون الناس،لكن نفس الإيمان والتوحيد الواجب تركوه .(187/42)
ولكن يقال : ترك الإيمان والتوحيد الواجب ،إنما يكون مع الاشتغال بضده، وضده إذا كان كفرًا فهم يعاقبون على الكفر، وهو / من باب المنهي عنه، وإن كان ضده من جنس المباحات كالاشتغال بأهواء النفس ولذاتها، من الأكل والشرب، والرئاسة وغير ذلك عن الإيمان الواجب، فالعقوبة هنا لأجل ترك الإيمان، لا لأجل ترك هذا الجنس .
وقد يقال : كل من ترك الإيمان والتوحيد فلا يتركه إلا إلى كفر وشرك، فإن النفس لابد لها من إله تعبده، فمن لم يعبد الرحمن عبد الشيطان، فيقال : عبادة الشيطان جنس عام، وهذا إذا أمره أن يشتغل بما هو مانع له من الإيمان والتوحيد، يقال : عبده . كما أن من أطاع الشيطان فقد عبده،ولكن عبادة دون عبادة .
والناس [ نوعان ] طلاب دين، وطلاب دنيا، فهو يأمر طلاب الدين بالشرك والبدعة، كعباد المشركين، وأهل الكتاب، ويأمر طلاب الدنيا بالشهوات البدنية، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم، وفروجكم، ومضلات الفتن ) .
ولهذا قال الحسن البصري لما ذكر الحديث : لكل عامل شرة، ولكل شرة فترة ،فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه، فقالوا : أنت إذا مررت في السوق أشار إليك / الناس . فقال : إنه لم يعن هذا،وإنما أراد المبتدع في دينه، والفاجر في دنياه .
وقد بسطت الكلام على [ النوعين ] في مواضع، كما ذكرنا في [ اقتضاء الصراط المستقيم ] الكلام على قوله تعالى : { فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } [ التوبة : 69 ] ، وبسط هذا له موضع آخر .
فإن ترك الواجب وفعل المحرم متلازمان؛ ولهذا كان من فعل ما نهى عنه يقال : إنه عصى الأمر . ولو قال لها : إن عصيتي أمري فأنت طالق . فنهاها فعصته، ففيه وجهان :(187/43)
أصحهما أنها تطلق، وبعض الفقهاء يعلل ذلك بأن هذا يعد في العرف عاصيًا، ويجعلون هذا في الأصل نوعين .
والتحقيق أن كل نهي ففيه طلب واستدعاء لما يقصده الناهي، فهو أمر، فالأمر يتناول هذا وهذا . ومنه قول الخضر لموسى : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } وقال له : { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } [ الكهف : 67-70 ] . فقوله : / { فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } ، قد تناوله قوله : { وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } . ومنه قول موسى لأخيه : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [ طه : 92، 93 ] ، وموسى قال له : { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 142 ] نهى، وهو لامه على أنه لم يتبعه، وقال : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } ؟ وعباد العجل كانوا مفسدين . وقد جعل هذا كله أمرًا .(187/44)
وكذلك قوله : { مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] ، فهم لا يعصونه إذا نهاهم، وقوله عن الرسول : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] ، فمن ركب ما نهى عنه فقد خالف أمره، وقال تعالى : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] ، وإنما كان فعلا منهيًا عنه . وقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] ،هو يتناول ما نهى عنه، أقوى مما يتناول ما أمر به، فإنه قال في الحديث الصحيح : ( إذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
وقوله : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } [ النساء : 42 ] ، فالمعصية مخالفة الأمر، ومخالف النهي عاص، فإنه مخالف الأمر، وفاعل المحظور قد يكون أظهر معصية من تارك المأمور .
/وبالجملة، فهما متلازمان . كل من أمر بشىء فقد نهى عن فعل ضده، ومن نهى عن فعل فقد أمر بفعل ضده، كما بسط في موضعه، ولكن لفظ [ الأمر ] يعم النوعين، واللفظ العام قد يخص أحد نوعيه باسم، ويبقى الاسم العام للنوع الآخر، فلفظ الأمر عام لكن خصوا أحد النوعين بلفظ النهي، فإذا قرن النهي بالأمر كان المراد به أحد النوعين، لا العموم . http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=240 - TOP#TOP
فصل(187/45)
والمقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين، وأيضًا فالاستغفار والتوبة مما فعله وتركه، في حال الجهل قبل أن يعلم أن هذا قبيح من السيئات، وقبل أن يرسل إليه رسول، وقبل أن تقوم عليه الحجة، فإنه سبحانه قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
وقد قال طائفة من أهل الكلام والرأي : إن هذا في الواجبات الشرعية غير العقلية . كما يقوله من يقوله من المعتزلة وغيرهم : من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم : مثل أبي الخطاب [ هو محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن العراقي، الكلواذاني، ثم البغدادي الأزجي، الشيخ الإمام، العلامة الورع، شيخ الحنابلة . تلميذ القاضي أبي يعلى الفراء . ولد في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ،قال السلفي : هو ثقة رضي، من أصحاب أحمد، وقال غيره : كان مفتيًا صالحًا، عابدا ورعًا، حسن العشرة،له نظم رائق، وله كتاب [ الهداية ] . قيل عنه : إنه كان من محاسن العلماء، خيِّرًا صادقًا، حسن الخلق ،حلو النادرة من أذكياء الرجال، روى الكثير، وطلب الحديث وكتبه، ولابن كليب منه إجازة . درس الفقه على أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوفي، وصار إمام وقته، وشيخ عصره، وصنف في المذهب والأصول والخلاف والشعر الجيد . توفى أبو الخطاب في الثالث والعشرين من جمادي الآخرة سنة عشر وخمسمائة . [ سير أعلام النبلاء : 19/348 : 350 ] . وغيره، على أن الآية عامة : لا يعذب الله أحدًا إلا بعد رسول .(187/46)
/وفيهما دليل على أنه لا يعذب إلا بذنب،خلافًا لما يقوله : [ المجبرة ] أتباع جهم : أنه تعالي يعذب بلا ذنب، وقد تبعه طائفة تنسب إلى السنة : كالأشعري وغيره، وهو قول القاضي أبي يعلى وغيره، وقالوا : إن الله يجوز أن يعذب الأطفال في الآخرة عذابًا لا نهاية له من غير ذنب فعلوه، وهؤلاء يحتجون بالآية على إبطال قول من يقول : إن العقل يوجب عذاب من لم يفعل،والآية حجة عليهم أيضًا حيث يجوزون العذاب بلا ذنب، فهي حجة على الطائفتين .
ولها نظائر في القرآن كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِك الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } [ القصص : 59 ] ، وقوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] وقوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 8، 9 ] . وما فعلوه قبل مجىء الرسل كان سيئًا وقبيحًا وشرّا، لكن لا تقوم عليهم الحجة إلا بالرسول . هذا قول الجمهور .(187/47)
وقيل : إنه لا يكون قبيحًا إلا بالنهي، وهوقول من لا يثبت حسنا ولاقبيحًا إلا بالأمر والنهي . كقول جهم والأشعري ومن تابعه من المنتسبين إلى السنة . وأصحاب مالك والشافعي وأحمد : كالقاضي أبي يعلى، وأبي الوليد الباجي، وأبي المعالي الجويني وغيرهم، والجمهور من السلف والخلف على أن ما كانوا فيه قبل / مجيء الرسول من الشرك والجاهلية شيئًا قبيحًا، وكان شرّا . لكن لا يستحقون العذاب إلا بعد مجىء الرسول؛ ولهذا كان للناس في الشرك والظلم والكذب والفواحش ونحو ذلك ثلاثة أقوال : قيل : إن قبحهما معلوم بالعقل، وأنهم يستحقون العذاب على ذلك في الآخرة، وإن لم يأتهم الرسول،كما يقوله المعتزلة، وكثير من أصحاب أبي حنيفة . وحكوه عن أبي حنيفة نفسه، وهو قول أبي الخطاب، وغيره .
و قيل : لا قبح، ولا حسن، ولا شر فيهما قبل الخطاب، وإنما القبيح ما قيل : فيه لا تفعل، والحسن ما قيل : فيه افعل، أو ما أذن في فعله، كما تقوله الأشعرية، ومن وافقهم، من الطوائف الثلاثة .
وقيل : إن ذلك سيئ، وشر، وقبيح، قبل مجيء الرسول؛ لكن العقوبة إنما تستحق بمجيء الرسول . وعلى هذا عامة السلف، وأكثر المسلمين، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن فيهما بيان أن ما عليه الكفار هو شر وقبيح، وسيئ قبل الرسل، وإن كانوا لايستحقون العقوبة إلا بالرسول . وفي الصحيح أن حذيقة قال : يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : ( نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها ) . http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=240 - TOP#TOP
فصل(187/48)
وقد أخبر الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول، كقوله لموسى : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ النازعات : 17-19 ] ، وقال : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ } [ القصص : 4ـ6 ] . فهذا خبر عن حاله قبل أن يولد موسى، وحين كان صغيرًا قبل أن يأتيه برسالة، إنه كان طاغيًا مفسدًا .
وقال تعالى : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [ طه : 37-39 ] . وهو فرعون، فهو إذ ذاك عدو لله، ولم يكن جاءته الرسالة بعد .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=240 - TOP#TOPفصل(187/49)
وأيضا أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه، فلو كان كالمباح المستوى الطرفين والمعفو عنه وكفعل الصبيان والمجانين، ما أمر بالاستغفار والتوبة، فعلم أنه كان من السيئات القبيحة، لكن الله لا يعاقب إلا بعد إقامة الحجة . وهذا كقوله تعالى : { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [ هود : 1ـ3 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] ، وقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 1ـ4 ] . فدل على أنها كانت ذنوبًا قبل إنذاره إياهم .(187/50)
وقال عن هود : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ } [ هود : 50- 52 ] ، فأخبر في أول خطابه أنهم مفترون بأكثر الذي كانوا عليه، كما قال لهم في الآية الأخرى : { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [ الأعراف : 71 ] .
وكذلك قال صالح : { يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ هود : 61 ] .
وكذلك قال لوط لقومه : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 80 ] . فدل على أنها كانت فاحشة عندهم قبل أن ينهاهم، بخلاف قول من يقول : ما كانت فاحشة، ولا قبيحة، ولا سيئة حتى نهاهم عنها، ولهذا قال لهم : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ } [ العنكبوت : 29 ] . وهذا خطاب لمن يعرفون قبح ما يفعلون، ولكن أنذرهم بالعذاب .(187/51)
وكذلك قول شعيب : { أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [ هود : 85 ] . بين أن ما فعلوه / كان بخسا لهم أشياءهم، وأنهم كانوا عاثين في الأرض مفسدين قبل أن ينهاهم، بخلاف قول [ المجبرة ] : إن ظلمهم ما كان سيئة، إلا لما نهاهم، وأنه قبل النهي كان بمنزلة سائر الأفعال من الأكل والشرب، وغير ذلك . كما يقولون في سائر ما نهت عنه الرسل من الشرك والظلم والفواحش .
وهكذا إبراهيم الخليل قال : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } [ مريم : 41، 42 ] ،فهذا توبيخ على فعله قبل النهي، وقال أيضًا : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } [ العنكبوت : 16، 17 ] . فأخبر أنهم يخلقون إفكًا قبل النهي .
وكذلك قول الخليل لقومه أيضًا : { مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 85- 96 ] فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه، قبل النهي، وقبل إنكاره عليهم، ولهذا استفهم استفهام منكر، فقال : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ، أي : وخلق ما تنحتون . فكيف يجوز أن تعبدوا ما تصنعونه بأيديكم ؟ وتدعون رب العالمين .(187/52)
/فلولا أن حسن التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر، معلوم بالعقل، لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يذمون عليه، بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم، وإنما كان قبيحًا بالنهي، ومعني قبحه كونه منهيًا عنه، لا لمعنى فيه، كما تقوله المجبرة .
وأيضًا، ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية، ويضرب لهم الأمثال، كقوله تعالى : { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وقوله : { أَفَلَا تَتَّقُونَ } وقوله : { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84-89 ] . فهذا يقتضي أن اعترافهم بأن الله هو الخالق يوجب انتهاءهم عن عبادتها، وأن عبادتها من القبائح المذمومة، ولكن هؤلاء يظنون أن الشرك هو اعتقاد أن ثم خالق آخر، وهذا باطل، بل الشرك عبادة غير الله، وإن اعترف المشرك بأنه مخلوق .
وقوله : إنه كله لله، كذب مفترى وإن قال : إنه مخلوق . ومثل هذا كثير في القرآن . كقوله : { أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } ، وهذا في جملة بعد جملة يقول : { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } [ النمل : 60 : 61 ] ، إنكار عليهم أن يعبدوا غير الله، ويتخذوه إلهًا مع اعترافهم بأن هذا لم يفعله إله غير الله، وإنما فعله هو وحده .(187/53)
وقوله : { أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ } جواب الاستفهام ،أي : إله مع الله موجود وهذا غلط، فإنهم يجعلون مع الله آلهة ويشهدون بذلك، لكن ما كانوا يقولون : إنهم فعلوا ذلك، والتقرير إنما يكون لما يقرون به، وهم مقرون بأنهم لم يفعلوا، لا يقرون بأنه لم يكن معه إله . قال تعالى : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 19 ]
وقد قال سبحانه : { وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] . وقال : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 17 ] . وقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 119 ] .
/فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون : إن كل عاص فهو جاهل ـ كما قد بسط في موضع آخرـ فهو متناول لمن يكون علم التحريم أيضًا .
فدل على أنه يكون عاملا سوءًا، وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه، وأنه يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب، وقيام الحجة .(187/54)
وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات، وتكون مما لم يكن علم أنه ذنب، تبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار، فإن كثيرًا من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها فعلم بالعلم العام أنها قبيحة : كالفاحشة، والظلم الظاهر، فأما ما قد يتخذ دينًا فلا يعلم أنه ذنب، إلا من علم أنه باطل؛ كدين المشركين، وأهل الكتاب المبدل، فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه، وأهله يحسبون أنهم على هدى . وكذلك البدع كلها .(187/55)
ولهذا قال طائفة من السلف ـ منهم الثوري : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها . وهذا معنى ما روى عن طائفة أنهم قالوا : إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر . ومن قال : إنه لا يقبل / توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال : ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه : ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة، فإنه يتوب منها كما يرى الكافر إنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة، تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله، والخوارج لما أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، ورجع منهم نصفهم أو نحوه، وتابوا وتاب منهم آخرون على يد عمر بن عبد العزيز، وغيره ومنهم من سمع العلم، فتاب وهذا كثير، فهذا القسم الذى لا يعلم فاعلوه قبحه قسم كثير من أهل القبلة، وهو في غيرهم عام، وكذلك ما يترك الإنسان من واجبات لا يعلم وجوبها كثيرة جدا، ثم إذا علم ما كان قد تركه من الحسنات من التوحيد والايمان وما كان مأمورًا بالتوبة منه والاستغفار مما كان سيئة، والتائب يتوب مما تركه وضيعه وفرط فيه من حقوق الله تعالى، كما يتوب مما فعله من السيئات وإن كان قد فعل هذا وترك هذا قبل الرسالة؛ فبالرسالة يستحق العقاب على ترك هذا فعل هذا، وإلا فكونه كان فاعلًا للسيئات المذمومة وتاركًا للحسنات التى يذم تاركها كان تائبًا قبل ذلك كما تقدم وذكرنا القولين قول من نفى الذم والعقاب وقول من أثبت الذم والعقاب . فإن قيل إذا لم يكن معاقبا عليها فلا معنى لقبحها قيل بل فيه معنيان : -(187/56)
أحدهما : إنه سبب للعقاب، لكن هو متوقف على الشرط، وهو الحجة قال تعالى : { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } [ آل عمران 103 ] . فلولا إنقاذه لسقطوا ومن كان واقفًا على شفير فهلك، فهلاكه موقوف على سقوطه، بخلاف ما إذا بان، وبعد عن ذلك؛ فقد بعد عن الهلاك، فأصحابها كانوا قريبين إلى الهلاك والعذاب الثاني أنهم مذمومون منقوصون معيبون، فدرجتهم منخفضة بذلك، ولابد ولو قدر أنهم لم يعذبوا لا يستحقون ما يستحقه السليم، من ذلك من كرامته أيضًا وثوابه فهذه عقوبة بحرمان خير، وهى أحد نوعي العقوبة وهذا وإن كان حاصلًا لكل من ترك مستحبًا، فإنه يفوته خيره، ففرق بين ما يفوته مالم يحصل له، وبين ما ينقص ما عنده، وهذا كلام عام فيما لم يعاقب عليه من الذنوب، وأما من لم يرسل إليه رسول في الدنيا، فقد رويت آثار أنهم يرسل إليهم رسول في عرصامات القيامة كما قد بسط في مواضع .
وقد تنازع الناس في الوجوب والتحريم؛ هل يتحقق بدون العقاب على الترك على قولين، قيل لا يتحقق، فإنه إذا لم يعاقب كان كالمباح، وقيل يتحقق؛ فإنه لابد أن يذم وإن لم يعاقب، وتحقيق الأمر أن العقاب نوعان :
نوع بالآلام، فهذا قد يسقط بكثرة الحسنات، ونوع بنقص الدرجة، وحرمان ما كان يستحقه، فهذا يحصل إذا لم يحصل الأول، والله تعالى يكفر سيئات المسيء، كما قال تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا } [ النساء 31 ] . فيكفرها تارة بالمصائب، فتبقى درجة صاحبها كما كانت، وقد تصير درجته أعلى، ويكفرها بالطاعات، ومن لم يأت بتلك السيئات أعلى درجة، فيحرم صاحب السيئات، ما يسقط بازائها من طاعته، وهذا مما يتوب منه من أراد أن لا يخسر ومن فرط في مستحبات؛ فإنه يتوب أيضًا ليحصل له موجبها، فالتوبة تتناول هؤلاء كلهم .
وتوبة الإنسان من حسناته على أوجه :(187/57)
أحدهما : أن يتوب ويستغفر من تقصيره فيها .
والثاني : أن يتوب مما كان يظنه حسنات ولم يكن كحال أهل البدع .
والثالث : يتوب من إعجابه ورؤيته أنه فعلها، وأنها حصلت بقوته، وينسى فضل الله، وإحسانه، وأنه هو المنعم بها، وهذه توبة من فعل مذموم وترك مأمور؛ ولهذا قيل تخليص الأعمال مما يفسدها، أشد على العالمين من طول الاجتهاد، وهذا مما يبين احتياج الناس إلى التوبة دائما، ولهذا قيل هى مقام يستصحبه العبد من أول ما يدخل فيه؛ إلى آخر عمره، ولابد منه لجميع الخلق، فجميع الخلق عليهم أن يتوبوا وأن يستديموا التوبة .(187/58)
قال تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب 72 , 73 ] فغاية كل مؤمن التوبة، وقد قال الله لأفضل الأنبياء، وأفضل الخلق بعد الأنبياء، وهم السابقون الأولون { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة 117 ] . ومن آواخر ما أنزل الله قوله { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ النصر 1 : 3 ] وقد ثبت في الصحيحين أنه كان يقول في ركوعه، وسجوده : ( سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن ) وفى لفظ لمسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت : ( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ) قالت : فقلت : يا رسول الله أراك تكثر من قولك سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك، فقال : ( أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فقد رأيتها { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } فتح مكة { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } ) .(187/59)
وأمره سبحانه له بالتسبيح بحمده والاستغفار في هذه الحال، لا يقتضي أنه لا يشرع في غيرها أو لا يؤمر به غيره بل يقتضي أن هذا سبب لما أمر به وإن كان مأمورًا به في مواضع أخر، كما يؤمر الإنسان بالحمد والشكر على نعمه، وإن كان مأمورًا بالشكر عليها وكما يؤمر بالتوبة من ذنب؛ وإن كان مأمورًا بالتوبة من غيره، لكن هو أمر أن يختم عمله بهذا، فغيره أحوج إلى هذا منه . وقد يحتاج العبد إلى هذا في غير هذه الحال، كما يحتاج إلى التوبة، فهو محتاج إلى التوبة والاستغفار مطلقا، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر عقب الصلاة ثلاثا قال تعالى { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [ آل عمران 17 ] قاموا الليل ثم جلسوا وقت السحر يستغفرون . وقد ختم الله سورة المزمل وفيها قيام الليل بقوله { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المزمل 20 ] ، كما ختم بذلك سورة المدثر بقوله { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [ المدثر 56 ] ، فهو سبحانه أهل التقوى، ولم يقل سبحانه أهل للتقوى بل قال : أهل التقوى فهو وحده أهل أن يتقى فيعبد دون ما سواه، ولا يستحق غيره أن يتقى، كما قال { وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ } [ النحل 52 ] ، وقال { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور 52 ] ، وهو أهل المغفرة، ولا يغفر الذنوب غيره، كما قال تعالى { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ } [ آل عمران 135 ] ، وفى غير حديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) .(187/60)
فهو سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة، وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله سبحانه ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) فالمؤمنون يستغفرون مما كانوا تاركيه قبل الاسلام من توحيد الله وعبادته، وإن كان ذلك لم يأتهم به رسول بعد، كما تقدم، والرسول يستغفر من ترك ما كان تاركه، كما قال فيه { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } [ الشورى : 52 ] . وإن كان ذلك لم يكن عليه عقاب، والمؤمن إذا تبين له أنه ضيع حق قرابته، أو غيره استغفر الله من ذلك وتاب، وكذلك إذا تبين له أن بعض ما يفعله هو مذموم .
فصل(187/61)
وأيضًا فمما يستغفر ويتاب منه ما في النفس من الأمور التى لو قالها، أو فعلها عذب، قال تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة 284 ] . فهو يغفر لمن يرجع عما في نفسه فلم يتكلم به ولم يعمل كالذي همّ بالسيئة ولم يعملها، وإن تركها لله كتبت له حسنة، وهذا مما يستغفر منه ويتوب، فإن الاستغفار والتوبة من كل ما كان سببا للذم والعقاب، وإن كان لم يحصل العقاب ولا الذم، فإنه يفضي إليه فيتوب من ذلك، أي يرجع عنه، حتى لا يفضي إلى شر فيستغفر الله منه، أي يطلب منه أن يغفر له فلا يشقيه به، فإنه وإن لم يعاقب عليه فقد ينقص به، فالذي يهم بالسيئات، وإن كان لا يكتب عليه سيئة، لكن اشتغل بها عما كان ينفعه فينقص بها عمن لم يفعلها واشتغل بما ينفعه عنها، وقد بسطنا في غير هذا الموضع؛ أن فعل الإنسان وقوله، إما له وإما عليه، لا يخلو من هذا أو هذا، فهو يستغفر الله ويتوب مما عليه، وقد يظن ظنون سوء باطلة، وإن لم يتكلم بها فإذا تبين له فيها، استغفر الله وتاب، وظلمه لنفسه يكون بترك واجب، كما يكون بفعل محرم، فقوله تعالى { وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء 110 ] من عطف العام على الخاص وكذلك قوله { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران 135 ] . وقد قيل في قوله تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران 135 ] قيل الفاحشة : الزنا وقيل كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها، قيل هو : فاحشة أيضًا وقيل هى الصغائر .(187/62)
وهذا يوافق قول من قال : الفاحشة هي الكبيرة، فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة، ومن قال : الفاحشة الزنا، يقول ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات، وقيل الفاحشة : الزنا وظلم النفس ما دونه، من اللمس والقبلة والمعانقة، وقيل : هذا هو الفاحشة، وظلم النفس : المعاصى وقيل الفاحشة : فعل وظلم النفس، قول والتحقيق أن ظلم النفس جنس عام، يتناول كل ذنب .
وفى الصحيحين أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاءًا أدعو به في صلاتي فقال ( قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .
والتحقيق أن [ ظلم النفس ] جنس عام يتناول كل ذنب، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال : يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي فقال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) ، / وفي صحيح مسلم، وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استفتاحه : ( اللهم أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت ) .
وقد قال أبو البشر وزوجته : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، وقال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } [ القصص : 16 ] ، وقال ذو النون ـ يونس ـ : { لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] .(187/63)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عن أهل القرى المعذبين : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، وأما قوله : { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } [ آل عمران : 147 ] ، فقد قيل : إن الذنوب هي الصغائر، والإسراف هو الكبائر .
و [ التحقيق ] أن [ الذنوب ] اسم جنس، و [ الإسراف ] تعدي الحد، ومجاوزة القصد، كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم، /والإسراف كالعدوان، كما في قوله : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [ الأنعام : 145 ] ، ومجاوزة قدر الحاجة، فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله، فهذا كله ذنب، كالذي يرضى لنفسه، ويغضب لنفسه، فهو متبع لهواه، و [ الإسراف ] كالذي يغضب لله، فيعاقب بأكثر مما أمر الله . والآية في سياق قتال المشركين، وما أصابهم يوم أحد .
وقد أخبر عمن قبلهم بقوله : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 146 ] ، وقد قيل على الصحيح، المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلَّا أن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } الآية .(187/64)
فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها . والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء . فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } [ الإسراء 33 ] . وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان 67 ] . وقال : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ } [ الأعراف 31 ] . فالإسراف مجاوزة الحد . هذا آخر ما كتبته هنا . والله سبحانه وتعالى أعلم . والحمد لله رب العالمين .
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله :
الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه؛ إلى الفعل المحبوب من العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل ; فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله، وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ; بل هو مضطر إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد لما فيه من المصالح، وجلب الخيرات، ودفع المضرات، وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية .(187/65)
وقد ثبتت : دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد، والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم . فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين؛ تذهب الشرك كله، دقه وجله، خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه . والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك، والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول : لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول : أستغفر الله .(187/66)
فأمره بالتوحيد والاستغفار لنفسه ولإخوانه من المؤمنين . وقال : إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب، خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس [ عيون ] الخفافيش بالنهار . فاحذر مثل هؤلاء وعليك بصحبة أتباع الرسل، المؤيدين بنور الهدى، وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية العالمين العاملين { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ المجادلة 22 ] . وقال : التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها مشروط فيها الإخلاص لله، وموافقة أمره باتباع رسوله، والاستغفار من أكبر الحسنات، وبابه واسع؛ فمن أحس بتقصير في قوله، أو عمله، أو حاله، أو رزقه ، أو تقلب قلب؛ فعليه بالتوحيد والاستغفار ففيهما الشفاء إذا كانا بصدق وإخلاص . وكذلك إذا وجد العبد تقصيرًا في حقوق القرابة والأهل والأولاد والجيران والإخوان، فعليه بالدعاء لهم والاستغفار . قال حذيفة بن اليمان للنبي صلى الله عليه وسلم : إن لي لسانًا ذربًا على أهلي . فقال له : ( أين أنت من الاستغفار ؟ إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة ) .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=241 - TOP#TOPوسئل رحمه الله
عن قوله : ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم والليلة سبعين مرة ) . هل المراد ذكر الاستغفار باللفظ ؟ أو أنه إذا استغفر ينوي بالقلب أن لا يعود إلى الذنب ؟ وهل إذا تاب من الذنب، وعزم بالقلب أن لا يعود إليه، وأقام مدة ثم وقع فيه، أفيكون ذلك الذنب القديم يضاف إلى الثاني ؟ أو يكون مغفورًا بالتوبة المتقدمة ؟ وهل التائب من شرب الخمر ولبس الحرير يشربه في الآخرة ؟ ويلبس الحرير في الآخرة ؟ والتوبة النصوح ما شرطها ؟ .(187/67)
فأجاب : الحمد لله . بل المراد الاستغفار بالقلب مع اللسان، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما في الحديث الآخر : ( لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار ) فإذا أصر على الصغيرة صارت كبيرة، وإذا تاب منها غفرت . قال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران 135 ] الآية . وإذا تاب توبة صحيحة غفرت ذنوبه، فإن عاد إلى الذنب فعليه أن يتوب أيضًا . وإذا تاب قبل الله توبته أيضًا .
وقد تنازع العلماء في التائب من الكفر . إذا ارتد بعد إسلامه ثم تاب بعد الردة وأسلم، هل يعود عمله الأول ؟ على قولين مبناهما أن الردة هل تحبط العمل مطلقا أو تحبطه بشرط الموت عليها ؟ .
فمذهب أبي حنيفة ومالك أنها تحبطه مطلقا، ومذهب الشافعي أنها تحبطه بشرط الموت عليها، والردة ضد التوبة، وليس من السيئات ما يمحو جميع الحسنات إلا الردة، وقد قال تعالى : { تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا } [ التحريم 8 ] . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { تَوْبَةً نَّصُوحًا } أن يتوب ثم لا يعود فهذه التوبة الواجبة التامة . ومن تاب من شرب الخمر ولبس الحرير فإنه يلبس ذلك في الآخرة كما جاء في الحديث الصحيح : ( من شرب الخمر ثم لم يتب منها حرمها ) . وقد ذهب بعض الناس كبعض أصحاب أحمد : إلى أنه لا يشربها مطلقًا وقد أخطئوا الصواب الذي عليه جمهور المسلمين . http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=241 - TOP#TOP
وسئل عن
اليهودي أو النصراني إذا أسلم . هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام ؟(187/68)
فأجاب : - إذا أسلم باطنًا وظاهرًا غفر له الكفر الذي تاب منه بالإسلام بلا نزاع، وأما الذنوب التي لم يتب منها مثل أن يكن مصرًا على ذنب، أو ظلم، أو فاحشة، ولم يتب منها بالإسلام، فقد قال بعض الناس : أنه يغفر له بالإسلام . والصحيح : أنه إنما يغفر له ما تاب منه . كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل : ( أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ فقال : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية . ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر ) . وحسن الإسلام أن يلتزم فعل ما أمر الله به، وترك ما نهي عنه . وهذا معنى التوبة العامة، فمن أسلم هذا الإسلام غفرت ذنوبه كلها . وهكذا كان إسلام السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعمرو بن العاص : ( أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ) فإن اللام لتعريف العهد، والإسلام المعهود بينهم كان الإسلام الحسن . وقوله : ( ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر ) أي : إذا أصر على ما كان يعمله من الذنوب، فإنه يؤاخذ بالأول والآخر . وهذا موجب النصوص والعدل، فإن من تاب من ذنب غفر له ذلك الذنب، ولم يجب أن يغفر له غيره، والمسلم تائب من الكفر كما قال تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة 5 ] . وقوله : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال 38 ] . أي إذا انتهوا عما نهوا عنه غفر لهم ما قد سلف .(187/69)
فالانتهاء عن الذنب هو التوبة منه . من انتهى عن ذنب غفر له ما سلف منه . وأما من لم ينته عن ذنب فلا يجب أن يغفر له ما سلف لانتهائه عن ذنب آخر . والله أعلم .
آخر المجلد الحادي عشر .(187/70)
مختصر كتاب
الاعتصام
للعلامة الأصولي أبي إسحاق إبراهيم بن موسى
الشاطبي
ت790هـ
اختصره وهذَّبه
علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
فهرس الموضوعات الإجمالي
الموضوع ... رقم الصفحة
من الأصل(1)
مقدمة الكتاب
مقدمة المصنِّف ... 1/17
الباب الأول
[ في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظاً ] ... 1/36
فصل [البدعة التَّركيَّة] ... 1/42
الباب الثاني
[ في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها ] ... 1/46
فصل [الأدلة من النظر على ذم البدع] ... 1/46
فصل [الأدلة من النقل على ذم البدع] ... 1/53
فصل [ما جاء في ذم الرأي المذموم] ... 1/99
فصل [ما في البدع من الأوصاف المحذورة، والمعاني المذمومة] ... 1/106
فصل [الفرق بين البدعة والمعصية] ... 1/133
الباب الثالث
[ في أن ذم البدع عامٌّ لا يخص واحدة دون أُخرى و فيه جملة من شبه المبتدعة] ... 1/141
فصل [أقسام المنسوبين إلى البدعة] ... 1/146
فصل [لفظ ((أهل الأهواء)) و ((أهل البدع))] ... 1/162
فصل [ اختلاف مراتب إثم المبتدع ] ... 1/167
فصل [ القيام على أهل البدع من الخاصة و العامة ] ... 1/174
فصل[شبه المبتدعة والرد عليهم] ... 1/177
فصل [تقسيم البدع الى خمسة أقسام و الرد عليه ] ... 1/188
الباب الرابع
[ في مأخذ أهل البدع بالاستدلال ] ... 1/220
فصل[بيان طرق أهل الزيغ] ... 1/223
الباب الخامس
[ في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما ] ... 1/286
فصل [البدع الإضافية] ... 1/344
فصل [سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما] ... 1/360
فصل [من البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره] ... 2/6
فصل [من البدع الإضافية: اخراج العبادة عن حدِّها الشرعي] ... 2/11
فصل [البدع الإضافية: هل يُعتد بها عبادات يتقرب بها إلى الله] ... 2/21
الباب السادس
[ في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة ] ... 2/36
__________
(1) الرقم يشير الى رقم الصفحة في طبعة الشيخ رشيد رضا لمن أراد أن يتوسع من الأصل0(188/1)
فصل [كل بدعة ضلالة] ... 2/49
فصل [هل في البدع صغائر وكبائر] ... 2/57
فصل [شروط كون البدع صغيرة] ... 2/65
الباب السابع
[ في الابتداع هل يختصُّ بالأُمور العبادية
أو يدخل في العاديَّات ؟ ] ... 2/73
فصل [في نشوء البدع] ... 2/109
الباب الثامن
[ في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان ] ... 2/111
فصل [الفرق بين البدع والاستحسان] ... 2/136
فصل [رد حجج المبتدعة في الاستحسان] ... 2/150
فصل [رد شبهة استفتاء القلب] ... 2/153
الباب التاسع
[ في السبب الذي لأجله افترقت
فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين ] ... 2/164
فصل [حديث الفِرَق وفيه مسائل] ... 2/189
الباب العاشر
[ في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان ] ... 2/290
مقدمة
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا ، مَن يهدهِ الله فلا مُضِلَّ له ، ومَن يُضلل فلا هاديَ له ، وأشهدُ ألاَّ إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه ؛
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وأنْتُمْ مُسْلمُون }
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً }(188/2)
أما بعد ؛ فإنَّ خيرَ الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد فإن كتاب " الاعتصام " للإمام أبي اسحاق الشاطبي يعد من أفضل ما أولف في معنى البدعة وذم البدع وسوء منقلب أهلها ، وانواعها وأحكامها والفرق بينها وبين المصالح المرسله وغير ذلك من مسائل تتعلق بالبدعه وأهلها ، فشيخ الاسلام ابن تيميه وإن كان له كلام جليل القدر عظيم الفائدة في موضوع البدعه إلا أنه متفرق في كتبه ورسائله وفتاويه لا يجمعه كتاب واحد ، فحري بكل طالب علم وصاحب سنه أن يقرأ هذا الكتاب ويتدارسه ، والكتاب فيه من الإطالة والاستطرادات ما يشرد به ذهن القارئ ويتشتت ، فقد أكثر المؤلف فيه من الاستشهاد بالآيات والأحاديث والآثار الصحيح منها والضعيف أحياناً والأقوال والقصص والأخبار والأمثلة والتفريعات ما يجعل اختصاره امراً مهماً مُلحاً ، وقد ترددت كثيراً في ذلك لما لفن الاختصار والتهذيب من صعوبه وتبعيه وخطورة ولكن لما نظرت الى الكتاب وما فيه مما سبق ذكره ونظرت الى ضعف الهمم وكثرة الشواغل لدى كثير منا ولا حول ولا قوة الا بالله رايت أنه يتحتم علي وقد كنت قرأت الكتاب أكثر من مرة أن الخصه وأهذبه دون أن أخل بشيء من معانيه . وقد قال بعضهم : " إن التأليف على سبعه أقسام لا يؤلف عالم عاقل الا فيها وذكر منها : ... أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه (1) فاستخرت الله واستعنت به على عمل هذا المختصر وظللت فترة وأنا أقرأ منه وأحذف هذا تارة واعيد ذاك تارة واربط بين جملة أو جمل في صفحه مع جمل أخرى تبعد عنها عدة صفحات من الاستطرادات والتطويلات التي ملأ بها المؤلف كتابه فأختار آية أو آيتين من عشرة أو أكثر تؤدي الغرض الذي من أجلها ساقها المصنف وكذلك أفعل بالأحاديث والآثار حاذفاً منها كل ما لم يصح سنده مختاراً
__________
(1) - كشف الظنون 1ظ35(188/3)
بعض ما صح مما يؤدي الغرض وكذا في الأمثلة والأقوال ولا أدع فكرة أو مقصداً للمصنف إلا وأوردها مسترشداً قول ابن خلدون في المقدمة : " إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها ، فعدوها سبعه : وذكر منها : أن يكون الشيء من التواليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهباً ، فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر إن وقع مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول .. " (1) حتى ظهر الكتاب بالشكل الذي بين يديك والذي يمثل في حجمه ربع الكتاب الأصلي تقريباً . هذا وقد طبع الكتاب عدة طبعات منها :
1 - …طبعه السيد محمد رشيد رضا . وقد طبع الكتاب سنه 1332هـ في مجلدين مجموع صفحاته 745 صفحه ، وقد اعتمد فيه المحقق على نسخه بخط مغربي للشيخ محمد محمود الشنقيطي ، وكل من جاء بعده اعتمد على هذه الطبعة .
2 - …طبعه دار ابن عفان للنشر والتوزيع بالخبر - السعودية سنه 1412هـ تحقيق سليم بن عيد الهلالي وقد اعتمد على نسخه خطيه مغربيه وطبعه السيد رشيد رضا ، وتقع هذه الطبعة في مجلدين عدد صفحاتها 893 صفحه .
3 - …طبعه ... الخاني - الرياض - السعودية سنه 1416هـ تحقيق مصطفى أبو سليمان الندوي وقد اعتمد على طبعه السيد رشيد رضا فقط . وتقع هذه الطبعة في مجلدين عدد صفحاتها 884 صفحه.
4 - …طبعه دار الكتاب العربي سنه 1417هـ تحقيق عبد الرزاق المهدي وقد اعتمد على طبعه السيد رشيد رضا فقط . وتقع هذه الطبعة في مجلد واحد عدد صفحاته 591 صفحه .
5 - …بدر التمام في اختصار الاعتصام ، لأبي عبد الفتاح محمد السعيد الجزائري ، نشر دار الحنان الإسلامية سنه 1411هـ ، ويقع في جزء لطيف عدد صفحاته 151 صفحه .
وهذا المختصر جيد ومفيد ولكنه أغفل فصولاً من الكتاب بكاملها بل باباً من أبوابه ومن ذلك :
فصل " أقسام المنسوبين إلى البدعة" من الباب الثالث .
__________
(1) المقدمة 4ظ1347-1350(188/4)
فصل " سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما " من الباب الخامس.
فصل " كل بدعه ضلالة " من الباب السادس .
الباب السابع " الابتداع هل يختص بالأمور العبادية أو يدخل في العاديُّات " .
فصل " رد شبهه استفتاء القلب " من الباب الثامن .
فصل " حديث الفرق وفيه مسائل " من الباب التاسع .
6 - …طريق الوصول إلى إبطال البدع بعلم الأصول ، لمحمد أحمد العدوي سنه 1340هـ ثم أعيد طبعاته عدة مرات آخرها الطبعة الرابعة في المكتب الإسلامي سنه 1406هـ وتحت عنوان " أصول البدع والسنة " وهو عبارة عن تلخيص لكتاب الاعتصام بأسلوب المؤلف ، وليس اختصاراً له ، وتقع هذه الطبعة في كتيب عدد صفحاته 134 صفحه . وقد استفدت من جميع هذه الطبعات وخاصة طبعه السيد رشيد رضا ومختصر الجزائري .
عملي في الكتاب :
1 - اعتمدت على طبعه السيد رشيد رضا فقمت باختصارها أولاً على ما سبق ذكره ، ولم أضف شيئاً من عندي في أصله لأن كلام الشاطبي فيه من القوة والمتانة والرصانة والوضوح ما يغني عن كل تعليق - خاصة بعد حذف الاستطرادات وبعض المسائل - إلا ما يقتضيه ربط الكلام ، وقد حوى هذا المختصر جميع أبواب وفصول الكتاب .
2 - عرض هذا المختصر على نسخه خطيه مغربيه عدد أوراقها 265 ورقه حصلت عليها من جامعة أم القرى وهي مصورة من مكتبة المسجد النبوي . وقد جعلت هذه النسخة وطبعه السيد رشيد رضا في مقام واحد وعند التعارض اثبت أنسبهما لسياق الكلام وما كان فيه إشكال عند كليهما وضعت أقرب الكلمات التي تؤدي المعنى وذلك بين علاقين هكذا : { } وهذا قليل جداً .
3 - استفدت من عناوين الأبواب والفصول التي وضعها ناسخ النسخة المغربية وأضفت عناوين لبعض الفصول يقتضيها طبيعة المختصر .
4 - وضعت تعليقات يسيرة بالهامش توضح بعض معاني الكلمات والتعريفات .
5 - خرجت الآيات القرآنية .(188/5)
6 - خرجت الأحاديث والآثار من مصادرها الأصلية ذاكراً رقم الحديث أو الأثر وراويه وار..ت صحته ما لم يكن في الصحاح أو أحدهما وذلك بشكل موجز ومختصر يؤدي الغرض .
7 - اجتهدت كثيراً في إخراج الكتاب بصورة تسهل على القارئ فهمه.
8 - وضعت فهارس للآيات ، والأحاديث والآثار ، وفهرس إجمالي للموضوعات وأخر تفصيلي .
…وبعد : فلقد بذلت جهدي واجتهدت في إخراج هذا الكتاب بالصورة التي تؤدي إلى مقصد المؤلف ، ولا يسعني إلا أن أقول ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه : "فإن يك صواباً فمن الله عز وجل، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله عز وجل ورسوله بريئان" وحسبي أن للمجتهد أجراً إذا أخطأ فأرجو ألا يفوتني الأجر في كلتا الحالتين إن شاء الله.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
أبو محمد
علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المحمود على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فإني أذكرك أيها الصديق الأوفى، والخالصة الأَصفى، في مقدمة ينبغي تقديمها قبل الشروع في المقصود، وهي معنى قول رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: ((بُدِىءَ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بُدِىءَ فطُوبى للغُرَباءِ، قيل: ومن الغرباء يا رسول اللّه؟ قال: الذين يُصْلِحُون عند فساد الناس))(1).
__________
(1) صحيح] رواه الأجري في ((الغرباء)) (5)، والداني في ((السنن الواردة في الفتن)) (882)، وانظر ((السلسلة الصحيحة)) (3721)، وشطره الأول قبل السؤال رواه جمع من الصحابة قد يصل إلى حد التواتر وهو عند مسلم (541) من حديث أبي هريرة وفي جميع الروايات بلفظ ((بدأ)) بالفعل المبني للمعلوم.(188/6)
وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الإسلام وآخره، وذلك أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بعثه اللّه تعالى على حين فترة من الرسل، وفي جاهلية جهلاء، لا تعرف من الحق رسماً، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكماً، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنته أَسلافها، من الآراءِ المنحرفة، والنحل المخترعة، والمذاهب المبتدعة، فحين قام فيهم - صلى الله عليه وسلم - بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيراً، فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر، ونسبوا إليه كل محال، ورموه بأَنواع البهتان، فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق، وآونة يتهمونه بالسحر، وكرة يقولون: إنه مجنون، كل ذلك دعاء منهم إلى التأسي بهم والموافقة لهم على ما ينتحلون، فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم، لأنه خرج عن معتادهم وأتي بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم.
فأَبى عليه الصلاة والسلام إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب؛ وأنزل اللّه: {قُلْ يا أَيُّها الكافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ ما تعْبُدُونَ} إلى آخر السورة، فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة، ورموه بسهام القطيعة، وصار أَهل السلم كلهم حرباً عليه، عاد الوليُّ الحميم، عليه كالعذاب الأَليم، فأَقربهم إليه نسباً كان أَبعد الناس عن موالاته، كأَبي جهل وغيره، وأَلصقهم به رحماً؛ كانوا أَقسى قلوباً عليه، فأَي غربة توازي هذه الغربة؟ ومع ذلك فلم يكله اللّه إلى نفسه، ولا سلطهم على النَّيْل من أَذاه، بل حفظه وعصمه، وتولاه بالرعاية والكلاءَة، حتى بلغ رسالة ربه ثم ما زالت الشريعة في أَثناءِ نزولها، وعلى توالي تقريرها، تبعد بين أَهلها وبين غيرهم، وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا، وما زال عليه الصلاة والسلام يدعو لها، فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد، خوفاً من عاية الكفار، زمان ظهورهم على دعوة الإسلام.(188/7)
ثم استمرَّ تزيُّدُ الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعد موته؛ وأَكثر قرن الصحابة رضي اللّه عنهم، إلى أَن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأَصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله: ((يقتلون أَهل الإسلام، ويدعون أَهل الأَوثان، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم)) يعني لا يتفقهون فيه، بل يأْخذونه على الظاهر: كما بينه حديث ابن عمر الآتي بحول اللّه. وهذا كله في آخر عهد الصحابة.
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة))(1) وفي الحديث الآخر ((لتتبعُن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم)) قلنا: يا رسول اللّه اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟))(2) وهذا أَعم من الأول فإن الأَول عند كثير من أَهل العلم خاص بأَهل الأَهواءِ وهذا الثاني عام في المخالفات، ويدل على ذلك من الحديث قوله: ((حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم)).
وكل صاحب مخالفة فمن شأْنه أَن يدعو غيره إليها، ويحض سؤاله بل سواه عليها، إذ التأَسي في الأَفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأُ العداوة والبغضاء للمختلفين.
__________
(1) حسن] رواه أبو داود (6954) والترمذي (0462) وابن ماجه (1993) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669) وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.(188/8)
كان الإسلام في أوله وجِدَّتِه مقاوماً بل ظاهراً، وأهله غالبون وسوادهم أعظم الأسودة، فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياءِ الناصرين، فلم يكن لغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها، ولا قوة يضعف دونها حزب اللّه المفلحون، فصار على استقامة، وجرى على اجتماع واتساق، فالشاذ مقهور مضطهد، إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود؛ وقوته إلى الضعف المنتظر، والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده، واقتضى سرَّ التأسي المطالبة بالموافقة ولا شك أن الغالب أغلب، فتكالبت على سواد السنة البدع والآهراء، فتفرق أكثرهم شيعاً. وهذه سنة اللّه في الخلق: إن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل لقوله تعالى: {وما أكْثر النَّاسِ ولوْ حَرصتْ بمُؤمِنِين}(1)1) ، وقوله تعالى: {وقلِيلٌ مِنْ عِبَادي الشَّكُورُ}(2) ولينجز الله ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكراً؛ والمنكر معروفاً، وتصير السنة بدعة، والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف؛ كما كان أولاً يقام على أهل البدعة، طمعاً من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال، ويأْتي الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها ـ على كثرتها ـ على مخالفة السنة عادة وسمعاً، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأْتي أمر الله، غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناضبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم، لا يزالوان في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع؛ آناءَ الليل والنهار،
وبذلك يضاعف اللّه لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم.
__________
(1) يوسف: 301.
(2) سبأ: 13.(188/9)
فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جارٍ مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان، فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان، ومن خالف فهو المخطيء المصاب، ومن وافق فهو المحمود السعيد، ومن خالف فهو المذموم المطرود، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية، ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية(1) .
* * *
الباب الأول
(في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظاً)
وأصل مادة ((بدع)) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّموَاِت والأرْضِ}(2)1) أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدم، وقوله تعالى: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِن الرُّسُل}(3)2) ، أي ما كنت أول من جاءَ بالرسالة من اللّه إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه.
__________
(1) تكلم الشاطبي في الأصل (1/24 ـ 35) عن طلبة العلم واتباعه للسنة وما ألصقه به قومه من التهم والتبديع ومن ذلك أنه لا يرى الدعاء بهيئة الاجتماع ولا الدعاء للخلفاء الراشدين على المنابر فاتُهم بالرفض والخروج ومخالفة السنة والجماعة، ثم ذكر رحمه الله أن ذلك من أسباب تأليفه الكتاب.
(2) البقرة: 117، الأنعام: 101.
(3) الأحقاف: 9.(188/10)
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة: فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة فالبدعة إذن عبارة عن ((طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه)) وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: ((البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية)) ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لآنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم.
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأْي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأُصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأُصولها موجودة في الشرع.
(فإن قيل): فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.
(فالجواب): أن له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص، فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأْتي بسطها بحول الله.(188/11)
فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأْخوذة من جزئي واحد؛ فلبست ببدعة البتة.
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة، لآن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحاً، وهو باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة.
ويلزم أن يكون دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.
وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة.
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة، بدعة أصلاً.
وقوله في الحد ((تضاهي الشرعية)) يعني: أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة:
منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.
ومنها: التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً، وما أشبه ذلك.
ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته.
وقوله: ((يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى)) هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.
وذلك أن أصل الدخول فيها بحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك. لأن الله تعالى يقول: {وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونَ}(1)1)، فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ.
__________
(1) الذريات: 56.(188/12)
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات. فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية.
وأما الحد على الطريقة الأُخرى(1) فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية.
ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأْتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته. لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها.
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله.
فصل
[البدعة التَّركيَّة]
وفي الحد أيضاً معنى آخر مما ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها: إنها طريقة في الدين مخترعة ـ إلى آخره ـ يدخل في عموم لفظها البدعة التَّرْكِيَّةُ، كما يدخل فيه البدعة غير التركية فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم، فإن الفعل ـ مثلاً ـ قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصداً.
فبهذا الترك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعاً أولاً، فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب تركه، كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك: بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب، وإن قلنا بإباحة التداوي، فالترك مباح.
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذراً مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين، وكتارك المتشابه، حذراً من الوقوع في الحرام، واستبراءَ للدين والعرض.
__________
(1) أي على طريقة من يدخل العادات في معنى البدع.(188/13)
وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تديناً أولاً، فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل في العادات. وأما على الطريقة الآُولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصياً بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل اللّه.
وأما إن كان الترك تديناً فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد فرضنا الفعل جائزاً شرعاً فصار الترك المقصود معارضة للشارع.
لأن بعض الصحابة همَّ أن يحرم على نفسه النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هم ببالاختصاء، مبالغة في ترك شأْن النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رغب عن سنتي فليس مني))(1).
فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل اللّه من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعامل بغير السنة تديناً، هو المبتدع بعينه.
(فإن قيل) فتارك المطلوبات الشرعية ندباً أو وجوبباً، هل يسمى مبتدعاً أم لا؟
(فالجواب) أن التارك للمطلوبات على ضربين:
(أحدهما) أن يتركها لغير التدين إما كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية. فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر، فإن كان في واجب فمعصية وإن كان في ندب فليس بمعصية، إذا كان الترك جزئياً، وإن كلياً فمعصية حسبما تبين في الأُصول.
(والثاني) أن يتركها تديناً. فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع اللّه.
فإذاً قوله في الحد: (( طريقة مخترعة تضاهي الشرعية)) يشمل البدعة التركية، كما يشمل غيرها، لآن الطريقة الشرعية أيضاً تنقسم إلى ترك وغيره.
وسواءٌ علينا قلنا: إن الترك فعل أم قلنا: إنه نفي الفعل.
__________
(1) رواه البخاري (5063) ومسلم (1401) وهو جزء من حديث رواه أنس بن مالك في خبر النفر الثلاثة الذين سألوا عن عمل رسول الله.(188/14)
وكما يشمل الحدُّ الترك يشمل أيضاً ضد ذلك.
وهو ثلاثة أقسام:
قسم الاعتقاد، وقسم القول، وقسم الفعل، فالجميع أربعة أقسام.
وبالجملة، فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي، يتعلق به الابتداع.
الباب الثاني
((في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها))
لا خفاءَ أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها، لآن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية، وبيان ذلك من جهة النظر، والنقل الشرعي العام.
فصل
[الأدلة من النظر على ذم البدع]
أما النظر فمن وجوه:
(أحدها) أنه قد علم بالتجارب والخبرة.
أن العقول غير مستقلة بمصالحها، استجلاباً لها، أو مفاسدها، استدفاعاً لها. لآنها إما دنيوية أو أُخروية.
فأما الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البتة لا في ابتداء وضعها أوَّلاً، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها، إما في السوابق، وإما في اللواحق، لآن وضعها أوَّلاً لم يكن إلا بتعليم اللّه تعالى.
فلولا أن منَّ اللّه على الخلق ببعثه الأنبياء لم تستقم لهم حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين.
وأما المصالح الأُخروية، فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها، وهي العبادات مثلاً. فإن العقل لا يشعر بها على الجملة، فضلاً عن العلم بها على التفضيل.
فعلى الجملة، العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي. فالابتداع مضاد لهذا الأصل، لأنه ليس له مستنداً شرعي بالفرض، فلا يبقى إلا ما ادَّعوه من العقل.
فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها، ما رام تحصيله من جهتها، فصارت كالعبث.
(والثاني) أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لآن اللّه تعالى قال فيها: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِتُ لكَمْ الإسلامَ دِيناً}(1).
__________
(1) المائدة: 3(188/15)
وفي حديث العرباض بن سارية: وعظنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول اللّه، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال: ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) الحديث(1).
فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله:
إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياءُ يجبَ أو يستحب استدراكها، لآنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لآن اللّه يقول: {اليوم أكملتُ لكم دينكم} فما لم يكن يومئذٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً.
(والثالث) أن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌّ له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعدِّيها ـ إلى غير ذلك، لآن اللّه يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. فالمبتدع رادٌ لهذا كله، فإنه يزعم أن ثمَّ طرقاً أُخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم، ونحن أيضاً نعلم. بل ربما يُفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم ما لم يعلمه
الشارع.
وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود، فهو ضلال مبين.
__________
(1) صحيح] رواه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42، 43، 44) وغيرهم مع اختلاف يسير في اللفظ.(188/16)
(الرابع) أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع، لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك، لآنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون. وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس. ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام.
هذا الذي ابتدع في دين اللّه قد صير نفسه نظيراً ومضاهياً للّه حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف باباً؛ ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع.
(والخامس) أنه اتباع للهوى لآن العقل إذا لك يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين. ألا ترى قول اللّه تعالى: {يا داودُ إنا جعلناك خليفةً في الأرضِ فاحكم بين النَّاس بالحقِّ ولا تتبع الهوى فيضلَّك عن سبيل اللّه، إن الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديدٌ بما نسوا يوم الحساب}(1).
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجرداً إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك. وقال {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}(2) فجعل الأمر محصوراً بين أمرين، ابتاع الذكر، واتباع الهوى، وقال {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هُدى من اللّه}(3).
وهي مثل ما قبلها. وتأملوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى اللّه في هوى نفسه، فلا أحد أضل منه.
وهذا شأْن المبتدع، فإنه اتبع هواه بغير هدى من اللّه. وهدى اللّه هو القرآن.
وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين: أحدهما، أن يكون تابعاً للأمر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال.
والآخرُ أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول، والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى اللّه فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى.
وقد انجر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه، وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين:
__________
(1) ص: 26.
(2) الكهف: 28.
(3) القصص: 50.(188/17)
أحدهما: الشريعة، ولا مرية في أنها علم وحق وهدى؛ والآخر الهوى، وهو المذموم، لأنه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذم، ولم يجعل ثمَّ طريقاً ثالثاً. ومن تتبع الآيات، ألفى ذلك كذلك.
فصل
[الأدلة من النقل على ذم البدع]
وأما النقل فمن وجوه:
(أحدها) ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين اللّه في الجملة. فمن ذلك:
1ــ قول اللّه تعالى: {وأنَّ هذا صِراطِي مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تتَّبعُوا السبُل فتفرَّق بِكُمْ عنْ سَبُيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لعَلَّكُمْ تتَّقُون}(1) فالصراط المستقيم هو سبيل اللّه الذي دعا إليه وهو السنة والسبل هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع. وليس المراد سبل المعاصي، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقاً تُسْلك دائماً على مضاهاة التشريع. وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات.
ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدّثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد اللّه قال: خط لنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يوماً خطاً طويلاً، وخط لنا سليمان خطاً طويلاً، وخط عن يمينه وعن يساره فقال: ((هذا سبيلُ اللّهِ)) ثم خط لنا خطوطاً عن يمينه ويساره وقال: ((هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم تلا هذه الآية: {وأنَّ هذا صِراطِى مُسْتقِيماً فاتَّبِعُوهُ ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} ـ يعني الخطوط ــ (فتفرَّقَ بِكمْ عنْ سَبِيلِهِ)(2).
قال بكر بن العلاء: أحسبه أراد شيطاناً من الإنس وهي البدع واللّه أعلم.
وعن مجاهد في قوله (ولاَ تَتَّبِعُوا السُّبُل) قال: البدع والشبهات.
__________
(1) الأنعام: 153.
(2) حسن أو صحيح] رواه أحمد رواه أحمد (4142 و 4437) الدارمي (202) وابن أبي عاصم في السنه (17)، وصححه الحاكم (2/813) وأقره الذهبي.(188/18)
2ــ قول اللّه تعالى: {وعلَى اللّه قصْدُ السَّبِيلِ ومِنْها جائِرٌ ولوْ شَاءَ لهَداكُمْ أجْمعِين}(1) فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق؛ أي عادل عنه، وهي طرق البدع والضلالات، أعاذنا اللّه من سلوكها بفضله. وكفى بالجائر أن يحذر منه. فالمساق يدل على التحذير والنهي.
عن التستري: ((قصد السبيلُ)) طريق السنة، ((ومنها جائرٌ)) يعني إلى النار، وذلك الملل والبدع.
وعن مجاهد ((قصد السبيل)) أي المقتصد منها بين الغلو والتقصير، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر، وكلاهما من أوصاف البدع.
3ــ {إنَّ الَّذِين فرَّقوا دِينهُمْ وَكانُوا شِيعاً لسْت مِنْهُمْ في شْيءٍ إنَّما أمْرُهُمْ إلىَ اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يفْعَلُون}(2).
قال ابن عطيّة: ((هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام. هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوءِ المعتقد))
قال القاضي [إسماعيل]: ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية؛ لآنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعاً.
فلنقتصر على ما ذكرنا، ففيه ــ إن شاء اللّه ــ الموعظة لمن اتعظ، والشقاء لما في الصدور.
الوجه الثاني من النقل: ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، وهي كثيرة تكاد تفوت الحصر، إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك ــ بحول اللّه ــ ما هو أقرب إلى الصحة. فمن ذلك:
__________
(1) النحل: 9.
(2) الأنعام: 159.(188/19)
1ــ ما في الصحيح من حديث عائشة رضي اللّه عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ))(1) وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ))(2) وهذا الحديث عدّة العلماءُ ثلث الإسلام، لآنه جمع وجوه المخالفة لآمره عليه السلام. ويستوى في ذلك ما كان بدعة أو معصية.
2ــ وخرج مسلم عن جابر بن عبداللّه أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب اللّه، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأُمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة))(3).
وفي رواية قال كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس، يحمد اللّه ويثنى عليه بموا هو أهله ثم يقول: ((من يهدِه اللّه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلِ اللّه فلا هادي له، وخير الحديث كتاب اللّه، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأُمور محدثاتها وكل محدثة بدعة))(4).
3ــ وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: ((من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أُجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً))(5).
__________
(1) رواه البخاري (2697) ومسلم (1718).
(2) رواه مسلم (1718).
(3) رواه مسلم (867).
(4) رواه مسلم (867).
(5) رواه مسلم (2674).(188/20)
4ــ وروى الترمذي وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال قائل: يا رسول اللّه؟ كأن هذا موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أُوصيكم بتقوى اللّه والسمع والطاعة لوله الأمر وإن كان عبداً حبشياً. فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأُمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة))(1).
5ــ وفي الصحيح عن حذيفة أنه قال: يا رسول اللّه! هل بعد هذا الخير شر؟ قال: ((نعم قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي)) قال فقلت: هل بعد ذلك الشر من شر؟ قال: ((نعم دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها)) قلت: يا رسول اللّه، صفهم لنا. قال ((نعم هم من جلدتنا، ويتكلمون بألستنا)) قلت: فما تأْمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) قلت: فإن لم يكن إمام ولا جماعة؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))(2).
6ــ ومما جاء في هذا الباب أيضاً ما خرج ابن وضاح ونحوه لابن وهب عن أبي هريرة أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيكون في أُمتي دجالون كذَّابون يأْتونكم بِبِدْعٍ من الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤهم، فإياكم إياهم لا يفتنونكم))(3).
الوجه الثالث من النقل: ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي اللّه عنهم في ذم البدع وأهلها وهو كثير.
__________
(1) صحيح] تقدم تخريجه ص6.
(2) رواه البخاري (3606، 7084) ومسلم (1847) ولفظه أقرب إليه، وقد أسقط المؤلف أول الحديث.
(3) رواه مسلم (7) بلفظ ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم ولا يضلونكم ولا يفتنونكم)).(188/21)
1ــ عن عبداللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنه قال: اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم(1).
2ــ عن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه أنه قال يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيه القرآن، حتى يأْخذه المؤمن والمنافق، والرجل، والمرأة، والصغير، والكبير، والعبد، والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأْت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة، وأُحذِّركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.
قال الراوي: قلت لمعاذ: وما يدريني يرحمك اللّه إن الحكيم قد يقول كلمة ضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى! اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها: ما هذه؟ ولا يثنينَّك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع وتلقَّ الحقَّ إذا سمعته فإن على الحق نوراً(2).
ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي اللّه عنهم.
1ــ عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: لأن أرى في المسجد ناراً لا أستطيع إطفاءها، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها.
2ــ وعن الفضيل بن عياض: اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
3ــ وعن ابن المبارك قال: اعلم أي أخي! إن الموت كرامة لكل مسلم لقي اللّه على السنة، فإنا للّه وإنا إليه راجعون، فإلى اللّه نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع. وإلى اللّه نشكو عظيم ما حل بهذه الأُمة من ذهاب العلماء وأهل السنة، وظهور البدع.
فصل
[ما جاء في ذم الرأي المذموم]
__________
(1) صحيح] رواه اللالكائي في شرح السنة (104)، وأبو خيثمة في كتاب ((العلم)) (54) ــ بإسناد صححه الألباني ــ، وغيرهما بألفاظ متقاربة.
(2) صحيح] رواه أبو داود (4611) وغيره.(188/22)
وهو المبني على غير أُسّ، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة، لكنه وجه تشريعي فصار نوعاً من الابتداع، بل هو الجنس فيها، فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل، ولذلك وصف بوصف الضلال. ففي الصحيح عن عبداللّه بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن اللّه لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعاً. ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يُسْتَفْتوْن فيُفتون برأيهم فيَضلون ويُضلون))(1).
وقد اختلف العلماءُ في الرأي المقصود. فقد قالت طائفة: المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن، لكن في الاعتقاد(2) كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام لأنهم استعملوا آرائهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل وفي رد ظواهر القرآن لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل.
وقالت طائفة: إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع، فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي، وخروج عن الشرع وهذا هو القول الأظهر. إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعاً دون نوع بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، كانت من الأصول أو الفروع.
وقالت طائفة الرأي المذكور هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، وردِّ الفروع والنوازع بعضها إلى بعض قياساً، دون ردها إلى أُصولها والنظر في عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل، وفرعت قبل أن تقع، وتُكلم فيها قبل أن تكون، بالرأي المضارع للظن، قالوا: لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب اللّه تعالى ومعانيه.
__________
(1) رواه البخاري 100، 7307، ومسلم 3762.
(2) أي: في الاعتقاد فقط.(188/23)
وهذا القول غير مخالف لما قبله، لآن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم، لآن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم، وهو ترك النظر في السنن اقتصاراً على الرأي، وإذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيه منع ما حواليه، وما دار به ورتع حول حماه. ألا ترى إلى قوله عليه السلام ((الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أُمور مشتبهة))(1): وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع، وهو منع الجائز لأنه يجر إلى غير الجائز. وبحسب عظم المفسدة في الممنوع، يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته.
والحاصل من جميع ما تقدم أن الرأي المذموم ما بنى على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه، وما كان منه ذريعة إليه وإن كان في أصله محموداً، وذلك راجع إلى أصل شرعي: فالأول داخل تحت حد البدعة وتتنزل عليه أدلة الذم، والثاني خارج عنه ولا يكون بدعة أبداً.
فصل
[ما في البدع من الأوصاف المحذورة، والمعاني المذمومة]
فاعلموا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات. ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه، والماشي إليه وموقرة معين على هدم الإسلام، فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة، ويزداد من اللّه بعبادته بعداً،؟! وهي مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، ومانعة من الشفاعة المحمدية، ورافعة للسنن التي تقابلها، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها، وليس له من توبة، وتلقى عليه الذلة والغضب من اللّه، ويبعد عن حوض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، ويخاف عليه أن يكون معدوداً في الكفار الخارجين عن اللّه، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا، ويسودُ وجهه في الآخرة يعذب بنار جهنم، وقد تبرأ منه رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، وتبرأ منه المسلمون، ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة.
__________
(1) رواه البخاري (2051) واللفظ له، ومسلم (1599) من حديث النعمان.(188/24)
فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل:
فكبدعة القدرية حيث قال فيها عبداللّه بن عمر: إذا لقيت أُولئك فأخبرهم أني بريءٌ منهم، وأنهم برءاء مني، فوالذي يحلف به عبداللّه بن عمر لو كان لأحدهم مثل أُحُدٍ ذهباً فأنفقه ما تقبله اللّه منه حتى يؤمن بالقدر(1).
ومثله حديث الخوارج وقوله فيه: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ــ بعد قوله ــ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم. الحديث(2).
وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة فكل مبتدع يخاف عليه مثل من ذكره، فإن كان المبتدع لا يقبل منه عمل، إما أن [يراد] أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه.
فأما الأول: فيمكن على أحد أوجه ثلاثة:
أن يكون على ظاهرة من أن كل مبتدع أي بدعة كانت؛ فأعماله لا تقبل معها ــ داخلتها تلك البدعة أم لا.
2ــ أن تكون بدعته أصلاً يتفرع عليه سائر الأعمال، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق، فإن عامة التكليف مبني عليه، لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب اللّه أو من سنة رسوله. وما تفرع منهما راجع إليهما.
3ــ أن صاحب البدعة في بعض الأُمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى الأويل الذي يُصيِّر اعتقاده في الشريعة ضعيفاً، وذلك يبطل عليه جميع عمله. بيان ذلك أمثلة:
منها أن يترك العقل مع الشرع في التشريع، وإنما يأتي الشرع كاشفاً لما اقتضاه العقل، فيا ليت شعري هل حكَّم هؤلاء في التعبد للّه شرعه أم عقولهم؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكماً متبعاً، وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة، فكل ما عمل هذا العامل مبنياً على ما اقتضاه عقله، وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع.
__________
(1) رواه مسلم (8).
(2) رواه البخاري (5058، 6931 ــ 6934)، ومسلم (1064).(188/25)
ومنها أن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعدُ، فلا يكون لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(1) معنى يعتبر به عندهم.
(وأما الثاني) وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضاً، وعليه يدل الحديث المتقدم ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهور رد))(2) والجميع من قوله: ((كل بدعة ضلالة)) أي أن صاحبها ليس على الصراط المستقيم، وهو معنى عدم القبول، وفاق قول اللّه: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(3)، وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام، ولا على الصيام دون الزكاة، ولا على الزكاة دون الحج، ولا على الحج دون الجهاد، إلى غير ذلك من الأعمال، لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع، وهو الهوى والجهل بشريعة اللّه، كما سيأتي إن شاء اللّه.
__________
(1) المائدة: 3.
(2) صحيح] تقدم ص9.
(3) الأنعام: 153.(188/26)
وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه، فإن اللّه تعالى إلينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلاً، ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلاً، ولا من مصالحنا الأُخروية قليلاً ولا كثيراً، حتى بعث اللّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - لزوال الريب والالتباس، وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس، فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة، والعطايا الجزيلة، وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلاً، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه، فهو حقيق بالبعد عن الرحمة. قال اللّه تعالى: {واعْتصِمُوا بِحبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا}(1)، بعد قوله: {اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}(2) فأشعر أن الاعتصام بحبل اللّه هو تقوى اللّه حقاً، وأن ما سوى ذلك تفرقة، لقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة، لآنه خرج عن حكم اللّه وباين جماعة أهل الإسلام.
وأما أن الماشي إليه والموقِّر له معين على هدم الإسلام، فلقوله عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين))(3) الحديث.
فإن الإيواء بجامع التوقير، ووجه ذلك ظاهر لأن المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته والشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو أشد من هذا، كالضرب والقتل، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام، وإقبالاً على ما يضاده وينافيه، والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه.
__________
(1) آل عمران: 103.
(2) آل عمران: 102.
(3) رواه البخاري (1870، 3179) ومسلم (1370) من حديث علي بن أبي طالب وهو جزء من حديث الصحيفة المشهورة، ومسلم (1366) من حديث أنس بن مالك وعند مسلم أيضاً (1371) من حديث أبي هريرة.(188/27)
وأيضاً فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم:
إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم.
والثانية: أنه إذا وُقِّرَ من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيءٍ.
فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه، وعلى ذلك دلَّ النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار، لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس، لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين.
وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة؛ فلقوله عليه الصلاة والسلام: (( من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين))(1)، وعد من الإحداث، الاستنان بسنة سوء لم تكن.
وأما أنه يزداد من اللّه بعداً. فلما روى عن الحسن أنه قال: صاحب البدعة ما يزداد اللّه اجتهاداً، صياماً وصلاة، إلا ازداد من اللّه بعداً.
وعن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من اللّه بعداً.
ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج ((يخرج من ضئضيء هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية))(2) فبين أولاً اجتهادهم ثم بيَّن آخراً بُعْدهُمْ من اللّه تعالى.
وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام. فلأنها تقتضي التفرق شيعاً.
__________
(1) صحيح] تقدم تخريجه قريباً.
(2) صحيح] تقدم تخريجه ص12.(188/28)
وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولا تتبعوا السبُل فتفرق بكم عن سبيله}(1)، وقوله: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيعاً لَسْت مِنْهُمْ في شَيْءٍ}(2)، وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى.
وقد بيَّن عليه الصلاة والسلام أن فساد ذات البيْنِ هي الحالقة وأنها تحلق الدين، هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع.
وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعُون الكفار. ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل.
ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأْنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم.
وأيضاً فإن أهل السنة مأْمورون بعداوة أهل البدع وقد حذَّر العلماءُ من مصاحبتهم ومجالستهم، وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء. لكن الدرك فيها على من تسبب في الخروج عن الجماعة مما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقاً. كيف ونحن مأْمورون بمعاداتهم وهم مأْمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة؟.
__________
(1) الأنعام: 103.
(2) الأنعام: 159.(188/29)
وأما أنها مانعة من شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما في الصحيح قال: ((أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإنه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله ـ فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم)) الحديث(1)، ففيه أنه لم يذكر لهم شفاعة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، ويظهر من أول الحديث أن ذلك الارتداد لم يكن كفر لقوله: ((وإنه سيؤتى برجال من أمتي)) ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نسبوا إلى أُمته، ولأنه عليه السلام أتى بالآية وفيها: {وإنْ تغْفِرْ لهُمْ فإنَّك أنْتَ العزِيزُ الْحَكِيمُ}(2)، ولو علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها، لأن من مات على الكفر لا غفران له البتة، وإنما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الإسلام لقول اللّه تعالى: {إنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أنْ يُشْرَك بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِك لِمَنْ يشَاءُ}(3).
وأما أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة؛ فلقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيِامَةِ ومِنْ أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}(4) ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: ((من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها}(5) الحديث.
وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن اللّه حجر التوبة على كل صاحب بدعة))(6).
__________
(1) رواه البخاري (6526، 3349، 3447) ومسلم (2860) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) المائدة: 118.
(3) النساء: 116.
(4) النحل: 25.
(5) رواه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه، وسيأتي بطوق ص25.
(6) صحيح] رواه أبو الشيخ في ((تاريخ أصبهان)) والطبراني في ((الأوسط)) والبهقي في ((الشعب)) وغيرهم. انظر ((السلسلة الصحيحة)) (1620) وقد ورد بلفظ ((حجب)) و ((احتجز)) و((احتجب)).(188/30)
ويدل على ذلك أيضاً حديث الفرق إذ قال فيه: ((وإنه سيخرج في أُمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواءُ، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله))(1) وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق، ولكنه قد يحمل على العموم العادي، إذ لا يبعد أن يتوب عما رآى ويرجع إلى الحق، كما نقل عن عبداللّه بن الحسن العنبري، وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على عليّ رضي اللّه عنه، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم. ولكن الغالب في الواقع الإصرار.
ومن هنا قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهرة، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء اللّه.
وسبب بعده عن التوبة: أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى، وصاد عن سبيل الشهوات، فيثقل عليها جداً لأن الحق ثقيل، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه، وكل بدعة فللهوى فيها مدخل، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع، فعل حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أُخرى، وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع، ويدعِي أن ما ذكره هو مقصود الشارع، فصار هواه مقصوداً بدليل شرعي في زعمه، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعى الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة.
__________
(1) حسن] رواه أبو داود (4597) وأحمد (4/102) وغيرهما وهي زيادة في حديث الفرق.(188/31)
وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من اللّه تعالى. فلقوله تعالى: {إنَّ الذِينَ اتخَذُوا الْعِجْلَ سَينَالهُمْ غَضَبٌ مِن رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ في الحياةِ الدُّنْيا وكذلِك نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}(1) قال اللّه تعالى: {وَكذلِكَ نجْزِي المُفْتَرِينَ} فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم، من حيث كانت البدع كلها افتراء على اللّه حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى: {قَدْ خَسِر الَّذِينَ قتَلُوا أولاَدهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْم وحرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِراءً علَى اللّهِ}(2) الآية.
فإذاً كل من ابتدع في دين اللّه فهو ذليل حقير بسبب بدعته، وإن ظهر لبادي الرأي في عزه وجبريته فهم في أنفسهم أذلاء، وأيضاً فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال. ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين، وفيما بعد ذلك؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا، ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور، وعمل بأعمالها على التَّقِيَّة.
وأما البعد عن حوض رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: [فلحديث] أسماء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أنا على حوضي انتظر من يرد عليَّ، فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: أمتي، فيقال: إنك لا تدري، مشوا القهقرى))(3).
__________
(1) الأعراف: 152.
(2) الأنعام: 140.
(3) رواه البخاري (7048) ومسلم (2293).(188/32)
وأما الخوف عليه من أن يكون كافراً. فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم، ودل على ذلك ظاهر قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَيْءٍ}(1) وقوله: {يَوْمَ تبْيَضُّ وُجُوهٌ وتسْوَدُّ وُجُوهٌ}(2) الآية. وقد حكم العلماءُ بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم، والعلماءُ إذا اختلفوا في أمر: هل هو كفر أم لا؟ فكل عاقل يربأُ بنفسه أن ينسب إلى خطة خسف كهذه بحيث يقال له: إن العلماءَ اختلفوا: هل أنت كافر أم ضال غير كافر؟ أو يقال: إن جماعة من أهل العلم قالوا بكفرِك وأنت حلال الدم.
وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ باللّه. فلآن صاحبها مرتكب إثماً، وعاصٍ للّه تعالى حتماً، ومن مات مصراً على المعصية فيخاف عليه.
لآن المبتدع مع كونه مصراً على ما نهى عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله، غير مسلم لها في تحصيل أمره، معتقداً في المعصية أنها طاعة، حيث حسن ما قبحه الشارع، وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمة نظره، فهو قد قبح ما حسنه الشارع، ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء اللّه.
وأما اسوداد الوجه في الآخرة، فلقوله تعالى: {يومَ تَبْيَضُّ وجوهٌ وَتَسْوَدُّ وجوهٌ}(3).
وأما البراءَة منه ففي قوله: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شيءٍ}(4).
وقال ابن عمر رضي اللّه عنه في أهل القدر: إذا لقيت أُولئك فأخبرهم أني برىء منهم وأنهم براء مني(5).
__________
(1) الأنعام: 159.
(2) آل عمران: 106.
(3) آل عمران: 106.
(4) الأنعام: 159.
(5) صحيح] تقدم تخريجه ص12.(188/33)
والآثار في ذلك كثيرة. ويعضدها ما روى عنه عليه السلام أنه قال: ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخلل))(1). ووجه ذلك ظاهر.
وأما أنه يخشى عليه الفتنة. فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال: سألت مالكاً عمن أحرم من المدينة وراءَ الميقات؟ فقال: هذا مخالف للّه ورسوله، أخشى عليه الفتنة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة. أما سمعت قوله تعالى: {فلْيَحْذَرِ الَّذِين يُخالِفُون عنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عذابٌ أليمٌ}(2) وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُهلَّ من المواقيت.
فهذه جملة يستدل بها على ما بقي، إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير، وبسط معانيها طويل، فلنقتصر على ما ذكرنا وباللّه التوفيق.
فصل
[الفرق بين البدعة والمعصية]
وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع، وهو أن البدع ضلالة، وأن المبتدع ضال ومضل، بخلاف سائر المعاصي، فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة أو شبه البدعة. وكذلك الخطأُ الواقع في المشروعات ـ وهو المعفوَّ ـ لا يسمى ضلالاً، ولا يطلق على المخطيء اسم ضال، كما لا يطلق على المعتمد لسائر المعاصي.
وذلك أن الضلال والضلالة ضد الهدْى والهدى، فصاحب البدعة لما غلب عليه الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره، فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم، فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة.
__________
(1) حسن] رواه أبو داود (4833) والترمذي (2378) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ ((الرجل على دين خليله)).
(2) النور: 63.(188/34)
فالمبتدع من هذه الأُمة إنما ضلَّ في أدلتها حيث أخذها مأْخذ الهوى والشهوة لا مأْخذ الانقياد تحت أحكام اللّه. وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره، لآن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه، وأخذ الأدلة بالتبع، فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأُصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع.
والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعاً ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته، بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه؛ وأخَّر هواه فجعله بالتبع.
وفيصل القضية بينهما قوله تعالى: {فَأمَّا الَّذِين فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فيَتَّبِعُونَ ما تَشَابه مِنْهُ ـ إلى قوله ـ والرَّاسِخُون فِى الْعِلْمِ يقُولُون آمنَّا بِهِ كلُّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}(1) فلا يصح أن يسمى من هذه حاله مبتدعاً ولا ضالاً، وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه.
أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة، مؤخراً هواه، ومقدماً لأمر اللّه.
وأما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك، وإليها لجأ، فإن خرج عنها يوماً فأخطأ فلا حرج عليه، بل يكون مأْجوراً حسبما بيَّنه الحديث الصحيح: ((إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ وإن أصاب فله أجران))(2) وإن خرج متعمداً فليس على أن يجعل خروجه طريقاً مسلوكاً له أو لغيره، وشرعاً يدان به.
* * *
الباب الثالث
[في أن ذم البدع عامٌّ لا يخص واحدة دون أخرى ، وفيه جملة من شبه المبتدعة ]
فاعلموا ـ رحمكم اللّه ـ أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه:
__________
(1) آل عمران: 7.
(2) رواه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.(188/35)
أحدها: أنها جاءت مطلقة غامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة، ولا جاء فيها: كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا، ولا شيء من هذه المعاني، فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات، لذكر ذلك في آية أو حديث، لكنه لا يوجد، فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد.
الثاني: أنه قد ثبت في الأُصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أُصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها، وإعادة تقررها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى: {وَلاَ تزِرُ وازرِةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(1) ، {وَأنْ ليْس لِلاْنْسَانِ إلاَّ مَا سعَى}(2) وما أشبه ذلك.
والثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك، وتقبيحها والهروب عنها، وعمن اتَّسم بشيءٍ منه، ولم يقع منهم في ذلك توقف، فهو ـ بحسب الاستقراء ـ إجماع ثابت، فدل على أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل.
الرابع: أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه، لأنه من باب مضادة الشارع واطِّراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقَّة الشارع.
ولما ثبت ذمها ثبت ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط، بل من حيث اتصف بها المتصف، فهو إذاً المذموم على الحقيقة، والذم خاصة التأْثيم، فالمبتدع مذموم آثم، وذلك على الاطلاق والعموم. ويدل على ذلك أربعةأوجه:
__________
(1) فاطر: 18.
(2) النجم: 39.(188/36)
1ــ أن الأدلة المذكورة إن جاءَت فيهم نصاً فظاهر، كقوله تعالى: {إنَّ الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُمُ وكانوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُم في شيءٍ}(1) وقوله: {ولاَ تَكُونْوا كالَّذِين تَفَرَّقُوا واخْتلفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُم الْبَيِّنات}إلى آخر الآية(2) وقوله عليه السلام ((فليذادان رجال عن حوضي))(3) الحديث ـ إلى سائر ما نص فيه عليهم. وإن كانت نصَّاً في البدعة فراجعة المعنى إلى المبتدع من غير إشكال، وإذا رجع الجميع إلى ذمهم، رجع الجميع إلى تأْثيمهم.
2ــ أن الشرع قد دل على أن الهوى هو المتَّبَع الأول في البدع، ودليل الشرع كالتبع في حقهم. ولذلك تجدهم يتأوَّلون كل دليل خالف هواهم، ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فأمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون مَا تَشابهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وابْتِغاءِ تأْوِيلِهِ}(4) فأثبت لهم الزيغ أولاً، وهو الميل عن الصواب، ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى.
__________
(1) الأنعام: 159.
(2) آل عمران: 105.
(3) رواه مسلم (249) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) آل عمران: 7.(188/37)
وقال تعالى: {وَلاَ تكُونوا كالَّذِين تَفَرَّقُوا واخْتَلفُوا مِنْ بعْدِ ما جاءَهُمُ الْبيِّناتُ}(1) فهذا دليل على مجيء البيان الشافي، وأن التفرق إنما حصل من جهة المتفرقين لا من جهة الدليل، فهو إذاً من تلقاء أنفسهم، وهو اتباع الهوى بعينه، والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه، وإذا اتبع هواه كان مذموماً وآثماً. والأدلة عليه أيضاً كثيرة، كقوله: {ومن أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَع هواهُ بِغَيْرِ هُدى مِن اللّهِ}(2) وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهوى فيُضِلَّكَ عنْ سبِيلِ اللّهِ؛ إنَّ الَّذِين يَضِلُّون عَنْ سبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شدِيدٌ}(3) وقوله: {ولاَ تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قلْبَهُ عنْ ذِكْرِنا واتَّبَع هَوَاه}(4) وما أشبه ذلك: فإذاً كل مبتدع مذموم آثم.
3ــ أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح، فهو عمدتهم الأُولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع، فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل: وقد يتهمون الأدلة إذ لم توافقهم في الظاهر، حتى يردوا كثيراً من الأدلة الشرعية.
فأنت ترى أنهم قدموا أهواءَهم على الشرع، ولذلك سُمُّوا أهل الأهواءِ، وذلك لغلبة الهوى على عقولهم واشتهاره فيهم، فإذاً تأْثيم من هذه صفته ظاهر لأن مرجعه إلى اتباع الرأي وهو اتباع الهوى المذكور آنفاً.
4ــ أن كل راسخ لا يبتدع أبداً، وإنما يقع الابتداع ممن لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه، فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يُحسبون أنهم علماءُ، وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهِيٌّ عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد، فإذا أقدم على محرم عليه كان آثاماً باطلاق.
وبهذه الأوجه الأخيرة ظهر وجه تأثيمه، وتبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطىء في اجتهاده.
__________
(1) آل عمران: 105.
(2) القصص: 50.
(3) ص: 26.
(4) الكهف: 28.(188/38)
وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم ولو فرض عاملاً بالبدعة المكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة التنزيه ـ لأنه إما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز، وإما نائب عن صاحبها مناضل عنه فيها بما قدر عليه، وذلك يجري مجرى المستنبط الأول لها، فهو آثم على كل تقدير.
فصل
[في أقسام المنسوبين إلى البدعة]
لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهداً فيها أو مقلداً، والمقلد إما مقلد مع الإقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلاً والأخذ فيه بالنظر، وإما مقلد له فيه من غير نظر كالعامي الصرف؛ فهذه ثلاثة أقسام:
فالقسم الأول [أن يكون مجتهداً في البدعة] على ضربين:
1ــ أن يصح كونه مجتهداً، فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأْويل الكتاب، أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة، والدليل عليه أنه ظهر له الحق أذعن له وأقرَّ به.
2ــ وأما إن لم يصح أنه من المجتهدين فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع، إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع، الهوى الباعث عليه في الأصل.
فكيف إذا انضاف إليه الهوى، وانضاف إلى هذين الأمرين دليل ـ في ظنه ـ شرعي على صحة ما ذهب إليه، فيتمكن الهوى من قلبه تمكناً لا يمكن في العادة الانفكاك عنه، وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه، فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثم من سنَّ سنة سيئة.
(القسم الثاني) [المقلد مع الإقرار بدليل المجتهد] يتنوع أيضاً، وهو الذي لم يستنبط بنفسه وإنما اتبع غيره من المستنبطين، لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها، وقام بالدعوة بها مقام متبوعه، لانقداحها في قلبه، فهو مثله، وإن لم يصر إلى تلك الحال ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى.(188/39)
(القسم الثالث) [مقلد في البدعة كالعامي الصرف]: وهو الذي قلد غيره على البراءَة الأصلية، فلا يخلو أن يكون ثَمَّ من هو أولى بالتقليد منه، أو لا يكون ثم من هو أولى منه، لكنه ليس في إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة: فإن كان هناك منتصبون فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع إليه، بل تركه ورضى لنفسه بأخسر الصفقتين فهو غير معذور، إذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر، فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط المستقيم.
وقَلَّ ما تجد من هذه صفته إلا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد.
وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس، مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين، ففي تأثيمه نظر.
فصل
[في لفظ ((أهل الأهواء)) و ((أهل البدع))]
إن لفظ ((أهل الأهواءِ)) وعبارة ((أهل البدع)) إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها، وقدموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها، والاستدلال على صحتها في زعمهم، كلفظ ((أهل السنة)) إنما يطلق على ناصريها، وعلى من استنبط على وفقها، والحامين لذمارها.
فلا يطلق على العوام لفظ ((أهل الأهواء)) حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا. وعند ذلك يتعين للفظ أهل الأهواء وأهل البدع مدلول واحد، وهو أنه: من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره. وأما أهل الغفلة عن ذلك والسالكون سبل رؤسائهم بمجرد التقليد من غير نظر فلا.(188/40)
فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين: مبتدع ومقتد به. فالمقتدي به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء لأنه في حكم المتبع، والمبتدع هو المخترع، أو المستدل على صحة ذلك الاختراع، وسواءٌ علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم، أو كان من قبيل الاستدلال العامي، فإن اللّه سبحانه ذم أقواماً قالوا: {إنَّا وجدْنا آباءَنا علَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدَونَ}(1) فكأنهم استدلوا إلى دليل جُمْلِىّ، وهو الآباءُ إذ كانوا عندهم من أهل العقل، وقد كانوا على هذا الدين، وليس إلا لأنه صواب، فنحن عليه، لأنه لو كان خطأُ لما ذهبوا إليه.
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد، ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل. ولكن مثل هذا يعد استدلالاً في الجملة من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى واطَّراح ما سواه، فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله، ودخل في مسمى أهل الابتداع، إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءَه، ويبحث ويتأنى ويسأل حتى يتبين له فيتبعه، أو الباطل فيجتنبه. ولذلك قال تعالى ردّاً على المحتجين بما تقدم: {قُلْ أوَلَوْا جِئْتُكُمْ بِأهْدَى مِمَّا وجدْتُمْ عليْهِ آبَاءَكُمْ؟}(2) وفي الآية الأُخرى: {وإذا قِيلَ لهُمُ: اتَّبِعُوا ما أنْزَل اللّهُ. قالوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عليْهِ آباءَنا} فقال تعالى: {أوَلَوْ كان آباؤُهُمْ لاَ يعْقِلون شيئاً وَلاَ يَهْتدُون؟}(3) وفي الآية الأُخرى {أوَلَوْ كان الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إلَى عذابِ السَّعِيرِ}(4) وأمثال ذلك كثير.
__________
(1) الزخرف: 22
(2) الزخرف: 24.
(3) البقرة: 170.
(4) لقمان: 21.(188/41)
وعلامة من هذا شأْنه أن يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي، ويتعصب لما هو عليه غير ملتفت إلى غيره، وهو عين اتباع الهوى. فهو المذموم حقاً. وعليه يحصل الإثم، فإن من كان مسترشداً مال إلى الحق حيث وجده ولم يرده، وهو المعتاد في طالب الحق. ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين تبين لهم الحق(1).
فصل
[إثم المبتدعين ليس على رتبة واحدة]
إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة، بل هو على مراتب مختلفة، من جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً [ومن جهة الدعوة إليها وعدمها](2) ، ومن جهة كون البدعة حقيقية أو اضافية، ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، ومن جهة كونها كفراً أو فير كفر، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه ـ إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن.
1ــ أما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان، فظاهر أن المسر بها ضرره مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة. هي باقية على أصل حكمها، فإذا أعلن بها ـ وإن لم يدْعُ إليها ـ فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به.
2ــ وأما الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها فظاهر أيضاً، لأن غير الداعي وإن كان عرضة بالاقتداء فقد لا يقتدي به، ويختلف الناس في توفر دواعيهم على الاقتداء به، إذ قد يكون خامل الذكر، وقد يكون مشتهراً ولا يقتدي به، لشهرة من هو أعظم عند الناس منزلة منه.
__________
(1) خلاصة كلام المصنف في العامي المقلد للمبتدع: إن عُرض عليه الحق فرفضه وأثر اتباع وتقليد المبتدع فهو مثله في الإثم، وإطلاق لفظ ((أهل الأهواء)) و((أهل البدع)) عليه، وإن كان عامياً لا يعرف إلا شيخه المبتدع ولم يعرض عليه أحدٌ الحق فقلد ذلك المبتدع فهو معذور.
(2) أوردت هذا ها هنا لأن المصنف أورده في الشرح كما سيأتي.(188/42)
وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر، ولا سيما المبتدع اللسن الفصيح الآخذ بمجامع القلوب، إذا أخذ في الترغيب والترهيب، وأدلى بشبهته التي تداخل القلب بزخرفها.
3ــ وأما الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية، فإن الحقيقية أعظم وزراً، لأنها التي باشرها المنتهى بغير واسطة، ولأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهراً.
4ــ وأما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ أو مشكلة، فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة، فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة، لإمكان أن لا تكون بدعة، والإقدام على المحتمل، أخفض رتبة من الإقدام على الظاهر.
5ــ وأما الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه فلأن الذنب قد يكون صغيراً فيعظم بالإصرار عليه، كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها، فإذا كانت فلتة فهي أهون منها إذا داوم عليها، ويلحق بهذا المعنى إذا تهاون بها المبتدع وسهل أمرها، نظير الذنب إذا تهاون به، فالمتهاون أعظم وزراً من غيره.
6ــ وأما الاختلاف من جهة كونها كفراً وعدمه فظاهر أيضاً، لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب ـ عافانا اللّه ـ فلا بدعة أعظم وزراً من بدعة تخرج عن الإسلام، والله المستعان بفضله.
فصل
[الحكم في القيام على أهل البدع]
وهذا باب كبير في الفقه تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين، وفسادهم في الأرض، وخروجهم عن جادة الإسلام، إلى بنيَّاتِ الطريق فنقول: إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكار هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين، أم لا وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا، وداعياً إليها أو لا، ومستظهراً بالأتباع وخارجاً عن الناس أو لا، وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا.(188/43)
وكل من هذه الأقسام له حكم اجتهاديّ يخصه، إذ لم يأت في الشرع في البدعة حدٌّ لا يزداد عليه ولا ينقص منه، كما جاء في كثير من المعاصي، كالسرقة والقتل والقذف والخمر وغير ذلك، ولا جرم أن المجتهدين من الأُمة نظروا فيها بحسب النوازل، وحكموا باجتهاد الرأي، تفريعاً على ما تقدم لهم في بعضها من النص، فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماءُ أنواع:
(أحدها) الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة كمسألة ابن عباس رضي اللّه عنه حين ذهب إلى الخوارج غكلمهم حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف.
(الثاني) الهجران وترك الكلام والسلام.
(الثالث) [التغريب] كما غرَّب عمر صبيغاً.
(الرابع) [السجن] كما سجنوا الحلاج قبل قتله سنين عديدة.
(الخامس) ذكرهم بما هم عليه وإشاعة بدعتهم كي يُحذروا، ولئلا يُغتر بكلامهم، كما جاء عن كثير من السلف في ذلك.
(السادس) القتال إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم كما قاتل عليٌّ رضي الله عنه الخوارج، وغيره من خلفاء السنة.
(السابع) القتل إن لم يرجعوا مع الاستتابة، قد أظهر بدعته.
(الثامن) من أسرَّها وكانت كفراً أو ما يرجع إليه فالقتل بلا استتابة لأنه من باب النفاق كالزنادقة.
(والتاسع) تكفير من دل الدليل على كفره، كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر.
(العاشر) لا يرثهم ورثتهم من المسلمين ولا يرثون أحداً منهم، ولا يغسلون إذا ماتوا، ولا يصلي عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين، ما لم يكن المستتر؛ فإن المستتر يحكم له بحكم الظاهر، وورثته أعرف بالنسبة إلى الميراث.
(الحادي عشر) الأمر بأن لا يناكحوا، وهو من ناحية الهجران، وعدم المواصلة.
(الثاني عشر) تجريحهم على الجملة، فلا تقبل شهادتهم ولا يكونون ولاة ولا قضاة، ولا ينصبون في مناصب العدالة من إمامة أو خطابة.
(الثالث عشر) ترك عيادة مرضاهم، وهو من باب الزجر والعقوبة.
(الرابع عشر) ترك شهود جنائزهم كذلك.
(الخامس عشر) الضرب كما ضرب عمر رضي الله عنه صبيغاً.
فصل(188/44)
[في شبه المبتدعة والرد عليهم]
فإن قيل: ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات وتقييد تلك المطلقات فلذلك قسم الناس البدع ولم يقوموا بذمها على الاطلاق.
وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه:
(أحدها) ما في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً(1).
وخرج الترمذي وصححه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من دلَّ على خير فله أجر فاعله))(2).
فهذه الأحاديث صريحة في أن من سن سنة خير فذلك خير، ودل على أنه فيمن ابتدع ((من سن)) فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ولو كان المراد ((من عمل سنة ثابتة في الشرع)) لما قال ((من سن)) ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنه أول من سن القتل))(3) فسن ـ ها هنا ـ على حقيقته لأنه اخترع ما لم يكن قبل معمولاً به في الأرض بعد وجود آدم عليه السلام.
فكذلك قوله: ((من سن سنة حسنة)) أي من اختراعها من نفسه لكن بشرط أن تكون حسنة فله من الأجر ما ذكر، فليس المراد: من عمل سنة ثابتة.
(والثاني): أن السلف الصالح رضي الله عنهم ـ وأعلاهم الصحابة ـ قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسناً وأجمعوا عليه، ولا تجتمع أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة.
فقد أجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف، وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية، واطِّراح ما سوى ذلك من القراءَات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن في ذلك نص ولا حظر.
__________
(1) صحيح] تقدم تخريجه ص15.
(2) رواه مسلم (1893) وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
(3) رواه البخاري (3335، 7321) ومسلم (1677) من حديث عبدالله بن مسعود.(188/45)
فالجواب وباللّه التوفيق أن نقول:
أما الوجه الأول ـ وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن سنة حسنة)) الحديث ـ ليس المراد به الاختراع البتة، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية، وذلك لوجهين:
(أحدهما): أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة، بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار فجاءَه قوم حفاة عراة مجتابي النِّمار ـ أو العباء ـ متقلدي السيوف، عامتهم مضر ـ بل كلهم من مضر، فتعمر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رآهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذَّن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يَا أيُّها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَفَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ}(1) الآية، والآية التي في سورة الحشر: {اتَّقُوا الله ولْتَنْظُر نَفْسٌ مَا قَدَّمتْ لِغَدٍ}(2)2) تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة)) قال: فجاءَه رجل من الأنصار بصرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل كأنه مذهبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن في الإسلام سنة حسنه فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أُجورهم شيٌ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيءٌ))(3).
__________
(1) النساء: 1.
(2) الحشر: 18.
(3) رواه مسلم (1017) وغيره.(188/46)
فتأملوا أين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سن سنة سيئة؟ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصرة، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فَسُرَّ بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال: ((من سنَّ في الإسلام سنة حسنة)) الحديث، فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي وهو العمل، بما ثبت كونه سنة.
(والوجه الثاني من وجهي الجواب) أن قوله: ((من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة)) لا يمكن حمله على الاختراع من أصل، لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع، لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل العقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة ـ أعني التحسين والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة، وما أشبهها من السنن المشروعة، وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي، وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم.
وإنما يبقى النظر في قوله: ((ومن ابتدع بدعة ضلالة)) وإن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوماً، والأمر فيه قريب لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوماً، ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق، بالأدلة المتقدمة، فلا مفهوم أيضاً.(188/47)
والجواب عن الأشكال الثاني(1): أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة(2)، لا من قبيل البدعة المحدثة. والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم، أما جمع المصحف وقصر الناس عليه، فحقٌّ ما فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن له أصلاً يشهد له في الجملة. وهو الأمر بتبليغ الشريعة، وذلك لا خلاف فيه، والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة لأنه من قبيل المعقول المعني، فيصح بأي شيءٍ أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها، كذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى، إذا لم يعد على الأصل بإبطال ، كمسألة المصحف، ولذلك أجمع عليه السلف الصالح.
وأما ما سوى المصحف فالأمر فيه أسهل، فقد ثبت في السنة كتابة العلم، ففي الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - ((اكتبوا لأبي شاه))(3).
وأيضاً فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ، وخوف اندراس العلم، فكل من سمى كتب العلم بدعة فإما متجوز، وإما غير عارف بوضع لفظ البدعة، فلا يصح الاستدلال بهذه الأشياء على صحة العمل بالبدع. وإن تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة، فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه، وإذا ثبت اعتبارها في صورة ثبت اعتبارها مطلقاً، ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في الفروع.
فصل
ومما يورد في هذا الموضع أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة ولم يعدوها قسماً واحداً مذموماً، فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرَّم.
__________
(1) وهو أن الصحابة والسلف الصالح قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة.
(2) المصالح المرسلة هي المصالح التي أرسلها الشارع أو تركها فلم يأت فيها نص بإلغاء ولا اعتبار.
(3) رواه البخاري (2434، 6880) ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما.(188/48)
والجواب: أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو في نفسه متدافع، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثَمَّ بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأْمور بها أو المخير فيها، فالجمع بين عد تلك الأشياء بدعاً وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين.
أما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعاً لا من جهة أُخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة، لإمكان أن يكون معصية، فإذاً لا يصح أن يطلق القول في هذا القسم بأنه بدعة دون أن يقسم الأمر في ذلك.
وأما قسم المندوب فليس من البدع بحال وتبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مُثِّل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد، فقد قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد واجتمع الناس خلفه.
فإن قيل: فقد سماها عمر رضي الله عنه بدعة وحسنها بقوله: ((نعمت البدعة هذه))(1) وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع.
فالجواب: إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا أنها بدعة في المعنى؛ فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؟
* * *
الباب الرابع
(في مأخذ أهل البدع بالاستدلال)
__________
(1) رواه البخاري (2010).(188/49)
كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها، لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصات مسائلهم، وإلا كذب اطراحها دعواهم، بل كل مبتدع من هذه الأُمة يدعى أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق إلا أن هؤلاء ـ كما يتبين بعد ـ لم يبلغوا الناظرين فيها باطلاق. إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها. وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأُصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية، وإما لعدم الأمرين جميعاً.
فبالحري أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من المحققين للأمرين.
وإذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ لكي تُحْذَر وتُتقى فنقول: قال الله سبحانه وتعالى: { فأمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون مَا تَشابهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وابْتِغاءِ تأْوِيلِهِ}(1) وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما أصل المشي على طريق الصواب أو على طريق الخطأ.
أحدهما: الراسخون في العلم وهم الثابتوا الأقدام في علم الشريعة، ولما كان ذلك متعذراً إلا على من حصل الأمرين المتقدمين، لم يكن بدٌ من المعرفة بهما معاً على حسب ما تعطيه الْمُنَةُ الإنسانية، وإذ ذاك يطلق عليه : أنه راسخ في العلم، ومقتضى الآية مدحه، فهو إذاً أهلٌ للهداية والاستنباط.
والقسم الثاني: ((من ليس براسخ في العلم)) وهو الزائغ فحصل له من الآية وصفان: أحدهما بالنص وهو الزيغ لقوله تعالى: {فأمَّا الَّذِين فِى قُلُوبِهِمْ زيْغٌ} والزيغ هو الميل عن الصراط المستقيم وهو ذم لهم.
والوصف الثاني بالمعنى الذي أعطاه التقسيم وهو عدم الرسوخ في العلم، فما ظنك به إذا اتبع ابتغاءَ الفتنة؟ فكثيراً ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصاراً بالنظر على دليل ما، واطَّراحاً للنظر في غيره من الأدلة الأُصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له.
__________
(1) آل عمران: 7.(188/50)
وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكاً، وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض، وليس هذا من شأْن الراسخين، وإنما هو من شأن من استعجل طلباً للمخرج في دعواه.
فقد حصل من الآية المذكورة أن الزيغ لا يجري على طريق الراسخ بغير حكم الاتفاق، وأن الراسخ لا زيغ معه بالقصد البتة.
فصل
[طريق الحق وطريق الضلال]
إن الراسخين طريقاً يسلكونها في اتباع الحق، وأن الزائغين على طريق غير طريقهم فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها، فنظرنا في آية تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين، وهي قوله تعالى: {وأنَّ هذَا صِراطِى مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(1) فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة، وأن للباطل طرقاً متعددة لا واحدة، وتعددها لم يُحْص بعدد مخصوص وهكذا الحديث المفسر للآية وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطّاً فقال: ((هذا سبيل اللّه مستقيماً)) ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: ((هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه)) ثم تلا هذه الآية(2).
ففي الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد، فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل، ولا لنا أيضاً سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء، لكنا نذكر من ذلك أوجهاً كلية يقاس عليها ما سواها.
1ــ اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة: والمكذوب فيها على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -.
والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها، فلا يمكن أن يسند إليها حكم، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب؟.
__________
(1) الأنعام: 153.
(2) صحيح] تقدم تخريجه ص8.(188/51)
2ــ ردهم للأحاديث: التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون أنها مخالفة للمعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل، فيجب ردها، كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية اللّه عز وجل في الآخرة، وكذلك حديث الذباب وقتله، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، وأنه يقدم الذي فيه الداء. وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول.
ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم، كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب، وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة، لينفروا الأُمة عن اتباع السنة وأهلها.
3ــ تَحَرُّصُهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين: مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا، ويدينون به، ويخالفون الراسخين في العلم، وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم، واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك.
4ــ انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات: التي للعقول فيها مواقف، وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة، حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه، لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه، ودالاً على غيره، وإلا، احتيج إلى دليل، فإن دل الدليل على عدم صحته فأحرى أن لا يكون دليلاً.
ومدار الغلط في هذا إنما هو: الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصّها؛ ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببيّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها.(188/52)
5ــ تحريف الأدلة عن مواضعها: بأن يرِد الدليل على مناط(1) فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله، ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام، ويذم تحريف الكلم عن مواضعه، لا يلجأُ إليه صراحاً إلا مع اشتباهٍ يعرض له، أو جهل يصده عن الحق، مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك السبب مبتدعاً.
وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما يتعلق بالعبادات ـ مثلاً ـ فأتى به المكلف في الجملة أيضاً، كذكر اللّه والدعاء والنوافل المسبحات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة. كان الدليل عاضداً لعلمه من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به، فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص، أو مكان مخصوص، أو مقارناً لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية، أو الزمان، أو المكان، مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه.
فإذا ندب الشرع مثلاً إلى ذكر الله فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات ـ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم، بل فيه ما يدل على خلافه، لأن التزام الأُمور غير اللازمة شرعاً شأنها أن تفهم التشريع، وخصوصاً مع من يقتدي به في مجامع الناس كالمساجد.
__________
(1) المناط من ناط ينوط نوطاً أي علَّقه، قال ابن فارس: النون والواو والطاء أصل صحيح يدل على تعليق شيء أ ــ هـ، وعند الأصوليين والفقهاء المناط: العلة، لأن الحكم لما تعلق بها صار كالشيء المتعلق بغيره.(188/53)
فكل من خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولاً، لأنه قيد فيه بالرأي، وخالف من كان أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصالح رضي الله عنهم، بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خوفاً أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، ألا ترى أن كل ما أظهره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وواظب عليه في جماعة إذا لم يكن فرضاً فهو سنة عند العلماء، كصلاة العيدين والاستقساء والكسوف ونحو ذلك؟ بخلاف قيام الليل وسائر النوافل، فإنها مستحبات، وندب - صلى الله عليه وسلم - إلى إخفائها، وإنما يضر إذا كانت تشاع ويعلن بها.
ومن أمثلة هذا الأصل التزام الدعاءُ بعد الصلوات بالهيئة الاجتماعية معلناً بها في الجماعات. وسيأتي بسط ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.
6ــ بناءُ طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل ـ يدعون فيها أنها هي المقصود والمراد، لا ما يفهم العربي ـ فقالوا: كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر، والأُمور الإلهية فهي أمثلة ورموز إلى بواطن.(188/54)
7ــ التغالي في تعظيم شيوخهم: حتى الحقوهم بما لا يستحقونه، ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب والتهالك في محبة المبتدع، لما وسع ذلك عقل أحد، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع))، الحديث(1)، فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام، حيث قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، فقال الله تعالى: {قل يَا أهْل الْكِتابِ لاَ تغْلُوا فِى دِينِكُمْ غيْرَ الْحِّ ولاَ تتَّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأضَلُّوا كَثِيراً وضَلُّوا عنْ سَوَاءالسَّبِيلِ}(2) وفي الحديث ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله))(3).
ومن تأمل هذه الأصناف وجد لها من البدع في فروع الشريعة كثيراً، لأن البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها الفروع.
8ــ [الاحتجاج بالمنامات]: وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات ـ وأقبلوا وأعرضوا بسببها، فيقولون: رأينا فلاناً الرجل الصالح، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا، وربما قال بعضهم: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، فقال لي كذا وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما قائلتها البشارة أو النِّذاره خاصة، وأما استفادة الأحكام فلا.
__________
(1) .....................................
(2) المائدة: 77.
(3) رواه البخاري (6830) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(188/55)
ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوة، فلا ينبغي أن تهمل، وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قد قال: ((من رآني في النوم فقد رآني حقّاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي))(1) وإذا كان... فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة. لأنا نقول:
1ــ إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي، بل جزء من أجزائه، والجزءُ لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة.
2ــ وأيضاً فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح، وحصول الشروط مما ينظر فيه، فقد تتوفر، وقد لا تتوفر.
3ــ وأيضاً فهي منقسمة إلى الحلم، وهو من الشيطان، وإلى حديث النفس، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير الصالحة؟
وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضاً، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته، فالحكم بما استقر، وإن أخبر بمخالف، فمحال، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية، لأن باطل بالإجماع، فمن رأي شيئاً من ذلك فلا عمل عليه، وعند ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة، إذ لو رآه حقّاً لم يخبره بما يخالف الشرع.
لكن يبقى النظر في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - ((من رآني في النوم فقد رآني)) وفيه تأويلان:
__________
(1) رواه البخاري (6993) ومسلم (2266) من حديث أبي هريرة والبخاري (6994) من حديث أنس و(6997) من حديث أبي سعيد الخدري ومسلم (2268) من حديث جابر رضي الله عنهم أجمعين.(188/56)
أحدهما: معنى الحديث ((من رآني على صورتي التي خلقت عليها. فقد رآني، إذ لا يتمثل الشيطان بي)) إذ لم يقل: من رآني أنه رآني، فقد رآني. وإنما قال: من رآني فقد رآني، وأني لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها؟ وإن ظن أنه رآه، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها، هذا مالا طريق لأحد إلى معرفته.
وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن اعتقد الرائي أنه هو.
الثاني: يقوله علماءُ التعبير: إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما من معارف الرائي وغيرهم فيشير له إلى رجل آخر: هذا فلان النبي فيوقع اللبس على الرائي بذلك وله علامة عندهم، وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع، فيظن الرائي أنه من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكون كذلك، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهي، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال، نعم لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم، لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف الْمُنَّةِ. نعم يأتي المرئي تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً، ولا يبنون عليها أصلاً، وهو الاعتدال في أخذها، حسبما فهم من الشرع فيها، والله أعلم.
ومن نظر إلى طريق أهل البدع في الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط، لأنها سيالة لا تقف عند حدّ، وعلى كل وجه يصح لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حتى ينسب النحلة التي التزمها إلى الشريعة.
فمن طلب خلاص نفسه حتى يتضح له الطريق، ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله.
* * *
الباب الخامس
(في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما)(188/57)
البدعة الحقيقية: هي التي يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل، ولذلك سميت بدعة لأنها شيءُ مخترع على غير مثال سابق.
البدعة الإضافية: هي التي لها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة. والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية.
أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأُخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، أو غير مستندة إلى شيء.
والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة.
فصل
[البدع الإضافية](188/58)
قد يكون أصل العمل مشروعاً ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع، وبيانه أن العمل يكون مندوباً إليه ـ مثلاً ـ فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائماً، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم، فهذا صحيح لا إشكال فيه، وأصله ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت، وقوله: ((أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة))(1) فاقتصر في الإظهار على المكتوبات ـ كما ترى ـ وإن كان ذلك في مسجده عليه السلام أو في المسجد الحرام أو في مسجد بيت المقدس، حتى قالوا: إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث، وجرى مجرى الفرائض في الإظهار بعض السنن كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك، فبقي ما سوى ذلك حكمه الإخفاء، فإذا اجتمع في النافلة أن تلتزم التزام السنن الرواتب إما دائماً وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود، وأُقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع، والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعلُ هذا المجموع هكذا مجموعاً، وإن أتى مطلقاً من غير تلك التقييدات، فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأيٌ في التشريع، فكيف إذا عارضه الدليل، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلاً؟
__________
(1) رواه البخاري (731، 6113، 7290) ومسلم (781) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه بلفظ يختلف يسيراً.(188/59)
ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعاً، ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنة، وهذا فساد عظيم، لأن اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العمل بالسنة نحو من تبديل الشريعة، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض، أو فيما ليس بفرض أنه فرض، ثم عمل على وفق اعتقاده فإنه فاسد، فهب العمل في الأصل صحيحاً فإخراجه عن بابه اعتقاداً وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية، ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سنناً قصداً لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض.
فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها، ولكنهم كرهوا فعلها خوفاً من البدعة لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها، وهذا شأن السنة، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك.
فإن قيل: كيف صارت هذه الأشياءُ من البدع الإضافية؟ والظاهر منها أنها بدع حقيقية! لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي حقيقية إذ لم يضعها صاحب السنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الوجه، فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة فإنها بدعة من غير إشكال، هذا إذا نظرنا إليها بمالها، وإذا نظرنا إليها أولاً فهي مشروعة من غير نسبة إلى بدعة أصلاً.
فالجواب: أن السؤال صحيح، إلا أن لوضعها أولاً نظرين:
أحدهما: من حيث هي مشروعة فلا كلام فيها.(188/60)
والثاني: من حيث صارت كالسبب الموضوع لاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة، فهي من هذا الوجه غير مشروع، وهذا معنى كونها بدعة إضافية، أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة، والعمل على وفقه، فذلك بدعة حقيقية لا إضافية، وإذا ثبت في الأُمور المشروعة أنها قد تعد بدعاً بالإضافة، فما ظنك بالبدع الحقيقية؛ فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معاً ثم إذا اعتقد فيها السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلاثة أوجه.
فياللّه ويا للمسلمين! ماذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه؟ وقانا الله شرور أنفسنا بفضله.
فصل
[سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما]
إن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما أو تركه لأمر ما على ضربين:(188/61)
(أحدهما): أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقرر لأجله، ولا وقع سبب تقريره، كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخصوص مما هو معقول المعنى، كتضمين الصناع، والجد مع الإخوة، ومنه جمع المصحف، ثم تدوين الشرائع، وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره، فلم يذكر لها حكم مخصوص فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فلا بد من النظر فيه وإجرائه على أُصوله إن كان من العاديات، أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع كمسائل السهو والنسيان في إجراء العبادات، ولا إشكال في هذا الضرب، لأن أُصول الشرع عتيدة وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحي، فالسكوت عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضي جواز الترك أو غير ذلك، بل إذا عرضت النوازل روجع بها أُصولها فوجدت فيها ولا يجدها من ليس بمجتهد، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أُصول الفقه.
(والضرب الثاني): أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمراً ما من الأُمور، وموجبه المقتضي له قائم، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت إلا أنه لم يُحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه، لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجوداً، ثم لم يشرع ولا نبه على [الاستنباط] كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع، لإذ فهم من قصده الوقوف عند ما حدَّ هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه.
فصل
[من البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره](188/62)
ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه؟ أم غير بدعة فيعمل به؟ فإنا إذا اعتبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذراً من الوقوع في المحظور، والمحظور هنا هو العمل بالبدعة، فإذاً العامل به لا يقطع أنه عمل ببدعة، كما أنه لا يقطع أنه عمل بسنة، فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية، ولا يقال أيضاً: إنه خارج عن العمل بها جملة.
وبيان ذلك أن النهي الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في ذلك الممنوع الواقع فيه الاشتباه، فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام، فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آكلاً للميتة في الاشتباه؛ فالنهي الأَخف إذاً منصرف نحو الميتة في الاشتباه، كما انصرف إليها النهي الأشد في التحقيق.
وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية: النهي في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة كما انصرف إليها في التحقيق، وكذلك سائر المشتبهات إنما ينصرف نهي الإقدام على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه، فإذاً الفعل الدائر بين كونه سنة أو بدعة إذا نهى عنه في باب الاشتباه نهى عن البدعة في الجملة؛ فمن أقدم على منهى عنه في باب البدعة لأنه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر، فصار من هذا الوجه كالعامل بالبدعة المنهي عنها، وقد مرَّ أن البدعة الإضافية هي الواقعة ذات وجهين ـ فلذلك قيل: إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية، ولهذا النوع أمثلة:
(أحدها): إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني مشروع يتعبد به، أو غير مشروع فلا يتعبد به، ولم يتبين له جمع بين الدليلين، أو إسقاط أحدهما بنسخ أو ترجيح أو غيرهما، فالصواب الوقوف عن الحكم رأساً، وهو الفرض في حقه.(188/63)
(الثاني): إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها؛ فقال بعض العلماء: يكون العمل بدعة، وقال بعضهم: ليس ببدعة، ولم يتبين له الأرجح من العالمين بأعلمه أو غيرها؛ فحقه الوقوف والسؤال عنهما حتى يتبين له الأرجح فيميل إلى تقليده دون الآخر؛ فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح كان حكمه حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح، فالمثالان في المعنى واحد.
فصل
[من البدع الإضافية: اخراج العبادة عن حدِّها الشرعي]
ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعاً إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي، أو يطلق تقييدها، وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حُدَّ لها.
ومثال ذلك أن يقال: إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقت دون وقت، ولا حد فيه زماناً دون زمان، ما عدا ما نهى عن صيامه على الخصوص كالعيدين، وندب إليه الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول، فإذا خص منه يوماً من الجمعة بعينه، أو أياماً من الشهر بأعيانها ـ لا من جهة ما عينه الشارع، فلا شك أنه رأى محض بغير دليل، ضاهى به تخصيص الشارع أياماً بأعيانها دون غيرها، فصار التخصيص من المكلف بدعة، إذ هي تشريع بغير مستند.
ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصاً، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات، أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك، فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط، كان تشريعاً زائداً، وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعاً، فإن كان أصلها غير مشروع فهي بدعة حقيقية مركبة.
فصل
[البدع الإضافية: هل يُعتد بها عبادات يتقرب بها إلى الله](188/64)
فإن قيل: فالبدع الإضافية هل يعتد بها عبادات حتى تكون من تلك الجهة متقرباً بها إليى اللّه تعالى أم لا تكون كذلك؟
فالجواب: أن حاصل البدعة الإضافية أنها لا تنحاز إلى جانب مخصوص في الجملة، بل ينحاز بها الأصلان ـ أصل السنة وأصل البدعة ـ لكن من وجهين.
وإذا كان كذلك اقتضى أن يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع، ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع.
والذي ينبغي أن يقال في جهة البدعة في العمل: لا يخلو أن تنفرد أو تلتصق وإن التصقت فلا تخلو أن تصير وصفاً للمشروع غير منفك، إما بالقصد أو بالوضع الشرعي العادي أولاً تصير وصفاً، وإن لم تصر وصفاً فإما أن يكون وضعها إلى أن تصير وصفاً أولاً.
* * *
فهذه أربعة أقسام لا بد من بيانها في تحصيل هذا المطلوب بحول اللّه:
(الأول): وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع فالكلام فيه ظاهر إلا إن كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية، وإلا فهو فعل من جملة الأفعال العادية لا مدخل له فيما نحن فيه، فالعبادة سالمة والعمل العادي خارج من كل وجه، مثاله الرجل يريد القيام إلى الصلاة فيتنحنح مثلاً أو يتمخط، أو يمشي خطوات أو يفعل شيئاً ولا يقصد بذا وجهاً راجعاً إلى الصلاة، وإنما يفعل ذلك عادة أو تقززاً، فمثل هذا لا حرج فيه في نفسه ولا بالنسبة إلى الصلاة، وهو من جملة العادات الجائزة.
(الثاني): وهو أن يصير العمل العادي أو غيره كالوصف للعمل المشروع إلا أن الدليل على أن العمل المشروع لم يتصف في الشرع بذلك الوصف فظاهر الأمر انقلاب العمل المشروع غير مشروع، ويبين ذلك من الأدلة عموم قوله عليه الصلاة والسلام: ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ))(1) وهذا العمل عند اتصافه بالوصف المذكور عمل ليس عليه أمره عليه الصلاة والسلام، فهو إذاً رد، كصلاة الفرض مثلاً إذا صلاها القادر الصحيح قاعداً أو سبح في موضع القراءة، أو قرأ في موضع التسبيح، وما أشبه ذلك.
__________
(1) صحيح] تقدم تخريجه ص9.(188/65)
(الثالث): وهو أن يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أو جزءُ منها، فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع. فمن ذلك ما جاء في الحديث من نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين(1). ووجه ذلك عند العلماء مخافة أن يعد ذلك من جملة رمضان.
وبالجملة فكل عمل أصله ثابت شرعاً إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة، فتركه مطلوب في الجملة أيضاً، من باب سد الذرائع إن ذهب مجتهد إلى عدم سد الذريعة في غير محل النص، فلا شك أن العمل الواقع عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره، ومن ذهب إلى سدها ـ ويظهر ذلك من كثير من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ـ فلا شك أن ذلك العمل ممنوع؛ ومنعه يقتضي بظاهرة أنه ملوم عليه، وموجب للذم إلا أن يذهب إلى أن النهي فيه راجع إلى أمر مجاور، فهو محل نظر واشتباه ربما يتوهم فيه انفكاك الأمرين، بحيث يصح أن يكون العمل مأموراً به من جهة نفسه، ومنهياً عنه من جهة مآله، ولنا فيه مسلكان:
(أحدهما): التمسك بمجرد النهي في أصل المسألة، كقوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّه عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}(2) والنهي أصله أن يقع على المنهى عنه وإن كان معللاً، وصرفه إلى أمر مجاور خلاف أصل الدليل، فلا يعدل عن الأصل إلا بدليل، فكل عبادة نهى عنها فليست بعبادة، إذ لو كانت عبادة لم ينه عنها، فالعامل بها عامل بغير مشروع فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعاً بها.
__________
(1) رواه البخاري (1914) ومسلم (1082) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأوله ((لا يتقدمن أحدكم رمضان.....)) أو ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين.......)).
(2) الأنعام: 108.(188/66)
(المسلك الثاني): ما دل في بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه، ومنه ما ثبت في الصحيح من قول رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ـ قالوا: يا رسول اللّه! وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه وأُمه))(1) فجعل سب الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه، حتى ترجمه عنها بقوله: ((أن يسب الرجل والديه)) ولم يق: أن يسب الرجل والدي من يسب والديه، أو نحو ذلك، وهو غاية معنى ما نحن فيه.
وإذا ثبت هذا المعنى في بعض الذرائع ثبت في الجميع، إذ لا فرق فيما لم يدع مما لم ينص عليه، إلا ألزم الخصم مثله في المنصوص عليه، فلا عبادة أو مباحاً يتصور فيه أن يكون ذريعة إلى غير جائز لا وهو غير عبادة ولا مباح.
لكن هذا القسم إنما يكون النهي بحسب ما يصير وسيلة إليه في مراتب النَّهي، إن كانت البدعة من قبيل الكبائر، فالوسيلة كذلك، أو من قبيل الصغائر فهي كذلك، والكلام في هذه المسألة يتسع، ولكن هذه الإشارة كافية فيها، وباللّه التوفيق.
* * *
الباب السادس
[في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة]
* اقتضى النظر انقسام البدع إلى قسمين: فمنها بدعة محرمة.
* البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبها متفاوتة؛ فمنها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن، كقوله تعالى: {وقالوا ما فِى بُطُونِ هذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أزْوَاجِنَا، وإنْ يكُنْ مَيْتَةَ فَهُمْ فِيهِ شرَكاءُ}(2) وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال، وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح.
ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا! كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة.
__________
(1) رواه البخاري (5973) ومسلم (90) وقد اختصر المصنف آخره.
(2) الأنعام: 139.(188/67)
ومنها ما هو معصية ويتفق عليها بكفر كبدعة التبتل والصيام قائماً في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
ومنها ما مكروه: كالاجتماع للدعاء عشية عرفة، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة وما أشبه ذبك.
فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة فلا يصح مع هذا أن يقال: إنها على حكم واحد، هو الكراهة فقط، أو التحريم فقط.
* * *
* إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات، فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين.
وأيضاً فإن الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه، فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين، وليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين، فيبيح الكفر الدمَ، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف، في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين.
ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص؟ فالقتل بخلاف العقل والمال، وكذلك سائر ما بقي، وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب، فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع العضو وهذا كله محل بيانه الأُصول.
وإذا كان كذلك: فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي فكذلك يتصور مثله في البدع، فمنها ما يقع في الضروريات (أي أنه إخلال بها) ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات، وما يقع في رتبة الضروريات، منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال.
* فمثال وقوعه في الدين اختراع الكفار وتغييرهم ملة إبراهيم عليه السلام، من نحو قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيْرَةٍ وَلاَ سَائِبَة وَلاَ وَصِيلَة ولا حام}(1).
__________
(1) المائدة: 103.(188/68)
* ومثال ما يقع في النفس ما ذكر من نِحل الهند في تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب الشنيع، والتمثيل الفظيع، والقتل بالأصناف التي تفزع منها القلوب وتقشعر منها الجلود، كل ذلك على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العلي ـ في زعمهم ـ والفوز بالنعيم الأكمل، بعد الخروج عن هذه الدار العاجلة، ومبني على أصول لهم فاسدة اعتقدوها وبنوا عليها أعمالهم، ويجري مجرى إتلاف النفس إتلاف بعضها، كقطع عضو من الأعضاء أو تعطيل منفعة من منافعه بقصد التقرب إلى اللّه بذلك، فهو من جملة البدع.
* ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيها ومعمولاً بها، ومتخذة فيها كالدين المنتسب والملة الجارية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره، بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا.
* ومثال ما يقع في العقل، أن الشريعة بينت أن حكم اللّه على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله، ولذلك قال تعالى: {فَإنْ تَنَازعْتُمْ في شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ والرسول}(1).
فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع، وأنه محسِّن ومقبح، فابتدعوا في دين اللّه ما ليس فيه.
ومثال ما يقع في المال، أن الكفار قالوا: (إنما الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، فإنهم لما استحلوا العمل به احتجوا بقياس فاسد.
فأكذبهم اللّه ورد عليهم، فقال: {ذلِكَ بأنَّهُمْ قَالُوا إنما الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}(2) ليس البيع مثل الربا، فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأي فاسد، فكان من جملة المحدثات، كسائر ما أحدثوا في البيوع الجارية بينهم المبينة على الخطر والغرر.
فصل
[كل بدعة ضلالة]
__________
(1) النساء: 59.
(2) البقرة: 257.(188/69)
إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة، وأن منها ما هو مكروه، كما أن منها ما هو محرم، فوصف الضلالة لازم لها وشامل لأنواعها لما ثبت من قوله - صلى الله عليه وسلم - ((كل بدعة ضلالة)).
لكن يبقى ها هنا إشكال، وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى: {أولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}(1) وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللّهُ فَما لَهُ مِنْ هَاد}(2)3) {وَمَنْ يَهْدِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِل}(3)، وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال فإنه يقتضي أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر في الشرع، فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى.
ونظيره في المخالفات التي ليست ببدع، المكروهة من الأفعال، كالالتفات اليسير في الصلاة من غير حاجة، والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك.
فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يقال فيه مخالف ولا عاص، مع أن الطاعة ضدها المعصية، فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه عاصياً لأنه فاعل ما نهى عنه، لكن ذلك غير صحيح؛ إذ لا يطلق عليه عاص، فكذلك لا يكون فاعل البدعة المكروهة ضالاً، وإلا فلا فرق بين اعتبار الضد في الطاعة واعتباره في الهدى، فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة، فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية، وإلا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة، كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية.
والجواب: أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت، وما التزمتم في الفعل المكروه غير لازم، فإنه لا يلزم في الأفعال أن تجري على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع، فالأمر والنهي ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهي، وإنما يتعلق بها التخيير.
__________
(1) البقرة: 16.
(2) الرعد: 33. الزمر: 23، 36. غافر: 33.
(3) الزمر: 37.(188/70)
وإذا تأملنا المكروه وجدناه ذا طرفين: طرف من حيث هو منهيٌّ عنه؛ فيستوي مع المحرم في مطلق النهي، فربما يتوهم أن مخالفة نَهْىِ الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم في مطلق المخالفة.
غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر، وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعله ذم شرعي ولا إثم ولا عقاب، فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه، لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب، فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية.
وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن ينسب إليها المكروه من البدع، وقد قال اللّه تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَق إلاَّ الضَّلاَلُ}(1) فليس إلا حق، وهو الهدى، والضلال وهو الباطل فالبدع المكروهة ضلال.
وأما ثانياً: فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع.
وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأُمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع، وأشباه ذلك.
__________
(1) يونس: 32.(188/71)
وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحاً أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام، ويتحامون هذه العبارة خوفاً مما في الآية من قوله: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكَم الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ}(1)، وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى، فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها ((أكره هذا، ولا أحب هذا، وهذا مكروه)) وما أشبه ذلك، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط، فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله، لا لأنه بدعة مكروهة.
وأما ثالثاً: فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة. وبيان ذلك:
أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلاً على العفو اللازم فيه، ورفع الحرج الثابت في الشريعة، فهو إلى الطمع في رحمة اللّه أقرب فهو يخاف الله ويرجوه، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان.
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال، فإنه يعد ما دخل فيه حسناً، بل يراه أولى بما حدَّ له الشارع، فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه؟ وهو يزعم أن طريقة أهدى سبيلاً، ونحلته أولى بالاتباع. والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس.
فصل
[هل في البدع صغائر وكبائر]
وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلىى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة، فكذلك يقال في البدع المحرمة: إنها تنقسم إلىى الصغيرة والكبيرة اعتباراً بتفاوت درجاتها ـ كما تقدم ـ وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة.
__________
(1) النحل: 116.(188/72)
وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة، وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وكل ما نص عليه راجع إليها، وما لم ينص عليه جرت في الاعتبار والنظر مجراها.
فكذلك نقول في كبائر البدع: ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة، وما لا، فهي صغيرة، فكلما انحصرت كبائر المعاصي كذلك تنحصر كبائر البدع فإن قيل: إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقاً، وإنما يدل ذلك على أنها تتفاضل، فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف، والخفة هل تنتهي إلى حد تُعَدُّ البدعة فيه من قبيل اللمم؟ هذا فيه نظر، وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصي غير البدع.
* وأما في البدع فثبت لها أمران:
أحدهما أنها مضادة للشارع ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة، لا نصب المكتفي بما حُدَّ له.
والثاني: أن كل بدعة ـ وإن قَلَّت ـ تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير ـ قلَّ أو كَثُر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر، فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات.
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه، ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت، بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها، بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها، بل صاحب المعصية متنصل منها، مقر للّه بمخالفته لحكمها.
وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة، والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة.(188/73)
ثم إن البدع على ضربين: كلية وجزئية، فأما الكلية: فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة، ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات.
وأما الجزئية: فهي الواقعة في الفروع الجزئية، ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال، فعلى هذا إذا اجتمع في البدعة وصفان: كونها جزئية وكونها بالتأويل، صح أن تكون صغيرة واللّه أعلم.
غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد، فيقع الإشكال في كثير من أمثلة هذا الفصل، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر وبالعكس، فيوكل النظر فيه إلى الاجتهاد أ ــ هـ.
* * *
فصل
[شروط كون البدع صغيرة]
وإذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة؛ فذلك بشروط:
(أحدها): أن لا يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه، لأن ذلك ناشىء عن الإصرار عليها، والإصرار علىى الصغيرة يصيرها كبيرة، ولذلك قالوا: ((لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار)).
فكذلك البدعة من غير فرق، إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها، وقد لا يصر عليها، بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها وأن تقوم على تاركها القيامة.
(الثاني): أن لا يدعو إليها، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه، فإنه الذي أثارها.
فربما تُسَاوِي الصغيرةُ ـ من هذا الوجه ـ الكبيرةَ أو تربى عليها. فمن حق المبتدع إذا ابتلى بالبدعة أن يقتصر على نفسه، ولا يحمل مع وزره وزر غيره.
(الثالث): أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس، أو المواضع التي تقام فيها السنن، وتظهر فيها أعلام الشريعة؛ فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدي به، فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام.(188/74)
وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح، لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر، فكأن المظهر لها يقول: هذه سنة فاتبعوها.
(الرابع): أن لا يستصغرها ولا يستحقرها ـ وإن فرضناها صغيرة ـ فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب.
فإذا تحصلت هذه الشروط فإذا ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة، فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة، أو خيف أن تصير كبيرة، كما أن المعاصي كذلك، واللّه أعلم.
* * *
الباب السابع
[في الابتداع]
هل يدخل في الأُمور العادية أم يختص بالأُمور العبادية؟
أفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين:
أحدهما: أن تكون من قبيل التعبدات.
والثاني: أن تكون من قبيل العادات.
فأما الأول: فلا نظر فيه ها هنا.
وأما الثاني: ـ وهو العادي ـ فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعبادات، فكما أنَّا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأُمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها، وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأُمور العادية من ذلك الوجه، صح دخوله في العاديات كالعبادات، وإلا فلا.(188/75)
وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب، ويتبين ذلك [بمثال] وضع المكوس في معاملات الناس، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتاً ما، أو في حالة ما، لنيل حطام الدنيا، على هيئة غصب الغاصب، وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه ذلك، أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائماً، أو في أوقات محدودة، على كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة، ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أِبه ذلك.
فأما الثاني: فظاهر أنه بدعة، إذ هو تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة، والديات المضروبة، بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة، واللوازم المحتومة أو ما أشبه ذلك، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك، لأنه شرع مستدرك، وسَنٌّ في التكليف مهيع، فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران: نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر من جهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع فيها نهيان: نَهْى عن المعصية، ونهى عن البدعة.
فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنها تقع وتظهر وتنتشر أُمور مبتدعة على مضاهاة التشريع، لكن من جهة التعبد، لا من جهة كونها عادية، وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة، والمعصية التي هي ليست ببدعة.
وإن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة، وحصل بذلك اتفاق القولين، وصار المذهبان مذهباً واحداً، وباللّه التوفيق.
فصل
[في نشوء البدع]
البدعة تنشأُ عن أربعة أوجه:
(أحدها): ـ وهو أظهر الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع.
(والثاني): أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة، فيفهمها الجاهل مشروعة.(188/76)
(والثالث): أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار، وهو قادر عليه، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة.
(والرابع): من باب الذرائع، وهي أن يكون العمل في أصله معروفاً، إلا أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى.
إلا أن هذه الأقسام ليست على وزن واحد، ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ، بل هي في القرب والبعد على تفاوت؛ فلأول هو الحقيق باسم البدعة، فإنها تؤخذ علة بالنص عليها، ويليه القسم الثاني، فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول، بل قد يكون أبلغ منه في مواضع، لأن الصوارف للقدرة كثيرة، قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل، فإنه لا عذر في فعل الإنسان بالمخالفة، مع علمه بكونها مخالفة.
ويليه القسم الرابع، لأن المحظور الخالي فيما تقدم غير واقع فيه بالعرض، فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوي رتبة الواقعة أصلاً، فلذلك كانت من باب الذرائع، فهي إذاً لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة، فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة.
وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات، والبدعة من خارج، إلا أنها لازمة لزوماً عادياً، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث، واللّه أعلم.
* * *
الباب الثامن
[في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان]
هذا الباب يُضْطَرُّ إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيراً من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعاً، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات، وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة، فقالوا: إن منها ما هو واجب ومندوب، وعدوا من الواجب كَتْب المصحف وغيره، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارىء واحد.(188/77)
وأيضاً فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص، ولا كونه قياساً بحيث إذا عرض على العقول تلقيه بالقبول، وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة، فإنها راجعة إلى أُمور في الدين مصلحية ـ في زعم واضعيها ـ في الشرع على الخصوص.
وإذا ثبت هذا، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقاً، فاعتبار البدع المستحسنة حق، لأنهما يجريان من واد واحد، وإن لم يكن اعتبار البدع حقاً، لم يصح اعتبار المصالح المرسلة.
وأيضاً فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقاً عليه، بل قد اختلف فيه أهل الأُصول.
وكذلك القول في الاستحسان فإنه راجع إلى الحكم بغير دليل، والنافي له لا يعد الاستحسان سبباً فلا يعتبر في الأحكام البتة، فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها.
فلما كان هذا الموضع مزلة قدم، لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته ـ كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء، حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في وِرْد ولا صَدَر، بحول اللّه، واللّه الموفق، فنقول:
المعني المناسب: الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:
(أحدها): أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في إعماله، وإلا كان مناقضة للشريعة، كشريعة القصاص حفظاً للنفوس والأطراف وغيرها.
(والثاني): ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله باتفاق المسلمين.
(الثالث): ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه، فهذا على وجهين:
أحدهما: أن يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث، فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله.(188/78)
والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل، المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول اللّه.
(المثال الأول)
أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفقوا على جمع المصحف، وليس لم نص على جمعه وكتبه أيضاً، بل قد قال بعضهم: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فروى عن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر رضي الله عنه مقتلَ (أهل) اليمامة، وإذا عنده عمر رضي الله عنه، قال أبو بكر: (إن عمر أتاني فقال): إن القتل قد استحرّ بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب فرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، ((قال)): فقلت له: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال لي: هة ـ واللّه ـ خير.
فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرع اللّه صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر.
قال ((زيد)): فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، فتتبع القرآن فاجمعه، قال ((زيد)): فواللّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبو بكر: هو واللّه خير، فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكرحتى شرح اللّه صدري للذي شرح له صدورهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف(1)، ومن صدور الرجال(2)، فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة.
__________
(1) العسب جمع عسيب وهو جريد النخل، و((اللخاف)) كلِحاف: حجارة بيض رقاق واحدتها لخفة، كسمكة ( ).
(2) رواه البخاري (4679، 7191).(188/79)
ولم يرد نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما صنعوا من ذلك، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن.
وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها، إذا خيف عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر يكب العلم.
(المثال الثاني)
إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع، ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة؛ فكانت المصلحة التضمين.
ولا يقال: إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء، إذ لعله ما أفسد، ولا فرط؛ فالتضمين مع ذلك كان نوعاً من الفساد، لأنا نقول: إذا تقابلت المصلحة والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت ووقوع التلف من الصناع من غير تسبب ولا تفريط بعيد، والغالب الفوت فوت الأموال، وأنها لا تستند إلى التلف السماوي، بل ترجع إلى صنع العباد على المباشرة أو التفريط.
(المثال الثالث)
إنا إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك، المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى مالا يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال، إلى أن يظهر مال بيت المال.(188/80)
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام صارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام، وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع.
(المثال الرابع)
انه يجوز قتل الجماعة بالواحد، والمستند فيه المصلحة المرسلة؛ إذ لا نص على عين المسألة ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.
ووجه المصلحة أن القتيل معصوم، وقد قتل عمداً، فإهداره داع إلى خرم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه، وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقاً، والمشترك ليس بقاتل تحقيقاً.
فإن قيل: هذا أمر بديع في الشرع وهو قتل غير القاتل، قلنا: ليس كذلك، بل لم يقتل إلا القاتل، وهم الجماعة من حيث الاجتماع، وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعاً مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء، فهذه أمثلة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة، وتبين لك اعتبار أُمور:
(أحدها): الملاءَمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلاً من أُصوله ولا دليلاًمن دلائله.
(والثاني): أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على المعقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأُمور الشرعية، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره، والحج، ونحو ذلك.
(الثالث): أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين، وأيضاً مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ((ما لم يتم الواجب إلا به...)) فهي إذاً من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد.(188/81)
إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن موضع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل، والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل، وقد مر أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق.
وأيضاً فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع، بل إنما تتصور على أحد وجهين: إما مناقضة لمقصوده، وإما مسكوتاً عنه فيه.
وقد تقدم نقل الإجماع على اطِّراح القسمين وعدم اعتبارهما، ولا يقال: إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه، إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع لعدم الملاءمة، ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت عنه كالمأذون فيه ـ إن قيل بذلك ـ فهي تفارقها، إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها؛ لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به، بخلاف العادات، والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة، وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى اللّه تعالى.
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف؛ فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات؛ لأن البدع من باب الوسائل، لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة في التكليف وهو مضاد للتخفيف.
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء، وحسبك به متعلقاً، واللّه الموفق.
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يَكِلْ شيئاً من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، والزيادة عليه بدعة؛ كما أن النقصان منه بدعة.
فصل
[في الفرق بين البدع والاستحسان]
وأما الاستحسان؛ فلأن لأهل البدع أيضاً تعلقاً به؛ فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن، وهو إما العقل أو الشرع.(188/82)
أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما، لأن الأدلة اقتصت ذلك فلا فائدة لتسميته استحساناً، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع، وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال؛ فلم يبق إلا العقل هو المستحسن، فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن.
ويشهد لذلك قول من قال الاستحسان: إنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه ـ قالوا: وهو عند هؤلاء من جنس ما يستحسن في العوائد، وتميل إليه الطباع؛ فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام.
وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون، وقد أتوا بثلاثة أدلة:
(أحدها): قول اللّه سبحانه: {وَاتَّبعُوا أحْسنَ ما أُنْزل إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}(1)، وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتبِعُونَ أحْسَنَهُ}(2)، هو ما تستحسنه عقولهم.
(والثاني): قوله عليه الصلاة والسلام: ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن))(3)، وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم، وإلا لو كان حسنه بالدليل الشرعي لم يكن من حسن ما يرون، إذْ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم، فلم يكن للحديث فائدة، فدل على أن المراد ما رأوه برأيهم.
__________
(1) الزمر: 55.
(2) الزمر: 18.
(3) حسن] موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه، رواه أحمد والطيالسي وغيرهما، انظر ((السلسلة الضعيفة)) (533). وفيها رد جيد على هذه الشبهة.(188/83)
(والثالث): أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبت ولا تقدير الماء المستعمل، ولا سبب لذلك إلا أن المشاحة في مثله قبيحة في العادة، فاستحسن الناس تركه، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة، أو مدة الاستئجار أو مقدار المشتري إذا جهل فإنه ممنوع، وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلاً.
فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضاً لمن أراد أن يبتدع، فله أن يقول: إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء قد استحسن، وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفصل، حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم، وباللّه التوفيق، فنقول:
إن الاستحسان يراه معتبراً في الأحكام مالك وأبو حنيفة، بخلاف الشافعي فإنه منكر له جداً حتى قال: ((من استحسن فقد شرع)) والذي يستقرى من مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين، وقال بعض الحنفية: إنه القياس الذي يجب العمل به بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم.
وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل، وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه، فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم.
وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة البتة: لأن الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضاً، كما في الأدلة السنية مع القرآنية، ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلاً، فلا حجة في تسميته استحساناً لمبتدع على حال. ولا بد من الإتيان بأمثلة تبين المقصود بحول اللّه.(188/84)
(أحدها): أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أمْوَالِهمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}(1)، فظاهر اللفظ العموم في جميع ما يتمول به، وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية خاصة، فلو قال قائل: مالي صدقة، فظاهر لفظه يعم كل مال، ولكنا نحمله على مال الزكاة، لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب.
(والثاني): أن يقول الحنفي: سؤر سباع الطير نجس، قياساً على سباع البهائم، وهذا ظاهر الأثر، ولكنه ظاهر استحساناً، لأن السبح ليس بنجس العين، ولكن لضرورة تحريم لحمه، فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطير، لأنه يشره بمنقاره وهو طاهر بنفسه، فوجب الحكم بطهارة سؤره، لأن هذا أثر قوي وإن خفي، فترجح على الأول، وإن كان أمره جلياً، والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه.
(الثالث): أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف، فإنه رد الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف، كقوله: واللّه لادخلت مع فلان بيتاً: (فهو) يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتاً في اللغة، والمسجد يسمى بيتاً فيحنث على ذلك، إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه، فخرج بالعرف (عن) مقتضى اللفظ، فلا يحنث.
(الرابع): ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة، وإيثار التوسعة على الخلق، فقد أجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعاً للآخر ـ وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما، والأصل المنع في الجميع، لما في الحديث من أن الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلاً بمثل سواءً بسواءِ، وأن من زاد أو ازداد فقد أربى(2)، ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم، ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب، وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة، وهما مرفوعان عن المكلف.
__________
(1) التوبة: 103.
(2) رواه مسلم (1587) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(188/85)
(الخامس): ما تقدم أولاً من أن الأُمة استحسنت دخول الحمَّام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل، والأصل في هذا المنع إلا أنهم أجازوا ـ لا كما قال المحتجون على البدع، بل لأمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة، فأما تقدير العوض فالغرف هو الذي قدره فلا حاجة إلى التقدير، وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل قإن لم يكن ذلك مقدراً بالعرف أيضاً فإنه يسقط للضرورة إليه، فسومح المكلف بيسير الغرر، لضيق الاحنراز مع تفاهة ما يحصل من (الغرر) ولم يسامح في كثيره إذ ليس في محل الضرورة، ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر، لكن الفرق بين القليل والكثير، غير منصوص عليه في جميع الأُمور، وإنما نهى عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر، فجعلت أُصولاً يقاس عليها غير القليل أصلاً في عدم الاعتبار وفي الجواز، قإذا قل الغرر وسهل الأمر وقل النزاع ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها، ومن هذا القبيل مسألة التقدير في ماءِ الحمام ومدة اللبث.
فتأملوا كيف وجه الاستثناءُ من الأُصول الثابتة بالحرج والمشقة. وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط؟. فتبين لك بَوْنُ ما بين المنزلتين.
فصل
[رد حجج المبتدعة في الاستحسان]
فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به أولاً:
* فأما من حد الاستحسان بأنه ((ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه)).
* فكأن هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام، ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون، فلا يجوز إسناده لحكم اللّه لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل.(188/86)
* وأيضاً فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموه من الأُصول الثابتة، ولم يقل أحد منهم: إني حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه، أو لأنه يوافق محبتي ورضائي، ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضاً والشريعة ليست كذلك.
* وأما الحد الثاني: فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من شاء ما شاء، وهذا يجر فساداً لا خفاءَ له.
وأما الدليل الأول: فلا متعلق به؛ فإنه أحسن الاتباع إلينا، اتباع الأدلة الشرعية، وخصوصاً القرآن؛ فإن اللّه تعالى يقول: {اللّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثَ كِتاباً مُتَشَابهاً}(1) الآية. وجاء في صحيح الحديث ـ خرجه مسلم ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: ((أما بعد فأحسن الحديث كتاب اللّه))(2)، فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواءَ النفوسمما أنزل إلينا، فضلاً عن أن يقول من أحسنه.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ}(3) الآية، يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولاً، وحينؤذٍ ينظر إلى كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد.
وأما الدليل الثاني: فلا حجة فيه من أوجه:
(أحدها): أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، والأُمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعاً، لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعيّاً؛ فالحديث دليل عليكم لا لكم.
(الثاني): أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأُريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام، وهو باطل بإجماع. لا يقال: إن المراد استحسان أهل الاجتهاد، لأنا نقول: هذا ترك للظاهر، فيبطل الاستدلال، ثم إنه لا فائدة في اشتراط الاجتهاد؛ لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة، فأي حاجة إلى اشتراط الاجتهاد؟.
__________
(1) الزمر: 23.
(2) صحيح] تقدم تخريجه ص9.
(3) الزمر: 18.(188/87)
فإن قيل: إنما يشترط حذراً من مخالفة الأدلة فإن العامي لا يعرفها. قيل: بل المراد استحسان ينسأُ عن الأدلة، بدليل أن الصحابة رضي اللّه عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع.
فالحاصل أن تعلق المبتدعة بمثل هذه الأُمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة، لكن ربما يتعلقون في آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء اللّه، ومنها ما قد مضى.
فصل
[رد شبهة استفتاء القلب]
قإن قيل: أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب ويجري في النفس، وإن لم يكن ثَمَّ دليل صريح على حكم من أحكام الشرع، ولا غير صريح؟ فقد خرَّج مسلم عن النواس بن سمعان رضي اللّه عنه قال: سألت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صَدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه))(1).
وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((دع ما يريبك))(2)، وعن وابصة رضي اللّه عنه قال: سألت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم فقال: ((يا وابصة! استفت قلبك، واستفت نفسك، البر ما اطأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك(3)
__________
(1) رواه مسلم (2553) وغيره.
(2) صحيح] رواه أحمد في المسند (3/351) ورواه النسائي والترمذي وأحمد من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. انظر ((الأرواء)) (21، 4702).
(3) حسن] رواه أحمد (4/227، 228)، والدارمي (2/245)، وأبو يعلى (1586) وأورده النووي في الأربعين حديثاً وحسنه.(188/88)
فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية إلى ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر، وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدام عليه صحيح، وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور، وهو عين ما وقع إنكاره من الرجوع إلى الاستحسان الذي يقع بالقلب ويميل إليه الخاطر، وإن لم يكن ثَمَّ دليل شرعي فإنه لو كان هنالك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيداً بالأدلة الشرعية لم يُحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب فدل ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثراً في شرعية الأحكام، وهو المطلوب.
وذلك أن حاصل الأمر يقتضي أن فتاوي القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية، وهو التشريع بعينه، فإن طمأنينة النفس وسكون القلب مجرداً عن الدليل، إما أن تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعاً، فإن لم تكن معتبرة فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار، وإن كانت معتبرة فقد صار، ثمَّ قسم ثالث غير الكتاب والسنة.
وإن قيل: إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام، لم تخرج تلك عن الإشكال الأول، لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لا بد أن يتعلق به حكم شرعي، وهو الجواز وعدمه، وقد علق ذلك بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها، فإن كان ذلك عن دليل، فهو ذلك الأول بعينه، باق على كل تقدير.
والجواب: أن الكلام الأول صحيح، وإنما النظر في تحقيقه.
فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر في دليل الحكم، ونظر في مناطه؛ فأما النظر في دليل الحكم لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة، أو ما يرجع إليهما عن إجماع أو قياس أو غيرهما، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس، ولا نفي ريب القلب، إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلاً أو غير دليل.
وأما النظر في مناط الحكم، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتاً بدليل شرعي فقط، بل يثبت بدليل غير شرعي أو بغير دليل، فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد، بل لا يشترط فيه العلم فضلاً عن درجة الاجتهاد.(188/89)
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله، لأن حِلِّيَّته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلِّية لتحقق مناطها بالنسبة إليه، أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له أكله، لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلية، فتحقق مناطها بالنسبة إليه، وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه، واطمأنت إليه نفسه، لا بحسب الأمر في نفسه، ألا ترى أن اللحم قد يكون واحداً بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطها بحسبه، ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه؛ فيأكل أحدهما حلالاً ويجب على الآخر الاجتناب، لأنه حرام؟ ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال وكان محالاً، لأن أدلة الشرع لا تناقض أبداً فإذا فرضنا لحماً أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين، كاختلاط الميتة بالذكية، واختلاط الزوجة بالأجنبية.
فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة.
وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعي يبين حكمه، وهي تلك الأحاديث المتقدمة، كقوله: ((دع ما يريبك إلى مالا يريبك)) وقوله: ((البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في صدرك)) كأنه يقول: إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحلية أو الحرمة؛ فالحكم فيه من الشرع بيَّن، وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به، وهو معنى قوله: ((استفت قلبك وإن أفتوك))، فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك.
ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك؛ لأنه لم يعرض له ما عرض لك.
وليس المراد بقوله: ((وإن أفتوك)) أي: إن نقلوا إليك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك؛ فإن هذا باطل، وتقوُّل على التشريع الحق، وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.(188/90)
فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل، وهو تحقيق بالغ، والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات.
* * *
الباب التاسع
[في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة
عن جماعة المسلمين]
قال اللّه تعالى: {ولوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزالُونَ مُخْتَلِفين إلاَّ مَنْ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(1) فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبداً، مع أنه إنما خلقهم للاختلاف، وهو قول جماعة من المفسرين في الآية؛ وأن قوله: ((ولذلك خلقهم)) معناه: وللاختلاف خلقهم، وهو مروى عن مالك ابن أنس قال: خلقهم ليكونوا فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، ونحوه عن الحسن فالضمير في ((خلقهم))، عائد على الناس، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم، وليس المراد ها هنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير، ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها.
وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث اللّه النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ}(2) الآية، وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا.
__________
(1) هود: 119.
(2) البقرة: 213.(188/91)
وقد نقل المفسرون عن الحسن أنه قال: أما أهل رحمة اللّه فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم، يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر، بل لهم فيه أعظم العذر، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يُرْجَعُ إليه، وهو قول اللّه تعالى: {فإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْيءٍ فَرُدُّوهُ إلىَ اللّهِ والرَّسُولِ}(1) الآية، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم اللّه فيه أن يرد إلى اللّه، وذلك رده إلى كتابه، وإلى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، وذلك رده إليه إذا كان حياً وإلى سنة بعد موته، وكذلك فعل العلماء رضي اللّه عنهم.
إلا أن لقائل أن يقول: هل هم داخلون تحت قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين} أم لا؟
والجواب: أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه.
(أحدها): أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}(2) فإنها اقتضت قسمين: أهل الاختلاف، ومرحومين فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف.
(والثاني): انه قال فيها: {ولا يزالون مختلفين} فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت، وأهل الرحمة مبرءُون من ذلك، لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحرياً لقصد الشارع فيها، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول، فلم يكن وصف الاختلاف لازماً ولا ثابتاً، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع.
__________
(1) النساء: 59.
(2) هود: 118 ــ 119.(188/92)
(الثالث): أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي اللّه عنهم، بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدوداً من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه: أنه من أهل الرحمة، وذلك باطل بإجماع أهل السنة.
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع، وأن من رحم ربك أهل السنة وهذا لا بد من بسطه.
فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها.
والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك، وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفاً، بل كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق:
(أحدها): أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعْتقدَ فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً، ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع؛ وتارة يكون في كلي وأصل من أُصول الدين ـ كان من الأُصول الاعتقادية أو من الأُصول العملية ـ فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، حتى يصير منها ما ظهر له بادى رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها، وهذا هو المبتدع، وعليه نَبّه الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يقبض اللّه العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساءَ جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))(1).
__________
(1) صحيح] تقدم تخريجه ص11.(188/93)
قال بعض أهل العلم: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط، من قبل علمائهم، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله.
(الثاني): اتباع الهوى، ولذلك سمى أهل البدع أهل الأهواء، لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح.
ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم، أو طلباً للرياسة، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم؛ ويتأول عليهم فيما أرادوا.
(الثالث): التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق، وهو اتباع ما كان عليه اآباءُ والأشاخ، وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم، فإن الله ذم ذلك في كتابه، كقوله: {إنَّا وَجدْنا آبَاءَنا علَى أُمَّة}(1) الآية، ثم قال: {قُلْ: أوَلوْ جِئْتُكُمْ بِأهْدَى مِمَّا وَجدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ؟ قالُوا: إنَّا بمَا أُرْسِلْتُمْ بهِ كَافِرُونَ}(2)، وقوله: {هَلْ يَسْمعُونَكُمْ تَدْعُونَ أوْ يَنْفعُونَكُمْ أوْ يَضُرُّون} فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء، فقالوا: {بلْ وَجَدْنَا آبَاءنا كَذَلِكَ يَفْعَلْونَ}(3).
وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة؛ إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماءُ؛ فيراه يعمل عملاً فيظنه عبادة فيقتدي به، كائناً ما كان ذلك العمل، موافقاً للشرع أو مخالفاً.
هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد: وهو الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم.
* * *
فصل
[أحاديث الفِرَق وفيه مسائل]
__________
(1) الزخرف: 23.
(2) الزحرف: 24.
(3) الشعراء: 72 ــ 74.(188/94)
صح من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتتفرق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة))(1) وخرجه الترمذي هكذا.
وفي رواية أبي داود قال: ((افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة)).
وفي الترمذي تفسير هذا، ولكن بإسناد غريب عن غير أبي هريرة رضي الله عنه، فقال في حديث ((وإن بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أُمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة ـ قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)) (2).
وفي سنن أبي داود: ((وأن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعين في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة(3) وهي بمعنى الرواية التي قبلها، إلا أن هنا زيادة في بعض الروايات ((وانه سيخرج من أُمتي أقوام تَجَارى بهم تلك الأهواءُ كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) (4).
وفي رواية عن أبي غالب موقوفاً عليه: ((إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن هذه الأُمة تزيد عليهم فرقة، كلها في النار إلا السواد الأعظم))(5)؛ فإذا تقرر هذا، تصدى النظر في الحديث في مسائل:
المسألة الأولى
في حقيقة هذا الافتراق
__________
(1) حسن] تقدم تخريجه ص2.
(2) حسن بشواهده] رواه الترمذي (2641) وغيره من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. انظر ((صحيح الجامع)).
(3) حسن] رواه أبو داود (4597) وغيره. انظر ((السلسلة الصحيحة)) (204).
(4) حسن] وهو جزء من الحديث الذي قبله، وانظر ص15.
(5) حسن] رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (68)، واللالكائي في ((شرح أصول الاعتقاد)) (151، 152)، والمروزي في ((السنة)) (55، 56).(188/95)
وهو يحتمل أن يكون افتراقاً على ما يعطيه اللفظ، ويحتمل أن يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه ولكن يحتمله، كما كان لفظ الرقبة بمطلقها لا يشعر بكونها مؤمنة أو غير مؤمنة، لكن اللفظ يقبله فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق، بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد، لأنه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ، وذلك باطل بالإجماع، فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية، وأول ما وقع الخلاف في زمان الخلفاء الراشدين المهديين، ثم في سائر الصحابة، ثم في التابعين ولم يعب أحد ذلك منهم، وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف، فكيف يمكن أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث؟ وإنما يراد افتراق مقيد.
المسألة الثانية
إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع في العداوة والبغضاء ـ فإما أن يكون راجعاً إلى أمر هو معصية غير بدعة، وأما أن يرجع إلى أمر هو بدعة.
وكل من لم يهتد بهديه ولا يتسن بسنته فإما إلى بدعة أو معصية، فلا اختصاص بأحدهما، غير أن الأكثر في نقل أرباب الكلام، وغيرهم أن الفرقة المذكورة إنما هي بسبب الابتداع في الشرع على الخصوص، وعلى ذلك حمل الحديثَ من تكلم عليه من العلماء، ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست ببدع، وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله.
المسألة الثالثة
إن هذه الفرق تحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا، فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق، وليس ذلك إلا الكفر، إذ ليس بين المنزلتين منذلة ثالثة تتصور.
ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة، وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأُصوله.
ويحتمل وجهاً ثالثاً، وهو أن يكون منهم من فارق الإسلام، ومنهم من لم يفارقه، بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقاله وشنع مذهبه، لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح.(188/96)
وأما رواية من قال في حديثه: ((كلها في النار إلا واحدة)) فإنما يقتضى إفاذ الوعيد ظاهراً، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه، فلا دليل فيه على شيء مما أردنا، إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة، وإن تبايناً في التخليد وعدمه.
المسألة الرابعة
إن هذه الأقوال مبنية على أن الفرق المذكورة ف الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص.
واستدل الطرطوشي على أن البدع لا تختص بالعقائد بما جاءَ عن الصحابة والتابعين وسائر العلماء من تسميتهم الأقوال والأفعال بدعاً إذا خالفت الشريعة، ثم أتى بآثار كثيرة كالذي رواه البخاري عن أُم الدرداء قالت: دخل أبو الدرداء مغضباً فقلت له: مالك؟ فقال: واللّه ما أعرف منهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً(1)، وذكر جملة من أقاويلهم في هذا المعنى مما يدل على أن مخالفة السنة في الأفعال قد ظهرت.
وفي مسلم قال مجاهد: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبدالله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وإذا ناس في المسجد يصلون الضحى، فقلنا: ما هذه الصلاة؟ فقال: بدعة(2).
قال الطرطوشي: فحمله عندنا على أحد وجهين: إما أنهم يصلونها جماعة، وإما أفذاذاً هلى هيئة النوافل في أعقاب الفرائض، وذكر أشياء من البدع القولية مما نص العلماءُ على أنها بدع، فصح أن البدع لا تختص بالعقائد. نعم ثم معنى آخر ينبغي أن يذكر هنا. وهي:
المسألة الخامسة
وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كُلِّي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئي من الجزئيات، إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأُ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأُ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية.
__________
(1) رواه البخاري (650).
(2) رواه مسلم (1255).(188/97)
ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً، وأما الجزئى فبخلاف ذلك، فثبت أن هذه الفرق إنما افترقت بحسب أمور كلية اختلفوا فيها، واللّه أعلم.
المسألة السادسة
في تعيين هذه الفرق
وهي مسألة ـ كما قال الطرطوشي ـ طاشت فيها أحلام الخلق، فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عينوها لكن في الطوائف التي خالفت في مسائل العقائد فمنهم من عد أُصولها ثمانية، فقال: كبار الفرق الإسلامية ثمانية: (1) المعتزلة، و(2) الشيعة، و(3) الخوارج، و(4) المرجئة، و(5) النجارية، و(6) الجبرية، و(7) المشبهة، و(8) الناجية.
فالجميع اثنتان وسبعون فرقة، فإذا أُضيفت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثاً وسبعين فرقة.
وهذا التعديد بحسب ما أعطته المنة في تكلف المطابقة للحديث الصحيح، لا على القطع بأنه المراد، إذ ليس على ذلك دليل شرعي، ولا دل العقل أيضاً على انحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان، كما أنه لا دليل على اختصاص تلك البدع بالعقائد.
* * *
وقال جماعة من العلماء: أُصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة.
فإن كان رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أراد بتفرق أُمته أُصول [البدع] التي تجري مجرى الأجناس للأنواع، والمعاقد للفروع لعلهم ـ والعلم عند اللّه ـ ما بلغن هذا العدد إلى الآن، غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة، وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع؟
وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت في دين الإسلام مما لا يلائم أُصول الإسلام ولا تقبلها قواعده من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعاً لأجناس، أو كانت متغايرة الأُصول والمباني.(188/98)
فهذا هو الذي أراده عليه الصلاة والسلام ـ والعلم عند اللّه ـ فقد وجد من ذلك عدد أكثر من اثنتين وسبعين.
المسألة السابعة
أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها، وهي على قسمين: علامات إجمالية، وعلامات تفصيلية.
فأما العلامات الإجمالية فثلاثة:
(أحدها): الفرقة التي نبه عليه قوله تعالى: {وَلاَ تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا مِنْ بعدِ ما جاءَهُمْ الْبيِّناتُ}(1).
الثانية: هي التي نبه عليها قوله تعالى: {فأمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبُعونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ }(2) الآية، فبينت الآية أن أهل يتبعون متشابهات القرآن، وجعلوا ممن شأنه أن يتبع المتشابه لا المحكم، ومعنى المتشابه: ما أشكل معناه، ولم يبين مغزاه.
الثالثة: اتباع الهوى، الذي نبه عليه قوله تعالى: { فأمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبهِمْ زَيْغٌ }؛ والزيغ هو الميل عن الحق اتباعاً للهوى، وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللّهِ؟}(3)؛ وقوله: {أفَرَأيْتَ مَن اتَّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأضَلَّهُ اللّهُ عَلَى عِلْمٍ...}(4)
وأما العلامة التفصيلية: في كل فرقة فقد نبه عليها وأُشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة وفي ظني أن من تأملها في كتاب اللّه وجدها منبهاً عليها ومشاراً إليها.
المسألة الثامنة
__________
(1) آل عمران: 105.
(2) آل عمران: 7.
(3) القصص: 5.
(4) الجاثية: 23.(188/99)
أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنها كلها في النار، وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنباً عظيماً، إذ قد تقرر في الأُصول أن ما يتوعد الشر عليه فخصوصيته كبيرة: إذ لم يقل: كلها في النار، إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته، وليس ذلك إلا للبدعة المفرقة، إلا أنه ينظر في هذا الوعيد، هل هو أبَدِيٌّ أم لا؟ وإذا قلنا: إنه غير أبدى: هل هو نافذ أم في المشيئة.
أما المطلب الأول فينبني على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام، أو ليست مخرجة، وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل ـ على مذهب أهل السنة ـ أمرين:
(أحدهما): نفوذ الوعيد من غير غفران، ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث، وقوله هنا: ((كلها في النار))؛ أي: مستقرة ثابتة فيها.
(والثاني): أن يكون مقيداً بأن يشاء اللّه تعالى إصلاءَهم في النار، وإنما حمل قوله: ((كلها في النار)) أي: هي ممن يستحق النار.
المسألة التاسعة
إن قوله عليه الصلاة والسلام ((إلا واحدة)) قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف، إذ لو كان للحقَّ فِرَقٌ أيضاً لم يقل: ((إلا واحدة))، ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق، لأنها الحاكمة بين المختلفين، لقوله تعالى: {فَإنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(1)؛ إذ رد التنازع إلى الشريعة، فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة.
المسألة العاشرة
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة، وإنما تعرض لعدها خاصة، وأشار إلى الفرقة الناجية حين سئل عنها، وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأُمور:
(أحدها): أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة.
__________
(1) النساء: 59.(188/100)
(والثاني): أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج، وحصل التعيين بالاجتهاد، بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضي شرحاً كثيراً، ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد، لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعاً لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها.
المسألة الحادية عشرة
اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال:
(أحدها): إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.
فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأُمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبه الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأُمة، لم يدخلوا في سوادهم بحال.
(الثاني): إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فمن خرج مما عليه علماءُ الأُمة مات ميتة جاهلية، لأن جماعة اللّه العلماء، جعلهم اللّه حجة على العالمين، وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها تفزع من النوازل، وهي تبع لها.
فعلى هذا القول لا يدخل أحد من المبتدعين، لأن العالم لا يبتدع، وإنما يبتدع من ادَّعى لنفسه العلم وليس كذلك، ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله، وهذا بناءُ على القول بأن المبتدع لا يعتب به في الإجماع وإن قيل بالاعتداد بهم فيه، ففي غير المسألة التي ابتدع فيها، لأنهم في نفس البدعة مخالفون للاجماع: فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأساً.
(والثالث): إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك.(188/101)
فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأُخرى في قوله عليه الصلاة والسلام: ((ما أنا عليه وأصحابي)) فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه، وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق فأهل البدع إذاً غير داخلين في الجماعة قطعاً على هذا القول.
(الرابع): إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضمن اللّه لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة.
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضى أيضاً ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر، وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلاً، فهم ـ إذاً ـ الفرقة الناجية.
(والخامس): أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأُمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم.
وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم.
فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع، وأنهم المرادون بالأحاديث.
المسألة الثانية عشرة(188/102)
وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواءٌ ضموا إليهم العوام أم لا، فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم، وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة، فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء، فإنهم لو تمالأُوا على مخالفة العلماء فيما حَدُّوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر، لقلة العلماء وكثرة الجهال، فلا يقول أحد: إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب، وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث، بل الأمر بالعكس، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم.
فانظر غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم، وهو وهم العوام، لا فهم العلماء، فليثبت الموفق في هذه المزلة فدمه لئلا يضل عن سواء السبيل، ولا توفيق إلا باللّه.
المسألة الثالثة عشرة
إن ها هنا تظراً لفظياً في الحديث هو من تمام الكلام فيه، وذلك أنه لما أخبر، أخبر عليه الصلاة والسلام أن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر، فجاءَ في الرواية الأُخرى السؤال عنها ـ سؤال التعيين ـ فقالوا: من هي يا رسول اللّه؟ فأصلُ الجواب أن يقال: أنا وأصحابي، ومن عمل مثل عملنا، أو ما أشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة، إما بالإشارة إليها أو بوصف من أوصافها، إلا أن ذلك لم يقع، وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف، والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي اللّه عنهم، فلم يطابق السؤالُ الجوابَ في اللفظ، والعذر عن هذا أن الغرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى، لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بَيَّن لهم الوصف الذي به صارت ناجية، فقال: ((ما أنا عليه وأصحابي)).(188/103)
ويمكن أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية ـ كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية، لا عن نفس الفرقة، لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها، فالمقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل، فلو سألوا: ما وصفها؟ أو ما عملها؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى، فلما فهم عليه الصلاة والسلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك.
ونقول: لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم، أتى به جواباً عن سؤالهم، حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه.
* * *
الباب العاشر
[في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت
عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان]
لا بد من تقديم مقدمة قبل الشروع في المطلوب؛ وذلك أن الإحداث في الشريعة (إنما) يقع:
1ــ إما من جهة الجهل.
2ــ وإما من جهة تحسين الظن بالعقل.
3ــ وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق؛ وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة، إلا أن الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع، فإذا اجتمعت فتارة تجتمع منها اثنتان، وتارة تجتمع الثلاث، فالجميع أربعة أنواع:
1ــ الجهل بأدوات الفهم.
2ــ الجهل بالمقاصد.
3ــ تحسين الظن بالعقل.
4ــ اتباع الهوى.
فلنتكلم على كل واحد منها وباللّه التوفيق.
(النوع الأول): إن اللّه عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه، بمعنى أنه جار في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، قال اللّه تعالى: {إنَّا جعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً}(1)، وقال تعالى: {قُرْآناً عَرَبياً غَيْرَ ذِي عِوَجِ}(2).
__________
(1) الزخرف: 3.
(2) الزمر: 28.(188/104)
وكان المنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد وهو محمد بن عبد اللّه - صلى الله عليه وسلم -، وكان الذين بعث فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم، فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جارٍ على ما اعتادوه، ولم يداخله شيء بل نفى عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَم أنَّهُمْ يَقُولُونَ إنما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ: بِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمىٌّ، وَهذَا لِسَانٌ عَرَبىٌّ مُبينٌ}(1).
وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب اللّه تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها.
فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أُصولاً وروعاً أمران:
(أحدهما): أن لا يتكلم في شيءٍ من ذلك حتى يكون عارفاً بلسان العرب.
(الثاني): أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية فقد يكون إماماً فيها، ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات، فالأولى في حقه الاحتياط، إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها.
(النوع الثاني): أن اللّه تعالى أنزل الشريعة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها تبيان كل شيءٍ يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها، وتعبداتهم التي طُوقُوها في أعناقهم، ولم يمت رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حتى كملَ الدين بشهادة اللّه تعالى بذلك حيث قال تعالى: {الْيوْمَ أكْمَلْتُ لكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ علَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً}(2)، فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كُذِّب بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم}.
فعلى الناظر في الشريعة أمران:
__________
(1) النحل: 103.
(2) المائدة: 3.(188/105)
(أحدهما): أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان، ويعتبرها اعتباراً كلياً في العبادات والعادات، ولا يخرج عنها البتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال وَرَميٌ في عماية كيف وقد ثبت كمالها وتمامها؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بُنَيَّاتِ الطرق.
(والثاني): أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مهيع واحد، ومنتظم إلى معنى واحد، فإذا أداه بادي الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن اللّه قد شهد له أن لا اختلاف فيه.
(النوع الثالث): أن اللّه جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون، إذ لو كان كيف كان يكون؟ هذا وجه، ووجه آخر:
وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه، فما ادَّعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها، لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه، وعلى حال دون حال.
فالإنسان ـ وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علماً ـ لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك، كل أحد يشاهد (ذلك) من نفسه عياناً، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم، ولا بذات دون صفة، ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية ـ وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد؟ لا سبيل له إلى دعوى الاستقلال البتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع ـ إن كانت شرعية ـ لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها البتة، ولا قصور ولا نقص، بل مباديها موضوعة على وفق الغايات، وهي من الحكمة.
(النوع الرابع): أن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً للّه.(188/106)
فاللّه تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم، برهم وفاجرهم.
وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأُمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة، حتى إن المُرْسَليِن بها صلوات اللّه عليهم داخلون تحت أحكامها.
فأنت ترى أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته، مما اختص به دون أُمته، أو كان عاماً له ولأُمته، كقوله تعالى: {يَا أيُّهاالنَّنِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاةَ أزْوَاجِكَ، وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(1).
في الشريعة هي: الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين، وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ، وَلكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عَبَادنا}(2)؛ فهو عليه الصلاة والسلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثم من اتبعه فيه. والكتاب هو الهادي، والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدى والخلق مهتدون بالجميع.
وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومتاراً يهتدون بها إلى الحق، وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولاً واعتقاداً وعملاً، لا بحسب عقولهم فقط، ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط، لأن اللّه تعالى إنما أثبت الشرف بالتقوى لا غيرها لقوله تعالى: {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقَاكُمْ}(3)؛ فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها، فالشرف إذاً إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة.
__________
(1) التحريم: 1.
(2) الشورى: 52.
(3) الحجرات: 13.(188/107)
ثم نقول بعد هذا: إن اللّه سبحانه شرف أهل العلم ورفع أقدارهم، وعظم مقدارهم، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، بل قد اتفق العقلاءُ على فضيلة العلم وأهله، وأنهم المستحقون شرف المنازل، وهو مما لا ينازع في ه عاقل.
واتفق اهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم وأعظمها أجراً عند اللّه يوم القيامة.
وأيضاً فإن علوم الشريعة منها ما يجري مجرى الوسائل بالنسبة إلى السعادة الأُخروية، ومنها ما يجري مجرى المقاصد، والذي يجري مجرى المقاصد أعلى مما ليس كذلك، كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقه، فإنه كالوسيلة، فعلم الفقه أعلى.
وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناءُ في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أُخرى، ودل على ذلك وقوع الثناء عليهم مقيداً بالاتصاف به، فهو إذاً العلة في الثناءِ؛ ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم.
ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردها إلى الشريعة حيث يثبت الحق فيها، لقوله تعالى: {فإنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَيءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(1) الآية.
* * *
فالمكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أُمور ثلاثة:
(أحدها): أن يكون مجتهداً فيها: فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها، لأن اجتهاده في الأُمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة، دون ما ظهر لغيره من المجتهدين، فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب.
__________
(1) النساء: 59.(188/108)
(والثاني): أن يكون مقلداً صرفاً، خَلِياً من العلم الحاكم جملة، فلا بد له من قائد يقوده، وحاكم يحكم عليه، وعالم يقتدى به، ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم، والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم لم يحل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه، بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامي ولا غيره تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر، كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا أن يكون فاقد العقل.
(والثالث): أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين، لكنه يفهم الدليل وموقعه، ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه، فلا يخلو إما أن يُعتبر ترجيحه أو نظره، أو لا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه، والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه، متوجه شطره: فالذي يشبهه كذلك وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي، والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم، فكذلك من نزل منزلته.
فالحاصل أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال، وما توفيقي إلا باللّه، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره.(188/109)
ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علماً يقيناً، ألا ترى أصحاب السقيفة لما تنازعوا في الإمارة ـ حتى قال ببعض الأنصار ـ: ((منا أمير ومنكم أمير))(1)، فأتى الخبر عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بأن: ((الأئمة من قريش))(2)، أذعنوا لطاعة اللّه ورسوله ولم يعبأُوا بِرَأي من رأي غير ذلك، لعلمهم بأن الحق هو المقدم على آراء الرجال.
إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضاً لا يعرف دون وسائطهم بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاءُ على طريقه.
فهرس الموضوعات التفصيلي
مقدمة الكتاب
مقدمة المصنِّف
وصف الغربة
الباب الأول
[ في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظاً ]
فصل [البدعة التَّركيَّة]
…تارك المطلوبات الشرعية ندباً أو وجوباً، هل يسمى مبتدعاً ؟
الباب الثاني
[ في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها ]
فصل [الأدلة من النظر على ذم البدع] و ذلك من وجوه :
…(أحدها) أنه قد علم بالتجارب والخبرة أن العقول غير مستقلة بمصالحها
…(الثاني) أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان
…(الثالث) أن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌّ له
…(الرابع) أن المبتدع قد نزَّل نفسه منزلة المضاهي للشارع
…(الخامس) أنه اتباع للهوى
…للاتباع في الأحكام الشرعية طريقان :
…(أحدهما) الشريعة
…(الثاني) الهوى، وهو المذموم
فصل [الأدلة من النقل على ذم البدع] و ذلك من وجوه :
…(أحدها) ما جاء في القرآن الكريم
…(الثاني) ما جاء في الأحاديث
…(الثالث) ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة و التابعين
…ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي اللّه عنهم
فصل [ما جاء في ذم الرأي المذموم]
__________
(1) خبر السقيفة رواه البخاري مطولاً برقم (6830) ومختصراً (668)
(2) صحيح] متواتر رواه نحو أربعين صحابياً كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، انظر تخريجه في ((الارواء)) (520).(188/110)
فصل [ما في البدع من الأوصاف المحذورة، والمعاني المذمومة]
أن البدعة لا يقبل معها عمل
…إما أن يراد أي عمل أو العمل الذي ابتدع فيه خاصة
…(أما الأول ) فيمكن على أحد أوجه ثلاثة :
…1-أن يكون على ظاهره كل مبتدع أي بدعة
…2- أن تكون بدعته أصلاً يتفرع عليه سائر الأعمال
…3- أن صاحب البدعة قد يجره اعتقاد بدعته إلى التأويل الذي يُصيِّر اعتقاده في الشريعة ضعيفاً
…(أما الثاني) وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة
أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه
أن الماشي إليه والموقِّر له معين على هدم الإسلام
…توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين :
…إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير
…والثانية: أنه إذا وُقِّرَ من أجل بدعته صار ذلك كالمحرِّض له على إنشاء الابتداع في كل…شيءٍ
أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة
أنه يزداد من اللّه بعداً
أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام
أنها مانعة من شفاعة محمد صلى الله عليه و سلم
أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة
أن صاحبها ليس له من توبة
أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من اللّه تعالى
البعد عن حوض رسول اللّه صلى الله عليه و سلم
الخوف عليه من أن يكون كافراً
أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ باللّه
اسوداد الوجه في الآخرة
البراءة منه
أنه يخشى عليه الفتنة
فصل [الفرق بين البدعة والمعصية]
الباب الثالث
[ في أن ذم البدع عامٌّ لا يخص واحدة دون
أُخرى و فيه جملة من شبه المبتدعة]
…ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه:
…أحدها : أنها جاءت مطلقة عامة
…الثاني :
…الثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم
…الرابع: أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه
…المبتدع مذموم آثم، وذلك على الاطلاق والعموم ويدل على ذلك أربعة أوجه:
…1- أن الأدلة المذكورة إن جاءَت فيهم نصاً فظاهر(188/111)
…2- أن الشرع قد دل على أن الهوى هو المتَّبَع الأول في البدع
…3- أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح
…4- أن كل راسخ لا يبتدع أبداً
فصل [أقسام المنسوبين إلى البدعة]
…(القسم الأول) [أن يكون مجتهداً في البدعة] على ضربين:
…1- أن يصح كونه مجتهداً
…2- وأما إن لم يصح أنه من المجتهدين فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع
…(القسم الثاني) [المقلد مع الإقرار بدليل المجتهد]
…(القسم الثالث) [مقلد في البدعة كالعامي الصرف]
فصل [لفظ ((أهل الأهواء)) و ((أهل البدع))]
فصل [ اختلاف مراتب إثم المبتدع ]
…1- الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان
…2- الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها
…3- الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية
…4- الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ أو مشكلة
…5- الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه
…6- الاختلاف من جهة كونها كفراً وعدمه
فصل [ القيام على أهل البدع من الخاصة و العامة ] وهو أنواع :
…(أحدها) الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة
…(الثاني) الهجران
…(الثالث) [التغريب]
…(الرابع) [السجن]
…(الخامس) ذكرهم بما هم عليه وإشاعة بدعتهم
…(السادس) القتال
…(السابع) القتل
…(الثامن) من أسرَّها وكانت كفراً أو ما يرجع إليه فالقتل بلا استتابة
…(التاسع) تكفير من دل الدليل على كفره
…(العاشر) لا يرثهم ورثتهم من المسلمين ولا يرثون أحداً منهم
…(الحادي عشر) الأمر بأن لا يناكحوا
…(الثاني عشر) تجريحهم على الجملة
…(الثالث عشر) ترك عيادة مرضاهم
…(الرابع عشر) ترك شهود جنائزهم
…(الخامس عشر) الضرب
فصل[شبه المبتدعة والرد عليهم]
…وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى اشكالين :
…(الأول) ما في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سن سنة حسنة ))
…(الثاني) أن السلف الصالح رضي الله عنهم ـ وأعلاهم الصحابة ـ قد عملوا بما لم يأت به …كتاب ولا سنة مما رأوه حسناً
…فالجواب عن الإشكال الأول من وجهين :
…أحدهما :
…الثاني :(188/112)
…والجواب عن الأشكال الثاني
فصل [تقسيم البدع الى خمسة أقسام و الرد عليه ]
…فإن قيل: فقد سماها عمر رضي الله عنه بدعة وحسَّنها بقوله: ((نعمت البدعة هذه))
…فالجواب :
الباب الرابع
[ في مأخذ أهل البدع بالاستدلال ]
فصل[بيان طرق أهل الزيغ]
…1- اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة
…2- ردهم للأحاديث
…3- تَخَرُّصُهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين
…4- انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات
…5- تحريف الأدلة عن مواضعها
…6- بناءُ طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل
…7- التغالي في تعظيم شيوخهم
…8- [الاحتجاج بالمنامات]
…النظر في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - ((من رآني في النوم فقد رآني))
الباب الخامس
[ في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما ]
فصل [البدع الإضافية]
فصل [سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما] و ذلك على ضربين :
…(أحدهما) أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه
…(الثاني)
فصل [من البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره]
فصل [من البدع الإضافية: اخراج العبادة عن حدِّها الشرعي]
فصل [البدع الإضافية: هل يُعتد بها عبادات يتقرب بها إلى الله]
…أربعة أقسام لا بد من بيانها :
…(الأول) وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع
…(الثاني) وهو أن يصير العمل العادي أو غيره كالوصف للعمل المشروع
…(الثالث) وهو أن يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها …أو جزءُ منها
…(الرابع) إن ذهب مجتهد الى عدم سد الذريعة
…يصح أن يكون العمل مأموراً به من جهة نفسه، ومنهياً عنه من جهة مآله، ولنا فيه مسلكان:
…(أحدهما) التمسك بمجرد النهي في أصل المسألة
…(الثاني) ما دل في بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه
الباب السادس
[ في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة ]
…منها ما هو كفر(188/113)
…ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا
…ومنها ما هو معصية ويتفق عليها ليست بكفر
…ومنها ما هو مكروه
…المعاصي منها صغائر و منها كبائر
فصل [كل بدعة ضلالة]
فصل [هل في البدع صغائر وكبائر]
…ثبت أن للبدع أمران :
…(أحدهما) أنها مضادة للشارع
…(الثاني) أن كل بدعة ـ وإن قَلَّت ـ تشريع زائد أو ناقص
…وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة، والبدعة حاصلها …مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة
فصل [شروط كون البدع صغيرة]
…وإذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة؛ فذلك بشروط:
…(أحدها) أن لا يداوم عليها
…(الثاني) أن لا يدعو إليها
…(الثالث) أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس
…(الرابع) أن لا يستصغرها ولا يستحقرها
الباب السابع
[ في الابتداع هل يختصُّ بالأُمور العبادية أو يدخل في العاديَّات ؟ ]
…أفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين:
…(أحدهما) أن تكون من قبيل التعبدات
…(الثاني) أن تكون من قبيل العادات
…الفرق بين المعصية التي هي بدعة، والمعصية التي هي ليست ببدعة
فصل [في نشوء البدع]
…البدعة تنشأُ عن أربعة أوجه:
…(أحدها) ـ وهو أظهر الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع
…(الثاني) أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة
…(الثالث) أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار
…(الرابع) من باب الذرائع
الباب الثامن
[ في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان ]
…المعنى المناسب: الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:
…(أحدها) أن يشهد الشرع بقبوله
…(الثاني) ما شهد الشرع برده
…(الثالث) ما سكتت عنه الشواهد الخاصة
…تعريف الاستدلال المرسل، المسمى بالمصالح المرسلة و بسطه بالأمثلة
…(المثال الأول) جمع المصحف
…(المثال الثاني) تضمين الصناع
…(المثال الثالث) للإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً(188/114)
…(المثال الرابع) انه يجوز قتل الجماعة بالواحد
…شروط الأخذ بالمصالح المرسلة :
…(أحدها) الملاءَمة لمقاصد الشرع
…(الثاني) لا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأُمور الشرعية
…(الثالث) أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري، ورفع حرج لازم في الدين
…إذا تقررت هذه الشروط عُلم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة
فصل [الفرق بين البدع والاستحسان]
فصل [رد حجج المبتدعة في الاستحسان]
فصل [رد شبهة استفتاء القلب]
الباب التاسع
[ في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين ]
…أسباب الاختلاف ثلاثة :
…(أحدها) أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعْتقدَ فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد
…(الثاني) اتباع الهوى
…(الثالث) التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت
…هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد: وهو الجهل بمقاصد الشريعة
فصل [حديث الفِرَق وفيه مسائل]
…المسألة الأولى : في حقيقة هذا الافتراق
…المسألة الثانية :
…المسألة الثالثة :
…المسألة الرابعة: إن هذه الأقوال مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد …العقائد على الخصوص
…المسألة الخامسة: أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنى كُلِّي في الدين
…المسألة السادسة : في تعيين هذه الفرق
…قال جماعة من العلماء: أُصول البدع أربعة : الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة
…المسألة السابعة : أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها
…فأما العلامات الإجمالية فثلاثة:
…(أحدها) الفرقة
…(الثانية) اتباع المتشابه من القرآن
…(الثالثة) اتباع الهوى
…وأما العلامة التفصيلية
…المسألة الثامنة : أنها كلها في النار
…المسألة التاسعة : أن الحق واحد لا يختلف
…المسألة العاشرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة
…المسألة الحادية عشرة : معنى الجماعة المرادة في الأحاديث(188/115)
…(أحدها) إنها السواد الأعظم
…(الثاني) إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين
…(الثالث) إن الجماعة هي الصحابة
…(الرابع) إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام
…(الخامس) أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير
…المسألة الثانية عشرة : أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد
…المسألة الثالثة عشرة : وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف
الباب العاشر
[ في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه
سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان ]
…أنواع الإحداث في الشريعة أربعة :
…1- الجهل بأدوات الفهم
…2- الجهل بالمقاصد
…3- تحسين الظن بالعقل
…4- اتباع الهوى
…(النوع الأول) إن اللّه عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه
…على الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أُصولاً وفروعاً أمران:
…(أحدهما) أن يكون عارفاً بلسان العرب
…(الثاني) أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية
…(النوع الثاني) أن اللّه تعالى أنزل الشريعة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها تبيان كل شيءٍ يحتاج إليه الخلق
…على الناظر في الشريعة أمران:
…(أحدهما) أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان
…(الثاني) أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر
…(النوع الثالث) أن اللّه جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تعداه
…(النوع الرابع) أن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه
…علوم الشريعة منها ما يجري مجرى الوسائل، ومنها ما يجري مجرى المقاصد
…أهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع
…المكلف بأحكام الشريعة لا يخلو من أحد أُمور ثلاثة:
…(أحدها) أن يكون مجتهداً فيها
…(الثاني) أن يكون مقلداً صرفاً
…(الثالث) أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين، لكنه يفهم الدليل وموقعه(188/116)
…تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال
إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضاً لا يعرف دون وسائطهم(188/117)
مرشد الحائر
لبيان وضع حديث جابر
تأليف
أبي الفضل عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري المتوفى سنة 1413هـ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المحقّق
الحمد لله أحمده وأستعين به وأتوكّل عليه، سبحانه لا تبلغه الأوهام، كتم الآجال، وأحصى الأعمال، وصلّى الله على سيدنا محمد عبد الله ورسوله ءاتاه الله الحكمة ففتح بها أعينًا عميًا، وقلوبًا غلفًا، وءاذانًا صمًّا، وعلى ءاله وصحبه الطّيبين ورضي الله عن تابعيه بإحسان.وبعد:
فإن هذه الرسالة المسمّاة "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر" تأليف الشيخ عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري محدث الديار المغربية والبلاد الأفريقيّة نضعها بين يديّ القرّاء وفيها الردّ الوافي على القائلين بأن أوّل ما خلق الله نور النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يكون عملنا مقبولاً عنده إنه على كل شىء قدير.
قسم الأبحاث والدراسات الإسلامية
ترجمة المؤلِّف([1])
اسمه وكنيته:
هو الشيخ السيد أبو الفضل عبد الله ابن العلاَّمة أبي عبد الله شمس الدين محمد ابن الولي الكبير سيدي محمد الصديق ابن سيدي أحمد بن محمد بن قاسم بن محمد بن محمد بن عبد المؤمن الغماري الطنجي بن محمد بن عبد المؤمن بن علي ابن الحسن بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن عبدالله بن عيسى بن سعيد بن مسعود بن الفضيل ابن علي بن عمر بن العربي علال بن موسى ابن أحمد بن داود ابن مولانا إدريس ابن مولانا إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن المثنى ابن سيدنا الحسن ابن الإمام علي رضي الله عنه.
مولده:
وُلد رحمه الله تعالى في ءاخر يوم من جمادى الآخرة سنة 1328هـ - 1910ر بثغر طنجة.
نشأته ورحلاته:(189/1)
نشأ في رعاية والده رحمه الله فحفظ القرءان الكريم برواية ورش، ثم حفص، ثم شرع في حفظ بعض المتون فحفظ معظم منظومة الخراز المسماة "مورد الظمآن" وجملة كبيرة من الألفيّة، والأربعين نووية، والآجرومية، وقطعة من بلوغ المرام، ومن مختصر الشيخ خليل.
ثم قرأ شرح الأزهري على الآجرومية على أخيه أبي الفيض، وحلّ قبل ذلك عباراتها حلا موجزًا على خاله السيد أحمد بن عبد الحفيظ بن عجيبة.
ثم سافر إلى فاس بأمر والده لطلب العلم في جامعة القرويين فقرأ شرح الألفيّة للمكودي على الشيخ الشريف الحبيب المهاجي، وشرح المكودي أيضًا مع حاشية ابن الحاج على الشيخ محمد ابن الحاج ابن المحشي، وحضر شرح ابن عقيل وحاشية السجاعي على الشيخ محمد الحاج ابن عم المذكور ءانفًا.
وحضر في أوّل شرح الخرشي على مختصر خليل على الشيخ الحبيب المهاجي، وكتاب الجنايات وما إليها على الشيخ أحمد القادري، وباب البيوع وما يتبعه على الشيخ محمد الصنهاجي، وأبوابًا أُخر على الشيخ محمد بن الحاج السابق ذكره والعلاّمة أحمد بن الجيلاني، وقطعة من المختصر شرح الزرقاني على العلاّمة عبد الله الفضيلي، ومن باب الإجارة إلى ءاخر المختصر شرح الشيخ الدردير على عبدالرَّحمن بن القرشي.
وحضر فرائض المختصر شرح الخرشي، وحاشية أحمد بن الخيّاط على الفقيه أبي الشتاء الصنهاجي.
وحضر شرح البخاري للقسطلاني على الشيخ محمد ابن الحاج بجامع مولاي إدريس، وحضر على الشيخ الحسين العراقي بجامع عبد الرَّحمن المليلي، وحضر على العلامة عبد الحيّ الكتّاني حاشية الشنواني على ابن أبي جمرة في جامع القرويين.
وحضر جمع الجوامع شرح المحلي من أوّله إلى كتاب السُّنّة على الشيخ الحسين العراقي، والمقدّمات منه على العلاّمة عبد الله الفضيلي، وقطعة كبيرة منه على الشيخ العباس بناني، كما حضر عليه المقولات العشر، والتوحيد لابن عاشر.(189/2)
وحضر رسالة الوضع على الشيخ عبد الله الفضيلي، وشرح القويسني على السلم على الشيخ الحبيب المهاجي.
وفي أثناء إقامته في فاس اجتمع بالسيد محمد ابن جعفر الكتّاني، وأجازه السيد مهدي العزوزي الذي يروي عن السيد مرتضى الزبيدي المتوفى سنة 1205هـ بواسطتين.
ثم رجع إلى طنجة بعد أن كرع وتضلّع وصار مقدّمًا على جميع أقرانه فدرّس بالزاوية الصديقيّة الآجرومية ورسالة القيرواني، وكان يحضر دروس والده في صحيح البخاري، والأشباه والنظائر النحويّة للسيوطي، ومغني اللبيب مع مراجعة شرح الدماميني وحواشي الأمير والدسوقي وعبد الهادي نجا الأبياري وغير ذلك.
وفي أثناء ذلك كتب أوّل مصنفاته وهو شرح موسع على الآجرومية سمّاه شقيقه الحافظ أبو الفيض "تشييد المباني لتوضيح ما حوته المقدمة الآجرومية من الحقائق والمعاني".
وفي أواخر شهر شعبان سنة 1349هـ _1930ر سافر إلى مصر والتحق بالأزهر المعمور فحضر شرح الملوي على السلم وحاشية الصبّان على الشيخ عبد القادر الزنتاني الطرابلسي، وحضر جمع الجوامع بشرح المحلي من باب القياس إلى ءاخره على العلاّمة محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي، والرسالة السمرقنديّة في ءاداب البحث والمناظرة عليه.
وحضر شرح الاسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي على الشيخ حامد جاد، وتهذيب السعد بشرح الخبيصي في المنطق على الشيخ محمود إمام عبد الرَّحمن المنصوري الحنفي، وسمع منه الحديث المسلسل بالأولية.
ثم اتجه للفقه الشافعي تنفيذًا لأوامر والده فحضر في المنهج للشيخ زكريا على الشيخ محمد عزّت، وقرأ شرح الخطيب على أبي شجاع على الشيخ عبد المجيد الشرقاوي، وحضر دروس الشيخ محمد بخيت المطيعي في التفسير والهداية في الفقه الحنفي، وفي حاشيته على شرح الاسنوي على منهاج الأصول وأجازه إجازة عامة.
وحضر على الشيخ محمد السمالوطي في سنن الترمذي وأجازه إجازة عامة كما أجازه جماعة ءاخرون.(189/3)
وفي سنة 1350هـ _ 1931ر تقدّم لامتحان العالمية (عالمية الغرباء) والامتحان في اثني عشر فنًّا فنجح وحصل على عالمية الغرباء ثم حصل على عالمية الأزهر.
تدريسه:
درّس جمع الجوامع بشرح المحلي، وشرح الملوي على السلم، وسلم الوصول إلى علم الأصول لابن أبي حجاب، والجوهر المكنون في البلاغة للأخضري، وشرح المكودي على الألفيّة، وتفسير النسفي، والأحكام للآمدي، والخبيصي على تهذيب السعد في المنطق، وتفسير البيضاوي.
شيوخه:
المغرب:
1- والده السيد محمد بن الصديق رحمه الله تعالى.
2-أخوه الحافظ العلاّمة أبو الفيض أحمد.
3-العلاّمة الشيخ محمد بن الحاج السلمي.
4-العلاّمة الشيخ القاضي العبّاس بن أبي بكر بناني.
5-العلاّمة المحقق السيّد أحمد بن الجيلاني الأمغاري.
6-الشيخ فتح الله البناني الرباطي.
7-العلاّمة الشيخ الراضي السناني الشهير بالحمش.
8-العلاّمة أبو الشتاء بن الحسن الصنهاجي.
9-العلاّمة الشيخ محمد الصنهاجي أخو السابق.
10-العلاّمة السيد أحمد بن الطيب القادري.
11-العلاّمة عبد الله الفضيلي.
12-العلاّمة السيد عبد الرَّحمن بن القرشي العلوي.
13-الشريف الحبيب المهاجي.
14-المحدث عبد الحي الكتاني.
15-العلاّمة القاضي الحسين العراقي.
16-العلاّمة السيد محمد المكّي بن محمد البطاوري.
17-السيد المهدي بن العربي بن الهاشمي الزرهوني.
18-الملك إدريس بن محمد المهدي ابن العلاّمة محمد ابن علي السنوسي الشريف الحسني.
19-القاضي المسند الكبير عبد الحفيظ بن محمد بن عبد الكبير الفاسي الفهري.
20-العلاّمة الأثري الصوفي أبو القاسم بن مسعود الدبّاغ.
21-العلاّمة المحدّث السيّد محمد بن إدريس القادري الحسني الفاسي.
تونس:
1- شيخ جامع الزيتونة الشيخ طاهر بن عاشور التونسي المالكي.
مصر:
1- الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي.
2- مسند العصر الشيخ أحمد بن محمّد بن عبد العزيز ابن رافع الحسيني الطهطاوي.(189/4)
3- الشيخ محمد إمام بن برهان الدين إبراهيم الشهير بالسقّا الشافعي.
4- الشيخ محمد بن إبراهيم الحميدي السمالوطي المالكي.
5- الشيخ محمد بن محمد بن خليفة الأزهري الشافعي.
6- الشيخ أحمد بن محمد بن محمد الدلبشاني الموصلي القاهري.
7- السيد بهاء الدين أبو النصر بن أبي المحاسن القاوقجي الطرابلسي.
8- الشيخ محمد الخضر بن حسين التونسي.
9- أبو الوفاء خليل بن بدر بن مصطفى الخالدي الحنفي.
10- العلاّمة الشيخ محمد دويدار الكفراوي التلاوي الشافعي.
11- الشيخ طه بن يوسف الشعبيني الشافعي.
12- الشيخ عبد المجيد بن إبراهيم بن محمد اللبّان.
13- عبد الواسع بن يحيى الصنعاني اليمني.
14- الأستاذ عويض بن نصر الخزاعي المكّي.
15- الشيخ محسن بن ناصر باحربه اليمني الحضرمي الشافعي.
16- الشيخ عبد الغني طموم الحنفي.
17- الشيخ محمد بن إبراهيم الببلاوي المالكي.
18- الشيخ محمد بن عبد اللطيف خضير الدمياطي الشافعي.
19- محمد بن محمد زبارة الصنعاني الحسني.
20- الشيخ محمود بن عبد الرَّحمن المنصوري الحنفي الأزهري.
21- الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري.
22- الشيخ محمد بن حسنين بن محمد مخلوف العدوي المالكي.
23- الشيخ عبد المجيد الشرقاوي.
24- الشيخ محمد عزت.
الحجاز:
1- الشيخ المحدث عمر حمدان المحرسي.
2- الشيخ المحدث عبد القادر بن توفيق الشلبي الطرابلسي.
3- الشيخ المعمّر محمد المرزوقي بن عبد الرَّحمن أبو الحسين المكّي الحنفي.
4- الشيخ صالح بن الفضل التونسي ثم المدني الحنفي.
5- العلاّمة عبد الباقي بن ملاّ علي بن ملاّ محمد معين اللكنوي الأنصاري المدني الحنفي.
الشام:
1- الشيخ محمد سعيد بن أحمد الفرا الدمشقي الحنفي.
2- العلاّمة الورع بدر الدين بن يوسف الحسني الدمشقي الشافعي شيخ دار الحديث بدمشق.
3- الأستاذ الشيخ عبد الجليل بن سليم الذرا الدمشقي.
4- الشيخ محمد راغب بن محمود الطبّاخ الحلبي الحنفي.(189/5)
5- الشيخ يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني الشافعي البيروتي.
6- الشيخ عطاء بن إبراهيم بن ياسين الكسم الدمشقي الحنفي.
شيوخه من النساء:
1- أم البنين ءامنة بنت عبد الجليل بن سليم الذرا الدمشقيّة.
مؤلّفاته:
ألّف العديد من المصنّفات نذكر منها:
1- الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج للبيضاوي - ط.
2- تخريج أحاديث لمع أبي إسحاق الشيرازي في الأصول -ط.
3- عقيدة أهل الإسلام في نزول عيسى عليه السلام في ءاخر الزمان - ط.
4- الردّ المحكم المتين على كتاب القول المبين - ط.
5- إتحاف الأذكياء بجواز التوسّل بسيد الأنبياء - ط.
6- الأربعون حديثًا الغمارية في شكر النعم - ط.
7- الأربعون حديثًا الصديقيّة في مسائل اجتماعية - ط.
8- الاستقصاء لأدلّة تحريم الاستمناء - ط.
9- سمير الصالحين في 3 أجزاء - ط.
10- حسن البيان في ليلة النصف من شعبان - ط.
11- فضائل القرءان - ط.
12- تشييد المباني لما حوته الآجرومية من المعاني - خ.
13-فضائل رمضان وزكاة الفطر - ط.
14- مصباح الزجاجة في صلاة الحاجة - ط.
15- قصص الأنبياء - طبع منه قصّة ءادم وإدريس وداود وسليمان.
16- قرّة العين بأدلّة إرسال النبيّ إلى الثقلين - ط.
17- جواهر البيان في تناسب سور القرءان - ط.
18- نهاية الآمال في شرح وتصحيح حديث عرض الأعمال - ط.
19- الحجج البيّنات في إثبات الكرامات - ط.
20- واضح البرهان على تحريم الخمر في القرءان - ط.
21- دلالة القرءان المبين على أن النبيّ أفضل العالمين - ط.
22- النفحة الإلهية في الصلاة على خير البريّة - ط.
23- شرح الإرشاد في فقه المالكية - ط.
24- إعلام النبيل بجواز التقبيل - ط.
25- الفتح المبين بشرح الكنز الثمين - ط.
26- القول المسموع في بيان الهجر المشروع - ط.
27- الصبح السافر في تحرير صلاة المسافر - ط.
28- الرأي القويم في وجوب إتمام المسافر خلف المقيم - ط.
29- خواطر دينيّة - في ثلاث مجلدات - طُبع الأول فقط.(189/6)
30- تفسير القرءان الكريم - لم يتم.
31- إتقان الصنعة في بيان معنى البدعة - ط.
32- توضيح البيان لوصول ثواب القرءان - ط.
33- التحقيق الباهر في معنى الإيمان بالله واليوم الآخر - ط.
34- تنوير البصيرة ببيان علامات الساعة الكبيرة - ط.
35- الغرائب والوحدان في الحديث الشريف - ط.
36- التنصل والانفصال من فضيحة الإشكال - ط.
37- كيف تشكر النعمة - ط.
38- كيف تكون محدّثًا - خ.
39- الإعلام بأن التصوُّف من شريعة الإسلام - ط.
40- ذوق الحلاوة بامتناع نسخ التلاوة - ط.
41- حسن التفهُّم والدرك لمسألة الترك - ط.
42- الأدلة الراجحة على فرضية قراءة الفاتحة - ط.
43- أجوبة هامة في الطب - ط.
44- إزالة الالتباس عمّا أخطأ فيه كثير من الناس - ط.
45- إتحاف النبلاء بفضل الشهادة وأنواع الشهداء - ط.
46- المهدي المنتظر - ط.
47- الإحسان في تعقيب الإتقان في علوم القرءان - ط.
48- تمام المنة ببيان الخصال الموجبة للجنّة - ط.
49- كمال الإيمان في التداوي بالقرءان - ط.
50- استمداد العون في بيان كفر فرعون - ط.
51- تنبيه الأواه إلى فوائد الصلاة.
52- أولياء وكرامات.
53- توجيه العناية بتعريف الحديث رواية ودراية - ط.
54- غنية الماجد بحجية خبر الواحد -ط.
55- سبيل التوفيق في ترجمة عبد الله بن الصديق، ترجمة ذاتية - طُبع.
56- مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
57- القول المقنع في الرد على الألباني المبتدع -ط.
58- جزء فيه الرد على الألباني وبيان بعض تدليسه وخيانته، وقد طُبع حديثًا باسم "إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي في الرد على الألباني الوبي".
59- إرشاد الجاهل الغوي إلى وجوب اعتقاد أن ءادم نبي - ط.(189/7)
وله تحقيقات على عدة كتب أخرى منها: المقاصد الحسنة للسخاوي، وتنزيه الشريعة لابن عراق، والبحر الزخّار في مذاهب علماء الأمصار، والإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الشيخ، وقام بإخراج عشرات الأجزاء الحديثيّة والكتب من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات.
توفي رحمه الله سنة 1413هـ - 1993ر بطنجة ودفن فيها قرب والده.
مرشد الحائر
لبيان وضع حديث جابر
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وءاله الأكرمين، ورضي الله عن صحابته والتابعين.
وبعد: فهذا جزء سمّيته: "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر"، أردت به تنزيه النبيّ صلى الله عليه وسلم عمّا نُسب إليه مما لم يصح عنه ويعدُّ من قبيل الغلو المذموم، ومع ذلك صار عند العامة وكثير من الخاصة معدودًا من الفضائل النبويّة التي يكون إنكارها طعنًا في الجناب النبويّ عندهم، ولا يدركون ما في رأيهم وقولهم من الإثم العظيم الثابت في قول النبيّ صلّ الله عليه وسلّم: "من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار"(1) والذي يصفه بما لم يثبت عنه كاذب عليه واقع في المحذور إلاّ أن يتوب، ولا يكون مدحه عليه الصلاة والسلام شافعًا له في الكذب عليه.
وإن كانت الفضائل يتسامح فيها فإن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكون بالثابت المعروف حذرًا من الكذب المتوعَّد عليه بالنار، نسأل الله العافية.
وقد وردت أحاديث في هذا الموضوع باطلة، وجاءت ءاراء شاذة عن التحقيق عاطلة، أُبينها في هذا الجزء بحول الله.(189/8)
روى عبد الرزاق -فيما قيل- عن جابر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي أخبرني عن أول شىء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنّة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسّم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسّم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول السموات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنّة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمّد رسول الله...." الحديث، وله بقية طويلة وقد ذكره بتمامه ابن العربي الحاتمي في كتاب "تلقيح الأذهان ومفتاح معرفة الإنسان"، والديار بكري في كتاب "الخميس في تاريخ أنفس نفيس".
وعزْوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ لأنه لا يوجد في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره(1).
وقال الحافظ السيوطي في الحاوي(2):"ليس له إسناد يعتمد عليه" اهـ، وهو حديث موضوع جزمًا، وفيه اصطلاحات المتصوفة، وبعض الشناقطة المعاصرين ركّب له إسنادًا فذكر أن عبد الرزاق رواه من طريق ابن المنكدر عن جابر وهذا كذب يأثم عليه.
وبالجملة فالحديث منكر موضوع لا أصل له في شىء من كتب السُّنّة(1).
ومثله في النكارة ما روي عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نورًا بين يدي ربي قبل أن يخلق ءادم بأربعة عشر ألف عام" وهو كذب أيضًا.(189/9)
ومن الكذب السخيف ما يقال إن إحدى أمهات المؤمنين أرادت أن تلف إزارًا على جسد النبيّ صلى الله عليه وسلم فسقط الإزار أي لأنه نور، وهذا لا أصل له. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستعمل الإزار ولم يسقط عنه.
وكونه صلى الله عليه وسلم نورًا أمر معنوي، مثل تسمية القرءان نورًا ونحو ذلك، لأنه نوّر العقول والقلوب.
ومن الكذب المكشوف قولهم: لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك(1)، وكذلك ما روي عن علي عليه السلام، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: هبط عليّ جبريل فقال: إن الله يقرؤك السلام ويقول: "إني حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك" وهو حديث موضوع.
وروي في بعض كتب المولد النبوي(المبتدع) عن أبي هريرة قال: سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فقال: يا جبريل كم عمّرتَ من السنين؟ فقال: يا رسول الله لست أعلم غير أن في الحجاب الرابع نجمًا يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة، رأيته اثنتين وسبعين ألف مرة، فقال النبيّ: وعزة ربي أنا ذلك الكوكب.
وهذا كذب قبيح، قبّح الله من وضعه وافتراه.
وذكر بعض غلاة المتصوّفة(1) أن جبريل عليه السلام كان يتلقّى الوحي من وراء حجاب وكُشف له الحجاب مرة فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم يوحي إليه فقال جبريل: منك وإليك. قلت: لعن الله من افترى هذا الهراء المخالف للقرءان فإن الله تعالى يقول لنبيّه: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ{52} }[سورة الشورى] ويقول: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ {193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ {194}} [سورة الشعراء].(189/10)
أخرج أحمد والحاكم والبيهقي في الدلائل(2) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيّين، وإن ءادم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمهات الأنبياء".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(1): "رواه أحمد بأسانيد، والبزار(2) والطبراني بنحوه" ..."أحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبّان(3)"اهـ.
قلت: رواه الحاكم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن سويد بن سعيد، عن العرباض بن سارية، وقال: "صحيح الإسناد" وتعقّبه الذهبي بأن أبا بكر ضعيف(1)، وغلط الدكتور قلعجي محقّق كتاب دلائل النبوة فذكر أن الذهبي وافقه على تصحيحه. وروى أحمد(2) من طريق بُدَيْل، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: "قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: "وءادم بين الروح والجسد".
وهكذا رواه البغوي وابن السكن في الصحابة.
قال الحافظ(3): وهذا سند قوي.
قلت: وذكره البخاري في التاريخ معلقًا.(4)
روى الحاكم(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوّة؟ قال: بين خلق ءادم ونفخ الروح فيه".
وروى أحمد(2) من طريق عبد الله بن شقيق، عن رجل قال: "قلت: يا رسول الله متى جعلت نبيًّا؟ قال: وءادم بين الروح والجسد". قال الهيثمي(3): رجاله رجال الصحيح.
قلت: هو أحد طرق حديث ميسرة الفجر.
وقال ابن سعد في الطبقات(4): أخبرنا عفّان ابن مسلم وعمرو بن عاصم الكلابي قالا: حدّثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله ابن شقيق، عن عبد الله بن أبي الجدعاء قال: "قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: إذ ءادم بين الروح والجسد"اهـ. رجاله رجال الصحيح.(189/11)
وروى البزار(1) والطبراني(2) بإسناد ضعيف عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "قيل: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: وءادم بين الروح والجسد".
قال البيهقي(3): قوله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيين وان ءادم لمنجدل في طينته" يريد انه كان كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأوّل الأنبياء صلوات الله عليهم" اهـ.
وقال أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، ثنا محمد بن صالح، ثنا محمد بن سنان العَوفي، ثنا إبراهيم بن طَهمان، عن بُدَيل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟ قال: "لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش كتب على ساق العرش: محمّد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنّة التي أسكنها ءادم وحوّاء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وءادم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبر أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه" اهـ، إسناد جيد قوي.
وهو يفيد أن معنى كونه نبيًّا: إظهار ذلك في العالم العلوي قبل نفخ الروح في ءادم عليه السلام.
وقد بيَّن الحديث أيضًا سر إعلان نبوته في ذلك العهد وانه يرجع إلى أمرين اختص بهما:
أحدهما: انه سيد ولد ءادم.
والآخر: انه خاتم الأنبياء، وأيَّد ذلك بما ذكره من بشارة إبراهيم وعيسى به عليهم الصلاة والسلام.
والأنبياء جميعًا نبوتهم ثابتة في تقدير الله وقضائه، لكن لم يَرد في خبر أن الله تعالى أظهر نبوة أحد منهم بالتعيين قبل خلق ءادم، فلم يكن ذلك إلاّ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم وهذا سر قوله: "كنت نبيًّا وءادم بين الروح والجسد" أي أن حملة العرش والملائكة عرفوا اسمه ونبوته قبل خلق ءادم عليه السلام، وهم لم يعرفوا ءادم إلاّ بعد خلقه.
تنبيه(189/12)
حديث: "كنت نبيًّا وءادم بين الماء والطين" لا أصل له(1)، وكذلك حديث: "كنت نبيًّا ولا ءادم ولا ماء ولا طين"(2) لا أصل له أيضًا.
ما يوجد في كتب المولد النبويّ( المبتدع) من أحاديث لا خطام لها ولا زمام هي من الغلو الذي نهى الله ورسوله عنه، فتحرم قراءة تلك الكتب، ولا يقبل الاعتذار عنها بأنّها في الفضائل لأن الفضائل يتساهل فيها برواية الضعيف، أمّا الحديث المكذوب فلا يقبل في الفضائل إجماعًا، بل تحرم روايته [إلا مع بيان أنه موضوع].
والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من حدّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"(1)
يرى بضم الياء: معناه يظن.
ويقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"(2)
وفضل النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في القرءان الكريم، والأحاديث الصحيحة، وهو في غنى عما يقال فيه من الكذب والغلو، وقال صلى الله عليه وسلم: "لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله".(1)
وتم تحرير هذه العجالة يوم الأحد 25 من ذي القعدة سنة 1408هـ .والحمد لله أولاً وءاخرًا وصلى الله على سيدنا محمد وءاله وسلّم.
فهرس المصادر
- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان
- الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة
- أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب
- الإصابة في تمييز الصحابة
- التاريخ الكبير
- التذكرة في الأحاديث المشتهرة
- تمييز الطيب من الخبيث
- تنزيه الشريعة في الأحاديث الموضوعة
- تهذيب التهذيب
- الثقات
- الجامع الصغير
- الحاوي في الفتاوى
- دلائل النبوة
- الدليل القويم على الصراط المستقيم
- سنن ابن ماجه
- سنن أبي داود
- سنن الترمذي
- صحيح البخاري
- صحيح مسلم
- الضعفاء والمتروكين
- الطبقات الكبرى
- كشف الأستار عن زوائد البزار
- كشف الخفا ومزيل الالباس
- مجمع الزوائد ومنبع الفرائد
- المستدرك على الصحيحين
- مسند أحمد
- مسند الحميدي
- المعجم الكبير
- المغير على الجامع الصغير
- المقاصد الحسنة(189/13)
- الموضوعات
ابن بلبان
ملا علي القاري
الحوت البيروتي
العسقلاني
البخاري
الزركشي
عبد الرحمن الشيباني
ابن عراق
العسقلاني
ابن حبان
السيوطي
السيوطي
البيهقي
العبدري
ابن ماجه
لأبي داود السجستاني
الترمذي
البخاري
مسلم
ابن الجوزي
ابن سعد
الهيثمي
العجلوني
الهيثمي
الحاكم
أحمد
الحميدي
الطبراني
أحمد الغماري
السخاوي
الصاغاني
دار الكتب العلمية - بيروت
دار الكتب العلمية - بيروت
دار الكتاب العربي - بيروت
دار إحياء التراث - بيروت
مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت
دار الكتب العلمية - بيروت
دار الكتاب العربي - بيروت
دار الكتب العلمية - بيروت
حيدر اباد - الهند
مؤسسة الكتب الثقافية - بيروت
دار المعرفة - بيروت
دار الكتب العلمية - بيروت
دار الكتب العلمية - بيروت
بيروت
دار إحياء التراث العربي - بيروت
دار الجنان - بيروت
دار الكتب العلمية - بيروت
دار الجنان - بيروت
دار إحياء التراث العربي - بيروت
دار الكتب العلمية - بيروت
دار صادر - بيروت
مؤسسة الرسالة - بيروت
مؤسسة الرسالة - بيروت
دار الكتاب العربي - بيروت
دار الفكر - بيروت
دار صادر - بيروت
عالم الكتب - بيروت
الأوقاف - بغداد
دار الرائد العربي - بيروت
دار الكتاب العربي - بيروت
دار المأمون - دمشق
الصاغاني
(1) انظر تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع لأبي سليمان محمود بن سعيد بن محمد ممدوح ص/346-354وسبيل التوفيق في ترجمة عبد الله بن الصديق للمؤلف.(189/14)
(!) روي من طرق عديدة منها ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم: باب إثم من كذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكتاب الأدب: باب من سمى بأسماء الأنبياء واللفظ له، ومسلم في المقدمة: باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو داود في سننه: كتاب العلم: باب في التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والترمذي في سننه: كتاب العلم: باب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، وكتاب الفتن: باب (07)، وابن ماجه في سننه: المقدمة: باب التغليظ في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم بزيادة "متعمدًا"، وأحمد في مسنده في مواضع عديدة عن رواة عدة.
قلت: وليس في حديث البخاري [متعمدًا].
(1) بل المذكور في تفسيره خلاف ذلك، فقد ذكر أن أول الأشياء وجودًا الماء.
(2) انظر الحاوي في الفتاوى 1/325 في تفسير سورة المدثر، وقد ذكر السيوطي في قوت المغتذي شرح الترمذي بعد أن ذكر الحديث: أوّل ما خلق الله تعالى القلم فقال: أما حديث أولية العقل فليس له أصل، وأمّا حديث أولية النور المحمدي فلا يثبت.
(1) قال الحافظ المحدث أحمد الغماري رحمه الله في مقدمة كتابه "المغير على الجامع الصغير": "إن حديث أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر خلقه الله من نوره قبل الأشياء موضوع".
ثم قال: "وبقيته تقع في نحو ورقتين من القطع الكبير، مشتمل على ألفاظ ركيكة ومعاني منكرة" اه_.(189/15)
أقول: هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم}، ومخالف للحديث الذي رواه البخاري والبيهقي وابن الجارود عن عمران بن حصين أن أهل اليمن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله جئناك لنتفقّه =في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان، قال: "كان الله ولم يكن شىء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شىء، ثم خلق السموات والأرض"، وللحديث الذي رواه ابن ماجه وابن حبّان أن أبا هريرة قال: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرَّت عيني فأنبئني عن كل شىء قال: "إن الله تعالى خلق كل شىء من الماء"، وللحديث الذي رواه السُّدّي الكبير عن ابن عبّاس موقوفًا: "ما خلق الله تعالى شيئًا مما خلق قبل الماء".
(1) موضوعات الصغاني ص/،25 ووافقه العجلوني في كشف الخفا 2/232 في الحكم عليه بالوضع.
(1) وقد ادعى بعضهم أيضًا أن هذا الحديث أي حديث جابر المفتعل صحّ كشفًا. فهذا كلام لا معنى له لأن الكشف الذي يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عبرة به.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 4/127مرتين و 128 وعنده: "عبد الله"، والحاكم في المستدرك بنحوه 2/،600 والبيهقي في الدلائل 1/80 ،و83 مع اختلاف يسير في الألفاظ.
(1) مجمع الزوائد 8/223 .
(2) انظر كشف الأستار 3/112-113 ،وقال البزار:"لا نعلمه يروى بإسناد أحسن من هذا، وسعيد بن سويد شامي ليس به بأس، وأبو بكر بن أبي مريم تقدم ذكرنا له" اهـ.
(3) الثقات لابن حبّان 8/262 .
(1) هو أبو بكر عبد الله بن أبي مريم الغسّاني الشامي، انظر تهذيب التهذيب12/،228 والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 1/152 .
(2) عزاه في مجمع الزوائد 8/223 للطبراني في المعجم الكبير 20/،353 وقال: "ورجاله رجال الصحيح"، وأخرجه أحمد في مسنده 5/59 بلفظ: "كتبت"
(3) عزاه لهما الحافظ العسقلاني في الاصابة 3/470 .
(4) التاريخ الكبير 7/374 .
(1) المستدرك 2/609.
(2) أخرجه أحمد في مسنده 4/66 .(189/16)
(3) مجمع الزوائد 8/223.
(4) طبقات ابن سعد 7/59.
(1) انظر كشف الأستار 3/112 وقال عقبه: "لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلاّ من هذا الوجه، ونصر لم يكن بالقوي، ولم يكن كذابًا ولكنه يتشيّع ولم نجد هذا الحديث إلاّ عنده."اهـ. وعند البزار "كتبت".
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 12/92 بنفس طريق البزار، و119 بطريق ءاخر عن ابن عباس.
(3) دلائل النبوّة 1/81 .
(1) انظر التذكرة في الأحاديث المشتهرة ص/،172 المقاصد الحسنة ص/،522 تمييز الطيب من الخبيث ص/،126 كشف الخفا 2/،173 تنزيه الشريعة 1/،341 الأسرار المرفوعة ص/،178 تذكرة الموضوعات ص/،86 أسنى المطالب ص/243 .
(2) انظر المراجع السابقة.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه: المقدمة: باب وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والترمذي في سننه بنحوه: كتاب العلم: باب ما جاء فيمن روى حديثًا وهو يرى =أنه كذب عن المغيرة بن شعبة وقال: وفي الباب عن علي بن أبي طالب وسمرة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه: المقدمة: باب من حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا وهو يرى انه كذب.
(2) تقدم تخريجه.
(1) أخرجه أحمد في مسنده بنحوه 1/56،55،47،24،23 ،وابن حبّان في صحيحه بنحوه ايضًا انظر الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان 8/46، وعن ابن عبّاس 1/318 ،والحميدي في مسنده بنحوه 1/16 كلهم عن عمر .
__________________(189/17)
المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق, ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد خاتم النبيين، وسيد ولد أدم أجمعين، وبعد: فإنه كانت لي بالتصوف صلة، هي صلة العبرة بالمأساة، فهنالك حيث كان يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية، وتستقبل النفس كل صروف الأقدار بالفرحة الطروب، وتستنشي الروح ريا الجمال والحب من كل معاني الحياة, هنالك تحت شفوف الأسحار الوردية من ليالي القرية الوادعة الحالمة، وفي هيكل عبق بغيوم البخور، جثم على صدره ضم صغير يعبده كثير من شيوخ القرية، هنالك في مطاف هذه الذكريات الولهى: كان يجلس الصبي بين شيوخ تغضنت منهم الجباه، وتهدلت الجفون، ومشي الهرم في أيديهم خفقات حزينة راعشة، وفي أجسادهم الهضيمة نحولا ذابلا، يتراءون تحت وصوصة السراج الخافت أوهام رجاء ضيعته الخيبة, وبقايا آمال عصف بها اليأس.
وتتهدج ترانيم الشيوخ تحت السحر -نواحا بينها صوت الصبي- بالتراتيل الوثنية، وما زال الصبي يذكر أن صلوات ابن بشيش, ومنظومة الدردير كانتا أحب التراتيل إلى أولئك الشيوخ، وما زال يذكر أن أصوات الشيوخ كانت تشرق بالدموع، وتئن فيها الآهات حين كانوا ينطقون من الأولى: "اللهم انشلني من أوحال التوحيد!!" ومن الثانية: "وجد لي بجمع الجمع منك تفضلا" يا للصبي الغرير التعس المسكين!! فما كان يدري أنه بهذه الصلوات المجوسية يطلب أن يكون هو الله هوية وماهية وذاتا وصفة!! ما كان يدري ما التوحيد الذي يضرع إلى الله أن ينشله من أوحاله!! ولا ما جمع الجمع الذي يبتهل إلى الله أن يمن به عليه!!(190/3)
ويشب الصبي، فيذهب إلى طنطا ليتعلم، وليتفقه في الدين. وثمت يسمع الكبار من شيوخه يقسمون له، ولصحابه: أن "البدوي" قطب الأقطاب، يصرف من شئون الكون، ويدبر من أقداره وغيوبه الخفية!! ويجرؤ الشاب مرة فيسأل خائفا مرتعدا: وماذا يفعل الله؟ ويهدر الشيخ غضبا، ويزمجر حنقا، فيلوذ الشاب بالرعب الصامت، وقد استشعر من سؤاله، وغضب الشيخ، أنه لطخ لسانه بجريمة لم تكتب لها مغفرة!! ولم لا؟ والشيخ هذا كبير جليل الشأن والخطر، وما كان يستطيع الشاب أبدا أن يفهم أن مثل هذا الخبر الأشيب -الذي يسائل عنه الموت- يرضى بالكفر، أو يتهوك مع الضلال والكذب. فصدق الشاب شيخه، وكذب ما كان يتلو قبل من آيات الله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [آل عمران: 10]!! ثم يقرأ الشاب في الكتب التي يدرسها: أن الصوفي فلانا غسلته الملائكة، وأن فلانا كان يصلي كل أوقاته في الكعبة، في حين كان يسكن جبل قاف، أو جزائر واق الواق!!! وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مد يده من القبر وسلم على الرفاعي!! وأن فلانا عذبته الملائكة؛ لأنه حفظ القرآن والسنة وعمل بما فيهما، ولكنه لم يحفظ كتاب الجوهرة في التوحيد!! وأن مذهبنا في الفقه هو الحق وحده؛ لأنه أحاديث حذفت أسانيدها!! ويصدق الشاب بكل هذا, ويؤمن، وما كان يمكن إلا أن يفعل هذا.
إذا قال في نفسه: لو لم تكن هذه الكتب حقا، ما درست في الأزهر، ولا درسها هؤلاء الهرمون من الأحبار، ولا أخرجتها المطبعة، وهل كان يمكن أن يسأل نفسه مثلا مثل هذا السؤال: أين من الحق البين من كتاب الله هذا الباطل العربيد في هذه الكتب؟ لا فلقد جيء به إلى طنطا ليتفقه في الدين على هؤلاء الشيوخ، وها هو فقه الدين يسمعه من الشيوخ، ويقرؤه في الكتب، وحسبه هذا!!(190/4)
وتموج طنطا بالوفود، وتعج بالآمين بيت الطاغوت الأكبر من كل حدب، ويجلس الشاب في حلقة يذكر فيها الصوفية اسم الله بخنات الأنوف، ورجات الأرداف، ووثنية الدفوف، وثمت يسمع منشد القوم يصيح راقصا: "ولي صنم في الدير أعبد ذاته" فتتعالى أصوات الدراويش طروبة الصيحات: "إيوه كده اكفر، اكفر يا مربي" ويرى الشاب على وجوه القوم فرحا وثنيا راقص الإثم بما سمعوا من المنشد الكافر، فيسأل شيخا ممن وفدوا من أهل قريته: يا سيدي الشيخ، ما ذلك الصنم المعبود؟! فيلزم الشيخ شفتيه، ثم يجود على الشاب الواله الحيرة بقوله: "إنته لسه صغير"!! ويسكت الشاب قليلا، ولكن الكفر يضج في النعيق، فسيمع المنشد يقيء "سلكت طريق الدير في الأبدية" "وما الكلب والخنزير إلا إلهنا" ويطوي الشاب نفسه على فزع وعجب يسائل الذهول: ما الكلب؟ ما الخنزير؟ ما الدير؟ وأنى للذهول بأن يجيب؟! ولقد خشى أن يسأل أحد الشيوخ ما دام قد قيل له: "إنته لسه صغير" ثم إنه رأي بعض شيوخه الكبار يطوفون بهذه الحمآت يشربون "القرفة" ويهنئون الأبدال والأنجاب والأوتاد بمولد القطب الغوث سيدهم السيد البدوي.
وتكفن دورات الفلك من عمر الشاب سنوات، فيصبح طالبا في كلية أصول الدين، فيدرس أوسع كتب التوحيد-هكذا تسمى- فيعي منها كل شيء إلا حقيقة التوحيد، بل ما زادته دراستها إلا قلقا حزينا، وحيرة مسكينة.
ويجلس الشاب ذات يوم هو وصديق من أصدقائه مع شيخ صوفي أمي. فيسألهما عن معاني بعض تهاويل ابن عطاء الله السكندري "إرادتك التجريد مع إقامة الله, إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب، مع إقامة الله إياك في التجريد, انحطاط عن الهمة العلية". ويحار الطالبان، ولا يدريان بم يجيبان هذا الأمي عن هذه الحكم المزعومة -وقد عرفا بعد أنها تهدف إلى تقرير أسطورة(190/5)
رفع التكليف- فتمتلئ نفساهما بالغم المهموم؛ إذ رسبا في امتحان عقده لهما أمي صوفي؟!
ويدور الزمن فيصبح الشاب طالبا في شعبة التوحيد والفلسفة. ويدرس فيها التصوف، ويقرأ في كتاب صنفه أستاذ من أساتذته، رأى ابن تيمية في ابن عربي. فتسكن نفس الشاب قليلا إلى ابن تيمية، وكان قبل يراه ضالا مضلا. فبهذا البهتان الأثيم نعته الدردير!!
وكانت عنده لابن تيمية كتب، بيد أنه كان يرهب مطالعتها، خشية أن يرتاب في الأولياء، كما قال له بعض شيوخه من قبل!! وخشية أن يضل ضلال ابن تيمية.. ويقرأ الشاب، ويستغرق في القراءة، ثم ينعم القدر على الشاب بصبح مشرق يهتك عنه حجب هذا الليل، فيقر به سراه المضنى عند جماعة أنصار السنة المحمدية، فكأنما لقي بها الواحة الندية السلسبيل بعد دو ملتهب الهجير. لقد دعته الجماعة على لسان منشئها فضيلة والدنا الروحي الشيخ محمد حامد الفقي إلى تدبر الحق والهدى من الكتاب والسنة، فيقرأ الشاب ويتدبر ما يقرأ, وثمت رويدا رويدا ترتفع الغشاوة عن عينيه، فيبهره النور السماوي، وعلى أشعته الهادية يرى الحقائق, ويبصر القيم. يرى النور نورا، والإيمان إيمانا، والحق حقا، والضلال ضلالا، وكان قبل -بسحر التصوف- يرى في الشيء عين نقيضه. فيؤمن بالشرك توحيدا، وبالكفر إيمانا، وبالمادية الصماء من الوثنية: روحانية عليا، ويدرك الشاب -وهو لا يكاد يصدق- أن التصوف دين الوثنية والمجوسية, دين ينسب البروبية والإلهية إلى كل زنديق، وكل مجرم، وكل جريمة!! دين يرى في إبليس، وفرعون، وعجل السامري، وأوثان الجاهلية، يرى في كل هؤلاء الذين لعنتهم كتب الله، بل لعنتهم حتى العقول، يرى فيهم أربابا وآلهة تهيمن على القدر في أزله وأبده، دين يرى في كل شيء إلها يجب أن يعبد، وربا يخلق ما يشاء ويختار، دين يقر أن حقيقة التوحيد الأسمى: هي في الإيمان بأن الله(190/6)
-سبحانه- عين كل شيء. دين لا تجد فيه فيصلا بين القيم، ولا بين حقائق الأشياء، ولا بين الضد وضده، ولا بين النقيض ونقيضه. دين يقول عن الجيف -يتأذى منه النتن, وعن الميكروبات تفتك سمومها بالبشرية- إنها هي الإله، وسبحان ربنا!! دين يقول عن القاتل، عن السارق، عن الباغي، عن كل وغد تسفل في دناءته، عن كل طاغية بغى في تجبره. يقول عن كل هؤلاء: إنهم تعينات الذات الإلهية!! فأي إله هذا الذي يقتل, ويبغي, ويفسد في الأرض؟ أي إله هذا الذي يدب تحت جنح الليل تتلظى في عينيه، وعلى يديه الإثم والجريمة الضارية؟ أي إله هذا الذي يلعق دم الضحايا يبرد به غلته، ويخصب بدماء الأعراض التي سفحها يديه الظالمتين؟ أي إله هذا الذي مشى في أيام التاريخ ولياليه بطشا وظلما وجبروتا يدمر، ويخرب، ويصنع القصة الأولى لكل جريمة خاتلة؟! ومن يكون إلا إله الصوفية الذي ابتدع أسطورته سلف ابن عربي، وابن الفارض وغيرهما!!؟
أيتها البشرية التي تهاب القانون، أو ترهب السماء!! ها هو دين التصوف يناديك ملحدا ملهوف النداء: أن تنحدري معه إلى حيث تترعين من كل خمرة مخمورة، وتتلطخين بكل فسق، وتتمرغين في أوحال الإثم!! وأنتم أيها العاكفون في المساجد: لا حاجة بكم إلى الصلاة والصوم والحج والزكاة، بل لا حاجة بكم إلى رب تحبونه وتخافونه، وترجونه، ولا إلى إله تعبدونه.
لم هذا الكدح والجهاد والنصب والعبودية؟ لم هذا وكل فرد منكم في حقيقته هو الرب، وهو الإله كما يزعم الصوفية!؟ ألا فاطلقوا غرائزكم الحبيسة، ودعوها تعيش في الغاب والدغل وحوشا ضارية، وأفاعي فتاكة! وأنتم يا بني الشرق! دعوا المستعمر الغاصب يسومكم الخسف والهوان، ويلطخ شرفكم بالضعة، وعزتكم بالذل المهين، ويهيمن على مصائركم بما يهوى بطشه الباغي، وبغيه الظلوم. دعوه يهتك ما تحمون من أعراض، ويدمر ما تشيدون من معال،(190/7)
وينسف كل ما أسستم من أمجاد، ثم الثموا ضارعين خناجره هو تمزق منكم الحشاشات، واهتفوا لسياطه، وهي تشوي منكم -أذلاء- الجلود. فما ذلك المستعمر عند الصوفية سوى ربهم، تعين في صورة مستعمر.
دعوا المواخير مفتحة الأبواب، ممهدة الفجاج. ومباءات البغاء تفتح ذراعيها الملهوفتين لكل شريد من ذئاب البشر, وحانات الخمور تطغى على قدسية المساجد, وأقيموا ذهبي الهياكل للأصنام، وارفعوا فوق الذرى منتن الجيف، ثم خروا ساجدين لها، مسبحين باسم ابن عربي وأسلافه وأخلافه. فقد أباح لكم أن تعبدوا الجيفة، وأن تتوسلوا إلى عبادتها بالجريمة.
ذلكم هو دين التصوف في وسائله وغاياته، وتلك هي رواحنيته العليا!! ألا فاسمعوها غير هيابة ولا وجلة، واصغوا ألى هتاف الحق يهدر بالحق من أعماق الروح: إن التصوف أدنا وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله، ولرسله. إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي العداوة للدين الحق. فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية وديصانية. تجد أفلوطينية، وغنوصية، تجد فيه يهودية ونصرانية ووثنية جاهلية، تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة صوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفرا جديدا مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: "تصوف" وزعم لهم -وأيده في زعمه القدامى والمحدثون من الأحبار والرهبان- أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام!! أقولها عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله، سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف ولكن سلوا الصوفية سودا وبيضا، خضرا وحمرا، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق الحق؟ سيقولون: ما قالت وثنية عاد {إِنْ نَقُولُ(190/8)
إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها، دمغناهم بالحق، فراحوا يعوون عواء اللص الحذر، وقع فجأة في قبضة الحارس، وجأروا بالشكوى الذليلة إلى النيابة، فلم تر النيابة فيمن يمسك بالبريء إلا مجرما، وشكوا إلى رئيس حكومة سابق، وختموا الشكاة بهذه الضراعة الذليلة: "والله نسأل لمقامكم الرفيع الخير والسؤدد في ظل حامي الدين حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم صان الله عرشه، وأيد حكومته الرشيدة، وألهمها التوفيق"1، فلم ير الرئيس السابق فيمن يثرم أنياب الرقطاء مجرما. وطاح الحق ببغي إلههم وملاذهم حامي دينهم، كما كانوا يلقبونه.
وما زلنا -بعون من الله نستلهمه- بكتاب الله نتحداهم، وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- نحاججهم، والله على كل شيء شهيد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
سيقول الناعمون -من ذوي الألسنة التي استمرأت كلمات الذل والعبودية، وليونة النفاق، وممن يتملقون الجماهير على حساب الحق، ويزعمون أنهم لا يحبون إثارة شقاق، أو جدال، ولا الطعن على أحد- سيقول هؤلاء: ما هكذا يكون النقد، ولا هكذا يكون البحث العلمي!! لا. أيها المدللون الخانعون للأساطير، فإنا لسنا أمام جماعة مسلمة، فنخشى إثارة الشقاق بينهم، ولو خشى الرسول مثل هذا لمالأ قريشا على حساب الحق، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- أطاع أمر ربه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ووعى قلبه -المشرق المؤمن الطهور التقي- موعظة ربه فيما قال له العلي الكبير: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] وفيما قال له: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء: 73-75] فكان سيد ما يستغفر به الرسول الكريم الأمين ربه: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك, وأنا على عهدك ووعدك
ـــــــ
1 قدموا هذه الشكوى بتاريخ 4 أغسطس سنة 1951.(190/9)
ما استطعت" فكيف بنا نحن الذين أمرنا أن نجعل الرسول وحده لنا الأسوة؟!
ولسنا كذلك أمام فئة تحترم العقل، بل تزدريه وتحقره، ثم تهب في قحة طاغية الجراءة لتشتم الله، وتذود عن إبليس وفرعون وعباد العجل والوثن، داعية المسلمين إلى اتخاذ هؤلاء أربابا وآلهة، وسيرد على القارئ عشرات النصوص من فصوص بن عربي وتائية ابن الفارض شهيدة عليهم بما ذكرت، وابن عربي وابن الفارض قطبا التصوف، وإمام الصوفية المعاصرة. فكيف يعاب علينا أننا ندافع عن دين الله، وأنا نقول للشيطان: إنك أنت الشيطان؟!
ماذا نقول عن رجل -وهو ابن عربي- يفتري أدنأ البهتان على الله، فيصوره في صورة رجل وامرأة يقترفان الإثم، مؤكدا لأتباعه أن الجسدين الآثمين هما في الحقيقة ذات الله، سبحانه؟ وسبحان رب العزة عما يصف الآثم.
فهل نلام إذا هتكنا القناع عن وجه هذا الرجل، ليبصره المخدوعون به، ليبصروه مسخا ثانيا للشيطان؟ إننا في ميدان مستعر الأتون، يقاتلنا فيه عدو دنيء يتراءى أنه الأخ الشفيق الحنو، الندي الرحمة، فلا أقل من أن نحاربه بما يدفع ضره وشره، ويحول بينه وبين القضاء على الرمق الذابل من عقائد المسلمين، وبين تشتيت الحشاشة الباقية من الجماعة الإسلامية.
هذا الكتاب: هو في الحقيقة كتابان صنفهما علم من أعلام القرن التاسع الهجري، هو برهان الدين البقاعي، سمى أولهما "تنبيه الغبي، إلى تكفير ابن عربي" وسمى الآخر "تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد1" نقد فيهما ابن عربي وابن الفارض بخاصة، والتصوف المشاكل لدينهما بعامة. ومنهاج البقاعي في النقد يقوم على أصلين.
أولا: نقل نصوص كثيرة عن "فصوص الحكم" لابن عربي، وعن
ـــــــ
1 لما كان الكتاب ينقد التصوف نقدا قاتلا، فقد سميناه "مصرع التصوف" وأعتذر عن مخالفة الأصل في التسمية لطول عنواني الكتابين، ولما في أحدهما من تعريض بالقارئ.(190/10)
"التائية الكبرى" لابن الفارض, وقليلا ما يعلق البقاعي على هذه النصوص، أو يكشف عما فيها من مجافاة لروح التوحيد القرآني. معتمدا على فطنة القارئ ومعرفته بدينه، فهما كفيلان بإدراك ما في هذه النصوص من كفر ومجوسية، يدركهما القارئ حتى باللمحة الفكرية الهافية.
الآخر: ذكر فتاوي كثيرة عن أعلام شيوخ القرون: السابع والثامن والتاسع الهجرية، ومما لاحظته: أن المؤلف لم ينقل عن ابن تيمية سوى النزر اليسير جدا بيد أن هذا مما يجعل للكتاب خطره الكبير في نظر المتصوفة على معتقدهم، إذ ما يستطيعون اتهام أحد ممن ذكرهم البقاعي بالخصومة، كما كانوا يفعلون -مفترين- بالنسبة إلى الشيخ الإمام ابن تيمية. فهؤلاء الذين أفتوا بفكر ابن عربي وابن الفارض: إما فريق قد ناهض ابن تيمية وخاصمه، ولكنه أدلى معه بدلوه في فضح الصوفية، وإما فريق لم يعرف عنه لا موالاة جلية ولا خصومة صريحة لابن تيمية -و إن كانوا فيما يذهبون إليه في مسألة العقيدة يخالفون ابن تيمية- فجلهم من أئمة الأشاعرة، وإما فريق كان له جاه ومقام كبيران في التصوف، كعلاء الدين البخاري، وهو أقسى هؤلاء جميعا حملة على ابن عربي وابن الفارض، ومن دان بدينهما.
عملي في الكتاب: أولا تحقيق نص الكتاب، وهو إما نقول عن فصوص ابن عربي وتائية ابن الفارض، أو عن كتب علماء نقدوا التصوف, وإما من إنشاء المؤلف. أما ما نقله عن الفصوص: فراجعته على مطبوعة الحلبي بتحقيق الدكتور عفيفي، وجعلتها العمدة في تحقيق نصوص الفصوص، وقد أيقنت من هذه المراجعة أن المؤلف أمين جدا فيما نقل. بيد أنه كان يترك أحيانا ما له رحم ماسة بالكشف عن حقيقة معتقد ابن عربي، أو ما لا بد منه للربط بين نصوص الفصوص، وأحينا كان يسقط منه -أو من الناسخ- بعض ألفاظ، وكل هذا أثبته عن الفصوص، وجعلته بين قوسين هكذا [ ]، وقد أشرت في الهامش إلى هذا وإلى أرقام الصفحات التي وردت فيها هذه النصوص حسب ترقيم صفحات.(190/11)
فصوص الحكم طبع الحلبي، حتى يسهل على القارئ مراجعة كل ما نقله المؤلف عن الفصوص في مصدره الأصيل، أما أبيات تائية ابن الفارض, فراجعتها على مرجعين: أحدهما ديوان ابن الفارض طبع بيروت، والآخر شرح تائية ابن الفارض للكاشاني المطبوع على هامش شرح ديوان ابن الفارض المطبوع سنة 1310هـ في المطبعة الخيرية. أما ما نقله عن العلماء فقد بذلت كل الجهد في سبيل تحقيق نقوله بمراجعتها في كتب أولئك العلماء، وأشرت إلى أرقام الصفحات التي وردت فيها تلك النقول في مصادرها الأصلية، مثل ما فعلت بما نقل المؤلف عن الشفاء لعياض، والمواقف للإيجي، والملل للشهرستاني وغيرها حتى يسهل أيضا على القارئ مراجعة آراء هؤلاء العلماء في كتبهم هم. وقد يسر الله سبحانه، فوجدت بعض ما نقله البقاعي من فتاوي عن العلماء في عصره وقبل عصره مذكورا في كتاب "العلم الشامخ" للعلامة المقبلي بتحقيق وتعليق العلامة الشيخ رشيد رضا، فراجعت بعض نقول البقاعي عن العلماء الذين لم أعثر على كتبهم في العلم الشامخ، وأثبت زيادة العلم، وجعلتها بين قوسين هكذا [ ]، ويشهد الله أني لقيت في سبيل ذلك نصبا كبيرا، كان من نتائجه أن أصبحت أمانة البقاعي في النقل فوق كل مظنة، وسيكون من آثاره اطمئنان القارئ إلى كل ما نقله البقاعي عن الفصوص والتائية، وكتب العلماء، وما نقل عنهم من فتاوى.
أما ما كان من أسلوب المؤلف: فتركته على حاله، فما صوبت فيه إلا ما تجزم قواعد العربية بخطئه مشيرا إلى ذلك في الهامش.
ثانيا: ترجمت لمعظم من ذكروا في الكتاب ترجمة مختصرة، ولقيت في سبيل هذا مشقة وجهدا، سببهما: أن المؤلف كان يذكرهم إما بألقابهم أو كناهم، في حين تذكرهم كتب التراجم بأسمائهم أولا.
ثالثا: ترجمت لكل فرق أو نحلة جاء ذكرها في الكتاب ترجمة ذكرت فيها أهم الأصول لتلك الفرقة، أو هذه النحلة، معتمدا على أصدق المراجع.(190/12)
رابعا: حققت كل ما ورد في الكتاب من أحاديث، وخرجتها تخريجا صحيحا، إذ كان يخطئ المؤلف أحيانا في نسبتها إلى رواتها.
خامسا: ولما كانت بعض نصوص الفصوص غامضة تخفى معانيها ومراميها على بعض القراء، وكذلك بعض أبيات تائية ابن الفارض، لما كان ذلك كذلك: فقد شرحت في الهامش تلك النصوص وهذه الأبيات، ويشهد الله ما فهمت في الألفاظ غير معانيها، التي لها في عرف الصوفية، ولا فسرتها إلا بما هو مقرر عند شراح الفصوص والتائية من الصوفية.
سادسا: برهنت في كثير من المواضع على مخالفة ما ذهب إليه الصوفية للنقل وللعقل، إذ كان المؤلف يكتفي بإيراد النصوص تاركا للقارئ الحكم عليها، وهو حكم يجزم به كل من له أدنى فهم لحقيقة التوحيد.
سابعا: في الكتابين كثير من مصطلحات الصوفية، كالفناء والجمع، وجمع الجمع، والقطب، وقاب قوسين، وغيرها، وقد فسرت في هامش الكتاب هذه المصطلحات الصوفية معتمدا على كتبهم هم، حتى يخلص الكتاب للحق والإنصاف، والصدق.
ثامنا: عنونت لمواضيع الكتابين، إذا خلا كلاهما إلا من عناوين قليلة وضعها الناسخ، أو المؤلف على هامش الكتابين، ومعظمها ليست ذات دلالة على ما وضعت له.
تاسعا: رقمت ما ورد في الكتاب من الآيات القرآنية، والرقم الأول يدل على السورة، والثاني على الآية.
ملحوظة: تشير الأرقام الواردة في صلب متن الكتاب إلى صفحات النسخة المصورة التي اعتمدت عليها في نشر هذا الكتاب.
الأصل المطبوع عنه: يملك النسخة التي عنها نشرنا الكتاب سري جدة الجليل، الشيخ محمد نصيف. وقد تفضل -كدأبه دائما في العمل على نشر العلم(190/13)
أعطاها إلى فضيلة أستاذنا الكبير الشيخ محمد. حامد الفقي ليعمل على نشرها، فتفضل أستاذنا، ووكل إليّ أمر تحقيقها والتعليق عليها.
وصف النسخة: وقد عثر على النسخة الخطية الأصيلة لكتابي البقاعي، العلامة شيخ العروبة في وقته أحمد زكي، عثر عليها في خزائن القسطنطينية، فنقلها بالتصوير الشمسي في مجلد واحد. ثم نقل عن نسخته المصورة نسخة أخرى بالتصوير الشمسي أيضا في مجلد واحد وأهداه إلى العالم الجليل الشيخ محمد نصيف.
وقد ورد في الصفحة الأولى من الأصل الذي نشرنا عنه هذا الكتاب ما يأتي:
"نقلت باسم الله هذا الكتاب بالتصوير الشمسي من خزائن القسطنطينية وأضفته إلى مجموعة كتبي التي أودعتها قبة الغوري بالقاهرة باسم الخزانة الزكية, وجعلتها وقفا على العلماء وطلبة العلم، نفع الله بها" ثم يلي ذلك إمضاء "وكتبه أحمد زكي" وورد أيضا في الصفحة الأولى ما يأتي: "وهذه النسخة المنقولة عنها هدية إلى خادم العلم الإسلامي والعمراني بالحرمين الشريفين الشيخ محمد نصيف, فخر جدة أعانه الله" ثم يلي ذلك إمضاء "أحمد زكي" وتاريخ الإهداء 5 محرم الحرام سنة 1352 الموافق 30 إبريل سنة 1933، وقد صورت النسخة المهداة سنة 1933م بمطبعة دار الكتب قسم التصوير.
والنسخة مكتوبة بخط فارسي جميل، وناسخها سليمان بن عبد الرحيم. وقد انتهى من نسخها -كما ذكر هو في آخر الكتاب- سنة 947 هـ وتقع النسخة في 84 صفحة، وقد كتبت ورقاتها من وجه واحد ومسطرتها تبلغ 21 سطرا، ويقع الكتاب الأول منها، وهو "تنبيه الغبي" في 59 صفحة، والثاني وهو "تحذير العباد" في 23 صفحة.
وقد كتب الشيخ الجليل محمد نصيف على نسخته ما يأتي: "أقول أنا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف: سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة 1355 عن سبب عدم وجود ما صنفه العلماء في الرد على(190/14)
ابن عربي، وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة. فقال: قد سعى الأمير السيد عبد القادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة وطالعها كلها, ثم أحرقها بالنار، وقد ألف الأمير عبد القادر كتابا في التصوف على طريقة ابن عربي. صرح فيه بما كان يلوح به ابن عربي، خوفا من سيف الشرع الذي صرع قبله "أبو الحسين الحلاج" وقد طبع كتابه بمصر في ثلاثة مجلدات، وسماه المواقف في الوعظ والإرشاد, وطبع وقفا، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
شبهة: يقول بعض من لا يستنبطون خبيئة التصوف، ويرسلون النظرة الكاشفة إلى أعماقه: وهل تدين الصوفية المعاصرة بما دان به ابن عربي، وابن الفارض, حتى تحكموا عليهم بما حكم به على ابن عربي وابن الفارض، أو حتى يصلح هذا الكتاب ردا عليهم؟ وأقول لهذا السائل: نعم، تدين الصوفية المعاصرة بوحدة الوجود، وبوحدة الأديان، فإنما هو أمر مبيت للدين الحق يتوارثه الصوفية خلفا عن سلف، ليكيدوا به لهذا الدين الحق. وفي أورادهم دليل ما نقول. وفي تقديسهم لابن عربي وكتابه الفصوص، ولابن الفارض. وتائيته حجة على أنهم يدينون بدينهما، فالأول عندهم "الشيخ الأكبر". والثاني: "سلطان العاشقين" ويا طالما قلنا للصوفية المعاصرة: أن تغنم رضاء الله مرة. فتبرأ إليه من ابن عربي، وابن الفارض. بل حتى من كتبهما وأشعارهما قلنا لها ذلك، فكان أن برئت إلى أصنامها ممن يقدم لها النصح ابتغاء وجه الله. واستغاثت بالأحياء، وبالأموات من الطواغيت، حتى لا ينزع الناصح تاج القداسة الزائف عن الشيطان المريد.
وقد يقول قائل: وما بالكم تخصون الصوفية بهذا كله؟!
وأقول: بل هو جهادنا الأول. ونقتدي في هذا برسولنا وأسوتنا عبد الله ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ بدأ دعوته بالدعوة إلى الله وحده، وإلى النهي عن اتخاذ شركاء أو شفعاء من دون الله رب العالمين، بدأ بوحي من الله(190/15)
بدعوة الناس إلى التوحيد الخالص، وإذا ما تمكنت عقيدة التوحيد الخالص من قلب المسلم، جعلته إنسانا مثاليا في دينه وخلقه وروحانيته، ودفعت به إلى الحياة بطلا يعمل باسم الله لتحقيق المثل العليا للجماعة المسلمة، بل للإنسانية عامة، وجعلت منه وليا كريما للحق والعدل والخير والصدق والسمو والكرامة؛ وذلك لأنه يحمل قلبا مؤمنا لا يحب إلا الله، ولا يرهب غير الله، ولا يتقي غير الله، ولا يرجو إلا ثواب الله، ولا يطيع غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما الصوفية سواء كانت نظرية أم عملية، فقد قامت لتصرف الناس عن عبادة الخالق، إلى عبادة المخلوق. إنسانا كان أم حيوانا، ملكا أم شيطانا، حيا أم ميتا، لتجعل من المسلمين عباد هوى وشهوة وأوثان.
ناج القلب الصادق الإيمان باسم الله يتجاوب معك، أَبِن له عن أمر الله، تجده يتلمس كل سبيل إلى طاعة أمر ربه سبحانه, ناشده باسم الله ما يحب الله تجده طيعا ذلولا في عزة ونبل وكرم وإيثار. ثم سل القلب الصوفي بعض ما سألت قلب المؤمن, فلن يسمع لك إلا إذا ناجيته باسم طواغيته ابن عربي وابن الفارض والشعراني وأمثالهم، أو باسم أوثانه وأصنامه، من قباب آلهته الموتى.
فنحن إذن نعمل ليكون لله وحده الدين خالصا، ولتكون قلوب عباده إيمانا به وحده، وحبا له وحده، ورجاء فيه وحده، وتقوى له وحده، ولتتوحد الجماعة الإسلامية بهذا الإيمان، وهذا الحب، وهذا الرجاء، وهذه التقوى.
وإلى العلي القدير أضرع أن يجعل علمنا خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعل من المسلمين أمة واحدة تعمل بقول الله سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
عبد الرحمن الوكيل
عضو جماعة أنصار السنة المحمدية
القاهرة: الجمعة:
12 من صفر سنة 1372
31 أكتوبر سنة 1952(190/16)
البقاعي في سطور:
ملخصة عن شذرات الذهب, والضوء اللامع
هو الإمام إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر أبو الحسن برهان الدين البقاعي الشافعي المحدث المفسر العلامة المؤرخ.
ولد سنة 809هـ, بقرية خربة روحا من عمل البقاع، ونشأ بها، ثم دخل دمشق وفيها جود القرآن وجدد حفظه وأفرد القراءات، واشتغل بالنحو والفقه وغيرهما من العلوم.
أخذ عن أساطين عصره، كابن ناصر الدين وابن حجر، وبرع، وتميز، وناظر وانتقد حتى على شيوخه.
وصنف تصانيف عديدة. من أجلها المناسبات القرآنية، وعنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران، وتنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي، دخل بيت المقدس، ثم القاهرة.
وتوفي بدمشق في رجب 885 عن ست وسبعين سنة.(190/17)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
خطبة الكتاب:
الحمد لله المضل الهاد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تضمن الإسعاد، يوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى سبيل الرشاد. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قمعوا أهل العناد، وحكموا سيوفهم في رقاب أهل الفساد، فلم يجسر أحد في زمانهم على إلحاد، بتمثيل، أو تعطيل، أو حلول، أو اتحاد. أبعدنا الله من ذلك أيما إبعاد، وحمانا منه على مر الدهور والآباد.
وبعد: فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي1 المنسوب إلى التصوف، الموسوم عند أهل الحق: بالوحدة، ولم أر من شفى القلب في ترجمته2 وكان كفره في كتابه الفصوص أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهرا، حتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله، وأنه إلى الهاوية مآبه ومآله, امتثالا لما رواه مسلم عن أبي سعيد [الخدري] رضي الله عنه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن
ـــــــ
1 هو أبو بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي، ولد بمرسية سنة 560 ونشأ بها وانتقل إلى أشبيلية، ثم ارتحل وطاف البلدان فطرق بلاد الشام والروم والمشرق، ودخل بغداد، وارتحل إلى مكة، وكانت وفاته سنة 638هـ.
2غمط بقوله هذا حق الإمام ابن تيمية, وهو شيخ شيوخ البقاعي، وإليه تنتهي الإمامة في نقد التصوف، والبرهنة العقلية والنقلية على منابذته للحق من الكتاب والسنة, وللبدهيات من العقل.(190/18)
لم يستطع، فبلسانه، فإن [لم] يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان1" وفي رواية [عن عبد الله بن مسعود]: "وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل" وما أحضر إلى النسخة التي نقلت ما تراه منها إلا شخص من كبار معتقديه، وأتباعه ومحبيه.
عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام.
وينبغي أن يعلم أولا أن كلامه دائر على الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالم، وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته. ثم إنه يسعى في إبطال الدين من أصله، بما يحل به عقائد أهله؛ بأن كل أحد على صراط مستقيم، وأن الوعيد لا يقع منه شيء، وعلى تقدير وقوعه، فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة، ونحو ذلك!! وإن حصل لأهله ألم، فهو لا ينافي السعادة والرضى، كما لم ينافها ما يحصل من الآلام في الدنيا، وهذا يحط عند من له وعي على اعتقاد: أنه لا إله أصلا، وأنه مأثم2 إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما وراء ذلك شيء.
منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم.
وكل ما في كلامه من غير هذا المهيع3 فهو تستر وتلبيس على من ينتقد عليه، ولا يلقي زمام انقياده إليه، فإنه علم أنه إن صرح بالتعطيل ابتداء بَعُد كل سامع من قبوله فأظهر لأهل الدين أنه منهم، ووقف لهم في أودية اعتقادهم، ثم استدرجهم عند المضائق، واستغواهم في أماكن الاشتباه، وهو أصنع الناس في التلبيس،
ـــــــ
1 مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
2 في الأصل: مأثم.
3 الطريق الواضح.(190/19)
فإنه يذكر أحاديث صحاحا، ويحرفها على أوجه غريبة، ومناح عجيبة، فإذا تدرج معه من أراد الله -والعياذ به- ضلاله، وصل -ولا بد- إلى مراده من الانحلال من كل شرعة، والمباعدة لكل ملة. وخواص أهل هذه النحلة يتسترون[3] بإظهار شعائر الإسلام، وإقامة الصلاة والصيام، وتمويه الإلحاد بزي التنسك والتقشف، وتزويق الزندقة بتسميتها: بعلم التصوف، فهو ممن أشار إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية1".
وقد أصل لهم غويهم هذا كما صرح به في الفص النوحى: أن الدعوة إلى الله مكر!! ونسب ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام، فقال: ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر.. إلى آخر كلامه.
وهذا هو السر في تنسكهم، على أنهم قد استغنوا في هذا الزمان عن التنسك؛ لانقياد أهله بغير ذلك, وقد يستدرجهم الله وأمثالهم -ممن يريد ضلاله- بإظهار شيء من الخوارق على أيديهم، كما يظهره الله على يد الدجال، وأيدي بعض الرهبان، فليتبين الموقن من المرتاب.
مثالهم في زندقتهم
وقد ضربوا -لتصحيح زندقتهم- مثالا مكروا فيه بمن لم ترسخ قدمه في الإسلام، ولا خالط أنفاس النبوة، حتى صار يدفع الشبه. حاصل ذلك المثال: أنهم يصلون إلى الله بغير واسطة المبعوث بالشرع2، فتم لهم المكر,
ـــــــ
1 من حديث رواه البخاري -واللفظ له- ومسلم وأبو داود والنسائي.
2 قال ابن عربي: "علماء الرسوم يأخذون خلفا عن سلف إلى يوم القيامة، فيبعد النسب. والأولياء يأخذون عن الله ألقاه في صدورهم" المناوى ص246.(190/20)
وتبعهم في ذلك أكثر الرعاع، ولم يبالوا بخرق الإجماع، وذلك المثال: أن ملكا أقام على بابه سيافا، وقال له: من دخل بغير إذنك فاقتله، وقال لغيره: أذنت لك في الدخول متى شئت، فإذا دخل الغير، فقد أصاب، وإن قتله السياف فقد أصاب. وعنوا بالسياف: الشارع. فما أفادهم مثالهم مع زندقتهم به شيئا. فإنهم اعترفوا فيه بإباحة دمائهم، وهو قصد أهل الشريعة، ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو كافر من أولياء الشيطان بالإجماع، فإن رسالته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عامة ودعوته شاملة.
احتجاج الصوفية بقصة الخضر:
ولا حجة لهم في قصة الخضر مع موسى عليه السلام، للفرق بخصوص تلك الرسالة، مع أن الخبر بعلم الخضر جاء من الله تعالى1 إلى موسى عليه
ـــــــ
1 يقول ابن تيمية "ولا حجة فيها -أي: في قصة الخضر- لوجهين:
أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى، فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل، ولهذا قال الخضر لموسى: إنك على علم من علم الله علمك الله إياه، وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت. ومحمد رسول الله إلى جميع الثقلين فليس لأحد الخروج عن مبايعته ظاهرا وباطنا، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل، لا في العلوم، ولا في الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى. وأما موسى فلم يكن مبعوثا إلى الخضر.
الثاني: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة. بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بيّن أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان فيها مخالفة للشريعة لم يوافقه بحال. فإن خرق السفينة مضمونه: أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه، فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية، كما جاز للراعي على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يذبح الشاة التي خاف عليها الموت، وقصة الغلام مضمونها: جواز قتل الصبي الصائل =(190/21)
السلام، فأين هي من دعاويهم1؟! ولا شبهة عليها، فضلا عن دليل، بل هي مصادمة للقواطع، ومن صادم القواطع, انقطعت عنقه، ولو بلغ في الزهد والعبادة أقصى الغايات {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 2-4] الآيات. ولو وقعت منهم الخوارق، فإنها شيطانية. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [يس: 43]، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
القول في صرف الكلام عن ظاهره:
وسميت هذه الأوراق: تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي، وإن شئت فسمها: النصوص من كفر[4] الفصوص؛ لأني لم أستشهد على كفره، وقبيح أمره إلا بما لا ينفع معه التأويل من كلامه، فإنه ليس كل كلام يقبل تأويله، وصرفه عن ظاهره. وذلك يرجع إلى قاعدة الإقرار بشيء وتعقيبه بما يرفع شيئا ما من معناه، ولا خلاف عند الشافعية في أنه إن كان مفصولا لا يقبل، وأما إذا كان موصولا ففيه خلاف. ومن صورة ما لا ينفع فيه الصرف عن الظاهر،
ـــــــ
= ولهذا قال ابن عباس: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا. وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة، إذا كان لذرية قوم صالحين" باختصار عن مجموعة الرسائل والمسائل جـ4 ص67. وأقول: على فرض أن في القصة مخالفة الباطن للظاهر. فهذا بالنسبة إلى شريعتين، شريعة الخضر وشريعة موسى. أما الأمر بالنسبة إلى الخضر، فكان ما فعله هو الظاهر في شريعته، فلم يخالف ظاهر ما فعل باطن ما به أمر. فليس إذن ثمة باطن خالف ظاهرا، أما دعوى الصوفية فتفتري جواز مخالفة الباطن للظاهر في الشريعة الواحدة.
1 في الأصل: دعا.(190/22)
كما لو أقر ببيع، أو هبة، ثم قال: كان ذلك فاسدا، فأقررت بظني الصحة، فإنه لا يصدق في ذلك.
حكم من ينطق بكلمة ردة:
ونقل الشيخ سراج الدين بن الملقن في العمدة على المنهاج، والزركشي في التكملة عن إمام الحرمين, أنه قال في أوائل الإيمان: "قال الأصوليون: لو نطق بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر تورية كفر ظاهرا وباطنا" قال الإمام الغزالي1 في البسيط بعد حكايته أيضا عن الأصوليين: "لحصول التهاون منه، وهذا المعنى -يعني التهاون- لا يتحقق في الطلاق، فاحتمل قبول التأويل بإطلاقه". وسيأتي ما يشهد لذلك من نقل شيخ الإسلام الشيخ زين الدين العراقي عن العلامة علاء الدين القونوي محسنا له، على أن بعض العلماء غلب جانب الحرمة لله ولرسله فمنع التأويل مطلقا. قال القاضي أبو الفضل عيانض2 المالكي في كتابه.
ـــــــ
1 لقب الغزالي في التاريخ الذي صنعته الأهواء بالإمام، وغولي فيه حتى لقب بحجة الإسلام. أما هو في التاريخ الذي يستمد من الحق قصصه وعبره. ويشهد بصدقه كتبه. فليس من هذه الألقاب السحرية في شيء. بما خلفه في كتبه من تراث هو أرجاس من الباطنية، والصوفية، والفلاسفة، وفيه ما يناقض أصول الدين الذي لقب هو بأنه حجته وإمامه. يقول ابن تيمية عنه -وقوله عن بينة: "ولهذا صنف الكتب المضنون بها على غير أهلها. وهي فلسفة محضة سلك فيها مسلك ابن سينا" ثم يقول عن كتابه المضنون به على غير أهله "وهو فلسفة محضة. قول المشركين من العرب خير منه، دع قول اليهود والنصارى" النبوات لابن تيمية من 81-82 وقال عنه أخص أصحابه أبو بكر بن العربي الفقيه المالكي "شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منها فما قدر" والغزالي نفسه يقر في كتابه التأويل: بأنه رجل رديء البضاعة في الحديث!!
2 ولد بمدينة سبتة سنة 476هـ وتوفي بمراكش سنة 544هـ.(190/23)
الشفاء، وهو الذي تلقته الأمة بالقبول، وتدارسوه في الارتحال والحلول1 في القسم الرابع منه: "فصل: الوجه الرابع: أن يأتي من الكلام بمجمل، ويلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو غيره, أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه, أو شره، فههنا متردد النظر, وحيرة العبر، ومظنة اختلاف المجتهدين، ووقفة استبراء2 المقلدين؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}[الأنفال: 43] فمنهم من غلب حرمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحمى حمى عرضه، فجسر على القتل، ومنهم من عظم حرمة الدم3".
بيان ما هو من المقالات كفر:
وقال في فصل بيان ما هو من المقالات كفر: "كل مقالة صرحت بنفي الربوبية، أو الوحدانية، أو عبادة أحد غير الله، أو مع الله، فهي كفر، كمقالة الدهرية4، وسائر فرق [أصحاب5] الاثنين [من الديصانية6
ـــــــ
1 ليس للشفاء هذه القيمة التي مجده بها البقاعي. قال الحافظ الذهبي عنه: إنه محشو بالأحاديث الموضوعة، والتأويلات الواهية الدالة على قلة تفقده مما لا يحتاج إليه قدر النبوة.
2 في الأصل: استبر. والتصويب من الشفاء.
3 ص255 جـ2 الشفاء ط الآستانة سنة 1290هـ.
4 يقول عنهم الحميري في كتابه الحور العين ص143: "إنهم القائلون بقدم العالم وقدم الدهر، وتدبيره للعالم وتأثيره فيه، وأنه ما أبلى الدهر من شيء أحدث شيئا آخر" ويتحدث الشهرستاني عنهم في الملل، فيقول عنهم: "أنكروا الخلق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي، والدهر المفني، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [النور: 45] إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي، وقصر الحياة والموت على تركيبها وتحللها، فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر" ص259ج2ط توفيق.
5 ما بين هذين [ ] ساقط من الأصل. وأثبته نقلا عن الشفاء.
6 هم أصحاب ديصان القائلون بأصلين: النور والظلام، فالأول يصنع الخير قصدا واختيارا، والثاني يفعل الشر طبعا واضطرارا، ويزعمون أن سمع النور وبصره وسائر حواسه شيء واحد. فسمعه هو بصره، وبصره هو حواسه" انظر ج2 ص89 من الملل والنحل.(190/24)
والمنانية1، وأشباههم من الصابئين2 والنصارى والمجوس3] والذين أشركوا
ـــــــ
1 أصحاب ماني بن فاتك الذي ظهر في عهد سابور بن أزدشير. وضع دينا بين المجوسية والنصرانية، وزعم أن العالم مركب من أصلين قديمين نور وظلمة. الأول مصدر الخير، والثاني مصدر الشر. ويدين ماني بأن الظلام امتزج بالنور امتزاجا كليا في هذا الوجود، ولا يمكن أن ينفصل النور عن الظلام إلا بعد أن يفنى هذا العالم، ولهذا حرم الزواج على أتباعه حتى يبيد النوع الإنساني، فيستطيع النور الخلاص من الظلام، ولهذا قتله الملك. ودعوة ماني ذات نزعة تشاؤمية سوداء، شديدة الغلو في الحث على الزهد والحرمان.
2 اختلف في شأن الصابئة. فالمسعودي يرى أنهم عبدة الكواكب، فيقول في المروج, وهو بصدد الحديث عن أحد ملوك الفرس: "وظهر في سنة من ملكه رجل يقال له: بوداسف أحدث مذهب الصابئة، وقال: إن مجالي الشرف الكامل، والصلاح الشامل. ومعدن الحياة في هذا السقف المرفوع "يعني السماء" وأن الكواكب هي المدبرات والواردات والصادرات" مروج الذهب ج1 ص222 ويقول عنهم الحميري في الحور العين ص141 "وقال الصابئون: شيئان قديمان: نور وظلام, فالنور عالم, والظلام جاهل. وقيل: إن الصابئين قوم يعبدون الملائكة. وقيل إن الصابئين قوم يخرجون من دين إلى دين".
ويقول الرازي في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص90: "إنهم قوم يقولون: إن مدبر هذا العالم وخالقه هذه الكواكب السبعة والنجوم، فهم عبدة الكواكب" ويقول الشهرستاني في الملل والنحل "ذكرنا أن الصبوة في مقابل الحنفية. وفي اللغة: صبا الرجل إذا مال وزاغ، فبحكم ميل هؤلاء "يعني الصابئة" على سنن الحق، وزيغهم عن نهج الأنبياء، قيل لهم: الصابئة، وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين".
ويقول في موضع آخر: "ومنهم -أي: من الناس- من يقول بالمحسوس والمعقول والحدود والأحكام، ولا يقول بالشريعة والإسلام، وهم الصابئة" وانظر القرطبي ج1 ص380، وابن خلدون ج1 ص116.
3 هم الثنويون من الفرس الذين يثبتون أصلين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر. انظر الملل والنحل للشهرستاني ج2 ص59 ط صبيح، والحور العين للحميري ص142، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص86.(190/25)
بعبادة الأوثان، أو الملائكة، أو الشياطين، أو الشمس أو النجوم، أو النار، أو أحد غير الله1" ثم قال: "وكذلك من أقر بالوحدانية، وصحة النبوة، ونبوة نبينا عليه السلام، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به. ادعى في ذلك المصلحة بزعمه، أو لم يدعها؛ فهو كافر بإجماع، كالمتفلسفين، وبعض الباطنية2 والروافض3، وغلاة المتصوفة، وأصحاب الإباحة4، فإن هؤلاء
ـــــــ
1 ص268 ج2 الشفاء.
2 بل كل الباطنية، فما من باطني إلا وهو يبطن البغضاء لله ورسوله، وأولى الناس بهذا اللقب هم الصوفية.
3 يقول الأشعري في كتابه المقالات "وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر، وهم مجمعون على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه، وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ص87. ويقول ابن تيمية: "فهذا اللفظ -يعني الرافضة- أول ما ظهر في الإسلام، لما خرج زيد بن علي بن الحسين في أوائل المائة الثانية في خلافة هشام بن عبد الملك، واتبعه الشيعة، فسئل عن أبي بكر وعمر، فتولاهما وترحم عليهما، فرفضه قوم. فقال: رفضتموني، رفضتموني، فسموا: الرافضة" ص25 ط مجموعة الرسائل الكبرى. وانظر ص184 من الحور العين ففيه تفصيل ما دار بين الرافضة وبين زيد من محاجة في شأن أبي بكر وعمر.
4 هم صنفان: صنف كانوا قبل دولة الإسلام كالمزدكية، وصنف ظهروا في الإسلام، وهم كذلك صنفان. بابكية، ومازيارية، والأول أتباع الخرمي الذي ظهر في الجبال بناحية أذربيجان، وكثروا واستباحوا المحرمات وقتلوا الكثير من المسلمين. وأما المازيارية فهم أتباع مازيار. وكانت لهم ليلة يجتمعون فيها على الخمر والزمر. رجالهم ونساؤهم، فإذا طفئت السرج افتض الرجال النساء.. انتهى مختصرا عن مختصر الفرق بين الفرق ص162, وانظر ص74 من الاعتقادات للرازي وص31 من كشف أسرار الباطنية للحمادي. ولعله لقب عام يصدق على كل طائفة تستبيح لنفسها ما حرمه الله سبحانه، ولعل القراء على ذكر مما نشرته الصحف عن إحدى الطرق الصوفية التي استباح شيخها لنفسه أعراض أتباعه رجالا ونساء، مما يؤكد لهم أن كل طريقة صوفية: إنما هي امتداد لفرقة سابقة ناهضت الإسلام، ونابذت شرعته.(190/26)
زعموا أن ظواهر الشريعة [5] وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة والحشر والقيامة والجنة والنار، ليس منها شيء على مقتضى لفظها، ومفهوم خطابها، وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم1؛ فمضمن2 مقالاتهم إبطال الشرائع، وتعطيل الأوامر والنواهي، وتكذيب الرسل والارتياب فيما أتوا به. وكذلك نكفر من ذهب مذهب بعض القدماء في أن [في]3 كل جنس من الحيوان نذيرا ونبيا من القردة والخنازير والدواب والدود [ويحتج بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ4} [النور: 35] إذ ذلك يؤدي إلى أن توصف أنبياء هذه الأجناس
ـــــــ
1 يقول ابن سينا "أما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد، وهو أن الشرع والملل الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة. ثم من المعلوم الواضح، أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحدا مقدسا؛ ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور. ثم لم يرد في القرآن من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيء، ولا أتى بصريح ما يحتاج إليه من التوحيد بيان مفصل، وإذا كان الأمر في التوحيد هكذا، فكيف فيما هو بعده من الأمور الاعتقادية" باختصار عن رسالة الأضحوية لابن سينا من ص44.
وهكذا يدين الفلاسفة ومخانيثهم الصوفية بأن ليس في القرآن ما يهدي النفس إلى التوحيد أو يبين للفكر ما يجب اعتقاده في الله، وغير هذا من الأمور التي هي قوام الدين وملاكه. يدينون بهذا الإلحاد، ويقررونه في كتبهم في جرأة بالغة السفه والقحة والجحود بآيات الله التي تقرر في جلاء وإشراق ما يجحد به الفلاسفة.
2 في الأصل: فمضمون، وهي كما أثبتها في الشفاء.
3 ساقطة من الأصل. وأثبتها عن الشفاء.
4 القائلون بهذا هم الحائطية أتباع أحمد بن حائط، أحد أصحاب النظام =(190/27)
بصفاتهم المذمومة، وفيه من الإزراء على هذا المنصب المنيف ما فيه، مع إجماع المسلمين على خلافه، وتكذيب قائله1" ا.هـ.
قلت: فكيف بمن يدعي أن الإله عين كل شيء من ذلك2؟.
"وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب, أو خص3 حديثا مجمعا على نقله، مقطوعا به، مجمعا على حمله على ظاهره، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم؛ ولهذا نفكر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو توقف فيهم أو شك, أو صح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده, واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره4 ما أظهر من خلاف 5 ذلك". ا. هـ.
قلت: فكيف بمن يقول: أن جميع الخلق من أهل الملل وغيرها على صراط مستقيم6، وأن فرعون مات طاهرا مطهرا7 بعد النص القطعي على أنه
ـــــــ
= انظر ص20 من كتاب الفرق الإسلامية محمود البشبيشي. وما بين هذين [ ] أثبته عن الشفاء.
1 ص296، 270ج2 من الشفاء.
2 أي: من القردة والخنازير والدواب والدود التي كفر القاضي عياض من يزعم النبوة لشيء منها. وافتراء أن الإله عين كل شيء من هذه وغيرها، هو دين ابن عربي وأحلاس زندقته. لإيمانه بوحدة الوجود.
3 كذا بالأصل. وبصلب الشفاء أيضا، ولكن على هامش الشفاء ط الآستانة تصويب هو "أو نص حديث مجمع على نقله مقطوع به، مجمع على حمله على ظاهره" وهو هكذا في الشفاء. ط المطبعة الأزهرية بشرح القارئ. وهذا هو الصواب. بدليل ما كفر به الخوارج، وهو إبطالهم للرجم، والرجم إنما نصت عليه السنة لا القرآن فتكون العلة في تكفير القاضي لهم هي مخالفتهم لنص حديث.
4 في الأصل: وما. والتصويب من الشفاء.
5 ص510 ج4 ط المطبعة الأزهرية بشرح القاري.
6 هذا دين ابن عربي لإيمانه بوحدة الأديان.
7 سيأتي النص بلفظه.(190/28)
من أهل النار؛ بقوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [النساء: 43].
وقال:1 إن كل عابد شيئا فهو عابد لله، وحرف ما أخبر به عن عذاب قوم نوح وهود، ونحوهم بما سيأتي من أن ما حل بهم أعقبهم راحة وعذوبة، وأن الله تعالى كان ناصرهم على أنبيائه، فإن العداوة ما كانت إلا بينهم وبينهم؟
قال2: "وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع3" ثم قال: "وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية، وقاضي قضاتها أبو عمرو المالكي على قتل الحلاج4 وصلبه لدعواه الإلهية، والقول بالحلول، وقوله: أنا الحق، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته، وكذلك حكموا في ابن أبي الغراقيد5.
ـــــــ
1 أي: ابن عربي.
2 أي: القاضي عياض.
3 ص272 ج2 الشفاء ط الآستانة.
4 هو الحسين بن منصور ولد سنة 244هـ وهلك مصلوبا سنة 309. وفي عصره ثم انتقال التصوف من جانبه العملي إلى جانبه النظري. فبدأ الصوفية يتحدثون عن ماهية الإله، وعن حقيقة العلاقة التي تربط الإنسان بالله: وقد آمن الحلاج بثنائية الطبيعة الإلهية باللاهوت والناسوت، وآمن بحلول اللاهوت في الناسوت. والحلاج في هذا متأثر بالمسيحيين السريان الذين استعملوا اللاهوت والناسوت للدلالة على طبيعتي المسيح. يقول في الطواسين ص134:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
ويقول في ص51 "أنا الحق، وصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون".
5 هو محمد بن علي أبو جعفر الشلمغاني. كان يعتقد أنه إله الآلهة، وأن الله سبحانه يحل في كل شيء على قدر ما يحتمل، وأنه قد حل في آدم، وفي إبليس، وأن الله تعالى إذا حل في جسد أظهر من القدرة والمعجزة ما يدل على أنه هو الله له كتاب اسمه الحاسة السادسة، صرح فيه برفض الشريعة وإباحة اللواط. وزعم أنه إيلاج نور الفاضل في المفضول، ولذا أباح أتباعه نساءهم له، طمعا في إيلاج نوره فيهن. وكان يسمي محمدا وموسى بالخائنين، زعما منه أن هارون أرسل موسى، وأن عليا أرسل محمدا فخاناهما. صلب في خلافة الراضي سنة 322 انظر الكامل لابن الأثير ج6 ص241، والشذرات ج2 ص293، ومختصر الفرق ص160.(190/29)
وكان على [نحو]1 مذهب الحلاج, بعد هذا أيام الراضي وقاضي قضاة بغداد يومئذ أبو الحسين بن أبي عمر المالكي2" ا. هـ.
قلت: فكيف بمن يقول صريحا: إن الخلق هو الحق3، والحق هو الخلق، والحق هو الإنسان الكبير، وهو حقيقة العالم وهويته؟!
وقال شيخ الإسلام الشيخ محيي الدين النووي الشافعي في كتاب الردة الروضة4 مختصر الرافعي. قال المتولى: "من اعتقد قدم العالم، أو حدوث[4] الصانع -إلى أن قال- أو أثبت له الانفصال، أو الاتصال، كان كافرا5" ا. هـ.
ـــــــ
1 ساقطة من الأصل. وأثبتها عن الشفاء.
2 ص282 ج2 الشفاء.
3 يعني الصوفية بالحق: الله تبارك وتعالى.
4 لعله سقط حرف "من" قبل لفظ الروضة.
5 في التصريح بنفي الاتصال والانفصال معا في آن واحد، وعن ذات واحدة خلل منطقي. فهما يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، فيلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر. وفيهما أيضا إجمال واشتباه، فقد يعني بالانفصال أنه سبحانه بائن من خلقه مستو على عرشه، ليس كمثله شيء. وهذا حق يؤمن به من أسلم قلبه لله، ووحده توحيدا صادقا في ربوبيته وآمن بأسمائه وصفاته كما هي في القرآن والسنة.
وقد يعني بالانفصال أنه سبحانه لا يتصل بالعالم صلة خلق أو تدبير، أو علم منه سبحانه، أعني نفي كونه خالقا عليما يدبر الأمر, أو أنه سبحانه ليس لإرادته، أو قدرته أثر في مقادير الوجود، وغير ذلك مما يدين به الفلاسفة، ومرادهم منه =(190/30)
قلت: فكيف بمن يصرح بأنه 1 عين كل شيء؟ قال: "والرضى بالكفر كفر". قلت: فكيف بمن يصوب كل كفر، وينسب ذلك التصويب إلى نقل الله تعالى له عن نبيه هود عليه السلام؟
ويقول: إن الضلال أهدى من الهدى؛ لأن الضال حائر، والحائر دائر
ـــــــ
= نفى الخالق القادر المريد المختار. وهذا كف ر يجحد بالربوبية والإلهية.
وكذلك الاتصال: فقد يراد به أن سبحانه يدبر الكون، ويصرف الليل والنهار، ويسخر الشمس والقمر، ويحيط علمه بكل شيء كليا كان أو جزئيا، وتشمل قدرته كل شيء، وغير هذا مما يشهد بكمال الربوبية. وهذا حق لا يتم الإيمان إلا به. وقد يعني به مفهومه الصوفي، أي: إنه سبحانه حال في كل شيء، أو متحد بكل شيء، أو إنه عين كل شيء، أو إنه هو الوجود الساري في كل موجود، ومن يدين بهذا فهو زنديق، أو مجوسي، أو بتعبير أدق: صوفي. فالصوفية مرادفة لكل ما يناقض الإيمان الحق، والتوحيد الحق. لذا يجب على كل من يخبر عن الله أو صفاته أو أسمائه أن يلتزم حدود ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر الرسول به عن ربه. وإلا تزندق، أو تمجس كالصوفية، وألحد كالفلاسفة، وضل كالمتكلمين, ألم تر إلينا نحن البشر كيف نعيب فلانا بأنه لم يكن دقيق التعبير عن المذهب الفلسفي أو الأخلاقي، أو الفنى لفلان، أولم يكن مهذبا فيما تحدث به عن فلان، أوخاطب به فلانا، بل قد نذهب في مذمته كل مذهب، حتى نتهمه بالعي والفهاهة والسفه، فكيف -ولله المثل الأعلى- نطلق للقلم العنان فيما يكتب عن الله، مما يصوره له الأفن والوهم عن ذات الله وصفاته؟ وكيف نستبيح -سادرين- الإخبار عن الله سبحانه بما لا يجب، وما لا يرضي، وما لم يخبر به عن نفسه. ونصف هذه الجرأة الكافرة بأنها حرية فكرية أو تجاوب مع العقل، أو استيحاء من الذوق!! ولقد كان من نتائج هذه الحرية المزعومة -والحق أنها عبودية للوهم وللشيطان- أن آمن بعض الناس برب لا يوصف إلا بالسلب، أي: بالعدم نعتوه ربا. أو برب هو عين العبد. أو بإله يجب أن يعبد في كل شي؛ لأنه عين كل شي، فلتمجد العبودية ربوبية الله، بما يحب سبحانه وحده أن تمجد به.
1 أي: الله سبحانه.(190/31)
حول القطب1 والمهتدي سالك في طريق مستطيل، فهو بعيد عن القطب؟! وسترى ذلك كله في عبارته2 صريحا.
ثم نقل الشيخ محيي الدين النووي عن الحنفية -مرتضيا له- قائلا: "إن إطلاق أصحابنا يقتضي الموافقة عليه. أنه إذا سخر بوعد الله تعالى، أو بوعيده كفر. ولو قال: لا أخاف القيامة؛ كفر" ا. هـ.
قلت: فكيف بمن يقول: إنه ليس لوعيد الله عين تعاين، وأن الآخرة موضع السعادة لكل أحد، والمعذب منعم بعذابه؟!.
ثم نقل الشيخ عن القاضي عياض, مرتضيا له: "أن من لم يكفر من دان بغير الإسلام، كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح3 مذهبهم، فهو كافر، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده, قال: وكذا نقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة4".
ثم قال5 في الباب الثاني في أحكام الردة: "إن حكمها إهدار دم المرتد، فيجب قتله إن لم يتب، سواء كان الكفر الذي ارتد إليه كفرا ظاهرا، أو غيره ككفر الباطنية" ا. هـ.
ـــــــ
1 القطب عند الصوفية عبارة عن "الواحد الذي هو موضع نظر الله في الأرض في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون وأعيانه الباطنة والظاهرة سريان الروح في الجسد, ويفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل". وستعرف مما سنذكره عن خصائص القطب أن ابن عربي يريد بالقطب هنا الله سبحانه وهو في زعمه متعين في صورة الحقيقة المحمدية.
2 أي: عبارة ابن عربي، فكل ما يذكر المؤلف دائما بعد قوله: قلت فكيف بمن يقول... هو من دين ابن عربي.
3 في الأصل: صح.
4 انظر ص271 ج2 من الشفاء.
5 أي: النووي.(190/32)
وقال الإمام شرف الدين إسماعيل بن المقري في مختصر الروضة: "فمن اعتقد قدم العالم -إلى أن قال- أو شك في تكفير اليهود والنصارى، وطائفة ابن عربي؛ كفر، لا إن جعل لقرب إسلامه أو بعده عن المسلمين"1. ا. هـ.
الباطنية2
قال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتاب الملل والنحل: "وإنما لزمهم -يعني الباطنية- هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنا، ولكل تنزيل تأويلا، ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم [قوم]3 فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة4 والمزدكية، وبخراسان: التعليمية والملحدة، وهم يقولون: نحن إسماعيلية5، لأنا نميز عن فرق الشيعة بهذا الاسم، وهذا
ـــــــ
1 كذا بالأصل. وفي الكلام اضطراب. فليحرر.
2 يقول أبو المظفر الإسفرايني في التبصر ص84: "إن الذين وضعوا دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكان ميلهم إلى دين أسلافهم، ولكنهم لم يقدروا على إظهاره مخافة سيوف المسلمين".
3 ساقطة من الأصل، وأثبتها عن الملل والنحل.
4 طائفة سياسية دينية اتخذت الدعوة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق وسيلة إلى تحقيق أغراضها السياسية والدينية، هي قلب الدولة الإسلامية، وبعث المجوسية الفارسية، وقد عرفت بهذا نسبة إلى حمدان بن الأشعث المعروف بقرمط، وكان في أول أمره أكارا من أكرة سواد الكوفة، وقد ظهر بدعوته الملعونة أيام المأمون، وقد نجحت هذه الفرقة في إقامة دولة لها في بلاد البحرين، وجعلت الأحساء عاصمة لدولة القرامطة.
5 فرقة من الشيعة الإمامية، تزعم أن الإمامة انتقلت من جعفر الصادق -وهو الإمام السادس للشيعة- إلى ولده إسماعيل. ومنهم الفاطميون. وهم الآن فريقان: البهرة السليمانية أتباع أغا خان وهم في الهند وزنجبار والشام، يرون في زعيمهم إلها مقدسا يصير كل ما مسه مقدسا. ومباذل هذا الإله وتهتكاته مشهورة =(190/33)
الشخص -يعني إسماعيل بن جعفر- ثم إن الباطنية القديمة خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على ذلك المنهاج، فقالوا في الباري تعالى: إنا لا نقول: هو موجود، ولا: لا موجود، ولا عالم، ولا جاهل، ولا قادر، ولا عاجز وكذلك في جميع الصفات، فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقناها عليه، وذلك تشبيه، فلم يمكن الحكم بالإثبات المطلق، والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين، وخالق الخصمين، والحاكم بين المتضادين1، ونقلوا في هذا نصا عن محمد بن علي الباقر[7] أنه قال: لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل: هو قادر؛ فهو عالم قادر؛ بمعنى أنه وهب العلم والقدرة, لا بمعنى أنه قائم به العلم والقدرة، أو وصف بالعلم والقدرة، فقيل [فيهم]2 إنهم نفاة الصفات حقيقة، معطلة الذات عن
ـــــــ
= معروفة لرواد مواخير فرنسا، وغيرها، وأندية القمار. وأتاوته المفروضة على أتباعه تجعل منه قارون العصر الحديث. والفريق الثاني: هم البهرة الداودية. وهم أتباع طاهر سيف الدين، وينتشرون في بومباي وكراتشي وجبل حراز باليمن، وبعض جهات زنجبار. ولطاهر عليهم الكلمة النافذة التي لا ترد ولا تناقش، وكيف، وهو الإمام المعصوم؟ هذا وقد نشط دعاة الإسماعيلية في السنين الأخيرة نشاطا عجيبا غريبا في مصر، من مظاهره اتصال زعمائهم بشيوخ الأزهر، ونشر بعض أساتذة الجامعة بعض مخطوطاتهم التي كانوا أشد ما يكونون حرصا على إخفائها، ولا يخالطنا شك في أن غاية الناشر هي خدمة الحقيقة، ونحن نرحب بهذا النشر حتى يكون المسلمون على بينة من أمر هذه الطوائف التي تعمل جاهدة في سبيل أن تكون المجوسية دينا ودولة.
1 قال الحميري في الحور ص148: "وقالت الإسماعيلية: إن الله لا شيء، ولا: لا شيء لأن من قال إنه شيء فقد شبهه، ومن قال إنه لا شيء فقد نفاه. فقالوا فيه بالنفي والإثبات جميعا" اقرأ كتاب راحة العقل للكرماني ففيه تفصيل مذهبهم.
2 أثبتها نقلا عن الملل والنحل.(190/34)
جميع الصفات قالوا وكذلك نقول في القدم إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته انتهى
وقول ابن عربي في الجمع بين التشبيه والتنزيه أشنع من هذا وأبشع وأقبح وأفظع
من هو الزنديق
قال الشيخ محي الدين النووي وسواء كان ظاهر الكفر أو زنديقا يظهر الإسلام ويبطن الكفر كذا فسر الزنديق في باب الردة في كتاب الفرائض وضعفه الأئمة
قال ابن الملقن في العمدة وقال في كتاب اللعان في الكلام على التغليظ إنه الذي لا ينتحل دينا قال وهذا أقرب لأن الأول هو المنافق وقد غايروا بينه وبين الزنديق
قال وقال الغزالي في الأصول الزنديق ضربان
زنديق مطلق
وهو الذي ينكر أصل المعاد حسا وعقلا وينكر الصانع وزنديق مقيد وهو الذي يثبت المعاد بنوع عقل مع نفي الآلام واللذات الحسية الجسمية وإثبات الصانع مع نفي علمه فهذه زندقة مقيدة بنوع اعتراف بتصديق الأنبياء انتهى
وسيأتي في آخر هذا الكتاب عن العلامة علاء الدين البخاري تحقيق معنى الزنديق وغيره من أسماء الكفرة(190/35)
على أن قتل المعتقد لمثل هذا لا بد منه، ولو توقفنا في تسميته. قال القاضي عياض: "وما رواه عن عمر بن عبد العزيز وجده وعمه من قولهم في القدرية: يستتابون، فإن تابوا، وإلا قتلوا1" وقال عيسى عن أبي القسم في أهل الأهواء من الأباضية2 والقدرية وشبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع والتحريف لتأويل كتاب الله تعالى: يستتابون أيضا أظهروا ذلك أو أسروه، فإن تابوا وإلا قتلوا، وميراثهم لورثتهم. وقال مثله ابن القسم في كتاب محمد في أهل القدر.. وقد انتهى بنا المقال الدال على كفر من اعتقد ما قاله من الضلال، وهذا حين الشروع في سوق كلامه الموضح لفساد طويته، وقبح مرامه.
ـــــــ
= الصوفية من المشرق والمغرب كانوا يفدون إلى مصر، فتكسوهم الأوهام طيالس الدهاقين، وتصنع لهم التهاويل صور القديسين, كالبخاري والشاذلي والبدوي وغيرهم فلم كانوا يفدون إلى مصر بالذات، ولم كانوا يجدون حتى يستذلوا القلوب بهواهم؟ والملحوظ أن أكثر هؤلاء الصوفية وفدوا إلى مصر بعد طرد الفاطميين منها. والمشاهد الذي يلمسه اليقين بالحقيقة أن عقائد كثير من المسلمين في مصر تأثرت بدعوة هؤلاء الصوفية، حتى صارت ذات رحم ماسة بالمجوسية الفاطمية. قد تستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة إذا ربطت بين المقدمات والنتائج، وإذا كنت على بينة من أن التصوف العملي يدين بعبادة مشاهد آل البيت، سواء أكانت صحيحة النسبة إليهم أم زائفتها، وإذا كنت على بينة أيضا من أن التصوف النظري يشابه عقيدة الفاطميين، ويشاكلها في التلبيس والتأويل، والمصدر والوسيلة والغاية. بل أقول: إنه هي في الظاهر والباطن والأهداف. تستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة إذا تبينت كل هذا، بل ستدرك الجواب الصحيح، وبخاصة إذا قارنت بين ما ترتب من نتائج دينية وسياسية واجتماعية على الدعوة الفاطمية، وبين ما ترتب -وما زال- على الصوفية. قارن وتأمل وتجرد، تجد النتائج واحدة، تجد الجواب يدفعك دفعا إلى إدراكه، وهو أن الصوفية دعاة الفاطمية وأشباهها.
1 ص261 ج2 الشفاء.
2 إحدى فرق الخوارج أتباع عبد الله بن أباض، افترقوا فرقا كثيرة يجمعها القول بإكفار مخالفيهم من هذه الأمة ولا يزال منهم بقايا في عصرنا بطرابلس وزنجبار انظر ص61 من الفرق بين الفرق للبغدادي.(190/36)
إفك وبهتان:
وأعظم الأمر أنه نسب كفره إلى إذن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الماحي لجميع الإشراك، المخلص لمتبعيه من حبائل سائر الأشراك, فقال في الخطبة1:
"أما بعد فإني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مبشرة [أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق2]وبيده كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذه، واخرج به إلى الناس [ينتفعون به]، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله، وأولي الأمر منا [كما أمرنا] فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى إبراز3 هذا الكتاب كما حده لي رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [8] من غير زيادة ولا نقصان4.
فمن الله، فاسمعوا.. وإلى الله5 فارجعوا.. ا. هـ.
دفع ما افتراه على الرسول:
ولا شك أن النوم والرؤيا في حد ذاتهما في حيز الممكن، لكن ما أصله من مذهبه الباطل ألزمه أن يكون ذلك محالا، وذلك أن عنده أن وجود الكائنات هو الله، فإذن الكل هو الله، لا غير، فلا نبي ولا رسول، ولا مرسل، ولا مرسل إليه، فلا خفاء في امتناع النوم على الواجب، وفي امتناع افتقار الواجب إلى أن يأمره النبي بشيء في المنام، فمن هنا يعلم أنه لا يتحاشى من التناقض لهدم الدين بنوع مما ألفه أهله. نبه على ذلك الإمام علاء الدين البخاري في كتابه "فاضحة الملحدين، وناصحة الموحدين".
ـــــــ
1 أي: خطبة كتاب الفصوص لابن عربي.
2 ما بين هذين [ ] ساقط من الأصل أو مختصر وأثبته عن فصوص الحكم.
3 في الأ صل: إيراد. وهي كما أثبتها في الفصوص.
4 اختصر المؤلف بعدها مقدار سبعة أسطر من مطبوعة الحلبي، ولو كان فيها ما يدفع عن الصوفية شبهة لأثبتها، حتى لا يتهم المؤلف بغير الأمانة في النقل.
5 في الأصل: وإليه. والتصويب من الفصوص.(190/37)
إيمانه بأن الله إنسان كبير
ثم قال ابن عربي في فص حكمة إلهية في كلمة آدمية لما شاء الحق سبحانه من حيث أسماؤه الحسنى [ التي لا يبلغها الإحصاء ] أن يرى أعيانها وإن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر [ كله ] لكونه متصفا بالوجود ويظهر به سره إليه فإن رؤية الشيء [ نفسه ] بنفسه ما هي مثل رؤية نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة
ثم قال فكان آدم عين جلاء تلك المرآة وروح تلك الصورة وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم بالإنسان الكبير
ثم قال فسمى هذا المذكور إنسانا وخليفة فأما إنسانيته فلعموم(190/38)
نشأته، وحصره الحقائق كلها، وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين به يكون النظر، وهو المعبر عنه بالبصر؛ فلهذا سمي إنسانا، فإنه به ينظر1 الحق إلى خلقه، فيرحمهم2، فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشء الدائم الأبدي3".
ثم قال: "ولا شك أن المحدث قد ثبت حدوثه، ولما كان استناده إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شيء من اسم وصفة، ما عدا الوجوب4 الذاتي، فإن ذلك لا يصح في الحادث، وإن كان واجب الوجود، ولكن وجوبه بغيره، لا بنفسه5". ثم قال: "فوصف نفسه لنا بنا، فإذا شهدناه شهدنا نفوسنا، وإذا شهدنا شهد نفسه، ولا شك أنا كثيرون بالشخص والنوع، وأنا وإن كنا على حقيقة واحدة تجمعنا؛ فنعلم قطعا أن ثم فارقا به تميزت الأشخاص بعضها عن بعض، ولولا ذلك ما كانت الكثرة في الواحد"6.
آدم عند الصوفية:
ثم قال: فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفا،ولهذا قال لإبليس:
ـــــــ
1 في الأصل: نظر - رحمهم.
3 ص 48-49 فصوص. وفي هذا النص يذكر ابن عربي رأيه في الإنسان، فيقرر أنه لاهوت وناسوت، أو هو الله سبحانه تعين في مادة. ولذا يجمع الإنسان بين صفات الأضداد -تماما كالذات الإلهية عندهم- فهو حق أزلي أبدي، قديم سرمدي باعتبار لاهوتيته. وهو
خلق حادث فان متجدد الصور، يتحول، ويجري في تيار الصيرورة باعتبار ناسوتيته. أي: باعتباره مادة، أو باعتبار صورته البدنية العنصرية. ولذا فالإنسان عندهم: حق خلق.
4 في الأصل: الوجود. والتصويب من الفصوص.
5 ص53 فصوص.
6 ص53 فصوص.(190/39)
{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 35] وما هو إلا عين جمعه1 بين [الصورتين] صورة العالم وصورة الحق [وهما يدا الحق2]".
ثم قال: فما صحت الخلافة إلا للإنسان الكامل، فأنشأ صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره، وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى، ولذلك قال فيه: كنت سمعه وبصره. ما قال كنت عينه وأذنه3.
زعمه أن الحق مفتقر إلى الخلق:
ثم قال: "ولولا4 سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان [9] للعالم وجود، كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية، ما ظهر حكم في الموجودات العينية، ومن هذه الحقيقة كان الافتقار من العالم إلى الحق في وجوده؛ شعر.
فالكل مفتقر، ما الكل مستغني ... هذا هو الحق قد قلناه، لا نكني5
ـــــــ
1 في الأصل: جمعت. والتصويب من الفصوص.
2 ص5 فصوص، وكل ما بين هذين [ ] ساقط من الأصل، وأثبته عن الفصوص.
3 ص55 فصوص، وسيأتي الرد على ما افتراه ابن عربي مستدلا في زعمه بهذا الحديث.
4 في الأصل: ولو. والتصويب من الفصوص.
5 ص58-59 فصوص: وابن عربي يعني "بالكل" الله والعالم، وكلاهما عنده مفتقر إلى الآخر إذ يدين بأنهما وجهان لحقيقة واحدة. ويفسر افتقار الخلق إلى الحق باحتياج الخلق إلى سريان الحق فيه، لينتقل من الثبوت -وكل شيء عند الزنديق ثابت قبل وجوده- إلى الوجود.
ثم إن الخلق عند ابن عربي ليس إلا أسماء الحق تعينت في صور بدنية عنصرية. ولذا لا يضاف الوجود إلى الخلق حقيقة. بل مجازا. فوجوده حقيقة عين وجود الحق. فإذا تحدث الصوفي عن عجل السامري مثلا قال عنه: إنه اسم من أسماء الله سبحانه تعين في صورة العجل. أو هو الحق تبارك وتعالى سمي عجلا! =(190/40)
التنزيه والتشبيه: 1
ثم قال في فص حكمه سبوحية في كلمة نوحية: "اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد، فالمنزه إما جاهل، وإما صاحب سوء أدب، ولكن إذا أطلقاه2، وقالا به. فالقائل بالشرائع المؤمن إذا نزه ووقف عند التنزيه، ولم ير غير ذلك، فقد أساء الأدب، وأكذب الحق والرسل وهو لا يشعر، ويتخيل أنه في الحاصل، وهو في الفائت، وهو كمن آمن ببعض وكفر ببعض، ولا سيما وقد علم أن ألسنة الشرائع الإلهية، إذا نطقت في الحق تعالى بما نطقت به، إنما جاءت به في العموم على المفهوم الأول، وعلى الخصوص على كل مفهوم يفهم من وجوه ذلك اللفظ بأي لسان كان في وضع ذلك اللسان.
ـــــــ
= وهذا تفسير آخر لافتقار الخلق إلى الحق عند الصوفية. أما افتقار الحق إلى الخلق، فيفسره ابن عربي بأنه احتياجه إلى تعين أسمائه وصفاته، بل ماهيته في صور خلقية. فلولا المادة عند ابن عربي ما ظهر للحق وجود. ولا تعينت له ذات، ولذا وضع الصوفية الحديث المفترى: "كنت كنزا مخفيا، فخلقت الخلق فبي عرفوني" وما زلت أذكر ذلك الشيخ الذي راح يشرح لنا هذا الحديث وأنا بمعهد طنطا، فكان مما قاله أن المراد بـ"فبي" محمد!! وكان دليله على خرافته أن العدد الناتج من حروف "فبي" يساوي العدد الناتج من حروف "محمد" فكلاهما على طريقة حساب الجمل: أبجد هوز إلخ = 92!
وكما صفقنا وانتشينا، ويذهب الطالب الصغير إلى قريته ويحدث الناس بهذا، فيطربون للصبي الصغير إذا جاءهم بعلم لدني رباني!.
1 يريد ابن عربي بالتنزيه الإطلاق، وبالتشبيه التقييد، فإله الصوفية مشبه إذا نظرت إليه من حيث تعيناته في صور خلقية. وهو منزه إذا نظرت إليه من حيث كونه وجودا مطلقا, والعارف الحق عندهم من يؤمن برب كان مطلقا، ثم تعين فصار مقيدا، أي: خلقا. أما من يؤمن بأن الله غير خلقه، فهو ضال مشرك، إذ يؤمن بغير ما من الأغيار.
2 في الأصل: أطلقناه.(190/41)
بم يعرف الله عند الصوفية؟:
فإن للحق في كل خلق ظهورا، فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته1، وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الباطن. فنسبته لما ظهر من صور العالم نسبة الروح المدبر للصورة، فيؤخذ في حد الإنسان مثلا باطنه وظاهره، وكذلك كل محدود. فالحق محدود بكل حد 2، وصور العالم لا تنضبط، ولا يحاط3 بها، ولا تعلم حدود4 كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صورته5، فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة. وهذا محال حصوله، فحد الحق محال، وكذلك من شبهه، وما نزهه، فقد قيده وحدده، وما عرفه, ومن جمع في معرفته بين التنزيه والتشبيه، ووصفه بالوصفين
ـــــــ
1 الهوية عند الصوفية هي كما عرفها الجيلي في الإنسان الكامل ص67ج1 "هوية الحق غيبة الذي لا يمكن ظهوره، لكن باعتبار جملة الأسماء والصفات". والجرجاني في التعريفات "هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق". والعالم عند الصوفية ظاهر الله وباطنه، أو صورته وحقيقته.
2 الحد هو أكمل أنواع التعريف، ولما كان كل شيء هو الله عند الصوفية كان حد كل شيء هو في الحقيقة حدا لله سبحانه، فإذا أراد الصوفي وضع تعريف لله سبحانه أخذ في حده حد كل موجود، إذ الكل تعينات الذات, ولما كانت هذه التعينات لا تتناهى، ولا يمكن
أن يحاط بها، امتنع تبعا لهذا تناهي الحدود التي يمكن حد الله سبحانه بها، وامتنعت الإحاطة بهذه الحدود. وسيأتي بعد زيادة بيان عما يريده الصوفية بهذه الزندقة.
3 في الأصل: يحاد. والتصويب من الفصوص.
4 في الأصل: يعلم حد.
5 في الأصل: صورة.(190/42)
على الإجمال -لأنه يستحيل ذلك على التفصيل، لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور- فقد عرفه [مجملا1]، لا على التفصيل, كما عرف نفسه مجملا، لا على التفصيل ولذلك ربط النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معرفة الحق بمعرفة النفس، فقال: "من عرف نفسه، فقد عرف ربه2". وقال الله تعالى :{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت:53] وهو ما خرج عنك {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} وهو عينك {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} ، أي: للناظر {أَنَّهُ الْحَقُّ } 3 أي: من حيث إنك صورته، وهو روحك، فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك، والحد يشمل الظاهر والباطن منك، فإن الصورة الباقية إذا زال عنها الروح المدبر لها، لم تبق إنسانا، ولكن يقال فيها: إنها صورة تشبه صورة الإنسان، فلا فرق بينها وبين صورة من خشب أو حجارة، ولا ينطلق عليها اسم إنسان إلا بالمجاز، لا بالحقيقة وصور العالم لا يمكن زوال [10] الحق عنها أصلا، فحد الألوهية له4 بالحقيقة،
ـــــــ
1 أثبتها عن الفصوص.
2 ليس بحديث. قال النووي: ليس بثابت, وابن تيمية: موضوع. ويريد الصوفية به أن من عرف نفسه، عرف أنه هو الله.
3 تأمل كيف يفسر آي الله، ويضع للحق معنى الباطل، وللإيمان مدلول الكفر. وحق ما يقول جولدزيهر "إذا حملت العبارات الدينية المعاني التصوفية، وفسرت تلك بهذه، تكون دلالة تلك العبارات على هذه المعاني أشبه بدلالة الرموز على ما جعلت رمزا له، وبعبارة أخرى تكون دلالتها عليها على غير العرف العام للغة، وعلى غير الجاري في إطلاق ألفاظها على معانيها، وفهم هذه من تلك، ولكنهم في سبيل غايتهم لا يحفلون برعاية هذا العرف العام للغة، وربما على العكس يتجاوزونه قصدا" انظر جـ2 من الجانب الإلهى لأستاذنا الدكتور محمد البهي.
4 الضمير في "له" يعود على العالم. والحد كما سبق أتم أنواع التعريف، ولما كان ابن عربي يدين بأن الحق عين كل شيء، فإنه يزعم هنا أنه يجب تعريف كل شيء بأنه إله، أو بما نعرف به الله سبحانه، فإذا سئل الصوفي عن خنزير أو صنم ما هو؟ عرفه بأنه هوية الله وظاهره، ونسب إليه اسما وصفة من أسماء الله سبحانه وصفاته.(190/43)
لا بالمجاز، كما هو حد الإنسان إذا كان حيا، وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثنى بلسانها على روحها ونفسها، والمدبر لها, كذلك جعل الله تعالى صورة العالم تسبح بحمده، ولكن لا نفقه تسبيحهم، لأنا لا نحيط بما في العالم من الصور، فالكل ألسنة الحق، ناطقة بالثناء على الحق، ولذلك قال: الحمد لله رب العالمين, أي: إليه ترجع عواقب الثناء، فهو المثني والمثنى عليه شعر.
فإن قلت بالتنزيه، كنت مقيدا ... وإن قلت بالتشبيه، كنت محددا
وإن قلت بالأمرين، كنت مسددا ... وكنت إماما في المعارف سيدا
فمن قال بالإشفاع، كان مشركا1 ... ومن قال بالإفراد، كان موحدا
فإياك والتشبيه، إن كنت ثانيا ... وإياك والتنزيه إن كنت مفردا
فما أنت هو2, بل أنت هو3، وتراه في ... عين4 الأمور مسرحا ومقيدا
ـــــــ
1 أي: من آمن بوجود الحق، وبوجود الخلق على أنهما وجودان متغايران أو حقيقتان منفصلتان متباينتان؛ فهو مشرك. لأنه جعل وجود الخلق، غير وجود الحق، وجعل الحق غير الخلق أي: جعل الواحد اثنين، وغاير بين الإله وبين نفسه وهذا شرك عند الصوفية. أما الموحد عندهم فهو من يؤمن بأن الحق عين الخلق، وجودا وماهية.
2 باعتبار الإطلاق.
3 باعتبار التعين. ولاحظ التناقض المتوتر بين السلب والإ يجاب اللذين يجعلهما ابن عربي شيئا واحدا.
4 في الأصل: عيون.(190/44)
قال الله تعالى :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فنزه {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فشبه1] وقال تعالى :{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فشب وثنى {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فنزه وأفرد2.
ـــــــ
1 ما بين هذين [ ] ساقط من الأصل وأثبته عن الفصوص.
2يريد ابن عربي بهذا التلبيس في فهم الآية أن يقول: إن اعتبرت الكاف زائدة في: كمثله كان معنى الآية: ليس مثله شيء، وبذا تنتفي المثلية. وهذا تنزيه. ولكن في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} تشبيه؛ لأنه أثبت لنفسه -هكذا يفهم الزنديق- عين ما للخلق من سمع وبصر. وهذا يستلزم كون ذات الحق عين الخلق...
وإن اعتبرت الكاف غير زائدة في "كمثله" كان معنى الآية: ليس مثل مثله شيء. يعني أنها تثبت المثلية. وهذا تشبيه. ولكن في قوله "وهو" نفي للمثلية؛ لأن الضمير للمفرد. وهذا تنزيه يفيد أنه هو وحده الذي يسمع ويبصر في صورة كل من يتأتى منه أن يسمع وأن يبصر. أي: هو عين كل سميع وبصير!!
هذا ما يفهمه الزنديق في الآية يهدف به إلى إثبات أن لله وجهين. وجه يسمى الحق، والآخر يسمى الخلق، وأنه لا يمكن تسميته حقا فحسب, أو خلقا فحسب، بل يسمى حقا خلقا في آن واحد. وتعقيبه للآية أولا بقوله: فنزه على اعتبار زيادة الكاف, وتعقيبها ثانيا بقوله: فشبه وثنى على اعتبار عدم زيادة الكاف!! وإليك الحق يهتك باطله: قال صاحب المغني, وهو يعدد معاني الكاف "التوكيد وهي الزائدة نحو ليس كمثله شيء. قال الأكثرون: التقدير ليس شيء مثله، إذ لو لم تقدر زائدة صار المعنى ليس شيء مثل مثله، فيلزم المحال، وهو إثبات المثل، وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل، لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة".
وابن عربي قرر هذا بيد أنه لبس في تفسير {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إذ فسرها بأنه سبحانه يسمع كما يسمع العبد، وبنفس الأذن التي يسمع بها، ليزعم من وراء هذا الباطل أنه سبحانه عين من يسمعون، ومن يبصرون, لأن جوارحهم وحواسهم هي عين جوارح الإله الصوفي وحواسه، فتكون ذواتهم عين ذاته. والآية ناطقة بإبطال هذا الكفر الفاجر. فما فيه سميع كما تسمعون أو بما تسمعون وإنما هي =(190/45)
تكفير الصوفية لنوح:
لو أن نوحا جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه: فدعاهم جهارا، ثم دعاهم إسرارا، ثم قال لهم: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]وقال: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 5، 6] وذكر عن قومه أنهم تصامموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته، فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح عليه السلام في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان، ومن أقيم في القرآن لا يصغى إلى الفرقان، وإن كان فيه. فإن القرآن1 يتضمن
ـــــــ
= لإثبات أن الله سبحانه له صفتا السمع والبصر، وأنه لإعجاز حكيم أن يجيء الإثبات بعد النفي، حتى يستقر اليقين في القلب بأنه سبحانه لا يماثله شيء، ولا يماثل هو شيئا، فإذا أثبت الله بعد هذا النفي المؤكد لنفسه صفتي السمع والبصر، فهم فيهما المؤمن ما يليق بجلال الله وكبريائه وربوبيته، لا ما استقر في الوعي مما يشهده الحس في الخلق فسبق النفي تصفية للفهم والقلب والفكر، من زيغ المثلية، وإعداد لتلقي ما يرد بعده من إثبات تلقي إيمان ويقين لا يمسه وهم من التشبيه، أو طائف من المثلية.
أما إذا اعتبرت الكاف غير زائدة، فلا يفيد هذا مطلقا إثبات المثلية، لأن سياق الآية ينفيها، والضمير "هو" ينفيها كذلك، ثم إن العرب -والقرآن عربي- كانوا إذا بالغوا في نفي المثلية قالوا: مثلك لا يفعل كذا، ومرادهم نفي الفعل عنه، لا عن مثله، ولكن إذا نفوه عمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه بالأولى.
وعلى فرض، المستحيل فإن تلبيس ابن عربي يهدم باطله؛ لأن المثلية تستلزم الاثنينية، تثبت وجود اثنين في أحدهما غير ما في الآخر. وهو يدين بالوحدة المطلقة.
1 يريد ابن عربي بالقرآن: الجمع بين الحق والخلق، أي: إدراك أنهما وجهان لحقيقة واحدة سميت حقا باعتبار باطنها، وخلقا باعتبار ظاهرها، هذه الحقيقة: هي ماهية الله سبحانه، ويريد بالفرقان: التفرقة بينهما. ولذا يبهت نوحا عليه السلام بأنه جهل حقيقة الدعوة إلى الله سبحانه، أو بأنه مكر بقومه في دعوته، إذ دعاهم إلى الإيمان بالحق مجردا عن الخلق، أي: بأن الحق غير الخلق، ففصل نوح -هكذا =(190/46)
الفرقان، والفرقان لا يتضمن القرآن، ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، فـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يجمع الأمرين في أمر واحد، فلو أن نوحا أتى بمثل هذه الآية لفظا أجابوه، فإنه شبه ونزه في آية واحدة بل [في] نصف آية. ونوح دعا قومه "ليلا" من حيث عقولهم، وروحانيتهم، فإنها غيب، و"نهارا" دعاهم أيضا من حيث ظاهر صورهم وحسهم1، وما جمع في الدعوة مثل: ليس كمثله شيء، فنفرت بواطنهم لهذا الفرقان [فزادهم] فرارا، ثم قال عن نفسه: إنه دعاهم ليغفر لهم، لا ليكشف لهم2، وفهموا ذلك منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لذلك: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي
ـــــــ
= يفتري الزنديق- بجهله بين وجهي الحقيقة الواحدة، أوجعل -بمكره- الحقيقة الواحدة شيئا آخر غير نفسها، وفرق بين باطن الذات الإلهية -وهو الحق- وبين ظاهرها وهو الخلق، ولذا لم يستجب قومه لدعوته، إذ كانوا على بينة من الأمر، على علم صادق بالحقيقة، كانوا على يقين -ويقينهم هو الحق عند الصوفية- من أن الله سبحانه حق وخلق، مطلق ومقيد، رب وعبد. وأنه عين كل شيء، فعبدوه في بعض ما تعين فيه، وهي الأصنام. فدلوا بهذه العبادة على صدق الإيمان، وكمال التوحيد، لهذا يقول الزنديق: ما كان ينبغي لنوح، أن يمكر بقومه في دعوته، أو أن يضلهم عن السبيل السوي، فيدعوهم إلى الإيمان بأن الرب غير العبد وأن الحق غير الخلق, وأن المعبود غير العابد. وإنما كان واجبا على نوح أن يؤيد الحق الذي آمن به قومه، والهدى الذي كشف لهم عن كنه الحقيقة، وهي أن هذه الأصنام ما هي إلا ذات الله سبحانه، وأن عبادتهم لها عبادة حقة لله سبحانه!! فتأمل!! كيف يبهت رسولا من أولي العزم بالمكر أو بالجهل، وكيف يفضل عليه أوباش الوثنية، وعبد الشيطان!! ورغم هذا يظل الشيوخ يدينون لابن عربي بالعبودية.
1 في الأصل: جثتهم.
2 يريد الزنديق أن نوحا دعا قومه إلى مقام الستر المطلق، لا إلى مقام الكشف والظهور، والستر المطلق هو الحق المنزه عن التجلي في أية صورة خلقية.(190/47)
آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} وهذه كلها صور الستر التي دعاهم إليها، فأجابوا دعوته بالفعل، لا بلبيك ففي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} إثبات المثل ونفيه1, وبهذا قال عن نفسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه أوتي جوامع الكلم. فما دعا محمد قومه ليلا ونهارا، بل دعاهم ليلا في نهار، ونهارا في ليل2، فقال نوح في حكمته لقومه: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ} أي: بما يميل بكم إليه، فإذا مال بكم إليه، رأيتم[11] صورتكم
ـــــــ
= ومقام الكشف تجلي الحق في صورة كل موجود، ويبهت نوحا بالخداع والمكر، إذ غفر -أي: ستر- عن قومه الحق العلوي الذي هم به مؤمنون. وهو أن أصنامهم بعض مجالي الله وظهوراته، وتعالى الله عما يأفك الصوفية.
1 تقدم الرد على يفتريه هنا.
2 يقصد بالليل باطن الذات الإلهية، وبالنهار ظاهرها. والباطن هو وجه الذات وغيبها المسمى حقا، والظاهر هو وجهها الآخر المسمى خلقا، ويذم نوحا بأنه دعا قومه ليلا ونهارا أي: إلى الإيمان بالحق -وهو الليل- وبالخلق، وهو النهار، وبأنهما غيران، ويمجد محمدا الذي يزعمه -وحاشا محمدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه جمع في دعوته بين الدعوتين، إذ دعا قومه إلى الإيمان بأن الحق عين الخلق. وعبر الفاجر الزنديق عن هذا بقوله: ليلا في نهار، أي: حقا في خلق. وإلى الإيمان بأن الخلق عين الحق، وهذا ما يعبر عنه الشيطان بقول: نهارا في ليل. أي: خلقا في حق. أي: قال لهم: الواحد عين الكثير، والكثير عين الواحد. وبهذا البهتان الأثيم يفضل ابن عربي محمدا المزعوم على نوح الذي جهل أو مكر، فغاير بين الحق والخلق! فتأمل! تأمل الشيخ الأكبر في عرف الزنادقة أي: الصوفية إلى أي حد تبلغ القحة في جراءة كفره، فيصم نوحا بالشرك والكفر، ويفتري على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه كان مشركا أصم الوثنية. ولكن كيف تعجب من رجل يجعل من الخنازير والجيف والقيح بما فيه من ميكروبات فتاكة، يجعل هذه آلهة له، وأربابا يفزع إليهم بالرجاء والأمل والحب والخوف.(190/48)
فيه، فمن تخيل منكم أنه رآه فما عرف، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه، فهو العارف، فلهذا انقسم الناس إلى غير عالم، وعالم "وولده1" وهو ما أنتجه لهم نظرهم الفكري، والأمر موقوف علمه على المشاهدة، بعيد عن نتائج الفكر "إلا خسارا" "فما ربحت تجارتهم" فزال عنهم ما كان في أيديهم مما كانوا يتخيلون أنه ملك لهم, وهو في المحمديين {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] وفي نوح {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا2} [نوح: 2] فأثبت الملك لهم، والوكالة لله فيهم، فهم مستخلفون فيه، فالملك لله، وهو وكيلهم, فالملك لهم، وذلك ملك الاستخلاف، وبهذا كان الحق تعالى مالك الملك، كما قال الترمذي رحمه الله.
الدعوة إلى الله مكر عند الصوفية
{وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} لأن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو3؛ لأنه
ـــــــ
1 فسر المدرار بالمعارف العقلية، والمال بما يميل بالإنسان إلى الله فيرى في الله سبحانه صورته، وفسر الولد بالنتاج الفكري، وهكذا يضع للغة القرآن ما شاءت زندقته من معان، وبمثل ما يفتري ابن عربي يعجب بعض ما يوصفون بأنهم من ذوي الفكر. ولو اتخذنا أسلوب ابن عربي قاعدة لنا في البيان ما بقيت للغة, بل ما بقيت حقيقة واحدة يمكن أن تجتمع عليها العقول.
2 الآية في بني إسرائيل، لا في قوم نوح.
3 يشرح القاشاني هذا بقوله "معناه: أن الدعوة إلى الله دعوة منه إليه، لأن الله عين الداعي والمدعو، والبداية والغاية، لكونه عين كل شيء" ص58 ط 1309 شرح القاشاني للفصوص. وأقول: يدين ابن عربي وعبد الطاغوت الصوفية أن الله سبحانه عين كل شيء، فإذا ما جاء الرسل، وأمروا بعبادة الله وحده، ونهوا عن عبادة غيره، عن عبادة العجل مثلا، والأصنام والكواكب وغيرها. فإن الصوفية يرون هذه الدعوة في مظهريها الإيجابي والسلبي مكرا وخداعا، إذ توحي إلى عبادة الأصنام والأوثان وغيرها أنهم يعبدون غير الله، والرسل يعلمون -هكذا يفتري الصوفية- أنه ما ثم غير, أو سوى، فكل ما عبد, أو سيعبد إنما هو الله. إذ كل معبود شيء، والله سبحانه عند الصوفية عين كل شيء.(190/49)
ما عدم البداية، فيدعى إلى الغاية {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 108]فهذا عين المكر1".
قلت: فهذا وأشكال من قوله -كما يأتي في الفصل اليوسفي- يدندن به على تصحيح قول الكفار: إن القرآن سحر. ولا يقدر على التصريح به، ولقد أخبرني من أثق به أن بعض أتباعهم قال له: القرآن أساطير الأولين2.
ثم قالم ابن عربي: [مفسرا قول رب العالمين3] "عَلَى [بَصِيرَةٍ]" [يوسف: 108] فنبه على أن الأمر له كله، فأجابوه مكرا كما دعاهم، فجاء المحمدي، وعلم أن الدعوة إلى الله ما هي من حيث هويته، وإنما هي من حيث أسماؤه4، فقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 86] فجاء بحرف الغاية، وقرنها بالاسم فعرفنا أن العالم كله تحت حيطة اسم إلهي، أوجب عليهم 5 أن يكونوا متقين،
ـــــــ
1 ص772-6 فصوص الحكم.
2 بل قال الفاجر التلمساني: "القرآن كله شرك ليس فيه توحيد"، وإنما التوحيد في كلامنا نحن" ص77 جـ 1 مجموعة الرسائل والمسائل.
3 وضعت ما بين هذين [ ] هنا من عندي حتي لا يظن بآية من القرآن أنها من كلام ابن عربي.
4 أي: ما يدعو الرسل إلى عبادة الله من حيث كونه حقا، أو وجودا مطلقا، بل من حيث كونه خلقا، أو وجودا مقيدا تعين في صورة بدنية عنصرية. فما من شيء إلا وهو -عند الصوفية- اسم من أ سماء الله تعالى. تعين في صورة ذلك الشيء. إذ يدعو الرسل الصادقون -هكذا يكفر الصوفية- إلي عبادة الخنازير والقمل والضفادع، والبغايا والأواثم، والأجساد الفواجر؛ لأن هذه عند الصوفية أسماء الإله الذي يزعمونه.
5 في الأصل: فعلمنا أن النور كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليه.(190/50)
فقالوا1 في مكرهم {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله. في المحمديين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [نوح: 23] أي: حكم2، فالعالم يعلم3 من عبد, وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة4، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله.
ـــــــ
1 يعني قوم نوح الوثنيين.
2 بل أمر ووصى كما ستعرف.
3 في الأصل: يعلمه.
4 يشبه الحق والخلق، بالجسد وأعضائه في أن كليهما واحد في الحقيقة، كثير بالاعتبار فأنت إذا أفردت بالنظر كل عضو من أعضاء الجسم، فهو كثير، إذ ترى رأسا، ووجها، ويدين، وقدمين, وإذا نظرت إليه جملة وجدته واحدا.
وهذه الوحدة حقيقية، أما الكثرة فاعتبارية فحسب. وكذلك -هكذا يفتري الزنديق- الله والعالم. فالعالم في حقيقته ليس شيئا سوى الله، أو هو تعينات أسمائه برزت في صور مادية. كما أن أعضاء الجسم ليست شيئا آخر غير الجسم، بل هي هو. ومدلول جميعها مدلوله. ورغم ما في المثل من تلبيس وزندقة فإنه لا يصحح لابن عربي مذهبه، فاليد مثلا ليست هي كل الجسد، وإنما هي عضو، أو جزء منه. وابن عربي لا يقول عن شيء ما: إنه عضو الإله أو جزؤه، بل هو عنده عينه وكله!!
والذي يستلفت نظر المؤمن أن الغزالي سبق ابن عربي إلى استعمال هذا المثل في نفس ما استعمله فيه ابن عربي؛ إذ يقول, وهو بصدد بيان المرتبة الرابعة من التوحيد: "ألا ير ى في الوجود إلا واحدا"، وهي مشاهدة الصديقين. وتسمية الصوفية الغناء في التوحيد" ثم يشرح حال الموحد في هذه المرتبة، فيقول: "والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، فإن قلت: كيف يتصور ألا يشاهد إلا واحدا وهو يشاهد السماء والأرض، وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة؟" يجيب الغزالي عن هذا بمثال يقرب في زعمه ذلك إلى الذهن، فيقول: "إن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وعروقه، وهو باعتبار آخر، ومشاهدة أخرى واحد، وكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد، وباعتبارات أخر سواه كثر" انظر باب التوحيد من كتاب الإحياء.(190/51)
في كل معبود1".
تكفير العراق لابن عربي:
وقال شيخ شيوخنا الإمام القدوة العارف شيخ الإسلام حافظ عصره الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي في كراسة أجاب فيها سؤال من سأله عن بعض كلام ابن عربي هذا: "وقوله في قوح نوح: لا تذرن آلهتكم -إلى آخره- كلام ضلال وشرك واتحاد وإلحاد، فجعل تركهم لعبادة الأوثان التي نهاهم نوح عن عبادتها جهلا يفوت عليهم من الحق بقدر ما تركوا" ا. هـ.
قلت: يا ليت شعري من قال هذا القول في هذا العدد اليسير من الأصنام، ماذا يقول فيما روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل مكة، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما2، فعجل يطعنها بعود في يده3، وجعل يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 18]
ـــــــ
1 ص72 فصوص.
2 في البخاري "نصب". واحدة الأنصاب، وهو ما ينصب للعبادة من دون الله، ويراد به أيضا الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام. غير أنها ليست مرادة هنا.
3 في مسلم عن أبي هريرة: [يطعن في عينيه بسية القوس] وفي حديث ابن عمر عند الفاكهي -وصححه ابن حبان- فيسقط الصنم ولا يمسه، وللفاكهي والطبراني من حديث ابن عباس "فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة بالأرض".
4 ورد في البخاري أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال بعد هذا: "جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" .(190/52)
وفي السير: أنها كانت [12] مثبتة في الأرض بالرصاص، فما أشار بذلك العود إلى صنم منها إلا انقلب. إن أشار إلى قفاه انكب على وجهه، وإن أشار إلى وجهه انقلب على قفاه1، وكان في جزيرة العرب من الأصنام ما يتعسر حصره، فما أبقى لشيء منها باقية، وما استباح قتالهم، ونهب أموالهم، وقتل رجالهم، ومزق أبطالهم، وركب من دون ذلك الأهوال العظام، وقاطع الأخوال والأعمام إلا على ذلك، فتبا لمن أنكره، أو رأى شيئا أكمل منه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ا. هـ.
كل شيء عندهم رب وإله:
قال ابن عربي: "فالأدنى من تخيل فيه -أي: في كل معبود- الألوهية، فلولا2 هذا التخيل، ما عبد الحجر ولا غيره، ولهذا قال: "[قل] سموهم" [الرعد: 33]، فلو سموهم لسموهم حجارة3 وشجرا وكوكبا، ولو قيل لهم: من عبدتم؟ لقالوا: إلها. ما كانوا يقولون: الله. ولا الإله. والأعلى ما تخيل، بل قال: هذا مجلى إلهى ينبغي تعظيمه، فلا يقتصر 4، فالأدنى صاحب التخيل يقول: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] والأعلى العالم يقول: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
ـــــــ
1 انظر سيرة ابن هشام ص276جـ2 على هامش الروض الأنف.
2 في الأصل: ولولا.
3 في الأصل: حجرا.
4 أي: لا يقصر عبادته على شيء ما بعينه، بل يعبد كل شيء، حتى ما يعصف بنفسه من هوى، وما يترنح في فكره من أوهام، وسيأتيك من كلام ابن عربي ما يدلك على أنه يؤمن بأن الهوى أعظم مجالي الإله.
5 في الأصل: إنما إلهكم. ويفسرها الزنديق بأن العارف المكمل. هو من يقول لعباد الأوثان، ولعباد الكواكب، إن ما تعبدونه هو الإله الواحد، فالإله المتعين في أوثانكم عين المتعين في كواكبهم، فلا يقصر أحد منكم عبادته على شيء ما بعينه، أو يختص بها بعضا دون بعض، فإن إلهكم هو عين كل شيء.(190/53)
فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [السجدة: 34] الذين خبت نار طبيعتهم، فقالوا: إلها، ولم يقولوا طبيعة1".
قلت: وعلى هذا يحوم ابن الفارض2 بقوله، فالعلماء شهدوا فيه3 أنه من أهل الاتحاد.
الرأي في ابن الفارض وتائيته
وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير4: "إنه نظم التائية على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد, وقال: وقد تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها5" وقال في سنة سبع وسبعين وستمائة في ترجمة محمد بن إسرائيل6: "وكان أديبا، ولكن في كلامه ما يشير إلى الحلول والاتحاد
ـــــــ
1 ص72 فصوص.
2 ورد بهامش الأصل ما نصه "ابن الفارض هو حجة أهل الوحدة، وحامل لواء الشعراء، توفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة عن ست وخمسين إلا أشهرا. ذكره الذهبي في تاريخه" وقد ولد ابن الفارض سنة 576 هـ ودفن بمصر.
3 ليس الحكم بهذا على ابن الفارض بحاجة إلى شهادة أحد، فإنه صرح في التائية بأنه يدين بهذه الأسطورة الملحدة، إذ يقول: وجل في فنون الاتحاد، وجاء حديث في اتحادي ثابت، وهأنا أبدي في اتحادي مبدئي. وسيأتيك ما يجعلك تؤمن بأنه كان من المؤمنين بالوحدة، لا بالاتحاد فحسب.
4 الإمام المحدث البارع كما ينعته الذهبي. ولد سنة 700 وتوفي سنة 774، من مصنفاته البداية والنهاية في التاريخ، والتفسير، وجمع المسانيد العشرة، صحب ابن تيمية وأخذ عنه، ولازم المزي، وتزوج بابنته، وسمع عليه أكثر تصانيفه.
5 ذكر ابن كثير هذا في البداية والنهاية.
6 ولد نجم الدين ابن إسرائيل سنة 563 وتوفي سنة 677. ومن قوله:
وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق
وأيضا "إن الله ظهر في الأشياء حقيقة. واحتجب بها مجازا، فمن كان من أهل الحق والجمع شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل المجاز شهدها ستورا وحجبا" انظر لسان الميزان، ومجموعة الرسائل والمسائل جـ1 ص61.(190/54)
على طريقة ابن الفارض، وابن عربي1". وقال الشيخ مدين, وهو كان رأس الصوفية زماننا: "إن التائية هي الفصوص، لا فرق بينهما" ومن قال أن السراج عمر بن إسحاق الهندي2 عزر الشهاب أحمد بن يحيى بن أبي حجلة3 لأجل كلامه في ابن الفارض، وجعل ذلك دليلا على ولايته؛ أجيب بأن شيخنا حافظ العصر أحمد بن حجر ذكر في ترجمته في أول تاريخه في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة أن السراج الهندي كان يتعصب للصوفية الاتحادية، وأنه شرح التائية، فسقط كلامه، والاعتبار به4، وعلى كل تقدير تعزيره له غير واقع في محله بوجه، فإنه لا شيء على من كفر مسلما بتأويل بلا خلاف.
ـــــــ
1 لا يدين ابن الفارض بالحلول، ولا ابن عربي به أو بالاتحاد، وإنما يدينان بالوحدة، إذ الحلول يستلزم الاثنينية، والاتحاد يشعر بأنه كان ثم غيران في وقت ما، وهما يدينان بأنه ما ثم غير ولا سوى. ومما قرأته لابن إسرائيل تحكم بأنه على دين أهل الوحدة، لا الحلول أو الاتحاد.
2 ولد سنة 704 ومات سنة 773هـ. تولى قضاء الحنفية، وكان يتعصب تعصبا مقيتا للصوفية من أهل الوحدة، ولذا شرح تائية ابن الفارض.
3 ولد سنة 825 ثم قدم القاهرة، فولي بها مشيخة الصوفية، وكان يكثر من الحط على أهل الوحدة، وبخاصة ابن الفارض، ولهذا عارض جميع قصائده، توفي سنة 776.
4 ولهذا يجب دائما ألا نجعل آراء البشر أدلة على الحق, أو سبيلا إليه، بل نرد كل ما يعرض لنا من أقضية الدين إلى الكتاب والسنة، وفيما يحكمان به فصل الخطاب، والعدل والحق والصواب، ولو أن السراج الهندي أسلم وجهه لله، وجرد قلبه من إثم هواه، لوالى الله سبحانه ولم يوال ابن الفارض، وثمت يدين بالحق وهو ابن الفراض عدو للحق.(190/55)
نعلمه بين العلماء. والحجة فيه قصة عمر وحاطب1 رضي الله عنهما، وغير ذلك مما وقع بحضرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وقائع عدة، على أن التعزير2 يحتمل أمورا عدة، لا يتعين شيء منها إلا بدليل، فسقط الاستدلال به.
وقال العلامة علاء الدين البخاري -وكان عين العلماء والصوفية قبل الشيخ مدين3- لشخص حنفي: "لا فرق بين التائية والفصوص إلا بكونه نثرا، وكونها نظما، كما أنه لا فرق بين منظومة [13] النسفي والقدوري إلا بذلك. وقال الشافعي مثل ذلك، ومثل بالبهجة نظم الحاوي، وبالحاوي".
وقال العلامة بدر الدين حسين بن الأهدل, وهو من أعيان صوفية اليمن وفقهائهم: "واعلم أن ابن الفارض من رءوس أهل الاتحاد" واستشهد على4
ـــــــ
1 هو حاطب بن أبي بلتعة، اتفقوا على شهوده بدرا وثبت ذلك في الصحيحين من حديث علي في قصة كتاب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بتجهيز رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليهم، فنزلت فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} الآية. فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟" وقد روى حديث حاطب الجماعة كلهم إلا ابن ماجه. ومكان الحجة هنا: تأول عمر فعل حاطب بالنفاق، وعدم مؤاخذة الرسول لعمر في تأوله هذا. ولكن حاطبا رجل أخطأ فندم وتاب فأين من هذا إصرار ابن الفارض، وتصريحه الجلي بأنه هو الله؟!
2 يعني: تعزير السراج الهندي لابن أبي حجلة. وقد حفل البقاعي بهذا التعزير، كأنما السراج إله يعزر عاصيا. وماذا ينتظر الناس من السراج إلا إنما الحق غني عن تأييد الملايين من أمثال السراج هذا.
3 ولد بأشمون جريس سنة 781 تقريبا. وتوفي سنة 892. يقول عنه السخاوي في الضوء: "وأما في تحقيق مذهب القوم فهو حامل رايته. والمخصوص بصريحه وإشارته".
4 لعله سقط من الناسخ بعد على، كلمة: قولة، أو هذا.(190/56)
بشراح التائية من أتباعه مثل سعيد الفرغاني وداود القيصري، ومحمود الأبزاوي.
شواهد من تائية ابن الفارض
... وإياك والإعراض عن كل صورة
مموهة، أو حالة مستحيلة ... فطيف خيال الظل يبدى1 إليك في
كرى اللهو، ما عنه الستائر شقت ... ترى صور الأشياء تجلى عليك من
وراء حجاب اللبس2 في كل خلعة ... تجمعت الأضداد فيها لحكمة3
وأشكالها تبدو على كل هيئة ... صوامت تبدي النطق وهي سواكن
تحرك تهدي النور غير ضوية ...
ثم ذكر أنواعا من الأضداد في نيف وعشرين بيتا، ثم قال:
وكل الذي شاهدته فعل واحد ... بمفرده، لكن بحجب الأكنة
إذا ما أزال الستر لم تر غيره ... ولم يبق بالأشكال إشكال ريبة
ويجمعنا في المظهرين تشابه ... وليست لحالي حاله4 بشبيهة
ـــــــ
1 في الأصل: يهدي.
2 في الأصل: النفس. والتصويب من الديوان.
3 في الأصل: بحكمة.
4 في الأصل: حالة.(190/57)
فأشكاله كانت مظاهر فعله ... بستر تلاشت إذ تجلى وولت
وكانت له بالفعل نفسي شبيهة ... وحسي كالأشكال، واللبس سترتي
تمجيد الصوفية لعبادة الأصنام:
وقال في الفص النوحي أيضا: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23] أي: حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} 3 لأنفسهم "المصطفين" الذين أورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة3، فقدمه على المقتصد والسابق
ـــــــ
1 في الأصل: إذا
2 يعني: من ذكروا في قوله تعالى: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} وقد عرفهم الزنديق بأنهم: هم المصطفون الأخيار.
3 يشير إلى الثلاثة الذين ذكروا في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقد سوى الزنديق بين مفهوم الظلم هنا، وبين مفهوم الظلم في قوله تعالى: {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا} يهدف بهذه التسوية إلى تقرير أن عباد الأصنام من قوم نوح هم من الذين اصطفاهم الله سبحانه!! ناسيا عن عمد كفور أن الظلم في قوله سبحانه: {ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} مقيد، وأنه هناك مطلق. وأن الظالم لنفسه في الآية مذكور في مقام ثناء، وأن الظالمين من قوم نوح ذكروا في مقام الذم.
ولا عجب، فالمصطفى عند الصوفية هو الظالم، والظالم عندهم من شاهد الواحد كثيرا، فعدد الواحد, وسار منه إلى الكثير. والمقتصد من يشهد الكثرة في الواحد والواحد في الكثرة، جامعا في شهوده بين الحق والخلق. والسابق هو من يشهد الكثير واحدا، ويسير من الكثير إلى الواحد. ويرى الصوفية في الظالم أفضل الثلاثة إذ لا يرى الواحد إلا كثيرا بالاعتبار فقط. ويلزمهم من هذا أن يكون ربهم ناقصا كاملا. وأن يكون مغايرا لنفسه، إذ الثلاثة عندهم عين الحق. فيكون الحق المتعين في الظالم غير المتعين في المقتصد. في حين هم يدينون بأن هوية كل شيء عين هوية الحق!!(190/58)
"إلا ضلالا" إلا حيرة المحمدي "زدني فيك تحيرا1". {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] فالحائر له الدور، والحركة الدورية2 حول القطب3، فلا يبرج منه. وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه. صاحب خيال إليه غايته، فله "من، وإلى4" وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية، لا بدء له، فيلزمه "من" ولا غاية له5
ـــــــ
1 يستشهد ابن عربي بهذا على أن حديث نبوي كما يأفك الصوفية. ولكن اسمع لابن تيمية يقول عنه: "لم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله" ص45جـ4 مجموعة الرسائل والمسائل.
2 في الأصل: الدور، والتصويب من الفصوص.
3 يريد به هنا: الله سبحانه: وهو متعين في الحقيقة المحمدية، سبحانه عما يأفك الزنادقة.
4 يقول بالي أفندي في شرحه للفصوص "أي له ابتداء ومسافة، فابتداؤه من نفسه، وانتهاؤه إلى خياله، ومسافته ما بينهما. فلا يصل إلى مطلوبه بهذا الطريق، وهو طريق العابدين من أهل الظاهر" انظر ص84 من الشرح المذكور.
واها للصوفية!! حتى بالي أفندي يؤمن بأن من يعبد الله بما شرعه الله، لا ينعم بالإيمان ولا بمحبة الله.
5 يقول بالي ص84 من شرحه للفصوص "ولا غاية له لمشاهدة مطلوبة في كل مظهر، ولا نهاية للمظاهر، فلا غاية لصاحب هذه الحركة" يعني: أن الصوفي الحق، والموحد الحق، هو من يدين بأن الحق عين الخلق، وهذا الموحد بدؤه عين غايته، وأوله نفس آخره، فهو أشبه بمن يديم الطواف حول دائرة. إنه ينتهي إلى حيث بدأ، ويبدأ من حيث انتهى. والصوفي يبدأ من عبادة الظاهر أو الحق، وينتهي إلى عبادة المظاهر أو الخلق، ولكن: ما تلك المظاهر؟ إنها عين الظاهر؟ ومن أولئك الخلق؟ إنهم عين الحق. فلا يقال عنه إنه بدأ أو انتهى، فالبداية عين النهاية!! هذا مراد الزنديق من قوله: ولا غاية له.(190/59)
فتحكم عليه "إلى" فله الوجود الأثم، وهو المؤتي جوامع الكلم والحكم "مما خطيئاتهم1" فهي التي خطت بهم، فغرقوا في بحار العلم بالله، وهو الحيرة "فأدخلوا نارا" في عين الماء2، في المحمديين {إِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] سجرت التنور إذا أوقدته. {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} فكان الله عين أنصارهم3 فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجهم إلى السيف، سيف الطبيعة لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله، وبالله، بل هو الله. "قال نوح: رب" ما قال: إلهي. فإن الرب له الثبوت، والإله يتنوع4 بالأسماء، فهو كل يوم هو في شأن. فأراد بالرب ثبوت التكوين؛ إذ لا يصح إلا هو.
ـــــــ
1 يقصد قوله تعالى عن قوم نوح {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25] ويمجد الفاجر خطايا الوثنيين من قوم نوح، ويزعم أنه خطت بهم إلى قدس أقداس الحقيقة، فعرفوا أنهم أرباب تعبد آلهة هي الأصنام، ويفسر الإغراق بأنه إغراق في بحار العلم بالله!.
2 يفسر النار بأنها هي الماء، فأي عمه بصري، وغباء حسي، وخيال فكري أخبث من هذا؟
3 في الأصل: ناصرهم. وتأمل رعونة الزندقة، وجرأة باطلها على الحق المبين من كتاب الله. إذ يزعم أن الله سبحانه ما نفى وجود الأنصار للوثنيين، إلا لأن الله نفسه كان هو عين أنصار أولئك الوثنيين، فما ثم غيره حتى يمكن نفي وجوده. ولم لا يفجر الزنديق كل هذا الفجور، وهو يدين بأن هذه الأوثان هي الله سبحانه عما يأفك الزنادقة.
4 في الأصل: تنوع. وابن عربي يدين بأن كل شيء هو اسم إلهي تعين في صورة ذلك الشيء. ولذا. فكل شيء إله يجب أن يعبد، ولما كان لكل شيء اسمه الخاص به، فإن الحق تعددت، وتنوعت أسماؤه تبعا لتنوع الأشياء وتعدد أسمائها، فالأشياء كلها تعينات أسمائه. فيسمى الإله الصوفي إذن صنما باعتبار تعينه في شيء سمي: الصنم ويسمى: عجلا، وخنزيرا، وميكروبا، وقاتلا، وبغيا، بنفس ذلك الاعتبار فلا تعجب: إذا رأيت الصوفي يعبد درويشة، أو عاهرة، فإنهما اسمان لإلههما تعينا في صورتي درويشة وعاهرة، هذا ما يريده ابن عربي، الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر من قوله: والإله يتنوع بالأسماء.(190/60)
"لا تذر على الأرض" يدعو عليهم أن يصيروا في بطنها المحمدي "ولو دليتم بحبل لهبط على الله1" {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وما في وَالْأَرْضِ} 2 وإذا دفنت فيها [فأنت فيها], وهي ظرفك {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 50] [14] لاختلاف الوجوه "من الكافرين3" الذين "استغشوا ثيابهم جعلوا أصابعهم في آذانهم" طلبا للستر؛ لأنه دعاهم ليغفر لهم. والغفر الستر. "ديارا" أحدا، حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة "إنك إن تذرهم" أي: تدعهم وتتركهم "يضلوا عبادك" إلى الخير، فيخرجهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية فينظرون أنفسهم أربابا بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدا، فهم العبيد الأرباب "ولا يلدوا" أي: ما ينتجون ولا يظهرون "إلا فاجرا" أي: مظهرا ما ستر "كفارا" أي: ستارا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر
ـــــــ
1 هذا حديث منقطع, لأنه من رواية الحسن عن أبي هريرة، والحسن لم ير أبا هريرة وبالتالي لم يسمع منه. وقد رواه الترمذي، وقال عنه: إنه غريب. وأوقن أن هذا الحديث قد سه إما صوفي، وإما جهمي تأييدا لأسطورة الحلول، أو أسطورة أن الله في كل مكان بذاته. فهو مصادم للقواطع من كتاب الله. فمن قول الله سبحانه {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} فكي يتوعدهم بخسف الأرض وهو فيها؟؟
2 عقب ما ظنه حديثا بالآية، استشهادا بها على صدق أسطورة الوحدة. والآية ما فيها إلا حق يهدم كفر الباطل. إذ تفيد أن السماء والأرض ملك لله وحده، يفيد الأول اللام، والثاني تقدم الجار والمجرور. يفهم هذا من له أدنى إلمام بالعربية، ولكن ابن عربي يلبس حتى في البديهيات.
3 يعني: الذين دعا عليهم نوح عليه السلام.(190/61)
في كفره، والشخص واحد {رَبِّ اغْفِرْ لِي} 1 استرني، واستر من أجلي، فيجهل مقامي وقدري، كما جهل قدرك في قولك: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] "ولوالدي" من كنت نتيجة عنهما، وهما العقل والطبيعة "ولمن دخل بيتي" أي: قلبي "مؤمنا" أي: مصدقا لما يكون فيه من الإخبارات الإلهية، وهو ما حدثت به أنفسها2 "وللمؤمنين" من العقول "والمؤمنات" من النفوس3 "ولا تزد الظالمين" من الظلمات أهل الغيب المكتنفين خلف الحجب الظلمانية "إلا تبارا" أي: هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم في المحمديين {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] والتبار الهلاك4"
الحق عين الخلق عند الصوفية:
ثم قال في فص حكمة قدوسية في كلمة إدريسية: "ومن أسمائه الحسنى: العلي. على5 من؟ ومن ثم إلا هو، فهو العلي لذاته، أو عن ماذا؟ وما هو
ـــــــ
1 سيبدأ في تفسير قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28] وسترى في تفسيره كيف يضع للفظ الكفر معنى الإيمان الحق، وللفظ الباطل معنى الحق.
2 في الأصل: أنفسهم، وصوبتها من الفصوص.
3 فسر الإضلال بأنه الإخراج من الباطل والشر إلى الحق والخير، أي: من الظن بأنهم عبيد، إلى اليقين بأنهم في حقيقتهم أرباب، وفسر الوالدين بالعقل والطبيعة، والبيت بالقلب، والمؤمنين والمؤمنات بالعقول والنفوس، والهلاك بشهود الحق في الخلق. وهكذا يعبث الصوفية عبث الجرأة الكافرة باللغة التي نزل بها القرآن، فيضعون للشيء معنى نقيضه، ويزعمون بهذا أنهم أهل الباطل، أي: الباطن.
4 ص72-74 فصوص.
5 في الأصل: علا عن من. وهي -كما أثبت- في الفصوص.(190/62)
إلا هو!! فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها, وليست إلا هو1. فهو العلي، لا علو إضافة، لأن الأعيان التي لها العدم الثابتة فيه، ما شمت رائحة من الوجود، فهي على حالها مع تعداد الصور في الموجودات والعين واحدة من المجموع في المجموع، فوجود الكثرة في الأسماء، وهي النسب، وهي أمور عدمية، وليس إلا العين الذي هو الذات، فهو العلي لنفسه، لا بالإضافة, فما في العالم من هذه الحيثية علو إضافة، لكن الوجوه الوجودية متفاضلة، فعلوا الإضافة موجود في العين الواحدة من حيث الوجوه الكثيرة، لذلك نقول فيه: هو، لا هو. أنت، لا أنت2. قال الخراز3
ـــــــ
1 هذا صريح جدا في الدلالة على أن ابن عربي يؤمن بوحدة الوجود المادية والروحية. وقد عبر عن إيمانه هذا بقوله: "فالمسمى محدثات هي العلي لذاتها" ثم زاد الكفر غلوا وتوكيدا، فقال: "وليست إلا هو" هكذا بأقوى وأوكد أسلوب من أساليب القصر. ولعل في هذا ما يكشف لك عن علة مقت الصوفية لكلمة التقوى والتوحيد "لا إله إلا الله" وقولهم بدلا عنها: "ليس إلا الله" أو "لا هو إلا هو" وبهذا دان الغزالي، وقرره في مشكاة الأنوار، أو "هو الله" أو "هو هو" مما يهولون به على المخابيل، ويهدفون به إلى تأييد مذهبهم في الوحدة: شهودية, أو وجودية.
2 هو، وأنت: إيجاب، ولا هو, ولا أنت: سلب، فهما إذن نقيضان، لا يجتمعان، ولا يرتفعان. وإذا حكمت بثبوت أحدهما أو نفيه استلزم هذا لزوما قطعيا الحكم بنفي الآخر أو ثبوته. بيد أن الصوفية لا يحفلون في سبيل إثبات وجود العدم بقانون من قوانين اللغة أو الفكر، بل لديهم الجرأة البالغة على تكذيب ما يشهد به الحس، وما يقطع ببداهته العقل، والبين الجلي من كتاب الله.
ومعنى قول ابن عربي: إنك تستطيع أن تقول عن كل شيء إنه هو الله باعتبار هويته وماهيته، وتقول ليس هو الله بالنظر إلى اسمه الخاص به، وإلى أنه أحد تعينات الذات لا كل تعيناتها، وكذلك أفهم قوله: أنت لا أنت.
3 هو أحمد بن عيسي أبو سعيد الخراز من صوفية بغداد, توفي سنة 277هـ. وسيذكر ابن عربي صريحا أن الخراز هو الله سبحانه!!(190/63)
وهو وجه من وجوه الحق، ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه: بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره1، وما ثم من يبطن عنه، فهو ظاهر لنفسه، باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من [أسماء] المحدثات2".
قلت: وقال ابن الفارض:
أممت إمامي في الحقيقة، فالورى ... ورائي وكانت حيث وجهت وجهتي
يراها أمامي في صلاتي ناظري ... ويشهدني قلبي إمام أئمتي
ولا غرو أن صلى الأنام إلي، أن ... ثوت بفؤادي وهي قبلة قبلتي
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي، ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
إلى كم أواخى3 الستر، ها قد هتكته ... وحل أواخى4 الحجب في عقد بيعتي
أفاد اتخاذي5 حبها لاتحادنا ... نوادر عن عاد المحبين شذت
ـــــــ
1 إذ كل شيء عنده هو الله، فإذا رأي الصوفي إنسانا قال: الله رأى الله، وإذا عبد المشرك صنما قال الصوفي: الله عبد الله، وهكذا استطرد في كل اثنين. حتى العاهر مع العاهرة، وتعالى الله عما يأفك الزنادقة.
2 ص76-77 فصوص. وهذا صريح جدا في أن ابن عربي يؤمن بأن الله سبحانه عين كل شيء: مادي، أو روحي!!
3 من المواخاة بمعنى الملازمة.
4 جمع آخية، وهي ما يبرز -كالحقة- من الحبل المدفون طرفاه في الأرض وتشد إليها الدابة، ويراد بها الحرمة والذمة.
5 في الأصل: اتحادي، والتصويب من الديوان(190/64)
وفي الصحو بعد المحو1 لم أك غيرها ... وذاتي بذاتي إذا تحلت تجلت2
[فوصفي إذ لم تدع باثنين وصفها ... وهيئتها -إذا واحد نحن- هيئتي3]
فإن دعيت كنت المجيب، وإن أكن ... منادي أجابت من دعاني ولبت
وإن نطقت كنت المناجي4، كذاك 5 إن ... قصصت حديثا،إنما هي قصت
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
فجاهد تشاهد فيك منك وراء ما ... وصفت سكونا عن وجد سكينة
ـــــــ
1 الصحو عن الصوفية: هو رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال إحساسه. والمحو: إسقاط إضافة الوجود إلى الأعيان، ولا موجود عندهم إلا الحق سبحانه وحده، فهو العابد باعتبار تعينه وتقيده بصور العبد التي هي شأن من شئونه الذاتية، وهو المعبود باعتبار إطلاقه. انظر التعريفات للجرجاني، وجامع الأصول في الأولياء للكمشخانلي تحت مادتي الصحو والمحو.. وابن الفارض هنا يغلو في إثبات الوحدة، فيزعم أنه هو الله، لا في حال المحو فحسب، بل في حال الصحو أيضا. وهذا يؤكد لك أنه يعني ما يقول، ويؤمن بالوحدة صحوا ومحوا، فما هي شطحات، ولكنها عقيدة ينبت عليها قلبه ودينه، وما هو بهذيان سكران كما يعرف الصوفية، ليقولوا: وكلام السكران معفو عنه، فيطوى ولا يروى.
2 يشرح القاشاني هذا البيت بقوله: "أي: ارتفع غيريتي في حال الصحو بعد المحو، وحينئذ زينت ذاتي بذاتي إذ تجلت، ولا ينتج تجليها السكر، لأنها لا تصادف غيرها" يعني أنها صارت هي الله" وهذا هو نهاية الاتحاد" انظر شرح القاشاني -وهو من عباد ابن الفارض- للتائية.
3 هذا البيت ليس في الأصل، وقد أثبته عن ديوان ابن الفارض، وسيأتي شرحه.
4 في الأصل: المجيب. والتصويب من الديوان.
5 في الأصل: كذلك.(190/65)
فمن بعد ما جاهدت، شاهدت مشهدي1 ... وهادي2 لي إياي، بل بي قدوتي
فبي موقفي، لا, بل إلي توجهي ... كذاك صلاتي لي، ومني كعبتي
الوحدة المطلقة دين ابن عربي:
قال الإمام زيد الدين العراقي في جواب السؤال المذكور: "وأما قوله3 فهو عين ما ظهر، وعين ما بطن، فهو كلام مسموم, ظاهره: القول بالوحدة المطلقة، وأن جميع مخلوقاته هي عينه، ويدل على إرادته لذلك صريحا قوله بعد ذلك: "وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات" وكذا قوله بعد ذلك: "والمتكلم واحد، وهو عين السامع" وقائل ذلك والمعتقد له كافر بإجماع العلماء".
"لا يعتذر عن الوصفية بالتأويل":
ثم قال: "ولا يقبل ممن اجترأ على مثل هذه المقالات القبيحة أن يقول: أردت بكلامي هذا خلاف ظاهره، ولا نؤول له كلامه، ولا كرامة.
ولقد أحسن بعض من عاصرناه من العلماء العارفين، وهو الشيخ الإمام العلامة علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي حيث سئل عن شيء من هذا. فقال: "إنما نؤول كلام من ثبتت عصمته حتى نجمع بين كلاميه4، لعدم
ـــــــ
1 في الأصل: مشهدتي.
2 في الأصل: وهادي.
3 يعني: ابن عربي.
4 هذا على دين من يقول بوجوب التأويل لآي القرآن، أو الأحاديث التي يرون -وهو: أي ضلالة- أن في حملها على ظاهرها إثباتا لوجود التعارض بين العقل والنقل. وما أتى هؤلاء إلا من إيمانهم بأسطورة الفلسفة الملحدة، وهي أن العقل حاكم على النقل، وأنه القاعدة، والمقياس، فإذا رأى العقل في كلام الله =(190/66)
جواز الخطأ عليه، وأما من لم تثبت عصمته، فجائز عليه الخطأ والمعصية والكفر، فنؤاخذه بظاهر كلامه، ولا يقبل منه ما أول كلامه عليه مما لا يحتمله، أو مما يخالف الظاهر, وهذا هو الحق" ا. هـ.
خطر صرف الكلام عن ظاهره:
وكذا قال في عدم التأويل لغير المعصوم الإمام نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي، وقد حقق هذه المسألة حجة الإسلام1 أبو حامد الغزالي في أول الإحياء في كتاب العلم بما حاصله: أن الكلام إن كان ظاهرا في الكفر بالاتحاد، فقتل واحد ممن يقول به أفضل من إيحاء عشرة أنفس، وإن كان فهمه مشكلا، فلا يحل ذكره. وقال: إن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام بنقل عن صاحب الشرع، وبغير ضرورة تدعو إلى ذلك من دليل العقل2 اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ، ثم قال: والباطن لا ضبط
ـــــــ
= ما لا يوافق مقاييسه وقيمه، وجب تأويله حتى لا يتعارض معه!! يجعلون المخلوق حاكما على الخالق، والعبد محددا للقيم التي يجب أن يؤمن بها الرب، ويوجبون على الله ألا يتكلم سبحانه إلا بما يتواءم وهوى عبيده, هكذا يفعل المؤولة، اقتداء بآلهتهم الفلاسفة، فما صاروا فلاسفة، وما قدروا على أن يعودوا مسلمين!! والقونوي هو أبو الحسن نور الدين المصري الشافعي، ولد سنة 673، وتوفي سنة 724هـ وهو من خصوم ابن تيمية، حتى لقد وثب مرة عليه، ونال منه.
1 إنما حجة الإسلام كتاب الله وسنة رسوله، وكيف يعتبر حجة للإسلام رجل يشهد على نفسه أنه رديء البضاعة في الحديث، وأنه لم يجد الحق إلا في التصرف؟.
2 لو تركنا للعقل الحرية في صرف اللفظ عن ظاهره، أي: عن معناه الذي هو له لصارت الحقائق كلا نسبية أو اعتبارية، بل لما بقى حق واحد يؤمن به الفكر العام، ولعدنا إلى السفسطائية. إذ سيصبح جائزا لكل إنسان ادعاء أن هذا اللفظ، أو ذاك يجب صرفه عن ظاهره، لأن عقله يحكم بذلك، ولا يمكن لامرئ ما معارضته، ما دمنا قد وضعنا له من قبل قاعدة وجوب صرف اللفظ عن ظاهره إذا تعارض مع العقل!! والفلاسفة أنفسهم لم يجمعوا على حقيقة واحدة، بل آمن كل بإله ليس هو إله الآخر في ماهيته وصفاته, بل كان الفيلسوف يؤمن أو يكفر بما كفر أو آمن به من قبل، ونظرة واحدة إلى نتاج الفكر الفلسفي تبين لك عما فيه من تناقض حاد، وتضاد متوتر، فأي عقل من هذه العقول نجعله قيما على الحق، وحكما بين الخطأ والصواب.(190/67)
له، بل تتعارض فيه الخوطر1، ثم قال: وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة.
وسيأتي تأييد ذلك عن الشيخ زين الدين العراقي وولده الحافظ أبي زرعة [16] وحكاية ابن خليل السكوني الإجماع على ذلك.
صلة الخلق بالحق عند الصوفية:
ثم قال ابن عربي في الفصل الإدريسي أيضا: "وما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود والمعدود منه عدم، ومنه وجود، فقد يعدم الشيء من حيث الحس، وهو موجود من حيث العقل، فلا بد من عدد، ومن معدود، ولا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه, فإن كل مرتبة2 من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا، والعشرة [إلى أدنى، وإلى أكثر، إلى غير نهاية] ما هي مجموع، ولا ينفك عنها اسم جمع الآحاد3".
ثم قال: "ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها4
ـــــــ
1 هذا حق لا حرية فيه، بيد أن من قرره لا يؤمن به إلا حين يخاطب عوام الناس في زعمه، أما في كتبه المضنون به على غير أهلها فهو باطني يجرد اللفظ من معناه في جرأة بالغة، وحسبك أن من أساتذة الغزالي إخوان الصفا، وأن في كتبه المضنون بها آثارا ظاهرة من باطنيتهم الخبيثة، وعجيب أن يحمل الغزالي على الباطنيين، وهم أساتذته، وهو من رواد مشارعهم؟
2 في الأصل: وإن كان كل. وهو موافق لبعض نسخ الفصوص.
3 ص77 جـ1 فصوص.
4 في الأصل: ثبوتها، والتصويب من الفصوص.(190/68)
علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه1 وإن كان قد تميز الخلق من الخالق، فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة [لا]، بل هو
ـــــــ
1 يمثل الزنديق علاقة الحق بالخلق، بعلاقة الواحد الحسابي بالأعداد، فيزعم أن جميع الأعداد صور للواحد، وكذلك الوجودات المتعددة ما هي إلا صور للوجود الواحد، هو الوجود المطلق. فالتسعة مثلا هي الواحد مكررا, فلك القول بأن الواحد عين التسعة، ولك القول بأنه غيرها، بيد أنها غيرية مجازية، أو اسمية فقط. وكذلك الحق سبحانه -هكذا يأفك الزنديق- والخلق، فهذا عين الحق باعتبار الهوية والماهية، وهو غيره باعتبار خصوصيته، أي: كونه مظاهرا للذات الواحدة، ولكنها غيرية ذهنية لا تحقق لها في الخارج. ألا تراه يزعم: "إن الحق المنزه عين الخلق المشبه"؟، وما أظن الكفر تجرأ على الله من أحد بمثل هذه الجرأة من ابن عربي، وما أظنه صرح عن خبيئته بما هو أبين من هذه الصراحة.
والرد على تلبيس ابن عربي هين. فالأعداد في ذاتها حقائق معقولة، لا توجد في الذهن، ولا توصف بالوجود الخارجي إلا بالنسبة للمعدودات، ثم إن معدود الأربعة مثلا ليس بلازم أن يكون عين معدود الخمسة، بل ولا عين معدود أربعة أخرى، فقد يكون معدود الخمسة أقلاما، فيكون الواحد فيها قلما, وقد يكون معدود الأربعة كتبا، فيكون الواحد منها كتابا. فيكون الواحد في الأربعة غير الواحد في الخمسة، بل غيره في أربعة أخرى، وهكذا في كل معدود. وهي غيرية حقيقية في الذاتيات والعرضيات. ولكن ابن عربي يوقن بأن الحق المتلبس بصورة الصنم عين الحق المتلبس بصورة الخنزير, يؤمن بأن الحق المعبود في عجل السامري عين الحق المعبود في البار، وهبل. أما الأعداد فقد رأيت أن الواحد في الأربعة يغاير الواحد في الأربعة يغاير الواحد في الخمسة مثلا، أو في أي عدد آخر مغايرة حقيقية، نعم معنى الواحد في عدد ما عين معناه في عدد آخر، لكنها عينية ذهنية، أو تجريدية فحسب. أما ابن عربي فيؤمن بتحقق العينية في الوجود الخارجي، إذ يدين بأن ما في الخارج عين ما في الذهن. وهذا واضح البطلان، فالمستحيل يوجد في الذهن، ولكنه لا يوجد في الخارج، وكذلك المطلق والكلي بشرط الإطلاق والكلية يوجدان في الذهن، ولا يوجدان ألبتة في الخارج.(190/69)
العين الواحد، وهو العيون الكثيرة1"
الطبيعة هي الله عند الصوفية:
ثم قال: "وخلق منها زوجها [فما نكح سوى نفسه، فمنه الصاحبة والولد، والأمر واحد في العدد2]، فمن الطبيعة؟ ومن الظاهر منها؟ وما رأيناها نقصت بما ظهر منها، ولا زادت بعدم ما ظهر!! وما الذي ظهر غيرها؟ وما هي عين ما ظهر، لاختلاف الصور بالحكم عليها. فهذا بارد يابس، وهذا حار يابس، فجمع باليبس، وأبان بغير ذلك، والجامع الطبيعة [لا]، بل العين الطبيعة، فعالم الطبيعة صور في مرآة واحدة، لا. بل صورة واحدة في [مرايا] مختلفة3، فما ثم إلا حيرة، لتفرق النظر، ومن عرف ما قلناه لم يحر، وإن كان في مزيد علم، فليس إلا من حكم المحل، والمحل عين العين الثابتة، فيها يتنوع الحق في
ـــــــ
1 ص78 ج1 فصوص.
2 كل ما بين هذين [ ] ساقط من الأصل، وأثبته عن الفصوص، وأظنك قد لاحظت عرام الغريزة الدنيئة كيف وضع لابن عربي دينه في قوله: "فما نكح سوى نفسه"!! ولاحظت التثليث الذي يصوره ابن عربي بصورة أدنأ من تثليث المسيحية المفلسفة، إذ يزعم أن الذات الإلهية ثلاثة أقانيم. أقنوم هو الزوج، وثان هو الزوجة، والأخير هو الولد" هذه الأقانيم الثلاثة هي الإله الواحد عند ابن عربي!! أفيستطيع الصوفية افتراء أنهم مسلمون.
3 يزعم ابن عربي أن مظاهر الطبيعة هي عين الذات الإلهية، والمظاهر الطبيعية مختلفة الا؛كام، فمنها ما نحكم عليه بأنه حيوان أو جماد: ر طب أو يابس، حار أو بارد، لذا وجب أن يحكم على الذات الإلهية بكل ما يحكم به على مظاهرها وهي العالم الطبيعي. فيقال عن الذات الإلهية: إنه حيوان جماد رطب يابس حار بارد، وغير هذا. ويزعم ابن عربي أن الله نفسه هو الذي يحكم على نفسه بهذه الأحكام، أي: يحكم على نفسه سبحانه بكل ما يحكم به على كل مظاهر الطبيعة وحسب الصوفية إيغالا في الزندقة إيمانهم برب هو جماد بارد!!.(190/70)
المجلي، فتتنوع الأحكام عليه، فيقبل كل حكم، وما يحكم عليه إلا عين ما تجلى فيه, وما ثم1 إلا هذا, شعر:
فالحق خلق بهذا الوجه، فاعتبروا ... وليس خلقا بذاك الوجه فادكروا
من يدر ما قال، لم تخذل بصيرته ... وليس يدريه إلا من له بص
جمع2، وفرق، فإن العين واحدة ... وهي الكثيرة، لا تبقي ولا تذر3
دين ابن الفارض:
قلت: وهذا مراد ابن الفارض بقوله:
وجل في فنون الاتحاد، ولا تحد4 ... إلى فئة في غيره العمر أفنت
فواحده الجم الغفير ومن عدا ... ه شرذمة في غيره العمر أفنت
فمت بمعناه، وعش فيه، أو فمت ... معناه، واتبع أمة فيه أمت
فأنت بهذا المجد أجدر من أخي اجـ ... ـتهاد مجد عن رجاء وخيفة
فألغ الكنى عني 5، ولا تلغ ألكنا ... بها، فهي من آثار صيغة صنعتي
ـــــــ
1 في الأصل: ما.
2 في الأصل: وجمع.
3 ص78-79 جـ1 فصوص.
4 في الأصل: تجد.
5 لما كانت الكنى اصطلاحات وضعها الإنسان الذي هو من صنع الإله الذي تجسد في هيكل ابن الفارض, فإن هذا الإله الفارضي يأمر خلقه بإلغاء الكنى عنه, إذ لا يصح للمصنوع تعريف صانعه بكنية ما. وهدف ابن الفارض من هذا أن يؤمن الناس بما آمن به هو من الكفر الفاجر، وهو اعتقاد الوحدة التامة بين الحق والخلق، وأن يدينوا بأن ابن الفارض هو المجلي الأعظم، والمظهر الكامل للذات الإلهية، فليضيفوا إليه صفات الربوبية والإلهية!!! ولما كان ابن الفارض يعلم أن كفره هذا ينابذ الشرع، فإنه ألح في البيت الذي قبل هذا في تحذير أتباعه من الإصغاء إلى الشرع، أومن الميل إلى الأئمة المجتهدين الذين يعبدون الله =(190/71)
وأي بلاد الله حلت بها، فما ... أراها وفي عيني حلت غير مكة
وأي مكان ضمها حرم، كذا ... أرى كل دار أوطئت1 دار هجرة
وما سكنته، فهو بيت مقدس ... بقرة عيني، فيه أحشاي قرت
ومسجدي الأقصى مساحب بردها ... وطيبي ثرى أرض عليها تمشت
وشكري لي، والبر مني واصل ... إلي, ونفسي باتحادي استبدت
وثم أمور تم لي كشف سترها ... بصحو مفيق عن سواي تغطت
بها لم يبح من لم يبح دمه، وفي الإشارة معنى ما العبارة حدت
وقلبي بيت فيه أسكن. دونه ... ظهور صفاتي عنه من حجيبتي
ومنها يميني فيّ ركن مقبل ... ومن قبلتي للحم في فيّ قبلتي
وحولي بالمعنى طوافي حقيقة ... [17] وسعي لوجهي من صفائي لمروتي2
وفي حرم من باطني أمن ظاهري ... ومن حوله يخشى تخطف جيرتي3
ـــــــ
= وحده، وتمتلئ قلوبهم خوفا من الله وحده، ورجاء فيه وحده.. وهكذا كل شيطان صوفي يحذر أتباعه من الشرع وأتباعه، ويأمرهم أن يكونوا بين يديه هو كجثة الميت بين يدي الغاسل، ويظل يقتل فيهم الشعور، ويميت منهم الكرامة، ويستعبد منهم الفكر، ويبيد فيهم كل إحساس بالذاتية، حتى يصبحوا لهواه عبيدا صاغرين، فينتهك حرمات الله ظانين أنه ثم مع الله، ويلعق دم الجريمة، وهم يحسبون أنه بذلك يقضي دين حب الله، ويترع حميم الخمر، ويقسمون أنها شراب من يد الله!!
1 في الأصل: وطنت.
2 يقصد: الصفا والمروة: يريد أن يقول: إنه إذا طاف فإنما يطوف حول نفسه، وإذا سعى بين الصفا والمروة، فإنما يسعى لوجهه، ذلك لإيمانه بأن العابد والمعبود عين واحدة. ولقد أقسم لي صوفي. أنه ليس ممن يطوفون حول الكعبة بل هو ممن تطوف حولهم الكعبة.
3 يريد أن يقول: إنه هو الحرام، ويشير إلى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67] بالزنديق يزعم أن باطنه الخبيث هو هذا القدس الطهور.(190/72)
وشفع وجودي في شهودي ظل في اتحادي وترا في تيقظ غفوتي1
ولم أله باللاهوت عن حكم مظهري ... ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتي
وقد جاءني مني رسول. عليه ما ... عنت، عزيز بي، حريص لرأفة2
ومن عهد عهدي قبل عصر عناصري ... إلى دار بعث قبل إنذار بعثة
إليّ رسولا كنت مني مرسلا3 ... وذاتي بآياتي عليّ استدلت
ـــــــ
1 الشفع عند الصوفية وجود الرب شفع بوجود العبد، والوتر عندهم وجود الرب فردا باقيا بعد فناء وجود العبد. ولما يستلزمه الشفع من الاثنينية راح ابن الفارض ينفيه هنا نفيا باتا, ثم يؤكد أنه تجلى له عن شهود جلي، ويقظة شاعرة تمام الشعور أن الوجود -وجود الرب، ووجود العبد- واحد في أزليته وأبديته وأنه ما ثم إلا عين واحدة سميت باعتبار الباطن حقا، أو ربا، وباعتبار الظاهر خلقا أو عبدا. تلك هي الذات الإلهية، ويؤكد الزنديق كذلك أنما كان يضيفه من سمات الوجود وصفات لنفسه، ويحسبه غير الوجود الإلهي، كان وهما من الأوهام استبد بخياله الغافل المغرور، هذا لأنه أدرك تمام الإدراك أنه ما ثم غير، ولا سوى، بل وحدة مطلقة تشمل كل مظاهر الوجود. هذا وغيره يجعلنا نوقن أن ابن الفارض ممن يؤمنون بالوحدة، لا بالاتحاد. لأن الاتحاد افتعال يستلزم ثبوت وجودين اتحد أحدهما بالآخر. في حين أنه هنا وفي مواضع كثيرة يقرر وحدة الوجود في أزل وأبد وسرمد وآن، وأنه ما كان في حال ما ولا آن ما ثنائيا أبدا، بل كان دائما هو الوجود الواحد.
2 في الأصل: برأفة.
3 قال القاشاني في شرحه: "فالذات الإلهية باعتبار التجرد والابتداء تكون مرسلا، وباعتبار تلبسها بلباس النفس تكون مرسلا إليها" وهكذا يشد كل صوفي وتر الثالوث، فابن الفارض يزعم هنا أنه منذ القدم كان الله، ثم تلبس بصورة النفس. فأرسل بصفته وجودا متجردا، رسولا إلى نفسه بصفته وجودا مقيدا بالتعين. فهو المرسل، والرسول، والمرسل إليه، كان كذلك حتى وهو في غيابة الأزل.(190/73)
العبد عين الرب عند الصوفية:
ثم قال في فص كلمه علية في كلمة إسماعيلية: "والعبد1 من كان عند ربه مرضيا، وما ثم إلا من هو مرضي عند ربه؛ لأنه الذي يبقي عليه ربوبيته، فهو عنده مرضي فهو سعيد": ثم قال؛ شعر:
فأنت عبد, وأنت رب ... لمن له فيه أنت عبد
وأنت رب، وأنت عبد ... لمن له في الخطاب عهد
فكل عقد عليه شخص ... يحله من سواه عقد2
فرضي الله عن عبيده، فهم مرضيون، ورضوا عنه، فهو مرضي، فتقابلت الحضرتان3 تقابل الأمثال، والأمثال أضداد، لأن المثلين حقيقة لا يجتمعان, إذ لا يتميزان، وما ثم إلا متميز، فما ثم مثل4، فما في الوجود مثل، فما في الوجود ضد، فإن الوجود حقيقة واحدة، والشيء لا يضاد نفسه.
ـــــــ
1 في الأصل: والسعيد.
2 البيتان الأخيران ساقطان من الأصل، وأثبتهما عن الفصوص. يقرر ابن عربي: أن الإنسان رب من حيث هويته التي هي عين هوية الحق، وهو عبد باعتبار ما أطلقه عليه الشرع. ويعني بالعهد: المفهوم من قوله سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} مبتغيا من وراء ذلك إثبات أن ما سمي في عرف الشرع عبدا ما هو في الحقيقة إلا رب حق يدين بربوبيته العارفون، ويشهد بحقها السالكون على بصيرة.
3 هما حضرة الربوبية، وحضرة العبودية، ويقرر ابن عربي: أن من يغاير بينهما محجوب أعمى البصيرة، جاهل بحقيقة الله سبحانه.
4 في الأصل: إلا مثل. وابن عربي ينفي المثلية لأنه يدين بأن الوجود حقيقة واحدة، أما المثلية، فتستلزم الاثنينية والغيرية بوجه ما. ومن ثم عنده إلا حقيقة واحدة، أو وجود واحد لا كثرة فيه، ولا تعدد, ولا تباين، فالشيء الواحد لا يقال إنه يغاير نفسه، أو يضادها, أو يماثلها. هذا ما يريده بنفي المثلية، وقد بناه على ما يدين به من وحدة الوجود. ويغلو ابن عربي في جرأة الزندقة، فيزعم أن معتقده هذا دل عليه برهان العيان، أي: شهود الحق متعددا في مظاهر خلقية.(190/74)
فلم يبق إلا الحق، لم يبق كائن ... فما ثم موصول, ومن ثم بائن
بذا جاء برهان العيان، فما أرى ... بعيني إلا عينه إذا أعاين1
النار عين الجنة عند الصوفية:
ثم قال: "الثناء بصدق الوعد, لا بصدق الوعيد [والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود بالذات، فيثني عليها بصدق الوعد، لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز] {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] لم يقل: ووعيده2، بل قال: {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ 3 } مع أنه توعد على ذلك، فأثنى على إسماعيل عليه الصلاة والسلام بأنه كان صادق الوعد.
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وما لوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء، فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد4 فالأمر واحد ... وبينها5 عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة لفظه ... وذاك لكالقشر، والقشر صائن6
ـــــــ
1 ص92-93 فصوص.
2 في الأصل: وعيده بدون واو العطف.
3 يعني قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] ويحملها على الكفرة والمشركين، ليخلص من ذلك إلى إثبات ما يقرره؛ وهو أن لا عذاب يوم القيامة، لأن الله وعد في هذه الآية بالتجاوز عن السيئات. فتأمل!!
4 الجنة عند الصوفية: هي عرفان المرء بنفسه، ليدرك بهذه المعرفة أنه هو الله وهذا ما يفسرون به الحديث الموضوع: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" والجحيم عندهم: هو ما يغيم على النفس من أوهام الكثرة، فتخدعها عن الحقيقة، فتظن المغايرة بين الخلق والحق. وهذا الظن هو الجحيم!!
5 في الأصل: وما بينهما.
6 ص 93-94 فصوص.(190/75)
"مثل من تفسير ابن عربي للقرآن":
ثم قال في نص حكمة نورية في كلمة يوسفية, بعد أن قرر أن الشيء قد يرى في خلاف ما هو عليه لبعد، أو ظلام ونحوه: "فما يعلم من العالم إلا قدر ما يعلم من الظلال، ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي كان عنه ذلك الظل، فما حيث هو ظل له يعلم، ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه يجهل من الحق، فلذلك نقول: إن [الحق] معلوم لنا من وجه, مجهول لنا من وجه {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45] أي: يكون فيه بالقوة. يقول: ما كان الحق ليتجلى للممكنات التي ما ظهر لها عين في الوجود {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45] وهو اسمه النور [الذي قلنا، ويشهد له الحسن, فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور] {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46]. وإنما قبضه إليه؛ لأنه
ظله، فمنه ظهر، وإليه يرجع الأمر كله، فهو هو لا غيره1.
"وجود الحق عين وجود الخلق عند الصوفية"
فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق
ـــــــ
1 يشبه الله سبحانه والعالم بالشيء وظله، غير أن هذا التشبيه -على ما فيه- لا يصحح للزنديق دينه، بل يدمغه بالتلبيس والتضليل. فما من شك في أن الشيء وظله يشيئان متمايزان، والزعم بأيهما حقيقة واحدة مكابرة وجحود بشهود الحس اليقيني. نعم يحتاج الظل في وجوده إلى من أو ما هو ظل له. بيد أن هذا الاحتياج شيء، والزعم بأنهما حقيقة واحدة شيء آخر مباين كل المباينة. وابن عربي يدين بأن العالم هو الله في الهوية والماهية، أما ظل الشيء فليس عين الشيء لا في ذاتي, ولا في عرضي، قد يقال: إن الظل أثر من آثار الشيء، غير أن الزنديق يؤمن بأن العالم ليس أثرا لله، بل هو هو في الحقيقة والوجود. فلا يثبت مثال ما ليس به بهذا المثال.
[حتى يظهر الظل فيكون كما بقي من الممكنات](190/76)
هو1 وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو2 أعيان الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول عنه [18] باختلاف الصور اسم العالم، أو اسم سوى الحق, فمن حيث أحدية كونه ظلا هو الحق؛ لأنه الواحد الأحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم, فتفطن، وتحقق ما أوضحته لك، فإذا كان الأمر على ما ذكرته لك، فالعالم متوهم3 ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال, أي: خيل إليك أنه أمر زائد قائم بنفسه، خارج عن الحق، وليس كذلك في نفس الأمر، ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه يستحيل [عليه] الانفكاك عن ذلك الاتصال، لأنه يستحيل على4 الشيء الانفكاك عن ذاته5".. وهذا وما شاكله من قوله -كما تقدم في الفص النوحي- مشيرا إلى تصحيح قول الكفار في القرآن: إنه سحر لا حقيقة له، إشارة تكاد أن تكون صريحة، وإلى مثل هذا المحال لوح ابن الفارض، والأمر فيه أوضح مما في الفصوص:
وها دحية وافى الأمين نبينا ... بصورته في بدء وحي النبوة
أجبريل قل لي كان دحية إذ بدا ... لمهدي الهدى في هيئة6 بشرية؟
وفي علمه عن حاضريه مزية ... بماهية المرئي من غير مرية
يرى ملكا يوحي إليه، وغيره ... يرى رجلا يرعى لديه بصحبة
ـــــــ
1، 2 في الأصل: فهو في الموضعين.
3 هذا يستلزم وجود وهم ومتوهم، فإن قال: إن المتوهم عين الوهم والمتوهم لزمه كون إلهه وهما ومتوهما، أي: باطلا ينتج باطلا. فكيف يسمونه: حقا؟ وإن قال: إنه غيرهما لزمه القول بالغيرية والتعدد، وهو يدين بأن لا غير، ولا سوى. وهكذا في كل دليل له حجة تدمغه بالإفك، وتدينه بالبهتان.
4 في الأصل: عن.
5 ص102 فصوص.
6 في الأصل: في صورة.(190/77)
ولي من أتم الرؤيتين إشارة ... تنزه عن دعوى الحلول1 عقيدتي
وفي الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر ... ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة
يعني قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] هذا ما كان ظهر لي، ثم تبين أن المراد أقبح من هذا بقول شراح التائية، الفرغاني وغيره2 وسيأتي نقله عنه آنفا.
رد علاء الدين البخاري:
قال الإمام علاء الدين البخاري: "ما ذكرتم في نفي ثبوت الأشياء معارض بالمثل؛ إذ لا خفاء أنه من أعيان الأكوان، غير أنه من الأعراض، فيكون ما ذكرتم أيضا خيالا وسرابا، لا حقيقة له، فلا يمكن به إثبات مذهبكم الباطل وإذا لم يبق في قوس المكابرة منزع، ولا لما لزمهم من شنيع المحالات والضلالات مدفع، التجئوا إلى دعوى الكشف على ما هو دأب قدماء الفلاسفة حين عجزوا عن إقامة البرهان، وأنت خبير بأن الكشف إنما يظهر الحقائق، لا أنه يهدم الشرائع، وينفي الحقاق3، فإن ذلك زندقة، وقد غلط هؤلاء كغلط.
ـــــــ
1 لم يرض بكفر الحلاج دينا، وهو الحلول؛ لأنه يستلزم الاثنينية والمغايرة بوجه ما بين الحال، وبين المحل. وابن الفارض يدين بالوحدة.
2 قال القاشاني في شرح ذلك البيت: "ظهور الحق في بعض صور المخلوقات هو تلبسه بها، كتلبس جبريل بصورة رجل".
3 لا يستطيع البخاري هدم باطل الصوفية ما دام مؤمنا معهم بأسطورة الكشف -ولكن لا تنس أنه هو الآخر صوفي- فالصوفية لم يهولوا بهذه الأسطورة إلا لينقضوا بتهاويل باطلها حقائق الدين والعقل، ولإثبات ما يدينون به من زندقة، بعد تشكيك الناس في كل حقيقة عقلية أو نقلية. على أن الصوفية الذين دانوا بالكشف لم يدينوا بدين واحد، ولم يروا في الإلهية والربوبية رأيا واحدا، ولم ينظروا إلى حقيقة الوجود نظرة واحدة. فالحلاج حلولي، والسهروردي إشراقي, وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين من زعماء وحدة الوجود على=(190/78)
النصارى لما رأوا إشراق نور الله تعالى، وقد تلألأ في عيسى عليه السلام1، فقالوا: هو الإله، وهؤلاء لما رأوا الوجود فائضا من الحضرة الإلهية على الموجودات فلم يفرقوا بين الفيض2 والمفيض، فقالوا: الوجود هو الله سبحانه وتعالى. ا هـ
رأي العضد والجرجاني:
وقال الشريف الجرجاني3 في شرح المواقف للعضد4: "واعلم أن المخالف في هذين الأصلين -يعني عدم الاتحاد وعدم الحلول- طوائف ثلاث، الأولى:
ـــــــ
= اختلاف في التصور والتصوير، والقنونوي والتلمساني والجيلي كل له مذهبه، وكل له وسيلته، وكل له تصويره، وكي يدعي أنه آمن بما آمن به عن كشف وشهود. فبأي كشف نأخذ، وبأي شهود نصدق؟ ليمكن أن نأخذ أو نصدق بالجميع لأنه نفاية تناقض وتباين، والحق واحد لا يتعدد، ولا يناقض نفسه، ولا يمكن أن نأخذ ببعض دون بعض، وإلا احتجنا إلى دليل نثبت به أن ما أخذنا به هو الحق وأن ما عداه باطل، فبماذا نستدل؟ أبكشف أم بغيره؟ إن كان الأول لزم التسلسل وإن كان الثاني ثبت أن الكشف محتاج إلى دليل آخر غير الكشف يثبت به، ثم إنا لو أخذنا ببعض دون بعض، كان هذا معناه أن بعض أنواع الكشف الصوفي باطل، في حين يدين الصوفية بأن كل كشف صوفي هو حق في ذاته، وبما ذكرت أو ببعضه يتجلى لك بطلان أسطورة الكشف، وتؤمن بأن ملاذ الحق ومشرقه وقدسه كتاب الله سبحانه. وسنة رسوله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1 في كلامه هذا رائحة الحلول المسيحي، أو الإشراق السهروردي. ولكن لعله يقصد بالنور الذي تلألأ هدي النبوة والإيمان.
2 يقصد ما أفاضه الله من الوجود، والواجب أن يعبر عن هذا: بالخلق والخالق، إذ الفيض أسطورة ابتدعتها الفلسفة والصوفية، ابتغاء نفي خلق الله سبحانه للعالم. ونفي القادر المريد، وابتغاء إثبات قدم العالم، وأن الأشياء ثابتة في العدم.
3 هو علي بن محمد بن علي. ولد سنة 740هـ وتوفي سنة 814.
4 هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار عضد الدين الإيجي ولد سنة 709 تقريبا، ومات سنة 753هـ.(190/79)
النصارى" ثم ذكر مذاهبهم، ثم قال: "الثانية: النصيرية1 والإسحاقية2 من غلاة الشيعة، قالوا: ظهور الروحاني بالجسماني لا ينكر، ففي طرف الشر، كالشياطين، فإنه [19] كثيرا ما يتصور الشيطان بصورة الإنسان، ليعلمه الشر ويكلمه بلسانه، وفي طرف الخير -كالملائكة- فإن جبريل عليه السلام كان يظهر بصورة دحية الكلبي [والأعرابي3]، فلا يمتنع [حينئذ4] أن يظهر الله تعالى في صورة بعض الكاملين [وأولى الخلق بذلك أشرفهم وأكملهم، وهو العترة الطاهرة، وهو من يظهر فيه العلم التام، والقدرة التامة من الأئمة من تلك العترة، ولم يتحاشوا عن إطلاق الآلهة على أئمتهم، وهذه ضلالة بينة5 الطائفة] الثالثة [بعض] المتصوفة، وكل منهم مختبط6 بين الحلول والاتحاد" ثم قال العضد7: "ورأيت من الصوفية الوجودية من ينكره، ويقول: لا حلول, ولا اتحاد، إذ ذاك يشعر بالغيرية، ونحن لا نقول بها، بل نقول: ليس في ذات الوجود غيره8، وهذا العذر أشد قبحا وبطلانا من ذلك الجرم؛ إذ يلزم ذلك المخالطة التي لا يجترئ على القول بها عاقل، ولا مميز أدنى تمييز9".
ـــــــ
1 محدثها محمد بن نصير النميري، وتزعم هذه الفرقة أن الله سبحانه ظهر بصورة علي وأولاده المخصوصين.
2 أحدثها إسحاق بن زيد بن الحراث. ومن القائلين بالإباحة وإسقاط التكاليف، وأن لعلي شركة مع الرسول، ثم تطورت فقالت بالحلول كالنصيرية.
3, 4, 5 كل ما بين هذين [ ] ساقط من الأصل، وأثبته عن المصدر الذي نقل عنه المؤلف، وهو شرح المواقف.
6 في شرح المواقف: وكلامهم مخبط.
7 ليس قول العضد وحده، وإنما مع شرح الجرجاني له.
8 في المواقف "ليس في دار الوجود غيره ديار" وهو أدق.
9 ص29 وما بعدها جـ8 شرح المواقف.(190/80)
رأي السعد التفتازاني:1
وهذا المعنى الأخير هو الذي أراده الشيخ سعد الدين التفتازاني، بالمذهب الثاني، من قوله في شرح المقاصد: "وههنا مذهبان آخران يوهمان الحلول والاتحاد وليسا منه في شيء.
الأول: أن السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله تعالى في الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تطمحل ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته ويغيب عن كل ما سواه، ولا يرى في الوجود إلا الله، وهو الذي يسمونه: الفناء في التوحيد، وإليه يشير الإلهي2: "إن العبد لا يزال يتقرب إليّ حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به3". وحينئذ ربما تصدر عنه عبارات تشعر بالحلول4، أو بالاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال، وبعد الكشف عنها بالمثال، ونحن على ساحل التمني نعترف5 من بحر التوحيد بقدر الإمكان، ونعترف بأن طريق الفناء فيه العيان6 دون البرهان، والله الموفق.
ـــــــ
1 مسعود بن عمر بن عبد الله ولد سنة 712، وتوفي سنة 792هـ.
2 يقصد: الحديث القدسي، وقد روي هذا مختصرا جدا.
3 سيرد الحديث بتمامه والتعليق عليه.
4 ما تقرب إنسان في الوجود إلى الله بمثل ما تقرب إليه به عبده ورسوله وخليله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم تصدر عنه مثل تلك العبارات الطافحة بإثم الإلحاد، والتي يأفك الصوفية أنها روحانية الأنس تفيض من حظائر القدس. بل كل ما صدر عنه توحيد لله سبحانه خالص في ربوبيته وإلهيته، وتسابيح عبودية تستشعر الخوف والرجاء، وتبتهل إلى الله أن يغمرها برضاه، وأن يغفر لها كل ما تشعرها به روحانية الإيمان أنه ذنب.
5 لعلها: نغترف.
6 يقصدون معاينة الذات تصدر عنها أفعالها. وتصرف في الكون أقدارها. وإبراهيم خليل الله أراه الله ملكوت السموات والأرض، وموسى، كله الله من وراء =(190/81)
الثاني: أن الواجب هو الوجود المطلق1، وهو واحد لا كثرة فيه أصلا وإنما الكثرة بالإضافات, والتعينات التي هي بمنزلة الخيال والسراب، إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على مظاهر، لا بطريق المخالطة، ويتكرر في النواظر، لا بطريق الانقسام، فلا حلول منا، ولا اتحاد؛ لعدم الاثنينية والغيرية، وكلامهم في
ـــــــ
= حجاب، ومحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرج به إلى السماء، وشهد النور الأعظم، فما تكلم رسول منهم بمثل هذا، ولا حدثنا عن الفناء أو العيان الصوفي، ولا قال واحد منهم أنه رأى الله، ولا سمعنا عن أحد منهم أنه عبد الله بغير ما أمر الله، أو غفل مرة عن أداء حق من حقوق الله، أو ادعى أن الله سبحانه أسقط عنه التكاليف، بل ما زادهم ذلك إلا إيمانا وخشية، وجدا في العمل، وكدحا في العبادة، وحبا لله وخوفا منه، ورجاء فيه سبحانه، ولم يعد المؤمنون تغرهم بالله تلك التهاويل السحرية الصوفية، ولا تلك الزمزمات المجوسية.
1 يرد الإمام بن تيمية على هؤلاء بقوله: "المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها فليس بشيء، فمن قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين فحقيقة قوله: إنه ليس للحق وجود أصلا، ولا ثبوت إلا نفي الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه، فليس شيئا أصلا. وتلخيص النكتة أنه لو عنى به المطلق بشرط الإطلاق، فلا وجود له في الخارج، فلا يكون للحق وجود أصلا، وإن عنى به المطلق بلا شرط. فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا، فلا يكون للحق وجود إلا وجود الأعيان، فيلزم محذوران. أحدهما: أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات. والثاني التناقض، وهو قوله: إنه الوجود المطلق دون المعين" باختصار عن مجموعة الرسائل والمسائل جـ4 ص21 وهذا حق، فإن الوجود الطلق تجريد صرف، أو سلب خالص، فليس ثم حقيقة تتميز، ولا ذات تتحقق، وكذلك العدم، أو اللاوجود، فكأنهم يجعلون الواجب عدما، أو يقولون هو وجود ولا وجود. أما المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا في هذا أو ذاك، إذ ليس في الخارج شيء إلا وهو معين يتميز عما سواه بحده وماهيته وهم ينكرون تعين الوجود، إذ يسمونه مطلقا.(190/82)
ذلك طويل خارج عن طريق العقل والشرع أشرنا في بحث الوجد إلى بطلانه، لكن من يضلل الله فما له من هاد" انتهى كلام الشيخ سعد الدين رحمه الله.
زعم أن الحق يتلبس بصور الخلق:
وقال سعيد الفرغاني -وهو من أكابر أتباعهم- في شرحه للتائية: "وتنزه1 تلك الإشارة عقيدتي عن رأي الحلول، فإنه لما جاز ووقع أن يكون لملك مخلوق قدرة التلبس بأي صورة شاء بلا معنى الحلول فيه، يصح أن يتلبس الحق تعالى بصورتي بفناء أنانيتي2 بالكلية، وإن تعللت بعدم جواز تلبسه3 بالصورة، وعللت بتنزيهه عن ذلك التلبس منعناك، ورددنا تعليلك بالكتاب والسنة".
ثم قال في شرح البيت4 الذي فيه استشهاده بالكتاب والسنة: "وفي الذكر5، آي القرآن [20] ذكر اللبس، أي: تلبس الحق بالصورة ليس بمردود بل هو ثابت مذكور معروف موضعه من القرآن، ولم أتجاوز في تقريري حكمي الكتاب والسنة. أما الكتاب، فقوله تعالى: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 8] يعني من أن يكون منحصرا ظهوره حالتئذ وقبله وبعده في ذلك التلبس، وفي غيره من الصور، وغير ما، وقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص: 30]
ـــــــ
1 يعني بيت ابن الفارض.
ولي من أتم الرؤيتين إشارة ... تنزه عن دعوى الحلول عقيدتي
2 أي: ذاته.
3 أي: الله سبحانه.
4 يقصد بيت ابن الفارض.
5 وفي الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر
ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة(190/83)
الآية، وإذا جاز تلبسه بصورة الجماد1، فبصورة الإنسان أجمع وأولى عند فنائه عن تعينه وتشخصه. وأما السنة، فقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكاية عنه تعالى: "كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله2" وقوله أيضا: فإن الله تعالى قال
ـــــــ
1 تأمل رعونة الزندقة في التعبير، حيث يصف الله سبحانه وتعالى بأنه تلبس بالشجرة، أو كان هو الشجرة وهو يكلم موسى، ويفجر في زعمه فيقرر أن القرآن يثبت هذا!
2 يعني ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "يقول الله تعالى: "من عادى لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته, ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يسعى.. الحديث" ويستدل الصوفية بهذا الحديث على أن الله سبحانه عين خلقه، وعلى أن العبد يحور ربا. وإليك رد الشيخ ابن تيمية عليهم: "والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة، منها قوله: من عادى لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة، فأثبت معاديا محاربا، ووليا غير المعادي، وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا ومنها قوله: وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، فأثبت عبدا متقربا إلى ربه، وربا افترض عليه فرائضه، ومنها قوله: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأثبت متقربا، ومتقربا إليه، ومحبا ومحبوبا غيره، وهذا كله ينقض قولهم: الوجود واحد. والحديث حق، فإن ولي الله لكمال طاعته لله ومحبته لله يبقى إدراكه لله، وباطنه وعمله لله وبالله، فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه، وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه، وما يراه مما يحبه الحق أحبه، وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه ويبقى في سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل، فولي الله فيه من الموافقة لله ما يتحد به المحبوب والمكروه، والمأمور والمنهي عنه ونحو ذلك، فيبقى محبوب الحق محبوبه، ومكروه الحق مكروهه، ومأمور الحق مأموره، وولي الحق وليه، وعدو الحق عدوه" ص48 رسالة الرد الأقوم ط السنة المحمدية.
هذا والحديث رواية البخاري عن خالد بن مخلد القطواني الكوفي أبي الهيثم. وقد تكلم فيه. قال العجلي عنه: ثقة فيه تشيع, وقال ابن سعد: منكر الحديث متشيع مفرط، وقال أحمد بن حنبل: له مناكير، وقال أبو داود: صدوق إلا أنه يتشيع وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقد عد هذا الحديث من مناكير خالد يقول الذهبي: "هذا حديث غريب جدا، ولولا هيبة الجامع الصحيح لعددته في منكرات خالد، وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك، وليس بالحافظ" والحدث -على افتراض صحته- حجة على الصوفية كما رأيت.(190/84)
على لسان عبده: سمع الله لمن حمده. ثم حديث القيامة في الإتيان في الصورة1
ـــــــ
1 يعني ما ورد في الحديث من أن الله سبحانه يتجلى لعباده يوم القيامة، ثم يأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة, فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا" والحديث في الصحيحين والترمذي، وتوحيد ابن خزينة، وسنن الدارمي وغيرها.
والحديث حجة تدمغ الصوفية بالبهتان. أولا: يثبت الحديث أن هذا التجلي لن يكون إلا في الآخرة، أما الصوفية فيدينون بتلبسه بالصور في الدنيا. ثانيا: يدين الصوفية بأن الرب يتجلى لكل أحد بحسب اعتقاده، فالقاصر المقيد لا يعرفه إلا إذا تجلى له في صورة معتقده، فإذا اعتقد أن الرب صنم، أو كوكب، أو عجل, تجلى له في صورة ما اعتقده، أما إذا تجلى له في صورة أخرى أنكره، أما العارف المطلق، فإنه يعرف الله -في زعم الصوفية- في كل صورة يظهر بها؛ لأنه يعتقد أن الرب عين كل شيء. هذا في حين يثبت الحديث أن المؤمنين أنكروه في صورته الأولى، وعرفوه في صورته الثانية، ومن أنكروه، ثم عرفوه هم الرسل والأنبياء والأولياء، وهؤلاء -باعتراف الصوفية-أكمل العارفين، وهم لم يعرفوه إلا في صورة واحدة، وهذا ينقض أصل دعواهم، وهو أن العارف المكمل هو من يعرف الله في كل صورة، ثالثا: يثبت الحديث وجود قوم يعرفون بعد إنكار، ووجود رب تجلى ثم تجلى. وهذا يستلزم وجود أغيار كثيرين هم غير الرب. في حين يدين الصوفية بأنه ما ثم غير ما. رابعا: يزعم الصوفية أنه سبحانه عين كل شيء, والحديث يثبت وجود قوم مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، فإذا أخذنا بزعم الصوفية كان ربهم هو الكافر والمنافق، والمنكر والمنكر، وثبت لربهم الجهل، وحسب الصوفية شرا أن يكون عبيد رب هذا شأنه، خامسا: يثبت الحديث أنه =(190/85)
ثم قال: فالحديث أولا وآخرا معلم أنه يتلبس بأي لباس صورة شاء مما يعرف، ومما ينكر من غير حلول، فكان ظهوره بصورتي أيضا جائزا من غير حلول، فصح بهذا دعوى اتحادي مع الحلول".
أمر ابن الفارض باتباع شريعته
ثم قال في شرح قوله:
منحتك علما إن ترد كشفه، فرد ... سبيلي، واشرع في اتباع شريعتي
قال: "يحتمل أن يكون إضافة الشريعة من الناظم إلى نفسه بلسان الجمع والترجمانية، ويريد بقوله: فرد سبيلي ما أريد به في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] وبقوله: شريعتي، شريعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ثم قال:
فمنبع صدا1 من شراب نقيعه ... لدي، فدعني من سراب بقيعة
ـــــــ
= سبحانه لن يتجلى إلا في صورة واحدة في كل مرة، أما هم فيدينون بتجلي ربهم فيما لا يتناهى من الصور المتباينة في آن واحد. سادسا: لم يبين الحديث كنه الصورة الأولى، أما صورته الثانية فعرفها بأنها هي التي رأوه فيها أول مرة. أما هم فقالوا بتجليه في صورة يغوث ويعوق. وفي صورة عجل السامري، وفي صورة نار المجوس، بل في صورة كل مخلوق. سابعا: يثبت الحديث ربا، ويثبت عبادا يبتليهم ربهم بتجليه، ويثبت أنهم غير الرب، وهم يقولون: العبد عين الرب. ويثبت الحديث مكانا. فما هذا المكان؟ أهو الرب أم غيره، إن قالوا بالأول، فما في الحديث هذا. وكفاهم خزيا أن يكون ربهم مواطي أقدام. وإن قالوا بالثاني ثبت وجود غير، وهم ينفون الغيرية. ثم ما للصوفية يستشهدون بما لا يؤمنون به؟ إنهم يزعمون أخذهم عن الله مباشرة، ويستنكفون العمل بشريعة الله التي جاء بها رسله! وفي الحديث براهين أخرى، وحسبنا هذا.
1 في الأصل: صدى. وصوابها: صداء قال ضرار:
كأني من وجدي بزينب هاشم ... يخالس من أحواض صداء مشربا
وصداء بئر ماؤها أعذب مياه العرب، ومن الأمثال: ماء ولا كصداء يضرب لما يحمد بعض الحمد، ويفضل عليه غيره. انظر مجمع الأمثال، والمضاف والمنسوب.(190/86)
صدا ماء للعرب يضرب المثل به لعذوبته، والنقيع: البئر الكثيرة الماء، يقول معللا البيت السابق الذي حاصله: أمره باتباع شريعته، والورود في سبيل هداه وطريقته، ونهى عن متابعة غيره ممن يدعي التحقيق في العلم والمعرفة الحقيقية نحو علماء الظاهر من الأصوليين والفلاسفة: أن المورد العذب الهنيء النافع عندي، ويختص بمشربي، وهو المفهوم المطابق من الكتاب والسنة، وإشاراتهما الغامضة بلا تأويل عقلي وتقليد، بل على ما هو الأمر عليه، فإن استطعت أن تخوض فيه، وتشرب منه، وإلا فدعني من سراب علوم علماء الظاهر1، وتأويلاتهم ومفهوماتهم التي ظاهرها لأجل الفصاحة، وتركيب الدلائل، تظهر وتغر السامع الغر2، فيحسبها شيئا نافعا له، فإذا فتش عن حقيقتها لم يجد شيئا، ولا تحقيق، ولا معرفة فيها، ولا طائل تحتها، وكذلك دلائل الفلسفة في المسائل الإلهية، تغر، ولا تقر. ولا تذكر عندي مذاهبهم ومقالاتهم ودلائلهم، ولا تلتفت إلى ذلك تفز فوزا عظيما.
هذا كلام الفرغاني الذي يثني ابن بنت ابن الفارض في مقدمة [21] الديوان عليه، وشهد له أنه على نفس جده3، وهكذا يفعل في كل الأبيات مهما وجد شيئا من المتشابه في الكتاب أو السنة أجراه على ظاهره4، وجعله حجتهم في
ـــــــ
1 يعني الآخذين بأحكام الشريعة، والمتفقهين فيها.
2 الجاهل بالأمور الغافل عنها.
3 لعله سقط من الكلام, كلمة: مذهب أو طريقة قبل كلمة جده. 4 لو أجرى الكلام على ظاهره لنعم فكرا بالحقيقة، وقلبا باليقين، ونفسا بالهدى، ولكنه أجراه على هوى شيطانه. وألمح من قول البقاعي أنه يعني بالمتشابه آيات الصفات وأحاديثها، فإن يك فقد زل به فهمه، وقلد في هذا الزلل غيره، فآيات الصفات محكمات هن من أم الكتاب يجب إجراؤها على ظاهرها، أي: على =(190/87)
الاتحاد، واستحسان الأفعال القبيحة من المكلفين، فإن عجز -بكون الشرع نص على قباحتها- يقول: إن فيها حسنا وقبحا من بعض الوجوه, ولعل ذلك الوجه يقود أصحاب تلك المقالة إلى الخير، ويسعى كل السعي في إسقاط الإنكار على أحد في فعل من الأفعال. وكذا نقل البدر بن الأهدل عن شرحها للأبزاري وغيره، والله المستعان.
تكذيب صريح للقرآن
وقال في فص حكمة أحدية في كلمة هودية: {ومَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]: فكل ماش [فعلى] صراط الرب المستقيم, فهم غير مغضوب عليهم من هذا الوجه، ولا ضالون، فكما كان الضلال عارضا، فكذلك الغضب الإلهي عارض، والمآل إلى الرحمة التي وسعت كل شيء1.
ـــــــ
= ما لها من معان في العربية دون تمثيل أو تشبيه أو تلويث للفهم بما يشهد الحس لها من كيفيات بالنسبة إلى الخلق. هذا وإلا جعلنا للعقل -وهو من خلق الله- سلطانا على الخلاق العظيم يقوم صفاته بما شاء، وكيف شاء، ويرضى له بعضا, وينكر بعضا، ويبتدع له بالهوى العصوف صفات وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان وجل جلال الله سبحانه.
1 ص106 فصوص، وابن عربي يكذب بهذا البهتان قوله سبحانه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وغيرها من الآيات. فالقرآن يقرر أن الناس بالنسبة إلى الحق ثلاثة أقسام: قوم عرفوا الحق وآمنوا به، وهم الذين وصفهم الله بأنههم على صراط مستقيم، وقوم عرفوا الحق، وأعرضوا عنه كفرا وجحودا، وهم المغضوب عليهم، وقوم لم يحاولوا معرفة الحق فلم يهتدوا، وهم الضالون. وقد خص الله الفريق الأول برضاه ورحمته, والآخرين بغضبه ولعنته. ولكن ابن عربي يجعل الجميع سواء، هادفا من وراء ذلك إلى تقرير أسطورة وحدة الأديان التي تزعم أن الأديان سماويها ووضعيها واحد، وأن الحق والهدى فيها جميعا، لا يختص بها دين عن دين، فالشرك عين التوحيد، والمجوسية عين الإسلام، فعابد العجل عندهم كعابد الله. يقول لك الصوفية: كن مشركا كن مجوسيا كن بوذيا كن يهوديا. فأنت على صراط مستقيم(190/88)
إفك على الله:
ثم قال: "اعلم أن العلوم1 الإلهية الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة منها مع كونها ترجع إلى عين واحدة؛ فإن الله تعالى يقول: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها" فذكر أن هويته2 [هي] عين الجوارح التي هي عين العبد، فالهوية واحدة، والجوارح مختلفة، ولكل جارحة علم من علوم الأذواق يخصها من عين واحدة، تختلف باختلاف الجوارح كالماء. حقيقة3 واحدة مختلف4 في الطعم باختلاف البقاع5"
قلت: وعلى هذا الضلال عول ابن الفارض، فقال:
وجاء حديث في اتحادي6 ثابت ... روايته في النقل غير ضعيفة
مشيرا بحب الحق بعد تقرب ... إليه بنقل أو أداء فريضة
وموضع تنبيه الإشارة ظاهر ... بكنت له سمعا كنور الظهيرة
فكلي لكلي طالب متوجه ... وبعضي لبعضي جاذب بالأعنة
ومني بدا لي ما علي لبسته ... وعني البوادي بي إلي أعيدت
ـــــــ
1 في الأصل: الأمور.
2 أي: حقيقته، وهدفه من هذا: إثبات أن الإحساسات، أو المشاعر، أو الأهام، أو الخيالات التي يشعر بها كل إنسان هي في الحقيقة من مكونات علم الله سبحانه، فعلم الله عند الصوفيه متوقف على علم عبيده، وتعالى الله عما يأفك الزنادقة.
3 في الأصول: حقيقته.
4 في الأصل. تختلف.
5 ص107 فصوص.
6 في الأصل: باتحادي.(190/89)
وفيّ شهدت الساجدين لمظهري ... فحققت أني كنت آدم سجدتي1
تعانقت الأطراف2 عندي وانطوى ... بساط السِّوى عدلا بحكم السوية
ـــــــ
1 قال القاشاني في شرح هذا البيت "أي: عاينت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري، فعلمت حقيقة أني كنت في سجدتي آدم تلك السجدة, وأن الملائكة يسجدون لي، والملائكة صفة من صفاتي، فالساجد صفة مني يسجد لذاتي. فالجمع واقع لا يدفع".
وأقول في قصة آدم، وأمر الملائكة بالسجود له، وطاعتهم لهذا الأمر، وتمرد إبليس عليه: في كل هذا ما ينقض دعاوى الصوفية في الحلول والوحدة والاتحاد؛ لأنها -أي: القصة- تثبت ربا آمرا بالسجود. وتثبت أغيارا كثيرين هم: آدم، والملائكة، وإبليس. لهذا يحاول ابن الفارض تصوير القصة. بما يتواءم وهوى زندقته، أي: بما يرفع في زعمه هذا التعدد في الوجود والذوات, ويرفع المغايرة بين الماهيات. فيقول: لا تحسبن الآمر بالسجود غير من أمروا به، أو غير من وقع الملائكة له ساجدين، أو غير من تمرد على هذا السجود، فإنهم جميعا عين واحدة هي الذات الإلهية. فالآمر هو الله باعتبار الهوية المجردة عن التعين. وآدم هو مظهر تعين الذات، أو الهوية، والملائكة هم تعينات الصفات، وكذلك إبليس، فلا تعدد في الوجود، ولا غيرية في الماهيات. فآدم هو الذات، والملائكة وإبليس هم الصفات، وما كان السجود الذي وقع سجود ذات لغيرها، بل كان من صفات لموصوفها...
ثم ينتقل ابن الفارض من هذا التصوير الصوفي إلى تقرير أنه كان عين آدم، وكان عين الملائكة، أي: عين الذات الإلهية. وعين صفاتها. هذا هو دين سلطان العاشقين، أو قل: هذه زندقة رب الصوفيين!!
2 يزعم أنه ليس في الوجود متناقضات ولا أضداد، ولا أغيار، بل ولا أمثال، إذ الوجود كله حقيقة واحدة. والحقيقة الواحدة لا يقال عنها: إنها تناقض أو تضاد، أو تغاير، أو تماثل نفسها، ولهذا يؤمن الزنديق أن القدم عين الحدوث والأول والفوق عين التحت، والنور عين الظلمة، والأول عين الآخر، والأزل عين الأبد، والآن عين الماضي وعين المستقبل، وهذه هي الأطراف الوجودية والمكانية والزمانية التي يزعم ابن الفارض أنها تعانقت عنده، والتي يقول بعدها أنه حين رأى النقيض عين نقيضه، والضد والغير نفس ضده وغيره، انجلت عن بصيرته أوهام السوية، والغيرية، فبدت له الحقيقة التي غلفتها بالستر أوهامه. تلك هي أن الوجود حقيقة واحدة، وأن الخالق عين الخلق، وأنه هو الله!! هذا هو دين إله الصوفية العاشق.(190/90)
وليس ألست1 الأمس غيرا لمن غدا ... وجنحي غدا صبحي ويومي2 ليلتي
وسر بلى لله مرآة كشفها ... وإثبات معنى الجمع نفي المعية 3
ظهور صفاتي عن أسامي جوارحي ... مجازا بها للحكم نفسي تسمت
رقوم علوم في ستور هياكل ... على ما وراء الحس في النفس ورت
ـــــــ
1 يعني قوله سبحانه {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} مشيرا إلى ما فسرت به الإسرائيليات هذه الآية وهو سبحانه أخذ العهد على ذرية آدم جميعهم وهم في ظهره مودعا في إشارته تلك كفره الصوفي. ويريد بالغد في هذا البيت: يوم القيامة في عرف الشرع. وبيته هذا توكيد لكفره في البيت السابق. إذ يقرر هنا. أن الحضرة الأزلية، أو الذات الأحدية -رغم تكثر مظاهرها، وتعدد مجاليها- تنزهت عن عوارض الزمان، واختلاف الجهات، ورتب الآنات، فوقتها أحد، سرمدي أبدي. يندرج فيه الأزل والأبد، والمبدأ والأمد، والأمس والغد، ولذا فما ثم صباح ولا مساء، ولا نهار ولا ليل، ويقرر ابن الفارض أن هذا كله له, ليستدل به على أنه هو الذات الأحدية عينها, فهو فيما يسميه الصوفية بالآن الدائم، وهو عندهم امتداد الحضرة الإلهية الذي يندرج فيه الأزل في الأبد، وكلاهما في الوقت الحاضر لظهورها في الأزل على أحايين الأبد، وكون كل حين منها مجمع الأزل والأبد، فيتحد به الأزل والأبد والوقت الحاضر.
2 في الأصل: على, والتصويب من الديوان.
3 يشير ببلى في قوله: وسر بلى إلخ إلى قوله سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} والجواب ببلى يستلزم وجود سائل ومجيب، أعني يستلزم الاثنينية، بيد أن ابن الفارض يدعي هنا أن السائل عين المجيب، وهذا في قوله: وإثبات معنى الجمع نفي المعية.(190/91)
وأسماء ذاتي عن صفات جوانحي ... جوازا الأسرار بها الروح سرت
مظاهر لي بدوت فيها, ولم أكن ... عليّ بخاف قبل موطن برزني [22]
ولما شعبت الصدع، والتامت فطو ... ر شمل بفرق الوصف غير مشتت1
تحققت أنا في الحقيقة واحد ... وأثبت صحو الجمع محو التشتت2
وإني، وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
تمجيد الصوفية للمجرمين:
ثم قال في الفص الهودي أيضا: {فَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه بريح الدبور التي أهلكهم عن نفوسهم [بها] فهو يأخذ بنواصيهم، والريح تسوقهم -وهي عين الأهواء التي كانوا عليها- إلى جهنم،
ـــــــ
1, 2 يقول: لما جمعت ما تفرق في الوجود، من صفات وأسماء وأفعال، تيقنت أن كل شيء، هو عين الذات الإلهية، وأن وجود عين وجوده، ثم ينتقل إلى نفسه، فيقرر أنه آمن عن بينة، ويقظة بصيرة: أنه هو الله ذاتا وصفة واسما وفعلا، ومشاعر وجوارح.
وهكذا يؤكد ما قررته من قبل، وهو أن ابن الفارض ممن يدينون بالوحدة، لا بالاتحاد، ألا تراه يكرر دائما أنه آمن عن يقين أنه ما كان في حال ما، ولا زمان ما غير ولا سوى وإنما كان ثم حقيقة واحدة هي الذات الإلهية تجلت في صور خلقية، أما الاتحاد، فيستلزم أنه كان قبل وجودان، ثم اتحد أحدهما بالآخر، وهذا ما ينكره ابن الفارض وينفيه نفيا باتا. قد يقال: وما لابن الفارض إذن يعبر عن معتقده: بالاتحاد؟ أقول: مما يفصل به ابن الفارض في التائية الكبرى تجزم بأنه يستعمل الاتحاد بمعنى الوحدة، والعبرة بمعانيه، لا بألفاظه، أو لعل لحظات العجب النفسي، كانت تجمح بخياله الزنديقي إلى محاولة إثبات أنه هو وحده الذي تعينت فيه الذات الإلهية، ثم يفيق من هذا العجب، فيقررها شاملة عامة، هي أن مظاهر الوجود مقومات للذات الإلهية.(190/92)
وهي البعد1 الذي كانوا يتوهمونه، فلما ساقهم إلى ذلك الموطن حصلوا في عين القرب، فزال البعد، فزال مسمى جهنم في حقهم، ففازوا بنعيم القرب من جهة الاستحقاق؛ لأنهم مجرمون، فما أعطاهم هذا المقام الذوقي اللذيذ من جهة المنة، وإنما أخذوه بما استحقته حقائقهم من أعمالهم التي كانوا عليها، وكانوا في السعي في أعمالهم على صراط الرب المستقيم2، لأن نواصيهم كانت بيد من له هذه الصفة، فما مشوا بنفوسهم، وإنما مشوا بحكم الجبر إلى أن وصلوا إلى عين القرب3 {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ4} . [الواقعة: 85]
زعمهم أن هوية الحق عين أعضاء العبد وقواه
ثم قال: "فلا قرب أقرب من أن تكون هويته عين أعضاء العبد وقواه5، وليس العبد سوى هذه الأعضاء والقوى، فهو حق مشهود في خلق
ـــــــ
1 فسر الريح بهوى النفس، وجهنم بالبعد، وهكذا يصنع في كل ما يفسر به آي القرآن، يفسرها بما لا يقره شرع ولا لغة ولا عقل.
2 أرأيت كيف يصف المجرمين المشركين، بأنهم سالكون سبيل الهداية الحق، وصراط الله المستقيم، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بأن الله عين ما عبدوه من كوكب أو صنم!؟. تستطيع من خلال هذا تبين نار الحقد التي تلتهم قلوب الصوفية على الإسلام وكتابه ورسوله.
3 القرب عندهم هو الفناء عن وصف العبودية، والتحقق بمقام الربوبية، وترى الزنديق يزعم أن المجرمين من قوم هود كانوا من أعلم الناس بحقيقة الربوبية إذ تجلت لهم غيوب هوياتهم، فأدركوا وآمنوا أنها عين هوية الله. وأن وصف العبودية لهم مجازي فحسب وهكذا يدين الصوفية برب تجسد حيوانا ضاريا يفسق ويجترح الإثم والفاحشة، ويلعق دم الجريمة.
4 ص108 فصوص.
5 زاد الآثم فجورا في الزندقة، فافترى على الله أنه ليس عين الخلق جميعا فحسب، بل هو عين كل عضو فيهم وجارحة، وأن قوى الله سبحانه عين قوى الخلق المادية والروحية، حتى ما يعتمل في الدم، ويعتلج في الخواطر من شهوات =(190/93)
متوهم، فالخلق معقول، والحق محسوس مشهود عند المؤمنين، وأهل الكشف والوجود1 وما عدا هذين الصنفين، فالحق عندهم معقول، والخلق مشهود، فهم بمنزلة الملح الأجاج، والطائفة الأولى بمنزل الماء العذب الفرات السائغ لشاربه، فالناس على قسمين: من الناس من يمشي على طريق يعرفها، ويعرف غايتها، فهي في حقه على صراط مستقيم، ومن الناس من يمشي على طريق يجهلها، ولا يعرف غايتها، وهي عين الطريق التي عرفها الصنف الآخر، فالعارف يدعو إلى الله على بصيرة، وغير العارف يدعو إلى الله على التقليد والجهالة2".
تفسيرهم لما عذب الله به قوم هود
ثم قال: "ألا ترى عادا قوم هود كيف قالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فظنوا خيرا بالله تعالى -وهو عند ظن عبده به- فأضرب لهم الحق عن هذا القول، فأخبرهم بما هو أتم وأعلى في القرب، فإنه إذا أمطرهم، فذلك حظ
ـــــــ
= الغر ائز، وصور الأوهام، ولذا يصف العبد بأنه حق مشهود وأن وصفه بالخلقية وهم يغلف الحقيقة الكبرى بحجابه، تلك الحقيقة هي أن العبيد جميعا أرباب وآلهة أو هم الرب تعينت أسماؤه آلهة تنجلي في صور الخلق، هؤلاء القتلة السفاحون السفاكون مغتصبو الأعراض، الوالغون في الدم، هؤلا المرتشون المفسدون في الأرض، هؤلاء الذين يروعون أمن الحياة، وسلام الوجود، هؤلاء الظلمة الفاتكون بالأيامى واليتامى والأرامل. كل هؤلاء عند الصوفية أرباب خلقوا السموات والأرض، ولهم ملكوت السموات والأرض.
1 غالى الزنديق فزعم أن الخلق ما هو إلا صورة ذهنية وهمية لا تحقق لها في الخارج. أما الحق -أي: الله سبحانه- فهو محسوس مشهود، إذ لا ينفك عن التعين في مادة. ويبهت الزنديق بالجهل من يؤمن بأن الله تعالى يتجرد عن المادة، أو أنه شيء آخر غير المادة.
2 ص108 فصوص. وغير العارف هذا هو إله الصوفية متعينا في صورة بدنية عنصرية، فإلههم إذا مقلد جاهل يدعو إلى نفسه عن تقليد وجهالة.(190/94)
الأرض, وسقى الحب، فما يصلون إلى نتيجة ذلك المطر1 إلا عن بعد2، فقال لهم {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]. فجعل الريح إشارة إلى ما فيها من الراحة، فإن بهذه الريح أراحهم من هذه الهياكل المظلمة، والمسالك الوعرة، والسدف المدلهمة، وفي هذه الريح عذاب، أي: أمر يستعذبونه3، إذا ذاقوه، إلا أنه يوجعهم لغرقه المألوف4". انتهى ما قاله مكذبا لصريح الذكر الحكيم في قوم قال فيهم أصدق القائلين, سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون [23] علوا كبيرا {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [نوح: 7] {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الجن: 7]، {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ, وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 59, 60].
ابن عربي يزعم أنه اجتمع بالأنبياء
ثم ادعى في هذا الفص أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في مشهد واحد سنة ست وثمانين وخمسمائة، وأنه ما كلمه منهم إلا هود، وقال: "رأيته5 لطيف
ـــــــ
1 في الأصل: الظن.
2 في الأصل: "فقد أي: بعد".
3 فسر الريح التي أهلك الله بها عادا بالرحمة والراحة، وفسر العذاب الذي حاق بهم بأنه أمر تستعذبه النفس. فتأمل.
4 ص109 فصوص.
5 ذكر المؤلف قبل قول ابن عربي ملخصا، وإليك نصه: "واعلم أنه لما أطلعني الحق، وأشهدني أعيان رسله عليهم السلام، وأنبيائه كلهم البشريين من آدم إلى محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجمعين في مشهد أقمت فيه بقرطبة سنة ستة وثمانين وخمسمائة ما كلمني أحد من تلك الطائفة إلى هود عليه السلام، فإنه أخبرني بسبب جمعيتهم، ورأيته رجلا ضخما في الرجال حسن الصورة... إلخ" انظر الفص الهودي من فصوص الحكم.(190/95)
المحاورة عارفا بالأمور كاشفا لها، ودليلي على كشفه لها قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وأي بشارة للخلق أعظم من هذه؟ ثم من امتنان الله علينا أن أوصل إلينا هذه المقالة عنه في القرآن.
ظن الصوفية بالله سبحانه:
ثم تممها الجامع للكل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بما أخبر به عن الحق أن عين السمع والبصر واليد والرجل واللسان، أي: هو عين الحواس والقوى الروحانية أقرب من الحواس، فاكتفى بالأبعد المحدود عن الأقرب المجهول الحد1، فترجم الحق لنا عن نبيه هود مقالته لقومه بشرى لنا، وترجم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [عن الله] مقالته بشرى، فكمل العمل في صدور الذين أوتوا العلم {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47] فإنهم يسترونها -وإن عرفوها- حسدا منهم ونفاسة وظلما، وما رأينا قط من عند الله في حقه تعالى في آية أنزلها، أو إخبار عنه أوصله إلينا فيما يرجع إليه إلا بالتحديد، تنزيها كان أو غير تنزيه، أولها العماء الذي ما فوقه هواء، وما تحته هواء، فكان الحق فيه قبل أن يخلق الخلق، ثم ذكر أنه استوى على العرش، فهذا أيضا تحديد، ثم ذكر أنه ينزل إلى السماء الدنيا، فهذا تحديد، ثم ذكر أنه في السماء، وأنه في الأرض2 وأنه
ـــــــ
1 يقول الزنديق: إذا كان الله سبحانه عين حواس العبد وجوارحه, فأولى أن يكون عين قواه الروحية... ويريد بالأبعد المحدود: الحواس وبالأقرب المجهول: القوى الروحية، الألسنة الآثمة الوالغة في الأعراض، والأيدي الملوثة بالجريمة السابقة، والأقدام التي تدب تحت الليل لتنتهك كل حرمة، وتستلب كل كنين. والشفاه الملوثة بأصباغ الشهوات. إنها ألسنة وأقدام وأيدي وشفاه الإله الذي يعبده الصوفية.
2 يومئ إلى قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] ويزعم أنها ذات دلالة على أن الله في السماء، وفي الأرض، بل عين السماء وعين الأرض، في حين أن دلالة جلية بينة على أنه سبحانه وحده إله من =(190/96)
معناه1 أينما كنا؛ إلى أن أخبرنا أنه عيننا، ونحن محدودون, فما وصف نفسه إلا
ـــــــ
= في السماء من في الأرض، وأنه المعبود من أهلها، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} فالآيات مسوقة لبيان أن الله سبحانه له وحده الربوبية والإلهية، وأنه بيده ملكوت السماء والأرض. إذ جاء قبل تلك الآية {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} وجاء بعدها {تَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ورغم الإشراق العلوي من البيان وجلائه ووضحه يأبى ابن عربي إلا أن يفسر الآية بهذا البهتان الخبيث.
1 يفسر ابن عربي المعية هنا بأنها معية الذات، وليت هذا فحسب، بل يريد من وراء هذا الفهم إثبات أننا عين الله ذاتا ووجودا وصفة، وإليك ما جلى به الشيخ ابن تيمية مسألة المعية: كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع شهيد عليكم، مهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: معهم بعلمه. ولفظ المعية استعمل في الكتاب والسنة في مواضع تقتضي في كل موضع أمورا لا تقتضيها في الموضع الآخر, فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع, أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وإن امتاز كل موضوع بخاصيته، وعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب مختلطة بالخلق" انتهى باختصار عن مجموعة الرسائل الكبرى جـ1 ص451 وما بعدها.
وأقول: لا يخلو تصوير الزنديق للمعية من أحد أمرين، فإما أن تكون الذات مختلطة بكل ذوات الخلق، وإما أن تكون مختلطة ببعض دون بعض، فإن قال بالأول لزمه القول بانقسام الذات، وانفصال بعض أجزائها عن بعض. بل لزمه القول بتعدد الماهيات، وبالغيرية والتكثر الحقيقيين، وبأن كل شيء ليس عين الذت، بل بعضها، أو جزءها. وهذا غير ما يدين به الزنديق، فهو يفتري أن هوية الحق وماهيته عين هوية كل موجود وماهيته، وإن قال بالثاني لزمه ذلك أيضا في البعض الذي يقول باختلاط الذات به، ولزمه في البعض الآخر القول بأن من الخلق من ليس عين الذات، بل غيرها. وهذا نقيض ما يدعيه؛ ولكن ماذا نقول في مخبول يزعم أن العدم عين الوجود، وأن الشيء نفسه نقيضه؟.(190/97)
بالحد. وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] حد أيضا، إن أخذنا الكاف زائدة لغير الصفة، ومن تميز عن المحدود فهو محدود بكونه ليس عين هذا المحدود، فالإطلاق عن التقييد تقييد، والمطلق مقيد بالإطلاق لمن فهم، وإن جعلنا الكاف للصفة فقد حددناه، وإن أخذنا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1 على نفي المثل تحققنا2 بالمفهوم وبالإخبار الصحيح أنه عين الأشياء والأشياء محدودة، وإن اختلفت حدودها فهو محدود بحد كل محدود، فما يحد شيء إلا وهو حد الحق، فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود, فهو عين الوجود، فهو على كل [شيء] حفيظ, ولا يئوده حفظ شيء، فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه3 لصورته، أن يكون الشيء غير صورته [24] ولا يصح إلا هذا فهو الشاهد من الشاهد, والمشهود من المشهود، فالعالم صورته, وهو روح العالم المدبر له، فهو الإنسان الكبير4" هذا لفظه هنا، وتقدم في الفص الآدمي: أن العالم يعبر عنه في اصطلاحهم بالإنسان الكبير،فراجعه تعرف صراحة كفر الخبيث؟
الكون هو رب الصوفية:
ثم قاثم قال: "فقل في الكون ما شئت. إن شئت قلت: هو الخلق، وإن شئت [قلت] هو الحق، وإن شئت قلت: هو الحق الخلق، وإن شئت قلت:
ـــــــ
1 سبق الرد على ما يلبس به الزنديق ويفتريه هنا.
2 في الأصل: تحققا.
3 في الأصل: حفظ.
4 ص111 فصوص الحكم.(190/98)
لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه1, وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك، فقد بانت المطالب بتعيينك المراتب، ولولا التحديد ما أخبرت الرسل بتحول الحق في الصور، ولا وصفته بخلع الصور عن نفسه:
فلا تنظر العين إلا إليه ... ولا يقع الحكم إلا عليه2
ثم قال: "وبالجملة، فلا بد لكل شخص من عقيدة في ربه يرجع بها إليه, ويطلبه فيها [فإذا تجلى له الحق فيها عرفه، وأقر به، وإن تجلى له في غيرها أنكره وتعوذ منه، وأساء الأدب عليه في نفس الأمر، وهو عند نفسه أنه قد تأدب معه] فلا يعتقد معتقد إلها إلا بما جعل في نفسه، فالإله في الاعتقادات بالجعل فما رأوا إلا نفوسهم، وما جعلوا فيها.
لم يقول الصوفية بوحدة الأديان:
فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص, وتكفر بما سواه، فيفوتك خير كثير، بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولي3 لصور المعتقدات
ـــــــ
1 لا حق من كل وجه باعتبار تعينه في صور بدنية عنصرية، أو باعتبار ظاهره. ولا خلق من كل وجه باعتبار هويته، أو باعتبار باطنه. هذا هو مراد الزنديق.
2 يقول: كل ما تقع العين عليه في الحياة، فهو الله، سل الصوفي في المواخير من ترى ثم؟ وسل الصوفي يرعى الخنازير ماذا تسوق؟ وسل الصوفي يرى الجيف المنتنة والرمم البالية ماذا ترى؟ إنك ستسمعه مجيبا -وهو يحدجك بالنظرة الساخرة- إنه الله، هذا معنى الشطر الأول من البيت، أما الشطر الثاني فيزعم فيه الزنديق: أن كل ما نحكم به على الأشياء فهو في الحقيقة محكوم به على الله سبحانه، إذ هو في إفك الزنادقة عين كل شيء فإذا حكمت على شيء بأنه جماد، أو عجل، وصنم، ورجس، أو جيفة؛ كانت تلك الأحكام كلها واقعة على رب الصوفية كما يدينون؛ لأنها ليست شيئا آخر غير هذا الرب الصوفي.
3 يريد بها هنا ما يقبل التأثير، يقول الزنديق: اجعل نفسك بحيث تتقبل كل معتقد، وترضى به، وتعتقد أنه حق، واحذر أن تنكر على المشرك شركه، أو على المجوسي مجوسيته. واحذر أن تقيد نفسك بدين خاص، وتحارب سواه، فالآلهة المعبودة في كل دين هي في حقيقتها الإله الواحد، وإن تك كواكب أو أحجارا، أو موتى.. وكل عابد لأي منها عابد لله، فما ذلك المعبود إلا عين ذات الله!! وتعالى الله عن إفك الزنادقة.(190/99)
كلها، فإن الله تعالى أوسع وأعظم [من] أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1[البقرة: 115]".
ثم قال: "فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية2 كله وجهة3، وما ثم إلا الاعتقادات، فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور، وكل مأجور سعيد، وكل سيعد مرضي عنه4، وإن شقي زمانا ما في الدار الآخرة، فقد مرض، وتألم أهل العناية -مع علمنا بأنهم سعداء وأهل الحق- في الحياة الدنيا".
الوحدة عند ابن الفارض
وإلى هذه الجهالة والضلالة رمز ابن الفارض في هذه المقالة:
فلا تك مفتونا بحسك معجبا ... بنفسك موقوفا على لبس غرة
وفارق ضلال الفرق فالجمع5 منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدت
وصرح بإطلاق الجمال، ولا تقل ... بتقييده ميلا لزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جمالها ... معار له، أو حسن كل مليحة
ـــــــ
1 ص113 فصوص.
2 نسبة إلى الأين، هو حال تعرض للشيء بسبب حصوله في المكان.
3 في الأصل: وجه.
4 إيمان الزنديق بوحدة الأديان نتيجة إيمانه بوحدة الوجود، وتراه هنا يقرر الأولى، فيزعم أن من تدين بأي دين -سواء كان وضعيا أم سماويا- فهو سعيد مرضي عنه من الله.
5 في الأصل: والجمع.(190/100)
بها قيس لبنى هام، بل كل عاشق ... كمجنون ليلى، أو كثير عزة
فكل صبا منهم إلى وصف لبسها ... لصورة حسن لاح في حسن صورة
وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر ... فظنوا سواها، وهي فيها1 تجلت
بدت باحتجاب، واختفت بمظاهر ... على صبغ التلوين في كل برزة2
ففي النشأة الأولى تراءت لآدم ... بمظهر حوا قبل حكم الأمومة
فهام بها كيما يصير بها أبا ... ويظهر بالزوجين حكم3 النبوة
وما برحت تبدو وتخفى لعلة ... على حسب الأوقات في كل حقبة
وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى، وأخرى بثينة ... [25] وآونة تدعى بعزة عزت
ولسن سواها، لا. ولا كن غيرها ... وما إن لها في حسنها من شريكة4
كذاك بحكم الاتحاد بحسنها ... كمالي بدت في غيرها، وتزيت
بدوت لها في كل صب متيم ... بأي بديع حسنه، وبأيت5
ـــــــ
1 في الأصل: فيهم، والتصويب من الديوان.
2 البرزة: المرة من البروز، أو المرأة العفيفة تبرز للرجال، وتتحدث معهم وإخاله يريد بها هذا، إذ هو بصدد ذكر تجلي الحقيقة الإلهية في صور النساء.
3 في الأصل: سر.
4، 5 يفتري سلطان الزنادقة أن الذات الإلهية تتجلى -أتم وأجمل مما تتجلى- في صور النساء الجميلات، ويفتري أنها تجلت في صور ليلى وبثينة وعزة، وقد رمز بهن عن كل امرأة جميلة عاشقة معشوقة، ولما كان من طبيعة هذا الرب الصوفي العشق، كان لا بد له من التجلي في صور عشاق، ليعشق، ويعشق، فتجلى في صور قيس وجميل وكثير عشاق أولئك الغانيات. وقد رمز بهم عن كل فتى اختبله الحب وتيمته الصبابة، ثم يفتري أيضا الزعم بأن العاشق ليس غير العشيقة بل هو هي، فالرب الصوفي عشق وعاشق وعشيقة. فليلى وقيس مثلا عند ابن الفارض هما الرب تعينت ذاته في صورة امرأة تعشق وتعشق هي ليلى، وفي صورة رجل يعشق ويعشق هو قيس. وليتأمل القارئ معي. فابن الفارض حين يتحدث عن الذات الإلهية باعتبارها حقا يحكم بأنها تظهر في صور نساء، وإذا تحدث عنها باعتبار تعينها فيه يحكم بأنها تظهر في صور رجال، يريد بهذا أن يفضل الرب المتعين فيه على الرب المتعين في غيره، أو بتعبير أبين صراحة، يفضل نفسه على الرب الذي يظهر في صورة امرأة, ويجعل من نفسه قيما عليه، فالرجال -كما لا يخفى- قوامون على النساء.(190/101)
وليسوا بغيري1 في الهوى لتقدم ... على لسبق في الليالي القديمة
وما القوم غيري في هواها2 وإنما ... ظهرت [لهم] للبس في كل هيئة
ففي مرة قيسا، وأخرى كثيرا ... وآونة أبدو جميل بثينة
تجليت فيهم ظاهرا واحتجبت با ... طنا بهم فاعجب لكشف بسترة
أسام بها كنت المسمى حقيقة ... وكنت لي البادي بنفس تخفت
وما زلت إياها، وإياي لم تزل ... ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت3
ـــــــ
1 في الأصل: سواي.
2 في الأصل: هواي.
3 هذا وما قبله بين الدلالة على إيمان ابن الفارض بالوحدة، لا بالاتحاد، فإنه حين عبر بقوله: وما زلت إياها خشى أن يقال عنه أنه ما زال يستشعر اثنينية ما، لوجود محمول وموضع في تعبيره -وإن كان الحمل صوريا، إذ المحمول عين الموضع- أقول: خشى أن يقال عنه هذا فعقبه بقوله: ولا فرق، حتى لا تفهم أن الذات المعبر عنها بضمير المتكلم، وهو التاء في "ما زلت" غير المعبر عنها بضمير الغائب في إياها، وإنما هي هي. وزاد ابن الفارض إيغالا في كفره، فقال: بل ذاتي لذاتي، ليجرد الذات الإلهية من وجودها الخاص، وليؤكد أن ليس لها من وجود إلا هذا الوجود المقيد المتعين في هذا أو ذاك من أفراد الخلق، ولإثبات الوحدة التامة بين الحق والخلق -لا في الباطن فحسب- بل في الظاهر، ثم لغرض آخر، وهو أن الذات الإلهية، نالت كمالها بتعينها في صورة ابن الفارض. هذا هو دين من لا يزال كبار الشيوخ -بله الزنادقة الصوفية- يلقبونه: سلطان العاشقين.(190/102)
وليس معي في الكون شيء سواي والـ ... ـمعية لم تخطر على ألمعيتي1
الكثرة عين الوحدة:
ثم قال ابن عربي في فص حكمة قلبية في كلمة شعيبية: "وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد، كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية، وإن اختلفت حقائقها وكثرت أنها عين واحدة, فهذه كثرة معقولة في واحد العين، فيكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة، كما أن الهيولي2 تؤخذ3 في حد كل صورة [وهي] مع كثرة الصور [واختلافها] ترجع4 في الحقيقة إلى جوهر واحد، هو5 هيولاها، فمن عرف نفسه بهذه المعرفة, فقد عرف ربه، فإنه على صورة خلقه بل هو عين هويته وحقيقته6.
ـــــــ
1 هذا توكيد لما يدين به من الوحدة، ولذا يلح في نفي المعية، نفي أن يكون ثم في الكون غير أو سوى, إذ ما ثم إلا حقيقة واحدة، هي هوية الحق, تكثرت بمظاهرها الخلقية, والألمعية: الذكاء والفطنة.
2 يراد بها: المادة، أو ما به الشيء بالقوة، أو ما يقبل التأثير.
3, 4, 5 في الأصل: يؤخذ, ويرجع, وهو. والتصويب من الفصوص.
6 ص124 فصوص، وقد خاف ابن عربي أن يظن به أنه يدين بمشاركة الإنسان لله في أمر عرضي وهو الصورة، وذلك من قوله: فإنه على صورة خلقه -وإن كان يعني بالصورة هنا: ما به الشيء بالفعل- أقول: خاف هذا, فأضرب عن قوله هذا، وأتبعه بقوله: بل هو عين هيوته وحقيقته. يا للزنديق!! فرعون حقيقة الله عنده، وقارون، وهامان، وأبو جهل، وأبو لهب، بل كل آثم غوى الضلالة والفجور. كل هذا، والشيوخ يسبحون بحمد ابن عربي، ويرونه الروح الرفاف في ملكوت الجمال الأعظم، والنور الذي هدى إلى قدس الحقيقة. أما قولنا ذيادا عن جلال الله: إن ابن عربي كافر. فهو قول عند الشيوخ يستعصي على المغفرة.(190/103)
قلت: وإلى هذا المحال أشار ابن الفارض فقال:
رجعت لأعمال العبادة عادة ... وأعددت أحوال الإرادة عدتي
وعد جملة من أفعال البر في أبيات، ثم قال:
ودققت فكري في الحلال تورعا ... وراعيت في إصلاح قوتي وقوتي
متى حلت عن قولي: أنا هي أو أقل ... وحاشا لمثلي1 أنها فيّ حلت
وهذا مثل ما يقال: خاب فلان وخسر، وكان مثل إبليس، إن كان منه كذا.
فعل البعد عين فعل الرب عند الصوفية
وقال ابن عربي في فص حكمة نبوية في [كلمة] عيسوية:
فإنا أعبد حقا ... وإن الله مولانا
وإنا عينه، فاعلم ... إذا ما قلت: إنسانا
فلا تحجب بإنسان ... فقد أعطاك برهانا
فكن حقا، وكن خلقا ... تكن بالله رحمانا2
وقال في فص حكمة رحمانية في كلمة سليمانية: "والعمل مقسم على ثمانية
ـــــــ
1 في الأصل: هداها.
2 ص143 فصوص والرحمن عند الصوفية "اسم الحق باعتبار الجمعية الأسمائية التي في الحضرة الإلهية الفائض منها الوجود، وبقية الكمالات على جميع الممكنات" الكمشخانلي في جامعه تحت المادة.. فهو مرادف للوجود المطلق. ويفتري الزنديق، فيزعم أن العارف يكون رحمانا -أي: وجودا مطلقا، أي: نفس الله سبحانه- إذا آمن أنه الحق، وأنه الخلق، إذا نظر إلى باطنه، فأيقن أنه حقيقة الحق، وإلى ظاهره، فأيقن أنه مظهر خلقي لحقيقة الحق. بهذه النظرة الشاملة من العارف إلى غيبه، وشهوده، يكون هو الذات الإلهية الجامعة للأسماء الإلهية كلها.. هذا مراد من يجعل الصوفية اسمه تميمة، والتسبيح بحمده روحانية ابتهال، وصلاة ضراعة, ونسك قرابين.(190/104)
أعضاء من الإنسان، وقد أخبر الحق تعالى أنه هوية كل عضو منها1، فلم يكن العامل غير الحق، والصورة للعبد، والهوية مدرجة2 فيه، أي: في اسمه، لا غير لأنه تعالى عين ما ظهر3".
ما الخلق؟:
ثم قال: "فنحن نتيجة رحمة الامتنان بالأسماء الإلهية، والنسب الربانية، ثم أوجبها على نفسه بظهورنا لنا، وأعلمنا أنه هويتنا، لنعلم أنه ما أوجبها على نفسه إلا4 لنفسه، فما خرجت الرحمة عنه، فعلى من [26] امتن، وما ثم إلا
ـــــــ
1 يزعم الزنديق أن الحق سبحانه عين كل عضو وجارحة من كل إنسان، فإذا سرقت يد فالسارق رب الصوفية، وإذا اجترح الفاحشة أثيم، فهو رب الصوفية وإذا ولغ لسان في الأعراض الشريفة فالوالغ رب الصوفية. وهكذا كل من يقترف جريمة، أو يروع الحق بباطله، والفضيلة برذائله، فهو في الحقيقة رب خلاق عند الصوفية. ولست أدري أي إله هذا الذي تقطع يده، ويرجم, ويجلد، وتقطع أيديه وأرجله من خلاف. وينفى من الأرض؟ أي إله هذا الذي يتدلي من مشافره ملايين الألسن، وتطحن الأعراض في شدقية ملايين الضروس، ويدب على الأرض فاتكا مدمرا بملايين الأرجل؟ إنه الإله الذي يحرق الصوفية أرواحهم في المحاريب ضراعة باسمه الكريم، وكنت بصدد الإشارة إلى أن ابن عربي بهذا يثبت أنه ممن يدينون بالجبر القاهر المطلق، بيد أن خبيئته أخبث وأدنأ عهرا من هذا، إنه يهدف إلى جعل الأمر فوضى وإباحية عربيدة المجون، إلى الانتقاض على كل شرعة وقانون ونظام، بل إلى شنها حربا طاحنة على الإسلام وحده، فإنه مجد اليهودية بعبادة عجل السامري، والمسيحية بعبادة عيسى، والمجوسية بعبادة النار، والوثنية بعبادة الأصنام، ثم التفت إلى المسلمين زاريا محقرا مبغضا ساخرا. لماذا؟ لأنهم يعبدون ربا واحدا، هو الله رب العالمين.
2 في الأصل: مندوجة.
3 ص151-152 فصوص الحكم.
4 في الأصل: لا.(190/105)
هو؟ إلا أنه لا بد من حكم لسان التفصيل، لما ظهر من تفاضل الخلق في العلوم, حتى يقال: إن هذا أعلم من هذا مع أحدية العين1".
زعمه أن التفاضل لا يستلزم التغاير:
ثم قال: "فكل جزء من العالم، أي: هو قابل لحقائق متفرقات العالم كله، فلا يقدح قولنا: إن زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو، وتكون في عمرو أكمل [وأعلم منه في زيد] كما تفاضلت الأسماء الإلهية، وليست غير الحق، فهو تعالى -من حيث هو عالم- أعم في التعلق من حيث ما هو مريد وقادر، وهو هو ليس غيره2، فلا تعلمه هنا يا ولي، وتجهله.
ـــــــ
1 ص153 فصوص.
2 يشهد العقل والحس والوجدان أن بعض الخلق أفضل من بعض، وليس هذا في الإنسان فحسب، بل كذلك في الحيوان والجماد والنبات، فالعالم أفضل من الجاهل، والقادر أفضل من العاجز، والمؤمن غير الكافر، وفي إثبات التفاضل إثبات للغيرية، وحكم بأن الأفضل ليس عين الفاضل المفضول, فكيف إذن يكون الحق عين الخلق. في حين أن الخلق يغاير بعضهم بعضا؟ وهذه المغايرة تقتضي ولا ريب ثبوت أن الخلق غير الحق، وهذا ينقض دين ابن عربي في الوحدة، وقد أحس الزنديق بخطر هذه الشهادة العقلية الحسية الوجدانية على معتقده فراح يكدح في سبيل دفع هذا الخطر. زاعما أن هذا التفاضل لا يستلزم مطلقا. مغايرة الحق للخلق. ولا مغايرة الذات الإلهية لنفسها أو مظاهرها. فهو ليس تفاضلا واقعا بين ذات وغيرها، بل بين بعض صفات وأسماء هذه الذات، وبين بعضها الآخر، وهذا لا يستلزم إلا مغايرة اسم لاسم، أو صفة لصفة، لا ذات لذات، ثم يفصل هذا بقوله كاستدلال على صدق معتقده: إن الأسماء، أو الصفات الإلهية، يفضل بعضها بعضها، فاسمه -تعالى- العالم. أفضل من اسمه -سبحانه- المريد. وهذا أفضل من اسمه: القادر. إذ العالم أفضل من الإرادة. وهما أفضل من القدرة. وهذا لشمول العلم وتعلقه بكل ما هو معلوم. سواء أكان أمرا وجوديا أو عدميا. موجودا بالقوة، أم موجودا بالفعل. ممكن الوجود أم مستحيله =(190/106)
هنا، وتثبته هنا، وتنفيه هنا، إلا إن أثبته بالوجه الذي أثبت نفسه، ونفيته عن كذا بالوجه الذي نفى نفسه، كالآية الجامعة للنفي والإثبات في حقه حين قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فنفي {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأثبت بصفة تعم كل سامع بصير
ـــــــ
= ولا كذلك الإرادة. ثم إن الإرادة أسبق من القدرة. وبهذا كانت أفضل. ثم يستطرد في تلبيسه قائلا: بيد أن هذا التفاضل لا يمكن أبدا استلزام أن يكون الإله غير نفسه. بل لا يمكن أن تحكم إلا بأن العالم عين القادر. عين المريد ومن هذا يثبت أن التفاضل لا يستلزم الغيرية أو التعدد. ثم ينتقل من هذا إلى ما يهدف إليه، فيزعم أنه لما كانت الموجودات هي تعينات أسماء الذات الإلهية وصفاتها، كان التفاضل الواقع بين الموجودات، صورة للتفاضل الذي كان واقعا بين الأسماء والصفات قبل تعينها في صور الموجودات، وقد ثبت أن هذا التفاضل لا يستلزم غيرية ولا تعدد, فيصدق القول: بأن الحق عين الخلق، ويصدق القول: بأن محمدا هو عين أبي جهل، عين أبي لهب، عين فرعون، وبأن العالم عين الجاهل، والمؤمن عين الكافر، والموحد عين المشرك، لأن كل طرف من هذه المتقابلات ما هو إلا اسم إلهي تعين في هذا الطرف، ومنه يثبت -هكذا زعم الزنديق- أن العالم -رغم ما فيه من تفاضل يشعر بالغيرية- ليس شيئا آخر غير الحق، بل هو عينه، إذ ما هو إلا أسماء الله وصفاته التي تعينت في صور هذا العالم، هذا هو مراد الزنديق، وما لهثت من أجله أنفاسه، ليثبت به قوله: "لا يقدح قولنا: إن زيدا دون عمرو في العلم أن تكون هوية الحق عين زيد وعمرو" ورغم ما في هذا الهراء من تلبيس زنديقي، فللعقل -أي عقل كان- أن يصرخ في وجه ابن عربي بالحق: ما زلت أيها الزنديق في حاجة -ولن تقضى لك والله هذه الحاجة أبدا- إلى إثبات أصل زندقتك، وهو أن هذه الموجودات هي تعينات أسماء الله. فقد بنيت هراءك المجوسي كله على هذا الأصل الذي يحسد بيت العنكبوت على قوته، وأقول: العقل وحده، إذ يستطيع كل امرئ يفهم آية واحدة من القرآن أن يحكم على ابن عربي بالزندقة الفاجرة. ولكن ماذا نفعل للكبار الكبار الذين يستظهرون ألف متن وحاشية، والمصحف حتى علائم الوقف فيه، يؤمنون بالزنديق، ويكفرون بآيات الله، ويقدسون فصوص الحكم، ويجحدون بالذكر الحكيم.(190/107)
من حيوان، ومن ثم إلا حيوان، إلا أنه بطن في الدنيا عن إدراك بعض الناس، وظهر في الآخرة لكل الناس، فإنها الدار الحيوان، وكذلك الدنيا، إلا أن حياتها مستورة عن بعض العباد، ليظهر الاختصاص والمفاضلة بين عباد الله بما يدركونه1 من حقائق العالم فمن عم إدراكه، كان الحق أظهر في الحكم ممن ليس له ذلك العموم، فلا تحجب بالتفاضل، وتقول: لا يصح كلام من يقول: إن الخلق هوية الحق، بعد ما أريتك التفاضل في الأسماء الإلهية التي لا تشك أنت أنها [هي] الحق، ومدلولها المسمى بها وليس إلا الله2".
الضال مهتد, والكافر مؤمن:
ثم قال: "نحن على الصراط المستقيم الذي الرب عليه، لكون نواصينا في يده، وتستحيل مفارقتنا إياه، فنحن معه بالتضمين، وهو معنا بالتصريح، فإنه قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحن معه بكونه آخذا بنواصينا فهو تعالى مع نفسه حيثما مشى بنا من صراطه، فما أحد من العالم إلا على صراط مستقيم3" ثم قال في فص حكمة وجودية في كلمة داودية {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وإن اتفقا، فنحن نعلم أنهما لو اختلفا [تقديرا] لنفذ حكم أحدهما فالنافذ الحكم هو الإله على الحقيقة، والذي لم ينفذ حكمه ليس بإله، ومن هنا تعلم أن كل حكم ينفذ اليوم في العالم أنه حكم الله، وإن خالف الحكم المقرر في الظاهر المسمى: شرعا؛ إذ لا ينفذ حكم إلا الله في نفس الأمر، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حكم المشيئة4".
ـــــــ
1 في الأصل: يذكرونه.
2ص 153 فصوص الحكم.
3ص 158 فصوص.
4ص 156 فصوص.(190/108)
لن يعذب كافر عند الصوفية:
ثم قال: "ولما كان الأمر [في نفسه] على ما قررناه، لذلك كان مآل الخلق إلى السعادة على اختلاف أنواعها، فعبر عن هذا المقام بأن الرحمة وسعت كل شيء، وأنها سبقت الغضب الإلهي، والسابق متقدم، فإذا لحقه هذا الذي حكم عليه المتأخر حكم عليه المتقدم، فنالته الرحمة، إذا لم يكن غيرها سبق، فهذا معنى سبقت رحمته غضبه، لتحكم على من وصل [27] إليها، فإنها في الغاية وقفت، والكل سالك إلى الغاية، فلا بد من الوصول إليها، فلا بد من الوصول إلى الرحمة، ومغادرة الغضب، فيكون الحكم لها في كل واصل إليها، بحسب ما يعطيه حال الواصل إليها.
فمن يك ذا فهم يشاهد ما قلنا ... وإن لم يكن فهم، فيأخذه عنا
فما ثم إلا ما ذكرناه، فاعتمد ... عليه، وكن في الحال فيه كما كنا
فمنه إليه ما تلونا عليكم ... ومنا إليكم ما وهبناكم منا1
وقال في فص حكمة نفسية في كلمة يونسية2: "وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم ولكن في النار، إذ لا بد لصورة النار بعد انتهاء مدة العقاب، أن تكون بردا وسلاما على من فيها، وهذا نعيمهم، فنعيم أهل النار -بعد استيفاء الحقوق- نعيم خليل الله حين ألقي في النار، فإنه عليه السلام تعذب برؤيتها، وبما تعود في علمه، وتقرر من أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان، وما علم مراد الله فيها، ومنها في حقه، فبعد وجود هذه الآلام وجد بردا وسلاما مع شهود الصورة اللونية في حقه، وهي نار في عيون الناس، فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين. هكذا هو التجلي الإلهي3".
ـــــــ
1 ص116 فصول.
2 في الأصل: يوسفية.
3 ص169 فصوص.(190/109)
وقال في فص حكمة غيبية في كلمة أيوبية: "وقد ورد في العلم الإلهي النبوي اتصاف الحق بالرضا والغضب، وبالصفات، والرضا مزيل للغضب، والغضب مزيل للرضا عن المرضي عنه، والاعتدال: أن يتساوى الرضا والغضب، فما غضب الغاضب على من غضب عليه، وهو عنه راض, فقد اتصف بأحد الحكمين في حقه، وهو ميل، وإنما قلنا هذا لأجل من يرى أن أهل النار، لا يزال غضب الله عليهم دائما أبدا في زعمه، فمآلهم حكم الرضا من [الله] فصح المقصود، فإن كان -كما قلنا- مآل أهل النار إلى إزالة الآلام، وإن سكنوا النار، فذلك رضا، فزال الغضب لزوال الآلام، إذ عين الألم عين الغضب إن فهمت. فمن غضب، فقد تأذى, فلا يسعى في انتقام المغضوب عليه بإيلامه إلا ليجد الغاضب الراحة بذلك، فينتقل الألم الذي كان عنده إلى المغضوب عليه، والحق إذا أفردته عن العالم يتعالى علوا كبيرا عن هذه الصفة على هذا الحد، وإذا كان الحق هوية العالم، فما ظهرت الأحكام كلها إلا فيه ومنه، وهو قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] حقيقة وكشفا1 {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} حجابا وسترا2، فليس في الإمكان أبدع من هذا العالم3؛ لأنه على صورة
ـــــــ
1يعني بالأمر: كل مظاهر الوجود وأحكامه، ويفتري بهذا البهتان على الله، فيزعم أن مظاهر الخلق هي مظاهر الحق، وأن ما نحكم به على مظاهر الوجود وصوره يجب أن نحكم به على الحق، إذ هو عين تلك المظاهر، فإذا قيل: إن فلانا يتألم من كذا، أو يلتذ به، فالمتألم عند الصوفية والملتذ عند الصوفية والملتذ هو الحق المتعين في فلان هذا وإذا قلنا: إن فلانا آثم غوي، كان هذا الحكم محكوما به في الحقيقة على رب الصوفية؛ لأنه هو عين هذا الآثم الغوي، هذا تفسيره لقوله سبحانه: {إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} ولذا عقبها بقوله: حقيقة وكشفا.
2 الأمر بالعبادة يستلزم إثبات معبود وعابد، ويصف ابن عربي الأمر بالعبادة بأنه ستر وحجاب، إذ ما ثم عابد ومعبود، فالعابد عين المعبود، ولذا عقب الآية بقوله: حجابا وسترا.
3 لأنه يدين بأن العالم هو الله وصفاته وأسماؤه.(190/110)
الرحمن أوجده الله تعالى، أي: ظهر وجوده تعالى بظهور العالم، كما ظهر الإنسان بوجود الصورة الطبيعية، فنحن صورته الظاهرة، وهويته روح هذه الصورة المدبرة لها، فما كان التدبير إلا فيه [كما لم يكن إلا منه]، فهو: "الأول" بالمعنى، "والآخر" بالصورة، وهو "الظاهر" [28] بتغير الأحكام والأحوال "والباطن" بالتدبير "وهو بكل شيء عليم" فهو على كل شيء شهيد.1
الحق عندهم سار في عناصر الطبيعة:
وقال في فص حكمة إبناسية في كلمة إلياسية: "وكان إلياس الذي هو إدريس، قد مثل له انفلاق الجبل2 [المسمى] لبنان عن فرس من نار، فلما [رآه] ركب عليه، فسقطت3 عنه الشهوة، فكان4 عقلا بلا شهوة، فلم يبق له تعلق بما تتعلق به الأغراض النفسية، فكان الحق فيه5 منزها، فكان على النصف من المعرفة بالله [فإن العقل إذا تجرد لنفسه من حيث أخذه العلوم عن نظره كانت معرفته بالله] عن التنزيه6, لا على التشبيه، وإذا أعطاه الله المعرفة بالتجلي كملت معرفته بالله، فنزه في موضع, وشبه في موضع، ورأى سريان الحق في الصور الطبيعية والعنصرية، وما بقيت له صورة إلا ويرى عين الحق عينها، وهذه المعرفة التامة التي جاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله، وحكمت بهذه المعرفة الأوهام كلها7".
رد العراقي على وحدة الأديان
قال الإمام زين الدين العراقي في جواب السؤال المذكور قبل: "بتوحيد
ـــــــ
1 ص172 فصوص.
2, 3, 4, 5 في الأصل: جبل, سقطت, وكان, فيها.
6 الصوفية حرب على العقل، ويكفرون به كمصدر أو وسيلة من وسائل المعرفة، إذ يحكم على أوهامهم الذوقية بالتناقض, وأنها وليدة خرافة وأساطير.
7 ص181 فصوص.(190/111)
إلياس عليه السلام بعثت الرسل كلها، لأن الملل كلها، وما جاءت به الرسل لم يختلفوا في التوحيد والإقرار به، وقد نزه الله تعالى نفسه عن الشبه بقوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وليت شعري ما الفائدة لبعثة الرسل إذا كان من عبد شيئا من المخلوقات عابدا لله تعالى؟ وليت شعري ماذا يقول هذا القائل، في نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نهيهم عن عبادة الأوثان وكسرها؟ هل يقول: كانوا بعبادتها مصيبين عابدين لله، وأنه ما حصل لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتساع، فأنكر عليهم، كما قال في حق هارون عليه السلام، ولا شك أن الرسل كلهم متفقون في التوحيد، وكأنه إنما سكت عن ذلك خيفة من السيوف المحمدية، فإن هذه المؤلفات التي كان يسرها إلى أصحابه، ويسرها أصحابه إلى أصحابهم، ولو كان حقا لأظهروه على رءوس الأشهاد" ا. هـ.
الشرائع أوهام عند الصوفية:
ثم قال ابن عربي: "فالوهم هو السلطان الأعظم في هذه الصورة الكاملة الإنسانية، وبه جاءت الشرائع المنزلة، فشبهت ونزهت: شبهت في التنزيه بالوهم، ونزهت في التشبيه بالعقل، فارتبط الكل بالكل، فلم يمكن أن يخلو1 تنزيه عن تشبيه، ولا تشبيه عن تنزيه، قال الله تعالى: { [ لَيْسَ ] كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فنزه وشبه {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فشبه، وهي أعظم آية تنزيه نزلت، ومع ذلك لم تخل عن تشبيه بالكاف، فهو أعلم العلماء بنفسه، وما عبر عن نفسه إلا بما ذكرناه2.
ليس لله وجود عند الصوفية:
ثم قال في مثل ضربه للتشبيه في التنزيه، والتنزيه في التشبيه: "مثل من يرى الحق في النوم، ولا ينكر هذا، وأنه لا شك الحق عينه، فتتبعه لوازم تلك الصورة، وحقائقها التي تجلى فيها في النوم، ثم بعد ذلك يعبر3 -أي
ـــــــ
1 في الأصل: يخلق.
2 ص181 فصوص.
3 في الأصل: تعبر.(190/112)
يجاز- عنها إلى أمر آخر، يقتضي التنزيه عقلا، فإن كان الذي يعبرها ذا كشف وإيمان، فلا يجوز عنها إلى تنزيه فقط، بل يعطيها [29] حقها1 في التنزيه، ومما ظهرت فيه، فالله على التحقيق عبارة2 لمن فهم الإشارة3".
الداعي عين المجيب:
ثم قال: "ومن ذلك قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قال الله: {إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] إذ لا يكون مجيبا إلا إذا كان من يدعوه4 وإن كان عين الداعي عين المجيب، فلا خلاف في اختلاف الصور، فهما صورتان بلا شك5، وتلك الصور كالأعضاء لزيد، فمعلوم أن زيدا حقيقة واحدة شخصية، وأن يده ليست صورة رجله، ولا رأسه ولا عينه، ولا حاجبه، فهو الكثير بالصور الواحد بالعين كالإنسان بالعين واحد بلا شك، ولا نشك أن عمرا ما هو زيد، ولا خالد، ولا جعفر، وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودا، فهو وإن كان واحدا بالعين، فهو كثير بالصور والأشخاص، وقد علمت قطعا -إن كنت مؤمنا- أن الحق عينه يتجلى يوم القيامة في صورة، فيعرف، ثم يتحول في صورة، فينكر، ثم يتحول عنها في صورة، فيعرف، وهو هو المتجلى ليس
ـــــــ
1 في الأصل: من.
2 في الأصل: عبادة.
3 ص182 فصوص.
4 في الأصل: غيره بعد كلمة يدعوه.
5 الأمر بالدعاء يقتضي الاثنينية والغيرية، أعني يستلزم وجود داع ومجيب، لذ راح الزنديق يزعم أنها اثنينية وهمية، وغيرية صورية، فالداعي هو الله تعين في صورة من يدعو، والمجيب هو الله تعين في صورة من يجيب، فهما غيران في الصورة، واحد في الحقيقة. ولذا يقول: الداعي عين المجيب، وما إخال القارئ في حاجة إلى البيان عما في هذا من تخريف كافر.(190/113)
غيره في كل صورة. ومعلوم أن هذه الصورة ما هي تلك الصورة الأخرى، فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة، فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله عرفه، وأقر به، وإذا اتفق أن يرى فيها معتقد غيره أنكره، كما يرى في المرآة عين صورته وصورة غيره، فالمرآة عين واحدة، والصور كثيرة في عين الرائي، وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة من كون المرآة لها أثر في الصور بوجه، وما لها أثر بوجه1".
ثم قال: "فإن كوشف على أن الطبيعة عين نفس الرحمن، فقد أوتي خيرا كثيرا2".
قلت: وإلى هذا أومأ ابن الفارض بقوله:
ولا تحسبن الأمر عني خارجا ... فما ساد إلا داخل في عبودتي3
ولولاي لم يوجد وجود، ولم يكن ... شهود، ولم تعهد عهود بذمة
وفي عالم التركيب في كل صورة ... ظهرت بمعنى عنه بالحسن زينتي
وضربي لك الأمثال مني منة ... عليك بشأني مرة بعد مرة
تأمل مقامات السروجي4 واعتبر ... بتلوينه، تحمل قبول مشورتي
وتدر5 التباس النفس بالحس باطنا ... بمظهرها في كل شكل وصورة
وشاهد إذا استجليت نفسك ما ترى ... بغير مراء في المرائي6 الصقيلة7
ـــــــ
1 ص184 فصوص.
2 ص187 فصوص
3 في الأصل: عبوتي.
4 اسم الشخص الذي بنى عليه الحريري مقاماته.
5 في الأصل: تدري.
6 في الأصل: المرآة.
7 يرد الشيخ الجليل ابن تيمية على هذا المثل الذي يمثل به ابن الفارض =(190/114)
أغيرك فيها لاح، أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس1 الأشعة؟
وأصغ لرجع الصوت عند انقطاعه ... إليك بأكناف القصور المشيدة
أهل كان من ناجاك ثم سواك، أم ... سمعت خطابا عن صداك المصوت
وقل لي: من ألقى إليك علومه ... وقد ركدت منك الحواس بغفلة
وما كنت تدري قبل يومك ما جرى ... بأمسك، أو ما سوف يجري بغدوة
فأصبحت ذا علم بأخبار من مضى ... [30] وأسرار من يأتي مدلا بخبرة
أتحسب من جاراك في سنة الكرى ... سواك بأنواع العلوم الجليلة
وما هي إلا النفس عند اشتغالها ... بعالمها عن مظهر البشرية
تجلت لها2 بالغيب في شكل عالم ... هداها إلى فهم المعاني الغريبة
ولا تك ممن طيشته دروسه ... بحيث استقلت عقله واستفزت
فثم وراء النقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة3
ـــــــ
= الوحدة بين الحق والخلق، فيقول: "فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة، فالمرآة خارجة عن نفسه، فرأى نفسه، وأمثال نفسه في غيره، والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى، فليس هناك مظهر مخالف للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرائي, وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق، فإن قالوا: المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا: المظاهر هي الظاهر، لم يكن قد ظهر شيء في شيء، ولا تجلى شيء في شيء، ولا ظهر شيء لشيء، وكان قوله: "يعني ابن الفارض" "ومشاهد إذا استجليت.. إلخ" كلاما متناقضا، لأن هنا مخاطبا، ومخاطبا، ومرآة تستجلى فيها الذات، فهذه ثلاثة أعيان، فإن كان الوجود واحدا بالعين، بطل هذا الكلام، وكل كلمة يقولونها تنقض من أصلهم" ص87 جـ1 مجموعة الرسائل والمسائل.
1 في الأصل: الانعكاس.
2 في الأصل: لهم.
3 يقصد بالنقل نصوص الشرائع السماوية، والوصفية لا يبغضون شيئا في الحياة بغضهم لما أحوى به الله سبحانه إلى رسله، وإذا استشهد صوفي بآية أفسد =(190/115)
تلقيته مني، وعني أخذته ... ونفسي كانت من عطائي ممدتي
ولا تك باللاهي عن اللهو جملة ... فهزل الملاهي جد نفس مجدة
الحق عين كل معلوم عند الصوفية:
ثم قال1 في فص حكمة إحسانية في كلمة لقمانية؛ بعد أن ذكر أن من حكمته الملفوظة، أنها إن تك مثال حبة من خردل الآية... وأن من حكمته المسكوبة2 عموم المؤتى إليه؛ لأنه لم يقل: يأتي بها الله إليك، أو إلى غيرك، قال: "فنبه لقمان بما تكلم به، وبما سكت عنه أن الحق عين كل معلوم، لأن المعلوم أعم [من الشيء3] فهو أنكر النكرات، ثم تمم الحكمة، واستوفاها؛
ـــــــ
= معناها أساطير زندقته، وإذا استشهد بحديث فثق بأنه موضوع، وضعته الصوفية منذ خلعت عنها اسم المجوسية، وتسمت بهذا الاسم الخلوب المكر والخديعة لتنفث سمومها الفتاكة، وتعيث بزندقتها في عقائد المسلمين فسادا، ولذا يقول ابن الفارض: لا تركن إلى الكتاب والسنة، فليس فيهما أثارة من الحق، ولا لمع من الهداية، ولا إشراق من الحقيقة، وتعال إلي أعلمك علما دقيقا جليلا يهيمن على الهدى والحق!!
وأقول إذا كان علم ابن الفارض يدق عن مدارك العقول المشرقة، فمن للدراويش من للذي هم ليسوا بأقطاب؟ ثم أليس أولئك الذين لا يعلمون علمه، هم الله في عرف زندقته؟ أليس هذا معناه أن له علما يدق حتى عن الله سبحانه؟ ومعناه أن زندقته أبر بالحق والهدى من شرائع الله سبحانه.
1 أي: ابن عربي.
2 لعلها: المسكوت عنها، فابن عربي يقول في هذا الفصل: "والحكمة قد تكون متلفظا بها، ومسكوتا عنها".
3 يقول أبو البقاء في كلياته: "الشيء هو لغة: ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيشمل الموجود والمعدوم ممكنا، أو محالا، واصطلاحا: خاص بالموجود -خارجيا كان أو ذهنيا- والشيء أعم العام، ويقع على الواجب والممكن والممتنع. نص على =(190/116)
لتكون النشأة كاملة فيها، فقال: "إن الله لطيف" فمن لطافته ولطفه، أنه في الشيء المسمى كذا المحدود بكذا، عين ذلك الشيء، حتى لا يقال فيه إلا ما يدل عليه اسمه بالتواطؤ1 والاصطلاح، فيقال: هذا سماء, وأرض, وصخرة، وشجرة، وحيوان، وملك، ورزق، وطعام، والعين واحدة2 من كل شيء.
ـــــــ
= ذلك سيبويه، حيث قال في كتابه: الشيء يقع على كل ما أخبر عنه، ومن جعل الشيء مرادفا للموجود، حصر الماهية بالموجود، ومن جعله أعم عمم الموجود والمعدوم".
ولكن ابن عربي يفسر الشيء بأنه المتحقق بالفعل، وعلى هذا, فالمعلوم أعم منه، إذ المعلوم عنده يتناول الموجودات: عينية، أو علمية ممكنة، أو ممتنعة، وابن عربي يزعم أن الحق عين كل معلوم، وهذا معناه أن إلهه عين الممكن، وعين الممتنع، عين الوجود الخارجي، وعين الوجود الذهني، عين الوهم، وعين الحقيقة عين الباطل وعين الحق، عين الغي والضلال, وعين الرشد والهدى، عين العدم والفناء، وعين الوجود والبقاء, هذا هو إله الصوفية الأعظم.
1 المتواطئ هو الكلي إن استوت أفراده فيه، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده فالإنسانية في محمد مثلا عينها في بكر، عينها في خالد، عينها في كل فرد، فهو يطلق على كل فرد فرد بمعنى واحد لا يزيد، ولا ينقص في فرد عنه في فرد آخر. وكذلك اسم الله سبحانه -هكذا يفتري الزنديق الآثم ابن عربي- يقال على كل معلوم بالتواطؤ. يقال على الممكن والممتنع، على الموجود والمعدوم، على الوجود الذهني، وعلى الوجود الخارجي، على الإنسان والحيوان والجماد، والميكروبات والرمم!! هذا دين من لا يزال بعض كبار الشيوخ يتخذونه لهم قدوة وإماما، ويثورون ثورة الدنس والرذيلة على الطهر والفضيلة، إذا شاء كاتب أن يصفع باطله بيد الحق القاهرة القوية.
2 يزعم أن السماء عين الأرض، وأن الصخرة عين الشجرة، وأن الجماد عين الحيوان، يؤمن بأن كل شيء من هذه الأشياء عين الآخر، ويؤمن بأن الله سبحانه عين كل شيء، فسمه بأي اسم شئت من أسماء هذه الأشياء، فلن تعدو الحق عند الزنديق، سمه أرضا، أو صخرة، أو شجرة، أو حيوانا، أو جمادا, أو حشرة، فالكل عينه؛ وهيوتها هويته، وماهيتها ماهيته، ووجودها عين وجوده، وأسماؤها أسماؤه!! أرأيت أية مادية صماء يوغل ابن عربي في الإيمان بها إذ يرى ربه صخرا وجمادا.
فأين هي الروحانية في التصوف يا أحلاس المجوسية، ويا عبدة الخنازير؟.(190/117)
وفيه كما تقول الأشاعرة1: أن العالم كله متماثل بالجوهر، فهو جوهر واحد2 فهو عين قولنا: [العين واحدة] ثم قالت: ويختلف بالأعراض، وهو عين قولنا
ـــــــ
1 مدرسة كلامية ابتدعت مذهبا كلاميا ملفقا, فهو أمشاج من الاعتزال. والسلفية، والجبرية والفلسفة اليونانية القديمة قبل سقراط، زعيمها: أبو الحسن الأشعري المتوفى سنة 330هـ وأشهر زعمائها بعده الباقلاني والجويني، والغزالي. راجع ما كتبته عن هذه المدرسة في كتابي دعوة الحق.
2 قال السعد في المقاصد: "أثبت المتكلمون أن أجزاء الجسم هي الجواهر الفردة، وأنها متماثلة لا يتصور فيها اختلاف، ليثبتوا أن الأجسام متحدة بالحقيقة، وإنما الاختلاف بالعرض، وهذا أصل ينبني عليه كثير من قواعد الإسلام "تأمل" كإثبات القادر المختار، وكثير من أحوال النبوة والمعاد" ص318 جـ1. وعلى الرغم مما هول به الأشاعرة حول أسطورة الجوهر الفرد التي استمدوها من الفلسفة اليونانية القديمة، وبخاصة من ديمقريط، فإن قولهم لا ينتسب إلى الصوفية في الوحدة برحم، فالأشاعرة يقولون بتماثل الجواهر الفردة في الأجسام. أما الصوفية فيدينون، لا بالتماثل، بل بالوحدة التامة بين الحق والخلق، ثم إن الأشاعرة يدينون بوجودين: وجود الله، ووجود العالم، الأول قديم، والثاني حادث، أما الصوفية فيدينون بوجود واحد تردد بين الإطلاق والتقييد، وجود يجمع الخالق بالخلق في وحدة تامة، الأشاعرة يؤمنون بأن الله هو الخالق، وأن العالم هو المخلوق، أما الصوفية، فيكفرون بأن الله خالق، إذ الحق والخلق عندهم حقيقة واحدة، وإليك ما يرد به العلامة المقبلي على ما نسبه ابن عربي إلى الأشاعرة هنا، وهو قولهم بوحدة الجوهر: "وقد غالط في كلامه هذا أو غلط، وذلك بقوله: فهو جوهر واحد فإنه ليس من كلام الأشاعرة، ولا غيرهم من المتكلمين، ألا ترى إلى قولهم: متماثل؟ وهو -أي: ابن عربي- قد أحال التماثل وأحال الشركة لاتحاد العين" العلم الشامخ ص437.(190/118)
ويختلف، ويتكثر بالصور والنسب حتى يتميز, فيقال: هذا ليس هذا من حيث صورته، أو عرضه، أو مزاجه كيف شئت، فقل: وهذا عين هذا من حيث جوهره، ولهذا تؤخذ عين الجوهر في حد كل صورة، أو مزاج، فنقول نحن: إنه ليس سوى الحق، ويظن المتكلم1 أن مسمى الجوهر الفرد -وإن كان حقا- ما هو عين الحق الذي يطلقه أهل الكشف والتجلي فهذا حكمة كونه: لطيفا2، ثم نعت، فقال: خبيرا، أي: عالما عن اختبار3، وهو قوله: ولنبلونكم حتى نعلم، وهذا هو علم الأذواق، فجعل الحق نفسه -مع عمله بما هو الآمر عليه- مستفيدا علما، ولا نقدر4 على إنكار ما نص الحق عليه [في حق نفسه]، ففرق تعالى بين علم الذوق والعلم المطلق، فعلم الذوق مقيد بالقوى وقد قال عن نفسه: إنه عين قوى عبده في قوله: كنت سمعه. وهو قوة من قوى العبد. وبصره, وهو قوة من قوى العبد ولسانه، وهو عضو من أعضاء العبد، ورجله، ويده، فما اقتصر في التعريف على القوى فحسب، حتى ذكر الأعضاء، وليس العبد بغير لهذه5 الأعضاء والقوى، فعين مسمى العبد هو الحق، لا عين العبد هو السيد6، فإن النسب متميزة لذاتها7 وليس المنسوب إليه متميزا [31] فإنه ليس ثم سوى عينه في جميع النسب، فهو عين واحدة ذات نسب وإضافات وصفات، فمن تمام حكمة لقمان في تعليمه ابنه ما جاء به في8
ـــــــ
1 يقصد القائلين بالجوهر الفرد من الأشاعرة.
2 يعني اسم الله سبحانه في قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].
3 ينسب العلم الاختباري إلى الله، بيد أنه يفسره بأنه العلم الذوقي، وهذا عنده مقيد بالقوى التي تفيده وصادر عنها، والزنديق يفتري أن الله سبحانه عين قوى العبد وأعضائه، وعلى العبد مستمد من هذه القوى والأعضاء فعلم الحق عنده هو ما يعلمه العبد عن طريق قواه وأعضائه، إذ ليس الحق شيئا سوى هذا العبد!!
4, 5, 6, 7, 8 في الأصل: يقدر, غير هذه, اليد, لذواتها, من.(190/119)
هذه الآية من1 هذين الاسمين الإلهيين2".
وقال في فص حكمة إمامية في كلمة هارونية: "اعلم أن وجود هارون كان من حضرة الرحموت3" ثم ذكر غضب موسى عليه السلام، وأخذه بلحيته، ثم قال: "وسبب ذلك عدم التثبت في النظر فيما كان في يديه من الألواح، التي ألقاها من يده، فلو نظر فيها نظرة تثبت لوجد فيها الهدى والرحمة، فالهدى بيان ما وقع من الأمر الذي أغضبه مما [هو] هارون بريء منه، والرحمة بأخيه4، فكان لا يأخذ بلحيته بمرأى من قومه مع كبره، وأنه أسن منه5".
تمجيد الصوفية لعبادة العجل:
ثم قال: "وكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى ألا نعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون؛ لما وقع [الأمر] في5 إنكاره وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء6".
ـــــــ
1 في الأصل: في.
2 ص189 فصوص.
3 ص191 فصوص.
4 في الأصل: لأخيه.
5 ص191 فصوص.
5 في الأصل: من.
6 ص192 فصوص، وقد خشي الزنديق من تعبيره الأول: "في كل شيء" أن يتهم بأنه حلولي، لإفادة في معنى الظرفية، أو أن يظن أحد في كلامه مجازا تقديره: يرى أثر قدرة الله في كل شيء. خشي هذا وذاك فعقبه بنص قاطع الدلالة على معتقده إذ قال: بل يراه عين كل شيء، ليؤكد لك إيمانه بوحدة الوجود المادية والروحية.(190/120)
بعض ما كفر به العراقي ابن عربي:
قال الشيخ زين الدين العراقي في جواب السؤال المذكور: "هذا الكلام كفر من قائله من وجوه:
أحدها: أنه نسب موسى عليه السلام إلى رضاه بعبادة قومه للعجل.
الثاني: استدلاله بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] على أنه قدر1 أن لا يعبد إلا هو، وأن عابد الصنم عابد له، الثالث: أن موسى
ـــــــ
1 يفسر الزنديق قضى بقدر وحكم، ثم يستطرد فيقول: وكل ما قدره الله، أو حكم به فلا بد من وقوعه، ومما وقع عبادة العجل وعبادة الصنم، والنار والكواكب وغيرها، وهذا دليل على أن عبادة هذه الأشياء حكم إلهي قدره الله فوقع، ولما كان الله سبحانه لا يمكن أن يحكم بعبادة غيره، بدليل: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} كان هذا دليلا على أن تلك المعبودات ليست شيئا غير الله سبحانه، بل هي عينه، وعلى أن عابديها لم يعبدوا إلا الله، هذا ما يهدف إليه ابن عربي من تفسيره لقضى: بقدر وحكم، وإليك ما يرد به الشيخ الجليل ابن تيمية على تلبيس ابن عربي وبهتانه هذا: "احتج الملحدون بقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} قالوا: وما قضى الله شيئا إلا وقع، وهذا هو الإلحاد فى آيات الله وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على الله، فإن قضى هنا ليست بمعنى القدر والتكوين بإجماع المسلمين، بل وبإجماع العقلاء، حتى يقال: ما قدر الله شيئا إلا وقع، وإنما هي بمعنى: أمر. وما أمر الله به، فقد يكون، وقد لا يكون، فتدبر هذا التحريف، وكذلك قوله: ما حكم الله بشيء إلا وقع كلام مجمل، فإن الحكم يكون بمعنى الأمر الديني، وهو الأحكام الشرعية، كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} الآية. وكقوله: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} ويكون الحكم حكما بالحق والتكوين والعقل، كقوله: {لَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لي} وقوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ولهذا كان بعض السلف يقرءون "ووصى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه" وذكروا أنها كذلك في بعض المصاحف، ولهذا قال في سياق الكلام: وبالوالدين إحسانا، وساق أمره
=(190/121)
عليه السلام عتب على أخيه هارون عليهما السلام إنكاره لما وقع، وهذا كذب على موسى عليه السلام, وتكذيب لله فيما أخبر به عن موسى من غضبه لعبادتهم العجل، الرابع: أن العارف يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، لجعل العجل عين الإله المعبود، فليعجب السامع لمثل هذه الجرأة التي تصدر ممن في قلبه مثال ذرة من إيمان".
آيات تشهد بكفر ابن عربي:
ثم ساق من الآيات1 التي كذب بها في هذه المقالة2 قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا،أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه: 92، 93] وقوله: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف: 150] وقوله: { [ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ] اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ3} [الأعراف: 148] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152]. وقوله:
ـــــــ
ووصاياه إلى أن قال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} فختم الكلام بمثل ما فتحه به من أمره بالتوحيد ونهيه عن الشرك، ليس هو إخبارا أنه ما عبد أحدا إلا الله، وأن الله قدر ذلك وكونه، وكيف، وقد قال: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وعندهم ليس في الوجود شيء يجعل إلها آخر" فأي شيء عبد فهو نفس الإله ليس آخر غيره" ص88 جـ4 مجموعة الرسائل والمسائل.
1 أي: العراقي.
2 يقصد ما نسبه ابن عربي إلى موسى عليه السلام من الرضا بعبادة العجل، ونسبته الجهل إلى هارون باستنكاره لعبادة العجل، وتصحيحه لعبادة العجل، وزعمه أنها عبادة الله، إذ العجل ليس شيء غير الإله المعبود.
3 استشهد العراقي بالآية مبتورة، فذكرتها بتمامها لأنها نص في الحكم، ووضعت ما لم يستشهد به العراقي بين هذين [].(190/122)
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149].
شرك الصوفية أخبث الشرك:
ثم قال1: فجاء هذا المخالف لله، ولرسوله ولجميع المؤمنين، فصوب فعلهم، وصرح بأنهم من العارفين بقوله: إن العارف من يرى الحق في كل شيء, بل يراه عين كل شيء، ولا شك أن شرك قائل هذا أشد من شرك اليهود والنصارى فإن أولئك عبدوا عبدا من عباد الله المقربين، وهذا يرى أن عبادة العجل والصنم عين عبادة الله، بل يؤدي كلامه إلى أن يرى الحق عين الكلب والخنزير، وعين العذرة، وقد أخبرني بعد الصادقين من فضلاء أهل [32] العلم أنه رأى شخصا ممن ينتحل هذه المقالة القبيحة بثغر الإسكندرية، وأن ذلك الشخص قال له: إن الله تعالى هو عين كل شيء، فمر بهما حمار، فقال2: وهذا الحمار؟ فقال3: وهذا الحمار؛ فروث الحمار من دبره، فقال4: له: وهذا الروث؟ فقال5: وهذا الروث، فنسأل الله السلامة والتوفيق6.
ـــــــ
1 أي: العراقي.
2, 4 يعني العالم الفاضل.
3، 5 أي: الصوفي.
6 ذكر الإمام ابن تيمية الصدوق مثل هذه القصة، فقال: "مر شيخان منهم التلمساني والشيرازي على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال الشيرازي للتلمساني: هذا "يشير إلى جثة الكلب الميت الأجرب" أيضا هو ذات الله؟ فقال: وله ثم شيء خارج عنها؟ نعم، الجميع ذاته" جـ1 ص145، مجموعة الرسائل الكبرى, ص105 مجموعة الرسائل والمسائل، وليس هذا بمستغرب ممن يدينون بأن الله سبحانه عين كل شيء. فالروث شيء، والجيفة المنتنة شيء، والخنزير شيء، والبغي الهلوك شيء، والأحمق المأفون شيء، وحسب الصوفية أن تكون هذه بعض أربابهم وآلهتهم!!(190/123)
تعليلهم لإنكار موسى على السامري:
قال ابن عربي: وكان موسى يربي هارون عليهما السلام تربية علم، وإن كان أصغر منه في السن، ولذلك لما قال له هارون ما قال، رجع إلى السامري، فقال له: {فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه: 95] يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص، وصنعك هذا الشبح من حلي القوم، حتى أخذت بقلوبهم من أجل أموالهم1، وليس للصور بقاء، فلا بد من ذهاب صورة العجل لو لم يستعجل موسى بحرقه، فغلبت عليه الغيرة، فحرقه، ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم [نسفا]، وقال له: انظر إلى إلهك، فسماه2. إلها بطريق التنبيه، للتعليم؛ لما علم أنه3 بعض المجالي الإلهية "لأحرقنه" فإن حيوانية الإنسان لها التصرف من حيوانية الحيوان، لكون الله سخرها للإنسان، ولا سيما وأصله ليس من حيوان، فكان أعظم في التسخير4".
ـــــــ
1 يريد الزنديق بهذا تصويب عبادة العجل، فيزعم أن السامري لم يخطئ إلا في أنه فهم أن الذات الإلهية تعينت في العجل وحده، فدعا قومه إلى عبادته لهذا، على حين أن كل شيء -لا العجل وحده- هو الله, فلو أن السامري كان عارفا مكملا لأمر قومه بعبادة كل شيء مع عبادة العجل!! بيد أن السامري عند ابن عربي أعرف بالحقيقة من هارون، إذ علم -وهارون جهل- أن العجل إله حق يجب أن يعبد, لأنه مجلى إلهي! ثم يفسر الزنديق قول موسى للسامري: ما خطبك يا سامري. بما بيانه: لم دعوت قومي يا سامري إلى عبادة العجل وحده وأنت تعلم أنه ليس وحده كل تعينات الذات، بل واحدا منها، وتعلم أن كل شيء هو الله؟ لِم لم تدعهم يا سامري إلى الحق، فيعبدوا كل شيء، لا العجل وحده؟ هذا هو دين الزنديق يا شيوخ الطرق!!
2، 3 الضمير فيهما راجع إلى عجل السامري.
4 ص192 فصوص.(190/124)
ثم قرر1 أمر التسخير، وأن منه ما هو بالمال، ومنه ما هو بالحال، وأن ما هو بالحال مثل تسخير الطفل لأبيه بالقيام في مصالحه، وتسخير الرعايا للملك بقيامه في مصالحهم, قال. "وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون [في ذلك] مليكهم، ويسمى على الحقيقة تسخير المرتبة، فالمرتبة حكمت عليه بذلك، فالعالم كله يسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم مسخر. قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ [فِي] شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلط موسى [عليه] حكمة من الله ظاهرة في الوجود؛ ليعيد في كل صورة2، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك، فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد، إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، فلا بد من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد، والظهور بالدرجة في قلبه، ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل: رفيع الدرجة، فكثر الدرجات في عين واحدة، فإنه قضى، أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة، أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها.
الهوى رب الصوفية الأعظم:
وأعظم مجلى عبد فيه, وأعلاه الهوى، كما قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا بالله، ولا يعبد هو إلا بذاته3" ثم قال: "والعارف المكمل من رأي كل معبود مجلى للحق يعبد
ـــــــ
1 أي: ابن عربي.
2 يفتري على الله أنه يسخر الناس ليعبدوه في كل صورة، أي: ليعبد كل إنسان نفسه وغيره من جماد وحيوان فإله الصوفية عين كل كائن، وعين كل شهوة وعين كل جريمة. وعين كل فاحشة.
3 ص194 فصوص، وبهذا يوقن القارئ، أننا لم نتجن على الصوفية، فيما ذكرناه عنهم، فها هو شيخهم الأكبر يدعوهم في تلظي شهواته الفواجر، إلى عبادة الهوى، ويؤكد لهم أنه الرب الأعظم الذي اقترفه لهم هواء الصوفي، وهل الهوى العصوف سوى الشهوات العرابيد، والفسوق الغوي، والفواحش العرابيد، والفسوق الغوي، والفواحش والنزوات؟(190/125)
فيه، ولذلك سموه كلهم: إلها مع اسمه الخاص بحجر، أو شجر، أو حيوان، أو إنسان، أو ملك، أو كوكب1.
وحدة الأديان عند ابن الفارض:
قلت: وإلى هذا [33] أشار ابن الفارض بقوله:
فبي مجلس الأذكار سمع مطالع ... ولي حانة الخمار عين طليعة2
وما عقد الزنار3 حكما سوى يدي ... وإن حل بالإقرار بي، فهي حلت
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ... فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار توراة الكليم لقومه ... يناجي بها الأحبار في كل ليلة
وإن خر للأحجار في البد عاكف ... فلا تعد بالإنكار بالعصبية
فما زاغت الأبصار من 4 كل ملة ... وما زاغت الأفكار من 5كل نحلة
وما احتار من للشمس عن غرة صبا6 ... وإشراقها من نور إسفار غرني
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار في7 ألف حجة
ـــــــ
1 ص195 فصوص. وهذا نص صريح على دين الزنديق في وحدة الوجود ووحدة الأديان.
2، 4، 5 في الأصل: طليعتي, في, في.
3 ما على وسط النصارى والمجوس "القاموس".
6 مال.
7 في الأصل: من.(190/126)
فما عبدوا غيري1، وإن كان قصدهم. ... سواي وإن لم يعقدوا عقد نيتي
رأوا ضوء ناري مرة، فتوهمو ... ه نارا, فضلوا في الهدى بالأشعة
الإله الصوفي مجلى صور العالم:
وقال 2 في فص حكمة علوية في كلمة موسوية: "وجود الحق كانت الكثرة له، وتعداد الأسماء أنه كذا، وكذا بما ظهر عنه من العالم الذي يطلب بنشأته حقائق الأسماء الإلهية، فثبت3 به وبخالقه4 أحدية الكثرة، وقد كان أحدي العين من حيث ذاته، كالجوهر الهيولاني5، أحدي العين من حيث ذاته كثير بالصور الظاهرة فيه التي هو حامل لها بذاته، كذلك الحق بما ظهر منه من صور التجلي، فكان مجلى صور العالم مع الأحدية المعقولة6".
حكم ابن عربي بإيمان فرعون ونجاته:
ثم ذكر أخذ فرعون لتابوت موسى عليه السلام، وأنه أراد قتله، وأن امرأته رضي الله عنها قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فبه قرت عينها بالكمال الذي
ـــــــ
1 يحكم سلطان الزنادقة بأن أولئك جميعا, وهو المجوس، والوثنيون، واليهود، والنصارى مؤمنون موحدون، لم يعبدوا غير الله، إذ كل ما -أو من- عبدوه ليس شيئا غير الله.
2 أي: ابن عربي.
3، 4 في الأصل: فثبتت, ويخالفه.
5 الجوهر الفرد، أو الذرة، أو الجزء الذي لا يتجزأ.
6 ص200 فصوص.(190/127)
حصل لها، كما قلنا1، قال: "وكان قرة عين لفرعون2 بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرا مطهرا، ليس فيه شيء من الخبث؛ لأنه قبضه عند إيمانه قبل أن يكتسب شيئا من الآثام، والإسلام يجب ما قبله، وجعله آية على عنايته سبحانه وتعالى بمن شاء، حتى لا ييأس أحد من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون3.
ـــــــ
1 في الأصل: كما شهد لها به رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. وهو كما أثبته في الفصوص.
2 بهاشم الأصل ورد ما يأتي: "وفي التنزيل قالت امرأة فرعون {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} إلا ولي "كذا" سمعه فرعون، قال: قرة عين لك، وأمالي، فلا.
وفي الحديث: "والذي يحلف به لو أقر فرعون بأنه يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله عز وجل به، كما هداها ولكن الله سبحانه حرمه ذلك" كذا في بعض التفاسير".
وأقول: الذي في تفسير ابن كثير: "فأتت -أي: امرأة فرعون- فقالت: قرة عين لي ولك، فقال فرعون: يكون لك، فأما لي، فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والذي يحلف به، لو أقر فرعون، أن يكون له قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك" ثم قال ابن كثير: "وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار، أو غيره" ويا ويل المسلمين من كعب الأحبار، والكعوب الكثيرين من أمثاله اليوم!!
3 ص201 فصوص. وقد جاء بهامش الأصل "أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لما أغرق الفرعوني قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. قال جبريل: يا محمد، فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة" أقول: الحديث رواه كذلك أحمد عن ابن عباس، ونصه: قال رسول الله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. قال: قال لي جبريل: لو رأيتني، وقد أخذت عن حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن =(190/128)
رد هذه الفرية:
هذا نصه بحروفه مع العلم الضروري لكل من شم رائحة العلم من المسلمين وغيرهم أن فرعون ما نطق بالإيمان إلا عند رؤية البأس، وتصريح الله تعالى في غير آية من كتابه العزيز بأنه لا ينفع أحدا إيمانه عند ذلك1، وأن ذلك سنة الله التي قد خلت، ولن تجد لسنة الله تحويلا، وقوله في دعاء موسى عليه السلام {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] مع قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وقوله تعالى منكرا عليه2: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] وقوله: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون: 48] وقوله تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83], {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43] المنتج3 قطعا أن فرعون من أصحاب النار. وأما السنة، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر الصلاة يوما, فقال: "من حافظ عليها كانت
ـــــــ
= تناله الرحمة" ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حماد بن سلمة، وقال الترمذي: حديث حسن، وانظر ابن كثير في تفسير الآية.
1 ورد بهامش الأصل ما يأتي: "وفي ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} ..[الأنعام: 158] والآية في هامش الأصل مبتورة الكلمات.
2 أي: على فرعون إيمانه حين أدركه الغرق.
3 فاعل المنتج ضمير يعود على محذوف تقديره: القياس، فالمؤلف طوى في كلامه قياسا منطقيا من الشكل الأول صورته: فرعون مسرف، كل مسرف من أصحاب النار، وهذا ينتج قطعا: فرعون من أصحاب النار، دليل القضية الصغرى قوله تعالى: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] ودليل الكبرى {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43].(190/129)
له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة, ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور، ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان، وقارون، وأبي بن خلف" قال الحافظ المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير والأوسط، وابن ماجه في صحيحه، وقال الإمام أبو العباس ابن تيمية في الفتوى التي أجاب فيها الشيخ سيف الدين بن عبد المطلب بن بليان السعودي: "ويكفيك معرف بكفرهم -يعني ابن عربي وأتباعه- أن أخف أقوالهم: أن فرعون مات مؤمنا، وقد علم بالاضطرار عن دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن فرعون من أكفر الخلق بالله.
سؤال فرعون وجواب موسى:
ثم قال ابن عربي: "وهنا سر كبير فإنه -أي: موسى عليه السلام أجاب بالفعل لمن سألوه عن الحد الذاتي1- أي بقوله: وما رب العالمين، فجعل الحد
ـــــــ
1 الحد الذاتي هو أتم أقسام التعريف، إذ يتركب من الذاتيات المشتركة، والذاتيات الخاصة، أو كما يعبر المناطقة: من الجنس والفصل القريبين، وبهذا الحد تعرف ماهية الشيء وحقيقته، كما إذا أردنا تعريف المربع، فإنا نقول: هو شكل رباعي أضلاعه متساوية، وزواياه قائمة. وابن عربي في حديثه عن المحاورة بين موسى عليه السلام، وبين فرعون، يقول: إن فرعون سأل موسى عن الحد الذاتي لله، أي: عن حقيقته وماهيته. وهذا صحيح. فالسؤال بـ"ما" سؤال عن الماهية. بيد أن ابن عربي -وقد ذكر طرفا من حق- بنى عليه باطلا، بما نسبه زورا إلى موسى في جوابه عن سؤال فرعون، وقبل أن نبين هذا الذي بهت به الزنديق نبي الله، نعرض عليك ما فسر به الزمخشري سؤال فرعون وجواب موسى، فقد أجاد الزمخشري القول في نباغة من الفهم: "وهذا السؤال: يعني سؤال فرعون لموسى بقوله: ما رب العالمين. لا يخلو: إما أن يريد به: أي شيء هو من الأشياء التي شوهدت، وعرفت أجناسها؟ فأجاب -أي: موسى- بما يستدل به عليه من أفعاله الخاصة، ليعرفه أنه ليس بشيء مما شوهد وعرف من =(190/130)
الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم، أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال في جواب قوله: وما رب العالمين. قال: الذي تظهر فيه صورة
ـــــــ
= الأجرام والأعراض، وأنه شيء مخالف لجميع الأشياء، ليس كمثله شيء، وأما أن يريد به -أي: بسؤاله- أي شيء هو على الإطلاق؟ تفتيشا عن حقيقته الخاصة ما هي؟ فأجاب بأن الذي إليه سبيل -وهو الكافي في معرفته- معرفة ثباته بصفاته، استدلالا بأفعاله الخاصة على ذلك، وأما التفتيش عن حقيقته الخاصة التي هي فوق فطر العقول، فتفتيش عما لا سبيل إليه، والسائل عنه متعنت غير طالب للحق، والذي يليق بحال فرعون، ويدل عليه الكلام أن يكون سؤاله هذا إنكارا لأن يكون للعالمين رب سواه، لادعائه الإلهية، فلما أجاب موسى بما أجاب عجب قومه من جوابه، حيث نسب الربوبية إلى غيره، فلما ثنى بتقريره، جننه إلى قومه، وطنز به "أي: سخر واحتدم غيظا" حيث سماه: رسولهم، فلما ثلث بتقرير آخر، احتد واحتدم، وقال: لئن اتخذت إلها غيري. وهذا يدل على صحة هذا الوجه الأخير" انتهى من الكشاف للزمخشري. غير أن الزنديق ابن عربي يفسر جواب موسى عليه السلام بما يتفق وهوى ذندقته، وأسطورة الوحدة، إذ يزعم أن جواب موسى على سؤال فرعون: ما رب العالمين؟ هو: الذي تظهر فيه صورة العالمين، من علو -وهو السماء-وسفل -وهو الأرض- ثم يقول بعد: فلما جعل موسى المسئول عنه عين صور العالم، فتأمل كيف يفهم الزنديق، وكيف يجعل الحق باطلا هذا العربيد الخبل!! أية صلة بين ما نسبه إفكا وبهتانا وزورا إلى موسى عليه السلام، وبين ما أجاب به موسى من إشراق الحق والإيمان والتوحيد؟ وهو قوله: رب السموات والأرض، وما بينهما، وقوله: ربكم ورب أبائكم الأولين، وقوله: رب المشرق والمغرب وما بينهما. يجيب موسى بأن الله وحده رب كل شيء, فيفتري الزنديق على موسى بأنه أجاب: إن الله عين كل شيء، وهكذا يفهم الصوفية -سلفا وخلفا- كتاب الله، وبمثل هذا الأفق المجوسي يفسرون آيات الله، ومع هذا ما زلت تجد الأحبار مهطعين أذلاء لأبالسة التصوف، بل تجد قوما منهم يفخرون بأنهم أخذوا العهد على الأحداث من مخابيل المتصوفة المأفونين.(190/131)
العالمين من علو -وهو السماء- وسفل -وهو الأرض- إن كنتم موقنين1
فرعون عند الصوفية رب موسى وسيده:
ثم قال: "فلما جعل موسى المسئول عنه عين [صور] العالم2 خاطبه فرعون بهذا اللسان -والقوم لا يشعرون- فقال [له]: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] والسين في السجن من حروف الزوائد3" أي: لأسترنك، فإنك أجبت بما أيدتني به، أن أقول لك مثل هذا القول. فإن قلت لي: فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي -والعين واحدة- فكيف فرقت؟ فيقول فرعون: إنما فرقت المراتب العين4. ما تفرقت [العين]، ولا انقسمت في ذاتها, ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وغيرك بالرتبة5", ثم قال: "ولما كان فرعون في منصب التحكم
ـــــــ
1 ص208 فصوص الحكم.
2 من أين جاء الزنديق بهذا البهتان؟ وجواب موسى مبدوء في كل مرة بتقرير ربوبية الله وحده!! ولكنها الجرأة الوقاح التي لا تحفل بدين ولا لغة ولا عقل، ولا عرف عام أو خاص.
3 بل السين في هذه الكلمة حرف أصلي، مثلها في ستر، وسبح, وسبك ولكن ابن عربي -وقد افترى على الله الكذب كله- لا يعجزه أن يفتري على اللغة.
4 في الأصل: العين بالضم على اعتبار أنها فاعل فرقت. وهو خطأ صوبته من الفصوص. ويزعم الزنديق أن موسى قال لفرعون: كيف تتوعدني، وأنت تعلم أن ذاتي هي ذاتك، وهويتي هويتك. لأني وإياك عين الذات الإلهية، وفي وعيدك إياي إشعار لي بأنك تفهم أني غيرك، فكيف تفرق بين الرب وبين نفسه؟ فقال فرعون: نعم أنا أنت يا موسى في الحقيقة لأننا عين الذات، غير أن الرب المتعين في له التحكم في هويته التي تعينت فيك، فأنا غيرك في الرتبة، وإن كنت أنا عينك في الحقيقة.
5 ص209 فصوص.(190/132)
صاحب الوقت1، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي, لذلك قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] أي: وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قاله، لم ينكروه، وأقروا له بذلك، فقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] فالدولة لك, فصح قوله: أنا ربكم الأعلى، وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون، فقطع الأيدي والأرجل [35] وصلب بعين حق في صورة باطل2، لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل [فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها، لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت]، إذ لا تبديل لكلمات الله، وليس كلمات الله سوى أعيان الموجودات3، فينسب إليها القديم من حيث ثبوتها، وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها، كما تقول: حدث اليوم
ـــــــ
1 عرف الصوفية صاحب الوقت بأنه: "هو المتحقق بجمعية البرزخية، المطلع على حقائق الأشياء، الخارج عن حكم الزمان وتصرفات ماضيه ومستقبله إلى الآن الدائم، فهو ظرف أحواله وصفاته، فلذلك يتصرف في الزمان بالطي والنشر، وفي المكان بالقبض والبسط؛ لأنه المتحقق بالحقاق والطبائع في القليل والكثير والطويل والقصير والعظيم والصغير سواء، إذ الوحدة والكثرة والمقادير كلها عوارض، فكما تصرف في الوهم فيها، كذلك في العقل، فصدق وافهم تصرفه فيها في الشهود والكشف الصريح، فإن المتحقق بالحق، المتصرف بالحقائق يفعل ما يفعل في طور وراء طور الحس والوهم والعقل، ويتسلط على العوارض بالتغيير والتبديل" جامع الأصول في الأولياء ط 1328 للكمشخانلي.
2 يزعم أن فرعون حين صلب كان هو الله في الحقيقة متعينا في صورة باطلة هي صورة خلقية سميت فرعون.
3 أبى الزنديق إلا أن يكون كفره أشد خبثا من كفر النصارى، إذ زعموا أن حكمة الله تجسدت في عيسى، وزعم هو أن أعيان الموجودات كلها هي تجسدات كلمات الله، أو هي كلمات الله تعينت أجسادا، أو هي هي الله سبحانه.(190/133)
عندنا إنسان، أو ضيف، ولا يلزم من حدوثه أنه ما كان له وجود قبل الحدوث1".
حكم من ينسب ربوبية إلى فرعون:
قال الشيخ زين الدين العراقي: "قوله في قول فرعون: أنا ربكم الأعلى: أنه صح قوله ذلك، مستدلا عليه بأن السحرة صدقوه. كذب وافتراء على السحرة، فلقد كذبوه، وخالفوه، ودعواه كاذبة، وبها أخذ الله فرعون وأهلكه، فقال تعالى حكاية عنه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 24، 25] ثم قال: ولا شك أن من صح أنه قال هذا، واعتقده، مع وجود عقله، وهو غيره مكره، ولا مجبر الإجبار المجوز للكفر، فهو كافر ولا يقبل منه تأويلها على ما أراد، ولا كرامة، كما قدمنا ذكره، وهذا ما لا نعلم فيه خلافا بين العلماء بعلوم الشريعة المطهرة في مذاهب الأئمة الأربعة, وغيرهم من أهل الاجتهاد والصحيح. والله أعلم".
وهذا كما ترى مبطل لما يقوله بعضهم من الخرافات في تأويله ستر الكفر، وأن المراد به: فرعون النفس؛ لأنه نزل قوله على جل آيات القرآن جملة جملة، ومن المقطوع به أن الله تعالى ما أنزل هذه الآيات إلا في فرعون وموسى.
تحريم التأويل:
ولهذا قال الغزالي في الطامات من كتاب العلم من الإحياء -بعد تحريم التأويل بما لا تسبق الأفهام إليه- ما نصه: "وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانه قطعا، كتنزيل فرعون على القلب، فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا وجوده، ودعوة موسى عليه السلام له، كأبي جهل، وأبي لهب، وغيرهما من الكفار
ـــــــ
1 ص210 فصوص الحكم(190/134)
وليس من جنس الشياطين والملائكة، وما يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه1" ا. هـ.
رأي ولد العراقي في الفصوص والتائية:
وقال الإمام ولي الدين أحمد العراقي2 ابن الشيخ زين الدين المذكور في المسألة الحادية والعشرين من فتاويه المكية ما نصه، "لا شك في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شك فيه، وكذلك فتوحاته المكية، فإن صح صدور ذلك عنه، واستمر إلى وفاته، فهو كافر مخلد في النار بلا شك, وقد صح عندي عن الحافظ المزي3 أنه نقل من خطه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] كلاما ينبو عنه السمع, ويقتضي الكفر، وبعض كلماته لا يمكن تأويلها4،
ـــــــ
1 الغزالي نفسه في كتبه المضنون بها على غير أهلها من أشد المفرطين الغالبين في التأويل، بل من أشدهم جرأة على تجريد الألفاظ من معانيها, ثم تحميل الألفاظ معاني باطنية، لا تقرها دلالة من الدلالات اللغوية.
2 كنيته: أبو زرعة. ولد سنة 762 هـ، وتوفي سنة 826هـ.
3 هو الحافظ الجليل يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن عبد الملك، أبو الحجاج جمال الدين. ولد سنة 654 بالمعقلية بظاهر حلب. سمع منه ابن تيمية -وقد أوذي المزي بسببه- والذهبي، وابن سيد الناس. توفي سنة 742.
4 جاء بهامش الأصل: "قال -يعني ابن عربي- عليه من الله ما يستحق.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
إيجاز البيان فيه: يا محمد إن الذين كفروا ستروا محبتهم في عنهم، فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلناك به، أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك، فإنهم لا يعقلون غيري، وأنت تنذرهم بخلقي, وهم ما عقلوه، ولا شاهدوه، وكيف يؤمنون بك، وقد ختمت على قلوبهم، فلم أجعل فيها متسعا لغيري. وعلى سمعهم؛ =(190/135)
والذي يمكن تأويله منها كيف يصار إليها مع مرجوجية التأويل، وأن الحكم إنما يترتب على الظاهر، وقد بلغني عن الشيخ علاء الدين القونوي -وأدركت أصحابه- أنه قال في مثل ذلك: إنما يؤول كلام المعصومين، وهو كما قال", [36] ثم ذكر كلام الذهبي1 فيه، وساق الأسانيد إلى ابن [عبد] السلام2 بما يأتي عنه من تكفيره، ثم قال: "وأما ابن الفارض، فالاتحاد في شعره، وأمرنا أن نحكم بالظاهر، وإنما نؤول كلام المعصومين، لكن علماء عصره من أهل الحديث رووا عنه في معاجمهم، ولم يترجموه لشيء من ذلك، فقال الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري3 في معجمه: الشافعي الأديب4 سمع من
ـــــــ
= فلا يسمعون كلاما إلا مني. وعلى أبصارهم غشاوة من [بهائي عند] مشاهدتي. فلا يبصرون غيرا. ولهم عذاب عظيم عندي أردهم بعد هذا المشهد السني إلى إنذارك. وأحجبهم عني كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى [قربا] وأنزلتك إلى من يكذبك. ويرد [ما جئت به إليه من] الكلام في وجهك. وتسمع في ما يضيق به صدرك. فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك. فهكذا إمناني على خلقي الذين أجنيتهم رضائي، فلا أسخط عليهم أبدا. إلى آخر ما ذكره بعده ذكر ذلك في الباب الخامس من الفتوحات المكية" ا. هـ.. وأقول: وقد راجعت هذا على الفتوحات، وأثبت عنها ما سقط من كاتب الهامش، ووضعته بين هذين [ ].
1 هو الحافظ الجليل محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد الله شمس الدين الذهبي ولد سنة 673 يقول عنه طاش كبرى زاده: كان إمام الوجود حفظا، وذهب العصر لفظا ومعنى، شيخ الجرح والتعديل، ورجل الرجال في كل سبيل. توفي سنة 748هـ.
2 هو عبد العزيز بن عبد السلام أبو محمد عز الدين. ولد سنة 578، ومن تلاميذ ابن دقيق العيد -وهو الذي لقب العز بسلطان العلماء- وتوفي سنة 660هـ.
3 ولد سنة 581 ومن مصنفاته مختصر سنن أبي داود -نشرته مطبعة السنة المحمدية في طبعة جيدة التحقيق والطبع-ومختصر مسلم، والترغيب والترهيب توفي سنة 656هـ.
4 يعني ابن الفارض.(190/136)
أبي القاسم ابن عساكر، وحدث: سمعت شيئا من شعره، وقال الحافظ رشيد الدين العطار في معجمه: الشيخ الفاضل الأديب كان حسن النظم متوقد الخاطر، وكان يسلك طريق التصوف، وينتحل مذهب الشافعي، وأقام في مكة مدة، وصحب جماعة من المشايخ.. وقال الحافظ أبو بكر بن مسدي1: برع في الأدب، فكان رقيق الطبع، عذب النبع، فصيح العبارة، دقيق الإشارة، سلس القيادة، نبيل الإصدار والإيراد، وتصرف فتصوف، فكان كالروض المفوف، وتخلق بالزي، وتزيا بالخلق، وجمع كرم النفس كل مفترق" انتهى كلام الشيخ ولي الدين. وما قاله هؤلاء الأئمة ليس فيه مناقضة لكلامه أولا في الحكم عليه بالاتحاد، فإنهم لم يقضوا على التائية ونحوها، وأما قوله: إن صح ذلك عنه، فهو على طريق من يعتبر في الكتب المشهورة إسنادا خاصا، وهي طريقة غير مرضية2، والصحيح أنها لا تحتاج إلى ذلك، بل الشهرة كافية3، والله الموفق.
رأي السكوتي:
وقال الإمام أبو علي ابن خليل السكوتي في كتابه: تحت العوام، فيما يتعلق
ـــــــ
1 هو محمد بن يوسف الأزدي الفرناطي قتل بمكة سنة 663، قال عنه الذهبي: "له أوهام، وفيه تشيع، ورأيت جماعة يضعفونه.
2 في الأصل: غير ضية.
3 ثبوت نسبة التائية إلى ابن الفارض حقيقة لا ينتطح فيها عنزان. ونحن لا يعنينا كونها له، أو لغيره، ما دام الصوفية أنفسهم، يقرون بنسبتها إليه، ويدينون بما فيها، بل ما سموه سلطان العاشقين إلا بها، ويؤمنون بأنها أروع تعبير عن الحب الإلهي الذي يجعل المحب عين الحب وعين الحبيب، ولكن ليغضب الصوفية لسلطان عاشقيهم ما شاءوا، وليتهموا منتقديه بعمى البصيرة، فكل هذا الدوي الراعد الجبانة لن يضيع دوي الحق معلنا في قوة وشجاعة وإيمان أن تصوف ابن الفارض ما هو إلا أخبث تعبير عن الزندقة.(190/137)
يعلم الكلام. بعد أن حذر من ابن عربي وأتباعه، فقال: "وليحترز من مواضع كثيرة من كلام ابن عربي الطائي في فصوصه وفتوحاته المكية، وغيرهما وليحترز أيضا من مواضع كثيرة من كلام ابن الفارض الشاعر وأمثاله، مما يشيرون بظاهره إلى القول بالحلول والاتحاد, لأنه باطل بالبراهين القطعية -ثم قال: وكل كلام وإطلاق يوهم الباطل، فهو باطل بالإجماع، فأحرى وأولى بطلانه إذا كان صريحا في الباطل، فإن قالوا: لم نقصد بكلامنا ورموزنا وإشاراتنا الاتحاد، والحلول، وإنما قصدنا أمرا آخر يفهم عنا، قلنا لهم: الله أعلم بما في الضمائر، وما يخفى في السرائر، وإنما اعترضنا نحن الألفاظ والإطلاقات التي تظهر فيها الإشارات إلى الإلحاد، والحلول، والاتحاد1" ا. هـ.
حكم من يؤول للصوفية كلامهم:
والفيصل في قطع التأويل من أصله أن محقق زمانه وصالحه علاء الدين محمد البخاري الحنفي ذكر عنده ابن عربي هذا، فقال قاضي المالكية إذ ذاك شمس
ـــــــ
1 الذي لا يحاسب على ما ينطق به هو المكره، أو المجنون، وهؤلاء ليسوا بمكرهين، فما ثم من يكرههم على الزندقة، بل كان ثم من يكرههم على الإيمان، فلم يحاولوا. وليسوا بمجانين. بإقرار عابديهم، وبدليل تلك اللامة المستلئمة في الكيد للإسلام ابتغاء صرف الأمة عنه، وابتغاء تمجيد الوثنية والإباحية، وإعلاء شهواتهما، كل هذا وهم يلبسون مسوح القديسين والزهاد، زاعمين أنهم الأرواح المطلقة التي تفرد في أقداس الجمال المطلق. فلم يبق إلا أن يكون لهم باعث وغاية، تلك هي القضاء على الإسلام. ألم تر إلى الزنادقة، كيف يلحون في دعوة الناس إلى عبادة القبور، والضراعة إلى الرمم؟ وكيف لا يشغلون لياليهم الساهرة على الإلحاد إلا بهذا، ولا الناس معهم إلا بتلك الوثنية. كل هذا ليدكوا -وما هم ببالغيه- أساس الإسلام المتين، وهو التوحيد؟.(190/138)
الدين محمد البساطي1: يمكن تأويل2 كلامه. فقال له البخاري: كفرت. وسلم له أهل عصره ممن كان في مجلسه، ومن غيرهم، وما طعن أحد منهم فيه بكلمة واحدة، وقد كان منهم حافظ العصر قاضي الشافعية بها شهاب الدين أحمد بن [37] حجر، وقاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقاضي القضاة محمود العيني الحنفي، والشيخ يحيى السيرامي الحنفي، وقاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي، وزيد الدين أبو بكر القمني الشافعي، وبدر الدين محمد بن الأمانة الشافعي، وشهاب الدين أحمد بن تقي المالكي3، وغيرهم من العلماء والرؤساء، وما خلص البساطي من ذلك إلا بالبراءة من اعتقاد الاتحاد، ومن طائفة الاتحادية، وتكفيره لمن يقول بقولهم.
ـــــــ
1 هو محمد بن أحمد بن عثمان أبو عبد الله شمس الدين. ولد سنة 760 وتولى القضاء بمصر عشرين سنة،. توفي سنة 842هـ.
2 في محاولة الدفاع عن الصوفية بالتأويل حجة بالغة على أن كلام الصوفية يجافي الحق من الكتاب والسنة، وإلا ما لجأ أحلاسهم إلى دعوى إمكان التأويل.
3 هو كما يقول صاحب الشذرات: شيخ الإسلام علم الأعلام حافظ العصر شهاب الدين أبو الفضل الشهير بابن حجر نسبة إلى آل حجر الكناني العسقلاني الأصل المصري المولد والدار والنشأة والوفاة. ولد سنة 773 وتوفي سنة 852هـ والتفهني نسبة تفهن قرية بمصر. ولد سنة 765 تقريبا. وتوفي سنة 835هـ والعيني ولد سنة 762هـ تولى منصب قاضي قضاة الحنفية بمصر توفي سنة 885هـ والسيرامي شيخ الشيوخ بمدرسة الظاهر برقوق. ولد قبل الثمانين وسبعمائة وتوفي سنة 833هـ. والبغدادي كان شيخ الحنابلة في عصره ومفتي الديار المصرية ولد سنة 765. وتوفي سنة 844هـ.
والقمني ولد سنة 758 ولي تدريس الصلاحية بالقدس والمنصورية والشريفية وتوفي سنة 833هـ.
والمتقي المالكي ولد بفوة سنة 785 تقريبا. وتوفي سنة 842هـ.(190/139)
أوهام الصوفية في الحكم بإيمان فرعون:
ثم قال ابن عربي: "وأما قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85]، {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ}1 فلم يدل ذلك على أنه لا ينفعهم في الآخرة، بقوله في الاستثناء: إلا قوم يونس، فأراد أن ذلك لا يرفع عنهم الأخذ في الدنيا، فلذلك أخذ فرعون مع وجود الإيمان منه2" ثم قال: "فآمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل على التيقن بالنجاة، فكان كما تيقن، لكن على غير الصورة التي أراد، فنجاه الله من عذاب الآخرة في نفسه، ونجى بدنه، كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92] لأنه لو غاب بصورته ربما قال قومه: احتجب، فظهر بالصورة المعهودة ميتا، ليعلم أنه هو] فقد عمته النجاة حسا ومعنى، ومن حقت عليه كلمة العذاب الأخروي3 لا يؤمن، ولو جاءته كل آية {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} أي: يذوقوا العذاب الأخروي4، فخرج فرعون من هذا الصنف, هذا هو الظاهر الذي ورد به القرآن, ثم إنا نقول بعد ذلك: والأمر فيه إلى الله، لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه، وما لهم نص في ذلك يستندون إليه 5" ا. هـ. وقد تقدم النص المنتج قطعا بديهة أنه من أهل النار. ثم قال: "ثم لعلم6 أنه
ـــــــ
1 يعني قوله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
2 ص211 فصوص.
3، 4 في الأصل: الأخراوي.
5 ص214 فصوص، وليس بعجيب أن ينكر الزنديق وجود نص في القرآن يدل على أن فرعون من أصحاب النار، وقد ذكر في هذا النص نفسه أن فرعون هو الرب الأعلى، وأنه أعظم من موسى.
6 في الأصل: وليعلم.(190/140)
ما يقبض الله أحدا إلا وهو مؤمن، أي: مصدقي بما جاءت به الأخبار الإلهية، أعني من المحتضرين، ولهذا يكره الموت الفجاءة، وقتل الغفلة1" ثم قال: "وأما حكمة التجلي والكلام في صورة النار، فلأنها كانت بغية موسى، فتجلى له في مطلوبه2" ثم قال: كنار موسى، رآها3 حين حاجته وهو الإله، ولكن ليس يدريه.
افتراء على الرسول, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وقال في فص حكمة فردية في كلمة4 محمدية: "وإنما حبب إليه النساء, فحن إليهن؛ لأنه من باب حنين الكل إلى جزئه5، فأبان بذلك عن الأمر
ـــــــ
1، 2 ص212 فصوص.
3 في الأصل: يراها.
4 نسبة لا إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل إلى الحقيقة المحمدية التي يزعم الصوفية أنها هي الذات مع التعين الأول، وأنها هي اسم الله الأعظم، وإذا كان كل شيء عند الصوفية هو أحد تعينات الذات الإلهية، فإن محمدهم -وحاشا رسولنا الأمين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو صور الحق كلها، لتحققه بالحقيقة الأحدية والواحدية.
5 محمد كما سبق هو صور الحق كلها عن الصوفية، والنساء عند الصوفية هن أجل تعينات الذات الإلهية، لهذا حن محمد الذي هو الكل إلى بعض تعيناته أو أجزائه، هكذا يصور الصوفية العلاقة بين ربهم المتعين في محمد، وبين ربهم المتعين في صور النساء، وللحب عندهم ناحيتان. إحداهما شوق الحق إلى الخلق، وأخراهما: شوق الخلق إلى الحق، وشوق الحق له اعتباران أو مظهران. أحدهما: اشتياقه إلى الظهور بعد البطون، أو التقييد بعد الإطلاق، وهذا يكون بتعينه في صور بدنية عنصرية. وأما أخراهما، فاشتياقه إلى العودة إلى الإطلاق، أو التجرد بعد التعين، فربهم دائما مشدود العاطفة بين الإطلاق، وبين التقييد، أو بين المرتبتين: الحقية والخلقية. أما شوق الخلق إلى الحق فله مظهر أو اعتبار واحد، هو التجرد من الصور الخلقية، ليعود حقا، أو وجودا مطلقا كما كان قبل تعينه، وليس اشتياق أحدهما اشتياق الشيء إلى غيره، بل إلى نفسه، ودائما ترى زعماء =(190/141)
في نفسه من جانب الحق في قوله في هذه النشاة الإنسانية العنصرية: ونفخت فيه من روحي، ثم وصف نفسه بشدة الشوق إلى لقائه، فقال للمشتاقين: يا داود إني أشد شوقا إليهم1".
التثليث عند الصوفية:
ثم ذكر العبد المؤمن، وأنه لا يرى ربه إلا بعد الموت، فاشتاق الحق لوجود هذه النسبة، يعني رؤية المؤمن له تعالى بالموت، ثم قال: "فلما أبان أنه نفخ فيه من روحه، فما اشتاق إلا إلى نفسه, ألا تراه خلقه على صورته؛ لأنه من روحه، ولما كانت نشأته من هذه الأركان الأربعة المسماة [38] في جسده2 أخلاطا حدث عن نفخة اشتعال بما في جسده من الرطوبة، فكان روح الإنسان نارا, لأجل نشأته, ولهذا ما كلم الله تعالى موسى إلا في صورة النار [وجعل حاجته فيها، فلو كانت نشأته طبيعية، لكان روحه نارا]، وكنى عنه بالنفخ يشير إلى أنه من نفس الرحمن3، فإنه بهذا النفس الذي هو النفخة ظهر عينه [وباستعداد المنفوخ فيه كان الاشتغال نارا لا نورا] فبطن نفس الرحمن فيما كان
ـــــــ
= الصوفية يلهجون بذكر النساء، ويرونهن أكمل وأجمل وأتم تعينات الذات الإلهية ومجاليها، كما رأيت من ابن الفارض وابن عربي، وكما سترى بعد. وهذا يجعلك تؤمن بأن هناك في أعماق التصوف حيوانا ضاريا يستعبده الشبق والغلمة الداعرة، ويستعلن دائما بالصريخ الملتهب عما يزلزله من رجفات الشهوات العارمة، وينزو بعربدته على كل مقدسات الدين ومحارم الفضيلة، وتؤمن كذلك أن من مقومات التصوف عبادة المرأة وتعرف عن يقين لماذا يبحث الصوفية عن درويشات يسلكن معهم طريق القوم!!
1 ص215 فصوص.
2 في الأصل: حده.
3 في الأصل: الحق.(190/142)
[به] الإنسان إنسانا، ثم اشتق له [منه] شخصا على صورته سماه: امرأة، فظهرت بصورته, فحن إليها حنين الشيء إلى نفسه، وحنت إليه حنين الشيء إلى وطنه, فحببت1 إليه النساء، فإن الله أحب من خلقه على صورته، وأسجد له ملائكته [النوريين على عظم قدرهم ومنزلتهم، وعلو نشأتهم الطبيعية] فمن هناك وقعت المناسبة، والصورة أعظم مناسبة، وأجلها وأكملها، فإنها زوج أي: شفعت وجود الحق، كما أن هناك المرأة شفعت بوجودها الرجل، فصيرته زوجا، فظهرت2 الثلاثة: حق ورجل وامرأة3. فحن الرجل إلى ربه الذي هو أصله حنين المرأة إليه، فحبب إليه ربه النساء، كما أحب الله من هو على صورته4" انتهى وقد علم من هنا قطعا أنه يريد بالصورة في خلق آدم على صورته معناها المتعارف5.
رب الصوفية امرأة:
ثم قال: "فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة كان شهودا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه من حيث ظهور المرأة عنه شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من [غير] استحضار صورة ما كان شهودا6 في منفعل عن الحق بلا واسطة، فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل؛ لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل
ـــــــ
1، 2 في الأصل: فحبت, ظهره.
3 هذا هو التثليث عند ابن عربي، وهو بعض ما استمده من المسيحية المفلسفة، بيد أنه زاد الكفر شناعة، فقال بثالوث هو "حق ورجل وامرأة" الثلاثة إله واحد.
4 ص216 فصوص.
5 لا بل يريد بالصورة غير هذا، يريد بها هوية الذات، يعني أن هوية آدم وماهيته عين هوية الحق وماهيته.
6 في الأصل: شهوده.(190/143)
منفعل1، ومن نفسه من حيث هو منفعل خاصة فلهذا أحب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النساء، لكمال شهود الحق فيهن، إذ لا يشاهد الحق مجردا عن المواد أبدا2، فإن الله بالذات غني عن العالمين، وإذا 3 كان الأمر من هذا الوجه ممتنعا،
ـــــــ
1 الرجل والمرأة عند ابن عربي صورتان من صور الله، يعني حقيقته تتجلى في صورتي رجل وامرأة، وفي حال المواقعة يسمى الرجل فاعلا, والمرأة منفعلة. ويدين الزنديق بأن ربه فاعل منفعل معا, فهو فاعل لتعينه في صورة رجل، وهو منفعل لتعينه في صورة امرأة مع رجل. ولما كانت المرأة -هكذا يصور الزنديق- تعتبر فاعلة، لشدة تأثيرها في الرجل في تلك الحالة العاصفة بالشهوة، فإن شهود الإله الصوفي في المرأة الهلوك أتم وأكمل، إذ يشاهد فيها في صورة فاعل ومنفعل.
وهنا يبدو خطر التصوف الجامح على الخلق والعرض والأمة, ماذا يفعل الصوفي وهو يؤمن أن المرأة هي أتم وأكمل مجالي الإله؟ ماذا سيحدث معه وهو يوقن أن ربه امرأة يواقعها رجل؟ اعفني من الجواب؛ لأنك ستدرك الجواب، ستدرك أن التصوف دعوة ملحة إلى الإباحية الماجنة، وهذا يؤكد لك ما قررته من قبل، وهو أن لحيوان الشهوة المعربد في أعماق ابن عربي أثرا بعيدا في تصوفه، فقد تدله -وهو بمكة حين زارها سنة 598 هـ-بحب غانية هي ابنة الشيخ مكين الدين الأصفهاني، ولكنها لم تهدهد من نزواته الفواجر، ولم ترد غلة ذئبه الظامئ إلى الدم، فنظم -يستدرجها إلى الغواية- فيها ديوان شعره المسمى: ترجمان الأشواق، وابن عربي نفسه يقر بأنه نظم ديوانه هذا تشبيبا بتلك الغانية القتول، وحين عصفت الفضيحة بهواه، فر هاربا من مكة، حتى لا يجابه عار الفضيحة، بيد أن الهوى ظل يعصف به، ويلهبه، وثمت نفس عن جحيمه بخيالات زندقته، فراح يصور ربه في صورة امرأة، ويزعم أنه يتجلى -أجمل وأحلى ما يتجلى- في صورة امرأة تقترف. كل هذا من أجل امرأة لم تستطع شهوته أن تضرس منها اللحم، وتعرق العظم.
2 أي: لا بد للإله الصوفي من جسد يتعين فيه، فتأمل!.
3 في الأصل: فإذا.(190/144)
ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود1 وأكمله [ وأعظم الوصلة النكاح2] وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته، ليخلفه، فيرى فيه نفسه، فسواه، وعدله، ونفخ فيه من روحه الذي هو نفسه، فظاهره خلق، وباطنه حق3".
وهذا يدلك على أن الإله عنده كالكلي الطبيعي4، لا وجود له إلا في ضمن جزئياته، والله الموفق.
ثم قال: "فمن أحب النساء على هذا الحد، فهو حب إلهي، ومن أحبهن على جهة الشهوة الطبيعية خاصة نقصه علم هذه الشهوة، فكان صورة بلا روح عنده، وإن كانت تلك الصورة في نفس الأمر ذات روح، ولكنها غير مشهودة لمن جاء لامرأته، أو لأنثى حيث كانت لمجرد الالتذاذ، ولكن لا يدري: لمن؟! فجهل من نفسه ما يجهل الغير منه ما لم يسمه هو بلسانه حتى يعلم، كما قال بعضهم:
صح عند الناس أني عاشق ... غير أن لم يعرفوا عشقي لمن
كذلك هذا. أحب الالتذاذ، فأحب [39] المحل الذي يكون فيه، وهو المرأة، ولكن غاب عنه روح المسألة، فلو علمها، لعلم بمن التذ، ومن التذ؟!5 وكان كاملا، وكما نزلت المرأة عن درجة الرجل بقوله:
ـــــــ
1 في الأصل: شهود.
2 يعني به: ما له من معنى في أذهان العامة، لا الزواج.
3 ص217 فصوص الحكم.
4 الكلي هو ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، كالإنسان، ويمسي كليا طبيعيا باعتبار وجوده في الخارج أي: في الطبيعة، والكلي الطبيعي جزء جزئيه، فلا وجود له إلا في ضمن جزئياته، أعني ليس له وجود خاص به، قائم بذاته، وإنما يوجد بوجود أفراده، وهكذا الإله الصوفي.
5 يقول: لو تأمل الرجل الملتذ بالمرأة، لعلم أنه ليس مع امرأة، بل مع الإله الصوفي، وأنه ليس هو الملتذ، بل الإله الذي تعين فيه، وأعتذر للقراء عن =(190/145)
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 288] نزل المخلوق على الصورة عن درجة من أنشأه على صورته، مع كونه على صورته، فبتلك الدرجة التي تميز عنه بها كان غنيا عن العالمين، وفاعلا أولا، فإن الصورة فاعل ثان، فماله الأولية التي للحق، فتميزت الأعيان بالمراتب، فأعطى كل ذي حق حقه كل عارف، فلهذا كان حب النساء لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن تحبب إلهي [وأن الله أعطى كل شيء خلقه، وهو عين حقه، فما أعطاه إلا باستحقاق استحقه بمسماه أي بذات ذلك المستحق] وإنما قدم النساء -أي: في قوله, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حبب إليّ من الدنيا" النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"1..؛ لأنهن محل الانفعال كما تقدمت الطبيعة على من وجد منها بالصورة, وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني، فإن فيه انفتحت صورة العالم أعلاه وأسفله2".
الأنوثة صفة الإله الصوفي:
ثم قال: إنه عليه الصلاة والسلام غلب في هذا الخبر التأنيث على التذكير؛ لأنه قصد التهمم بالنساء فقال: ثلاث، ولم يقل: ثلاثة بالهاء الذي هو لعدد الذكران؛ إذ فيها ذكر الطيب, وهو منكر، وعادة العرب أن تغلب التذكير
ـــــــ
ذكر هذا النتن الإباحي الصوفي, فإنا بصدد هتك القناع عن فاحشة آثمة تتراءى في شف من القدسية والروحانية، وتمزيق الستر عن خبيث يقترف الجريمة وهو ريان السجود في المحاريب، وتبصير المسلمين بمجوسية التصوف، وما تكيد به لهم، حتى يعتصموا بحبل الله وحده.
1 أخرجه أحمد والنسائي والحاكم والطبراني والبزار وابن أبي شيبة، وقد أعله ابن عدي والدارقطني والعقيلي, وليس في شء من طرقه لفظ ثلاث. انظر تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر، وتمييز الطيب من الخبيث للشيباني، وبهذا ينهدم كل ما بناه الزنديق ابن عربي من التثليث، وما هول به من تأنيث الإله على لفظ "ثلاث" التي ليست في الحديث قط على ضعفه.
2 ص218 فصوص.(190/146)
[على التأنيث]1, ثم قال: "ثم إنه جعل الخاتمة نظيرة الأولى في التأنيث وأدرج بينهما المذكر، فبدأ2 بالنساء، وحكم بالصلاة، وكلتاهما تأنيث، والطيب بينهما "كهو3" في وجوده، فإن الرجل مدرج بين ذات ظهر عنها وبين امرأة ظهرت عنه، فهو بين مؤنثين تأنيث ذات، وتأنيث حقيقي, كذلك النساء تأنيث حقيقي, والصلاة تأنيث غير حقيقي، والطيب مذكر بينهما, كآدم بين الذات الموجود هو عنها، وبين حواء الموجودة عنه، وإن شئت، قلت: القدرة، فمؤنثة أيضا، فكن على أي مذهب شئت، فإنك لا تجد إلا التأنيث يتقدم، حتى عند أصحاب العلة الذين جعلوا الحق علة في وجود العالم، والعلة مؤنثة.
الإله الصوفي بين التقييد والإطلاق
ثم قال: "وثم مرتبة يعود الضمير على العبد المسبح فيها في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] أي: بحمد ذلك الشيء5، فالضمير الذي في
ـــــــ
1 ص219 فصوص وكل ما بين هذين [ ] ساقط من الأصل، وأثبته عن الفصوص.
2 في الأصل: فبداء. ويظهر أن الناسخ كان يرسم الهمزة التي من هذا القبيل هكذا دائما.
3 الهو عند الصوفية: هو اعتبار الذات بحسب الغيبة والفقد.
4 ص220 فصوص.
5 معنى الآية: ما من شيء إلا ويسبح بحمد الله رب العالمين، ولكن ابن عربي يرجع الضمير في قوله: بحمده، على لفظة شيء ليتواءم هذا البهتان الزنديقي، ومذهبه في الوحدة، فيكون معنى الآية عنده: ما من شيء إلا ويسبح بحمد نفسه لأن الله سبحانه عنده عين كل شيء، فإذا سبح شيء، فالمسبح عنده والمسبح له هو الله سبحانه عما يقول الصوفية.(190/147)
[قوله]: بحمده، يعود على الشيء، أي: بالثناء الذي يكون عليه، كما قلنا في المعتقد أنه [إنما] يثني على الإله الذي في معتقده، وربط به نفسه، وما كان من عمله، فهو راجع إليه، فما أثنى إلا على نفسه، فإنه من مدح الصنعة، فإنما مدح الصانع بلا شك، فإن حسنها وعدم حسنها راجع إلى صانعها، وإله1 المعتقد مصنوع للناظر فيه، فهو صنعه2، فثناؤه على ما اعتقده ثناؤه على نفسه ولهذا يذم معتقد غيره, ولو أنصف لم يكن له ذلك, إلا أن صاحب هذا المعبود الخاص جاهل بلا شك3 في ذلك لاعتراضه [40] على غيره فيما اعتقده في الله، إذ لو عرف ما قال الجنيد: لون الماء لون إنائه، لسلم لكل ذي اعتقاد ما اعتقده وعرف الله في كل صورة، وكل معتقد، فهو ظان ليس بعالم، ولذلك4 قال: "أنا عند ظن عبدي بي5". أي: لا أظهر له إلا في صورة معتقده، فإن شاء أطلق، وإن شاء قيد، فإله المعتقدات تأخذه الحدود, وهو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء6، وعين نفسه7.
ـــــــ
1 في الأصل: والإله.
2 في الأصل: صنعته.
3 يحذر المؤمن أن يذم دين الكافر، والموحد أن يذم دين المشرك، والمسلم أن يذم دين وثني أو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، فذم أي دين -وإن كان سداه الأسطورة ولحمته الخرافة- جهل عميق بالحقيقة، فهؤلاء جميعا دينهم واحد، ومعبودهم في الحقيقة -وإن اختلفت نسبه أو إضافاته، أو أسماؤه- واحد، بل إنهم جميعا عين واحدة، إذ كل واحد منهم أحد تعينات الذات الإلهية، ومعبوداتهم في حقيقتها الرب الواحد؛ لأنها الحق تجلى في صور هذه المعبودات، ودينهم واحد لأن الحق المتعين في كل واحد منهم هو الذي شرع هذا الدين وارتضاه، وذلك البهتان هو دين الزنديق ابن عربي, وهذا هو نص ما يريده.
4 في الأصل: فلذلك.
5 متفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا، بيد أن تفسير الزنديق له إفك أثيم.
6 باعتبارها تعيناته أو ظاهره.
7 باعتبارها وجودا مطلقا، أو حقا أو باطنا.(190/148)
والشيء ولا يقال فيه: يسع نفسه، لا يسعها, فافهم.1.
قلت: وهذا أراد ابن الفارض بقوله:
فلو أنني وحدت، ألحدت، وانسلخـ ... ـت من أي جمعي مشركا بي صنعتي
دعاء ومباهلة:
هذا آخر الكتاب2، المباعد للصواب، المراد للشك والارتياب، لعنة3 الله على معتقده، ورحمة الله على منتقده، قد تم -ولله الحمد- ما أردت انتقاده منه، مترجما بسوء السيرة وقبح السريرة عنه، وانتهى ما وقع انتقادي عليه، وأداني اجتهادي إليه: من واضح كفره، ودقيق مكره، وجلي شره، أعاذنا الله بحوله وقوته من شكوكه، وعصمنا من زيغ طريقه، وباعدنا من سلوكه، ورأيت أن أختم ذلك بحكاية طالما حدثنا بها شيخنا شيخ الإسلام حافظ العصر، قاضي القضاة، أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر الكناني، العسقلاني الأصل، المصري الشافعي، ثم رأيتها منقولة عن كتاب الحافظ تقي الدين الفاسي4 في تكفير ابن عربي، وقد أصلح شيخنا بعضها بخطه، قال: "كان في أيام الظاهر برقوق5 شخص يقال له: ابن الأمين شديد التعصب لابن عربي صاحب هذه الفصوص، وكنت أنا كثير البيان لعواره، والإظهار لعاره وعثاره،
ـــــــ
1 ص226 فصوص.
2 يقصد فصوص الحكم.
3 في الأصل: لعنه.
4 هو محمد بن أحمد بن علي ولد بمكة سنة 775، وتوفي سنة 832هـ ولي قضاء المالكية بمكة.
5 مؤسس دولة المماليك البرجية، واستمر يحكم من سنة 784 إلى أن توفي عن 60 عاما سنة 801.(190/149)
وكان بمصر شيخ يقال له: الشيخ صفا، وكان مقربا عند الظاهر، فهددني المذكور بأنه يعرفه بي، ليذكر للسلطان أن بمصر جماعة أنا منهم، يذكرون الصالحين بالسوء، ونحو ذلك، وكانت تلك الأيام شديدة المظالم والمصائب والمغارم، وكنت ذا مأل1، فخفت عاقبته، وخشيت غائلته، فقلت: إن هنا ما هو أقرب مما تريد، وهو أن بعض الحفاظ قال: إنه وقع الاستقراء بأنه ما تباهل اثنان على شيء, فحال الحول على المبطل منهما، فهلم، فلنتباهل، ليعلم المحق منا من المبطل، فتباهلت أنا وهو، فقلت له: قل: اللهم إن كان ابن عربي على ضلال، فالعني بلعنتك، فقاله، فقلت أنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعني بلعنتك وافترقنا، وكان يسكن الروضة، فاستضافه شخص من أبناء2 الجند جميل الصورة، ثم بدا له أن يتركهم، فخرج في أول الليل، فخرجوا يشيعونه فأحس بشيء مر على رجله3، فقال لأصحابه: مر على رجله شيء ناعم، فانظروا ما هو؟ فنظروا [41] فلم يجدوا شيئا، فذهب، فما وصل إلى منزله إلا وقد عمي، ولم يصبح إلا وهو ميت، وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وسبعمائة، وكانت المباهلة في رمضان منها، قال: وكنت عند وقوع المباهلة عرفت من حضر أن من كان مبطلا في المباهلة لا تمضي عليه السنة، فكان ولله الحمد ذلك، واسترحت من شره، وأمنت من عاقبة مكره".
المكفرون لابن عربي:
وقد صرح بكفر هذا الرجل4، ومن نحا نحوه في مثل هذه الأقوال الظاهرة
ـــــــ
1 كذا بالأصل ولعلها: مال.
2 في الأصل: ابنا.
3 لعلها رجلي، إلا أن تكون على سبيل الحكاية.
4 يقصد ابن عربي.(190/150)
في الضلال جماعة من العلماء الأعلام مشايخ الإسلام، ما نقل عنهم الإمام شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي حجلة التلمساني الحنفي في كتابه الذي صنفه في ذلك، وكذا نقل بعض ذلك الإمام سيف الدين عبد اللطيف بن بلبان السعودي1 الصوفي في جزء نقله عنه أحمد بن أقش الحراني، قال: "وقد كتب كل من راقب الله تعالى، وخشيه، وامتنع كل من التبسه مخافة غيره، وغشيه، فالذي كتب قام لله تعالى بلوازم فرضه، والذي امتيح2 فهو المسئول عن ذلك في يوم عرضه، فإن زعم أنه ترك خوف الفتنة من المخالفين، فتلك محنة في الدين بما وجب على كل عالم من التبيين".
وكذلك نقل الفتاوي العلامة بدر الدين حسين بن الأهدل، شيخ أبيات حسين ببلاد اليمن في تصنيفه المسمى: كشف الغطا عن حقائق التوحيد، فالمنكرون منهم سلطان العلماء عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القسم السلمي الشافعي، كما نقل ذلك عنه شيخ الإسلام تقي الدين محمد بن دقيق العيد، قال الحافظ شمس الدين محمد، الذهبي في معجمه3: "حدثني محمد المفيد. حدثنا أبو الفتح اليعمري، سمعت أبا الفتح محمد بن علي القشيري، سمعت شيخنا ابن عبد السلام يقول -وجرى ذكر ابن العربي الطائي- فقال: هو شيخ سوء كذاب4" وقال الصلاح خليل الصفدي في تاريخه: "سمعت أبا الفتح ابن سيد الناس5 يقول: سمعت ابن دقيق العيد يقول: سألت ابن عبد السلام
ـــــــ
1 ولد سنة 650 تقريبا، وتوفي سنة 736هـ.
2 لعلها: امتنع.
3 ذكر هذا في ميزان الاعتدال.
4 في الميزان: شيعي سوء كذاب.
5 هو محمد بن محمد بن محمد بن سيد الناس أبو الفتح فتح الدين الحافظ الأديب. ولد سنة 671هـ وتوفي سنة 734هـ.(190/151)
عن ابن عربي، فقال: هو شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، وقال شيخنا العلامة محمد1 بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف [ويعرف2] بابن الجرزي الشافعي في جواب أجاب فيه بكفره، كما حكاه عنه ابن الأهدل: ولقد حدثنا شيخنا شيخ الإسلام الذي لم تر عيناي مثله عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير من لفظه غير مرة، حدثني شيخ الإسلام العلامة قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي3، حدثنا الشيخ العلامة شيخ الشيوخ قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري المعروف بابن دقيق4 العيد القائل في آخر عمره: لي أربعون [42] سنة ما تكلمت بكلمة إلا أعددت لها جوابا بين يدي الله تعالى، قال: سألت شيخنا سلطان العلماء عز الدين أبا محمد عبد العزيز بن عبد السلام الدمشقي عن ابن عربي، فقال: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا" ا. هـ. وقال ابن تيمية5 في جواب السيف
ـــــــ
1ولد الجزري بدمشق سنة 751هـ وتوفي سنة 814هـ.
2 ساقطة من الأصل، وأثبتها عن الضوء اللامع.
3 ولد سنة 683هـ، وتوفي بالقاهرة سنة 756هـ ولي قضاء دمشق والخطابة بالجامع الأموي، وكان من خصوم ابن تيمية، غير أنه عاد فأثنى عليه ثناء مستطابا.
4 ولد بناحية ينبع سنة 625هـ وتوفي سنة 702هـ يقول عنه الذهبي: كان إماما متقنا مجودا مديم السنن والجمع وله اليد الطولى في الفروع والأصول.
5 أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي علم الأعلام الإمام الصبار الشكور. يقول عنه خصمه تقي الدين السبكي -وقد عاتبه الحافظ الذهبي على ما نال به من قدر ابن تيمية: "المملوك "يعني نفسه" يتحقق كبير قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية "يعني بكل هذا ابن تيمية" وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام به، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان" انتهى نقلا عن الدرر الكامنة لابن حجر. ولد ابن تيمية سنة 661هـ، ومات سجين البغي بقلعة دمشق سنة 728هـ.(190/152)
السعودي "فكفر الفقيه أبو محمد بذلك، ولم يكن بعد ظهر من قوله: إن العالم هو الله, والعالم صورة الله، وهوية الله" قال السيف المذكور: ثم تابعه في الإنكار الشيخ الإمام بركة الإسلام قطب الدين ابن القسطلاني، وحذر الناس من تصديقه، وبين في مصنفاته فساد قاعدته، وضلال طريقه في كتاب سماه: بالارتباط. ذكر فيه جماعة من هؤلاء الأنماط. ومنهم قاضي القضاة قدوة أهل التصوف إمام الشافعية بدر الدين محمد بن جماعة قال: "وحاشا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يأذن في المنام فيما يخالف، أو يضاد قواعد الإسلام1، بل ذلك من وساوس الشيطان ومحنته، وتلاعبه برأيه وفتنته، وأما إنكاره -يعني ابن عربي- ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد، فهو كافر به عند علماء التوحيد، وكذلك قوله في نوح وهود عليهما السلام قول لغو باطل مردود2" والقدوة العارف عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي3، وقال: إنه علق في ذم هذه الطائفة4 ثلاث كراريس، الأول سماه: البيان المفيد في الفرق بين الإلحاد والتوحيد، الثاني: لوامع الاسترشاد في الفرق بين التوحيد والإلحاد، والثالث: أشعة النصوص في هتك أستار الفصوص. كل ذلك ليبقى المؤمنون منهم على بصيرة، يحذرون من طرقهم وزندقتهم. وحاصل ذلك كله بكلام وجيز مختصر:
ـــــــ
1 رد على ما زعمه ابن عربي في خطبة الفصوص أنه رأى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في النوم، وأنه قال له: هذا كتاب الفصوص خذه واخرجه به إلى الناس ينتفعون به، وعلى ما زعمه ابن الفارض من مثل هذا بالنسبة للتائية الكبرى.
2 انظر نص هذه الفتوى في العلم الشامخ للمقبلي ص494.
3 ولد سنة 657هـ وتوفي سنة 711هـ.
4 طائفة ابن عربي ومن دان دينه.(190/153)
"أن هؤلاء جميع ما يبدونه من الكلام الحسن في مصنفاتهم إنما هو ربط واستجلاب، فإن الدعاة إلى البدعة إن لم يكونوا ذوي بصيرة يستدرجون الخلق في دعوتهم، حتى يحلوهم عن أديانهم لا يستجاب لهم، هذا ابن عربي عنده في أصوله: أنه يجعل المعدومات أشياء ثابتة -علويها وسفلها- قبل وجودها، فهي عنده ثابتة في القدم، لكن ليس لها وجود، ثم أفاض الحق عليها من وجوده الذاتي فقبل كل موجود من وجود عين الحق بحسب استعداده، فظهر الكون بعين وجود الحق، فكان الظاهر هو الحق، فعنده: أنه لا وجود إلا للحق، ويستحيل عنده أن يكون ثم وجود محدث، كما يقوله أهل الحق؛ فإنهم يقولون وجود قديم، ووجود حادث1، وهذا عنده، وعند أصحابه: أنه ليس بوجود حادث، وليس ثم إلا وجود الحق الذاتي، وهو الذي فاض على الأعيان والممكنات
ـــــــ
1 ليس هذا التقسيم من صنع أهل الحق، وإنما هو بدعة الفلسفة ومخانيثهم علماء الكلام، والله العليم الحكيم الخبير لم يسم نفسه بالقديم، ولا وصف وجوده أو ذاته بالقدم، وما ورد أحدهما -الاسم والصفة- على لسان أحد من رسله، ولا استعملت في كتاب الله فيما استعملتها فيه الفلسفة، وإليك مواردها في القرآن: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}, {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} ، {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} فهل تجد آية من هذه الآيات أعطت مفهوم القدم، والقديم كما هو في الفلسفة والكلام؟ وهل تجده بحيث يصح إطلاقه على الله ووجوده؟ قارن بين القدم في الفلسفة والكلام، وبينه في القرآن إذ يصف الإفك والعرجون والضلال بالقدم، وستخرج من هذه المقارنة بأنه لا يجوز وصف الله به وفي اللغة تقول عن شيء سلف زمانه: إنه قديم، وعن الثوب الرث: إنه قديم. هذا مدلول الكلمة في اللغة التي نزل بها كتاب الله، والتي يجب أن يفسر بها وحدها القرآن، فليقولوا: خالق ومخلوق، وليقولوا عن الله ما قاله عن نفسه "هو الأول والآخر والظاهر والباطن(190/154)
[43] فهو موجود بعينه1، ومن شك أن هذا اعتقاده فليراجع كتبه الفصوص وغيرها، وعنده أنه لما فاض على الأكوان عين وجود الحق، كان هو الظاهر فيها بحكم الوجود، وكانت هي الظاهر فيه بحكم الأسماء، فإنها كثيرة متعددة2، وعنده أن الكون افتقر إلى الحق بسبب إفاضة الوجود، وأن الحق أيضا افتقر إلى الكون لظهور أسمائه، وكل منهما يعبد الآخر".
فتوى الجزري:
ومنهم العلامة شمس الدين محمد بن يوسف ابن الجزري جد شيخنا العلامة شمس الدين، قال:3 "وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر، وقوله: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه كلام باطل متناقض، وهو كفر، وقوله في قوم [هود4]: وحصلوا في عين القرب افتراء على الله تعالى، ورد لقوله فيهم، وقوله: زال البعد وصيرورة5 جهنم في حقهم نعيما كذب، وتكذيب للشرائع، وأما من يصدقه فيما قال، فحكمه كحكمه في التضليل والتكفير إن كان عالما، وإن كان ممن لا علم له: فإن قال ذلك جهلا عرف بحقيقة ذلك، ويجب تعليمه وردعه عنه، مهما أمكن" ومنهم الإمام القدوة برهان الدين إبراهيم بن معضاد الجعبري6، ومنهم العلامة زين الدين عمر بن أبي الحرم الكتنائي7 الشافعي.
ـــــــ
1 لم يحسن التعبير، وإليك نص الفصوص ص76 "وهو من حيث الوجود عين الموجودات". وفي الأصل: فهي موجودة.
2 قال القاشاني في شرح الفصوص: "للذات بحسب كل عين اسم، وتلك الأعيان أيضا أسام، لكونها عين الذات مع التعين" ويقول ابن عربي: "فأسماؤنا أسماء الله تعالى".
3 انظر نص فتواه في العلم الشامخ ص495.
4 أثبتها عن الفصوص.
5 لعلها: صارت، أو بصيرورة.
6 توفي في سنة 687هـ عن ثمانين سنة.
7 كان شيخ الشافعية في عصره. ولد سنة 653هـ وتوفي سنة 738هـ وانظر =(190/155)
ومن جوابه: "وقوله في قوم هود كفر، لأن الله تعالى أخبر في القرآن العظيم عن عاد: أنهم كفروا بربهم، والكفار ليسوا على صراط مستقيم، فالقول بأنهم كانوا عليه، مكذب لصريح القرآن، ويأثم من سمعه، ولم ينكره إذا كان مكلفا، وإن رضي به كفر".
رأي أبي حيان
والإمام أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي1. ذكر ذلك في تفسير سورة المائدة عند قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] الآية في أوائلها: "ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر2 بالإسلام ظاهرا، وانتمى إلى الصوفية حلول الله في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة: كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق، وابن الفارض، وأتباع هؤلاء كابن سبعين -وعد جماعة3- ثم قال:
ـــــــ
= نص فتواه في العلم الشامخ ص496، وفي الشذرات لقب بالكتاني نسبة إلى الكتان.
1 ولد سنة 654هـ. قال عنه الذهبي: "حجة العرب وعالم الديار المصرية" كان من خلصاء ابن تيمية، حتى لقد امتدحه بقصيدة منها.
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذا عصت مضر
وفي مناظرة بينهما خطأ ابن تيمية سيبويه، فلم يطقها منه أبو حيان، فكان أن بهته أبو حيان في تفسيره البحر.
2 في البحر: تستر.
3 هم كما جاء في البحر: "والتستري تلميذه وابن مطرف المقيم بمرسية، والصفار المقتول بغرناطة، وابن اللباج، وأبو الحسن المقيم كان بلورقة، ومن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون: العفيف التلمساني، وله في ذلك أشعار كثيرة، وابن عياش المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق. وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر، والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة من ديار مصر، وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بحارة زويلة" انتهى نقلا عن تفسير البحر لأبي حيان. وزاد في تفسيره النهر: "والشريف عبد العزيز المنوفي، وتلميذه عبد الغفار القوصي".(190/156)
"وإنما سردت هؤلاء نصحا لدين الله، يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذروا، فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسله، ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث، وقد أولع جهلة ممن ينتمي إلى التصوف بتعظيم هؤلاء، وادعائهم أنهم صفوة الله".
رأي التقي السبكي والفاسي والزواوي:
والعلامة قاضي القضاة شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي، فقال: "ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين كابن عربي وغيره، فهم ضلال جهال، خارجون عن طريقة الإسلام, فضلا عن العلماء" قال ذلك في باب الوصية من شرح [44] المهاج ونقله الكمال الدميري، والتقي الحصني، وقال الحافظ تقي الدين الفاسي في كتابه فيه: "وقد أحرقت كتب ابن عربي غير مرة". وممن صنع ذلك من العلماء المعتبرين: الشيخ بهاء الدين السبكي، والعلامة القاضي شرف الدين عيسى بن مسعود الزواوي2 المالكي شارح صحيح مسلم، فقال: "وأما ما تضمنه هذا التصنيف من الهذيان، والكفر والبهتان، فهو كله تلبيس وضلال، وتحريف وتبديل، فمن صدق بذلك أو اعتقد [صحته3]
ـــــــ
1 ورد بعد هذه في البحر: "وأولياؤه، والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين" انظر تفسير سورة المائدة من البحر لأبي حيان.
2 ولد سنة 664هـ، وتوفي سنة 743هـ انتهت إليه رياسة الفتوى في المذهب المالكي بمصر والشام، وقد شرح صحيح مسلم في اثني عشر مجلدا وسماه: إكمال الإكمال.
3 ساقطة من الأصل، وأثبتها عن العلم الشامخ, فقد ورد فيه نص هذه الفتوى ص498.(190/157)
كان كافرا ملحدا، صادا عن سبيل الله، مخالفا لسنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ملحدا في آيات الله، مبدلا لكلماته، فإن أظهر ذلك, وناظر عليه، كان كافرا يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، وإن أخفى ذلك، وأسره كان زنديقا، فيقتل متى ظهر عليه، ولا تقبل توبته إن تاب، لأن توبته لا تعرف، فقد كان قبل أن يظهر عليه يقول بخلاف ما يبطن، فعلم بالظهور عليه خبث باطنه، وهؤلاء قوم يسمون الباطنية، لم يزالوا من قديم الزمان ضلالا في الأمة، معروفين بالخروج من الملة، يقتلون متى ظهر عليهم، وينفون من الأرض، وعادتهم التملصح والتدين، وادعاء التحقيق، وهم على أسوأ طريق [فالحذر كل الحذر منهم فإنهم أعداء الله، وشر من اليهود والنصارى؛ لأنهم قوم لا دين لهم يتبعونه، ولا رب يعبدونه، وواجب على كل من ظهر على أحد منهم أن ينهى أمره إلى ولاة المسلمين، ليحكموا فيه بحكم الله تعالى1] ويجب على [من2] ولي الأمر3 إذا سمع بهذا التصنيف البحث عنه، وجمع نسخه حيث وجدها وإحراقها، وأدب من اتهم بهذا المذهب, أو نسب إليه, أو عرف به، على قدر قوة التهمة عليه حتى يعرفه الناس ويحذروه".
رأي البكري:
ومنهم الشيخ الإمام المحقق الزاهد القدوة العارف نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي، قال: "وأما تصنيف تذكر فيه هذه الأقوال، ويكون المراد بها ظاهرها، فصاحبها ألعن وأقبح من أن يتأول له ذلك، بل [هو4]
ـــــــ
1 ما بين هذين [ ] ساقط من الأصل. وأثبته عن العلم الشامخ ص498.
2 أثبتها عن المصدر السابق.
3 في الأصل: الأمراء، وهي كما أثبتها في العلم الشامخ.
4 أثبتها عن المصدر السابق.(190/158)
كاذب فاجر، كافر في القول والاعتقاد، ظاهرا وباطنا، وإن كان قائلها لم يرد ظاهرها، فهو كافر بقوله، ضال بجهله، ولا يعذر في تأويله لتلك [الألفاظ] إلا أن يكون جاهلا بالأحكام جهلا تاما عاما، ولا يعذر في جهله لمعصيته، لعدم مراجعة العلماء والتصانيف1 على الوجه الواجب من المعرفة في حق من يخوض في أمر الرسل ومتبعيهم، أعني معرفة الأدب في التعبيرات، على أن في هذه الألفاظ ما يتعذر، أو يتعسر تأويله، بل كلها كذلك، وبتقدير التأويل على وجه يصح في المراد، فهو كافر بإطلاق اللفظ على الوجه الذي شرحناه. وأما دلائل ذلك فهي مذكورة في تصانيف العلماء، وفيما ألفته أيضا في بعض المسائل وليست هذه الورقة مما تسع الكلام على أقوال هذا المصنف2 لفظة لفظة.
مسألة الوعيد
لكن مسألة الوعيد -يعني التي قال فيها ابن عربي: وما لوعيد الحق عين تعاين-3لا بد فيها من نبذة لطيفة للضرورة. اعلم [45] أنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية، وإجماع المسلمين أن قول الله حق، وخبره صدق، وذلك واجب له لذاته سبحانه وتعالى، ومن أنكر أن خبر الله حق، أو أن وعده ووعيده صدق فهو كافر بإجماع المسلمين، وإنما قال بعض الناس من الأصوليين: إنه لا يجب وقوع الوعيد بتأويل مقرر في الأصول، وحقيقته ترجع إلى أن كلام الله تعالى منزل على عادة العرب في تخاطبها، وعادتها إذا أوعدت بالعقوبة -وإن كانت
ـــــــ
1 ما دام قادرا على مراجعة التصانيف، فالواجب عليه قبل كل شيء: تدبر آيات الله سبحانه، ففي قبس واحد من نوره ما يبدد باطل التصوف وضلاله، أما أن ندعوه إلى مراجعة التصانيف دون الكتاب والسنة، فهي دعوة إلى اتخاذ أرباب من دون الله، وهي بعينها دعوة التصوف.
2 يقصد فصوص الحكم لابن عربي.
3 يعني: إنكار ابن عربي وقوع العذاب على المشركين والكافرين يوم القيامة.(190/159)
صورتها الوعيد الجازم- فإنما تريد: إذ لم تعف, وأصرت على الانتقام، وادعي أن ذلك مركوز في طباعها، وأن حقيقة اللفظ الحمل عليه، سواء أراده حالة التخاطب، أو لم يرده. وقال فيه آخرون: إن الرب سبحانه وتعالى علق الأشياء بمشيئته في غير موضع, وأن الوعد المطلق مقيد بالمشيئة، فجوز أن يقع الوعيد بشيء، فلا يحصل المتوعد: إما لأن حقيقة اللفظ مقيدة بعدم العفو، وإما لأن مطلق اللفظ مقيد بنصوص أخر مع أمور أخرى يحتملها اللفظ مطلقا من غير دليل خاص: من تقييد المطلق، وتخصيص العام، واحتمال الإضمار والمجاز. وجوز أن يضع الله تعالى اللفظ وضعا جديدا لمعنى آخر لا تفهمه العرب عند بعض الناس إلى غير ذلك. ومع هذا كله، فإنما هو كلام في أصل الوعيد من حيث الجملة. وأما خصوص مسألة وعيد الكافرين، فلا خلاف أن المراد به قد علم، وأن من ادعى أن الكفار لا يعذبون أصلا، فهو كافر، إلا أن يكون ممن لم تبلغهم الدعوة, أو في معناه، والمراد في وعيد الكافرين المعلوم: هو أنهم يعذبون في النار العذاب الشديد، ولا يغفر كفرهم المغفرة المزيلة للعقوبة بعد بلوغ الدعوة، على الوجه الذي تقوم به الحجة. والعلم بالمراد في هذه القضية متلقى بوجهين: أحدهما: أخبار التواتر. الثاني: فهم الصحابة لذلك عن المعصوم فهما قطعيا منقولا إلينا بالتواتر المعنوي1، وإنما تكلموا في مسألة الخلود دون أصل.
ـــــــ
1 ورد الخبر عن عذاب الله للكفار وغيرهم بصيغة الماضي في بعض الآيات، ومثال: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 24] والتعبير عما سيقع بصيغة تفيد أنه وقع يفيد تحقق الوقوع، وأنه سيقع لا محالة، ثم إن ابن عربي إنما ينكر العذاب؛ لإيمانه بوحدة الوجود, وبالتالي إلى وحدة الأديان، فالزنديق يدين بأن الله سبحانه عين كل شيء، ويدين بأن كل دين هو عين الحق، فكيف يعذب الله كافرا، أو مشركا؟ والكافر عنده هو الله، وكذلك المشرك. والكفر دين حق وكذلك الشرك، لا يمكن وقوع العذاب، وإلا قلنا: إن الله يعذب نفسه. هذا سر إنكار ابن عربي وقوع العذاب، فهو في واد، وما ذكره المؤلف هنا عن الوعيد في واد آخر.(190/160)
التعذيب، فمن حاك1 الخلاف عن السلف، ومن 2 حاك الإجماع "............" ففيها نظر. والله أعلم"
فتوى البالسي وابن النقاش:
ومنهم العلامة نجم الدين محمد بن عقيل البالسي3 الشافعي، فقال: "من صدق هذه المقالة الباطلة أو رضيها، كان كافرا بالله تعالى يراق دمه، ولا تنفعه التوبة عند مالك وبعض أصحاب الشافعي، ومن سمع هذه المقالة القبيحة تعين عليه إنكارها بلسانه، بل يجب عليه منع قائلها بالضرب، إن لم ينزجر باللسان، فإن عجز [46] عن الإنكار بلسانه أو بيده، وجب عليه إنكار ذلك بقلبه, وذلك أضعف الإيمان". ومنهم نادرة زمانة العلامة أبو أمامة محمد بن علي بن النقاش4 المصري الشافعي في تفسيره5، وأجاد جدا في تقرير مذهبهم، وبيان عواره، فقال: "وقد ظهرت أمة ضعيفة العقل، نزرة العلم، اشتغلوا بهذه الحروف, وجعلوا لها دلالات، واشتقوا منها ألفاظ، واستدلوا منها على مدد وسموا أنفسهم بعلماء الحروف6، ثم جاءهم شيخ وقح من جهلة العالم يقال له:
ـــــــ
1، 2 لعلها حكى.
3 ولد سنة 660هـ. ولي قضاء بلبيس، ولازم ابن دقيق العيد. وتوفي سنة 729هـ.
4 ولد سنة 720هـ. وتوفي سنة 763هـ.
5 سماه السابق واللاحق، والتزم أن لا ينقل فيه حرفا من تفسير أحد ممن تقدموه.
6 يقول ابن خلدون في مقدمته ص440 عن علم الحروف: "حدث هذا العلم في الملة بعد صور منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوفة، وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب. وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام، تعددت فيه تآليف =(190/161)
البوني، ألف فيها مؤلفات، وأتى فيها بطامات، ومن الحروف دخلوا للباطن، وأن للقرآن باطنا غير ظاهر، بل وللشرائع باطنا غير ظاهرها، ومن ذلك تدرجوا إلى وحدة الوجود، وهو مذهب الملحدين كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض ممن يجعل الوجود الخالق هو الوجود المخلوق، وقد لا يرضى هؤلاء بلفظ الاتحاد بل يقولون بالوحدة؛ لأن الاتحاد يكون افتعالا بين شيئين، وهم يقولون: الوجود واحد لا تعدد فيه، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع، فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، ولكن ليس وجود هذا وجودا هذا.
والقدر المشترك هو كلي، والكلي المطلق لا يوجد كليا مطلقا إلا في الأذهان، لا في الأعيان، بل كل موجود من المخلوقات له وصف يختص [به] لا يشاركه فيه غيره في الخارج، وأنقص المراتب عند هؤلاء مرتبة أهل الشريعة. ثم قال: وهم متألهون للخيال، معظمون له، ولا سيما ابن عربي منهم، ويسميه: أرض الحقيقة. ولهذا يقولون بجواز الجمع بين النقيضين1، وهو من الخيال الباطل، وقد علم المعتنون بحالهم من علماء الإسلام كالشيخ عز الدين بن عبد السلام،
ـــــــ
= البوني وابن عربي وغيرهما" ويعرف طاش كبرى زادة هذا العلم في مفتاح السعادة ص418 جـ2 ط الهند: "هو علم باحث عن كيفية تمزيج الأعداد، أو الحروف على التناسب والتعادل، بحيث يتعلق بواسطة هذا التعديل أرواح متصرفة تؤثر في القوابل حسب ما يراد ويقصد من ترتيب الأعداد والحروف وكيفياتها" وانظر ص68 من كتاب نقض المنطق لابن تيمية. وما زال كثير منهم يهول بهذه الأساطير يمدونها شركا لمال يتيم يراد استلابه، أو عرض يبتغى استلابه.
1 قولهم بهذا الخبل راجع إلى إيمانهم بوحدة الوجود، حتى زعموا أن ذات الإله: جامعة بين النقيضين، وبين الضدين، وأن هذا الجمع أول مقوماتها وأبين خصائصها، قال الجيلي في كتابه الإنسان الكامل ص69جـ1: "الألوهية في نفسها تقتضي شمول النقيضين، وجمع الضدين بحكم الأحدية" هذا لإيمانهم بأنه سبحانه عين كل شيء وكل معلوم.(190/162)
وابن الحالجب وغيرهما: أن الجن والشياطين تمثلت لهم، وألفت كلاما يسمعونه، وأنوارا يرونها1، فيظنون ذلك كرامات، وإنما هي أحوال شيطانية، لا رحمانية وهي من جنس السحر. ولقد حكى سعيد الفرغاني في شرح قصيدة ابن الفارض أن رجلا نزل دجلة، ليغتسل لصلاة الجمعة، فخرج من النيل، فأقام بمصر عدة سنين، وتزوج، وولد له هناك، ثم نزل ليغتسل لصلاة الجمعة، فخرج من دجلة فرأى غلامه ودابته والناس لم يصلوا بعد الجمعة، ومن المعلوم لكل ذي حس أن يوم الجمعة ببغداد ليس بينه وبين يوم الجمعة بمصر يوم, فضلا عن أكثر منه ولا الشمس توقفت عدة أعوام في السماء، وإنما هو الخيال، فيظنونه لجهلهم في
ـــــــ
1 جرى مثل هؤلاء الشيوخ على تصديق ما يهرف به خيال الصوفية من رؤية أنوار وسماع كلام، ثم يحاولون تعليل هذا الباطل بغير علته الحقة، فيزعمون أن ذلك النور والكلام تهاويل جن تجسدت لهم، وخيالات شياطين تبدت في صور إنسية. هذا ليردوا إفك الصوفية فيما زعموه من رؤية نور الله وسماع كلامه, والحق أن الصوفية لم يروا نورا، ولم يسمعوا كلاما، والحق أنهم كاذبون كاذبون مفترون، يدعون هذا بغية استعباد المخابيل والمفاليك لشهوات الجريمة التي تتلمظ على أنيابهم، وينزو قيحها من صدورهم. وفي الكتاب والسنة ما يشهد بكذبهم، ويدمغهم بأنهم أحلاس إفك وبهتان، فموسى عليه السلام خر صعقا حين تجلى الله للجبل، وربنا سبحانه، ما يكلم إلا رسله وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء، أفهؤلاء الدعاة إلى الإثم والوثنية من رسل الله؟ أتراهم أقوى روحا من موسى عليه السلام؟ ألا فلنقتص الكذب والزور نفسه، أما تصديق دعاويهم، ثم تعليلها بمثل ما عللها به هؤلاء الشيوخ، ففيه مشايعة للباطل في بعض ما يفتريه، ومساندة له في أدنأ بهتانه. فالله سبحانه يقول عن الشيطان: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، والرسول الكريم ما رأى الجن وهم يستمعون القرآن، وعذر الشيوخ أنهم كانوا يعيشون في عصر امتلأ بهذه المؤتفكات، حتى صارت -وكأنها من مسلمات البديهة- فردوا الباطل بما مكن لهم عصرهم أن يردوه به.(190/163)
الخارج1. ثم قال2: وحقيقة قولهم: إن ما ثم وجودا [47] إلا هذا العالم لا غير، كما قاله فرعون، لكن هم يقولون: إن العالم هو الله، وفرعون أنكر وجود الله, ثم قال: قيل لبعض أكابرهم: ما3 الفرق بينكم وبين النصارى؟ قال: النصارى خصصوا4، وهذا موجود في كلام ابن عربي، وغيره. ينكرون على المشركين تخصيصهم عبادة بعض، والعارف عندهم يعبد كل شيء5 -ثم قال: ومن المعتقدين الحلول الخاص طائفة من أتباع العبيدية6 الباطنية الذين ادعوا أنهم علويون- ثم قال: وقد اعتقدت طائفة منهم الإلهية في الحاكم7 كالدريزية
ـــــــ
1 أي: يظنون ما تخيلوه حقيقة واقعة، وما ظنهم هذا عن جهل، وإنما هو عن خيال؛ يمس الكلب فيخال نفسه أسدا، والشيطان فيظن نفسه ملاكا.
2 أي: ابن النقاش.
3 في الأصل: لما.
4 أي: جعلوا عيسى وحده ربا وإلها، وكان الواجب -هكذا يفتري الزنادقة- أن يتخذوا من كل شيء ربا وإلها، لأن الإله عين كل شيء.
5 نص ابن عربي: "والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه" ص185ط الحلبي.
6 نسبة إلى عبيد الله أبي محمد سعيد بن الحسين بن عبد الله القداح من سلالة ميمون، وعبيد. هو إمام الشيعة الإسماعيلية في عصره، ومؤسس الدولة الفاطمية ولد سنة 260هـ وآلت إليه زعامة الإسماعيلية سنة 280هـ وتوفي وله من العمر نحو ثلاث وستين سنة.
7 منصور بن عبد العزيز بن المعز الفاطمي، ادعى الإلهية، وكان غدورا سفاكا للدماء، تثير تصرفاته المتناقضة دهشة بالغة، تدفع إلى الظن بأنه كان نهب ولثة عقلية جامحة. ولد سنة 375هـ ولقي مصرعه سنة 411هـ على يد عبدين لابن دواس، تنفيذا لمؤامرة دبرتها له أخته ست الملك للخلاص منه، وما زال أتباعه الدروز حتى اليوم ينتظرون رجعته؛ إذ يؤمنون بأنه لم يقتل، وإنما اختفى وسيعود مرة ثانية.(190/164)
أتباع شهنكير1 الدرزي الذي كان من موالي الحاكم، وأضل أقواما بالشام في وادي تيم الله بن ثعلبة" ا. هـ.
رأي ابن هشام وابن خلدون:
ومنهم العلامة جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام2 صاحب المغني وغيره من المصنفات البديعة، وكتب على نسخة من كتاب الفصوص.
هذا الذي بضلاله ... ضلت أوائل مع أواخر
من ظن فيه غير ذا ... فلينأ عني، فهو كافر
هذا كتاب فصوص الظلم، ونقيض الحكم، وضلال الأمم، كتاب يعجز الذم عن وصفه، قد اكتنفه الباطل من بين يديه ومن خلفه، لقد ضل مؤلفه ضلالا بعيدا، وخسر خسرانا مبينا: لأنه مخالف لما أرسل الله به رسله, وأنزل به كتبه وفطر عليه خليقته" ا. هـ. وقال العلامة قاضي القضاة أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون3: "إن طريق المتصوفة منحصر في طريقين4، الأولى: وهي
ـــــــ
1 يعني محمد بن إسماعيل المعروف بأنوشتكين البخاري، أقوى رسل حمزة بن علي بن أحمد الزوزني المؤسس الحقيقي لمذهب الدروز، وقد شرح أنوشتكين أصول مذهبه القائم على أساس تأليه الحاكم في رسالة قدمها إلى هذا فقر به واصطفاه فقوي واشتد نفوذه، وقد سمى أنوشتكين نفسه بسند الهادي وحياة المستجيبين، وتذهب بعض الروايات إلى أنه قتل سنة 410هـ, وأخرى إلى أنه فر إلى الشام، وهناك نشر دعوته، فكانت هي نحلة الدروز الضالة.
2 ولد سنة 708هـ وتوفي سنة 761هـ يقول عنه ابن خلدون "ما زلنا -ونحن بالمغرب- نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له: ابن هشام، أنحى من سيبويه".
3 ولد سنة 732هـ وتوفي سنة 808هـ تولى قضاء المالكية بمصر، يقول عنه المستشرق ديبور في كتابه تاريخ الفلسفة في الإسلام: "مفكر متزن يحارب صناعة النجوم بالأدلة العقلية، وكثيرا ما يعارض النزعة الصوفية العقلية عن الفلاسفة بمبادئ الدين".
4 صوابها: طريقتين. وهكذا ذكرت في العلم الشامخ الذي وردت فيه هذه الفتوى.(190/165)
طريقة السنة، طريقة سلفهم الجارية على الكتاب والسنة، والاقتداء بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين1, والطريقة الثانية: وهي مشوبة بالبدع، وهي
ـــــــ
1 ما كان من الصحابة، ولا من التابعين صوفي، ولم يسم واحد منهم بهذا الاسم المرادف للزنديق، والصوفية منذ نشئوا وحيث كانوا عصابة تنابذ الكتاب والسنة، لا يفترق في هذا سلفهم عن خلفهم في هذا، غير أن بعضهم كان أشد جرأة من بعض في البيان عن زندقته، ودليلنا ما سجله التاريخ الحق، وما خلفوه هم في كتبهم من تراث وثني طافح بالمجوسية الغادرة، فتقسيم ابن خلدون هذا مجاف للصواب، ولكنه خدع كغيره فيما يشقشق به الصوفية من زور النفاق, إذ يزعمون كاذبين أن طريقهم طريق الكتاب والسنة، وابن خلدون نفسه يقر بأنه بدعة، إذ يقول في مقدمته عن التصوف: "هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة! ثم هل في الكتاب والسنة أن قبر الكرخي يقسم به على الله فيستجيب، ويستشفى به فيهفو الشفاء، وأن الصوفية هم غياث الخلق؟ كما زعم القشيري في رسالته. وهو من سلف الصوفية المتقدمين، وأقلهم شناعة في إفك التصوف. أجاء في السنة أن العزوبية تباح لهذه الأمة بعد المائتين من الهجرة، وأن تربية الجرو أفضل من تربية الولد كما زعم أبو طالب المكي في قوته، ونسب فريته المانوية إلى الرسول, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أفيها أن الدين شريعة وحقيقة، وأن هذه أفضل من تلك؟ أفيها أن المريد لا بد له من شيخ، وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان؟ أفيها أن قلب المريد بيد شيخه يصرفه بهواه؟ أفيها أن غضب الشيخ من غضب الله؟ أفيها أن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كجثة الميت بين يدي الغاسل؟ أفيها أن الولي أفضل من النبي؟ أفيها أن العارف يسمع كلام الله كما سمعه موسى؟ أفيها أن الذريات تسبح بحمد الأولياء، وأن هؤلاء يفقهون تسبيحها؟ كما زعم الغزالي؟ تلك بعض مفتريات سلف الصوفية الأقدمين، بهتوا بها الحق والهدى منذ سمي أول رجل منهم بالصوفي في منتصف القرن الثاني للهجرة وبعده، وتلك بعض ضلالات أولئك الأول الذين يزعم لهم ابن خلدون -وغيره- أن طريقهم مؤيد بالكتاب والسنة، أفتنسم على روحك ما نقلته عنهم نسمات حق، أو عبير هدى؟ كلا بل إنه يحموم كفر ومجوسية ألا فلنقل الحق: ما من صوفي إلا وهو يسلك طريق الشيطان وحده من سلف ومن خلف والتقسيم الصحيح للصوفية أن يقال: إنه قسمان: عملي ونظري، وأن هذا وليد ذاك، فالنظرية وليدة التطبيق، ثم نبين خصائص كل من النوعين، مقارنين بينهما وبين الحق من الكتاب والسنة، وسترى بعد هذه المقارنة أن التصوف بينهما وبين الحق من الكتاب والسنة، سترى بعد هذه المقارنة أن التصوف في نشأته وتطوره في سلفيته وخلفيته لا ينتسب إلى الإسلام برحم: دانية، أو نائية.(190/166)
طريقة قوم من المتأخرين يجعلون الطريقة الأولى وسيلة إلى كشف حجاب الحس لأنها من نتائجها، ومن هؤلاء المتوصفة ابن عربي وابن سبعين، وابن برجان وأبتاعهم ممن سلك سبيلهم، ودان بنحلتهم1، ولهم تواليف كثيرة يتداولونها مشحونة بصريح [الكفر2] ومستهجن البدع، وتأويل الظاهر لذلك على أبعد الوجوه، وأقبحها مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملة، أو عدها في الشريعة، ولي ثناء أحد على هؤلاء حجة، ولو بلغ المثنى ما عسى أن يبلغ [من3] الفضل؛ لأن الكتاب والسنة أبلغ فضلا، أو شهادة من كل أحد4، وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلة، وما يوجد من نسخها بأيدي الناس مثل الفصوص والفتوحات المكية لابن عربي والبد لابن سبعين وخلع النعلين لابن قسي [وعين اليقين لابن برجان، وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض والعفيف التلمساني5، وأمثالهما أن يلحق بهذه الكتب، وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدة الثانية من نظم ابن الفارض6] فالحكم في هذه
ـــــــ
1 في الأصل بتخلقهم، والتصويب من العمل الشامخ.
2، 3 ساقطتان من الأصل، وأثبتهما عن العمل الشامخ.
4 هذا قول يحمده الحق لابن خلدون.
5 داعر من زنادقة الصوفية، لا يحرم فرجا، ويبيح نكاح الأم والأخت، ويرى القرآن كله شركا، وما عنده غير ولا سوى بوجه من الوجوه. هلك سنة 690 أما ابن سبعين فمن القائلين بالوحدة المطلقة، ولد بمرسيا سنة 613هـ. وهلك سنة 667 هـ بمكة.
6 ما بين هذين [ ] لم يرد في الأصل، وأثبته عن ص500 من العمل الشامخ إذ أورد فيه مؤلفه المقبلي نص فتوى ابن خلدون.(190/167)
الكتب وأمثالها إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق بالنار، والغسل بالماء حتى ينمحي1 أثر الكتاب؛ لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين بمحو العقائد المختلفة، فيتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعا للمفسدة العامة، ويتعين على من كانت عنده التمكين منها للإحراق.
رأي الشمس العيزري:
ومنهم العلامة شمس الدين محمد العيزري الشافعي في كتاب سماه: الفتاوي المنتشرة. قال عن الفصوص: "قال العلماء: جميع ما فيه كفر؛ لأنه دائر مع عقيدة الاتحاد2، وهو من غلاة الصوفية المحذر من طرائقهم، وهم شعبان3: شعب حلولية يعتقون حلول الخالق في المخلوق، وشعب اتحادية لا يعتقدون تعددا في الوجود في زعمهم أن العالم هو الله، وكل فريق منهم يكفر الآخر، وأهل الحق يكفرون الفريقين. ثم قال. ومن هم ابن الفارض صاحب الديوان -وعد جماعة معه- ثم قال: ذكر هؤلاء بالحلول والاتحاد جماعة من علماء الشريعة المتأخرين، كالشيخ عز الدين بن عبد السلام وبأبي عمرو بن الصلاح، وابن دقيق العيد, وشيخ الفقهاء الزين الكتنائي، وقاضي القضاة الشيخ تقي الدين السبكي، وحكم بتكفيرهم القضاة الأربعة: البدر عهن جماعة، والزين الحنفي، والشرف الزواوي، والسعد الحنبلي4- ثم ذكر كلام الشيخ أبي حيان فيهم.
ـــــــ
1 في الأصل: يمتحي. والتوصيب من العلم الشامخ.
2 صوابها: الوحدة. فهذا هو دين ابن عربي.
3 الحق أنهم ثلاثة: حلوليون، واتحاديون، وأهل الوحدة، ولعل العيزري يستعمل الاتحاد في الدلالة على الوحدة أيضا.
4 تقدم ذكر بعض هذه الفتاوى، وقد أوردها صاحب العلم الشامخ فطالعها فيه من ص495 وما بعدها.(190/168)
من تفسيره البحر1 إلى أن قال:- وقد انتدب بعض المغالطين من أهل العلم ممن يحسن الظن ببعضهم، ولا صواب معه، وصنف تأويلات لنظم السلوك2 وتعسف بما لا يصح الأخذ به لقوة ظواهر الألفاظ الخالقة جزما لسياج عصمة الديانة، وانتهاك حرمة الربوبية- ثم قال:- ويحوم3 بظاهر كلامه على أن هو الله، وأن الله هو، وهذا بهتان قبيح، وكفر صريح -ثم قال:- وكان ابن الفارض يقول: إنما قتل الحلاج لأنه باح بسره، إذ شرط هذا التوحيد الكتم4".
رأي لسان الدين بن الخطيب، والموصلي:
ومنهم العلامة لسان الدين محب بن الخطيب الأندلسي المالكي5 في كتابه "روضة التعريف بالحب الشريف" وأجاد في تقرير مذهبه من ورد ما شاء، فقال: "الفرع الخامس في رأي أهل الوحدة المطلقة، ثم قال: وحاصله: أن الباري -جل وعلا- هو مجموع ما ظهر، وما بطن، وأنه لا شيء خلاف ذلك، وأن تعدد هذه الحقيقة المطلقة والآنية الجماعة التي هي عين كل آنية، والهوية التي هي
ـــــــ
1 سبق ذكر قول أبي حيان.
2 هي التائية الكبرى لابن الفارض.
3 لا, بل يسف إسفافا، ويصرح بهذا غير موار ولا موارب.
4 يعني توحيد هم القائم على أساس اعتقاد أن الحق عين الخلق، ويجبن بعض الصوفية عن التصريح المبين بهذا مخافة القتل، ولذا يقول الغزالي عن هذه المرتبة، محذرا لإخوانه الصوفية: إنها سر الربوبية. وإفشاء سر الربوبية كفر، ويقول السهروردي المقتول:
بالسر أن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء العاشقين تباح
5 هو ذو الوزارتين مضرب المثل في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم ولد سنة 713 هـ بغرناطة، وتوفي سنة 766 هـ.(190/169)
عين كل هوية1 إنما وقع بالأوهام من الزمان والمكان والخلاف والغيبة والظهور والألم واللذة والوجود والعدم. قالوا: وهذه إذا حققت إنما هي أوهام راجعة إلى أخبار الضمير، وليس في الخارج شيء منها، فإذا سقطت الأوهام صار مجموع العالم بأسره، وما فيه واحدا، وذلك الواحد هو الحق، وإنما العبد مؤلف من طرفي حق وباطل، فإذا سقط الباطل -وهو اللازم بالأوهام– لم يبق إلا الحق وصرحت بذلك أقوال شيوخهم، فمنه قول ابن أحلى: قد أقام باطلا بعض صفاته، وقال الحلاج وابن العربي: وقد تعرض لما به وقعد التعدد، وأنه وهم، فالكل واحد وإن كان متفرقا. فسبحان من هو الكل، ولا شيء سواه الواحد بنفسه، المتعدد بنفسه".
ومنهم الحافظ الرحلة شمس الدين أبو عبد الله محمد الموصلي الشافعي، نزيل دار الحديث بدمشق. فقال. "وفي كلام ابن عربي من الكفر الصريح الذي لا يمكن تأويله شيء كثير يضيق هذا الوقت من وصفه، ومنه تفسير اسمه: العلي بأن قال: العلي على من؟ وما ثم إلا هو2! وهو المسمى أبا سعيد [الخراز].
رأي البساطي:
ومنهم شيخنا علامة زمانه قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد البساطي المالكي قاضي مصر. قال في أول كتاب له في أصول الدين في المسألة السادسة في حدوث العالم: "وخالفنا في ذلك طوائف. الأولى: الدهرية، والثانية.
ـــــــ
1 يعني: أنهم يدينون بأن الله سبحانه عين كل ما بطن، وعين كل ما ظهر. فالآنية عندهم هي تحقق الوجود العيني من حيث مرتبته الذاتية وتدل مواردها على أنها تستعمل في مقابل الماهية: أي المرادفة لمجرد الوجود، وقد سبق تعريف الهوية.
2 في الأصل: العلا علا عن من، وليس ثم غيره، والتصويب من الفصوص.(190/170)
متأخرو الفلاسفة كأرسطو1، ومن تبعهم من ضلال المسلمين كابن سينا والفارابي2 ومن حلي كلامه، وزخرفة بشعار الصالحين كابن عربي وابن سبعين ثم قال في الكتاب الثاني في المسألة السادسة في أنه سبحانه ليس متحدا بشيء: واعلم أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في جماعة المسلمين، نشؤوا في الابتداء على الزهد والخلوة والعبادة، فلما حصلوا من ذلك على شيء صفت أرواحهم، وتجردت نفوسهم، وتقدست أسرارهم، وانكشفت لهم ما كانت الشواغل الشهوانية مانعة من انكشافه3، وقد كانت طرق أسماعهم من
ـــــــ
1 أعظم فلاسفة اليونان على الإطلاق، ولد بمدينة استجايرا سنة 384 قبل الميلاد، أستاذه أفلاطون، ومن تلاميذه إسكندر المقدوني. توفي سنة 333 قبل الميلاد.
2 الفارابي: هو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ أبو نصر، يقول عنه ابن خلكان: "أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه". ولد في وسيج قرية تقع في فاراب من بلاد الترك فيما وراء النهر، حصل علومه في بغداد على يوحنا بن خيلان، ومات في دمشق سنة 339هـ عن ثمانين عاما. أما ابن سينا فولد في أفشنة على مقربة من بخارى سنة 370هـ. وفي بيت تسوده تقاليد فارسية معارضة للإسلام. تقلد الوزارة لشمس الدولة في همدان. وتوفي سنة 428 هـ وهو أشهر وأكبر فلاسفة عصره.
3 ما هذا الذي انكشف لهم؟ لعله صور ما في أذهانهم المخبولة من تهاويل الجنون. ثم إن الإسلام ليس دين رهبانية، ولا زهادة تطوي الذات على نفسها الولهي، حتى تخمد فيها جذوة الحياة الشاعرة، وتخبو وقدات الشعور والإحساس بواجب الدين والنفس والحياة، وهي طريحة الوهم في غيابه كهفها الساهم المظلم الحزين، إنما الإسلام دين العمل والجد, مع الإيمان المشرق والتقوى، وانطلاق النفس في رحاب الوجود ومجاليه، كادحة في سبيل الله، لتحقيق الغاية الكبرى، هي أن يكون الناس أمة واحدة تتجاوب أرواحهم بالإيمان والمحبة، وتتجه مشاعرهم في كل هزة إلى الله وحده، وتتوحد بواعثهم وغاياتهم في عبادة الله رب العالمين، معتصمة بالحق والهدى من الكتاب والسنة.(190/171)
خرافات النصارى، أنه إذا حل روح القدس في شيء نطق بالحكمة، وظهر له أسرار ما في هذا العالم، مع تشوف النفوس إلى المناصب العلية، فذهبوا إلى هذه المقالة السخيفة، فمنهم من صرح بالاتحاد على المعنى الذي قالته النصارى1، وزادوا عليه أ نهم لم يقصروه على المسيح، كما ذهب إليه الغلاة من الروافض في علي رضي الله عنه، وكذا ما ذهب إليه جماعة في خاتم الأولياء2 عندهم من
ـــــــ
1 يرى اليعاقبة من النصارى أن اللاهوت والناسوت يؤلفان في المسيح طبيعة واحدة، ويزعمون أن الكلمة انقلبت لحما ودما، فصار الإله هو المسيح, وهو الظاهر بجسده، بل هو هو، فإرادة الله وفعله هما إرادة المسيح وفعله، هذا على حين كان الملكانيون يميزون بين طبيعتين في المسيح اللاهوت والناسوت، ويزعمون أن مريم ولدت إلها أزليا، وأن القتل والصلب وقع على اللاهوت والناسوت، وأطلقوا اسم الأبوة على الله، والبنوة على المسيح، أما النسطوريون، فكان أكثر تدقيقا من الملكانيين في التمييز بين الطبيعتين، فأثبتوا للمسيح خصائص الإنسان في الوجود والإرادة والفعل، مميزين بين هذا وبين ما للعنصر اللاهوتين زاعمين أن الله سبحانه ذو أقانيم ثلاثة: الوجود والعلم والحياة، ويدعون أن هذه الأقانيم ليست هي زائدة على الذات، ولا هي هو "قارن بين هذا وبين رأي الأشاعرة في الصفات" وأن الكلمة اتحدت بجسد عيسى لا على طريق الامتزاج كالملكانية، ولا الظهورية كاليعاقبة، ولكن كإشراق الشمس على بللور أو النقش في الخاتم.. هذا معتقد النصارى، ولعلك موقن بعده أن الصوفية أشد إيغالا في الكفر من هذا، فكل ما نسبته المسيحية المفلسفة إلى المسيح من ربوبية وإلهية ونبوة نسبته الصوفية إلى كل شيء، قالت المسيحية: إن الله هو المسيح ابن مريم، وقالت الصوفية: إن الله هو عين كل شيء. قالت الأولى: إن الله ثالث ثلاثة، وقالت الصوفية: إن الله هو ما لا يحصى ولا يتناهى من الأبدان والعناصر، فأيهما أدخل في الكفر الخبيث من الآخر.
2 يدين الصوفية بأن النبوة أعلى من الرسالة، وبأن الولاية أعلى من النبوة، فيكون الولي عندهم أسمى مقاما من النبي والرسول، ولذا يقول ابن عربي:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول، ودون الولي
=(190/172)
..................................................
ـــــــ
= واستدلوا على إفكهم بأساطير: أولا: الولي يعلم الشريعة والحقيقة، خبير بالظاهر والباطن، والنبي والرسول لا يعلمان سوى الشريعة أو الظاهر فحسب.
ثانيا: الرسالة والنبوة محددتان بالزمان والمكان. ولذا تتقاطعان، وقد انقطعتا فعلا، أما الولاية فلا تحدها مكانية ولا زمانية. بل هي صنو الديمومة والسرمدية والانطلاق. ثالثا: الرسول لا يستمد معرفته عن الله مباشرة، بل بواسطة ملك يبلغ الوحي الإلهي، أما الولي فيستمد الحقيقة فيضا مباشرا من باطن الحقيقة المحمدية: أي ذات الله مع التعين الأول. رابعا: أفضل أسماء الله هو الولي، وكل موجود هو اسم إلهي تعين في صورة هذا الموجود، فيكون الموجود الذي تعين فيه الله باسمه الولي، أفضل من الذي تعين فيه باسمه الرسول أو النبي، ولما كان للنبيين خاتم، فكذلك للأولياء خاتم، وهو يستمد فيوضات علم الحقيقة مباشرة عن الروح المحمدي، وهو أشبه ما يكون بالعقل الأول عند أفلوطين، أو بالكلمة في المسيحية المفلسفة.
وإليك ما يذكره ابن عربي عن خصائص الولاية وخاتم الأولياء "واعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام، ولهذا لم تنقطع، وأما نبوة التشريع والرسالة، فمنطقة، والرسول من حيث هو ولي أتم من حيث هو نبي ورسول، فمرجع الرسول والنبي إلى الولاية والعلم" ثم يقول عن علم الحقيقة "ما يراه أحد من الأولياء إلا من مكشاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه -متى رأوه- إلا من مشكاة خاتم الأولياء" ثم يقول عن الخاتم: "وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب". أنظر ص134، ص62، ص64 من فصوص الحكم ط الحلبي، ولعل أول من زمزم لهم بهذه الأسطورة الكهنوتية: هو محمد بن علي بن الحسن بن بشر المعروف بالحكيم الترمذي -وهو غير صاحب السنن- وألف فيها كتابا سماه "ختم الولاية" زعم فيه أن خاتم الأولياء يكون في آخر الزمان، وأنه أفضل ممن تقدمه من الأولياء، ومن أبي بكر وعمر، ومن خصائصه عند اشتغاله بالأعمال القلبية أكثر من اشتغاله بالعبادة، ولذا زعم الحكيم الترمذي: أن الولاية أفضل من النبوة، ووضوح الباطل في هذه الأساطير بين لا يحتاج إلى بيان. وقد رد الإمام ابن تيمية عليها في الجزء الرابع ص57 مجموعة الرسائل والمسائل. هذا دين الصوفية في الولاية والولي وخاتمهم، ومنه توقن: لم يضف الصوفية إلى أوليائهم قدرة الله وعلمه وحكمته وربوبيته وإلهيته؟ وتوقن: لم نحارب هذه الولاية المزعومة, وسنظل بعون الله ندمر هذه الطواغيت والأصنام، داعين الناس إلى أن يكونوا من أولياء الله الذين وصفهم رب العالمين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.(190/173)
الحلول، ولهم في ذلك كلمات يعسر تأويل كلها لمن يريد الاعتذار عنهم، بل منها ما لا يقبل التأويل، ولهم في التأويل خلط وخبط، كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول ازدادوا بعدا، حتى إنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة، وقنعوا في مغالطة الضرورة بها بالمغيب، وهي أن ما هم فيه، ويزعمونه وراء العقل، وأنه بالوجدان يحصل، ومن نازعهم محجوب مطرود عن الأسرار الإلهية، وفي هذا كفاية. والله أعلم" ا. هـ.
البساطي وشرحه للتائية
وقد قام في زماننا ناس حدثان الأسنان سفهاء الأحلام، أرادوا [50] إظهار هذا المذهب، ثم أخزاهم الله تعالى، فقلقلوا كل مقلقل, وكان مما قالوه: أن الشمس البساطي هذا منهم، وأنه شرح تائية ابن الفارض، فاستبعد هذا منه. وإن كان ما قالوه صحيحا، فقد قضى على نفسه في كلامه هذا، بأنه خرج من دائرة العقل، ثم يسر الله -وله الحمد- الاطلاع على الشرح المنسوب إليه, فإذا هو بريء مما فرقوه به كما كنت أظن، فرأيته قال في أوله: "أما بعد: فهذا كتاب شرح قصيدة ابن الفارض، ولباب فتح، وصيد لحن [ابن] الفارض على وجه أنا نبين مراده من كلامه بقدر فهمنا لمقصوده منه، ولا يلزمنا صحة ما قاله في العربية لفظا، أو في الشريعة معنى، أو استحسانا، عقلا أو شرعا أو عرفا" ثم تكلم على الأبيات على وجه يظهر منها حملها على موافقة الشرع ما أمكنه، فإذا عجز صرح في ذلك الموضع بما يليق به من الحكم عليه من غير(190/174)
ثم قرر1 أمر التسخير، وأن منه ما هو بالمال، ومنه ما هو با لحال، وأن ما هو بالحال مثل تسخير الطفل لأبيه بالقيام في مصالحه، وتسخير الرعايا للملك بقيامه في مصالحهم, قال: "وهذا كله تسخير بالحال من الرعايا يسخرون [في ذلك] مليكهم، ويسمى على الحقيقة تسخير المرتبة، فالمرتبة حكمت عليه بذلك، فالعالم كله يسخر بالحال من لا يمكن أن يطلق عليه اسم مسخر. قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ [فِي] شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلط موسى [عليه] حكمة من الله ظاهرة في الوجود؛ ليعيد في كل صورة2، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك, فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد, إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، فلا بد من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد، والظهور بالدرجة في قلبه، ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل: رفيع الدرجة، فكثر الدرجات في عين واحدة، فإنه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة، أعطت كل درجة مجلى إلهيا عبد فيها.
الهوى رب الصوفية الأعظم:
وأعظم مجلى عبد فيه، وأعلاه الهوى، كما قال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا بالله، ولا يعبد هو إلا بذاته3" ثم قال: "والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد
ـــــــ
1 أي: ابن عربي.
2 يفتري على الله أنه يسخر الناس ليعبدوه في كل صورة، أي: ليعبد كل إنسان نفسه وغيره من جماد وحيوان فإله الصوفية عين كل كائن، وعين كل شهوة وعين كل جريمة، وعين كل فاحشة.
3 ص194 فصوص. وبهذا يوقن القارئ أننا لم نتجن على الصوفية، فيما =(190/175)
وما قبله، وما بعده مما ادعى فيه أن الله يتحد به، ويتجلى بصورته من غير حلول، ما نصه1: "ولكن دعوى تجلي الله بصورة ما مفكر2 بها شرعا بإجماع المسلمين والكافرين من آمن به3، وإن لم يكن حلولا".
رأي ابن حجر والبلقيني وغيرهما:
ومنهم شيخنا شيخ الإسلام حافظ عصره قاضي القضاة أبو الفضل بن حجر، وشيخه شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني4، فقال في ترجمة عمر بن الفارض في لسان الميزان بعد أن ذكر ترجمة الذهبي له بأنه شيخ الاتحادية وأنه ينعق بالاتحاد الصريح في شعره: "وقد كنت سألت شيخنا سراج الدين البلقيني عن ابن العربي، فبادر بالجواب بأنه كافر, فسألته عن ابن الفارض، فقال: لا أحب التكلم فيه, فقلت: فما الفرق بينهما، والمهيع واحد؟! وأنشدته من التائية [51] فقطع علي بعد إنشاد عدة أبيات بقوله: هذا كفر، هذا كفر".
ومنهم الشيخ ولي الدين العراقي وأبوه كما تقدم في الفص الموسوي وغيره، ومنهم العلامة برهان الدين السفاقيني صاحب الإعراب، ونظم قصيدة طويلة يتحرق فيها، ويندب أهل الإسلام لهؤلاء الضلال، فقال فيها:
فشيخهم الطائي5 في ذاك6 قدوة ... يرى كل شيء في الوجود هو الحقا7
ـــــــ
1 مقول قوله قبل: وقال في شرح.
2 في الأصل: مكر. والتصويب من الأصل نفسه، إذ ورد فيه هذا النص مرة أخرى.
3 أي: من آمن بتجلي الله في صورة ما في الدنيا.
4 ولد سنة 724هـ، ولي إفتاء دار العدل وقضاء دمشق، ثم عاد إلى القاهرة توفي سنة 805هـ.
5 يعني: ابن عربي.
6 في الأصل: ذلك. وهو خطأ يختل به وزن البيت.
7 أي: الله سبحانه.(190/176)
وكم من غوي كابن سبعين مثله ... وكلهم بالكفر قد طوقوا طوقا
وكالششتري القونوي، وابن فارض ... فلا برد الله ثراهم، ولا أسقى
ومن كفر ابن الفارض بصريح اسمه شيخنا محقق عصره، قاضي القضاة شيخ الإسلام محمد بن علي الغاياتي الشافعي1. أخبرني عنه بذلك الثقة من غير وجه، وأخبرني الثقة عن الشيخ مدين2 أنه قال: التائية هي الفصوص، لا فرق بينهما، وقد كان المذكور رأس صوفية عصرنا.
مقتل الحلاج:
ومنهم الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير الدمشقي الشافعي, وقال: "هؤلاء كلهم يقتفون في مسالكهم هذه طريقة الحسين بن الحلاج الذي أجمع الفقهاء في زمانه على كفره وقتله، قاله الإمام أبو بكر المازري الفقيه المالكي" قلت: وما قاله القاضي عياض كما تقدم نقله عنه في مقدمة هذا الكتاب. والله الموفق.
قال: "وقد بسطت سيرته في التاريخ بعد الثلاثمائة، وذكرت صفة قتله، واجتماع الكلمة على تكفيره من العلماء والصوفية العباد، سوى ابن عطاء وابن خفيف، حتى أنشدهما بعضهم من شعره قائلا: ما تقولان في قول بعض الشعراء:
سبحان من أظهرنا شوته3 ... سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب
ـــــــ
1 ولد سنة 785 تقريبا. وتوفي سنة 850هـ.
2 هو مدين خليفة الأشموني، نسبة إلى أشمون جريس من أعمال المنوفية ولد بها سنة 781 تقريبا، وتوفي في ربيع الأول سنة 892هـ يقول عنه السخاوي: "وأما في تحقيق مذهب القوم فهو حامل رايته، والمخصوص بصريحه وإشاراته مع أنه لم يكن يتكلم فيه إلا بين خواصه".
3 تقرأ بالضم والفتح، وهي بالضم أدق في الدلالة على دين الحلاج.(190/177)
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة1 الحاجب بالحاجب
فقالا: هذا شعر الزنادقة2، فقال: هذا شعر الحسين بن منصور الحلاج، فلعنا الحلاج، ورجعا عنه" ا. هـ.
رأي الذهبي:
وممن صرح بكفره، وأحسن في بيان أمره حافظ عصره شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، فقال في كتابه تاريخ الإسلام بعد خط الحافظ سيف الدين ابن المجد علي الحريري المتصوف: "فكيف لو رأى الشيخ كلام ابن عربي الذي هو محض الكفر والزندقة، لقال: هذا الدجال المنتظر، ولكن كان ابن العربي3 منقطعا عن الناس، إنما يجتمع به آحاد الاتحادية4، ولا يصرح بأمره لكل أحد، ولم تشتهر كتبه إلا بعد موته، ولهذا تمادى أمره، فلما كان على رأس السبعمائة جدد الله لهذه [الأمة] دينها بهتكه وفضيحته، ودار بين العلماء كتابه الفصوص، وقد خط عليه الشيخ القدوة الصالح إبراهيم بن معضاد الجعبري فيما حدثني به شيخنا ابن تيمية عن التاج [52] البارنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم يذكر ابن عربي: كان يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، وحكى عنه ابن تيمية أنه قال لما اجتمع5 بابن عربي، رأيت شيخا نجسا يكذب بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله6".
ـــــــ
1 في الأصل: كخطة، وهو خطأ، صوابه ما أثبته.
2 أي: من أنشدهما من شعر الحلاج.
3 اصطلح أهل المشرق على تسميته بابن عربي، أي: من غير آل، تمييزا له من أبي بكر بن العربي القاضي الفقيه المالكي.
4 ابن عربي زعيم وحدة الوجود لا الاتحاد.
5 أي: ابن معضاد.
6 انظر مجموعة الرسائل والمسائل جـ4 ص76، ففيها نص ما ذكر هنا.(190/178)
رأي ابن تيمية وغيره من العلماء:
وقال الإمام أبو العباس أحمد ابن تيمية في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: "وقد صنف بعضهم -أي: أهل الاتحاد- كتبا وقصائد على مذهبه، مثل قصيدة ابن الفارض المسماة بنظم السلوك، يقول فيها -وذكر منها عدة أبيات1- ثم قال: إلى مثل هذا الكلام -أي: الدال على الاتحاد-، ولهذا كان عند الموت ينشد2:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ... ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت روحي بها زمنا ... واليوم أحسبها أضغاث أحلام
فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه، تبين له بطلان ما كان يظنه3" وقال في إفتائه الذي استفتاه فيه الشيخ سيف الدين عبد اللطيف بن بلبان السعودي، بعد أن حكى جملة من أقوال ابن عربي صريحة في الكفر: "فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو فصوص الحكم, وأمثاله مثل صاحبه القونوي4 -يعني صدر الدين- والتلمساني وابن سبعين، والششتري وابن الفارض وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود, ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود
ـــــــ
1 مما استشهد به ابن تيمية قول ابن الفارض:
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
2 أي: ابن الفارض.
3 انظر ص83 وما بعدها من الفرقان ط1366هـ، ص76 جـ4 مجموعة الرسائل والمسائل.
4 محمد بن إسحاق من أهل الوحدة، هلك سنة 673هـ.(190/179)
الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما تتصف به المخلوقات من حسن وقبح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم عين الخالق1، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها، بل عندهم ما ثم غير أصلا للخالق ولا سواه فعباد الأصنام لم يعبدوا غيره عندهم؛ لأنه ما عندهم له غير وأما العلامة ابن دقيق العيد، فذكر أنه سمع عز الدين بن عبد السلام يقول في ابن عربي: شيخ سوء كذاب" وممن حط عليه، وحذر منه الشيخ القدوة إبراهيم الرقي2, ثم ذكر جماعة ممن تقدم ذكرهم في إفتائهم بأن كتابه الفصوص فيه الكفر الأكبر، وقد ذكر ابن أبي حجلة أيضا عن غير هؤلاء ممن كفر هذه الطائفة من علماء المسلمين وذكر في كلام كل منهم في إبطال هذا المذهب ما لا لبس فيه، وفيما ذكرته مقنع، وذكر الحافظ تقي الدين الفاسي3 في كتابه فيه: "ممن كفره الإمام أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الحضري ابن خلدون قاضي المالكية بمصر، وقال في فتوى ذكرها4 فيه، وفي أضرابه، فيتعين على ولي الأمر إحراق هذه الكتب دفعا للمفسدة العامة.
ـــــــ
1 قال ابن عربي في الفصوص: "فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها، وسواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا, أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله تعالى خاصة" ص79 فصوص. فما ينسبه ابن تيمية إليهم صدق وحق في شأنهم.
2 ولد سنة 812هـ وتوفي سنة 884هـ قال عنه السخاوي: ونعم الرجل كان رحمه الله وإيانا.
3 محمد بن أحمد بن علي. ولد سنة 775هـ بمكة. وتوفي سنة 832هـ.
4 سبق ذكر هذه الفتوى.
5 في هامش الأصل جاء ما يأتي: "قلت: رأيته مصرحا به في كتابه "يعني ابن خلدون" عيون العبر، وديوان المبتدأ [والخبر] وفصل هناك تفصيلا زائدا، وهو كتاب لا نظير له".(190/180)
ومما ذكره الفاسي أيضا من مكفريه: الإمامان رضي الدين أبو بكر بن محمد بن صالح [53] الجبلي المعروف: بابن الخياط1 الشافعي مدرس المعينية بتعز، ومفتي تلك النواحي، والقاضي شهاب الدين أحمد بن علي الناشري2 الشافعي مفتي زبيد، وفاضل اليمن شرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري3 الشافعي، قال: "وبين من حال ابن عربي ما لم يبينه غيره" وقال: وأما من أثنى على ابن عربي، فلفضله وزهده، وإيثاره، واجتهاده4 في العبادة، ولم يعرفوا ما في كلامه من المنكرات، لاشتغالهم عنها بالعبادات. وقال الفاسي أيضا: "وبعض المثنين عليه يعرفون ما في كلامه من المنكرات، ولكنهم يزعمون أن
ـــــــ
1 من كبار علماء اليمن ولد سنة 772هـ يقول عنه السخاوي: "انتهت إليه رياسة الفقه، وجرى بينه وبين المجد الشيرازي مراجعات، بسبب إنكاره على المشتغلين بكتب ابن عربي" توفي سنة 811هـ.
2 ولد سنة 789هـ، وهو من كبار علماء اليمن، ولي قضاء زبيد نيابة عن والده. توفي سنة 854هـ.
3 ولد سنة 808هـ وتوفي سنة 875هـ له قصيدة طويلة يذم فيها الصوفية ويحذر منهم، منها:
حوتهن كتب حارب الله ربها ... وغر بها من غر بين الحواضر
تجاسر فيه ابن العربي واجترا ... على الله فيما قال كل المتجاسر
فقال بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوب بغير تغاير
وأنكر تكليفا، إذ العبد عنده ... إله وعبد، فهو إنكار فاجر
وقال: تجلى الحق في كل صورة ... تجلى عليها، فهي إحدى المظاهر
فسبحان رب العرش عما يقوله ... أعاديه من أمثال هذي الكبائر
فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن ... وإلا فصدقه تكن شر كافر
وتقع هذه القصيدة في ستة وسبعين بيتا، نقلها المقبلي في كتابه العلم الشامخ ص504.
4 أي فضل لابن عربي؟ إيمانه بأن فرعون هو الله؟ أم عشقه بمكة امرأة زعم لها بعد أنها هي الله؟.(190/181)
لها تأويلات، وحملهم على ذلك كونهم تابعين لابن عربي في طريقته، فثناؤهم على ابن عربي مطروح لتزكيتهم معتقدهم".
رأي علاء الدين البخاري:
وممن كفر أهل هذا المذهب شيخ مشايخنا نادرة زمانه علاء الدين محمد بن محمد البخاري الحنفي، وصنف فيهم رسالة سماها: "فاضحة الملحدين، وناصحة الموحدين" وبين أن وحدتهم الوحدة التي قرر أصلها بعض الفلاسفة, إلا التي يسميها أهل الله: الفناء1، ونقل عن القاضي عضد الدين تكفيرهم، فإنه قال في وصفه لابن عربي: "يحكى عنه أنه كان كذابا حشاشا كأوغاد الأوباش" فقد صح عن صاحب كتاب المواقف عضد الملة والدين، أعلى الله درجته في عليين، أنه لما سئل عن كتاب الفتوحات لصاحب الفصوص حين وصل هنالك قال: "أفتطمعون من مغربي يابس المزاج بحر2 مكة، ويأكل الحشيش شيئا غير ذلك؟ وقد تبعه -أي ابن عربي- في ذلك ابن الفارض حيث يقول: أمرني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتسمية التائية: نظم السلوك! إذ لا يخفى على العاقل أن ذلك من الخيالات المتناقضة الحاصلة من الحشيش؛ إذ عندهم أن وجود الكائنات هو الله تعالى، فإذن الكل هو الله، لا غير، فلا نبي, ولا رسول، ولا مرسل إليه، ولا خفاء في امتناع النوم على الواجب، وفي امتناع افتقار الواجب إلى أن يأمره النبي بشيء في المنام، لكن لما كان لكل ساقطة لاقطة، ترى طائفة من الجهال ذلت أعناقهم لها، خاضعين أفرادا وأزواجا،
ـــــــ
1 هذا اصطلاح صوفي ابتدعه الضالون تمهيدا لتقرير وحدة الوجود، وظني أن أول من تكلم به هو طيفور بن عيسى البسطامي، فكيف يكون هذا من تسمية أهل الله؟ وما قرره في مفهومه الصوفي الكتاب ولا السنة، ولا تكلم به صحابي ولا تابعي.
2 كذا بالأصل: ولعلها: حرم مكة.(190/182)
وشرذمة من الضلال يدخلون في فسوق الكفر بعد الإيمان، زمرا وأفواجا مع أنهم يرون أنه اتخذ آيات الله، وما أنذروا به هزوا، وأشرك جميع الممكنات -حتى الخبائث والقاذورات- بمن لم يكن له كفوا أحد".
تحقيق معنى الكافر والملحد والزنديق والمنافق:
وقال في آخر رسالته: "إنهم يسمون كفرة وملاحدة وزنادقة، وذلك أن الكافر اسم لمن لا إيمان له، فإن أظهر الإيمان من غير اعتراف بنبوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خص باسم المنافق، دون الزنديق، لأن الله تعالى لم يسم الذين نافقوا [54] في عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زنادقة، فدروز 1 الشام -على ما تشهد به كتبهم الملعونة- إنما يظهرون الإيمان، ولا يعترفون بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، فهم مباحيون منافقون، لا زنادقة على ما يتوهم ذلك؛ لعدم التفرقة بين المنافق والزنديق، وإن طرأ كفره بعد الإيمان خص باسم المرتد؛ لرجوعه عن الإيمان، وإن قال بإلهين أو أكثر خص باسم المشرك؛ لإثباته الشريك في الألوهية، وإن كان متدينا ببعض الأديان والكتب المنسوخة خص باسم الكتابي، كاليهودي والنصراني، وإن كان يقول بقدم الدهر، واستناد الحوادث، خص باسم الدهري، وإن كان لا يثبت الصانع خص باسم المعطل، وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإظهار شعائر الإسلام، يتبطن عقائد هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق، وهو في الأصل منسوب
ـــــــ
1 واضع نحلتهم محمد بن إسماعيل الدرزي، وقد تقدمت ترجمته، والدروز لا يضيفون الألوهية إلا إلى الحاكم، ويدينون برجعته آخر الزمان، وينكرون الأنبياء والرسل جميعا، وينكرون أصول الإسلام والنصرانية واليهودية، ويبغضون في الباطن جميع أبناء الأديان الأخرى، ولا سيما المسلمين، ويستبيحون دماءهم وأموالهم، ويفترون أن القرآن من صنع سلمان الفارسي، وهم الآن بالجبل المسمى باسمهم في سوريا، انظر كتاب الحاكم بأمر الله للأستاذ محمد عبد الله عنان.(190/183)
إلى زند1 اسم كتاب أظهره مزدك2 في أيام قباذ، وزعم أنه تأويل كتاب المجوسي الذي جاء به زرادشت3 الذي يزعم أنه نبيهم، وإن كان مع تبطن تلك العقائد الباطلة يستحل الفروج، وسائر المحرمات بتأويلات فاسدة، كما يزعم الباطنة والوجودية4 خص باسم الملحد. والزنديق في عرف الشرع: اسم لما عرفت5، لا لكل من صدر عنه فعل، أو قول يوجب الكفر على ما هو
ـــــــ
1 ليس من وضع مزدك، وإنما هو شرح زرادشت لكتابه هو المسمى أفستا.
2 ظهر مزدك بفارس سنة 487م، وهو ثنوي يدين بالنور والظلمة. أما دعوته الاجتماعية فيتحدث عنها الشهرستاني بقوله: "أحل النساء، وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيها" وحين اشتدت وطأة بعض الخلفاء العباسيين على المزدكيين فر زعماؤهم إلى أوروبا. وتستطيع بهذا إدراك ما بين المزدكية والشيوعية من صلة، وتعرف المصدر القديم لهذه.
3 يزعم الفرس أنه نبي، ولد حوالي سنة 660 قبل الميلاد, وقد وضع دينا ليس بجديد كل الجدة، بل أرسى أصوله على أسس من الديانة الفارسية القديمة، ومات حوالي سنة 583 ق م. وكتابه الذي يزعم أنه أوحي إليه به يسمى: أفستا, أو أبستاق كما يسميه المسعودي في مروجه، وزرادشت ممن يدينون بأصلين، أحدهما: أصل الخير، ويسميه "أهورا مزدا" والآخر: أصل الشر، ويسميه "أهرمن" ويزعم زرادشت أن بين الأصلين نزاعا دائما، بيد أن الخير سيهزم الشر في النهاية، لذا كانت نزعته تفاؤلية، غير مبالغ في دعوته إلى الزهد، بل أباح التمتع بالطيبات، وفي ديانته ما يوحي بأنه كان يؤمن بالبعث والجزاء على تصور وتصوير خرافيين، ويرى بعض الباحثين أن زرادشت كان موحدا يؤمن بأن ما في العالم من خير وشر أثران للإله الواحد. انظر الملل والنحل، ومروج الذهب جـ1، والكامل لابن الأثير جـ1، وتاريخ ابن خلدون جـ1.
4 القائلون بوحدة الوجود.
5 ذكر الشهاب الخفاجي في شفاء الغليل أن لفظ الزنديق ليس عربيا، وذكر عن أبي حاتم أنه فارسي معرب" زند كرد" أي: عمل الحياة، ثم ذكر كلاما طويلا يظهرنا على مدى ما بين أئمة اللغة وغيرهم من اختلاف بيّن في تحديد مفهوم =(190/184)
متعارف أهل عصرنا، وقد يتوهم بناء على عدم الشعور بمعنى الحلول والاتحاد، أن الوجودية حلولية، أو اتحادية، وليس كذلك؛ إذ الحلول والاتحاد إنما يكون بين موجودين متغايرين في الأصل، والوجودية يجعلون الله تعالى عين وجود الممكنات، فلا مغايرة بينهما، ولا اثنينية، فلا يتصور ههنا الاتحاد والحلول،
ـــــــ
= هذه الكلمة.. والحق أنه ليس في الشرع ولا في اللغة تحديد جامع مانع لمفهومها والحق أن الزنديق لفظ غامض مشترك، لم يطلق بمعنى واحد في كل عصر، ولا على قوم بخصوصهم، بل تعددت معانيه، واختلفت إطلاقاته، فنراه أطلق على كل من اعتنق دينا فارسيا كالمانويين والزرادشتيين والمزدكيين والديصانيين، أعني على كل ثنوي فارسي، ونراه أطلق على كل ملحد، وكل مبتدع، وكل ماجن من الشعراء وغيرهم. قال بشار يهجو ابن أبي العوجاء:
لا تصلي، ولا تصوم، فإن صمـ ... ـت، فبعض النهار صوما دقيقا
لا تبالي إذا أصبت من الخمـ ... ـر عتيقا ألا تكون عتيقا
ليت شعري غداة حليت في الجنـ ... ـد حنيفا حليت، أم زنديقا
وقال أبو نواس: تيه مغن، وظرف زنديق. قال الصولي "وإنما قال ذلك لأن الزنديق لا يدع شيئا، ولا يمتنع عما يدعى إليه، فنسبه إلى الظرف لمساعدته على كل شيء وقلة خلافه" والتأمل في تاريخ الكلمة يلحظ أنها أطلقت أول ما أطلقت على ثنوية الفرس، وعلى من أعداهم الفرس بثنويتهم من العرب. وهذا يجعلنا نؤمن بالتطور في تاريخ هذه الكلمة، نؤمن بأنه قصد بها أولا كل ثنوي فارس، ثم توسع بعد هذا في مفهومها، فتعددت تبعا لهذا التوسع إطلاقاتها، فإنك لتجد صلة قوية بين كل من أطلق عليهم هذا اللفظ بعد، وبين الثنويين: إما في دين، وإما في خلق، وإما في نزعات المشاعر والأحاسيس. والتصوف -بدراسة دقيقة لتاريخه- ما هو إلا امتداد لهذه المؤامرات التي قام بها الزنادقة الأول, لإفساد العقائد، فيفسد المسلمون، فلا تكون لهم دولة ولا جامعة، بيد أن الشيطان أوحى إلى أوليائه تسميتها صوفية! يا للمجوسية تتراءى للمسلمين في وشاح من الربانية، وشفوف من الروحانية العليا في الإسلام، ويا للمسلمين بينهم كتاب الله، ويخدعهم هذا الزيف المجوسي! انظر أمالي المرتضى جـ1، شفاء الغليل للخفاجي، ضحى الإسلام، من تاريخ الإلحاد للدكتور بدوي.(190/185)
بلا زندقة أخرى أنجس منهما باطلة ببديهة العقل؛ إذ القائلون بها يجعلون الله تعالى أمرا اعتباريا لا وجود له في الخارج".
بعض مصطلحات الصوفية:
وقال1: "إن الملاحدة عبروا عن ضلالتهم بعبارات العارفين بالله2، يتسترون بها في زندقتهم، فينبغي الحذر من ذلك، فأرادوا بالفناء نفي حقائق الأشياء، وجعلوها خيالا وسرابا على ما هو مذهب السوفسطائية3، وبالبقاء ملاحظة الوجود المطلق، وبالوحدة المطلقة كون ما سوى الوجود من الأشياء خيالا وسرابا، وكون وجود جميع الأشياء -حتى وجود الخبائث والقاذورات4- إلها، وذلك
ـــــــ
1 أي: علاء الدين البخاري.
2 التسمية بالعارف بدعة صوفية، تخفي وراءها كيدا خفيا للشريعة، إذ الغاية عندهم المعرفة وحدها لا العبادة، معرفة أن الحق عين الخلق. أما الغاية الحقة لكل مسلم، فهي الإيمان الصحيح مع التوحيد الخالص، مع التقوى، وكم من عارف صوفي دينه أساطير، ودعوته مجوسية.
3 مشتق من الكلمة اليونانية "سوفيا" أي: الحكمة، والسوفيست هو الحكيم، وبه لقب رجال هذه المدرسة أنفسهم، ولكنها تطورت معهم، وتغير مدلولها بهم، حتى صارت تدل على المغالطة والتشكيك والمماراة. والصيغة العامة لمذهبهم الفكري إنكار الحقيقة المطلقة، والجزم باستحالة الحكم العام، فالحقائق عندهم اعتبارية كلها، ومقياس الحقيقة هو الإحساس الفردي، فما يراه شخص ما حقا, فهو حق، وإن كان غيره يراه موغلا في تيه الباطل. وأشهر زعماء هذه المدرسة التي عاشت قبل سقراط "بروتاجوراس، وجورجياس" أما عقيدتهم في الإلهية فيوضحها قول الأول "لا أستطيع أن أعلم إذا كان الآلهة موجودين، أم غير موجودين" ونرى شبها واضحا بين السفسطائية والصوفية في المنهج وفي النتائج فالأولون يرون الإحساس الفردي مصدر المعرفة ومقياسها، والآخرون يرون الذوق الفردي، وكلاهما يدين بأن الحقائق اعتبارية.
4 نسبة هذا إلى الصوفية ثابتة صادقة.(190/186)
غير ما أراده العارفون، فإنهم أرادوا بها معاني يصدقها الشرع1 وهم مصرحون بأن كل حقيقة يردها الشرع فهي زندقة، وأنه لس في أسرار المعرفة شيء يناقض ظاهر الشرع، بل باطن الشريعة يتم بظاهره، وسره يكمل صريحه [55] ولهذا إذا انكشفت على أهل الحقيقة أسرار الأمور على ما هي عليه2، نظروا إلى الألفاظ الواردة في الشرع، فما وافق ما شاهدوه قرروه، وما خالف أولوه بما يطابق الشرع، كالآيات المتشابهة3، ولا يستبعد وقوع المتشابه في الكشف ابتلاء
ـــــــ
1 ما في الشرع تلك الزمزمات الكهنوتية التي يزعم البخاري أنها من حقائق العارفين، فما في القرآن، ولا في السنة، ولا في قول صحابي، أو تابعي، أو مؤمن ما يسمى: الفناء، البقاء، الوحدة المطلقة، فناء الفناء. ما في الشرع مطلقا أثارة من هذه بدلائلها الصوفية، اللهم إلا إذا شاءوا وصف القرآن بأنه خلي من المعارف الإيمانية الحقة، أو الرسول والصحابة والتابعين بأنهم غير عارفين. هنالك في الإسلام مرتبة عليا هي الإحسان وهي: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" فلم يبغض الصوفية هذه المرتبة؟!
2 هذا بهتان صوفي، فالذي يعلم ويدرك أسرار الأمور على ما هي عليه هو الله رب العالمين وحده، بيد أن المس الصوفي يجري على لسان العلاء البخاري تهاويل الخرافة والأسطورة.
3 في قوله بما يطابق الشرع تلبيس، فالتأويل إنما ابتدعه أصحابه، ليجعلوا النقل مطابقا للعقل، إذ القاعدة عندهم: العقل أصل النقل، والعقل حاكم على النقل، فما لم يرتض واحد من المؤولة بعضا من الكتاب والسنة، أول هذا الذي لم يرتضه، أو بتعبير أدق: جرده من معانيه الأصلية الصحيحة، ووضع له معاني من عنده، حتى يطابق -في زعمه- ما يحكم به العقل!! ولكن عقل من؟ هذا ما نطلب الجواب عنه من المؤولة، وستظل علامة الاستفهام هذه أمام العقل دون أن يحير عنها جوابا، ثم إنه لم يدن بالتأويل سوى من سموهم خلفا، أما الصحابة والتابعون والسلف الصالحون، فلم ير واحد منهم في آيات الصفات وأحاديثها ما يرعش طمأنينة الإيمان واليقين الثابت في الأعماق المشرقة من قلبه، ولم يصفها أحد منهم بأنها من المتشابه، ولم يؤول أحد منهم شيئا منها مطلقا، =(190/187)
لقلوب العارفين1، كما أن وقوع المتشابه في الشرع ابتلاء لقلوب الراسخين, فأراد بالبقاء التخلق بالأخلاق الإلهية، والتنصل عن كدورات الصفات البشرية والفناء عندهم عبارة عن اطمحلال الكائنات في نظرهم مع وجودها، وعن الغيبة عن نسبة أفعالهم إليهم، وكذا الوحدة المطلقة عبارة عن مشاهدة الله -لا غير- من بين الموجودات لاطمحلالها مع تحققها ووجودها عند ظهور أنوار التجليات، كاطمحلال الكواكب مع وجودها عند ظهور نور الشمس في النهار، فإن كان العارف في هذه الحال يرى نفسه، فذلك هو الفناء في التوحيد, وهو مرتبة الخواص، وهو مشوب بكدورة وقصور، وإن غاب مع ذلك عن مشاهدة نفسه
ـــــــ
= وأمشاج من الزور ما زعمه البخاري هنا، ألا تراه يدين بأن الشريعة، لا يحكم عليها حتى بالعقل، بل بما يغيم على النفس من خواطر الأوهام، ويدين على الفكر من غيوم الأهواء؟ يدين بأن الكشف -وهو ألعن أسطورة ابتدعها الصوفية لمحاربة الكتاب والسنة- هو مقياس حقائق الشرع، تقاس بأوهامه يقين الوحي الإلهي، وقيمه السماوية المقدسة. وأن الكشف هو الذي يحدد لكل حقيقة شرعية مفهومها وغايتها، أو ما أراده الله منها وبها؟ وهكذا يأبى الخبل الصوفي إلا أن ينطق علاء الدين بهوسه وخرافاته.
1 يعرف الصوفية الكشف بأنه الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية، والأمور الحقيقية وجودا وشهودا، والله سبحانه هو القائل {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ، والبخاري -وهو يرد على الصوفية، ليبطل ما يدينون به من الوحدة- يتهاوى في نفس الحمأة، هذا لأنه صوفي, لا يحب أن ينسى -وهو يرد على غيره من الصوفية- تصوفه هو، لا ينسى طريقته التي يود أن يصرف الناس إليها وحدها. ولكن حسبنا منه -وهو أكبر صوفي في عصره- اعترافه الصريح، وحكمه البين على ابن عربي وابن الفارض بأنهما خارجان عن حقيقة الإسلام، والأول شيخهم الأكبر، وكبريتهم الأحمر، والآخر سلطان عاشقيهم.(190/188)
وعن أحواله الظاهرة والباطنة وعن ذلك الفناء -بحيث لا يشاهد شيئا غير الله1 كما لا يشاهد في النهار من الكواكب غير الشمس- فذلك هو فناء الفناء في التوحيد، وهو درجة خواص الخواص، فيصير لهم معنى قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [النمل: 88] ذوقا وحالا، كما أن حظ غيرهم من المؤمنين منه يكون علما وإيمانا، فالذوق نيل عين تلك الحال بالحصول الاتصافي، والعلم معرفة ذلك بالبرهان، ومأخذه القياس بأن ينظر إلى اطمحلال تلك الكواكب عند إشراق الشمس، فيقاس به اطمحلال وجود الكائنات عند إشراق أنوار التجليات، والإيمان قبوله بالتسامع والإذعان له، ولا يخالف هذا قولهم: إن الطريق إلى المعلوم بالكشف، إنما هو العيان دون البرهان؛ لأن المراد منا إقامة البرهان، على تحقق الكشف، لا على إثبات المعلوم، فقد عرفت أن معنى الوحدة المطلقة عند العارفين2 بعيد عما يريد به الكفرة الوجودية من الفلاسفة، ومن تبعهم ممن يدعي الإسلام؛ ليتمكن من هدمه عند الضعفاء.
ـــــــ
1 هذه هي وحدة الشهود، وهي النبحة الأولى من وحدة الوجود، بل هي المدخل إليها، وسترى البخاري -رغم تكفيره للقائلين بوحدة الوجود- يدور حولها، ويتسرب في خفية إليها. ولكنه جبان الشطح، مكير الخيال والتصوير.
2 ما في الرسل جميعا، ولا في الأنبياء عامتهم، ولا في الأولياء الصادقين من هو أعرف بحق الربوبية والإلهية من محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما فيهم من أحد أدى هذا الحق كما أداه، فما جاءنا عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرافة الوحدة المطلقة الصوفية، أو أنه وصل إلى حال لم يشاهد فيها شيئا غير الذات الإلهية. والصوفية يعنون بالشهود معاينة الذات، وفناء الكائنات جميعها في هذا الشهود حتى في الليلة التي تجلى الله فيها على عبده بأعظم نعمة، وأراه فيها من آياته الكبرى ليلة الإسراء والمعراج، قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما سئل: هل رأي ربه: نور. أنى أراه؟! وفيها كان يشهد غير الله: الأنبياء، وجبريل، والجنة، والبيت المعمور وسدرة المنتهى، وغير ذلك، وسمى لنا كل شيء باسمه، فأين منه البيان عن شهود =(190/189)
أسطورة الكشف:
ويروجون تلك السفسطة بإحالتها إلى الكشف، ويتفيهقون بأن مرتبة
ـــــــ
= الذات فنيت فيها الكائنات؟ ولكن لعل البخاري وأضرابه يفترون أنهم يصلون إلى ما لم يستطع أن يصل إليه خير البشرية وخاتم النبيين، ثم إنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبرنا خبر صدق وحق أن أحدا لن يرى ربه حتى يموت. وكان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتجاوب قلبه الطهور المشرق بنور الإيمان الأسمى مع كل حق عليه، فيؤديه أتم وأكمل وأوفى أداء، حق الله سبحانه، حق النفس، حق الحياة، حق الأهل والولد, فيا ترى هل لم يبلغ الرسول الأعظم في الدين والمعرفة مرتبة البخاري وأحلاس الصوفية؟ فما أبان لنا عن البقاء، والفناء وفناء الفناء والوحدة وما في عمله ولا قوله ما يحدد مفاهيم هذه الأساطير الصوفية. والله سبحانه يذكر لنا أن خليله إبراهيم رأى -منة من الله- ملكوت السماوات والأرض، فأين البيان من الخليل عن الفناء وفناء الفناء والوحدة المطلقة؟، وداود عليه السلام في تسابيحه كانت الطير تئوب معه، والجبال سخرها الله له يسبحن معه بالعشي والإشراق فما جاءنا عنه أنه كان في فناء، أو فناء فناء، أو شهود ذات فنيت فيها الكائنات، بل كان مع ذلك في الحديد يعمل. وربنا العليم بذات الصدور يثني على خير رسله في أسمى مقاماتهم بأنهم عباده المخلصون المتقون المؤمنون الأوابون، لا الذين يشهدون الذات فنيت فيها الكائنات! ويثني على الملائكة بأنهم عباد مكرمون, لا الذائقون حال الوحدة المطلقة، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول عن الإحسان, أسمى مراتب الإخلاص في العبودية: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" والبخاري وأضرابه يقولون أسمى مرتبة: أن تشهد الذات فنيت فيها الكائنات، وحقيقة التوحيد أن تعبد الله وحده، وأن لا تعبده إلا بما شرعه، ولكن البخاري يقول: أن تشهد الذات فنيت فيها الكائنات، وقد أجهد الصوفي البخاري نفسه في الرد على باطل الصوفية حتى لهثت أنفاسه. فما بلغ إلا تأييد باطل كان يتمنى الصوفية مثل قلم البخاري للدفاع عنه، ولو أنه لجأ إلى الكتاب والسنة لاستطاع بحجة واحدة منهما أن يأتي بنيانهم من القواعد، بل لو لجأ إلى العقل مؤمنا لدك على الطاغوت هيكله، ولدمر أصنامه، ولكنه صوفي.(190/190)
الكشف وراء طور العقل، وأنت خبير بأن مرتبة الكشف نيل ما ليس له العقل ينال، لا نيل ما هو ببديهة العقل محال، وذلك أن الله تعالى خلق العباد وبين لهم سبيل الرشاد، وزينهم بالعقل نورا يهتدون به إلى معرفته، وحجة توصلهم إلى محجته بالاستدلال على وجود الصانع بالمصنوعات1، والنظر فيما يجوز ويستحيل [56] عليه من الأفعال والصفات، وأن إرسال الرسل من أفعاله الجائزة، وأنه قادر على تعريف صدقهم بالمعجزة، وعند ذلك ينتهي بصرف العقل2 لعدم استقلاله بمعرفة المعاد، وبما يحصل السعادة والشقاوة هنالك للعباد، وإنما يستقل بمعرفة الله تعالى3، وصدق الرسول، ثم يعزل نفسه، ويتلقى من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يقول، في أحكام الدنيا والآخرة بالقبول4، إذ لا ينطق
ـــــــ
1 لم لا يقال: الخالق بالمخلوقات؟!
2 الله سبحانه هو العليم الخبير حقا بما يجب لربوبيته وإلهيته. وقد بين لنا عز شأنه تفضلا منه ورحمة هذا في كتابه الحكيم أجلى وأتم وأكمل بيان. فما يجوز لامرئ الزعم بأن للعقل التصرف في إثبات ما يجب وما يجوز وما يستحيل على الله سبحانه، والمؤمن الحق هو من يؤمن صادقا بكل ما وصف الله به نفسه إثباتا ونفيا. فيثبت خاشعا ما أثبت الله سبحانه لنفسه. وينفي منزها ما نفاه عنها جل وعلا. هو من يوحد الله توحيدا قوليا. وعمليا وعلميا واعتقاديا في الربوبية والإلهية بما ورد في الكتاب والسنة.
3 فرية فلسفية، وإفك صوفي، فالعقل حينما استقل بمعرفة الله سماه سبحانه ووصفه بما لا يحب الله أن يسمى أو أن يوصف به، أثبت له ما أوجب الله نفيه، ونفى عنه ما أوجب الله إثباته، نفى عنه كونه خالقا مدبرا يعلم كل خافية، وأثبت له ما عربد من الشهوة، وما ضل من العاطفة، فسماه عاشقا ولاذا وملتذا، ألا فليؤمن العقل دائما بأنه دائما في قبضة من خلقه، وأنه الفقير دائما إلى الغني الخلاق العليم الخبير.
4 بل يجب عليه قبل هذا أن يتلقى مؤمنا مخلصا ما جاء في الكتاب والسنة عن صفات الله وأسمائه، دون لمسة من ريب تدفعه إلى التأويل، أو همسة من فكر تلوذ به إلى التعطيل، أو تجاوب مع الحس يهيم به في التجسيم أو التمثيل.(190/191)
بما يحيل العقل بالبديهة والبرهان، لامتناع ثبوت ما تحكم حجة الله عليه بالبطلان فلا مجال في مورد الشرع، ولا في طور الولاية والكشف لما يحكم العقل عليه بأنه محال، بل يجب أن يكون كل منهما في حيز الإمكان والاحتمال، غير أن الشرع يرد بما لا يدركه العقل بالاستقلال، وبالكشف يظهر ما ليس له العقل ينال1 لأن الطريق إليه الكشف والعيان؛ دون بديهة العقل والبرهان، لكن إذا عرض عليه لا يحكم عليه بالبطلان، لكونه في حيز الإمكان، ولا ينبغي متوهم أن ما يتستر به الوجودية من دعوى الكشف من قبيل ما ليس له العقل ينال، بل هو مستحيل وللعقل في إبطاله تمكن ومجال؛ إذ الطريق إليه التصور ثم التصديق بالبطلان، وذلك وظيفة العقل بالبديهة أو البرهان، وأما الأمور الممكنة الكسبية، فيجعلها العقل في حظيرة الإمكان، ولا يحكم عليها بالبطلان ثم إن ما يناله الكشف، ولا يناله العقل الممكن الذي الطريق إليه العيان2، دون البرهان، لا المحال الممتنع الوجود في الأعيان؛ إذ الكشف لا يجعل الممتنع متصفا بالإمكان موجودا في الأعيان؛ لأن قلب الحقائق بين الامتناع والبطلان فلو تخايل حصول المحال بالكشف ككون الوجود المطلق واحدا شخصيا، وموجودا خارجيا، وكون الواحد الشخصي منبسطا في المظاهر، متكررا عليها
ـــــــ
1 جعل من الشرع قسما لا يناله العقل، بل الكشف، فمن قال هذا؟ وسيعلم أن الطريق إليه كذلك معاينة الذات؟ فمن أين جاء بهذا؟ وهل في مقدور كل مسلم الكشف والمعاينة؟ يجيبون هم بأن هذا لخواص الخواص، وهذا يستلزم أن الخواص والعوام لا يمكن أن يصلوا إلى معرفة أهم حقائق الشرع، ثم ما هذا الذي لا يظهر إلا بالكشف؟ إن كان هو عين ما في الشريعة، فما للكشف فائدة إذا. وإن كان غير ما فيها، قالوا بجواز عبادة الله بغير ما شرعه الله، وتلك هي الطاعة الكبرى، فما صنع البخاري شيئا سوى أن فر إلى ما فر منه، وحارب ما يحارب هو من أجله.
2 يريد الصوفية بها معاينة الذات الإلهية، ومشاهدة أسرار الربوبية والإلهية.(190/192)
بلا مخالطته، متكثرا مع النواظر بلا انقسام، فذلك شعوذة الخيال، وخديعة الشيطان وقال بعد ذلك: "إنهم صرحوا بأن التكثر في الموجودات ليس بتكثر وجوداتها، بل تكثر الإضافات والتعينات" ثم قال: "فقالوا: معنى قولنا: الواجب موجود، أنه1 وجود، ومعنى قولنا: الإنسان، أو الفرس موجود، أنه ذو وجود، بمعنى أن له نسبة إلى الوجود، لا أنه متصف بالوجود، على ما هو معنى الوجود لغة وعرفا وشرعا، احترازا عن شفاعة التصريح بكون الواجب صفة الممكن، وأنت خبير بأن جواز الإطلاق فرع صحة الاشتقاق، ولو سلم فما ذكروا في بيان معناه في الواجب والممكن ليس معناه، لا لغة، ولا عرفا، ولا شرعا ومنشأ الغلط فيما يكشفه الشرع بما يقصر عنه العقل، وما يدعيه هؤلاء مما يحيله [57] عدم التفرقة بين ما أحاله العقل كهذه المذكورات، وبين ما لا يناله العقل كاطمحلال وجود الكائنات عند سطوع أنوار التجليات، وإنما ينال ذلك بجذبة الإلهية2، أو رياضة في متابعة الحضرة النبوية في الوظائف العلمية والعملية
ـــــــ
1 في الأصل: موجوداته، بدل: موجود أنه.
2 عجيب أن يجعل البخاري هذا مما لا ينال إلا بجذبة، فالمؤمن الحق يدرك باللمحة الهافية من الفكر والوجدان والشعور، أن بين وجود الله، ووجود العالم فرق ما بين رب السموات والأرض، وبين عبد خلق من طين, بيد أن البخاري يريد بالاطمحلال عند التجلي فناء وجود السوى، فلا يشهد العارف ثم إلا وجودا واحدا هو الواجب، أو المطلق، يعني يرى الكثير واحدا، والظاهر عين المظاهر فإن يك هذا, فقد هوى في غيابة صوفية، إذ ينفي الوحدة من جهة، ويثبتها من جهة أخرى، فالصوفية يريدون بالتجلي ما ينكشف للقلب من أنوار الغيوب، أو ظهور الذات في عين المظاهر، وفي الأول ادعاء معرفة الغيب وقول على الله بغير علم, وفي الآخر الإقرار بوحدة الوجود، فأيهما يريد البخاري؟! ثم ما هذه الجذبة؟ ما سبيلها؟ ما دليلها؟ ما مثالها في الماضي المؤمن؟ لا يقال: سبيلها العبادة، فإنه جعل العبادة قسما آخر غير الجذبة، وليس في الكتاب ولا في السنة عليها دليل، وما سمعنا عن صحابي أو تابعي، أو مؤمن صادق أنه نال هذه الجذبة.(190/193)
والنيل هو الحصول الاتصافي، والعلم هو الحصول الإدراكي، ثم إن كلا مما لا يدركه العقل بالاستقلال، وما ليس له العقل ينال، لما كان مستوقفا على الإعلام والإرشاد من رب العالمين، بعث الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ لبيان الأول، وهو علم الشريعة صريحا، والإشارة إلى الثاني، وهو علم الحقيقة رمزا وتلويحا1, كما يلوح من القرآن المجيد {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] إلى درجة الفناء في الفناء في التوحيد".
ـــــــ
1 يدين البخاري كغيره من الصوفية أن الدين حقيقة وشريعة، وأن الأولى غير الأخرى، بل أسمى منها وأفضل، وأن الشريعة لا تتضمن الحقيقة، وأن البيان عنها في القرآن جلي صريح. أما عن الحقيقة، فرمز وتلويح, وبذا أركس البخاري فيما أركس فيه الصوفية. الله سبحانه يصف كتابه بأنه بيان للناس، ويمن علينا بأنه بعث في الأميين رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، والبخاري يزعم أن القرآن أشار إلى علم الحقيقة عن طريق الرمز والتلويح، وما كل الناس يفهمون الدلالة الرمزية، أو التلويحية، وما كل أمي يفهمها، وهذا يستلزم طامتين، الأولى: اتهام القرآن بالعجز في البيان عن الحقيقة، فلم يستطع الإفصاح عنها إلا عن طريق الرمز والتلويح، وهما أغمض وأعجز أنواع الدلالات، الأخرى: اتهام الأكثرية الغالبة من هذه الأمة بأنها لا تعلم الحقيقة من دينها الحق، ولا يعبدون الله على بصيرة من الحق، بل ينسحب هذا الاتهام على الصحابة أجمعين، وإذا كانوا فلاسفة لا صوفيين، فإن قيل: كانوا يعرفون علم الحقيقة في زعم الصوفية، قلت: أين الدليل؟ أجاء عن أحد منهم افتراء أن الدين حقيقة وشريعة مغايرا بين القسمين؟ أتكلم واحد منهم عن الفناء، وفناء الفناء، والوحدة المطلقة، وهذه هي معارف علم الحقيقة عند الصوفية؟ بل أقول: إن في قول البخاري ومن دان دينه من الصوفية اتهاما للرسول ببهتانين، أولهما: كتمان علم الحقيقة في الدين، أو الجانب الأسمى منه، إذ لم يرد فيما بلغ إلينا عن الله هذا العلم الذي يدعيه البخاري: علم الفناء، وفناء الفناء، ومعاينة الذات!! وآخرهما: أنه كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعلم الحقيقة، ولم يهتد إلى ما اهتدى إليه البخاري وغيره. واتهام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوهم من هذا =(190/194)
انتهى ما نقلته من رسالة الشيخ علاء الدين البخاري، لكني تصرفت فيه بالتقديم والتأخير، وقد وضح بذلك محالهم، وتبين به ضلالهم1 والله الموفق.
عود إلى من كفروا ابن عربي:
وعن الحافظ تقي الدين محمد بن أحمد الفاسي المكي في كتابه: تحذير النبيه والغبي من الافتتان بابن عربي، أنه قال, وقد سئل عنه وعن شيء من كلامه:
ـــــــ
= كفر خبيث، وقد اتهمه الصوفية فعلا بالأول: أي: الكتمان، اسمع لابن عجيبة في شرحه لحكم ابن عطاء الله السكندري يقول: "وأما واضع هذا العلم -يعني التصوف- فهو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علمه الله له بالوحي والإلهام، فنزل جبريل أولا بالشريعة، فلما تقررت نزل ثانيا بالحقيقة، فخص بها بعضا دون بعض" ص5 جـ1 ط1331هـ. وفي هذا حجة على دين الصوفية مقت للشريعة، واتهام صريح للرسول بأنه لم يبلغ بعض ما أنزل إليه، وبأنه هوى مع الهوى فخص به بعضا, وحاشا الرسول الكريم.
1 علاء الدين البخاري رجل أشرب قلبه وفكره التصوف، وقد خدع البقاعي بهذره الصوفي، فكل ما هول به البخاري في الرد على الصوفية لا ينابذ لهم باطلا. بل يواليه ويمالئه. نعم صرح الرجل في قوة وشجاعة وجلاء بتكفير ابن عربي وأحلاسه، بيد أن ما حسبه أدلة تدمغهم بالزندقة هي في حقيقتها أساطير صوفية، أو هي بالذات عناكبهم التي يصيدون بها العقول الذبابية. وهذا يثبت ما قلته من قبل، وهو أن كل من به مس من الصوفية إنما يطوي النفس على أمشاج وثنية.
وإن تراءى بتكفير غيره من لدانه وأقرانه. قارن بين ما رد به البخاري الصوفي، وبين ما رد به الإمام ابن تيمية، لتدرك البون الشاسع بين الرجلين، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالبخاري صوفي يرد بتصوفه على تصوف غيره؛ كي يؤمن الناس به هو، وبما يدعو إليه من التصوف، وابن تيمية يدمغ الباطل بما دمغه به الحق من الكتاب والسنة، بل وببراهين العقل الذي جعل هدى القرآن مناره، ولم يلوثه دنس صوفي، ابتغاء مرضاة الله، والجلاد المستلئم في الجهاد في سبيل الله، وهذا هو دائما فرق ما بين المؤمن والصوفي.(190/195)
شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي التونسي عالم إفريقية، فقال ما معناه: إن من نسب إليه هذا الكلام لا يشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته" ا. هـ. ومنهم شيخنا العلامة إمام القراء شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري الدمشقي نزيل بلاد الروم ثم العجم، قال: "ومما يجب عل ملوك الإسلام، ومن قدر على الأمر بالمعروف [والنهي عن المنكر] أن يعدموا الكتب المخالفة لظاهر الشرع المطهر من كتب المذكور1 وغيره، ولا يتلفت إلى قول من قال: هذا الكلام المخالف للظاهر ينبغي أن يؤول، فإنه2 غلط من قائله. إنما يؤول كلام المعصوم، ولو فتح باب تأويل كل كلام ظاهره الكفر، لم يكن في الأرض كافر" ومنهم العلامة نادرة زمانة علما وعملا بدر الدين حسين بن عبد الرحمن الأهدل3 اليمني الحسيني نسبا وبلدا، وصنف في ابن عربي وابن الفارض كتابا كبيرا 4 نافعا جدا، وذكر فيه أنه كان في اليمن شخص من أكابر أتباعه، يقال له الكرماني، حصلت به في اليمن فتن كبيرة، وحصل بينه وبين ابن المقري خطوب، وصنف في الرد على ابن المقري كتابا قال فيه عن نفسه، وأهل مذهبه ما لفظه: "إنا حيث قلنا: المخلوق، فمرادنا الخالق، وحيث قلنا: الحجر، فمرادنا الله" ا. هـ.
ـــــــ
1 يعني: ابن عربي، واقرأ نص فتوى الجزري في ص495 من العلم الشامخ للعلامة المقبلي.
2 أي: القول بالتأويل لكلام الصوفية.
3 ولد سنة 779هـ تقريبا، وتوفي سنة 855هـ. وهو من كبار علماء اليمن في عصره.
4 سماه: كشف الغطا عن حقائق التوحيد وعقائد الموحدين، وله كتاب آخر سماه: بيان حكم الشلح والنص على مروق ابن عربي وابن الفارض وأتباعهما من الملحدين. انظر الضوء اللامع للسخاوي.(190/196)
من مكر الصوفية:
من مكر هذه الطائفة، كما شرعه لهم شيخهم1 من أن الدعوة إلى الله مكر أن يخيلوا2 كل من ظنوا أنه مال عنهم بأنه يصاب في نفسه، أو ماله3، ويقولون: ما تكلم أحد فيهم إلا أصيب، ويباهتون [58] بأشياء هي كذب ظاهر. ولا عليهم -وأكثر الناس صبيان العقول، مرضى الأفكار، تجد أحدهم إذا سمع هذا نفر منك نفر النعام الشارد، ثم يكون أحسنهم خلالا الذي يقول: التسليم أسلم!! ولا يتأمل أن الشك في الكفر بعد البيان كفر، وهو مع كونه4 كذبا بمن أنكر عليهم من أكابر العلماء الذي لا يحصون كثرة، وماتوا على أحسن الأحوال- تشبه باليهود في قولهم في الإسلام لما مات أبو أمامة أسعد
ـــــــ
1 يعني: ابن عربي.
2 صوابها: إلى كل، أو لكل. ففي الذكر {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}.
3 كاد لي لئيم فضيع لي ما يسمى: "مسوغات التعيين في وزارة المعارف" فتنادى بعض الصوفية: يا للكرامة، ويال نتقام أوليائنا الرهيب!! فقلت: يا سبحان الله! لا يتورع القوم حتى من اتهام أوليائهم أنهم لصوص بغاة، يحاربون الناس في أرزاقهم.
4 لعلها: كذب، ولو أن الأمر كان تكذيبا للعلما فحسب لهانت الجرمية، ولكنه تكذيب لله ولرسوله، وتقوى لغير الله، ورهب من زنادقة، فما يطيق أمثال هؤلاء -رغم إخراج الكفر لهم لسانه من كتب الصوفية- النطق بكلمة حق يرضون بها الله سبحانه. سل اليوم كبار الأحبار، عبيد المتن والحاشية، عن فصوص ابن عربي، وتائية ابن الفارض، وطبقات الشعراني، سلهم ثم أنصت للجواب الذليل. ستسمع من يقول عن ابن عربي: الشيخ الأ كبر، وعن ابن الفارض: سلطان العاشقين، وعن الشعراني: الهيكل الصمداني، وستسمع من يقول -ممن يزلزل الريب يقينهم، وتغشي الوثنية معتقداتهم: يسلم لهم حالهم، فالتسليم أسلم! هذا ما يجيده الأحبار من أساليب الدفاع عن دين الله.(190/197)
ابن زرارة1 الأنصاري رضي الله عنه فإنههم شرعوا يقولون تخييلا لبعض الضعفاء: لو كان نبيا ما مات صاحبه. فكان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- [يقول]: "بئس الميت أبو أمامة ليهود، يقولون: كذا, والله ما أملك لنفسي ولا لصاحبي شيئا2" وتسنن3 بالكفرة في قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ [هُمْ] أَرَاذِلُنَا} [هود: 77]، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا، قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 73-75] ونحو ذلك من الآيات، ومتى مال الإنسان نحو تخييلهم، كان كمن قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ [ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ] } [السجدة: 11].
من آيات ثبات الإيمان في القلب
مع أن الكتاب والسنة ناطقان بأن علامة صحة الإسلام في القلب المصائب4 قال الله تعالى: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2] الآيتين، وقال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ،
ـــــــ
1 من أول الأنصار إسلاما، ويقال: إنه أول من بايع ليلة العقبة، وكان نقيب قبيلته بني النجار, وأول من صلى الجمعة بالمدينة في هزمة من حرة بني بياض، يقال له: نقيع الخضمات، وكانوا أربعين رجلا. مات أسعد رضي الله عنه -والمسجد يبنى- في السنة الأولى من الهجرة في شوال قبل بدر "أسد الغابة، والإصابة".
2 هذا لفظه في سيرة ابن هشام. أما في أسد الغابة "بئس الميتة ليهود!! يقولون: أفلا دفع عن صاحبه؟ وما أملك له، ولا لنفسي شيئا".
3 معطوفة على قوله قبل: تشبه باليهود.
4 يعني الصبر عليها.(190/198)
وَزُلْزِلُوا} [يوسف: 214] الآية. إلى غير ذلك من آيات الكتاب الناطق بالصواب. وقال شخص للنبي: "إني أحبك، قال: فأعد للبلاء تجفافا1" وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من يرد الله به خيرا يصب منه2" ، " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل "، "يبتلى المرء على قدر دينه3" إلى أمثال ذلك, وهو كثير جدا, وأعجب من ذلك أن البيعة على الإسلام كانت -ليلة العقبة- على الصبر على المصائب، فإن العباس بن نضلة4 رضي الله عنه قال لقومه قبل المبايعة يثبتهم على البيعة: "إن كنتم ترون أنه إذا نهكت5 أموالكم مصيبة، وأشرافكم فتلا أسلمتوه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: الجنة، قالوا: أبسط يدك، فبسط يده, فبايعوه6" على هذا فكانت
ـــــــ
1التجفاف: آلة للحرب يلبسه الفرس والإنسان ليقيه الحرب، وجفف الفرس: ألبسه إياه "القاموس والنهاية".
2 رواه البخاري ومالك.
3 من حديث رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وابن أبي الدنيا، ولم لا نفهم في الحديث معنى آخر، هو أن أفضل الناس أشدهم بلاء في سبيل الله، من قولهم: أبلى فلان في الحرب بلاء حسنا, إذا أظهر بأسه حتى بلاه الناس وخبروه؟ أو يراد به ما يصيبهم من الناس من بلاء لاستلامهم في الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله. أقول: هذا لأنه ثبت في أذهان الناس أن الإيمان الصحيح صنو المصائب، وأن الله يدخر الرزايا للمخلصين من عباده.
4 أنصاري خزرجي، شهد العقبة، وقيل: العقبتين، بل قيل: كان مع النفر الستة الذين لقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلموا قبل جميع الأنصار، خرج عباس رضي الله عنه إلى مكة، وأقام مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى هاجر إلى المدينة، فكان أنصاريا مهاجريا. قتل في أحد، ولم يشهد بدرا "أسد الغابة، الإصابة".
5 يقال: نهكته الحمى، أضنته وهزلته، وجهدته، ونهكت الناقة حلبا: إذا لم تبق في ضرعها لبنا "القاموس والنهاية".
6 ص277 جـ1 سيرة ابن هشام على هامش الروض الأنف ط 1914.(190/199)
المبايعة، وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره1. ولقد شرع لنا [59] رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنن الهدى، وتركنا على بيضاء نقية، ليلها كنهارها2، ولم يتغير دينه بعده، ولم يتبدل, ولم يزدد إلا شدة. وأخبرنا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الدين بدأ غريبا، وأنه سيعود كما بدأ، وقال: "فياطوبى للغرباء"3 فلا يهتم الإنسان بقلة الموافق، فإن الله معه، ومن كان الله معه، كان كثيرا, ولا بكثرة المخالف المشاقق، فإنهم أعداء الله، فليس معهم ومن لم يكن الله معه، كان قليلا {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر: 36، 37].
هوان الدين عند الأكثرية:
ومما ينبغي أن يكون نصب العين معيارا يعرف به هوان الدين عند أكثر الناس، وهو أن أحدهم لو كان مشرفا على الموت من الجوع، ووجد
ـــــــ
1 من حديث نصه: عن عبادة بن الصامت "بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا, وأن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم" الصحيحان، الموطأ، النسائي، المنشط: الأمر الذي ينشط له، ويخفف إليه، الأثرة: الاستيثار بالشيء والانفراد به.
2 من حديث رواه ابن ماجه: "وأيم الله، لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها".
3 نص الحديث: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ، فيا طوبى للغرباء" مسلم عن أبي هريرة، والنسائي عن ابن مسعود، وابن ماجه عنهما وعن أنس، وطوبى: فرح وقرة عين كما فسرها ابن عباس.(190/200)
طعاما شهيا، فقال له أحد: إنه مسموم لم يقر به بعد ذلك، ثم لا يبالي بقول هؤلاء العلماء1 الذين هم القدوة في الدين2 أن كلام هؤلاء الاتحادية سم حاسم للدين من أصله، ذابح للإيمان بسيفه ونصله، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
من هم الأولياء؟:
هذه نبذة من ذم أهل الحق له3، وهم الأولياء حقيقة، لما شاع لهم من الأنوار التي ملأت الأقطار بمصنفاتهم التي أحيوا بها الدين، وأيدوا سنة سيد المرسلين، فقد قال الشيخ محيي الدين النووي4 في مقدمة شرح المهذب "فصل في النهي الأكيد, والوعيد الشديد لمن يؤذي، أو يبغض الفقهاء، والمتفقهين". وروى الخطيب البغدادي5 عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما أنهما قالا: "إن لم يكن الفقهاء6 أولياء الله، فليس لله ولي" وعن ابن عباس رضي الله
ـــــــ
1 بل لا يبالي بالقرآن والسنة، وفيهما الفيصل الحق بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهدى والضلال.
2 القدوة والأسوة: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
3 لابن عربي.
4 يحيى بن شرف. ولد سنة 631هـ. ومات سنة 676هـ. وكان واسع المعرفة بالحديث والفقه واللغة.
5 أحمد بن علي بن أبي ثابت أبو بكر الإمام الحافظ المصنف المؤرخ. ولد سنة 392هـ. وتوفي سنة 463هـ. وقد ترك قرابة مائة مصنف.
6 هم الذين يعتصمون في فقههم بالكتاب والسنة، ويدعون الناس إلى الاعتصام بهما والعمل بما فيهما، لا أولئك الذين يصنع لهم فقههم الرأي المفتون أو يدعون الناس إلى اتخاذ كتبهم أربابا من دون الله، ويدينون بمذهب فلان.
فمثل هؤلاء أولياء الشيطان، ثم الله سبحانه بين خصائص الولي في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وبينهما رسوله الكريم بقوله: "إن أولياء الله المصلون، ومن يقيم الصلوات الخمس التي كتبها الله على عباده، ومن يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ومن يصوم رمضان، ويحتسب صومه, ويجتنب الكبائر.." الحديث. رواه أبو داود والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه كلهم عن عبيد بن عمير الليثي.(190/201)
عنهما1: "من آذى فقيها, فقد آذى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن آذى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد آذى الله عز وجل" ا. هـ. ومن نابذ كلامهم، فقد عاداهم. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قال الله: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب 2 " ومن رد أقوالهم3 لأجل توهم أن من حكموا بكفره ولي لشهرة باطلة، وكلام مزوق يراد به الإضلال والغرور، فمن كمن 4 أصابه داء، فوصف له الأطباء العارفون دواء، فقال له عامي: لا تسمع منهم وخذ هذا فقد قال لي فلان وفلان, وعد جماعة مثله: أنه نافع، فاعتمد على مجرب، ولا تعتمد على طبيب. وأمثال هذا من الخرافات، فقبل كلامه، لكونه قريب الطبع من طبعه، فأعطاه سما، فتحساه، فهلك إلى لعنة الله، فإنه لا عبرة بشهرة أصلا إلا شهرة كانت بين أهل العلم [60] الموثوق بهم، لأن الاستفاضة والشهرة من العامة، لا يوثق بها، وقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر فلا يفيد العلم، إذا لم ينتبه إلى معلوم محسوس، وأما من مدحه، فهو أحد رجلين كما مضى عن الفاسي وغيره: رجل بلغه زهده وانقطاعه عن الناس، ولم يبلغه ما في كلامه من المصائب فالجرح5 مقدم على ثنائه، أو رجل كان يعتقده في الباطن، فهو يناضل
ـــــــ
1 في الأصل: عنه.
2 البخاري وأحمد والطبرني وأبو يعلى.
3 هذا إذا كانت حقا مشرقا من النورين: الكتاب والسنة. لا كأقوال علاء الدين البخاري، فقد رد أساطيرهم بأساطيره.
4 أي: من فعل هذا فهو كمن أصابه داء إلخ.
5 في الأصل: فالحرح.(190/202)
من نفسه، فلا عبرة به1
رأي ابن أيوب في الحلاج وابن عربي:
وحدثني الفاضل جمال الدين عبد الله بن الشيخ القدوة زاهد زمانه، والمشار إليه بالصلاح والمعارف والورع، وحفظ اللسان في أوانه بدمشق الشيخ علي بن أيوب2: أن أباه -الشيخ عليا المذكور- كان يجلس في الجامع مطرقا يقيم إحدى رجليه هيئة المستوفز، ويضع ذقنه على ركبته، فلا يكلم لهيئته، فإذا رفع رأسه، علم أنه أذن في الكلام، فسأله من أراد عما شاء، ففعل ذلك يوما، فلما رفع رأسه، سأله شخص عن ابن عربي هذا، فأطرق زمانا طويلا، ثم رفع رأسه، فقال: إنه كفر كفرا، ما وافق فيه كفر ملة من الملل، بل خرق بكفره إجماع الملل3، وزاد عليهم. قال الشيخ جمال الدين: فحكيت ذلك لبعض من يشار إليه بالعلم والميل إلى ابن عربي، فقال: والله لو سمع ابن عربي هذا الكلام لقال: ما عرفني أحد غير هذا الرجل. قال: وسئل والدي أيضا عن الحلاج، فقال: لا شك أن الحجاج قتل من العلماء خلائق يتعسر حصرهم، وشتت شملهم
ـــــــ
1 الحكم على ابن عربي بما حكم الله به على من ألهوا عيسى، وعبدوا الأوثان وغيرهم ليس في حاجة إلى كل هذا، فكتابه الفصوص ثابت النسبة إليه ثبوت لعن الله لأبي لهب، والفصوص, ردغة كفر، وحمأة زندقة. وما ينفع ابن عربي أن يشهد له ملايين الصوفية بأنه الرباني الأعظم، فشهادة كتبه عليه شهادة الحق والصدق، فليشهد الصوفية له بأنه وأنه، فكذلك الصديد, لا يشهد له بأنه طعام طيب سوى الميكروب الذي يحيا به وفيه.
2 الإمام الفقيه البارع المتقن المحدث بقية السلف, كما يقول الذهبي. ولد سنة 666هـ وتوفي سنة 748هـ.
3 هذا يدل على فهم دقيق غاية الدقة لمعتقد ابن عربي، فإنه كفر بكل كفر ثم أضاف إليه كفره، ثم جعل من هذا كله دينا للصوفية.(190/203)
وأبادهم، وقتل سعيد بن جبير1، وأهل الأرض محتاجون إلى علمه، وخلعه العلماء وخرجوا عليه، وقاتلوه، ومع هذا كله لم يقل أحد منهم، إنه كافر، بل قالوا: إنه من عصاة المسلمين، لا تحل امرأته لذلك. والحلاج ما تعرض لأحد من أهل العلم بأذى في دنياه، وأجمع جميع أهل زمانه منهم على كفره واستباحة دمه، فلو كان العلماء يقولون بالهوى، لقالوا في الحجاج الذي ما ترك نوعا من الأذى حتى رماهم به، فثبت أنهم لا يقولون بالهوى، فوجب على الناس اتباعهم2 وقبول كلامهم" وهذا غاية في البيان، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الضابط المتقن المتفنن أستاذ المفسرين نادرة المحدثين، برهان دين العالمين، أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط ابن علي بن أبي بكر البقاعي الشافعي، نزيل القاهرة المحروسة: فرغت من مسودة هذا الكتاب بحمد الهادي للصواب في شوال سنة أربع وستين وثمانمائة. والحمد لله وحده.
وفرغ من نسخ هذه النسخة المباركة في وقت العصر من يوم الأربعاء من شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وأربعين وتسعمائة.
ـــــــ
1 أحد أعلام التابعين، كان مع عبد الرحمن بن الأشعث لما خرج على عبد الملك بن مروان، فلما قتل ابن الأشعث، فر سعيد إلى مكة, فظفر به الحجاج، فقتله في شعبان سنة 95هـ كما في الوفيات، أو 94 سنة كما في مروج الذهب والكامل لابن الأثير.
2 إنما الواجب اتباع الكتاب والسنة، وتأييد كل داع إلى الله بالحق،. وما أركس الناس في فتنة الضلالة سوى اتخاذهم القرآن مهجورا، وكتب الناس أربابا من دون الله.(190/204)
تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد(/)
المقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الهاد لأركان الجبابرة الشداد، القامع لأهل الإلحاد، بسيوف السنة الحداد، وأشهد أن لا إله إلا الله المفضل1 الهاد وأشهد أن سيدنا محمدا عبده [ورسوله2] الداعي لسائر العباد، إلى سبيل الرشاد، صلى الله عليه، وعلى آله الخيرة الأمجاد، وصحابته الأبطال الأنجاد، وسلم تسليما يغلب التعداد، ويبقى على مر الآباد.
وبعد: فهذه رسالة سميتها: "تحذير العباد من أهل العناد، ببدعة الاتحاد أنفذتها الى العباد في جميع البلاد، الراغبين في الاستعداد ليوم المعاد، بموالاة أهل الوداد، وملاواة3 الأشقياء الأضداد، الضالين بنحلة الاتحاد، أرجو أن تكون ضامنة للإسعاد يوم التناد، فقلت: اعلموا أيها الإخوان الذين هم على البر أعوان، حفظكم الله ورعاكم، وصانكم من كل سوء، وحماكم؛ أنه لا يقوم على الأمر بالمعروف [والنهي عن المنكر4] إلا من جعل نفسه هدفا للحتوف5 وتجرع من مر الكلام ما هو أمر من السهام، فإن الناهي عن المنكر، يعاني الهوان الأكبر، بمعاداة كل شيطان من الإنس والجان، يقوم عليه الجيلان، ويرشقه بسهام الأذى القبيلان، شياطين الإنس ظاهرا بالمقال والفعال، وشياطين [الجن6] باطنا بما يوحون إليهم من الضلال.
ـــــــ
1 لعلها المضل، فهكذا وردت في أول رسالته الأولى.
2، 4، 6 كلها ساقطة من الأصل، والسياق يوجبها.
3 يقال: لاوت الحية الحية ملاواة: إذا التوت عليها.
5 جمع حتف وهو الهلاك، وقيل: هي مصدر بمعنى الحتف، وهو قضاء الموت "أساس البلاغة للزمخشري".(191/207)
آيات سلى الله بها نبيه:
ولصعوبة المقام، وما فيه من الأخطار والآلام، سلى الله نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97-99] وقال الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وقال تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 111-113] وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ [63] زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 121-123] إلى غير ذلك من الآيات والدلالات الواضحات، ففي الأنبياء الذين هم أشرف الخلق عليهم أفضل الصلاة والسلام مسلاة لأتباعهم، واعتبار بأحوالهم، واعتصام، وما أتى أحد قط أحدا1 بمخالفة هواه إلا ساءه2 وأذاه إلا من عصم الله: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ
ـــــــ
1 في الأصل: أحد بالرفع، وهو خطأ.
2 في الأصل: ساه.(191/208)
رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87] وهؤلاء الذين اتسموا بسمة الاتحاد، وقد ألفهم الطغام1 من الأنام؛ لما غرروهم به من إظهار التصوف، ليأخذوهم من المأمن، وما دروا أن الصوفية أشد الناس تحذيرا منهم، وتنفيرا للعباد عنهم.
الرأي في سلف الصوفية:
فإن المحققين منهم والمحققين2 بنوا طريقهم على الاقتداء بالكتاب والسنة3، كما نقل القاضي عياض في أوائل القسم الثاني من الشفاء فيما يجب من حقوق المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الحسن4 رحمه الله أنه قال: "إن أقواما قالوا: يا رسول5 الله، إنا نحب الله، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] وعنه أنه قال: "عمل قليل في سنة خير من عمل كثير من بدعة" وعن أبي عثمان الحيري6 أنه قال: "من أمر على نفسه السنة قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة"، وقال سهل بن عبد الله التستري7: "أصول مذهبنا ثلاثة: الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع
ـــــــ
1 الأوغاد من الناس، مفردة طغامة، وهو يتطغم على الناس: يتجاهل عليهم "أساس البلاغة".
2 كذا بالأصل: ولعل الثانية زائدة، أو لعلها: المتحققين.
3 كتب الصوفية سلفهم وخلفهم تشهد عليهم بنقيض هذه الدعوى الكذوب وقد سبق بيان هذا.
4 يعني: البصري. ولم يك صوفيا.
5 في الأصل: برسول. وهي كما أثبتها في الشفاء.
6 هو سعيد بن إسماعيل بن منصور. توفي سنة 298هـ.
7 توفي سنة 273هـ.(191/209)
الأعمال1" وفي كتب القوم كالرسالة والعوارف2 من ذلك شيء كثير, والشهادة على من قال: الحقيقة خلاف الشريعة بالزندقة3، وأن الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4، قاله الجنيد5، وقال أبو عثمان الحيري: خلاف السنة في الظاهر علامة رياء في الباطن، وقال النوري6: من ادعى حالا يخرجه من حد العلم الشرعي، فلا تقربن منه، وقال الخراز: كل باطن يخالفه ظاهر، فهو باطل، وقال القشيري: حكم الوقت فيما ليس لله فيه أمر، إذ التضييع لما أمرت به والإحالة على التقدير، وعدم المبالاة بما يحصل من التقصير؛ خروج عن الدين7، وقال السهروردي في قوم تسموا
ـــــــ
1 انظر ص7جـ2 الشفاء، وإذا كان هذا صحيحا، فلم يوجبون الاقتداء بالشيوخ وحدهم؟ ولم يأكلون السحت من صناديق نذور الأصنام؟ ولم يقصدون بالصلاة في مساجدهم وجوه الهامدين في الأضرحة؟!
2 الرسالة لعبد الكريم بن هوازن القشيري. ولد سنة 376هـ وتوفي سنة 465هـ. والعوارف لأبي حفص شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي ولد سنة 539هـ وتوفي سنة 632هـ.
3 إن من يقسم الدين إلى حقيقة وشريعة لا يقترف هذا إلا وهو يتصور المغايرة بين الاثنين، ويؤمن بهذه الغيرية، وكتب القوم جميعها طافحة بهذا مفضلة الحقيقة على الشريعة، وإلا فما فائدة التقسيم عندهم؟.
4 انظر ص19 من الرسالة للقشيري.
5 يسمونه سيد الطائفة. توفي سنة 297هـ وكما نقل عنه القشيري هذا، فقد نقل عنه أنه سئل عن العارف فقال: من نطق عن سرك، وأنت ساكت!! والله وحده هو الذي يعلم ما تكن الصدور.
6 أحمد بن محمد أبو الحسين. مات سنة 295هـ.
7 ولكن اسمع للقشيري يقول في رسالته ص31: "الكيس من كان بحكم وقته. إن كان وقته الصحو فقيامه بالشريعة وإن كان وقته المحو فالغالب عليه أحكام الحقيقة" ألا ترى القشيري هنا يؤكد المغايرة بين الشريعة والحقيقة، وأن العارف في المحو ترفع عنه تكاليف الشريعة؟(191/210)
بالملامتية1: "إنهم -في غرور- يزعمون أن الارتسام بالشريعة رتبة العوام، وهذا عين الإلحاد، وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة2" وكذا قال الشيخ [64] عبد القادر الكيلاني، وقال القشيري: "من كان سكره بحظ مشوبا كان صحوه بحظ [صحيح3] مصحوبا، ومن كان محقا في حاله، كان محفوظا في سكره، والعبد4 في [حال5] سكره يشاهد الحال، وفي حال صحوه يشاهد6 العلم، إلا أنه في حال سكره محفوظ، لا بتكلفه، وفي حال صحوه متحفظ بتصرفه، ومن شرط الولي أن يكون محفوظا، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوما": وإنما نقلت هذه النبذة الماضية من الشفاء7، ليعلم أن طريق
ـــــــ
1 اقرأ عنهم كتاب الدكتور عفيفي: الملامتية.
2 ص57 عوارف المعارف للسهروردي.
3، 5 ساقطتان من الأصل، وأثبتهما عن الرسالة للقشيري.
4 في الأصل: وهو. والتصحيح من رسالة القشيري.
6 في الأصل: بشرط. والتصحيح من رسالة القشيري.
7 نقل المؤلف هذه النصوص ليقيم الحجة على الصوفية بشهادة أئمتهم، ولكن ما ينبغي أن تغرنا بالحق هذه النصوص، فإنما هي وجه إسلامي لقلب مجوسي، يحتدم حنقا على الكتاب والسنة، فالقشيري الذي يتراءى بتمجيد السنة هو الذي زعم في رسالته أن قبر معروف الكرخي يستشفى به، ونقل قول الكرخي للسري للسقطي: "يا سري. إذا كانت لك حاجة إلى الله فأقسم عليه بي" ويكفي هذا لإخراج المرء من زمرة المسلمين. ويقول السهروردي في عوارفه ص158 "وقد تقرر أن الوحدة والعزلة ملاك الأمر، ومتمسك أرباب الصدق" فأين الجمعة والجماعة والجهاد في سبيل الله؟ ثم يدعو السهروردي دعوة ما نوية صرفة فينسب إلى الرسول زورا أنه أباح العزوبة لأمته بعد المائتين، ويقول: سمعنا عن الجيلي أن بعض الصالحين قال له: لم تزوجت؟ فقال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله، فقال له: الرسول يأمر بالرخص، وطريق القوم: التزم بالعزيمة" يلتزم طريق القوم، ولا يلتزم أمر الرسول!! فهل تشم نفحة من السنة؟ لا بل يحموم المانوية الصرفة الداعية إلى القضاء على النوع الإنساني، وإبادة الجنس البشرى كله. وهذا يؤكد لك قوة الصلة، بين مجوسية ماني وبين التصوف.(191/211)
الفقهاء، هي طريق الصوفية1، هذا ما بنى عليه الصوفية أمرهم، وأما هؤلاء الذين تشبهوا بهم، ونبه العلماء -حتى الصوفية- على أنهم ليسوا منهم، ودلسوا على الناس، ولبسوا أحوالهم، ليقطعوا الطريق على أهل الله، وهم يظهرون أنهم منهم.
منابذة الصوفية للعقل والشرع:
فأول ما بنوا عليه أمرهم ترك العقل2 الذي بنى الله أمر هذا الوجود على حكمه بشرط استناده إلى النقل الذي أنزل به كتبه: وأرسل به رسله عليهم الصلاة والسلام، لئلا يزل العقل بما يغلبه من الفتور والشهوات والحظوظ، وجعل العقل حاكما3 لا يعزل بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات في ملة من الملل وضموا إلى ذلك4 الداهية الدهياء، وهي ترك ما عطر الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكون بمدحه، وملأ الوجود بذكر مناقبه وفضائله، وهو العلم والشرع
ـــــــ
1 شتان شتان ما طريق الصوفية، وطريق الفقهاء، والصوفية أنفسهم يقرون بهذا، ويزعمون أن طريقهم هو الحقيقة لا الشريعة، ومتمسك الفقهاء هي الشريعة، والصوفية يرون المستمسك بالشريعة محجوبا عن الحقيقة، ثم ما لابن حنبل يأبى أن يسير في جنازة الحارث المحاسبي؟! إنه اشتم من كلامه نتن رائحة التصوف؟!
2 مقياس الحقيقة ومصدر المعرفة عند الصوفية هو الذوق، وهذا سر ترديدهم لأسطورتهم: من ذاق عرف، أما العقل
فيكفرون به، ويرونه حجابا يستر الحقيقة، كل هذا ليغروا من حكم العقل عليهم بالأفن والضلال.
3 ما للعقل أن يحكم على الحقائق الشرعية، والقيم الدينية إلا بحكم الكتاب والسنة، لا كما يزعم الفلاسفة وغيرهم من علماء الكلام والأصول: وهو أن العقل أصل النقل وحاكم عليه.
4 أي: إلى تركهم للعقل.(191/212)
وحذروا من اتباع شيء من ذلك غاية التحذير, فكانوا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا، وذلك بيّن جدا في فصوص ابن عربي, ونظم تائية ابن الفارض اللذين قصد بهما هدم الشريعة، وكل منهما1 ثابت عمن نسب إليه عند أهله ثبوتا رافعا للريب والتائية متصلة بابن الفارض بالآحاد والتواتر.
موقف العلماء من ابن عربي وابن الفارض:
وقد كفرهما العلماء بسبب ما نقل من حالهما، وما صدق ذلك من كلامهما. أما ابن عربي، فالمتكلمون فيه كثير جدا, وكان له علم كثير في فنون كثيرة، وله خداع كبير غر به خلقا، فأثنى عليه لأجل ذلك ناس من المؤرخين2 ممن
ـــــــ
1 يعني: الفصوص والتائية الكبرى.
2 كم سجل الهوى في التاريخ البطولة للرعديد، والقدسية للداعر، والعدالة للطاغية، والجماعة الإنسانية التي تتعدد، وتتباين فيها المقاييس الدينية والخلقية والاجتماعية تختلف على نفسها في تقدير قيم الحقائق والأشياء، وبالتالي فيمن تنسب إليهم هذه القيم إثباتا أو نفيا، لذا أمر الله سبحانه أن يجعل المسلمون كتاب الله وسنة نبيه حكما بينهم، يحتكمون إليها كما شجر بينهم خلاف، حتى يقوموا حقائق الأشياء بالحق والعدل، ويحكموا في أقضيتهم بالحق والعدل، فلا يبدد الخلاف وحدتهم، ولا يذهب بهم الهوى شيعا وأحزابا. وقد حدد الكتاب والسنة مفهوم التوحيد والشرك، ومفهوم الإيمان والكفر، بل والخير والشر، وضرب الله سبحانه لنا أمثالا ممن حكم عليهم بواحد منها. فبجانب نوح عليه السلام ذكر ابنه وبجانب إبراهيم عليه السلام ذكر أباه آزر، وبجانب موسى وهارون عليهما السلام ذكر الله فرعون وهامان وقارون، وبجانب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر أبا لهب بالاسم، وغيره بالصفة، وبجانب مريم وامرأة فرعون ذكر امرأة نوح وامرأة لوط، ذكر الأولون في مقام الثناء عليهم، وإسباغ الرضى والرحمة، وذكر الآخرون في مقام الذم وصب الغضب واللعنة عليهم، مع ذكر أسباب الثناء وأسباب الذم، لتكون لنا بالصالحين نعم القدوة، فنسعى سعيهم ما استطعنا، وفي الطالحين العظة =(191/213)
خفي عليهم أمره، أطبق العلماء على تكفيره وصار أمرا إجماعيا، وأما ابن الفارض فأمره أسهل، وذلك أنه لم يوجد لأحد من أهل عصره الخبيرين بحاله ثناء عليه بعدالة، ولا ولاية، ولا ظهر عنه علم من العلوم الدينية، ولا مدح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقصيدة واحد ة على كثرة شعره، فدل ذلك على سوء طويته، ونقل القدح فيه نقلا قطعيا عن محبيه ومبغضيه، فقد قال شراح تائية التابعون لطريقته والمنتقدون عليه من أهل السنة: إن أهل زمانه كلهم من أهل الشريعة، وأرباب الطريقة رموه بالفسق والإباحة والزندقة [65] على الإجمال.
المكفرون لابن الفارض:
وأما التفصيل والتعيين فقد رماه بالزندقة بشهادة الكتب الموثوق بها نحو من أربعين عالما، هم دعائم الدين من عصره إلى عصرنا، فمن أهل عصره سلطان العلماء عز الدين [ابن] عبد السلام الشافعي، والحافظ الفقيه الأصول تقي الدين ابن الصلاح الشافعي، والإمام الفقيه المحدث الصوفي قطب الدين القسطلاني الشافعي، والإمام نجم الدين أحمد بن حمدان الحنبلي1 وشرح التائية، وبين
ـــــــ
= والعبرة، فنحذر مما أركسوا فيه، وبسببه لعنهم الله وطردهم من رحمته وبهذه المقاييس القرآنية يجب أن نؤمن، وبها يجب أن نقيس كل ما يعرض علينا من أمور الدين والحياة، فلا نفهم في التوحيد إلا ما بينه الله سبحانه به، وكذلك الشرك وغيرهما. ولا يخدعنا عن الحق الجلي من كتاب الله كهان ولا أحبار، ولا رهبان، وعلى هداية الحق ننقد التصوف، دون أن نعير التفاتا إلى ثناء المثنين، أو ذم الذامين، ما دمنا نحمل المشعل الوهاج من القرآن يكشف لنا ما خفي من أمر التصوف. فما يهم بعده ثناء الملايين على ابن عربي وابن الفارض، وكيف، ونحن نعرف قصة فرعون وقصة الوثنية، ونعرف بم حكم الله على الجميع!؟ فكل من نجده في دينه منتسبا إلى الفرعونية أو الوثنية، حكمنا عليه بحكم الله، وإن ضج الملايين من الصوفية.
1 من أئمة الفقه والأصول، ولي نيابة القضاء بالقاهرة. ولد سنة 603هـ وتوفي سنة 695هـ.(191/214)
عواره فيها بيتا بيتا, وأبو علي عمر بن خليل السكوني المالكي، والشيخ جمال الدين بن الحاجب المالكي.
وممن يليهم قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد الصوفي الشافعي، وقاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز الشافعي، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة الشافعي، والشرف عيسى الزواوي المالكي، والسعد الحارثي الحنبلي، والإمام أبو حيان الشافعي، وأبو أمامة ابن النقاش الشافعي، والحافظ شمس الدين الموصلي الشافعي، وشيخ الإسلام تقي الدين السبكي الشافعي، وشيخ الفقهاء الزين1 الكتناني الشافعي، والشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي.
وممن يليهم الكمال جعفر الأدفوي2 الشافعي -ونقل ذم التائية عن العلماء- والبرهان إبراهيم السفاقسي المالكي، والشهاب أحمد بن أبي جحلة الحنفي، والحافظ شمس الدين الذهبي الشافعي، والحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي.
وممن يليهم العلامة شمس الدين محمد العيزري3 الشافعي، وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني الشافعي، وعلامة زمانه علاء الدين محمد البخاري الحنفي الصوفي, وكفر بعض من قال بحضرته: إن ذلك يؤول4 وما أنكر عليه أحد ممن كان حاضره من العلماء تكفيره له، ولا غيرهم من أهل زمانه من مذهب من المذاهب، وما وسع المكفر إلى البراءة من الاتحادية، ومذهبهم.
وممن يليهم قاضي القضاة ولي الدين العراقي، وقاضي القضاة حافظ عصره.
ـــــــ
1 في الأصل: الدين.
2 ولد سنة 685هـ, أو سنة 675هـ، وتوفي سنة 748هـ.
3 ولد بالقدس سنة 724هـ، وتوفي سنة 808هـ ومن شيوخه ابن قيم.
4 من قال بهذا هو شمس الدين البساطي كما ذكر المؤلف من قبل.(191/215)
شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي، وقاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي وقاضي القضاة شمس الدين البساطي المالكي، وعلامة اليمن بدر الدين حسين ابن الأهدل الشريف الشافعي الصوفي، كما شهد بهذا النقل عنهم نحو عشرين كتابا من مصنفاتهم، ومصنفات غيرهم من العلماء، وهي شرح التائية لابن حمدان، وديباجة ديوان ابن الفارض، ولحن العوام لابن خليل، وتفسير أبي حيان البحر والنهر والفرقان لابن تيمية1، وقصيدة السفاقسي التي يقول فيها:
وكالششتري القونوي ابن فارض ... فلا برد الله ثراهم، ولا أسقى
والقونوي الذي ذكره صدر الدين [66] صاحب ابن عربي، وكتاب ابن أبي حجلة، والميزان ولسانه لابن حجر، والتاريخ لابن كثير بخطه، وناصحة الموحدين للعلاء البخاري، والفتاوي المكية للعراقي، وتاريخ العيني وشرح التائية للبساطي، وكشف الغطاء لابن الأهدل. فهذه ستة عشر كتابا وقصيدة شهدت بكفره من بضع وعشرين عالما، هم أعيان كل عصر.
موقف شيوخ المذاهب من ابن الفارض:
وممن كفره قاضي القضاة سعد الدين الديري الحنفي، وقاضي القضاة محقق زمانه شمس الدين القاياتي، ونادرة وقته عز الدين بن عبد السلام القدسي الشافعي والعلامة علاء الدين القلقشندي الشافعي، والشيخ يحيى العجيسي المالكي والعلامة
ـــــــ
1 لا يكاد يخلو كتاب من كتب ابن تيمية من نقد الصوفية، وبيان عوارهم ويلاحظ أن البقاعي لم ينقل عن ابن تيمية سوى النذر اليسير، بل الذي لا يكشف تمام الكشف عن العبقرية المحلقة للإمام الجليل في نقده للتصوف بالعقل والنقل، وهذا يثير الدهشة من جانب البقاعي، أما نحن فيسرنا هذا حتى لا توضع خصومة ابن تيمية للتصوف موضع التهمة من الصوفية في هذا الكتاب.(191/216)
شمس الدين البلاطنيسي الشافعي شيخ الشاميين في وقته، وشيخ الإسلام عبد الأول السمرقندي الحنفي ابن صاحب الهداية، والعلامة الصوفي كمال الدين ابن إمام الكاملية الشافعي، والعلامة شهاب الدين بن قر الشافعي, والعلامة أبو القاسم النويري المالكي، كما شهد بذلك الثقات من أصحابهم.
فهؤلاء أعيان العلماء في عصر ابن الفارض، وفي كل عصر أتى بعده طبقة بعد طبقة إلى وقتنا هذا؛ وقد اجتمع فيهم أهل المذاهب الأربعة التي هي عمدة الإسلام1، فشهادة هؤلاء العلماء الموثوق بهم حجة على من قال بكفره، أما من لم ندركه فبشهادة الكتب الموثوق بصحة نسبتها إلى قائليها. وأما من أدركناه فبشهادة الكتب في بعضهم، وشهادة الثقاة في باقيهم2، هذا إلى ما شهدت به شروح التائية كما يأتي.
تواتر نسبة ابن الفارض إلى الكفر :
فقد صارت نسبة العلماء له إلى الكفر متواترة تواترا معنويا. وقد علم بهذا عذر من كفره، لو لم يكن له سند غير هذا، فكيف وقد تأيد هذا بما في كلامه وكلام ابن عربي من الطامات التي منها منابذة العقل والشرع كما مضى؟
ـــــــ
1 يسير المؤلف مع القافلة الشرود فيرى في المذاهب الأربعة عمدة الإسلام، وينسى الكتاب والسنة اللذين أمرنا الله سبحانه أن نرد إليهما كل شيء، ولو رددنا أمر الصوفية إلى بعض شيوخ هذه المذاهب -لا الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم- لوجدناهم يصححون له زندقته، أما الكتاب الكريم فقد حكم الله فيه بالكفر على القائل، الله هو المسيح، وابن عربي يقول: الله عين كل شيء.
2 إن من يقرأ نصف بيت من تائية ابن الفارض، كقوله مثلا: فبي دارت الأفلاك أو: وفي الصحو بعد المحو لم أك غيرها. أو: وما زلت إياها. من يقر شيئا من هذا لا يتردد في الحكم على ابن الفارض أنه رجل انسلخ عن الإسلام.
يحكم بهذا المسلم، بل غير المسلم ممن يقارنون بين التوحيد في القرآن، وبين الوحدة عند ابن الفارض. فما بالك، وقد حكم عليه كل أولئك العلماء؟.(191/217)
الضلال عند الصوفية خير من الهدى:
أما ما في الفصوص من ذلك، فقد قال في الفص النوحي في أثناء تحريفه لسورة نوح عليه السلام، التحريف الذي يكفر الإنسان بأدنى شيء فيه1: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24] أي: حيروهم في تعداد الواحد {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} المصطفين الذين أورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة {إِلَّا ضَلالًا} إلا حيرة، فالحائر له الدور والحركة الدورية حول القطب، فلا يبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه, صاحب خيال إليه غايته, وله "من" و"إلى" وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له، فيلزمه "من" ولا غاية له, فيحكم عليه "إلى" فله الوجود الأتم، وهو المؤتى جوامع الكلم والحكم" وقال: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22] لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، ادعوا إلى الله، فهذا [67] عين المكر2.
رب ابن الفارض أنثى:
وأما ما في التائية من ذلك فقال فيها مخاطبا لله تعالى -كما أجمع عليه شراحه- بضمير المؤنث من أولها إلى آخرها وهي نحو سبعمائة3 بيت، ولو خاطب أحد من أهل الزمان غيره بمثل ذلك4 قاتله، لكن الناس لا يحلمون إلا عند حقوق مولاهم سبحانه، وأما في حقوقهم، فهم في غاية الحدة والمشاححة5، والله الهادي.
ـــــــ
1 في هامش الأصل: لعله: منه.
2 سبق نقل هذا عن ابن عربي وتعليقي عليه.
3 بل تقارب الثمانمائة.
4 أي: بمثل غزله الماجن في الذات الإلهية.
5 مثال ذلك حنق الصوفية على كل من يذود عن الكتاب والسنة، ومن =(191/218)
تفضيل الزنديق نفسه على الرسل
قال
وحزني ما يعقوب بث أقله ... وكل بلا أيوب بعض بليتي
فضله الشارع على من ذكر في البيت كما هو ظاهر العبارة وعلل ذلك بقوله لقوة استعداده فسار في خطوة واحدة مالا يستطيعه غيره إلا في أزمنة طوال
وقال القاضي عياض في أواخر الشفاء من قال صبرت كصبر أيوب إن دريء عنه القتل لم يسلم من عظيم النكال وأقول فكيف إذا فضل نفسه وكذب نحو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد الناس بلاء الأنبياء
الخلاعة سنة ابن الفارض
قال
وخلع عذارى فيك فرضي وإن أبى اقترابي ... قومي والخلاعة سنتي
وليسوا بقومي ما استعابوا تهتكي ... فأبدوا قلى واستحسنوا فيك جفوتي
وأهلي في دين الهوى أهله وقد ... رضوا لي عاري واستطابوا فضيحتي
فمن شاء فليغضب سواك فلا أذى ... إذا رضيت عني كرام عشيرتي(191/219)
ذللت بها في الحي حتى وجدتني ... وأدنى منال عندهم فوق همتي
وأخملني وهنا خضوعي لهم، فلم ... يروني -هوانا1بي- محلا لخدمتي
ومن درجات العز أمسيت مخلدا ... إلى دركات الذل من بعد نخوتي
فلا باب لي يغشى، ولا جاه يرتجى ... ولا جار لي يحمى لفقد حميتي
كأن لم أكن فيهم خطيرا، ولم أزل ... لديهم حقيرا في رخائي وشدتي
فحالي بها حال2 بعقل مدله3 ... وصحة مجهود، وعز مذلة
أسرت مني وصلها النفس حيث لا ... رقيب حجا سرا لسرى وخصت
يغالط بعض عنه بعضي صيانة4 ... وميني في إخفائه صدق لهجتي
أجمع شراح التائية على أن المراد بالأبيات التسعة الأولى، أن طريقه هتك أستار الحرمة، والخرق في بعض النواميس الإلهية، وتخليته الناس مع ربهم من غير أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ورضاه بكل ما يقع منهم لشهوده الأفعال
ـــــــ
1 في الأصل: هو أناتي.
2 أي: متزين.
3 في الأصل: لعقل مدلة، والتصويب من الديوان.
4 في الأصل: صبابة، ويقصد ببعضه الأول: نفسه، وبالآخر: عقله.(191/220)
كلها الواحد1 الحقيقي الظاهر في صور الكثرات، وعدم الالتفات إلى المترسمين من الزهاد والعباد، وكسر نواميسهم2، والرد عليهم وعدم التقييد بظواهر العلوم والاعتقادات، فحملهم ذلك على أن رموه بالفسق والبدعة والكفر والإباحة والزندقة والخروج عن طريقهم، فذل بين حي أهل الشريعة والطريقة وأجمعوا3 على أن المراد من الثلاثة [68] الأخرى أن نفسه أسرت تمني الوصل، وتحققها بحقيقته حتى غاب عنها رقيب العقل؛ خوفا من إطلاعه على ذلك، فيغلب عليه حكم التنزيه، فيقوم بالمنع والتشنيع، فيقول4: ما للراب ورب الأرباب، وأنه بالغ في الإخفاء خوفا من أن يتنبه العقل5، فيقوم يشنع وينكر، فصار كل واحد من الصفات يغالط الآخر، وكذبه في هذا صدق لهجته.
وقال بعد ذلك بكثير:
ولا استيقظت عين الرقيب، ولم تزل ... علي بها في الحب عيني رقيبتي
قال التلمساني: "يعني لما سكرت روحي، ونامت عين الرقيب -وهو الشرع والعقل- أقمت عيني رقيبة علي، لرعاية آداب حضرة المحبوبة".
ذمه للرسل وللشرائع:
وقال في ذم الشرع أيضا:
ـــــــ
1 لعله سقط قبلها: من، أو: فعل, أو: صادرة عن.
2 في الأصل: نواميسم.
3 أي: شراح التائية.
4 أي: العقل.
5 هذا إقرار صريح بأن نتائج التصوف تجافي العقل، فإذا كان دينهم يجانب الشرع والعقل. فماذا بقي؟(191/221)
منحتك علما إن ترد كشفه فرد ... سبيلي، واشرع في اتباع شريعتي
فنبع صداء1 من شراب نقيعه2 ... لدي، فدعني من سراب بقيعة
ودونك بحرا خضته، وقف الأولى ... بساحله صونا لموضع حرمتي
قال الشراح: "إن معنى ذلك أنه منح أتباعه علما كما صداء، وهو ماء يضرب به المثل في الغزارة والعذوبة، ونهى عن متابعة غيره من علماء الظاهر من الأصوليين والفلاسفة والفقهاء، وغيرهم من أهل العلوم الفكرية، فإنها تغر السامع، وهي كسراب بقيعة ليست شيئا، وأنه خاض بحر التوحيد، وأخرج منه ما لم ينله أحد من السابقين من الأنبياء والأولياء لوقوفهم في ساحل ذلك البحر لأجل حفظ حرمته3" ثم خادعوا4 بأن قالوا: "قال هذا على لسان الحضرة المحمدية5؛ إذ كمال التوحيد مختص بمقام جمعه، والكمل والتابعين إياه" ا. هـ.
وقد وقع من شرحه بذلك -مع الحيدة عما لا محيد عنه- في الكفر من
ـــــــ
1 في الديوان: صدا بالقصر لضرورة الشعر، وهي صداء بالمد وتشديد الدال.
2 في الأصل: نقيعة.
3 أي: حرمة ابن الفارض.
4 أي: شراح التائية.
5 ظن المؤلف أنهم يقصدون بالحضرة المحمدية محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا غير صحيح، فالصوفية يريدون بالحضرة المحمدية الذات الإلهية مع التعين الأول، ومن باطنها يزعمون أنهم يستمدون الفيوضات الإلهية مباشرة، فمعنى قول الشراح إذا: أنه قال هذا على لسان الله سبحانه، والدليل قولهم: مختص بكمال جمعه: أي: إنه هو الذات الكاملة التي جمعت بين الحق والخلق في أكمل ماهية.(191/222)
جهة أخرى، وهي أنه يلزم منه تفضيل أتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأنبياء الماضين عليهم السلام1.
يفضل أتباعه على الرسل، وزندقته على شرعة الله:
ومن نمطه -لكونه لا ينفك عن كفره- قوله عقبه:
وأصغر أتباعي على عين قلبه ... عرائس أبكار المعارف زفت
فإن سيل2 عن معنى أتي بغرائب ... من الفهم جلت، أو عن الوهم دقت
فإنه لا يصح على لسانه، ولا لسان غيره3.
ثم قال في ذم الشرع والعلم.
ولا تك ممن طيشته دروسه ... بحيث استقلت عقله واستفزت
فثم وراء النقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة
تلقيته مني، وعني أخذته ... ونفسي كانت من عطائي4 ممدتي
ـــــــ
1 بل تفضيل نفسه على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى فرض صحة زعمهم أنه يتكلم بلسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يكون بهذا قد تعمد الكذب على رسول الله، فهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما قال هذا الشعر الصوفي، وجزاء متعمد الكذب على الرسول الكريم معروف.
2 أي: سئل.
3 أي. ولا لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ردا على زعمهم أنه يتكلم بلسان الحضرة المحمدية.
4 في الأصل: بالعطاء. والتصويب من الديوان. وابن الفارض يختار كلمتي الإعطاء والإمداد عن عمد آثم يدلك على مبلغ اعتقاده في أنه هو الله. إذ الله سبحانه هو الذي يقول عن نفسه تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} .(191/223)
قالوا في معناه: "لا يستخفنك كثرة دروس العلوم النقلية، فوراءها علم مكنون أخذت ظاهره من حسي، وباطنه من عقلي، وسره من روحي، ومكنونه من سري من حيث أن كل واحد منها عيني وذاتي. ولا وصف, ولا نعت زائد علي حاكم بمغايرتي، وغيريتي إياها، فكنت المعطي، وكنت المعطى، وكنت الممد، وكنت المستمد، والفاعل والقابل1".
هذا أمرهم [69] في الانسلاح من العقل.
الصلة بين التصوف والنصرانية:
وقد شهد عليهم العلماء بذلك. قال العلامة قاضي القضاة شمس الدين البسطامي في أول كتاب له في أصول الدين في المسألة السادسة من الكتاب الثاني في أنه سبحانه ليس متحدا بشيء: "واعلم أن هذه الضلالة المستحيلة في العقول سرت في جماعة من المسلمين، نشئوا في الابتداء على الزهد والعبادة -إلى أن قال- ولهم في ذلك -أي: الاتحاد بالمعنى الذي قالته النصارى- كلمات يعسر تأويلها، بل منها ما لا يقبل التأويل، ولهم في التأويل خلط وخبط كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول، ازدادوا بعدا، حتى إنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة، وقنعوا في مغالطة الضرورة بها بالمغيب، وهي أن ما هم فيه، ويزعمونه وراء طور العقل، وأنه بالوجدان يحصل، ومن نازعهم محجوب مطرود عن الأسرار الإلهية" وهكذا قال الشيخ سعد الدين في شرح المقاصد، والشريف في شرح المواقف2.
ادعاؤه الربوبية
ولما تمهد له في زعمه3 ادعى أنه الله؛ عنادا لقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ
ـــــــ
1 لو قرأت بإزاء هذا قول الله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لحكمت على هذا الرجل بآية واحدة بأنه خارج عن الإسلام.
2 سيق ذكر نص العضد والسعد.
3 أي: في زعم ابن الفارض.(191/224)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ولأمر1 رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قتاله لكل من سمى شيئا غير الله إلها، فقال شعر:
فبي دارت الأفلاك عجبا لقطبها الـ ... ـمحيط بها، والقطب2 مركز نقطتي
ـــــــ
1 معطوفة على قوله قبل: لقوله تعالى.
2 زيادة على ما ذكرته قبل عن القطب عند الصوفية أقول هنا: القطب عندهم نوعان. قطب قديم أو معنوي، وقطب حادث أو حسي. فإن كان بالنسبة إلى ما في عالم الشهادة من الخلق، فهو القطب الحادث أو الحسى، وهذا يستخلف بدلا منه عند موته أقرب الأبدال منه، إذ كان هو قبل القطبية بدلا، ثم استخلفه القطب الذي كان قبله عند موته، وإن كان بالنسبة إلى ما في عالم الغيب والشهادة من تعينات الوجود المطلق، فهو القطب القديم، أو المعنوي، لا يستخلف عنه بدلا، ولا يقوم أحد من الخلائق مقامه، إذ هو قطب الأقطاب المتعاقبة في عالم الشهادة، فلا يسبقه قطب ولا يخلفه آخر، أي: ليس قبله قبل، ولا بعده بعد والقطب القديم هذا هو الروح المصطفوي، أو الحقيقة المحمدية، أو هو الله -وسبحان رب العالمين- حين عرف نفسه في أول صورة تعين فيها، وسماها الحقيقة المحمدية، ومن خصائص هذا القطب القديم وجود كل الأفلاك بوجوده، ودورانها به، وحوله، وإحاطة علمه وقدرته بأقطارها، وسمو رتبته وشرفه عن ذرى رتبتها وسنام شرفها. وهنا يزعم لبن الفارض أنه هو هذا القطب القديم، يعني قطب الأقطاب، يعنى أنه الله سبحانه!! يزعم أن علمه محيط بكل شيء، وأن قدرته تصرف لمشيئته كل شيء، وأنه فوق كل شيء بالشرف والرتبة، وأنت -ولا ريب- على ذكر من أن الله سبحانه هو وحده الذي يحيط علمه بكل ما في عالم الغيب والشهادة وغير هذا مما لا يوصف به إلا الله سبحانه وتعالى وحده. وأنت -ولا ريب- مدرك من قول ابن الفارض أنه ينسب كل هذه الصفات الإلهية لنفسه، فهل يجوز أن يعتريك وهم في أن ابن الفارض يقرر أنه هو الله ذاتا وصفة وعلما وقدرة، أعني له الربوبية والإلهية "انظر ص103جـ2 كشف الوجوه الغر، لعبد الرازق القاشاني المطبوع على هامش شرح ديوان ابن الفارض ط 1310هـ المطبعة الخيرية" فعنه بخاصة كتبت ما كتبت عن القطب، وإن كان لنا شيء فالأسلوب وحده. كل هذا لنقطع على الصوفية سبيل ادعاء أن ما نقول مفترى عليهم، فلا والله ما نأخذ ما نكتبه عنهم إلا من كتب آلهتهم!!(191/225)
فمن قال، أو من طال، أو صال إنما ... يمن بإمدادي له برقيقة
وما سار فوق الماء، أو طار في الهوا ... أو اخترق النيران إلا بهمتي
وعني من أمددته برقيقة ... تصرف1 عن مجموعة في دقيقة
ومني لو قامت بميت لطيفة ... لردت إليه نفسه، وأعيدت
ولا تحسبن الأمر عني خارجا ... فما ساد إلا داخل في عبودتي
فلا حي إلا عن حياتي حياته ... وطوع مرادي كل نفس مريدة2
[ولولاي لم يوجد وجود، ولم يكن ... شهود، ولم تعهد عهود بذمة]3
ولا قائل إلا بلفظي محدث ... ولا ناظر إلا بناظر مقلتي
هذا لا يصح كونه عنه، ولا عن الله4!!
زعمه أن صفات الله عين صفاته:
ويقول أيضا أن الله يتحد به، بحيث يصير الذاتان ذاتا واحدة، فمن ذلك قوله:
ولا منصت إلا بسمعي؟؟ سامع ... ولا با طش إلا بأزلي وشدتي
ولا ناطق غير، ولا ناظر، ولا ... سميع سوائي5 من جميع الخليقة
ـــــــ
1 في الأصل: في.
2 في الأصل: أبيه. والتصويب من الديوان.
3 هذا البيت ساقط من الأصل، وأثبته عن الديوان.
4 هذا رد على زعم شراح التائية أن ابن الفارض يتكلم بلسان الحضرة الإلهية.
5 في الأصل: سواي. وهي في الديوان كما أثبتها.(191/226)
وهأنا أبدي في اتحادي مبدئي ... وأنهي انتهائي في تواضع رفعتي
جلت في تجليها الوجود لناظري ... ففي كل مرئي أراها برؤية
وأشهدت غيبي إذ بدت فوجدتني ... هنالك إياها بجلوة خلوتي
فوصفي -إذ لم تدع باثنين- وصفها ... وهيئتها -إذ واحد نحن- هيئتي1
ـــــــ
1 زعم الزنديق قبل أنه قطب الأقطاب، وأن له وحده القدرة المهيمنة، والعلم المحيط بما في عالمي الغيب والشهادة، وفي هذه الأبيات يوغل أيضا في التزندق إيغالا فاجرا، فيزعم أنه السيد لكل سيد، وأنه مفيض الحياة والوجود، وأنه المهيمن على إرادة كل مريد، فلولاه ما وجد موجود، ولا خلق كائن، ولا أخذ العهد على الآدمية أن تعبد الله، ولا دعا إلى الله -بالحق- نبي أو رسول. لأنه الآخذ لهذا العهد على عبيده، المرسل للرسل المانح المعطي كل كائن وجوده وحياته، ولما كان ابن الفارض يدين بأن الله سبحانه هو عين خلقه، وأنه -أي: ابن الفارض- هو الله، فقد هوى هنا في هذه الأبيات مع الزندقة إلى غورها السحيق، إذ يزعم أن ما تلفظه الشفاه هو في الحقيقة ألفاظ الله، وأن ما تسمعه الآذان، وتراه العيون، عين ما يسمع الله ويرى، بل الآذان والعيون هي في حقيقتها آذان الله وعيونه, وتعالى الله عما يشركون، مشيرا في لآمة ماكرة إلى الحديث القدسي "كنت سمعه..إلخ" ملمحا بهذه الإشارة إلى أن السنة تؤيد بهتان مجوسيته. وقد سبق الرد على ما يدندن به الصوفية حول هذا الحديث.. كل هذا يهدف به مخبول الزندقة، ليؤكد لك عشرات المرات أنه هو الله، ورغم جلاء الكفر الآثم في شعره، فإنا ما زلنا نسمع من الأحبار أن ابن الفارض سلطان العاشقين، في حين أن كفر ابن الفارض أشد جحودا، وأخبث وسيلة وغاية من كفر الشيطان، فإبليس في لحظة تحدي العبودية الآبقة للربوبية المهيمنة، لم يذهله التحدي عن عزة الله، وأنه سبحانه هو الأعظم الأكبر، فلم يقسم بغير عزة الله {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] وإبليس في لحظة الجحود والعناد لم يزعم لنفسه القدرة الشاملة، ولا التصرف الكامل، فقال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} وإبليس في لحظة التخايل بالكبر المقيت، لم يزعم لنفسه أنه غني عن الله، ولا أن حياته طوع إرادته هو، فدعا الله سبحانه دعاء المفتقر إلى من يؤمن بأنه غني أن ينظره الله إلى يوم البعث {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] فتأمل في كفر إبليس وكفر ابن الفارض، وثمت تقول مع الحق: وأين من كفر الزنديق كفر إبليس؟!!(191/227)
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني، ولبت
[70] وإن نطقت كنت المناجي، كذلك إن ... قصصت حديثا إنما هي قصت
فقد رفعت تاء المخاطب بيننا1 ... وفي رفعها عن فرقة الفرق2 رفعتي
فإن لم يجوز رؤية اثنين واحدا ... حجاك، ولم يثبت لبعد تثبت
سأجلو إشارات عليك خفية ... بها, كعبارات لديك جلية
وأثبت بالبرهان قولي. ضاربا ... مثال محق، والحقيقة عمدتي
بمتبوعة ينبيك في الصرع غيرها ... على فمها في مسها حين جنت3
ومن لغة تبدو بغير لسانها ... عليه براهين الأدلة صحت
وفي العلم حقا أن مبدي غريب ما ... سمعت سواها، وهي في الحس أبدت
ـــــــ
1 الخطاب يستلزم الاثنينية، إذ يقتضي وجود مخاطب، ومخاطب، لذا ينفي ابن الفارض الخطاب، ليثبت من وراء نفيه، أنه ما ثم غيره حتى يخاطبه، وإنما هناك ذات واحدة، هي الذات الإلهية المتعينة في صورة ابن الفارض, أو لعله يريد أن تاء المخاطب -وهي مفتوحة- تحولت إلى تاء المتكلم وهي مضمومة، فبدل أن يقول: أنت خلقت، أصبح يقول: أنا خلقت.
2 الفرق عند الصوفية: "شهود قيام الخلق بالحق، ورؤية الوحدة في الكثرة، والكثرة في الوحدة من غير احتجاب صاحبه بأحدهما عن الآخر" جامع الأصول في الأولياء. فالفرق لا يزال مشوبا بالغيرية، لذا يزعم ابن الفارض أنه تسامى عن هذه المرتبة التي يشعر فيها السالك أن ثمت بينه وبين الله سبحانه وجها ما من وجوه الغيرية، وأنه في أفق يوقن فيه وتحقق منه أنه هو عين الذات الإلهية.
3 سبق هذا البيت وتعليقي عليه.(191/228)
قال الإمام شمس الدين البساطي في شرح هذه الآيات: "ومن ظن هذا برهانا, فجنونه أعظم من جنون المتبوعة" وقال قبل ذلك:
زعمه أن الله سبحانه يصلي له:
ولا غرو أن صلى الأنام إلي أن ... ثوت بفؤادي، وهي قبل قبلتي
لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع1 في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي2 ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
ثم قال بعد ذلك:
وفارق ضلال الفرق فالجمع، منتج ... هدى فرقة بالاتحاد تحدث
ـــــــ
1 الجمع عند الصوفية: "شهود الحق بلا خلق، أو الإشارة إلى حق بلا خلق، وهو ما يسمى: وحدة الشهود" غير أن ابن الفارض يعني به هنا ما هو أشد كفرا، إذ يزعم أنه حين يسجد، فالساجد والمسجود له حقيقة واحدة هي الحق في صورة خلق، يعني الإله باعتبار الإطلاق، والإله باعتبار التعين في صورة ابن الفارض.
2 فيما قبله عبر بقوله: كلانا مصل وكلا. والضمير الذي بهما يشعران بأنه ثم اثنان يؤديان الصلاة- وإن كان قد عقبه بما ينفي الاثنينية المفهومة من "كلانا" وهو قوله "واحد ساجد". غير أنه لم يكتف بهذا في نفي الاثنينية، فنظم هذا البيت "وما كان لي صلى سواي.. إلخ" توكيدا لنفي ما نفاه من قبل، وتوكيدا لمعنى الوحدة بينه وبين الله سبحانه، ومعنى قوله: احذر أن تفهم أن المصلى غير من صلى له، فإنما هما حقيقة واحدة تخدع غير العارف بتجليها في مظهرين غيبي وشهودي، أو مصلى له ومصل، المصلي أنا، والمصلى له أنا!! غير أني أقول للزنديق وعبيده: ما زال ثم غير. هو مكان الصلاة، فلا يثبت لك نفي الغيرية والاثنينية.(191/229)
رب الصوفية في صور العاشقات:
وصرح بإطلاق الجمال, ولا تقل ... بتقييده ميلا لزخرف زينة
بها قيس لبني1هام، بل كل عاشق ... كمجنون ليلى2، وكثير3 عزة
فكل صبا منهم إلى وصف لبسها ... بصورة حسن لاح في حسن صورة
وما ذاك إلا أن بدت بمظاهر ... فظنوا سواها، وهي فيها4 تجلت
ففي النشأة الأولى تراءت لآدم ... بمظهر حوا5 قبل حكم الأمومة
فهام بها كيما يصير بها أبا ... ويظهر بالزوجين سر البنوة
انظر إلى هذا التجاسر مع الكفر على صفي الله آدم عليه السلام في وصفه
ـــــــ
1 في الأصل ليلى، وقيس المذكور هو ابن ذريح أحد مشاهير العشاق.
ما زال يشبب بلبنى بنت الحباب الكعبية، ويسعى سعيه حتى تزوج بها، ثم طلقها ثم تزوجها وكان في أيام معاوية "عن تزيين الأسواق للأنطاكي".
2 المجنون هو عامر بن ملوح بن مزاحم، وصاحبته ليلى بنت مهدي بن سعد سلبه عشق ليلى رشده. وكانا في أيام مروان ومن شعره فيها:
أراني إذا صليت يممت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك ولكن حبها ... وعظم الجوى أعيا الطبيب المداويا
3 هو كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الأسود بن عامر كنيته أبو صخر الشاعر المشهور، كان رافضيا شديد التعصب لآل أبي طالب. توفي سنة 150هـ. وصاحبته عزة بن جميل بن حفص بن إياس، ومن شعره فيها:
الله يعلم لو أردت زيادة ... في حب عزة ما وجدت مزيدا
رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة ركعا وسجودا
والميت ينشر أن تمس عظامه ... مسا، ويخلد أن يراك خلودا
4 في الأصل: فيهم، والتصويب من الديوان، فالضمير يعود على المظاهر.
5 يفتري أن الذات الإلهية تعينت لآدم في صورة حواء.(191/230)
بالهيام بالذات الأقدمين1 كما لا يخفى ولم لا يخفى:
وما برحت تبدو وتخفى لعلة ... على حسب الأوقات في كل حقبة
وتظهر للعشاق في كل مظهر ... من اللبس في أشكال حسن بديعة
ففي مرة لبنى، وأخرى بثينة ... وآونة تدعى بعزة. عزت
ولسن سواها، لا ولا كن غيرها2 ... وما إن لها في حسنها من شريكة
كذاك بحكم الاتحاد, لحسنها ... كما لي بدت في غيرها، وتزيت
بدوت لها في كل صب متيم ... بأي بديع حسنه، وبأيت
وليسوا بغيري في الهوى لتقدم ... علي بسبق في الليالي القديمة
وما القوم غيري في هواي، وإنما ... ظهرت بهم للبس في كل هيئة
ـــــــ
1 في الكلام خلل فلعله سقط منه شيء، ويعجب المؤلف من جسارة ابن الفارض على آدم، وليس بعجيب هذا من رجل قال قبل ذلك: إن الله هو جسد حواء!! وسبحان الله رب العالمين.
2 يفتري الزنديق أن لبنى وبثينة وعزة وليلى ما هن إلا الذات الإلهية تعينت في صور هؤلاء الغواني العاشقات، وأن قيسا وجميلا وكثيرا وعامرا عشاق أولئك النسوة، ما هم إلا الذات الإلهية تعينت في صور هؤلاء العشاق، فمن خصائص الإله الصوفي أنه يتجلى في صورة رجل عاشق، وفي صورة امرأة هلوك عاشقة، وأنه حين يعشق فإنما يعشق نفسه، فهو العاشق والعشق والمعشوق. وابن الفارض يختار لفظ العشق عن عمد تثيره الغريزة الملتهبة، فالعشق كما يعرفه صاحب القاموس "إفراط الحب، ويكون في عفاف وفي دعارة، أو عمي الحس عن إدراك عيوبه أو مرض وسواس يجلبه إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور" والصوفية المعاصرة تعيب علينا الإيمان بصفات الله كما هي في الكتاب والسنة، وترجف بنا باغية في كل ناد أننا نجسم الله! ومعاذ الله أن ننسب إليه إلا ما نسب هو سبحانه إلى نفسه. ألا فلينظروا إلى ربهم الذي صنعته زندقة ابن الفارض، إنه يصوره شهوة عارمة النزوات, وبهذا لقبوه بسلطان العاشقين.(191/231)
ففي مرة قيسا، وأخرى كثيرا ... وآونة أبدو جميل بثينة1
[71] تجليت فيهم ظاهرا, واحتجبت با ... طنا بهم, فاعجب لكشف بسترة2
وهن, وهم3 -لا وهن وهم- مظاهر ... لنا4 بتجلينا بحب، ونضرة
فكل فتى حب أنا هو، وهي حـ ... ـب كل فتى، والكل أسماء لبسة
أسام بها كنت المسمى حقيقة ... وكنت لي البادي بنفس تخفت
وما زلت إياها, وإياي لم تزل ... ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت5
وليس معي فى الملك شيء سواي ... والمعية لم تخطر على ألمعيتي
ـــــــ
1 تكنى أم عبد الملك، وصاحبها جميل بن عبد الله بن معمر بن صباح وكلاهما من بني عذرة، قبيلة اشتهرت بالجمال والحب والعفة فيه، حتى قيل: هوى عذري, وجميل مضرب المثل في صدق الصبابة وعفة الحب، وكان وصاحبته في عهد عبد الملك بن مروان.
2 دائما يذكر ابن الفارض عن نفسه باعتباره أحد تعينات الذات الإلهية أنه يتجلى في صور رجال عاشقين، أما حين يتحدث عن الذات مطلقا فيزعم أنها تتجلى في صور نساء عاشقات وما من شك في أنه يريد بهذا تفضيل نفسه على كل تعينات الإله الصوفي، إذ الرجل قيم على المرأة.
3 العشيقات والعشاق الذين ذكروا قبل, والذين هم رمز عن الوجود المتعين.
4 أي: الذات الإلهية باعتبارها وجودا خاليا من التعين، ولها باعتبارها خلقا سمي بابن الفارض.
5 هذا وما قبله يؤكد أن ابن الفارض ممن يدينون بوحدة الوجود، لا بالاتحاد، ألا تراه يؤكد أن مظاهر الوجود المختلفة هي عين الذات، وأن الذات منذ أحبت أن تتعين وهي تتجلى في صور الوجود، وأن هذه الحقيقة -حقيقة تعين الحق في صور الخلق- لا يطيف بها وهم من الأوهام؟!(191/232)
فهذا ظاهر في إرادة الاتحاد1 بحيث إن الذاتين تكونان ذاتا واحدة، لا شبهة فيه أصلا.
ثباته على اعتقاد الوحدة:
ثم قال في إثباته2، ونفي الحلول:
رجعت لأعمال العبادة عادة ... وأعددت أحوال الإرادة عدتي
وعذت بنسكي بعد هتكي، وعدت من ... خلاعة بسطي، لانقباض بعفتي
وصمت نهاري رغبة في مثوبة ... وأحييت ليلي رهبة من عقوبة
وعمرت أوقاتي بورد لوارد ... وصمت لسمت، واعتكاف لحرمة
وبنت عن الأوطان هجران قاطع ... مواصلة الأحباب، واخترت عزلتي
ودققت فكري في الحلال تورعا ... وراعيت في إصلاح قوتي، وقوتي
وأنفقت من يسر3 القناعة راضيا ... من العيش في الدنيا بأيسر بلغة
وهذبت نفسي بالرياضة، ذاهبا ... إلى كشف ما حجب العوائد غطت
وجردت في التجريد عزمي تزهدا ... وآثرت في نسكي استجابة دعوتي
متى حلت عن قولي: أنا هي، أو أقل ... وحاشا لمثلي أنها في حلت
جميع هذه الأفعال التي هي محاسن الشريعة جعلها نقائض، ودعا على نفسه بها4، إن ادعى الحلول، أو حال عن دعوى الاتحاد.
ـــــــ
1 الصور اللفظية لابن الفارض تشعر بهذا، أما معانيه وشرحه في القصيدة لمعتقده فيؤكدان إيمانه بالوحدة.
2 أي: في إثبات الاتحاد، والحق أنها وغيرها في إثبات الوحدة.
3 في الأصل: سر، والتصويب من الديوان.
4 يدعو ابن الفارض على نفسه بالعودة إلى مرتبة العبودية المصلية الصائمة الذاكرة، المنطوية على أحزانها في كهف الزهد وغيابة الحرمان، يدعو بهذا على نفسه إن تحول يوما عما يدين به، وهو أنه هو الله سبحانه، أو كما يقول: متى حلت عن قولي: أنا هي! وجواب "متى" يدل عليه ما سبق من أول قوله: رجعت لأعمال العبادة... إلخ.(191/233)
استدلاله على زندقته:
ثم قال بعد هذا بكثير في أواخر القصيدة, دالا على مذهبه فيما زعم:
وجاء حديث في اتحادي ثابت ... روايته في النقل غير ضعيفة
يشير بحب الحق بعد1 تقرب ... إليه بنفل, أو أداء فريضة
وموضع تنبيه الإشارة ظاهر ... بكنت له سمعا كنور الظهيرة
قال شارحه: "إن الحب ميل باطني أثره رفع امتياز المحب والمحبوب، ورفع ما بينهما2، والمحب عين الحضرة الإلهية، والمحبوب ظهور كماله الذاتي والأسمائي، ولن يصح لقبول هذا الظهور المحبوب منصة إلا الحقيقة الإنسانية صورة ومعنى؛ لكمال جمعيتها، وتتميمها دائرة الأزلية والأبدية، والحديث المشير بهذا الاتحاد: لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ولسانا ورجلا3 وعبارة التلمساني في مقدمة شرحه: نص
ـــــــ
1 في الأصل: عند. وهي كما أثبتها في الديوان.
2 أي: رفع كل ما بينهما من فروق ذاتية وصفاتية، حتى تصير الذاتان ذاتا واحدة هي الحق متلبسا. بصورة خلقية قال الجنيد: ويسمونه سيد الطائفة, ويزعم من لا يستبطن خبيئة التصوف: أن تصوف الجنيد أقباس من السنة, "سمعت السري السقطي يقول: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا" بهذا يؤمن الجنيد وخاله السري السقطي، والقشيري ناقل هذا في رسالته في باب الحب، فتأمل متى بدأ التصوف ينفث زندقته! فالجنيد والسقطي من رجال القرن الثالث الهجري. وكلاهما يؤمن أن غاية الحب صيرورة العبد ربا، حتى يقول الرب للعبد، والعبد للرب: يا أنا!
3 روي الحديث باختصار مخل، وليس في الحديث ذكر كلمة: لسان. وقد =(191/234)
في المراد، وهي: "فالسمع والبصر, وغيرهما من الصفات في أي موصوف كان هو الله حقيقة" وسيأتي كلام القشيري [72] والسهروردي: أن هذا زندقة، وساق ابن الفارض بعد الأبيات الماضية ما زعم أنه يدل على دعواه الاتحاد وأنه إذا دل على ذلك انتفى الحلول، فقال:
ولست على غيب أحيلك لا, ولا ... على مستحيل موجب سلب حليتي
وكيف، وباسم الحق ظل تحققي ... تكون أراجيف الضلال مخيفتي؟
وها دحية1 وافى الأمين2 نبينا ... بصورته في بدء وحي النبوة
ـــــــ
= سبق الحديث وبيان سنده والرد على ما استنبطه منه الزنادقة. وأنقل لك هنا طرفا مما شرح به ابن قيم الحديث لترى كيف يفهم المؤمنون، ويهرف بالزندقة الصوفيون "وخص في الحديث السمع والبصر واليد والرجل بالذكر، فإن هذه آلات الإدراك وآلات الفعل، والسمع والبصر يوردان على القلب الإرادة والكراهة، ويجلبان إليه الحب والبغض، فتستعمل اليد والرجل، فإذا كان سمع العبد بالله وبصره به كان محفوظا في آلات إدراكه، فكان محفوظا في حبه وبغضه، فحفظه في بطشه ومشيه، فمتى كان العبد بالله هانت عليه المشاق، وانقلبت المخاوف في حقه أمانا، فبالله يهون كل صعب، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد، وبالله تزول الأحزان والهموم والغموم، فلا هم مع الله، ولا غم مع الله، ولا حزن مع الله. ولما حصلت هذه الموافقة مع العبد لربه في محابه، حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه، فقال: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" أي: كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إلي بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعل به، ويستعيذني أن يناله مكروه" اقرأ الشرح كاملا في الجواب الكافي لابن قيم ط السنة المحمدية ص202 وما بعدها.
1 هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة، صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق، وقيل: أحد. كان مضرب المثل في حسن الصورة، حتى كان جبريل ينزل بصورته، عاش رضي الله عنه إلى خلافة معاوية "أسد الغابة، الإصابة، الاستيعاب"
2 جبريل عليه السلام.(191/235)
أجبريل قل لي: كان دحية إذ بدا ... لمهدي الهدى في هيئة بشرية
وفي علمه عن حاضريه مزية ... بماهية1 المرئي من غير مرية
يرى ملكا يوحي إليه، وغيره ... يرى رجلا يرعى لديه لصحبة
ولي من أصح الرؤيتين إشارة ... تنزه عن رأي الحلول عقيدتي
يدين بتلبس الله بصورة خلقه:
قالوا: "إن المراد -كما هو ظاهر جدا- أن جبريل عليه السلام ظهر في صورة دحية من غير حلول فيه، ولأجل ظهوره كذلك ادعى أن الله تعالى تجلى بصورة الناظم، لم يدع حلوله2 فيه".
ـــــــ
1 ماهية الشيء: حقيقته التي تقال في جواب: ما هو؟
2 مع كفره البين بقياس شأن الله على شأن عبده جبريل، وحكمه بوقوع تلبس الخالق بصور الخلق، قياسا على ما وقع لجبريل, إذ تلبس بصورة دحية.
أقول: مع كفره بهذا، فالحديث ناطق بالحق يهدم ما بنى ابن الفارض ومخانيثه عليه من باطل، فهو لا يثبت إلا ظهور جبريل بصورة دحية، فلم يكن ثم -إذا- ذاتان اتحدت إحداهما بالأخرى, أو صورتان لحقيقة واحدة، وإنما كان ثم غيران منفصلان تمام الانفصال، ليسا متحدين لا في ذات، ولا في صفة، ولا في فعل بل ولا في ماهية أو هوية، ولكل منهما خصائصه، ومقوماته وحياته التي لا تشبه الأخرى في أدنى شيء، أو تقاربها، كان ثم الحقيقة الملكية، وكان ثم الحقيقة الآدمية. وهذا نقيض ما يدين به ابن الفارض، إذ يدين بالوحدة التامة بينه وبين الله في الهوية والماهية والذات والصفة، يؤمن بأن هذه الكائنات التي لا تتناهى هي عين الذات الإلهية. وأنت -ولا ريب- قد آمنت بأن الحديث حجة عليه لا له. ثانيا: فصل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو سيد العارفين، كما يوقنون- بحكمه عن بينة بين جبريل، وبين دحية، وهذا الفصل يقتضي أن ذات جبريل غير ذات دحية, أعني يستلزم الغيرية بالحقيقية. وابن الفارض يدين بعدم الغيرية، وينكرها بتاتا. ثالثا:حينما ظهر جبريل بصورة دحية كان ثم أغيار كثيرون حقيقيون غيره. هم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، وكان ثم المكان.=(191/236)
قال البساطي: "لكن دعوى تجلي الله بصورة ما مكفر بها1 شرعا بإجماع المسلمين والكافرين من آمن به، وإن لم يكن حلولا".
ثم قال: دالا على أن ما قاله بزعمه في الكتاب والسنة:
وفي الذكر2 ذكر اللبس ليس بمنكر ... ولم أعد عن حكمي كتاب وسنة
وشرحه الشراح كلهم بقوله تعالى في الكتاب العزيز: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص: 30]
ـــــــ
= والصوفية يدينون بأنه ما ثم غير من الأغيار، وإنما الكل عندهم عين الذات.
رابعا: حينما ظهرت الملائكة لإبراهيم الخليل عليه السلام ظنهم رجالا -والعارف الحق عندهم من لا تخدعه الصورة عن الحقيقة- فقدم لهم طعاما، فلم ينالوا منه شيئا، وهذا دليل على أن الملائكة -رغم ظهورهم في صور بشرية- ظلت على خصائصها الملكية، ولم تنزل على حكم البشرية، فتأكل وتشرب, في حين يدين الصوفية بأن الله سبحانه عين الماهية والهوية من كل موجود، وله خصائصه الحيوانية، والإنسانية، أو الجمادية، فيأكل ويشرب ويتزوج وغير ذلك.
قال الحافظ بن حجر في الفتح "والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه" لكن الصوفية -يعبر عنها ابن الفارض وابن عربي وغيرهما- تدين بأن ذات الحق عين الخلق فيجوز عليها كل ما يجوز عليهم، فهي حقيقة القاتل من فاعل القتل، وشارب الخمر من شاربها، فما من فاعل يأتي بشيء، وما من مجرم يقترف إثما إلا وهو الله حقيقة عند الصوفية، وتعالى الله الملك الحق عما يصفون!!
1 سبق ذكر هذا النص وتعليقي عليه.
2 القرآن.
3 يفتري الزنديق أن من كلم موسى هي الشجرة، وأنها كانت هي الله سبحانه متجليا في صورة شجرة، ثم يأخذ من هذا الإفك الأثيم دليلا على دعواه، وهو تعين الله في صورة خلقية، وتجليه في صورة ابن الفارض، ورغم هذا البهتان المجوسي، فالآية تدمغهم، فإنها تثبت وجود أغيار كثيرة غير الرب الذي ظنوه شجرة. تثبت وجود موسى، والشاطئ، والبقعة المباركة، وابن الفارض ومخانيثه يدينون بأنه ما ثم غير أبدا, فعندهم أن الله سبحانه عين كل شيء. وهم يزعمون هنا أن الشجرة وحدها كانت هي الله، فما استدلوا به يناقض ما يدينون به.(191/237)
وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 1 [الأنفال: 17]
ـــــــ
1 يتخذ الصوفية -كدأبهم في التلبيس الزنديقي- من هذه الآية دليلا على أن فعل العبد عين فعل الله، ليثبتوا من ورائه أن ذات العبد عين ذات الله سبحانه وإليك ما يرد به الإمام ابن تيمية بهتانهم" قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله، كما تظنه طائفة من الغالطين فإن ذلك لو كان صحيحا، لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي: ما مشيت، ولكن الله مشى، ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك، وطرد ذلك يستلزم أن يقال: وما كفرت إذ كفرت، ولكن الله كفر، ويقال للكاذب.. ومن قال هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين.
ولكن معنى الآية: أن النبي -صلي الله عليه وسلم- يوم بدر رماهم، ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم، فإنه إذا رماهم بالتراب، وقال "شاهت الوجوه" ولم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم، فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم بقدرته يقول: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل, فالرمي الذي أثبته ليس هو الرمي الذي نفاه عنه، وهو الإيصال والتبليغ، وأثبت له الحذف والإلقاء" باختصار قليل جدا عن مجموعة الرسائل والمسائل ص96 جـ1 وأقول: تثبت الآية وجود رام، وشيء رمي، وقوم أصيبوا بما رمي، فعلى فرض صحة إفكهم أن الرامي هو الله في صورة محمد، فمن هم أولئك الذين رماهم الله؟ وما ذلك الشيء الذي رماهم به، أهم عين الله، أم هم غيره؟ إن قيل بالأول لزمهم كون ربهم من عتاة الجاهلية عباد الصنم، وأنه غلب على أمره. وأصيب بما لم يملك له دفعا. وهذا هو إله الصوفية الذي تصنعه الأوهام والشهوات. وإن قيل بالثاني لزم وجود غير، بل أغيار كثيرة، وهذا نقيض ما يدعونه، وهو أن الله سبحانه عين كل شيء، وتعالى الله عما يصفون.(191/238)
وقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 1 [الفتح: 10] وفي السنة حديث الإتيان في الصورة التي تنكر يوم القيامة، ثم في الصورة التي تعرف2. ثم قال3: "فعلم أنه تعالى يتلبس بأي لباس صورة شاء مما يعرف، ومما ينكر من غير حلول، فكان ظهوره بصورتي جائزا من غير حلول، فصح بهذا دعوى اتحادي مع نفي الحلول" ا. هـ. وليس وراءه تصريح بالكفر. نسأل الله العافية. وقالوا في شرح البيت الثاني4: "إن الحق من أسماء الذات، ومن اتصف بأسماء
ـــــــ
1 يزعم الصوفية أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} تؤيد بهتانهم في الاتحاد والوحدة، وإليك رد الإمام ابن تيمية عليهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لم يرد به أنك أنت الله، وإنما أراد به أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه، فمن بايعك، فقد بايع الله، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله، ومن ظن في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} الآية: أن المراد به أن فعلك هو فعل الله، أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده قد سلب الرسول خاصيته، وجعله مثل غيره، وذلك أنه لو كان المراد به أني خالق لفعلك، لكان هنا قدر مشترك بينه وبين سائر الخلق, وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله، ومن بايع مسيلمة فقد بايع الله، ومن بايع قادة الأحزاب، فقد بايع الله، وعلى هذا التقدير؛ فالمبايع هو الله أيضا، فيكون الله قد بايع الله، إذ الله خالق لهذا ولهذا، وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد، فإنه عام عندهم في هذا وهذا، فيكون الله قد بايع الله، وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية، حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو، يقول: أأقاتل الله؟!" باختصار قليل جدا عن مجموعة الرسائل والمسائل ص97جـ1.
2 سبق ذكر الحديث والرد على استدلال الصوفية به على معتقدهم.
3 أي: شارح التائية.
4 هذا البيت هو:
وكيف، وباسم الحق ظل تحققي ... تكون أراجيف الضلال مخيفتي(191/239)