وهذه المقالات هي محادة للّه ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول، وطريق أولياء اللّه المحققين، فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه؛ لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له؛ لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر، أو أن الفاحشة حلال له؛ لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب، ونحو ذلك .
ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع اللّه، وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر اللّه . فهؤلاء الأصناف / فيهم شبه من المشركين، إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين . كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 28 ] ، وكما قال تعالى عنهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] .(184/152)
وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم يشرعها اللّه بمثل قوله تعالى : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلى آخر السورة [ الأنعام : 138-165 ] ، وكذلك في سورة الأعراف في قوله : { يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } إلى قوله : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } إلى قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلى قوله : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ . قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } إلى قوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 27ـ33 ] .(184/153)
/وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة، كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة . وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده، ونحو ذلك . وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقًا، بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة، وأمرهم باتباعها، دون اتباع أمر اللّه ورسوله، نظير بدع أهل الكلام من الجهمية، وغيرهم، الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها، دون ما دلت عليه السمعيات . ثم الكتاب والسنة، إما أن يحرفوه عن مواضعه، وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه ولا يعقلونه، بل يقولون : نفوض معناه إلى اللّه، مع اعتقادهم نقيض مدلوله . وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة، وجدت جهليات واعتقادات فاسدة .
وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء اللّه، المخالفة للكتاب والسنة، وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء اللّه لا أولياؤه .
وأصل ضلال من ضل، هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند اللّه، واختياره الهوي على اتباع أمر اللّه، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك، هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق، ووجد بحسب محبته . فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما / سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار ) . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ) .(184/154)
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات، فكل بحسبه، قيل لسفيان بن عيينة : ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم ؟ ! فقال : أنسيت قوله تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } [ البقرة : 93 ] ؟ ! ، أو نحو هذا من الكلام . فعباد الأصنام يحبون آلهتهم، كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، وقال : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } [ النجم : 23 ] ؛ ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة، التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان . وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم، ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة .(184/155)
فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته، وطاعة رسوله لا يكون متبعاً لدين، شرعه اللّه، كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } إلى قوله : { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 17، 18 ] ، بل يكون متبعاً لهواه بغير هدى من اللّه، قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه اللّه، وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة، كما أخبر اللّه به عن المشركين، كما تقدم .
ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدراً، وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة، واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة، ظانين أن العارف إذا شهد [ القدر ] أعرض عن ذلك، مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء، ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا غلط عظيم . فإن اللّه قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون ) ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بأن اللّه كتب المقادير فقالوا : يا رسول اللّّه، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال : ( لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسييسر لعمل أهل الشقاوة ) .(184/156)
/فما أمر اللّه به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وفي قوله : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] ، وقول شعيب ـ عليه السلام ـ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] .
ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات، فتنقص بقدر ذلك .
ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة، أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة، ونحو ذلك، فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة، والشكر، ونحو ذلك .
فهذه الأمور ونحوها كثيراً ما تعرض لأهل السلوك والتوجه، وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر اللّه الذي بعث به رسوله في كل وقت . كما قال الزهري : كان من مضى من سلفنا يقولون : الاعتصام بالسنة نجاة . وذلك أن السنة ـ كما قال مالك رحمه اللّه ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق .
والعبادة، والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد، ولها أصلان :
/أحدهما : ألا يعبد إلا اللّه .(184/157)
والثاني : أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من البدع . قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وقال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [ النساء : 125 ] ، فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات . والحسنات، هي ما أحبه اللّه ورسوله، وهو ما أمر به أمر إىجاب، أو استحباب، فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة، فإن اللّه لايحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات، ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لايجوز كالفواحش، والظلم ليس من الحسنات، ولا من العمل الصالح .
وأما قوله : { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وقوله : { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } ، فهو إخلاص الدين للّه وحده، وكان عمر بن الخطاب يقول : اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً .
وقال الفضيل بن عياض في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ هود : 7، الملك : 2 ] ، قال : أخلصه، وأصوبه . قالوا : يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : / إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة .(184/158)
فإن قيل : فإذا كان جميع ما يحبه اللّه داخلاً في اسم العبادة، فلماذا عطف عليها غيرها، كقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال نوح : { أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } [ نوح : 3 ] ، وكذلك قول غيره من الرسل . قيل : هذا له نظائر، كما في قوله : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] ، والفحشاء من المنكر، وكذلك قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] ، وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان، كما أن الفحشاء والبغي من المنكر، وكذلك قوله : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } [ الأعراف : 170 ] ، وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب، وكذلك قوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } [ الأنبياء : 90 ] ، ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات، وأمثال ذلك في القرآن كثير .
وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصًا له بالذكر ؛ لكونه مطلوباً بالمعنى العام، والمعنى الخاص، وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران، فإذا أفرد عم، وإذا قرن بغيره خص، كاسم الفقير، والمسكين لما /أفرد أحدهما في مثل قوله : { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 273 ] ، وقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ المائدة : 89 ] ، دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] صارا نوعين .(184/159)
وقد قيل : إن الخاص المعطوف على العام لايدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب . والتحقيق أن هذا ليس لازماً، قال تعالى : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] .
وذكر الخاص مع العام يكون، لأسباب متنوعة، تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وتارة؛ لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم، كما في قوله : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } [ البقرة : 2ـ4 ] ، فقوله : يؤمنون بالغيب يتناول الغيب الذي يجب الإيمان به، لكن فيه إجمال، فليس فيه دلالة على أن من الغيب، ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك . وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب، وبالإخبار بالغيب، وهو ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك .(184/160)
/ومن هذا الباب قوله تعالى : { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ } [ العنكبوت : 45 ] ، وقوله : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } [ الأعراف : 170 ] ، وتلاوة الكتاب، هي اتباعه، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } [ البقرة : 121 ] ، قال : يحللون حلاله ويحرمون حرامه، ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه، فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها، لكن خصها بالذكر لمزيتها . وكذلك قوله لموسى : { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] ، وإقامة الصلاة لذكره من أجل عبادته، وكذلك قوله تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [ الأحزاب : 70 ] ، وقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [ المائدة : 35 ] ، وقوله : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 119 ] ، فإن هذه الأمور هي أيضاً من تمام تقوى اللّه، وكذلك قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، فإن التوكل والاستعانة هي من عبادة اللّه، لكن خصت بالذكر، ليقصدها المتعبد بخصوصها، فإنها هي العون على سائر أنواع العبادة إذ هو ـ سبحانه ـ لا يعبد إلا بمعونته .(184/161)
إذا تبين هذا، فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته للّه، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه . أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم . قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } / إلى قوله : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26ـ 28 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } إلى قوله : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 ـ 95 ] ، وقال تعالى في المسيح : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الزخرف : 59 ] ، وقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ . يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 19، 20 ] ، وقال تعالى : { لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } إلى قوله : { وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } [ النساء : 172، 173 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ(184/162)
وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ . فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } [ فصلت : 37، 38 ] ، وقال تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 205، 206 ] .(184/163)
وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة، وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن، وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك . / فقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى لبني إسرائيل : { يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِي } [ العنكبوت : 56 ] ، { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي } [ البقرة : 41 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] ، وقال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي . فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } [ الزمر : 11ـ 15 ] .
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة اللّه، كقول نوح ومن بعده عليهم السلام : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ المؤمنون : 23 ] ، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ) .(184/164)
وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات، قال الشيطان : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ّ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39، 40 ] ، قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقال في حق يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، وقال : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ . إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 159، 160 ] ، وقال : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99، 100 ] ، وبها نعت كل من اصطفي من خلقه، كقوله : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ . إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ . وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } [ ص : 45ـ47 ] ، وقوله : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 17 ] ، وقال عن سليمان : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] ، وعن أيوب : { نِعْمَ الْعَبْدُ } [ ص : 44 ] ، وقال : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ } [ ص : 41 ] ، وقال عن نوح عليه السلام : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [ الإسراء : 3 ] ، وقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى(184/165)
بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] ، وقال {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] ، وقال : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] ، وقال : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ، وقال : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [ الإنسان : 6 ] ، وقال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } [ الفرقان : 63 ] ، ومثل هذا كثير متعدد في القرآن .
فَصْل
إذا تبين ذلك، فمعلوم أن هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلًا عظيمًا، وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه، إلى عام، وخاص ؛ ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ؛ ولهذا كان الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تَعِسَ عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضي، وإن منع سخط ) .(184/166)
فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة . وذكر ما فيه دعاء وخبر، وهو قوله : " تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش " ، والنقش : إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه ( إذا أعطى رضى، وإذا منع سخط ) ، كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ التوبة : 58 ] ، فرضاهم لغير اللّه وسخطهم لغير اللّه، وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب، واستعبده فهو عبده، ولهذا يقال :
العبد حر ما قنع ** والحر عبد ما طمع
وقال القائل :
أطعت مطامعي فاستعبدتني ** ولو أنى قنعت لكنت حرًا
ويقال : الطمع غل في العنق، قيد في الرجل، فإذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل . ويروي عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال : الطمع فقر، واليأس غني، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه . وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه، ولا يطمع به، ولا يبقى قلبه فقيرًا إليه، ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور، ورجاه تعلق قلبه به، فصار فقيرًا إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في المال والجاه، والصور وغير ذلك . قال الخليل صلى الله عليه وسلم : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت17 ] .(184/167)
/فالعبد لابد له من رزق، وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من اللّه صار عبدًا للّه، فقيرًا إليه، وإن طلبه من مخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه .
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة . وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد . كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعَة لحم ) ، وقوله : ( من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خُدوشًا أو خُموشًا، أو كدوحًا في وجهه ) ، وقوله : ( لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع ) ، هذا المعنى في الصحيح . وفيه أيضًا : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه، أو منعوه ) ، وقال : ( ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل، ولا مشرف فخذه، وما لا فلاتتبعه نفسك ) فكره أخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب، وقال في الحديث الصحيح : ( من يستغن يغنه اللّه، ومن يستعفف يعفه اللّه، ومن يتصبر يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر ) وأوصى خواص أصحابه ألا يسألوا الناس شيئًا وفي المسند : إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد ناولني إياه، ويقول : إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا . وفي صحيح مسلم وغيره، عن عوف ابن مالك : أن /النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة وأسر إليهم كلمة خفية : ( ألا تسألوا الناس شيئًا ) ، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد : ناولني إياه .(184/168)
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق، في غير موضع . كقوله تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب } [ الشرح : 7، 8 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ( إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه ) ، ومنه قول الخليل : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ } [ العنكبوت : 17 ] ، ولم يقل : فابتغوا الرزق عند اللّه؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال : لا تبتغوا الرزق إلا عند اللّه . وقد قال تعالى : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] ، والإنسان لابد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه للّه، فله أن يسأل اللّه، وإليه يشتكي، كما قال يعقوب ـ عليه السلام ـ : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [ يوسف : 86 ] .
واللّه ـ تعالى ـ ذكر في القرآن الهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل .
وقد قيل : إن الهجر الجميل، هو هجر بلا أذى . والصفح الجميل صفح بلا معاتبة . والصبر الجميل، صبر بغير شكوى إلى المخلوق؛ ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه أن طاوسًا كان يكره أنين / المريض، ويقول : إنه شكوى فما أنَّ أحمد حتى مات .(184/169)
وأما الشكوى إلى الخالق، فلا تنافى الصبر الجميل، فإن يعقوب قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 83 ] ، وقال : { قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه } ، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقرأ في الفجر بسورة يونس، و يوسف، والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف، ومن دعاء موسى : ( اللّهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك ) . وفي الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما فعل به أهل الطائف ما فعلوا : ( اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي . اللّهم إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب على فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل على غضبك، لك العتبى حتى ترضى، فلا حول ولا قوة إلا بك ـ وفي بعض الروايات ـ ولا حول ولا قوة إلا بك ) .(184/170)
وكلما قوى طمع العبد في فضل اللّه ورحمته، ورجائه لقضاء حاجته، ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في / المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه . كما قيل : استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره . فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من غير اللّه، والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية للّه، لاسيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه، وشيخه ومخدومه وغيرهم، ممن هو قد مات أو يموت . قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [ الفرقان : 58 ] .(184/171)
وكل من علق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا لهم مدبرًا لهم متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيرًا لها، تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها . وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها، وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور، الذي لا يستطيع الخلاص / منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي، إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنه الاحتىال في الخلاص . وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا مستعبدًا، متيمًا لغير اللّه فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب .
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر، أو استرقه فاجر بغيرحق لم يضره ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق، إذا أدى حق اللّه وحق مواليه له أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك، وأما من استعبد قلبه، فصار عبدًا لغير اللّه، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس .(184/172)
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس ) ، وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة، امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه . وهؤلاء من أعظم الناس عذابًا وأقلهم ثوابًا، فإن العاشق لصورة إذا بقى قلبه متعلقًا بها، مستعبدًا لها اجتمع له من / أنواع الشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضررًا عليه، ممن يفعل ذنبًا ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين . كما قيل :
سكران سكر هوى وسكر مدامة ** ومتى إفاقة من به سكران
وقيل :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ** العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه ** وإنما يصرع المجنون في الحين
ومن أعظم أسباب هذا البلاء : إعراض القلب عن اللّه، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة اللّه، والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر .
/قال ـ تعالى ـ في حق يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 42 ] . فاللّه يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه للّه .(184/173)
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية للّه والإخلاص له، تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى في قلبه انقهر له هواه بلا علاج . قال تعالى : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] ، فإن الصلاة فيها دفع للمكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب، وهو ذكر اللّه، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه، فإن ذكر اللّه عبادة للّه، وعبادة القلب للّه مقصودة لذاتها . وأما اندفاع الشر عنه، فهو مقصود لغيره على سبيل التبع .
والقلب خلق يحب الحق، ويريده، ويطلبه . فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنه يفسد القلب، كما يفسد الزرع، بما ينبت فيه من الدغل؛ ولهذا قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9، 10 ] ، وقال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [ الأعلى : 14، 15 ] ، وقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } [ النور : 30 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [ النور : 21 ] ، فجعل ـ سبحانه ـ غض البصر، وحفظ الفرج هو أزكى / للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك .(184/174)
وكذلك طالب الرئاسة، والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه، ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم، والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة اللّه، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق، كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر .
وهكذا ـ أيضًا ـ طالب المال ؛ فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان :
منها : ما يحتاج العبد إليه، كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه، ونحو ذلك . فهذا يطلبه من اللّه ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعًا / إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا .(184/175)
ومنها : ما لا يحتاج العبد إليه، فهذه لا ينبغي له أن يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدًا لها، وربما صار معتمدًا على غير اللّه، فلا يبقى معه حقيقة العبادة للّه، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير اللّه، وشعبة من التوكل على غير اللّه، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم : ( تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة ) ، وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من اللّه، فإن اللّه إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد اللّه من يرضيه ما يرضي اللّه، ويسخطه ما يسخط اللّه، ويحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله، ويوالي أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه ـ تعالى ـ وهذا هو الذي استكمل الإيمان . كما في الحديث : ( من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّّه، ومنع للّه فقد استكمل الإيمان ) وقال : ( أوثق عُرَى الإيمان : الحب في اللّه، والبغض في اللّه ) .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار ) فهذا وافق ربه فيما يحبه وما / يكرهه فكان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق للّه لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه للّه، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء اللّه، وأولياء اللّه؛ لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر، فقد أحبهم للّه لا لغيره، وقد قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] .(184/176)
ولهذا قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، فإن الرسول يأمر بما يحب اللّه، وينهى عما يبغضه اللّه، ويفعل ما يحبه اللّه، ويخبر بما يحب اللّه التصديق به، فمن كان محبًا للّه لزم أن يتبع الرسول، فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا، فقد فعل ما يحبه اللّه . فيحبه اللّه، فجعل اللّه لأهل محبته علامتين : اتباع الرسول، والجهاد في سبيله .
وذلك؛ لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه اللّه من الإيمان، والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه اللّه من الكفر والفسوق والعصيان . وقد قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلى قوله : { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] ، فتوعد من كان أهله وماله، أحب إليه من اللّه ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد . بل قد ثبت عنه في الصحيح، أنه قال : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن / أحدكم حتى أكون أحب إليه، من ولده، ووالده، والناس أجمعين ) ، وفي الصحيح أن عمر ابن الخطاب قال له : يا رسول اللّه ! ، واللّه لأنت أحب إلى من كل شيء إلا من نفسي، فقال : ( لا يا عمر ! حتى أكون أحب إليك من نفسك ) . فقال : فواللّه، لأنت أحب إلى من نفسي، فقال : ( الآن يا عمر ) .(184/177)
فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب، وبغض ما يبغض، واللّه يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان . ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات . فإذا كان العبد قادرًا عليها حصلها . وإن كان عاجزًا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا ) . وقال : ( إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم ) . قالوا : وهم بالمدينة . قال : ( وهم بالمدينة، حبسهم العذر ) .
والجهاد، هو بذل الوسع، وهو القدرة في حصول محبوب الحق، / ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد، كان دليلًا على ضعف محبة اللّه ورسوله في قلبه، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور، لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب للّه ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير اللّه مما يحتملون في حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم للّه إذا كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل .(184/178)
ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبًا للّه . كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، نعم ! قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقًا لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة، فكيف إذا كانت المحبة فاسدة، والطريق غير موصل ! كما يفعله المتهورون في طلب المال والرئاسة والصور في حب أمور توجب لهم ضررًا، ولا تحصل لهم مطلوبًا، وإنما المقصود الطرق التي يسلكها العقل؛ لحصول مطلوبه .
وإذا تبين هذا، فكلما ازداد القلب حبًا للّه إزداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات / إلى اللّه من وجهين : من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلىة، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا يلتذ، ولايسر، ولا يطيب، ولايسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه . ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة .
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة اللّه له، لايقدر على تحصيل ذلك له إلا اللّه، فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، فإنه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادته للّه بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، لا يحب شيئًا لذاته إلا اللّه، فمتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة، لا إله إلا اللّه، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة، وكان فيه من النقص والعيب، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك .(184/179)
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعينًا باللّه متوكلًا عليه مفتقرًا إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى اللّه من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود، ومن / حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه، فهو إلهه لا إله له غيره، وهو ربه لا رب له سواه .
ولا تتم عبوديته للّه إلا بهذين، فمتى كان يحب غير اللّه، لذاته، أو يلتفت إلى غير اللّه أنه يعينه كان عبدًا لما أحبه، وعبدًا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه . وإذا لم يحب لذاته إلا اللّه، وكلما أحب سواه فإنما أحبه له، ولم يرج قط شيئًا إلا اللّّه، وإذا فعل ما فعل من الأسباب، أو حصل ما حصل منها كان مشاهدًا أن اللّه هو الذي خلقها وقدرها، وأن كل ما في السموات والأرض فاللّه ربه ومليكه وخالقه، وهو مفتقر إليه كان قد حصل له من تمام عبوديته للّه بحسب ما قسم له من ذلك .
والناس في هذا على درجات متفاوتة لا يحصى طرفيها إلا اللّه .
فأكمل الخلق، وأفضلهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى اللّه، وأقواهم، وأهداهم، أتمهم عبودية للّه من هذا الوجه .
وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد للّه لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الجنة لايدخلها من في قلبه مثقال ذرة من كبر، كما أن / النار لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ، فجعل الكبر مقابلًا للإيمان، فإن الكبر ينافي حقيقة العبودية، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته ) فالعظمة، والكبرياء من خصائص الربوبية، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرداء، كما جعل العظمة بمنزلة الإزار .(184/180)
ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد، هو التكبير، وكان مستحبًا في الأمكنة العالية، كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفًا أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان . قال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .
وكل من استكبر عن عبادة اللّه لابد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أصدق الأسماء حارث وهمام ) فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائمًا، وكل إرادة، فلابد لها من مراد تنتهي إليه، فلابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن اللّه معبوده ومنتهى حبه، وإرادته بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب / يستعبده غير اللّه، فيكون عبدًا لذلك المراد المحبوب، إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهًا من دون اللّه، كالشمس، والقمر، والكواكب، والأوثان، وقبور الأنبياء، والصالحين، أو من الملائكة، والأنبياء الذين يتخذهم أربابًا، أو غير ذلك مما عبد من دون اللّّه .(184/181)
وإذا كان عبدًا لغير اللّه يكون مشركًا، وكل مستكبر، فهو مشرك؛ ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكبارًا عن عبادة اللّه، وكان مشركًا . قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ . إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } ، إلى قوله : { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } إلى قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [ غافر : 23ـ35 ] ، وقال تعالى : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ } [ العنكبوت : 39 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ } إلى قوله : { إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } [ القصص : 4 ] .
ومثل هذا في القرآن كثير .
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله : { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } [ الأعراف : 127 ] .
/بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارًا عن عبادة اللّه كان أعظم إشراكا باللّه؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة اللّه، ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود، مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركًا بما استعبده من ذلك .(184/182)
ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون اللّه هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه اللّه، ولا يعادي إلا من عاداه اللّه، ولا يحب إلا اللّه، ولايبغض شيئًا إلا للّه، ولا يعطي إلا للّه، ولا يمنع إلا للّه . فكلما قوى إخلاص دينه للّه كملت عبوديته، واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته للّه يبرئه من الكبر والشرك .
والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال ـ تعالى ـ في النصارى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، وقال في اليهود : { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] ، وقال تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ الأعراف : 146 ] .(184/183)
ولما كان الكبر مستلزمًا للشرك، والشرك ضد الإسلام، وهو الذنب الذي لا يغفره اللّه، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } [ النساء : 48 ] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } [ النساء : 116 ] ، كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام، فهو الدين الذي لا يقبل اللّه غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين . قال نوح : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 72 ] ، وقال في حق إبراهيم : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلى قوله : { فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 130-132 ] ، وقال يوسف : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] ، وقال موسى : { يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ . فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } [ يونس : 84، 85 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } [ المائدة : 44 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] ، وقال : / { وَإِذْ(184/184)
أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] ، وقال : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [ آل عمران : 19 ] ، وقال : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] .
وقال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [ آل عمران : 83 ] ، فذكر إسلام الكائنات طوعًا وكرهًا؛ لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر المقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون مدبرون؛ فهم مسلمون له طوعًا وكرهًا، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين، ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب، مصنوع، مفطور، فقير، محتاج، معبد، مقهور، وهو الواحد القهار، الخالق البارئ المصور .
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب، فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه، وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه، ويمانعه .(184/185)
وهو ـ سبحانه ـ وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه . قال تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأنعام : 17 ] ، وقال تعالى عن الخليل : { يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا } إلى قوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الأنعام : 78-82 ] .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ : إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول اللّه، أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال : ( إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ) [ لقمان : 13 ] .(184/186)
وإبراهيم الخليل إمام الحنفاء المخلصين، حيث بعث وقد طبق الأرض دين المشركين، قال اللّه تعالى : { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] ، فبين أن عهده بالإمامة لا يتناول الظالم، فلم يأمر اللّه ـ سبحانه ـ أن يكون الظالم إمامًا، وأعظم الظلم الشرك .
/وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] ، والأمة : هو معلم الخير الذي يؤتم به، كما أن القدوة الذي يقتدى به .
واللّه ـ تعالى ـ جعل في ذريته النبوة والكتاب، وإنما بعث الأنبياء بعده بملته قال تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] ، وقال تعالى : إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 68 ] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } [ آل عمران : 67 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } إلى قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 135، 136 ] .(184/187)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن إبراهيم خير البرية، فهو أفضل الأنبياء بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو خليل اللّه تعالى . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : ( إن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلاً ) ، وقال : ( لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل اللّه ) ـ يعني نفسه ـ وقال : ( لا يبقين / في المسجد خَوْخَة إلا سُدَّتْ إلا خَوْخَة أبي بكر ) ، وقال : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ) وكل هذا في الصحيح . وفيه أنه قال : ذلك قبل موته بأيام، وذلك من تمام رسالته .
فإن في ذلك تحقيق تمام مخالته للّه ، التي أصلها محبة اللّه ـ تعالى ـ للعبد، ومحبة العبد للّه خلافًا للجهمية .
وفي ذلك تحقيق توحيد اللّه، وأن لا يعبدوا إلا إياه، ورد على أشباه المشركين .
وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكا بالبشر .
والخلة : هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية للّه، ومن الرب ـ سبحانه ـ كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه، ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل، وكمال الحب، فإنهم يقولون : قلب متيم إذا كان متعبدًا للمحبوب، والمتيم المتعبد، وتيم اللّه عبده، وهذا على الكمال حصل لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ ولهذا لم يكن له من أهل الأرض خليل، إذ الخلة لا تحتمل الشركة فإنه كما قيل في المعنى :
/قد تخللت مسلك الروح مني ** و بذا سمى الخليل خليلًا(184/188)
بخلاف أصل الحب، فإنه صلى الله عليه وسلم قد قال في الحديث الصحيح في الحسن وأسامة : ( اللّهم إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما ) ، وسأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك ؟ قال : ( عائشة ) . قال : فمن الرجال ؟ قال : ( أبوها ) ، وقال لعلى ـ رضي اللّه عنه ـ : ( لأعطين الراية رجلًا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله ) وأمثال ذلك كثير .
وقد أخبر ـ تعالى ـ أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وقال : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، فقد أخبر بمحبته لعباده المؤمنين، و محبة المؤمنين له، حتى قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] .
وأما الخلة فخاصة . وقول بعض الناس : إن محمدًا حبيب اللّه، وإبراهيم خليل اللّه، وظنه أن المحبة فوق الخلة قول ضعيف، فإن محمدًا أيضًا خليل اللّه كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وما يروي : ( إن العباس يحشر بين حبيب وخليل ) وأمثال ذلك، فأحاديث موضوعة لا تصلح أن يعتمد عليها .
/وقد قدمنا أن من محبة اللّه ـ تعالى ـ محبة ما أحب، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقي في النار . أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجد الحلاوة بالشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئًا أو اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى .(184/189)
ومن قال : إن اللذة إدراك الملائم، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء، فقد غلط في ذلك غلطًا بينًا، فإن الإدراك يتوسط بين المحبة واللذة، فإن الإنسان مثلًا يشتهي الطعام فإذا أكله حصل له عقيب ذلك اللذة، فاللذة تتبع النظر إلى الشيء، فإذا نظر إليه التذ، فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر، وليست هي رؤية الشيء ؛بل تحصل عقيب رؤيته، وقال تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] ، وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات، والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك، يحصل بالشعور بالمحبوب، أو الشعور بالمكروه، وليس نفس الشعور هو الفرح ولا الحزن . فحلاوة الإيمان المتضمنة من اللذة به / والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الإيمان، تتبع كمال محبة العبد للّه، وذلك بثلاثة أمور : تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها .
فتكميلها : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، فإن محبة اللّه ورسوله لا يكتفي فيها بأصل الحب، بل لابد أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما كما تقدم .
وتفريعها : أن يحب المرء لا يحبه إلا للّه .
ودفع ضدها : أن يكره ضد الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار، فإذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة اللّه، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم اللّه؛ لأنه أكمل الناس محبة للّه، وأحقهم بأن يحب ما يحبه اللّه، ويبغض ما يبغضه اللّه، والخلة ليس لغير اللّه فيها نصيب، بل قال : ( لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ) علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة .(184/190)
والمقصود هو أن الخلة والمحبة للّه تحقيق عبوديته؛ وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل / وخضوع فقط، لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو إدلال لا تحتمله الربوبية؛ ولهذا يذكر عن ذي النون أنهم تكلموا عنده في مسألة المحبة . فقال : أمسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها . وكره من كره من أهل المعرفة، والعلم مجالسة أقوام يكثرون الكلام في المحبة بلا خشية، وقال من قال من السلف : من عبد اللّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد؛ ولهذا وجد في المستأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه ذلك إلى نوع من الرعونة، والدعوى التي تنافي العبودية، وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا للّه، ويدعي أحدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين أو يطلبون من اللّه، ما لا يصلح ـ بكل وجه ـ إلا للّه لا يصلح للأنبياء والمرسلين . وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ .
وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاؤوا به، بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته، وإذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفي النفس محبة، انبسطت النفس بحمقها في ذلك، كما ينبسط الإنسان في محبة الإنسان مع حمقه وجهله، ويقول : أنا محب فلا أؤاخذ بما أفعله من أنواع يكون فيها عدوان وجهل، فهذا / عين الضلال، وهو شبيه بقول اليهود والنصارى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } قال اللّه تعالى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } [ المائدة : 18 ] ، فإن تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضي أنهم غير محبوبين ولا منسوبين إليه بنسبة البنوة، بل يقتضي أنهم مربوبون مخلوقون .(184/191)
فمن كان اللّه يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه، لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان، ومن فعل الكبائر وأصر عليها، ولم يتب منها، فإن اللّه يبغض منه ذلك، كما يحب منه ما يفعله من الخير، إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، ومن ظن أن الذنوب ، لا تضره؛ لكون اللّه يحبه مع إصراره عليها، كان بمنزلة من زعم أن تناول السم لا يضره مع مداومته عليه، وعدم تداويه منه بصحة مزاجه .
ولو تدبر الأحمق ما قص اللّه في كتابه من قصص أنبيائه، وما جرى لهم من التوبة والاستغفار، وما أصيبوا به من أنواع البلاء الذي فيه تمحيص لهم، وتطهير بحسب أحوالهم، علم بعض ضرر الذنوب بأصحابها، ولو كان أرفع الناس مقامًا، فإن المحب للمخلوق إذا لم يكن عارفًا بمصلحته ولا مريدًا لها، بل يعمل بمقتضى الحب ـ وإن كان جهلًا وظلمًا ـ كان ذلك سببًا لبغض المحبوب له ونفوره عنه، بل لعقوبته .
وكثير من السالكين سلكوا في دعوى حب اللّه أنواعًا من أمور الجهل بالدين، إما من تعدي حدود اللّه، وإما من تضييع حقوق اللّه، وإما من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها، كقول بعضهم : أي مريد لي ترك في النار أحدًا فأنا منه برىء، فقال الآخر : أي مريد لي ترك أحدًا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برىء، فالأول : جعل مريده يخرج كل من في النار، والثاني : جعل مريده يمنع أهل الكبائر من دخول النار . ويقول بعضهم : إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم حتى لا يدخلها أحد، وأمثال ذلك من الأقوال التي تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين، وهي إما كذب عليهم، وإما غلط منهم، ومثل هذا قد يصدر في حال سكر، وغلبة، وفناء يسقط فيها تمييز الإنسان، أو يضعف حتى لا يدري ما قال، والسكر هو لذة مع عدم تمييز؛ ولهذا كان بين هؤلاء من إذا صحا استغفر من ذلك الكلام .(184/192)
والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب، والشوق، واللوم، والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم . ولهذا أنزل اللّه للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، فلا يكون محبًا للّه إلا من يتبع رسوله، وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية .
وكثير ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته، ويدعي من / الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، حتى قد يظن أحدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له، وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول، وسنته، وطاعته، بل قد جعل محبة اللّه ومحبة رسوله الجهاد في سبيله، والجهاد يتضمن كمال محبة ما أمر اللّه به، وكمال بغض ما نهى اللّه عنه؛ ولهذا قال في صفة من يحبهم ويحبونه : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ المائدة : 54 ] .
ولهذا كانت محبة هذه الأمة للّه أكمل من محبة من قبلها، وعبوديتهم للّه أكمل من عبودية من قبلهم، وأكمل هذه الأمة في ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان بهم أشبه كان ذلك فيه أكمل، فأين هذا من قوم يدعون المحبة ؟ !
وفي كلام بعض الشيوخ : المحبة نار تحرق في القلب ما سوى مراد المحبوب، وأرادوا أن الكون كله قد أراد اللّه وجوده، فظنوا أن كمال المحبة أن يحب العبد كل شيء، حتى الكفر والفسوق، والعصيان، ولا يمكن أحدًا أن يحب كل موجود، بل يحب ما يلائمه وينفعه، ويبغض ما ينافيه ويضره، ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع أهوائهم، فهم يحبون ما يهوونه كالصور، والرئاسة وفضول المال، والبدع المضلة، زاعمين أن هذا من محبة اللّه، ومن محبة اللّه بغض ما يبغضه اللّه ورسوله، وجهاد أهله بالنفس والمال .(184/193)
/وأصل ضلالهم : أن هذا القائل الذي قال : إن المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد اللّه ـ تعالى ـ الإرادة الدينية الشرعية التي هي بمعنى محبته ورضاه، فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب للّه، وهذا معنى صحيح، فإن من تمام الحب ألا يحب إلا ما يحبه اللّه، فإذا أحببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة، وأما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهي عنه، فإن لم أوافقه في بغضه، وكراهته، وسخطه لم أكن محبًا له، بل محبًا لما يبغضه . فاتباع الشريعة، والقيام بالجهاد من أعظم الفروق بين أهل محبة اللّه وأوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعي محبة اللّه ناظرًا إلى عموم ربوبيته، أو متبعًا لبعض البدع المخالفة لشريعته، فإن دعوى هذه المحبة للّه من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة للّه، بل قد تكون دعوى هؤلاء شرًا من دعوى اليهود والنصارى، لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الأسفل من النار، كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرًا من دعواهم، إذا لم يصلوا إلى مثل كفرهم، وفي التوراة والإنجيل من محبة اللّه ما هم متفقون عليه، حتى إن ذلك عندهم أعظم وصايا الناموس .
ففي الإنجيل أن المسيح قال : ( أعظم وصايا المسيح أن تحب اللّه بكل قلبك وعقلك ونفسك ) ، والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة، وإن ما هم فيه من الزهد، والعبادة هو من ذلك، وهم برآء من محبة اللّه، إذا لم / يتبعوا ما أحبه، بل اتبعوا ما أسخط اللّه وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم، واللّه يبغض الكافرين ويمقتهم، ويلعنهم، وهو سبحانه يحب من يحبه، لا يمكن أن يكون العبد محبًا للّه، واللّه ـ تعالى ـ غير محب له، بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب اللّه له، وإن كان جزاء اللّه لعبده أعظم، كما في الحديث الصحيح الإلهي عن اللّه ـ تعالى ـ أنه قال : ( من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .(184/194)
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أنه يحب المتقين، والمحسنين والصابرين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، بل هو يحب من فعل ما أمر به من واجب ومستحب، كما في الحديث الصحيح : ( لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ) الحديث .
وكثير من المخطئين الذين اتبعوا أشياخًا في الزهد والعبادة وقعوا في بعض ما وقع فيه النصارى، من دعوى المحبة للّه مع مخالفة شريعته، وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك، ويتمسكون في الدين الذي يتقربون به إلى اللّه، بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه، والحكايات التي لا يعرف صدق قائلها، ولو صدق لم يكن قائلها معصومًا، فيجعلون متبوعيهم شارعين لهم دينا، كما جعل النصارى قسيسيهم ، ورهبانهم شارعين / لهم دينًا، ثم إنهم ينتقصون العبودية ويدعون أن الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى في المسيح، ويثبتون للخاصة من المشاركة في اللّه من جنس ما تثبته النصارى في المسيح وأمه، إلى أنواع أخر يطول شرحها في هذا الموضع .(184/195)
وإنما دين الحق هو تحقيق العبودية للّه بكل وجه، وهو تحقيق محبة اللّه بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه، وتكمل محبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا، وكلما كان في القلب حب لغير اللّه، كانت فيه عبودية لغير اللّه بحسب ذلك، وكلما كان فيه عبودية لغير اللّه كان فيه حب لغير اللّه بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون للّه فهي باطلة، وكل عمل لا يراد به وجه اللّه فهو باطل، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان للّه، ولا يكون للّه إلا ما أحبه اللّه ورسوله، وهو المشروع، فكل عمل أريد به غير اللّه لم يكن للّه، وكل عمل لا يوافق شرع اللّه لم يكن للّه، بل لا يكون للّه إلا ما جمع الوصفين، أن يكون للّه، وأن يكون موافقًا لمحبة اللّه ورسوله، وهو الواجب والمستحب، كما قال : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] .
فلابد من العمل الصالح، وهو الواجب، والمستحب، ولابد أن يكون خالصًا لوجه اللّه تعالى، كما قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] ، وقال / النبي صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله، فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
وهذا الأصل هو أصل الدين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين، وبه أرسل اللّه الرسل، وأنزل الكتب، وإليه دعا الرسول، وعليه جاهد، وبه أمر، وفيه رغب، وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه .(184/196)
والشرك غالب على النفوس، وهو كما جاء في الحديث : ( وهو في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ) ، وفي حديث آخر : قال أبو بكر : يا رسول اللّه، كيف ننجو منه وهو أخفى من دبيب النمل ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ( ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقه وجله ؟ قل : اللّهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم ) . وكان عمر يقول في دعائه : اللّهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=193 - TOP#TOPوكثيرًا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق / محبتها للّه وعبوديتها له، وإخلاص دينها له، كما قال شداد بن أوس : يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية . قيل لأبي داود السجستاني : وما الشهوة الخفية ؟ قال : حب الرئاسة، وعن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال، والشرف لدينه ) قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
فبين صلى الله عليه وسلم أن الحرص على المال، والشرف في فساد الدين، لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم، وذلك بين، فإن الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص، وذلك أن القلب إذا ذاق حلاوة عبوديته للّه، ومحبته له لم يكن شيء أحب إليه من ذلك حتى يقدمه عليه، وبذلك يصرف عن أهل الإخلاص للّه السوء والفحشاء، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 42 ] .(184/197)
فإن المخلص للّه ذاق من حلاوة عبوديته للّه ما يمنعه عن عبوديته لغيره، ومن حلاوة محبته للّه ما يمنعه عن محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب لا أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا ألين، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته للّه، ومحبته له، وإخلاصه الدين له، وذلك يقتضى انجذاب القلب إلى اللّه فيصير القلب منيبًا إلى اللّه خائفًا منه راغبًا راهبًا، كما قال تعالى : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ ق : 33 ] ، إذ المحب يخاف من زوال مطلوبه وحصول / مرغوبه، فلا يكون عبد اللّه ومحبه إلا بين خوف ورجاء، قال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 57 ] .
وإذا كان العبد مخلصًا له اجتباه ربه فيحيى قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف من حصول ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلص للّه، فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق، فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مر بعطفه أماله . فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيرًا عبدًا لمن لو اتخذه هو عبدًا له، لكان ذلك عيبًا ونقصًا وذمًا . وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق، وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها فيتخذ إلهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من اللّه .(184/198)
ومن لم يكن خالصًا للّه عبدًا له قد صار قلبه معبدًا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون اللّه أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلًا له خاضعًا وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا اللّه، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إن لم يكن حنيفًا مقبلًا على اللّه معرضًا عما / سواه وإلا كان مشركًا، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } إلى قوله : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ الروم : 30ـ32 ] .
وقد جعل اللّه ـ سبحانه ـ إبراهيم وآل إبراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين أهل محبة اللّه وعبادته وإخلاص الدين له، كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين أهواءهم . قال تعالى في إبراهيم : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ . وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } [ الأنبياء : 72، 73 ] ، وقال في فرعون وقومه : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ . وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ } [ القصص : 41، 42 ] .(184/199)
ولهذا يصير أتباع فرعون أولًا إلى ألا يميزوا بين ما يحبه اللّه ويرضاه، وبين ما قدر اللّه وقضاه، بل ينظرون إلى المشيئة المطلقة الشاملة، ثم في آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود هذا وجود هذا، ويقول محققوهم : الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها معصية بلا طاعة، والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية، وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين أنكروا الخالق وأنكروا تكليمه لعبده موسى وما أرسله به من الأمر والنهي .
/وأما إبراهيم، وآل إبراهيم الحنفاء، والأنبياء فهم يعلمون أنه لابد من الفرق بين الخالق والمخلوق، ولابد من الفرق بين الطاعة والمعصية . وأن العبد كلما ازداد تحقيقًا ازدادت محبته للّه وعبوديته له وطاعته له وإعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره . وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين اللّه وبين خلقه . والخليل يقول : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75-77 ] ، ويتمسكون بالمتشابه من كلام المشائخ كما فعلت النصارى .
مثال ذلك اسم الفناء، فإن الفناء ثلاثة أنواع : نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء، ونوع للقاصدين من الأولياء والصالحين، ونوع للمنافقين الملحدين المشبهين .(184/200)
فأما الأول : فهو الفناء عن إرادة ما سوى اللّه، بحيث لا يحب إلا اللّه، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبى يزيد حيث قال : أريد ألا أريد إلا ما يريد . أي المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده اللّه ورضيه وأحبه، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، ولا يحب إلا ما يحبه اللّه كالملائكة والأنبياء والصالحين . وهذا معنى قولهم في قوله : { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] قالوا : هو السليم مما سوى اللّه، أو مما سوى عبادة اللّه، أو مما سوى / إرادة اللّه، أو مما سوى محبة اللّه، فالمعنى واحد وهذا المعني إن سمى فناء أو لم يسم ، هو أول الإسلام وآخره . وباطن الدين وظاهره .
وأما النوع الثاني : فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين، فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر اللّه وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير اللّه، بل ولايشعرون، كما قيل في قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] ، قالوا : فارغًا من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف . وإما رجاء يبقى قلبه منصرفًا عن كل شيء إلا عما قد أحبه، أو خافه أو طلبه، بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره .(184/201)
فإذا قوى على صاحب الفناء هذا ، فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، حتى يفنى من لم يكن، وهي المخلوقات المعبدة ممن سواه، ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى، والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها . وإذا قوى هذا ضعف المحب حتى اضطرب في تمييزه فقد يظن أنه هو محبوبه، كما يذكر : أن رجلًا ألقى نفسه في اليم فألقى محبه نفسه خلفه، فقال : أنا وقعت فما أوقعك خلفي ؟ قال : غبت بك عني، فظننت أنك أني .
/وهذا الموضع زل فيه أقوام، وظنوا أنه اتحاد، وأن المحب يتحد بالمحبوب حتى لا يكون بينهما فرق في نفس وجودهما، وهذا غلط، فإن الخالق لا يتحد به شيء أصلا، بل لا يتحد شيء بشيء إلا إذا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما أمر ثالث لا هو هذا ولا هذا، كما إذا اتحد الماء واللبن، والماء والخمر، ونحو ذلك، ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان في نوع الإرادة والكراهة، فيحب هذا ما يحب هذا . ويبغض هذا ما يبغض هذا، ويرضى ما يرضى، ويسخط ما يسخط، ويكره ما يكره، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، وهذا الفناء كله فيه نقص .(184/202)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=193 - TOP#TOPوأكابر الأولياء، كأبي بكر وعمر، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يقعوا في هذا الفناء، فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء، وإنما وقع شيء من هذا بعد الصحابة . وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز، لما يرد على القلب من أحوال الإيمان، فإن الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ كانوا أكمل وأقوى وأثبت في الأحوال الإيمانية من أن تغيب عقولهم . أو يحصل لهم غشى، أو صعق، أو سكر، أو فناء، أو وَلَهٌ، أو جنون . وإنما كان مبادئ هذه الأمور في التابعين من عباد البصرة، فإنه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن . ومنهم من يموت : كأبي جهير الضرير . وزرارة بن أوفى قاضي البصرة .
وكذلك صار في شيوخ الصوفية، من يعرض له من الفناء والسكر، ما / يضعف معه تمييزه، حتى يقول في تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف أنه غالط فيه، كما يحكى نحو ذلك، عن مثل أبى يزيد، وأبي الحسين النوري، وأبى بكر الشبلي وأمثالهم .
بخلاف أبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي ، والفضيل بن عياض، بل وبخلاف الجنيد وأمثالهم، ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم في أحوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه، بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيها سوى محبة اللّه وإرادته وعبادته، وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هي عليه، بل يشهدون المخلوقات قائمة بأمر اللّه مدبرة بمشيئته، بل مستجيبة له قانتة له، فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى، ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيدًا، وممدًا لما في قلوبهم من إخلاص الدين، وتجريد التوحيد له، والعبادة له وحده لا شريك له .(184/203)
وهذه الحقيقة، التي دعا إليها القرآن، وقام بها أهل تحقيق الإيمان، والكمل من أهل العرفان . ونبينا صلى الله عليه وسلم إمام هؤلاء وأكملهم؛ ولهذا لما عرج به إلى السموات، وعاين ما هنالك من الآيات وأوحى إليه ما أوحى من أنواع المناجاة أصبح فيهم وهو لم يتغير حاله، ولاظهر عليه ذلك، بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشي ـ صلى اللّه عليهم وسلم أجمعين .
/وأما النوع الثالث : مماقد يسمى فناء ـ فهو أن يشهد أن لا موجود إلا اللّه، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، فلا فرق بين الرب والعبد، فهذا فناء أهل الضلال والإلحاد الواقعين في الحلول والاتحاد .
والمشائخ المستقيمون إذا قال أحدهم : ما أرى غير اللّه، أولا أنظر إلى غير اللّه، ونحو ذلك، فمرادهم بذلك ما أرى ربا غيره، ولا خالقًا غيره، ولا مدبرًا غيره، ولا إلها غيره، ولا أنظر إلى غيره محبة له، أو خوفًا منه، أو رجاء له، فإن العين تنظر إلى ما يتعلق به القلب، فمن أحب شيئًا، أو رجاه أو خافه التفت إليه، وإذا لم يكن في القلب محبة له، ولا رجاء له، ولا خوف منه، ولا بغض له، ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب أن يلتفت إليه، ولا أن ينظر إليه ولا أن يراه وإن رآه اتفاقًا، رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطًا، ونحوه مما ليس في قلبه تعلق به .(184/204)
والمشائخ الصالحون ـ رضي اللّه عنهم ـ يذكرون شيئًا من تجريد التوحيد، وتحقيق إخلاص الدين كله، بحيث لا يكون العبد ملتفتًا إلى غير اللّه ولا ناظرًا إلى ما سواه : لاحبًا له، ولا خوفًا منه، ولا رجاء له بل يكون القلب فارغًا من المخلوقات خاليًا منها لا ينظر إليها إلا بنور اللّه، فبالحق يسمع، وبالحق يبصر، وبالحق يبطش، وبالحق يمشي، فيحب منها ما يحبه اللّه، ويبغض منها ما يبغضه اللّه، ويوالي منها ما والاه اللّه، ويعادي منها ما عاداه / اللّه، ويخاف اللّه فيها، ولا يخافها في اللّه، ويرجو اللّه فيها، ولا يرجوها في اللّه، فهذا هو القلب السليم، الحنيف، الموحد، المسلم، المؤمن، العارف، المحقق، الموحد بمعرفة الأنبياء والمرسلين، وبحقيقتهم وتوحيدهم .
وأما النوع الثالث : وهو الفناء في الموجود، فهو تحقيق آل فرعون، ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وأمثالهم .
وهذا النوع الذي عليه أتباع الأنبياء هو الفناء المحمود، الذي يكون صاحبه به ممن أثنى اللّه عليهم من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين .
وليس مراد المشائخ، والصالحين، بهذا القول أن الذي أراه بعيني من المخلوقات، هو رب الأرض والسموات، فإن هذا لا يقوله إلا من هو في غاية الضلال والفساد، إما فساد العقل، وإما فساد الاعتقاد . فهو متردد بين الجنون والإلحاد .
وكل المشائخ الذين يقتدي بهم في الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوقات، وليس في مخلوقاته شىء من ذاته، ولا في ذاته شىء من مخلوقاته، وأنه يجب إفراد القديم عن الحادث، وتمييز الخالق عن المخلوق . وهذا في كلامهم / أكثر من أن يمكن ذكره هنا . وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الأمراض والشبهات، وأن بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات، فيظنه خالق الأرض والسموات، لعدم التمييز والفرقان في قلبه، بمنزلة من رأى شعاع الشمس، فظن أن ذلك هو الشمس التي في السماء .(184/205)
وهم قد يتكلمون في الفرق، والجمع، ويدخل في ذلك من العبارات الملفتة نظير ما دخل في الفناء، فإن العبد إذا شهد التفرقة والكثرة في المخلوقات يبقى قلبه متعلقًا بها، متشتتًا ناظرًا إليها متعلقًا بها، إما محبة، وإما خوفًا، وإما رجاء، فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد اللّه وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى اللّه بعد التفاته إلى المخلوقين فصارت محبته لربه، وخوفه من ربه، ورجاؤه لربه، واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق؛ ليفرق بين الخالق والمخلوق . فقد يكون مجتمعًا على الحق معرضًا عن الخلق نظرًا وقصدًا وهو نظير النوع الثاني من الفناء .
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو : أن يشهد أن المخلوقات قائمة باللّه، مدبرة بأمره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ وأنه ـ سبحانه ـ رب المصنوعات، وإلهها وخالقها، ومالكها، فيكون مع اجتماع قلبه على اللّه ـ إخلاصًا له ومحبة وخوفًا ورجاء واستعانة وتوكلا على اللّه وموالاة فيه، ومعاداة فيه وأمثال ذلك ـ ناظرًا إلى الفرق بين الخالق والمخلوق مميزًا / بين هذا وهذا، يشهد تفرق المخلوقات، وكثرتها مع شهادته أن اللّه رب كل شيء، ومليكه، وخالقه، وأنه هو اللّه لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب، في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، في حال القلب، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته .(184/206)
وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، فإنه ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافيًا لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتًا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على اللّه، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقًا في علمه وقصده في شهادته، وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالمًا باللّه ـ تعالى ـ ذاكرًا له عارفًا به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محبًا للّه، معظمًا له، عابدًا له، راجيًا له خائفًا منه، مواليًا فيه، معاديًا فيه، مستعينًا به، متوكلًا عليه، ممتنعًا عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية اللّه ـ سبحانه وتعالى .
وإقراره بألوهية اللّه ـ تعالى ـ دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه، وخالقه، ومدبره، فحينئذ يكون موحدًا للّه .
ويبين ذلك أن أفضل الذكر : لا إله إلا اللّه، كما رواه الترمذي وابن أبي / الدنيا، وغيرهما مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الذكر : لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء : الحمد للّه ) ، وفي الموطأ ـ وغيره ـ عن طلحة بن عبد اللّه بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) .(184/207)
ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد، وذكر خاصة الخاصة، هو الاسم المضمر، فهم ضالون غالطون . واحتجاج بعضهم على ذلك، بقوله : { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنعام : 91 ] ، من أبين غلط هؤلاء، فإن الاسم هومذكور في الأمر بجواب الاستفهام . وهو قوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } [ الأنعام : 91 ] أي : اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى،فالاسم مبتدأ، وخبره قد دل عليه الاستفهام، كما في نظائر ذلك تقول : من جاره، فيقول زيد .
وأما الاسم المفرد، مظهرًا، أو مضمرًا، فليس بكلام تام، ولا جملة مفيدة، ولا يتعلق به إيمان، ولا كفر، ولا أمر، ولا نهي، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة، ولا شرع ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة، ولا حالًا نافعًا، وإنما يعطيه تصورًا مطلقًا، لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه / وإلا لم يكن فيه فائدة . والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه، لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره .
وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع .(184/208)
وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال : أخاف أن أموت بين النفي والإثبات . حال لا يقتدى فيها بصاحبها، فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به . إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه، إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا إله إلا اللّه، وقال : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة ) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود، بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد .
والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة،وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان،فإن من قال : يا هو يا هو، أو : هو هو . ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إِلى ما يصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل،وقد صنف صاحب [ الفصوص ] كتابًا سماه كتاب [ الهو ] وزعم بعضهم أن قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] ، معناه : وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو [ الهو ] ، وقيل : هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل /العقلاء على أنه من أبين الباطل،فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء، حتى قلت مرة لبعض من قال شيئًا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت : [ وما يعلم تأويل هو ] منفصلة .(184/209)
ثم كثيرًا ما يذكر بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل : [ اللّه ] بقوله : { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } ويظن أن اللّه أمر نبيه بأن يقول : الاسم المفرد، وهذا غلط باتفاق أهل العلم، فإن قوله : { قٍلٌ بلَّهٍ } معناه : اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهو جواب لقوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } [ الأنعام : 91 ] ، أي : اللّه الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال : ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فقال : { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } ثم قال : { قُلْ اللَّهُ } أنزله { ثُمَّ ذَرْهُمْ } هؤلاء المكذبين { فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } .
ومما يبين ما تقدم : ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلامًا، لا يحكون به ما كان قولًا، فالقول لا يحكى به إلا كلام تام، أو جملة اسمية أو فعلىة؛ ولهذا يكسرون أن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم، واللّه ـ تعالى ـ لا يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد، ولا شرع للمسلمين اسمًا مفردًا مجردًا، والاسم المجرد لا يفيد الإيمان / باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات .
ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول : [ أشهد أن محمدًا رسول اللّه ] بالنصب فقال : ماذا يقول هذا ؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام ؟(184/210)
وما في القرآن من قوله : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا } [ المزمل : 8 ] ، وقوله : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] ، وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [ الأعلى : 14، 15 ] ، وقوله : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 96 ] ، ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردًا، بل في السنن أنه لما نزل قوله : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 96 ] ، قال : ( اجعلوها في ركوعكم ) ولما نزل قوله : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال : ( اجعلوها في سجودكم ) . فشرع لهم أن يقولوا في الركوع : سبحان ربي العظيم، وفي السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه : ( سبحان ربي العظيم ) وفي سجوده : ( سبحان ربي الأعلى ) وهذا هو معنى قوله : ( اجعلوها في ركوعكم ) و ( سجودكم ) باتفاق المسلمين .(184/211)
فتسبيح اسم ربه الأعلى وذكر اسم ربه، ونحو ذلك هو بالكلام التام المفيد، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ : سبحان /اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر ) ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان اللّه وبحمده، سبحان اللّه العظيم ) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قال في يومه مائة مرة : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كتب اللّه له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه . ومن قال في يومه مائة مرة : سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر ) ، وفي الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) . وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الذكر لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء الحمد للّه ) .
ومثل هذه الأحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء .
وكذلك ما في القرآن من قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ، وقوله : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ المائدة : 4 ] ، إنما هو قوله : بسم اللّه . وهذا جملة تامة إما اسمية، على أظهر / قولي النحاة، أو فعلىة، والتقدير ذبحي باسم اللّه، أو أذبح باسم الله، وكذلك قول القارئ : { بِِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فتقديره : قراءتي بسم اللّه، أو أقرأ بسم اللّه .(184/212)
ومن الناس من يضمر في مثل هذا ابتدائي بسم اللّه، أو ابتدأت بسم اللّه . والأول أحسن؛ لأن الفعل كله مفعول بسم اللّه، ليس مجرد ابتدائه، كما أظهر المضمر في قوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] ، وفي قوله : { بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كان ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى . ومن لم يكن ذبح فليذبح بسم اللّه ) . ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن أبي سلمة : ( بسم اللّه، وكل بيمينك، وكل مما يليك ) فالمراد أن يقول بسم اللّه . ليس المراد أن يذكر الاسم مجردًا . وكذلك قوله في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه فكل ) ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل الرجل منزله فذكر اسم اللّه عند دخوله، وعند خروجه . وعند طعامه، قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء ) وأمثال ذلك كثير .(184/213)
وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وأذانهم، وحجهم وأعيادهم من ذكر اللّه تعالى إنما هو بالجملة التامة . كقول المؤذن : اللّه أكبر، اللّه / أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمدًا رسول اللّه، وقول المصلي : الله أكبر، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سمع اللّه لمن حمده، ربنا ولك الحمد، التحيات للّه، وقول الملبي : لبيك اللّهم لبيك، وأمثال ذلك، فجميع ما شرعه اللّه من الذكر إنما هو كلام تام، لا اسم مفرد لا مظهر ولا مضمر، وهذا هو الذي يسمى في اللغة كلمة، كقوله : ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم ) ، وقوله : ( أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كل شيء ماخلا اللّه باطل ) ، ومنه قوله تعالى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } الآية [ الكهف : 5 ] ، وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [ الأنعام : 115 ] ، وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة،بل وسائر كلام العرب فإنما يراد به الجملة التامة، كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم، فيقولون : هذا حرف غريب . أي : لفظ الاسم غريب .
وقسم سيبويه الكلام إلى اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى، ليس باسم وفعل، وكل من هذه الأقسام يسمى حرفًا، لكن خاصة الثالث أنه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء، ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف/ عشر حسنات : أما أني لا أقول : { الم } حرف، ولكن ألف حرف،ولام حرف، وميم حرف ) ، وقد سأل الخليل أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد فقالوا : زاي، فقال : جئتم بالاسم، وإنما الحرف [ ز ] .(184/214)
ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة، وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى، ليس باسم ولا فعل، كحروف الجر ونحوها، وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ، وتارة باسم ذلك الحرف، ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب، ومنهم من يجعل لفظ الكلمة في اللغة لفظًا مشتركًا بين الاسم مثلا وبين الجملة، ولا يعرف في صريح اللغة من لفظ الكلمة إلا الجملة التامة .
والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الّله ـ سبحانه ـ هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلام، والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر، والقرب إلى اللّه ومعرفته ومحبته وخشيته، وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له . فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد، وأهل الاتحاد، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع .
/وجماع الدين أصلان : ألا نعبد إلا اللّه، ولا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع، كما قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ، وذلك تحقيق الشهادتين : شهادة أن لا إله إلا اللّه، وشهادة أن محمدًا رسول اللّه . ففي الأولى : ألا نعبد إلا إياه، وفي الثانية : أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه، فعلىنا أن نصدق خبره ونطيع أمره، وقد بين لنا ما نعبد اللّه به، ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة، قال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] .(184/215)
كما أنا مأمورون ألا نخاف إلا اللّه ولا نتوكل إلا على اللّه، ولا نرغب إلا إلى اللّه، ولا نستعين إلا باللّه، وألا تكون عبادتنا إلا للّه، فكذلك نحن مأمورون أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به، فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، فجعل الإيتاء للّه والرسول، كما قال : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، وجعل التوكل على اللّه وحده بقوله : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } ولم يقل ورسوله، كما قال في الآية الأخرى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، ومثله قوله : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينََ } [ الأنفال : 64 ] ، أي : / حسبك وحسب المؤمنين كما قال : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] .
ثم قال : { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } ، فجعل الإيتاء للّه والرسول، وقدم ذكر الفضل، لأن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم، وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين، وقال : { إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فجعل الرغبة إلى اللّه وحده كما في قوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ( إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه ) . والقرآن يدل على مثل هذا في غير موضع .(184/216)
فجعل العبادة والخشية والتقوى للّه، وجعل الطاعة والمحبة للّه ورسوله، كما في قول نوح ـ عليه السلام ـ : { أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } [ نوح : 3 ] ، وقوله : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] ، وأمثال ذلك .
فالرسل أمروا بعبادته وحده والرغبة إليه والتوكل عليه،والطاعة لهم، فأضل الشيطان النصارى، وأشباههم فأشركوا باللّه، وعصوا الرسول، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، فجعلوا يرغبون إليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم، مع معصيتهم لأمرهم ومخالفتهم لسنتهم، وهدى اللّه المؤمنين المخلصين للّه أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه، / فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين، فأخلصوا دينهم للّه، وأسلموا وجوههم للّه، وأنابوا إلى ربهم، وأحبوه ورجوه وخافوه،وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمورهم إليه وتوكلوا عليه، وأطاعوا رسله وعزروهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم، واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم .
وذلك هو دين الإسلام الذي بعث اللّه به الأولين والآخرين من الرسل، وهو الدين الذي لا يقبل اللّه من أحد دينًا إلا إياه، وهو حقيقة العبادة لرب العالمين .
فنسأل اللّه العظيم أن يثبتنا عليه، ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين .
والحمد للّه وحده، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .(184/217)
سُئلَ شَيْخُ الإِسْلام ابن تيمية ـ قدس اللّه روحه ـ عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( دعوة أخي ذي النون : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] . ما دعا بها مكروب إلا فرج اللّه كربته ) ما معنى هذه الدعوة ؟ ولم كانت كاشفة للكرب ؟ وهل لها شروط باطنة عند النطق بلفظها ؟ وكيف مطابقة اعتقاد القلب لمعناها . حتى يوجب كشف ضره ؟ وما مناسبة ذكره : { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } ، مع أن التوحيد يوجب كشف الضر ؟ وهل يكفيه اعترافه، أم لابد من التوبة والعزم في المستقبل ؟ وما هو السر في أن كشف الضر وزواله يكون عند انقطاع الرجاء عن الخلق والتعلق بهم ؟ وما الحيلة في انصراف القلب عن الرجاء للمخلوقين، والتعلق بهم بالكلية، وتعلقه باللّه ـ تعالى ـ ورجائه وانصرافه إليه بالكلية، وما السبب المعين على ذلك ؟
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، لفظ الدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين : دعاء العبادة، /ودعاء المسألة .(184/218)
قال اللّه تعالى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ } [ الشعراء : 213 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ المؤمنون : 117 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [ القصص : 88 ] ، وقال : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19 ] ، وقال : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا } [ النساء : 117 ] ، وقال تعالى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } [ الرعد : 14 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] ، وقال في آخر السورة : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } [ الفرقان : 77 ] .
قيل : لولا دعاؤكم إياه، وقيل : لولا دعاؤه إياكم . فإن المصدر يضاف إلى الفاعل تارة، وإلى المفعول تارة، ولكن إضافته إلى الفاعل أقوى؛ لأنه لابد له من فاعل؛ فلهذا كان هذا أقوى القولين أي : ما يعبأ بكم لولا أنكم تدعونه فتعبدونه، وتسألونه : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا } [ الفرقان : 77 ] أي : عذاب لازم للمكذبين .
ولفظ الصلاة في اللغة : أصله الدعاء، وسميت الصلاة دعاء لتضمنها معنى الدعاء، وهو العبادة والمسألة .(184/219)
/وقد فسر قوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] ، بالوجهين،قيل : اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم . كما قال تعالى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الشورى : 26 ] أي : يستجيب لهم، وهو معروف في اللغة، يقال : استجابه واستجاب له، كما قال الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقيل : سلوني أعطكم .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول : من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له ) فذكر أولًا لفظ الدعاء، ثم ذكر السؤال والاستغفار . والمستغفر سائل كما أن السائل داع، لكن ذكر السائل؛ لدفع الشر بعد السائل الطالب للخير، وذكرهما جميعًا بعد ذكر الداعي الذي يتناولهما وغيرهما، فهو من باب عطف الخاص على العام .
قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي } [ البقرة : 186 ] .
وكل سائل راغب راهب، فهو عابد للمسؤول، وكل عابد له / فهو أيضًا راغب وراهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل عابد سائل، وكل سائل عابد . فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما : فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال .(184/220)
والعابد الذي يريد وجه اللّه، والنظر إليه هو ـ أيضًا ـ راج خائف راغب راهب : يرغب في حصول مراده، ويرهب من فواته، قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } [ الأنبياء : 90 ] ، وقال تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } [ السجدة : 16 ] ، ولا يتصور أن يخلو داع للّه ـ دعاء عبادة أو دعاء مسألة ـ من الرغب والرهب، من الخوف والطمع .
وما يذكر عن بعض الشيوخ أنه جعل الخوف والرجاء من مقامات العامة، فهذا قد يفسر مراده بأن المقربين يريدون وجه اللّه، فيقصدون التلذذ بالنظر إليه، وإن لم يكن هناك مخلوق يتلذذون به، وهؤلاء يرجون حصول هذا المطلوب، ويخافون حرمانه، فلم يخلوا عن الخوف والرجاء، لكن مرجوهم ومخوفهم بحسب مطلوبهم .
ومن قال من هؤلاء : لم أعبدك شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من نارك،/ فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات، والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات، وهذا قصور وتقصير منهم عن فهم مسمى الجنة، بل كل ما أعده اللّه لأوليائه، فهو من الجنة والنظر إليه هو من الجنة؛ ولهذا كان أفضل الخلق يسأل اللّه الجنة، ويستعيذ به من النار، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته قال : إني أسأل اللّه الجنة، وأعوذ باللّه من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال : ( حولها ندندن ) .
وقد أنكر على من قال هذا الكلام ـ يعني : أسألك لذة النظر إلى وجهك ـ فريق من أهل الكلام، ظنوا أن اللّه لا يتلذذ بالنظر إليه، وأنه لا نعيم إلا بمخلوق . فغلط هؤلاء في معنى الجنة كما غلط أولئك، لكن أولئك طلبوا ما يستحق أن يطلب، وهؤلاء أنكروا ذلك .(184/221)
وأما التألم بالنار، فهو أمر ضروري، ومن قال : لو أدخلني النار لكنت راضيًا، فهو عزم منه على الرضا . والعزائم قد تنفسخ عند وجود الحقائق، ومثل هذا يقع في كلام طائفة مثل سمنون الذي قال :
وليس لي في سواك حظ ** فكيف ما شئت فامتحني
فابتلى بعسر البول فجعل يطوف على صبيان المكاتب ويقول : ادعوا لعمكم الكذاب، قال تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [ آل عمران : 143 ] .
/وبعض من تكلم في علل المقامات، جعل الحب والرضا والخوف والرجاء، من مقامات العامة بناء على مشاهدة القدر، وأن من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فنى من لم يكن، وبقى من لم يزل، يخرج عن هذه الأمور، وهذا كلام مستدرك حقيقة وشرعًا .
أما الحقيقة، فإن الحي لا يتصور ألا يكون حساسًا محبًا لما يلائمه، مبغضًا لما ينافره، ومن قال إن الحي يستوى عنده جميع المقدورات، فهو أحد رجلين، إما أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل، وإما أنه مكابر معاند، ولو قدر أن الإنسان حصل له حال أزال عقله ـ سواء سمي اصطلامًا، أو محوا، أو فناء، أو غشيًا، أو ضعفًا ـ فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية، بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره، وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء، فإنه لم يسقط بجميعها .
فمن زعم أن المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع، والفناء، فلا يشهد فرقًا فإنه غالط، بل لابد من الفرق، فإنه أمر ضروري .
لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقى في الفرق الطبيعي، فيبقى متبعًا لهواه لا مطيعًا لمولاه .
/ولهذا لما وقعت هذه المسألة،بين الجنيد وأصحابه ذكر لهم الفرق الثاني،وهو : أن يفرق بين المأمور والمحظور، وبين ما يحبه اللّه وما يكرهه، مع شهوده للقدر الجامع، فيشهد الفرق في القدر الجامع . ومن لم يفرق بين المأمور والمحظور، خرج عن دين الإسلام .(184/222)
وهؤلاء الذين يتكلمون في الجمع لا يخرجون عن الفرق الشرعي بالكلية، وإن خرجوا عنه كانوا كفارًا من شر الكفار، وهم الذين يخرجون إلى التسوية بين الرسل وغيرهم، ثم يخرجون إلى القول بوحدة الوجود، فلا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولكن ليس كل هؤلاء ينتهون إلى هذا الإلحاد، بل يفرقون من وجه دون وجه فيطيعون اللّه ورسوله تارة، ويعصون اللّه ورسوله تارة، كالعصاة من أهل القبلة . وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن لفظ الدعوة والدعاء، يتناول هذا وهذا، قال اللّه ـ تعالى ـ : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] ، وفي الحديث : ( أفضل الذكر لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء الحمد للّه ) رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره : ( دعوة أخي ذي النون : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، ما دعا بها مكروب إلا فرج اللّه كربته ) ، سماها دعوة، لأنها تتضمن نوعي الدعاء . فقوله لا إله إلا أنت اعتراف بتوحيد الإلهية . /وتوحيد الإلهية يتضمن أحد نوعي الدعاء، فإن الإله هو المستحق؛ لأن يدعي دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وهو اللّه لا إله إلا هو .
وقوله : { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } اعتراف بالذنب، وهو يتضمن طلب المغفرة، فإن الطالب السائل تارة يسأل بصيغة الطلب، وتارة يسأل بصيغة الخبر، إما بوصف حاله، وإما بوصف حال المسؤول، وإما بوصف الحالين . كقول نوح ـ عليه السلام : { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ هود : 47 ] فهذا ليس صيغة طلب، وإنما هو إخبار عن اللّه أنه إن لم يغفر له ويرحمه خسر .(184/223)
ولكن هذا الخبر يتضمن سؤال المغفرة، وكذلك قول آدم ـ عليه السلام : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، هو من هذا الباب، ومن ذلك قول موسى ـ عليه السلام : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] ، فإن هذا وصف لحاله بأنه فقير إلى ما أنزل اللّه إليه من الخير، وهو متضمن لسؤال اللّه إنزال الخير إليه .
وقد روى الترمذي، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) رواه الترمذي، وقال : حديث حسن، ورواه مالك بن الحويرث / وقال : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " ، وأظن البيهقي رواه مرفوعًا بهذا اللفظ .
وقد سئل سفيان بن عيينة عن قوله : ( أفضل الدعاء يوم عرفة : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) فذكر هذا الحديث وأنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح ابن جُدْعَان :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ** حباؤك أن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوما ** كفاه من تعرضه الثناء
قال : فهذا مخلوق يخاطب مخلوقًا، فكيف بالخالق تعالى .
ومن هذا الباب الدعاء المأثور عن موسى ـ عليه السلام ـ : ( اللّهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان ) فهذا خبر يتضمن السؤال .(184/224)
ومن هذا الباب قول أيوب عليه السلام : { أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [ الأنبياء : 83 ] ، فوصف نفسه، ووصف ربه بوصف يتضمن سؤال رحمته بكشف ضره، وهي صيغة خبر تضمنت السؤال . و هذا من باب حسن الأدب في السؤال والدعاء، فقول القائل لمن يعظمه، ويرغب إليه : أنا جائع، أنا / مريض، حسن أدب في السؤال . وإن كان في قوله : أطعمني، وداوني، ونحو ذلك، مما هو بصيغة الطلب، طلب جازم من المسؤول، فذاك فيه إظهار حاله وإخباره على وجه الذل والافتقار المتضمن لسؤال الحال، وهذا فيه الرغبة التامة والسؤال المحض بصيغة الطلب .
وهذه الصيغة ـ صيغة الطلب والاستدعاء ـ إذا كانت لمن يحتاج إليه الطالب، أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر : إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب، فأما إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه، فإنها سؤال محض بتذلل، وافتقار، وإظهار الحال .
ووصف الحاجة والافتقار هو سؤال بالحال، وهو أبلغ من جهة العلم والبيان .
وذلك أظهر من جهة القصد والإرادة؛ فلهذا كان غالب الدعاء من القسم الثاني، لأن الطالب السائل يتصور مقصوده ومراده، فيطلبه ويسأله، فهو سؤال بالمطابقة والقصد الأول . وتصريح به باللفظ، وإن لم يكن فيه وصف لحال السائل والمسؤول، فإن تضمن وصف حالهما كان أكمل من النوعين، فإنه يتضمن الخبر والعلم المقتضى للسؤال والإجابة، ويتضمن القصد والطلب الذي هو نفس السؤال، فيتضمن السؤال والمقتضى له والإجابة / كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ لما قال له علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال : ( قل : اللّهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفرلي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) . أخرجاه في الصحيحين .(184/225)
فهذا فيه وصف العبد لحال نفسه المقتضى حاجته إلى المغفرة، وفيه وصف ربه الذي يوجب، أنه لا يقدر على هذا المطلوب غيره، وفيه التصريح بسؤال العبد لمطلوبه، وفيه بيان المقتضى للإجابة،وهو وصف الرب بالمغفرة،والرحمة،فهذا ونحوه أكمل أنواع الطلب .
وكثير من الأدعية يتضمن بعض ذلك، كقول موسى ـ عليه السلام ـ : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [ الأعراف : 155 ] ، فهذا طلب ووصف للمولى بما يقتضي الإجابة . وقوله : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [ القصص : 16 ] ، فيه وصف حال النفس والطلب، وقوله : { إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] ، فيه الوصف المتضمن للسؤال بالحال، فهذه أنواع لكل نوع منها خاصة .
يبقى أن يقال : فصاحب الحوت ومن أشبهه لماذا ناسب حالهم صيغة الوصف والخبر دون صيغة الطلب ؟
/فيقال : لأن المقام مقام اعتراف، بأن ما أصابني من الشر كان بذنبي، فأصل الشر هو الذنب، والمقصود دفع الضر، والاستغفار جاء بالقصد الثاني، فلم يذكر صيغة طلب كشف الضر لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، فناسب حاله أن يذكر ما يرفع سببه من الاعتراف بظلمه، ولم يذكر صيغة طلب المغفرة؛ لأنه مقصود للعبد المكروب بالقصد الثاني، بخلاف كشف الكرب، فإنه مقصود له في حال وجوده بالقصد الأول، إذ النفس بطبعها تطلب ما هي محتاجة إليه من زوال الضرر الحاصل من الحال قبل طلبها، زوال ما تخاف وجوده من الضرر في المستقبل بالقصد الثاني، والمقصود الأول في هذا المقام هو المغفرة وطلب كشف الضر، فهذا مقدم في قصده وإرادته، وأبلغ ما ينال به رفع سببه، فجاء بما يحصل مقصوده .(184/226)
وهذا يتبين بالكلام على قوله : { سُبْحَانَك } فإن هذا اللفظ يتضمن تعظيم الرب وتنزيهه، والمقام يقتضى تنزيهه عن الظلم والعقوبة بغير ذنب، يقول : أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب؛ بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي، قال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] ،وقال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ،وقال : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ } [ الزخرف : 76 ] ، وقال آدم ـ عليه السلام ـ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] .
/وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي في مسلم في دعاء الاستفتاح : ( اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفرلي ذنوبي جميعًا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) ، وفي صحيح البخاري : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
فالعبد عليه أن يعترف بعدل اللّه وإحسانه، فإنه لا يظلم الناس شيئًا، فلا يعاقب أحدًا إلا بذنبه، وهو يحسن إليهم، فكل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل .
فقوله : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } فيه إثبات انفراده بالإلهية، والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل .(184/227)
/وقوله : { سُبْحَانَكَ } يتضمن تعظيمه وتنزيهه عن الظلم، وغيره من النقائص، فإن التسبيح، وإن كان يقال : يتضمن نفي النقائص، وقد روى في حديث مرسل من مراسيل موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول العبد : سبحان اللّه : ( إنها براءة اللّه من السوء . فالنفي لا يكون مدحًا إلا إذا تضمن ثبوتا، وإلا فالنفي المحض لا مدح فيه، ونفي السوء والنقص عنه يستلزم إثبات محاسنه وكماله، وللّه الأسماء الحسنى .
وهكذا عامة ما يأتي به القرآن في نفي السوء والنقص عنه يتضمن إثبات محاسنه وكماله، كقوله تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] . فنفي أخذ السنة والنوم له يتضمن كمال حياته وقيوميته، وقوله : { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } [ ق : 38 ] ، يتضمن كمال قدرته، ونحو ذلك . فالتسبيح المتضمن تنزيهه عن السوء، ونفي النقص عنه يتضمن تعظيمه . ففي قوله : { سُبْحَانَكَ } تبرئته من الظلم، وإثبات العظمة الموجبة له براءته من الظلم، فإن الظالم إنما يظلم ؛ لحاجته إلى الظلم أو لجهله، واللّه غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة .
وأيضًا ـ ففي هذا الدعاء التهليل، والتسبيح، فقوله : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } تهليل . وقوله : { سُبْحَانَكَ } تسبيح . وقد ثبت في الصحيح عن / النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن، سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر ) .(184/228)
والتحميد مقرون بالتسبيح وتابع له، والتكبير مقرون بالتهليل وتابع له، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل، أي الكلام أفضل ؟ قال : ( ما اصطفى اللّه لملائكته : سبحان اللّه وبحمده ) ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال : ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان اللّه وبحمده، سبحان اللّه العظيم ) ، وفي القرآن { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } [ الحجر : 98 ] ، وقالت الملائكة : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] .
وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد، والأخرى بالتعظيم، فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص، المتضمن إثبات المحاسن والكمال، والحمد إنما يكون على المحاسن، وقرن بين الحمد والتعظيم، كما قرن بين الجلال والإكرام؛ إذ ليس كل معظم محبوبًا محمودًا، ولا كل محبوب محمودًا معظما، وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد، وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم، ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن، وفيها الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه . ففيها إجلاله وإكرامه . وهو ـ سبحانه ـ المستحق للجلال والإكرام، فهو مستحق غاية الإجلال وغاية الإكرام .(184/229)
/ومن الناس من يحسب أن [ الجلال ] هو الصفات السلبية، و [ الإكرام ] الصفات الثبوتية، كما ذكر ذلك الرازي ونحوه . والتحقيق أن كليهما صفات ثبوتية، وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص، لكن ذكر نوعي الثبوت وهو ما يستحق أن يحب وما يستحق أن يعظم، كقوله : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ لقمان : 26 ] ، وقول سليمان ـ عليه السلام ـ : { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } [ النمل : 40 ] ، وكذلك قوله : { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } [ التغابن : 1 ] ، فإن كثيرًا ممن يكون له الملك والغنى لا يكون محمودًا بل مذمومًا، إذ الحمد يتضمن الإخبار عن المحمود بمحاسنه المحبوبة، فيتضمن إخبارًا بمحاسن المحبوب محبة له .
وكثير ممن له نصيب من الحمد والمحبة يكون فيه عجز وضعف وذل ينافي العظمة والغنى والملك . فالأول يهاب ويخاف ولا يحب، وهذا يحب ويحمد، ولا يهاب ولا يخاف، والكمال اجتماع الوصفين، كما ورد في الأثر : ( إن المؤمن رزق حلاوة ومهابة ) وفي نعت النبي صلى الله عليه وسلم : كان من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه .(184/230)
فقرن التسبيح بالتحميد، وقرن التهليل بالتكبير، كما في كلمات الأذان . ثم إن كل واحد من النوعين يتضمن الآخر إذا أفرد، فإن التسبيح والتحميد يتضمن التعظيم، ويتضمن إثبات ما يحمد عليه وذلك يستلزم الإلهية، فإن الإلهية تتضمن كونه محبوبًا، بل تتضمن أنه لا يستحق كمال الحب إلا هو . والحمد هو الإخبار عن المحمود بالصفات التي يستحق أن يحب، فالإلهية / تتضمن كمال الحمد؛ ولهذا كان الحمد للّه مفتاح الخطاب، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد للّه فهو أجذم، وسبحان اللّه فيها إثبات عظمته كما قدمناه؛ ولهذا قال : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 96 ] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اجعلوها في ركوعكم ) رواه أهل السنن، وقال : ( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم ) رواه مسلم . فجعل التعظيم في الركوع أخص منه بالسجود والتسبيح يتضمن التعظيم .
ففي قوله : ( سبحان اللّه وبحمده ) إثبات تنزيهه وتعظيمه وإلهيته وحمده . وأما قوله : ( لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ) ففي لا إله إلا اللّه إثبات محامده فإنها كلها داخلة في إثبات إلهيته، وفي قوله : ( اللّه أكبر ) إثبات عظمته، فإن الكبرياء تتضمن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل .(184/231)
ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول : ( اللّه أكبر ) ، فإن ذلك أكمل من قول : اللّه أعظم، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه تعالى : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته ) ، فجعل العظمة كالإزار، والكبرياء كالرداء، ومعلوم أن الرداء أشرف، فلما كان التكبير أبلغ من التعظيم صرح بلفظه، وتضمن ذلك التعظيم، وفي قوله : سبحان اللّه، صرح فيها بالتنزيه من السوء المتضمن للتعظيم، فصار كل من الكلمتين / متضمنًا معنى الكلمتين الأخريين إذا أفردتا، وعند الاقتران تعطى كل كلمة خاصيتها .
وهذا كما أن كل اسم من أسماء اللّه، فإنه يستلزم معنى الآخر، فإنه يدل على الذات، والذات تستلزم معنى الاسم الآخر، لكن هذا باللزوم، وأما دلالة كل اسم على خاصيته وعلى الذات بمجموعهما فبالمطابقة، ودلالتها على أحدهما بالتضمن .
فقول الداعي : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ } [ الأنبياء : 87 ] يتضمن معنى الكلمات الأربع اللاتي هن أفضل الكلام بعد القرآن . وهذه الكلمات تتضمن معاني أسماء اللّه الحسنى، وصفاته العلىا، ففيها كمال المدح .
وقوله : { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } فيه اعتراف بحقيقة حاله، وليس لأحد من العباد أن يبرئ نفسه عن هذا الوصف، لا سيما في مقام مناجاته لربه . وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن مَتَّى ) . وقال : ( من قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ) فمن ظن أنه خير من يونس، بحيث يعلم أنه ليس عليه أن يعترف بظلم نفسه فهو كاذب؛ ولهذا كان سادات الخلائق، لا يفضلون أنفسهم على يونس في هذا المقام، بل يقولون : كما قال أبوهم آدم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .
فَصْل(184/232)
وأما قول السائل : لم كانت موجبة لكشف الضر ؟ فذلك لأن الضر لا يكشفه إلا اللّه . كما قال تعالى : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، والذنوب سبب للضر، والاستغفار يزيل أسبابه، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] ، فأخبر أنه سبحانه لا يعذب مستغفرًا . وفي الحديث : ( من أكثر الاستغفار جعل اللّه له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب ) ، وقال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] .
فقوله : { إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، اعتراف بالذنب وهو استغفار، فإن هذا الاعتراف متضمن طلب المغفرة .
وقوله : { أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ } [ الأنبياء : 87 ] ، تحقيق لتوحيد الإلهية، فإن الخير لا موجب له إلا مشيئة اللّه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والمعوق له / من العبد هو ذنوبه، وما كان خارجًا عن قدرة العبد، فهو من اللّه، وإن كانت أفعال العباد بقدر اللّه تعالى، لكن اللّه جعل فعل المأمور وترك المحظور سببًا للنجاة، والسعادة، فشهادة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار من الذنوب يغلق باب الشر .
ولهذا ينبغي للعبد ألا يعلق رجاءه إلا باللّه، ولا يخاف من اللّه أن يظلمه، فإن اللّه لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، بل يخاف أن يجزيه بذنوبه، وهذا معنى ما روى عن على ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال : لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه .(184/233)
وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم : أنه دخل على مريض فقال : ( كيف تجدك ؟ ) فقال : أرجو اللّه وأخاف ذنوبي، فقال : ( ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه اللّه ما يرجو، وآمنه مما يخاف ) .
فالرجاء ينبغي أن يتعلق باللّه، ولا يتعلق بمخلوق، ولا بقوة العبد، ولا عمله؛ فإن تعلىق الرجاء بغير اللّه إشراك، وإن كان اللّه قد جعل لها أسبابًا، فالسبب لا يستقل بنفسه، بل لابد له من معاون، ولابد أن يمنع المعارض المعوق له، وهو لا يحصل، ويبقى إلا بمشيئة اللّه ـ تعالى .
/ولهذا قيل : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ ولهذا قال اللّه تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] ، فأمر بأن تكون الرغبة إليه وحده، وقال : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ] ، فالقلب لا يتوكل إلا على من يرجوه، فمن رجا قوته، أو عمله، أو علمه، أو حاله، أو صديقه، أو قرابته، أو شيخه، أو ملكه، أو ماله، غير ناظر إلى اللّه كان فيه نوع توكل على ذلك السبب، وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] ، وكذلك المشرك يخاف المخلوقين، ويرجوهم، فيحصل له رعب، كما قال تعالى : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } [ آل عمران : 151 ] .(184/234)
والخالص من الشرك يحصل له الأمن، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الأنعام : 82 ] ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك . ففي الصحيح عن ابن مسعود أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما هذا الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ؟ ) [ لقمان : 13 ] ، / وقال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ . إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ . وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } [ البقرة : 165ـ167 ] ، وقال تعالى : { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [ الإسراء : 56، 57 ] ؛ ولهذا يذكر اللّه الأسباب، ويأمر بأن لا يعتمد عليها، ولا يرجى إلا اللّه، قال تعالى ـ لما أنزل الملائكة ـ : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ(184/235)
وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِِ } [ آل عمران : 126 ] ، وقال : { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران : 160 ] .
وقد قدمنا أن الدعاء نوعان : دعاء عبادة، ودعاء مسألة .
وكلاهما لا يصلح إلا للّه، فمن جعل مع اللّه إلهًا آخر قعد مذمومًا مخذولًا، والراجي سائل طالب فلا يصلح أن يرجو إلا اللّه، ولايسأل / غيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مُشْرِف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ) . فالمشرف الذي يستشرف بقلبه، والسائل الذي يسأل بلسانه، وفي الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال : أصابتنا فاقة فجئت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأسأله فوجدته يخطب الناس وهو يقول : ( أيها الناس، واللّه مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم، وإنه من يَسْتَغْنِ يغنه اللّه، ومن يستعفف يعفه اللّه، ومن يَتَصَبَّرْ يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر ) .
والاستغناء ألا يرجو بقلبه أحدًا فيستشرف إليه، والاستعفاف ألا يسأل بلسانه أحدًا؛ ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن التوكل، فقال : قطع الاستشراف إلى الخلق، أي : لا يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشىء، فقيل له : فما الحجة في ذلك ؟ فقال : قول الخليل لما قال له جبرائيل : هل لك من حاجة ؟ فقال : ( أما إليك فلا ) .(184/236)
فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، لا يوجه قلبه إلا إلى الله؛ فلهذا قال المكروب : { لاَّ إلّهّ إلاَّ أّنتّ } ، ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : عند الكرب : ( لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب العرش العظيم، / لا إله إلا اللّه رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ) . فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد، وتأله العبد ربه، وتعلق رجائه به وحده لا شريك له، وهي لفظ خبر يتضمن الطلب .
والناس، وإن كانوا يقولون بألسنتهم : لا إله إلا اللّه، فقول العبد لها مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى، وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة اللّه . قال تعالى : أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا . أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [ الفرقان : 43، 44 ] ، فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه، فقد اتخذ إلهه هواه، أي : جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه، فهم يتخذون أندادًا من دون اللّه يحبونهم كحب الله؛ ولهذا قال الخليل : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } [ الأنعام : 76 ] .
فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع، ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعًا له كالشمس والقمر والكواكب، والخليل بين أن الآفل يغيب عن عابده، وتحجبه عنه الحواجب، فلا يرى عابده ولا يسمع كلامه، ولا يعلم حاله، ولا ينفعه، ولا يضره بسبب ولا غيره، فأي وجه لعبادة من يأفل ؟ !(184/237)
وكلما حقق العبد الإخلاص في قول : لا إله إلا اللّه، خرج من قلبه / تأله ما يهواه، وتصرف عنه المعاصي والذنوب، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فلعل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد اللّه المخلصين، وهؤلاء هم الذين قال فيهم : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] ، وقال الشيطان : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال : ( من قال : لا إله إلا اللّه مخلصًا من قلبه، حرمه اللّه على النار ) .
فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار، فمن دخل النار من القائلين لا إله إلا اللّه لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار، بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل؛ ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلاة أن يقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، والشيطان يأمر بالشرك والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير اللّه؛ إما خوفًا منه، وإما رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرًا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك . وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا اللّه والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ) .(184/238)
/فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من اللّه، له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه، فصار فيه شرك منعه من الاستغفار، وأما من حقق التوحيد والاستغفار، فلابد أن يرفع عنه الشر؛فلهذا قال ذو النون : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] .
ولهذا يقرن اللّه بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] ، وقوله : { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } [ هود : 2، 3 ] ، وقوله : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } إلى قوله : { وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } [ هود : 50 ـ 52 ] ، وقوله : { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } [ فصلت : 6 ] .
وخاتمة المجلس : ( سبحانك اللّهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ) إن كان مجلس رحمة كانت كالطابع عليه، وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له، وقد روى أيضًا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال : ( أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللّهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين ) .
وهذا الذكر يتضمن التوحيد والاستغفار، فإن صدره الشهادتان / اللتان هما أصلا الدين وجماعه، فإن جميع الدين داخل في الشهادتين؛ إذ مضمونهما ألا نعبد إلا اللّه، وأن نطيع رسوله، والدين كله داخل في هذا في عبادة اللّه بطاعة اللّه، وطاعة رسوله، وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة اللّه ورسوله .(184/239)
وقد روى أنه يقول : ( سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) وهذا كفارة المجلس، فقد شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم الصلاة، كما في الحديث الصحيح أنه كان يقول في آخر صلاته : ( اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ) وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد؛ لأن الدعاء مأمور به في آخر الصلاة، وختم بالتوحيد ليختم الصلاة بأفضل الأمرين وهو التوحيد، بخلاف ما لم يقصد في هذا فإن تقديم التوحيد أفضل .
فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب، وإن كان المفضول قد يفضل على الفاضل في موضعه الخاص، بسبب وبأشياء أخر، كما أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر الذي هو ثناء، والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال، ومع هذا فالمفضول له أمكنة، وأزمنة، / وأحوال يكون فيها أفضل من الفاضل، لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد، وإخلاص الدين كله للّه هو تحقيق قول لا إله إلا اللّه .
فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها، فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلًا لا نقدر أن نضبطه، حتى إن كثيرًا منهم يظنون أن التوحيد المفروض : هو الإقرار والتصديق بأن اللّه خالق كل شيء وربه، ولا يميزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية، الذي أقر به مشركو العرب، وبين توحيد الإلهية، الذي دعاهم إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي .(184/240)
فإن المشركين ما كانوا يقولون : إن العالم خلقه اثنان، ولا أن مع اللّه ربًا ينفرد دونه بخلق شيء، بل كانوا كما قال اللّه عنهم : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] ، وقال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ّ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84 ـ 89 ] .
وكانوا مع إقرارهم بأن اللّه هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة / أخرى، يجعلونهم شفعاء لهم إليه، ويقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى، ويحبونهم كحب اللّه .
والإشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال، غير الإشراك في الاعتقاد والإقرار . كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، فمن أحب مخلوقًا كما يحب الخالق فهو مشرك به، قد اتخذ من دون اللّه أندادًا يحبهم كحب الله . وإن كان مقرًا بأن اللّه خالقه .(184/241)
ولهذا فرق اللّه ورسوله بين من أحب مخلوقًا للّه، وبين من أحب مخلوقًا مع اللّه، فالأول يكون اللّه هو محبوبه ومعبوده الذي هو منتهى حبه وعبادته لا يحب معه غيره، لكنه لما علم أن اللّه يحب أنبياءه وعباده الصالحين، أحبهم لأجله، وكذلك لما علم أن اللّه يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك، فكان حبه لما يحبه تابعًا لمحبة اللّه، وفرعًا عليه وداخلًا فيه .
بخلاف من أحب مع اللّه فجعله ندًا للّه يرجوه ويخافه، أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة للّه، ويتخذه شفيعًا له من غير أن يعلم أن الله يأذن له أن يشفع فيه، قال تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ } [ يونس : 81 ] ، / وقال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، وقد قال عَدِيّ بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم : ما عبدوهم، قال : ( أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم ) . قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا . يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا } [ الفرقان : 27 ـ 29 ] .(184/242)
فالرسول وجبت طاعته؛ لأنه من يطع الرسول فقد أطاع اللّه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ومن سوى الرسول من العلماء، والمشايخ، والأمراء، والملوك إنما تجب طاعتهم، إذا كانت طاعتهم طاعة للّه، وهم إذا أمر اللّه ورسوله بطاعتهم، فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] .
فلم يقل : وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم، بل جعل طاعة أولي الأمر داخلة في طاعة الرسول، وطاعة الرسول طاعة للّه، وأعاد الفعل في طاعة الرسول، دون طاعة أولي الأمر، فإنه من يطع الرسول / فقد أطاع الله، فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر اللّه به أم لا، بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية اللّه، فليس كل من أطاعهم مطيعًا للّه، بل لابد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية للّه، وينظر هل أمر اللّه به أم لا، سواء كان أولى الأمر من العلماء أو الأمراء، ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك؛وبهذا يكون الدين كله للّه، قال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [ الأنفال : 39 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له : يا رسول اللّه، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل اللّه ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه ) .
ثم إن كثيرًا من الناس يحب خليفة أو عالمًا أو شيخًا أو أميرًا، فيجعله ندًا للّه، وإن كان قد يقول : إنه يحبه للّه .(184/243)
فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به، وينهى عنه، وإن خالف أمر اللّه ورسوله، فقد جعله ندًا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به، وينهى عنه، ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام اللّه ورسوله، فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] .
فالتوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب، ويكون في أعمال القلب؛ ولهذا قال الجنيد : التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب . أراد بذلك التوحيد الذي هو التصديق، فإنه لما قرنه بالتوكل جعله أصله، وإذا أفرد لفظ التوحيد، فهو يتضمن قول القلب وعمله، والتوكل من تمام التوحيد .(184/244)
وهذا كلفظ الإيمان فإنه إذا أفرد دخلت فيه الأعمال الباطنة والظاهرة، وقيل : الإيمان قول وعمل، أي : قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارج، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ( الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ) ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 15 ] ، وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ . أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [ الأنفال : 2ـ4 ] وقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [ النور : 62 ] .
والإيمان المطلق يدخل فيه الإسلام كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : ( آمركم بالإيمان باللّه، أتدرون ما الإيمان باللّه ؟ شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، / وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم ) ؛ ولهذا قال من قال من السلف : كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا .(184/245)
وأما إذا قرن لفظ الإيمان بالعمل أو بالإسلام، فإنه يفرق بينهما كما في قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ البينة : 7 ] ، وهو في القرآن كثير، وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان ـ فقال : ( الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت ) . قال : فما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . قال : فما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) . ففرق في هذا النص بين الإسلام والإيمان لما قرن بين الاسمين، وفي ذلك النص أدخل الإسلام في الإيمان لما أفرده بالذكر .
وكذلك لفظ [ العمل ] فإن الإسلام المذكور هو من العمل، والعمل الظاهر هو موجب إيمان القلب ومقتضاه، فإذا حصل إيمان القلب حصل إيمان الجوارح ضرورة، وإيمان القلب لابد فيه من تصديق القلب وانقياده، وإلا فلو صدق قلبه بأن محمدًا رسول اللّه، وهو يبغضه ويحسده ويستكبر عن متابعته، لم يكن قد آمن قلبه .
و [ الإيمان ] وإن تضمن التصديق، فليس هو مرادفًا له، فلا يقال / لكل مصدق بشيء : أنه مؤمن به . فلو قال : أنا أصدق بأن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا، ونحو ذلك مما يشاهده الناس ويعلمونه، لم يقل لهذا : أنه مؤمن بذلك، بل لا يستعمل إلا فيمن أخبر بشيء من الأمور الغائبة كقول إخوة يوسف : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } [ يوسف : 17 ] ، فإنهم أخبروه بما غاب عنه وهم يفرقون بين من آمن له وآمن به فالأول : يقال للمخبر، والثاني : يقال للمخبر به كما قال إخوة يوسف : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } ، وقال تعالى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } [ يونس : 83 ] .(184/246)
وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] ، ففرق بين إيمانه باللّه وإيمانه للمؤمنين، لأن المراد يصدق المؤمنين إذا أخبروه، وأما إيمانه باللّه فهو من باب الإقرار به .
ومنه قوله ـ تعالى ـ عن فرعون وملئه : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [ المؤمنون : 47 ] ، أي : نقر لهما ونصدقهما . ومنه قوله : { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 75 ] ، ومنه قوله تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } [ العنكبوت : 26 ] ، ومن المعني الآخر قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة : 3 ] ، وقوله : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، وقوله : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [ البقرة : 177 ] ، أي : أقر بذلك ومثل هذا في القرآن كثير .
والمقصود هنا أن لفظ [ الإيمان ] إنما يستعمل في بعض الأخبار، وهو مأخوذ من الأمن، كما أن الإقرار مأخوذ من قر، فالمؤمن صاحب أمن، كما أن المقر صاحب إقرار، فلابد في ذلك من عمل القلب بموجب تصديقه، فإذا كان عالمًا بأن محمدًا رسول اللّه، ولم يقترن بذلك حبه، وتعظيمه بل كان يبغضه ويحسده ويستكبر عن اتباعه، فإن هذا ليس بمؤمن به، بل كافر به .(184/247)
ومن هذا الباب : كفر إبليس، وفرعون، وأهل الكتاب الذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وغير هؤلاء، فإن إبليس لم يكذب خبرًا ولا مخبرًا، بل استكبر عن أمر ربه . وفرعون وقومه قال اللّه فيهم : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [ النمل : 14 ] ، وقال له موسى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاء إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } [ الإسراء : 102 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] .
فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب ـ علمه مثل محبة القلب له واتباع القلب له ـ لم ينفع صاحبه، بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه اللّه بعلمه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم / يقول : ( اللّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع ) .
ولكن الجهمية ظنوا أن مجرد علم القلب وتصديقه هو الإيمان، وأن من دل الشرع على أنه ليس بمؤمن، فإن ذلك يدل على عدم علم قلبه، وهذا من أعظم الجهل شرعًا وعقلًا، وحقيقته توجب التسوية بين المؤمن والكافر؛ ولهذا أطلق وكيع بن الجراح وأحمد ابن حنبل وغيرهما من الأئمة كفرهم بذلك، فإنه من المعلوم أن الإنسان يكون عالمًا بالحق ويبغضه لغرض آخر، فليس كل من كان مستكبرًا عن الحق، يكون غيرعالم به، وحينئذ فالإيمان لابد فيه من تصديق القلب وعمله، وهذا معنى قول السلف : الإيمان قول وعمل .(184/248)
ثم إنه إذا تحقق القلب بالتصديق والمحبة التامة المتضمنة للإرادة، لزم وجود الأفعال الظاهرة، فإن الإرادة الجازمة إذا اقترنت بها القدرة التامة لزم وجود المراد قطعًا، وإنما ينتفي وجود الفعل لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالها يجب وجود الفعل الاختياري، فإذا أقر القلب إقرارًا تامًا، بأن محمدًا رسول اللّه وأحبه محبة تامة، امتنع مع ذلك ألا يتكلم بالشهادتين مع قدرته على ذلك، لكن إن كان عاجزًا لخرس، ونحوه أو لخوف، ونحوه لم يكن قادرًا على النطق بهما .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=196 - TOP#TOPوأبو طالب، وإن كان عالمًا بأن محمدًا رسول اللّه، وهو محب له، فلم تكن محبته له لمحبته للّه، بل كان يحبه؛ لأنه ابن أخيه فيحبه للقرابة، وإذا أحب ظهوره فلما يحصل له بذلك من الشرف والرئاسة، فأصل محبوبه هو الرئاسة ؛ فلهذا لما عرض عليه الشهادتين عند الموت رأى أن بالإقرار بهما زوال دينه الذي يحبه، فكان دينه أحب إليه من ابن أخيه فلم يقر بهما ـ فلو كان يحبه ؛ لأنه رسول اللّه كما كان يحبه أبو بكر الذي قال اللّه فيه : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [ الليل : 17 ـ 21 ] ، وكما كان يحبه سائر المؤمنين به، كعمر وعثمان وعلى، وغيرهم لنطق بالشهادتين قطعًا ـ فكان حبه حبًا مع اللّه لا حبًا للّه ؛ ولهذا لم يقبل اللّه ما فعله من نصر الرسول ومؤازرته ؛ لأنه لم يعمله للّه، واللّه لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، بخلاف الذي فعل، ما فعل ابتغاء وجه ربه الأعلى .(184/249)
وهذا مما يحقق أن الإيمان، والتوحيد لابد فيهما من عمل القلب، كحب القلب، فلابد من إخلاص الدين للّه، والدين لا يكون دينًا إلا بعمل، فإن الدين يتضمن الطاعة والعبادة، وقد أنزل اللّه ـ عز وجل ـ سورتي الإخلاص : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } . إحداهما في توحيد القول والعلم، والثانية في توحيد العمل / والإرادة، فقال في الأول : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص ] فأمره أن يقول هذا التوحيد وقال في الثاني : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ . وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ سورة الكافرون ] فأمره أن يقول ما يوجب البراءة من عبادة غير اللّه وإخلاص العبادة للّه .
والعبادة أصلها القصد والإرادة، والعبادة إذا أفردت دخل فيها التوكل ونحوه، وإذا قرنت بالتوكل صار التوكل قسيما لها، كما ذكرناه في لفظ الإيمان، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [ البقرة : 21 ] ، فهذا ونحوه يدخل فيه فعل المأمورات وترك المحظورات، والتوكل من ذلك، وقد قال في موضع آخر : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] .(184/250)
ومثل هذا كثيرًا ما يجيء في القرآن؛ تتنوع دلالة اللفظ في عمومه وخصوصه بحسب الإفراد والاقتران، كلفظ المعروف والمنكر فإنه قد قال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } [ آل عمران : 110 ] ، وقال : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ } [ التوبة : 71 ] ، وقال : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ } [ الأعراف : 157 ] ، فالمنكر يدخل فيه ما كرهه اللّه، كما يدخل في المعروف ما يحبه اللّه .
وقد قال في موضع آخر : { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] ، فعطف المنكر على الفحشاء، ودخل في المنكر هنا البغي، وقال في موضع آخر : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } [ النحل : 90 ] ، فقرن بالمنكر الفحشاء والبغي .(184/251)
ومن هذا الباب لفظ الفقراء والمساكين، إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وإذا قرن أحدهما بالآخر صار بينهما فرق، لكن هناك أحد الاسمين أعم من الآخر، وهنا بينهما عموم وخصوص، فمحبة اللّه وحده والتوكل عليه وحده، وخشية اللّه وحده، ونحو هذا كل هذا يدخل في توحيد اللّه تعالى، قال تعالى في المحبة : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] ، فجعل الطاعة للّه والرسول وجعل الخشية والتقوى للّه وحده، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] فجعل التحسب والرغبة إلى اللّه وحده .
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع .(184/252)
والمقصود هنا أن قول القائل : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } فيه إفراد الإلهية للّه وحده وذلك يتضمن التصديق للّه قولًا وعملًا، فالمشركون كانوا يقرون بأن اللّه رب كل شيء، لكن كانوا يجعلون معه آلهة أخرى، فلا يخصونه بالإلهية، وتخصيصه بالإلهية يوجب ألا يعبد إلا إياه، وألا يسأل غيره، كما في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإن الإنسان قد يقصد سؤال اللّه وحده والتوكل عليه، لكن في أمور لا يحبها اللّه، بل يكرهها وينهى عنها، فهذا وإن كان مخلصًا له في سؤاله، والتوكل عليه، لكن ليس هو مخلصًا في عبادته وطاعته، وهذا حال كثير من أهل التوجهات الفاسدة أصحاب الكشوفات، والتصرفات المخالفة لأمر اللّه ورسوله، فإنهم يعانون على هذه الأمور .
وكثير منهم يستعين اللّه عليها، لكن لما لم تكن موافقة لأمراللّه ورسوله حصل لهم نصيب من العاجلة، وكانت عاقبتهم عاقبة سيئة، قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } [ الإسراء : 67 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] .(184/253)
وطَائفة أخرى قد يقصدون طاعة اللّه ورسوله، لكن لا يحققون التوكل عليه والاستعانة به، فهؤلاء يثابون على حسن نيتهم، وعلى طاعتهم، لكنهم مخذولون فيما يقصدونه، إذ لم يحققوا الاستعانة باللّه والتوكل عليه، ولهذا يبتلى الواحد من هؤلاء بالضعف والجزع تارة، وبالإعجاب أخرى، فإن لم يحصل مراده من الخير كان لضعفه، وربما حصل له جزع، فإن حصل مراده نظر إلى نفسه وقوته فحصل له إعجاب، وقد يعجب بحاله فيظن حصول مراده فيخذل، قال تعالى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } إلى قوله : { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 25ـ27 ] .
وكثيرًا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق، والعجب من باب الإشراك بالنفس، وهذا حال المستكبر، فالمرائي لا يحقق قوله : { إيَّاكَ نَعْبٍُد } ، والمعجب لا يحقق قوله : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، فمن حقق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } خرج عن الرياء، ومن حقق قوله : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } خرج عن الإعجاب، وفي الحديث المعروف : ( ثلاث مهلكات : شُحٌّ مُطَاعٌ، وهوى مُتَّبَعٌ، وإعجاب المرء بنفسه ) .
/وشر من هؤلاء وهؤلاء من لا تكون عبادته للّه، ولا استعانته باللّه، بل يعبد غيره ويستعين غيره وهؤلاء المشركون من الوجهين .(184/254)
ومن هؤلاء من يكون شركه بالشياطين، كأصحاب الأحوال الشيطانية، فيفعلون ما تحبه الشياطين من الكذب والفجور، ويدعونه بأدعية تحبها الشياطين، ويعزمون بالعزائم التي تطيعها الشياطين، مما فيها إشراك باللّه، كما قد بسط الكلام عليهم في مواضع أخر، وهؤلاء قد يحصل لهم من الخوارق ما يظن أنه من كرامات الأولياء . وإنما هو من أحوال السحرة والكهان؛ ولهذا يجب الفرق بين الأحوال الإيمانية القرآنية، والأحوال النفسانية، والأحوال الشيطانية .
وأما القسم الرابع : فهم أهل التوحيد الذين أخلصوا دينهم للّه، فلم يعبدوا إلا إياه، ولم يتوكلوا إلا عليه .
وقول المكروب : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } قد يستحضر في ذلك أحد النوعين دون الآخر فمن أتم اللّه عليه النعمة استحضر التوحيد في النوعين، فإن المكروب همته منصرفة إلى دفع ضره وجلب نفعه، فقد يقول : لا إله إلا اللّه مستشعرًا أنه لا يكشف الضر غيرك، ولا يأتي بالنعمة إلا أنت، فهذا مستحضر توحيد الربوبية، ومستحضر توحيد السؤال والطلب، والتوكل عليه، معرض عن توحيد الإلهية الذي يحبه اللّه ويرضاه ويأمر / به وهو ألا يعبد إلا إياه، ولا يعبده إلا بطاعته، وطاعة رسوله، فمن استشعر هذا في قوله : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } كان عابدًا للّه متوكلًا عليه وكان ممتثلًا قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] ، وقوله : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [ المزَّمل : 8، 9 ] .(184/255)
ثم إن كان مطلوبه محرمًا أثم، وإن قضيت حاجته، وإن كان طالبًا مباحًا لغير قصد الاستعانة به على طاعة اللّه وعبادته لم يكن آثمًا، ولا مثابًا، وإن كان طالبًا ما يعينه على طاعة اللّه وعبادته لقصد الاستعانة به على ذلك، كان مثابًا مأجورًا .
وهذا مما يفرق به بين العبد الرسول وخلفائه، وبين النبي الملك، فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا، فإن العبد الرسول هو الذي لا يفعل إلا ما أمر به، ففعله كله عبادة للّه، فهو عبد محض منفذ أمر مرسله، كما ثبت عنه في صحيح البخاري أنه قال : ( إني واللّه لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ) ، وهو لم يرد بقوله : ( لا أعطي أحدًا ولا أمنع ) إفراد اللّه بذلك قدرًا وكونًا، فإن جميع المخلوقين يشاركونه في هذا، فلا يعطي أحدًا ولا يمنع إلا بقضاء اللّه وقدره، وإنما أراد إفراد اللّه بذلك شرعًا ودينًا، أي لا أعطي إلا من أمرت / بإعطائه، ولا أمنع إلا من أمرت بمنعه، فأنا مطيع للّه في إعطائي ومنعى، فهو يقسم الصدقة والفيء والغنائم كما يقسم المواريث بين أهلها؛ لأن اللّه أمره بهذه القسمة .(184/256)
ولهذا كان المال حيث أضيف إلى اللّه ورسوله، فالمراد به ما يجب أن يصرف في طاعة اللّه ورسوله، ليس المراد به أنه ملك للرسول، كما ظنه طائفة من الفقهاء، ولا المراد به كونه مملوكًا للّه خلقًا وقدرًا، فإن جميع الأموال بهذه المثابة، وهذا كقوله : { قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } [ الأنفال : 1 ] ، وقوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية [ الأنفال : 41 ] ، وقوله : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } إلى قوله : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } الآية [ الحشر : 6، 7 ] ، فذكر في الفيء ما ذكر في الخمس .
فظن طائفة من الفقهاء أن الإضافة إلى الرسول تقتضى أنه يملكه، كما يملك الناس أملاكهم . ثم قال بعضهم : إن غنائم بدر كانت ملكًا للرسول، وقال بعضهم : إن الفيء وأربعة أخماسه كان ملكًا للرسول، وقال بعضهم : إن الرسول إنما كان يستحق من الخمس خمسه، وقال بعض هؤلاء : وكذلك كان يستحق من خمس الفيء خمسه، وهذه الأقوال توجد في كلام طوائف من أصحاب الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، وهذا غلط من وجوه :(184/257)
/منها : أن الرسول لم يكن يملك هذه الأموال كما يملك الناس أموالهم، ولا كما يتصرف الملوك في ملكهم، فإن هؤلاء وهؤلاء لهم أن يصرفوا أموالهم في المباحات، فإما إن يكون مالكًا له، فيصرفه في أغراضه الخاصة، وإما أن يكون ملكًا له، فيصرفه في مصلحة ملكه، وهذه حال النبي الملك، كداود وسليمان، قال تعالى : { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] ، أي : أعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك، ونبينا كان عبدًا رسولًا لا يعطي إلا من أمر بإعطائه، ولا يمنع إلا من أمر بمنعه، فلم يكن يصرف الأموال إلا في عبادة اللّه وطاعة له .
ومنها : أن النبي لا يورث ولو كان ملكًا، فإن الأنبياء لايورثون، فإذا كان ملوك الأنبياء لم يكونوا ملاكا، كما يملك الناس أموالهم، فكيف يكون صفوة الرسل الذي هو عبد رسول مالكًا .
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق على نفسه وعياله قدر الحاجة، ويصرف سائر المال في طاعة اللّه لا يستفضله، وليست هذه حال الملاك، بل المال الذي يتصرف فيه كله هو مال اللّه ورسوله، بمعنى أن اللّه أمر رسوله أن يصرف ذلك المال في طاعته، فتجب طاعته في قسمه، كما تجب طاعته في سائر ما يأمر به، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع اللّه، وهو في ذلك مبلغ عن اللّه، / والأموال التي كان يقسمها النبي صلى الله عليه وسلم على وجهين :
منها : ما تعين مستحقه ومصرفه كالمواريث .
ومنها : ما يحتاج إلى اجتهاده ونظره ورأيه، فإن ما أمر اللّه به، منه ما هو محدود بالشرع، كالصلوات الخمس، وطواف الأسبوع بالبيت، ومنه ما يرجع في قدره إلى اجتهاد المأمور، فيزيده وينقصه بحسب المصلحة التي يحبها اللّه .(184/258)
فمن هذا ما اتفق عليه الناس، ومنه ما تنازعوا فيه، كتنازع الفقهاء فيما يجب للزوجات من النفقات : هل هي مقدرة بالشرع ؟ أم يرجع فيها إلى العرف، فتختلف في قدرها وصفتها باختلاف أحوال الناس ؟ وجمهور الفقهاء على القول الثاني، وهو الصواب لقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) ، وقال أيضًا في خطبته المعروفة : ( للنساء كسوتهن ونفقتهن بالمعروف ) .
وكذلك تنازعوا ـ أيضًا ـ فيما يجب من الكفارات : هل هو مقدر بالشرع أو بالعرف ؟
فما أضيف إلى اللّه والرسل من الأموال، كان المرجع في قسمته إلى أمر / النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما سمى مستحقوه كالمواريث؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين : ( ليس لي مما أفاء اللّه عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم ) أي : ليس له بحكم القسم الذي يرجع فيه إلى اجتهاده ونظره الخاص إلا الخمس؛ ولهذا قال : ( وهو مردود عليكم ) بخلاف أربعة أخماس الغنيمة فإنه لمن شهد الوقعة .
ولهذا كانت الغنائم يقسمها الأمراء بين الغانمين، والخمس يرفع إلى الخلفاء الراشدين المهديين، الذين خلفوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أمته، فيقسمونها بأمرهم، فأما أربعة الأخماس، فإنما يرجعون فيها ليعلم حكم اللّه ورسوله كما يستفتى المستفتى، وكما كانوا في الحدود لمعرفة الأمر الشرعي، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ما أعطاهم، فقيل : إن ذلك كان من الخمس، وقيل : إنه كان من أصل الغنيمة، وعلى هذا القول فهو فعل ذلك لطيب نفوس المؤمنين بذلك؛ ولهذا أجاب من عتب من الأنصار بما أزال عتبه، وأراد تعويضهم عن ذلك .
ومن الناس من يقول : الغنيمة قبل القسمة لم يملكها الغانمون، وإن للإمام أن يتصرف فيها باجتهاده كما هو مذكور في غير هذا الموضع .(184/259)
فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض للّه الذي يعبده ويستعينه، فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] / توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد، لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران، كما في قوله : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلَهِ النَّاسِِ } [ الناس : 1-3 ] ، وفي قوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ، فجمع بين الاسمين : اسم الإله واسم الرب . فإن الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يرب عبده فيدبره .
ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه اللّه، والسؤال متعلقًا باسمه الرب، فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق . والإلهية هي الغاية، والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم، والمصلي إذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية، فالعبادة غاية مقصودة، والاستعانة وسيلة إليها : تلك حكمة وهذا سبب، والفرق بين العلة الغائية والعلة الفاعلىة معروف؛ ولهذا يقال : أول الفكرة آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك . فالعلة الغائية متقدمة في التصور والإرادة وهي متأخرة في الوجود . فالمؤمن يقصد عبادة اللّه ابتداء وهو يعلم أن ذلك لا يحصل إلا بإعانته فيقول : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .(184/260)
ولما كانت العبادة متعلقة باسمه اللّه ـ تعالى ـ جاءت الأذكار المشروعة بهذا الاسم مثل كلمات الأذان : اللّه أكبر، اللّه أكبر . ومثل الشهادتين : / أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمدًا رسول اللّه . ومثل التشهد : التحيات للّه، ومثل التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير : سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر .
وأما السؤال فكثيرًا ما يجيء باسم الرب، كقول آدم وحواء : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، وقول نوح : { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } [ هود : 47 ] ، وقول موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [ القصص : 16 ] ، وقول الخليل : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ } الآية [ إبراهيم : 37 ] ، وقوله مع إسماعيل : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة : 127 ] ، وكذلك قول الذين قالوا : { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ البقرة : 201 ] ومثل هذا كثير .
وقد نقل عن مالك أنه قال : أكره للرجل أن يقول في دعائه : يا سيدي، يا سيدي، يا حنان، يا حنان، ولكن يدعو بما دعت به الأنبياء، ربنا، ربنا . نقله عنه العتبي في العتبية . وقال تعالى عن أولى الألباب : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 191 ] الآيات .(184/261)
/فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال، ناسب أن يسأله باسمه الرب، وإن سأله باسمه اللّه؛ لتضمنه اسم الرب، كان حسنًا، وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة، فاسم اللّه أولى بذلك، إذا بدأ بالثناء ذكر اسم اللّه، وإذا قصد الدعاء دعا باسم الرب؛ ولهذا قال يونس : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، وقال آدم : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، فإن يونس ـ عليه السلام ـ ذهب مغاضبًا، وقال تعالى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [ القلم : 48 ] ، وقال تعالى : { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 142 ] ، ففعل ما يلام عليه فكان المناسب لحاله أن يبدأ بالثناء على ربه، والاعتراف بأنه لا إله إلا هو، فهو الذي يستحق أن يعبد دون غيره فلا يطاع الهوى، فإن اتباع الهوى يضعف عبادة اللّه وحده، وقد روى أن يونس ـ عليه السلام ـ ندم على ارتفاع العذاب عن قومه بعد أن أظلهم وخاف أن ينسبوه إلى الكذب فغاضب . وفعل ما اقتضى الكلام الذي ذكره اللّه تعالى وأن يقال : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } وهذا الكلام يتضمن براءة ما سوى اللّه من الإلهية، سواء صدر ذلك عن هوى النفس أو طاعة الخلق أو غير ذلك؛ ولهذا قال : { سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } .
والعبد يقول مثل هذا الكلام فيما يظنه وهو غير مطابق، وفيما يريده وهو غير حسن .(184/262)
/وأما آدم ـ عليه السلام ـ فإنه اعترف أولًا بذنبه، فقال : { ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } ولم يكن عند آدم من ينازعه الإرادة لما أمر اللّه به، مما يزاحم الإلهية بل ظن صدق الشيطان الذي { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ . فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ } [ الأعراف : 21، 22 ] ، فالشيطان غرهما وأظهر نصحهما فكانا في قبول غروره، وما أظهر من نصحه حالهما مناسبًا لقولهما : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } لما حصل من التفريط، لا لأجل هوى وحظ يزاحم الإلهية، وكانا محتاجين إلى أن يربهما ربوبية تكمل علمهما وقصدهما، حتى لا يغترا بمثل ذلك، فهما يشهدان حاجتهما إلى اللّه ربهما الذي لا يقضي حاجتهما غيره .
وذو النون شهد ما حصل من التقصير في حق الإلهية بما حصل من المغاضبة، وكراهة إنجاء أولئك، ففي ذلك من المعارضة في الفعل لحب شيء آخر ما يوجب تجريد محبته للّه، وتألهه له وأن يقول : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ } فإن قول العبد : لا إله إلا أنت، يمحو أن يتخذ إلهه هواه . وقد روى : ( ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند اللّه من هوى متبع ) . فكمل يونس ـ صلوات اللّه عليه ـ تحقيق إلهيته للّه، ومحو الهوى الذي يتخذ إلهًا من دونه، فلم يبق له ـ صلوات اللّه عليه وسلامه ـ عند تحقيق قوله لا إله إلا أنت إرادة تزاحم إلهية الحق، بل كان مخلصًا للّه الدين؛ إذ كان من أفضل عباد اللّه المخلصين .(184/263)
وأيضًا، فمثل هذه الحال تعرض لمن تعرض له، فيبقى فيه / نوع مغاضبة للقدر ومعارضة له في خلقه وأمره، ووساوس في حكمته ورحمته، فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين : الآراء الفاسدة، والأهواء الفاسدة، فيعلم أن الحكمة، والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته، لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعًا لما أمر اللّه به، فلا يكون له مع أمر اللّه وحكمه هوى يخالف ذلك، قال اللّه تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] ، وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به ) رواه أبو حاتم في صحيحه؛ وفي الصحيح أن عمر قال له : يا رسول اللّه، واللّه لأنت أحب إلىّ من نفسي . قال : ( الآن يا عمر ) ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين ) ، وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] .(184/264)
فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله، ويسلم له، ويكون هواه تبعًا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدمًا على حب الإنسان نفسه، وماله، وأهله، فكيف في تحكيمه اللّه تعالى والتسليم له ؟ ! / فمن رأى قومًا يستحقون العذاب في ظنه، وقد غفر اللّه لهم ورحمهم، وكره هو ذلك، فهذا إما أن يكون عن إرادة تخالف حكم اللّه، وإما عن ظن يخالف علم اللّه، واللّه علىم حكيم . وإذا علمت أنه علىم، وأنه حكيم، لم يبق لكراهية ما فعله وجه، وهذا يكون فيما أمر به، وفيما خلقه ولم يأمرنا أن نكرهه، ونغضب عليه .
فأما ما أمرنا بكراهته من الموجودات؛ كالكفر، والفسوق، والعصيان، فعلىنا أن نطيعه في أمره بخلاف توبته على عباده وإنجائه إياهم من العذاب، فإن هذا من مفعولاته التي لم يأمرنا أن نكرهها، بل هي مما يحبها، فإنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين . فكراهة هذا من نوع اتباع الإرادة المزاحمة للإلهية، فعلى صاحبها أن يحقق توحيد الإلهية فيقول : لا إله إلا أنت .
فعلىنا أن نحب ما يحب، ونرضي ما يرضى، ونأمر بما يأمر، وننهي عما ينهي، فإذا كان { يُحِبُّ التَّوَّابِينََ } و { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فعلىنا أن نحبهم، ولا نأله مراداتنا المخالفة لمحابه .(184/265)
والكلام في هذا المقام مبني على أصل، وهو : أن الأنبياء ـ صلوات اللّه عليهم ـ معصومون فيما يخبرون به عن اللّه ـ سبحانه ـ وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة؛ ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه كما / قال تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة : 136، 137 ] ، وقال : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } [ البقرة : 177 ] ، وقال : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] .
بخلاف غير الأنبياء، فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء، ولو كانوا أولياء للّه، ولهذا من سب نبيًا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء، ومن سب غيرهم لم يقتل .
وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة، فإن النبي هو المنبئ عن اللّه، و الرسول هو الذي أرسله اللّه تعالى، وكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا، والعصمة فيما يبلغونه عن اللّه ثابتة، فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين .(184/266)
/ولكن هل يصدر ما يستدركه اللّه، فينسخ ما يلقي الشيطان، ويحكم اللّه آياته ؟ هذا فيه قولان، والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك، والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : ( تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ) وقالوا : إن هذا لم يثبت، ومن علم أنه ثبت قال : هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضًا، وقالوا في قوله : { إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] هو حديث النفس .(184/267)
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف، فقالوا هذا منقول نقلًا ثابتًا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الحج : 52 ـ 54 ] ، فقالوا : الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث، والقرآن يوافق ذلك، فإن نسخ اللّه لما يلقى الشيطان، وإحكامه آياته، إنما يكون لرفع ما وقع في آياته، وتمييز الحق من الباطل، حتى لا تختلط آياته /بغيرها . وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم، إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرًا يسمعه الناس، لا باطنًا في النفس . والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ .(184/268)
وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعده عن الهوى من ذلك النوع، فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند اللّه، وهو مصدق في ذلك، فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند اللّه، وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه اللّه، ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق، وقوله الحق، وهذا كما قالت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ لو كان محمد كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] ، ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله، ولو كان خطأ، فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن اللّه أحكم آياته، ونسخ ما ألقاه الشيطان، هو أدل على تحريه للصدق وبرائته من الكذب، وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما؛ ولهذا كان تكذيبه كفرًا محضًا بلا ريب .
وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع، هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من / بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها ؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط ؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا ؟ والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والقول الذي عليه جمهور الناس، وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف : إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقًا، والرد على من يقول : إنه يجوز إقرارهم عليها، وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول .(184/269)
وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء؛ فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع، وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبًا، ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه، ورجعوا عنه، كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه، فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورًا به ولا منهيًا عنه، فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه .
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافى الكمال، أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التنفير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية، فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها اللّه، يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه، كما قال / بعض السلف : كان داود ـ عليه السلام ـ بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة . وقال آخر : لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة : ( للّه أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلًا ) . . . إلخ .
وقد قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] ، وقال تعالى : { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ، وقد ثبت في الصحيح حديث الذي يعرض اللّه صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها، وهو مشفق من كبارها أن تظهر، فيقول اللّه له : ( إني قد غفرتها لك، وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة، فيقول : أي رب، إن لي سيئات لم أرها ) إذا رأي تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفقًا منها أن تظهر، ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل، أعظم من حاله لو لم تقع السيئات، ولا التبديل .(184/270)
وقال طائفة من السلف، منهم سعيد بن جبير : إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار، ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها وتوبته منها حتى تدخله الجنة، وقد قال تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا . لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الأحزاب : 72، 73 ] ، فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين والمؤمنات الذين تاب اللّه عليهم .
وفي الكتاب والسنة الصحيحة، والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه .
والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية، والقدرية، والدهرية لنصوص الأسماء والصفات ونصوص القدر ونصوص المعاد، وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة، وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم، ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم .
ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع، وهي العصمة في التبليغ، لم ينتفعوا بها، إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء، وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه، أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، والعصمة التي كانوا ادعوها، لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ولا حاجة بهم إليها عندهم، فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به، فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من اللّه، ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم، وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة، قال تعالى :
{ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } الآية [ النور : 54 ] .(184/271)
/واللّه ـ تعالى ـ لم يذكر في القرآن شيئًا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونًا بالتوبة والاستغفار، كقول آدم وزوجته : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] ، وقول نوح : { رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ هود : 47 ] ، وقول الخليل ـ عليه السلام ـ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [ إبراهيم : 41 ] ، وقوله : { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين } [ الشعراء : 82 ] ، وقول موسى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ . وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 155، 156 ] ، وقوله : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } [ القصص : 16 ] ، وقوله : { فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 143 ] ، وقوله تعالى عن داود : { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ . فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } [ ص : 24، 25 ] ، وقوله تعالى عن سليمان : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ ص : 35 ] .(184/272)
وأما يوسف الصديق، فلم يذكر اللّه عنه ذنبًا؛ فلهذا لم يذكر اللّه عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار، بل قال : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء .
وأما قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] ، / فالهم اسم جنس تحته نوعان كما قال الإمام أحمد : الهم همان : هم خطرات، وهم إصرار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتبت عليه، وإذا تركها للّه كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة ) وإن تركها من غير أن يتركها للّه لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف صلى الله عليه وسلم هم هما تركه للّه، ولذلك صرف اللّه عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الهم، وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب للّه .
فيوسف ـ عليه السلام ـ لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] .
وأما ما ينقل من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضًا على يده، وأمثال ذلك، فكله مما لم يخبر اللّه به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبًا على الأنبياء وقدحًا فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفًا واحدًا .(184/273)
/وقوله : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } [ يوسف : 53 ] فمن كلام امرأة العزيز، كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة، لا يرتاب فيها من تدبر القرآن، حيث قال تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ . قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ . ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ . وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ يوسف : 50 ـ 53 ] .
فهذا كله كلام امرأة العزيز، ويوسف إذ ذاك في السجن، لم يحضر بعد إلى الملك، ولا سمع كلامه ولا رآه، ولكن لما ظهرت براءته في غيبته ـ كما قالت امرأة العزيز : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } أي : لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته ـ فحينئذ : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [ يوسف : 54 ] ، وقد قال كثير من المفسرين : إن هذا من كلام يوسف، ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول، وهو قول في غاية الفساد، ولا دليل عليه، بل الأدلة تدل على نقيضه، وقد / بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع .(184/274)
و المقصود هنا أن ما تضمنته [ قصة ذي النون ] مما يلام عليه كله مغفور بدله اللّه به حسنات، ورفع درجاته، وكان بعد خروجه من بطن الحوت وتوبته أعظم درجة منه قبل أن يقع ما وقع، قال تعالى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ . لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ . فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الصَّالِحِينَ } [ القلم : 48ـ50 ] ، وهذا بخلاف حال التقام الحوت فإنه قال : { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 241 ] ، فأخبر أنه في تلك الحال مليم، و [ المليم ] الذي فعل ما يلام عليه، فالملام في تلك الحال لا في حال نبذه بالعراء وهو سقيم، فكانت حاله بعد قوله : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] أرفع من حاله قبل أن يكون ما كان، والاعتبار بكمال النهاية لا بما جرى في البداية، والأعمال بخواتيمها .
واللّه ـ تعالى ـ خلق الإنسان وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا ثم علمه فنقله من حال النقص إلى حال الكمال، فلا يجوز أن يعتبر قدر الإنسان بما وقع منه قبل حال الكمال، بل الاعتبار بحال كماله، ويونس صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء في حال النهاية حالهم أكمل الأحوال .(184/275)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=196 - TOP#TOPومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين فإنهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين ونقصهم فغلطوا، ولو اعتبروا حال الأنبياء والصالحين بعد دخول الجنان، ورضا الرحمن، وزوال كل ما فيه نقص وملام، وحصول كل ما فيه رحمة وسلام، حتى استقر بهم القرار { وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد : 23، 24 ] فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على حال غيرهم من المخلوقين وإلا فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب .
ولو اعتبر ذلك لاعتبر أحدهم وهو نطفة ثم علقة، ثم مضغة، ثم حين نفخت فيه الروح، ثم هو وليد، ثم رضيع ثم فطيم، إلى أحوال أخر، فعلم أن الواحد في هذه الحال لم تقم به صفات الكمال التي يستحق بها كمال المدح والتفضيل ، وتفضيله بها على كل صنف وجيل، وإنما فضله باعتبار المآل، عند حصول الكمال .
وما يظنه بعض الناس أنه من ولد على الإسلام فلم يكفر قط أفضل ممن كان كافرًا فأسلم ليس بصواب، بل الاعتبار بالعاقبة، وأيهما كان أتقى للّه في عاقبته كان أفضل . فإنه من المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين آمنوا باللّه ورسوله بعد كفرهم هم أفضل ممن ولد على الإسلام من أولادهم وغير أولادهم، بل من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه / فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما، بل من لم يعرف إلا الخير فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما ألا ينكره كما أنكره الذي عرفه .(184/276)
ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية . وهو كما قال عمر، فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل اللّه، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره، فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره .
ولهذا كان الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي؛ ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك؛ ولهذا يقال :
والضد يظهر حسنه الضد**
/ويقال :
وبضدها تتبين الأشياء**
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول : لست بخب ولا يخدعني الخب، فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به .
وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقًا، فإن هذا ليس بمطرد، بل قد يكون الطبيب أعلم بالأمراض من المرضى، والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أطباء الأديان فهم أعلم الناس بما يصلح القلوب ويفسدها، وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس .(184/277)
ولكن المراد : أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به، والنفور عنه، والمحبة للخير إذا ذاقه ما لا يحصل لبعض الناس، مثل من كان مشركًا أو يهوديًا أو نصرانيًا، وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والأقوال الفاسدة والظلمة والشر، ثم شرح اللّه صدره للإسلام، وعرفه محاسن الإسلام، فإنه قد يكون أرغب فيه، وأكره للكفر من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والإسلام، بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا، أو مقلد في مدح هذا وذم هذا .
/ومثال ذلك من ذاق طعم الجوع ثم ذاق طعم الشبع بعده، أو ذاق المرض ثم ذاق طعم العافية بعده، أو ذاق الخوف ثم ذاق الأمن بعده، فإن محبة هذا ورغبته في العافية والأمن والشبع ونفوره عن الجوع والخوف والمرض أعظم ممن لم يبتل بذلك ولم يعرف حقيقته .
وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور، ثم بين اللّه له الحق وتاب عليه توبة نصوحًا، ورزقه الجهاد في سبيل اللّه، فقد يكون بيانه لحالهم، وهجره لمساويهم، وجهاده لهم أعظم من غيره، قال نعيم بن حماد الخزاعي ـ وكان شديدًا على الجهمية ـ : أنا شديد عليهم، لأني كنت منهم . وقد قال اللّه تعالى : { لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النحل : 110 ] نزلت هذه الآية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب اللّه عليهم، فهاجروا إلى اللّه ورسوله، وجاهدوا وصبروا .(184/278)
وكان عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ـ رضي اللّه عنهما ـ من أشد الناس على الإسلام فلما أسلما تقدما على من سبقهما إلى الإسلام، وكان بعض من سبقهما دونهما في الإيمان والعمل الصالح بما كان عندهما من كمال الجهاد للكفار والنصر للّه ورسوله، وكان عمر لكونه أكمل إيمانًا وإخلاصًا وصدقًا ومعرفة وفراسة ونورًا أبعد عن هوى النفس وأعلى همة / في إقامة دين اللّه، مقدما على سائر المسلمين، غير أبي بكر رضي اللّه عنهم أجمعين .
وهذا وغيره مما يبين أن الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية .
وما يذكر في الإسرائيليات : ( أن اللّه قال لداود : أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود " فهذا لو عرفت صحته لم يكن شرعًا لنا وليس لنا أن نبني ديننا على هذا، فإن دين محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجئ به شرع من قبله؛ ولهذا قال : " أنا نبي الرحمة، وأنا نبي التوبة ) ،وقد رفع به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا .
وقد قال تعالى في كتابه : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس . فإذا كان هذا فرح الرب بتوبة التائب وتلك محبته، كيف يقال : إنه لا يعود لمودته { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ . ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ . فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [ البروج : 14 - 16 ] ولكن وده وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبد بعد التوبة، فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، وإن كان أنقص / كان الأمر أنقص، فإن الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد .(184/279)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه تعالى : من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ) . ومعلوم أن أفضل الأولياء بعد الأنبياء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكانت محبة الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق والعصيان أعظم محبة ومودة، وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبهم وودهم .
وقد قال تعالى : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الممتحنة : 7 ] ، نزلت في المشركين الذين عادوا اللّه ورسوله مثل [ أهل الأحزاب ] كأبي سفيان بن حرب، وأبي سفيان بن الحارث، والحارث بن هشام، وسهيل ابن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهم . فإنهم بعد معاداتهم للّه ورسوله / جعل اللّه بينهم وبين الرسول والمؤمنين مودة، وكانوا في ذلك متفاضلين وكان عكرمة وسهيل والحارث بن هشام أعظم مودة من أبي سفيان بن حرب ونحوه . وقد ثبت في الصحيح : أن هند امرأة أبي سفيان أم معاوية قالت : واللّه يا رسول اللّه، ما كان على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك، وقد أصبحت وما على وجه الأرض أهل خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها نحو ذلك .(184/280)
ومعلوم أن المحبة والمودة التي بين المؤمنين إنما تكون تابعة لحبهم للّه ـ تعالى ـ فإن أوثق عُرَى الإيمان الحب في اللّه، والبغض في اللّه . فالحب للّه من كمال التوحيد، والحب مع اللّه شرك . قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، فتلك المودة التي صارت بين الرسول والمؤمنين وبين الذين عادوهم من المشركين إنما كانت مودة للّه ومحبة للّه ومن أحب اللّه أحبه اللّه، ومن ودَّ اللّه ودَّه اللّه، فعلم أن اللّه أحبهم وودهم بعد التوبة، كما أحبوه وودوه، فكيف يقال : إن التائب إنما تحصل له المغفرة دون المودة ؟ !
وإن قال قائل : أولئك كانوا كفارًا، لم يعرفوا أن ما فعلوه محرم، بل كانوا جهالًا، بخلاف من علم أن الفعل محرم وأتاه .
/قيل : الجواب من وجهين :
أحدهما : أنه ليس الأمر كذلك، بل كان كثير من الكفار يعلمون أن محمدًا رسول اللّه، ويعادونه حسدًا وكبرًا، وأبو سفيان قد سمع من أخبار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمع غيره، كما سمع من أمية بن أبي الصلت، وما سمعه من هرقل ملك الروم، وقد أخبر عن نفسه أنه لم يزل موقنًا أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر حتى أدخل اللّه عليه الإسلام، وهو كاره له، وقد سمع منه عام اليرموك وغيره ما دل على حسن إسلامه ومحبته للّه ورسوله بعد تلك العداوة العظيمة .(184/281)
وقد قال تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 68ـ70 ] فإذا كان اللّه يبدل سيئاتهم حسنات، فالحسنات توجب مودة اللّه لهم، وتبديل السيئات حسنات ليس مختصًا بمن كان كافرًا، وقد قال تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [ النساء : 17 ] قال أبو العالية : سألت أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقالوا لي : كل من عصي اللّه فهو / جاهل، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب .
الوجه الثاني : أن ما ذكر من الفرق بين تائب وتائب في محبة اللّه تعالى للتائبين فرق لا أصل له، بل الكتاب والسنة يدل على أن اللّه يحب التوابين، ويفرح بتوبة التائبين، سواء كانوا عالمين بأن ما أتوه ذنب أو لم يكونوا عالمين بذلك .(184/282)
ومن علم أن ما أتاه ذنب ثم تاب فلابد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود، فإذا كان يبغض الحق فلابد أن يحبه، وإذا كان يحب الباطل فلابد أن يبغضه، فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به، ومن بغض الباطل واجتنابه هو من الأمور التي يحبها اللّه تعالى ويرضاها، ومحبة اللّه كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابه، فكل من كان أعظم فعلًا لمحبوب الحق كان الحق أعظم محبة له، وانتقاله من مكروه الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان عليه من الباطل، وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق، فوجب زيادة محبة الحق له ومودته إياه، بل يبدل اللّه سيئاته حسنات لأنه بدل صفاته المذمومة بالمحمودة فيبدل اللّه سيئاته حسنات، فإن الجزاء من جنس العمل . وحينئذ فإذا كان إتيان التائب بما يحبه الحق أعظم من إتيان غيره كانت محبة الحق له أعظم وإذا كان فعله لما يوده اللّه منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت / مودة اللّه له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، فكيف يقال : الود لا يعود .
وبهذا يظهر جواب شبهة من يقول : إن اللّه لا يبعث نبيًا إلا من كان معصومًا قبل النبوة، كما يقول ذلك طائفة من الرافضة وغيرهم، وكذلك من قال : إنه لا يبعث نبيًا إلا من كان مؤمنا قبل النبوة، فإن هؤلاء توهموا أن الذنوب تكون نقصًا وإن تاب التائب منها، وهذا منشأ غلطهم . فمن ظن أن صاحب الذنوب مع التوبة النصوح يكون ناقصًا فهو غالط غلطًا عظيمًا، فإن الذم والعقاب الذي يلحق أهل الذنوب لا يلحق التائب منه شيء أصلًا، لكن إن قدم التوبة لم يلحقه شيء، وإن أخر التوبة فقد يلحقه ما بين الذنوب والتوبة من الذم والعقاب ما يناسب حاله .(184/283)
والأنبياء ـ صلوات اللّه عليهم وسلامه ـ كانوا لا يؤخرون التوبة، بل يسارعون إليها، ويسابقون إليها،لا يؤخرون ولا يصرون على الذنب بل هم معصومون من ذلك،ومن أخر ذلك زمنًا قليلًا كفر اللّه ذلك بما يبتليه به كما فعل بذي النون صلى الله عليه وسلم ،هذا على المشهور إن إلقاءه كان بعد النبوة، وأما من قال إن إلقاءه كان قبل النبوة فلا يحتاج إلى هذا .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=196 - TOP#TOPوالتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل، فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر اللّه عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم اللّه تعالى، وقد قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } [ العنكبوت : 26 ] . فآمن لوط لإبراهيم ـ عليه السلام ـ ثم أرسله اللّه تعالى إلى قوم لوط . وقد قال تعالى في قصة شعيب : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ . قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الأعراف : 88، 89 ] ، وقال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ . وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ(184/284)
بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [ إبراهيم : 13، 14 ] .
وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولابد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين . كما قال تعالى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الأحزاب : 73 ] .
/وقد أخبر اللّه ـ سبحانه ـ بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وآخر ما نزل عليه ـ أو من آخر ما نزل عليه ـ قوله تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . ففَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] ، وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : ( سبحانك اللّهم ربنا وبحمدك اللّهم اغفر لي " يتأول القرآن ) .(184/285)
وقد أنزل اللّه عليه قبل ذلك : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] ، وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر اللّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) ، وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مرة ) ، وفي السنن عن ابن عمر أنه قال : كنا نعد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : ( رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور ) مائة مرة .
وفي الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان / يقول : ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللّهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني . أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير ) ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال : يا رسول اللّه، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول ؟ قال : ( أقول : اللّهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللّهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللّهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد ) .(184/286)
وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع، وفي صحيح مسلم عن على ـ رضى اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح : ( اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ) ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : ( اللّهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره ) .
/وفي السنن عن على، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد اللّه وقال : ( { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ) [ الزخرف : 13، 14 ] ثم كبره وحمده ثم قال : ( سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) ، ثم ضحك ! وقال : ( إن الرب يعجب من عبده إذا قال : اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا ) .
وقد قال تعالى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] ، وقال : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 1، 2 ] ، وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة : ( أن المسيح يقول : اذهبوا إلى محمد عبد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) ، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى ترم قدماه، فيقال له : أتفعل هذا وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ ! قال : ( أفلا أكون عبدًا شكورا ) .
ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة .(184/287)
لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب . وتأويلاتهم تبين لمن / تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه . كتأويلهم قوله : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان ويدل على ذلك وجوه :
أحدها : أن آدم قد تاب اللّه عليه قبل أن ينزل إلى الأرض فضلًا عن عام الحديبية الذي أنزل اللّه فيه هذه السورة، قال تعالى : { ِوَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [ طه : 121، 122 ] ، وقال : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ البقرة : 37 ] ، وقد ذكر أنه قال : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] .
والثاني : أن يقال : فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ولا يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضًا، ومن قال : إنه لم يصدر من الأنبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما .(184/288)
الوجه الثالث : أن اللّه لا يجعل الذنب ذنبًا لمن لم يفعله فإنه هو القائل : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الإسراء : 15 ] . فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد صلى الله عليه وسلم ذنب آدم صلى الله عليه وسلم أو أمته أو غيرهما . وقد قال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] وقال تعالى : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } [ النساء : 84 ] ، ولو جاز هذا لجاز / أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم، ويقال : إن قوله : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] المراد : ذنوب الأنبياء وأممهم قبلك، فإنه يوم القيامة يشفع للخلائق كلهم، وهو سيد ولد آدم، وقال : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة . أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا ) وحينئذ فلا يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد، بل تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوبًا له . فإن قال : إن اللّه لم يغفر ذنوب جميع الأمم، قيل : وهو أيضًا لم يغفر ذنوب جميع أمته .
الوجه الرابع : أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبًا له .
الوجه الخامس : أنه ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول اللّه هذا لك فما لنا ؟ فأنزل اللّه : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله : { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مختص به دون أمته .(184/289)
الوجه السادس : أن اللّه لم يغفر ذنوب جميع أمته، بل قد ثبت / أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا اللّه، وقد قال اللّه تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل . فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول، لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب .
فَصْل
وأما قول السائل : هل الاعتراف بالخطيئة بمجرده مع التوحيد موجب لغفرانها وكشف الكربة الصادرة عنها، أم يحتاج إلى شيء آخر ؟
فجوابه : أن الموجب للغفران مع التوحيد هو التوبة المأمور بها، فإن الشرك لا يغفره اللّه إلا بتوبة، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48، 116 ] في موضعين من القرآن، وما دون الشرك فهو مع التوبة مغفور، وبدون التوبة معلق بالمشيئة كما قال تعالى : { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] فهذا في حق التائبين؛ ولهذا عمم وأطلق، وحتم أنه يغفر الذنوب جميعًا، وقال في تلك الآية : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فخص ما دون الشرك وعلقه بالمشيئة فإذا كان الشرك لا يغفر إلا بتوبة، وأما ما دونه فيغفره اللّه للتائب، وقد يغفره بدون التوبة لمن يشاء .
فالاعتراف بالخطيئة مع التوحيد إن كان متضمنًا للتوبة أوجب المغفرة، وإذا غفر الذنب زالت عقوبته، فإن المغفرة هي وقاية شر الذنب .(184/290)
ومن الناس من يقول : الغفر الستر، ويقول : إنما سمي المغفرة والغفار؛ لما فيه من معنى الستر، وتفسير اسم اللّه الغفار بأنه الستار . وهذا تقصير في معنى الغفر، فإن المغفرة معناها وقاية شر الذنب بحيث لا يعاقب على الذنب، فمن غفر ذنبه لم يعاقب عليه . وأما مجرد ستره فقد يعاقب عليه في الباطن، ومن عوقب على الذنب باطنًا أو ظاهرًا فلم يغفر له،وإنما يكون غفران الذنب إذا لم يعاقب عليه العقوبة المستحقة بالذنب .
وأما إذا ابتلى مع ذلك بما يكون سببًا في حقه لزيادة أجره فهذا لا ينافى المغفرة .
/وكذلك إذا كان من تمام التوبة أن يأتي بحسنات يفعلها، فإن من يشترط في التوبة من تمام التوبة، وقد يظن الظان أنه تائب ولا يكون تائبًا بل يكون تاركًا، والتارك غير التائب، فإنه قد يعرض عن الذنب لعدم خطوره بباله أو المقتضى لعجزه عنه، أو تنتفي إرادته له بسبب غير ديني، وهذا ليس بتوبة، بل لابد من أن يعتقد أنه سيئة ويكره فعله لنهي اللّه عنه ويدعه للّه تعالى، لا لرغبة مخلوق ولا لرهبة مخلوق، فإن التوبة من أعظم الحسنات، والحسنات كلها يشترك فيها الإخلاص للّه وموافقة أمره، كما قال الفضيل بن عياض في قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [ الملك : 2 ] قال : أخلصه وأصوبه، قالوا : يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا . والخالص أن يكون للّه، والصواب أن يكون على السنة .
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا .
وبسط الكلام في التوبة له موضع آخر .(184/291)
وأما الاعتراف بالذنب على وجه الخضوع للّه من غير إقلاع عنه فهذا في نفس الاستغفار المجرد الذي لا توبة معه، وهو كالذي يسأل / اللّه تعالى أن يغفر له الذنب مع كونه لم يتب منه، وهذا يأس من رحمة الله، ولا يقطع بالمغفرة له فإنه داع دعوة مجردة . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا كان بين إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الجزاء مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها ) . قالوا : يا رسول اللّه، إذًا نكثر قال : ( اللّه أكثر ) . فمثل هذا الدعاء قد تحصل معه المغفرة، وإذا لم تحصل فلابد أن يحصل معه صرف شر آخر أو حصول خير آخر، فهو نافع كما ينفع كل دعاء .
وقول من قال من العلماء : الاستغفار مع الإصرار توبة الكذابين، فهذا إذا كان المستغفر يقوله على وجه التوبة أو يدعي أن استغفاره توبة، وأنه تائب بهذا الاستغفار فلا ريب أنه مع الإصرار لا يكون تائبًا، فإن التوبة والإصرار ضدان : الإصرار يضاد التوبة، لكن لا يضاد الاستغفار بدون التوبة .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=197 - TOP#TOPوقول القائل : هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة أم لابد من استحضار جميع الذنوب ؟
فجواب هذا مبني على أصول :
/أحدها : أن التوبة تصح من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر إذا كان المقتضى للتوبة من أحدهما أقوى من المقتضى للتوبة من الآخر، أو كان المانع من أحدهما أشد، وهذا هو القول المعروف عند السلف والخلف .(184/292)
وذهب طائفة من أهل الكلام كأبي هاشم إلى أن التوبة لا تصح من قبيح مع الإصرار على الآخر، قالوا : لأن الباعث على التوبة إن لم يكن من خشية اللّه لم يكن توبة صحيحة، والخشية مانعة من جميع الذنوب لا من بعضها، وحكى القاضي أبو يعلى وابن عقيل هذا رواية عن أحمد؛ لأن المروزي نقل عنه أنه سئل عمن تاب من الفاحشة وقال : لو مرضت لم أعد لكن لا يدع النظر، فقال أحمد : أي توبة هذه ؟ ! قال جرير بن عبد اللّه : سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال : ( اصرف بصرك ) .
والمعروف عن أحمد وسائر الأئمة هو القول بصحة التوبة، وأحمد في هذه المسألة إنما أراد أن هذه ليست توبة عامة يحصل بسببها من التائبين توبة مطلقًا، لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر، فإن نصوصه المتواترة عنه وأقواله الثابتة تنافي ذلك، وحمل كلام الإمام على ما يصدق بعضه بعضًا أولى من حمله على التناقض، لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعًا لم يعرف عن أحد من السلف، وأحمد يقول : / إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام، وكان في المحنة يقول : كيف أقول ما لم يُقَل ؟ واتباع أحمد للسنة والآثار وقوة رغبته في ذلك، وكراهته لخلافه من الأمور المتواترة عنه يعرفها من يعرف حاله من الخاصة والعامة .
وما ذكروه من أن الخشية توجب العموم . فجوابه أنه قد يعلم قبح أحد الذنبين دون الآخر، وإنما يتوب مما يعلم قبحه .
وأيضًا، فقد يعلم قبحها ولكن هواه يغلبه في أحدهما دون الآخر فيتوب من هذا دون ذاك، كمن أدى بعض الواجبات دون بعض، فإن ذلك يقبل منه .
ولكن المعتزلة لهم أصل فاسد وافقوا فيه الخوارج في الحكم وإن خالفوهم في الاسم، فقالوا : إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ولا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها، وعندهم يمتنع أن يكون الرجل الواحد ممن يعاقبه اللّه ثم يثيبه؛ ولهذا يقولون بحبوط جميع الحسنات بالكبيرة .(184/293)
وأما الصحابة وأهل السنة والجماعة، فعلى أن أهل الكبائر يخرجون / من النار ويشفع فيهم، وأن الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات، ولكن قد يحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة، ولا يحبط جميع الحسنات إلا الكفر، كما لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فصاحب الكبيرة إذا أتى بحسنات يبتغي بها رضا اللّه أثابه اللّه على ذلك، وإن كان مستحقًا للعقوبة على كبيرته .
وكتاب اللّه ـ عز وجل ـ يفرق بين حكم السارق والزاني وقتال المؤمنين بعضهم بعضًا، وبين حكم الكفار في [ الأسماء، والأحكام ] . والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة يدل على ذلك، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع .
وعلى هذا تنازع الناس في قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 27 ] فعلى قول الخوارج والمعتزلة لا تقبل حسنة إلا ممن اتقاه مطلقًا فلم يأت كبيرة، وعند المرجئة إنما يتقبل ممن اتقى الشرك، فجعلوا أهل الكبائر داخلين في اسم [ المتقين ] وعند أهل السنة والجماعة يتقبل العمل ممن اتقى اللّه فيه فعمله خالصًا للّه موافقًا لأمر اللّه، فمن اتقاه في عمل تقبله منه، وإن كان عاصيًا في غيره . ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه وإن كان مطيعًا في غيره .(184/294)
والتوبة من بعض الذنوب دون بعض، كفعل بعض الحسنات المأمور / بها دون بعض، إذا لم يكن المتروك شرطًا في صحة المفعول، كالإيمان المشروط في غيره من الأعمال، كما قال اللّه تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] ، وقال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 79 ] ، وقال : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 217 ] .
الأصل الثاني : أن من له ذنوب فتاب من بعضها دون بعض فإن التوبة إنما تقتضى مغفرة ما تاب منه، أما ما لم يتب منه فهو باق فيه على حكم من لم يتب، لا على حكم من تاب، وما علمت في هذا نزاعًا إلا في الكافر إذا أسلم، فإن إسلامه يتضمن التوبة من الكفر فيغفر له بالإسلام الكفر الذي تاب منه، وهل تغفر له الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام ؟ هذا فيه قولان معروفان :
أحدهما : يغفر له الجميع، لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام يهدم ما كان قبله ) رواه مسلم . مع قوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] .(184/295)
والقول الثاني : أنه لا يستحق أن يغفر له بالإسلام إلا ما تاب منه، / فإذا أسلم وهو مصر على كبائر دون الكفر فحكمه في ذلك حكم أمثاله من أهل الكبائر، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأصول والنصوص، فإن في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حكيم بن حزام : يا رسول اللّه، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ فقال : ( من أحسن منكم في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر ) فقد دل هذا النص على أنه إنما ترفع المؤاخذة بالأعمال التي فعلت في حال الجاهلية عمن أحسن لا عمن لا يحسن، وإن لم يحسن أخذ بالأول والآخر، ومن لم يتب منها فلم يحسن .
وقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما قد سلف منه، لا يدل على أن المنتهى عن شيء يغفر له ما سلف من غيره؛ وذلك لأن قول القائل لغيره : إن انتهيت غفرت لك ما تقدم، ونحو ذلك يفهم منه عند الإطلاق أنك إن انتهيت عن هذا الأمر غفر لك ما تقدم منه، وإذا انتهيت عن شيء غفر لك ما تقدم منه، كما يفهم مثل ذلك في قوله : ( إن تبت ) ، لا يفهم منه أنك بالانتهاء عن ذنب يغفر لك ما تقدم من غيره .
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام يهدم ما قبله ) وفي رواية : ( يجب ما كان قبله ) فهذا قاله لما أسلم عمرو بن العاص وطلب / أن يغفر له ما تقدم من ذنبه . فقال له : ( يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ) . ومعلوم أن التوبة إنما توجب مغفرة ما تاب منه، لا توجب التوبة غفران جميع الذنوب .(184/296)
الأصل الثالث : أن الإنسان قد يستحضر ذنوبًا فيتوب منها وقد يتوب توبة مطلقة لا يستحضر معها ذنوبه، لكن إذا كانت نيته التوبة العامة فهي تتناول كل ما يراه ذنبًا؛ لأن التوبة العامة تتضمن عزمًا عامًا بفعل المأمور وترك المحظور، وكذلك تتضمن ندمًا عامًا على كل محظور .
والندم سواء قيل : إنه من باب الاعتقادات، أو من باب الإرادات، أو قيل : إنه من باب الآلام التي تلحق النفس بسبب فعل ما يضرها، فإذا استشعر القلب أنه فعل ما يضره، حصل له معرفة بأن الذي فعله كان من السيئات، وهذا من باب الاعتقادات، وكراهية لما كان فعله، وهو من جنس الإرادات، وحصل له أذى وغم لما كان فعله، وهذا من باب الآلام، كالغموم والأحزان، كما أن الفرح والسرور هو من باب اللذات ليس هو من باب الاعتقادات والإرادات .
ومن قال من المتفلسفة ومن اتبعهم : إن اللذة هي إدراك الملائم / من حيث هو ملائم، وأن الألم هو إدراك المنافر من حيث هو منافر فقد غلط في ذلك . فإن اللذة والألم حالان يتعقبان إدراك الملائم والمنافر فإن الحب لما يلائمه،كالطعام المشتهى مثلًا له ثلاثة أحوال :
أحدها : الحب، كالشهوة للطعام .
والثاني : إدراك المحبوب، كأكل الطعام .
والثالث : اللذة الحاصلة بذلك، واللذة أمر مغاير للشهوة ولذوق المشتهي، بل هي حاصلة لذوق المشتهي، ليست نفس ذوق المشتهي .
وكذلك المكروه، كالضرب مثلاً . فإن كراهته شيء، وحصوله شيء آخر، والألم الحاصل به ثالث .(184/297)
وكذلك ما للعارفين أهل محبة اللّه من النعيم والسرور بذلك، فإن حبهم للّه شيء، ثم ما يحصل من ذكر المحبوب شيء، ثم اللذة الحاصلة بذلك أمر ثالث، ولا ريب أن الحب مشروط بشعور المحبوب، كما أن الشهوة مشروطة بشعور المشتهي، لكن الشعور المشروط في اللذة غير الشعور المشروط في المحبة، فهذا الثاني يسمى إدراكًا وذوقًا ونيلًا ووجدًا ووصالاً، ونحو ذلك مما يعبر به عن إدراك المحبوب، / سواء كان بالباطن أو الظاهر، ثم هذا الذوق يستلزم اللذة، واللذة أمر يحسه الحي باطنًا وظاهرًا .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان اللّه ورسوله أحب إلىه من سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا اللّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقى في النار ) .
فبين صلى الله عليه وسلم أن ذَوْقَ طعم الإيمان لمن رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وأن وَجْدَ حلاوة الإيمان حاصل لمن كان حبه للّه ورسوله أشد من حبه لغيرهما، ومن كان يحب شخصًا للّه لا لغيره، ومن كان يكره ضد الإيمان، كما يكره أن يلقي في النار، فهذا الحب للإيمان، والكراهية للكفر استلزم حلاوة الإيمان، كما استلزم الرضا المتقدم ذوق طعم الإيمان، وهذا هو اللذة، وليس هو نفس التصديق والمعرفة الحاصلة في القلب، ولا نفس الحب الحاصل في القلب، بل هذا نتيجة ذاك وثمرته ولازم له، وهي أمور متلازمة، فلا توجد اللذة إلا بحب وذوق، وإلا فمن أحب شيئًا ولم يذق منه / شيئًا لم يجد لذة، كالذي يشتهي الطعام ولم يذق منه شيئًا، ولو ذاق ما لا يحبه لم يجد لذة، كمن ذاق ما لا يريده، فإذا اجتمع حب الشيء وذوقه حصلت اللذة بعد ذلك .(184/298)
وإن حصل بغضه وذوق البغيض حصل الألم، فالذي يبغض الذنب ولا يفعله لا يندم، والذي لا يبغضه لا يندم على فعله، فإذا فعله وعرف أن هذا مما يبغضه ويضره ندم على فعله إياه . وفي المسند عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الندم توبة ) .
إذا تبين هذا، فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، وإن لم يستحضر أعيان الذنوب إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص، مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه؛ لقوة إرادته إياه أو لاعتقاده أنه حسن ليس بقبيح، فما كان لو استحضره لم يتب منه لم يدخل في التوبة، وأما ما كان لو حضر بعينه لكان مما يتوب منه فإن التوبة العامة شاملته .
وأما التوبة المطلقة، وهي أن يتوب توبة مجملة، ولا تستلزم التوبة من كل ذنب، فهذه لا توجب دخول كل فرد من أفراد الذنوب فيها ولا تمنع دخوله كاللفظ المطلق، لكن هذه تصلح أن تكون سببًا لغفرانه المعين، كما تصلح أن تكون سببًا لغفران الجميع، بخلاف /العامة فإنها مقتضية للغفران العام، كما تناولت الذنوب تناولا عامًا .
وكثير من الناس لا يستحضر عند التوبة إلا بعض المتصفات بالفاحشة أو مقدماتها، أو بعض الظلم باللسان أو اليد، وقد يكون ما تركه من المأمور الذي يجب للّه عليه في باطنه وظاهره من شعب الإيمان وحقائقه أعظم ضررًا عليه مما فعله من بعض الفواحش، فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقًا أعظم نفعًا من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة، كحب اللّه ورسوله، فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح أنه كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجل يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان كلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد، فلما كثر ذلك منه أتى به مرة فأمر بجلده فلعنه رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه فإنه يحب اللّه ورسوله ) .(184/299)
فنهي عن لعنه مع إصراره على الشرب لكونه يحب اللّه ورسوله، مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن في الخمرعشرة : ( لعن الخمر، وعاصرها ومعتصرها،وشاربها وساقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومبتاعها، وآكل ثمنها ) .
ولكن لعن المطلق لا يستلزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لحوق اللعنة له .
/وكذلك [ التكفير المطلق ] ، و [ الوعيد المطلق ] . ولهذا كان الوعيد المطلق في الكتاب والسنة مشروطًا بثبوت شروط وانتفاء موانع، فلا يلحق التائب من الذنب باتفاق المسلمين، ولا يلحق من له حسنات تمحو سيئاته، ولا يلحق المشفوع له، والمغفور له، فإن الذنوب تزول عقوبتها ـ التي هي جهنم ـ بأسباب التوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ـ لكنها من عقوبات الدنيا ـ وكذلك ما يحصل في البرزخ من الشدة، وكذلك ما يحصل في عرصات القيامة، وتزول أيضًا بدعاء المؤمنين : كالصلاة عليه وشفاعة الشفيع المطاع، كمن يشفع فيه سيد الشفعاء محمد صلى الله عليه وسلم تسليمًا .
وحينئذ، فأي ذنب تاب منه ارتفع موجبه، وما لم يتب منه فله حكم الذنوب التي لم يتب منها، فالشدة إذا حصلت بذنوب وتاب من بعضها خفف منه بقدر ما تاب منه، بخلاف ما لم يتب منه، بخلاف صاحب التوبة العامة .
والناس في غالب أحوالهم لا يتوبون توبة عامة مع حاجتهم إلى ذلك، فإن التوبة واجبة على كل عبد في كل حال، لأنه دائمًا يظهر له ما فرط فيه من ترك مأمور أو ما اعتدى فيه من فعل محظور؛ فعليه أن يتوب دائمًا، واللّه أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=197 - TOP#TOPوأما قول السائل : ما السبب في أن الفَرَجَ يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق ؟ وما الحيلة في صرف القلب عن التعلق بهم وتعلقه بالله ؟
فيقال : سبب هذا تحقيق التوحيد : [ توحيد الربوبية ] ، و [ توحيد الإلهية ] .(184/300)
فتوحيد الربوبية : أنه لا خالق إلا اللّه، فلا يستقل شيء سواه بإحداث أمر من الأمور، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما سواه إذا قدر سببًا فلابد له من شريك معاون وضد معوق، فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من الأمور طلب منه ما لا يستقل به ولا يقدر وحده عليه، حتى ما يطلب من العبد من الأفعال الاختيارية لا يفعلها إلا بإعانة اللّه له، كأن يجعله فاعلًا لها بما يخلقه فيه من الإرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة، وعند وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المقدور .
فمشيئة اللّه وحده مستلزمة لكل ما يريده، فما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن، وما سواه لا تستلزم إرادته شيئًا، بل ما أراده لا يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده، ونفس إرادته لا تحصل إلا بمشيئة اللّه تعالى . كما قال تعالى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ التكوير : 28، 29 ] ، وقال / تعالى : { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا . وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا . يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الإنسان : 29ـ31 ] ، وقال : { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ . وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [ المدثر : 55، 56 ] .
والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق وذلك المخلوق عاجز عنه، ثم هذا من الشرك الذي لا يغفره اللّه، فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد، ثم إن وحَّدَه العبد توحيد الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة .(184/301)
وإن كان ممن قيل فيه : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ يونس : 12 ] ، وفي قوله : { وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } [ الإسراء : 67 ] كان ما حصل له من وحدانيته حجة عليه .
كما احتج ـ سبحانه ـ على المشركين الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون ولا يعبدونه وحده لا شريك له، قال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84 ـ 89 ] ، وقال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ } [ العنكبوت : 61 ] وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع .(184/302)
فمن تمام نعمة اللّه على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن .
وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين للّه الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف : يا بن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك . وقال بعض الشيوخ : إنه ليكون لي إلى اللّه حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي / عن ذلك، لأن النفس لا تريد إلا حظها فإذا قضى انصرفت . وفي بعض الإسرائيليات يا بن آدم، البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك .
وهذا المعنى كثير، وهو موجود مذوق محسوس بالحس الباطن للمؤمن، وما من مؤمن إلا وقد وجد من ذلك ما يعرف به ما ذكرناه، فإن ذلك من باب الذوق والحس لا يعرفه إلا من كان له ذوق وحس بذلك .
ولفظ [ الذوق] وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص بذوق اللسان، فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك مستعمل في الإحساس بالملائم والمنافر، كما أن لفظ [ الإحساس ] في عرف الاستعمال عام فيما يحس بالحواس الخمس، بل وبالباطن .
وأما في اللغة فأصله [ الرؤية ] كما قال : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] .(184/303)
والمقصود لفظ [ الذوق ] قال تعالى : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } [ النحل : 112 ] فجعل الخوف والجوع مذوقًا، وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللابس،/ بخلاف من كان الألم لا يستوعب مشاعره بل يختص ببعض المواضع، وقال تعالى : { إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ } [ الصافات : 38 ] ، وقال تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] ، وقال تعالى : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } [ القمر : 48 ] ، وقال : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ } [ الدخان : 56 ] ، وقال تعالى : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا . إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } [ النبأ : 24، 25 ] ، وقال : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ } [ السجدة : 21 ] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ) .
فاستعمال لفظ [ الذوق ] في إدراك الملائم والمنافر كثير . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ) كما تقدم ذكر الحديث . فوجود المؤمن حلاوة الإيمان في قلبه وذوق طعم الإيمان أمر يعرفه من حصل له هذا الوجد .(184/304)
وهذا الذوق، أصحابه فيه يتفاوتون، فالذي يحصل لأهل الإيمان عند تجريد توحيد قلوبهم إلى اللّه وإقبالهم عليه دون ما سواه بحيث يكونون حنفاء له مخلصين له الدين، لا يحبون شيئًا إلا له، ولا يتوكلون إلا عليه، ولا يوالون إلا فيه، ولا يعادون إلا له، ولا يسألون إلا إياه، ولا يرجون إلا إياه، ولا يخافون إلا إياه، يعبدونه ويستعينون له وبه، بحيث يكونون عند الحق بلا خلق، وعند الخلق بلا هوى، قد فنيت عنهم إرادة ما سواه بإرادته، ومحبة ما سواه بمحبته، وخوف / ما سواه بخوفه، ورجاء ما سواه برجائه، ودعاء ما سواه بدعائه، هو أمر لا يعرفه بالذوق والوجد إلا من له نصيب، وما من مؤمن إلا له منه نصيب .
وهذا هو حقيقة الإسلام الذي بعث اللّه به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه . واللّه سبحانه أعلم .
قال شيخُ الإِسْلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=198 - TOP#TOPفَصْل
[ الفناء ] الذي يوجد في كلام الصوفية يفسر بثلاثة أمور :
أحدها : فناء القلب عن إرادة ما سوى الرب، والتوكل عليه وعبادته، وما يتبع ذلك، فهذا حق صحيح وهو محض التوحيد والإخلاص، وهو في الحقيقة عبادة القلب، وتوكله، واستعانته، وتألهه وإنابته، وتوجهه إلى اللّه وحده لا شريك له، وما يتبع ذلك من المعارف والأحوال . وليس لأحد خروج عن هذا .
وهذا هو القلب السليم الذي قال اللّه فيه : { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 89 ] وهو سلامة القلب عن الاعتقادات الفاسدة، والإرادات الفاسدة، وما يتبع ذلك .(184/305)
/وهذا [ الفناء ] لا ينافيه البقاء، بل يجتمع هو والبقاء فيكون العبد فانيًا عن إرادة ما سواه، وإن كان شاعرًا باللّه وبالسوى، وترجمته قول : لا إله إلا اللّه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ) لا إله إلا اللّه، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن ) وهذا في الجملة هو أول الدين وآخره .
الأمر الثاني : فناء القلب عن شهود ما سوى الرب، فذاك فناء عن الإرادة، وهذا فناء عن الشهادة، ذاك فناء عن عبادة الغير والتوكل عليه، وهذا فناء عن العلم بالغير والنظر إليه، فهذا الفناء فيه نقص، فإن شهود الحقائق على ما هي عليه، وهو شهود الرب مدبرًا العبادة، آمرًا بشرائعه، أكمل من شهود وجوده، أو صفة من صفاته، أو اسم من أسمائه، والفناء بذلك عن شهود ما سوى ذلك .
ولهذا كان الصحابة أكمل شهودًا من أن ينقصهم شهود للحق مجملًا عن شهوده مفصلًا، ولكن عرض كثير من هذا لكثير من المتأخرين من هذه الأمة . كما عرض لهم عند تجلي بعض الحقائق؛ الموت والغشي والصياح والاضطراب، وذلك لضعف القلب عن شهود الحقائق على ما هي عليه، وعن شهود التفرقة في الجمع،والكثرة في الوحدة، حتى اختلفوا في إمكان ذلك، وكثير منهم يرى أنه لا يمكن سوى ذلك لما رأى أنه إذا ذكر الخلق أو الأمر اشتغل عن الخالق الآمر . وإذا عورض بالنبي / صلى الله عليه وسلم وخلفائه ادعى الاختصاص، أو أعرض عن الجواب أو تحير في الأمر .(184/306)
وسبب ذلك أنه قاس جميع الخلق على ما وجده من نفسه؛ ولهذا يقول بعض هؤلاء : إنه لا يمكن حين تجلى الحق سماع كلامه، ويحكى عن ابن عربي أنه لما ذكر له عن الشيخ شهاب الدين السهروردي أنه جوز اجتماع الأمرين . قال : نحن نقول له عن شهود الذات وهو يخبرنا عن شهود الصفات، والصواب مع شهاب الدين . فإنه كان صحيح الاعتقاد في امتياز الرب عن العبد . وإنما بنى ابن عربي على أصله الكفري في أن الحق هو الوجود الفائض على الممكنات، ومعلوم أن شهود هذا لا يقع فيه خطاب، وإنما الخطاب في مقام العقل .
وفي هذا الفناء قد يقول : أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا اللّه، إذا فنى بمشهوده عن شهوده، وبموجوده عن وجوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن عرفانه . كما يحكون أن رجلًا كان مستغرقًا في محبة آخر، فوقع المحبوب في اليم فألقى الآخر نفسه خلفه، فقال ما الذي أوقعك خلفي ؟ فقال : غبت بك عني فظننت أنك أني .
وفي مثل هذا المقام يقع السكر الذي يسقط التمييز مع وجود / حلاوة الإيمان، كما يحصل بسكر الخمر، وسكر عشيق الصور . وكذلك قد يحصل الفناء بحال خوف أو رجاء، كما يحصل بحال حب فيغيب القلب عن شهود بعض الحقائق ويصدر منه قول أو عمل من جنس أمور السكارى وهي شطحات بعض المشائخ، كقول بعضهم : أنصب خيمتي على جهنم، ونحو ذلك من الأقوال والأعمال المخالفة للشرع، وقد يكون صاحبها غير مأثوم، وإن لم يكن فيشبه هذا الباب أمر خفراء العدو ومن يعين كافرًا أو ظالمًا بحال ويزعم أنه مغلوب عليه . ويحكم على هؤلاء أن أحدهم إذا زال عقله بسبب غير محرم فلا جناح عليهم فيما يصدر عنهم من الأقوال والأفعال المحرمة بخلاف ما إذا كان سبب زوال العقل والغلبة أمرًا محرمًا .(184/307)
وهذا كما قلنا في عقلاء المجانين والمولهين، الذين صار ذلك لهم مقامًا دائمًا، كما أنه يعرض لهؤلاء في بعض الأوقات، كما قال بعض العلماء ذلك فيمن زال عقله حتى ترك شيئًا من الواجبات : إن كان زواله بسبب غير محرم مثل الإغماء بالمرض أو أسقى مكرها شيئًا يزيل عقله فلا إثم عليه، وإن زال بشرب الخمر ونحو ذلك من الأحوال المحرمة أثم بترك الواجب، وكذلك الأمر في فعل المحرم .
وكما أنه لا جناح عليهم فلا يجوز الاقتداء بهم ولا حمل كلامهم وفعالهم على الصحة بل هم في الخاصة مثل الغافل والمجنون في التكاليف / الظاهرة، وقال فيهم بعض العلماء : هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا فسلب عقولهم وترك أحوالهم وأسقط ما فرض بما سلب .
ولهذا اتفق العارفون على أن حال البقاء أفضل من ذلك، وهو شهود الحقائق بإشهاد الحق، كما قال اللّه ـ تعالى ـ فيما روى عنه رسوله : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه . فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي " وفي رواية : " وبي ينطق، وبي يعقل ) . فإذا سمع بالحق ورأى به سمع الأمر على ما هو عليه وشهد الحق على ما هو عليه .
وعامة ما تجده في كتب أصحاء الصوفية مثل شيخ الإسلام ومن قبله من الفناء هو هذا، مع أنه قد يغلط بعضهم في بعض أحكامه كما تكلمت عليه في غير هذا الموضع .
وفي الجملة، فهذا الفناء صحيح وهو في عيسوية المحمدية، وهو شبيه بالصعق والصياح الذي حدث في التابعين؛ ولهذا يقع كثير من هؤلاء في نوع ضلال؛ لأن الفناء عن شهود الحقائق مرجعه إلى عدم العلم والشهود . وهو وصف نقص لا وصف كمال، وإنما يمدح من جهة / عدم إرادة ما سواه؛ لأن ذكر المخلوق قد يدعو إلى إرادته والفتنة به .(184/308)
ولهذا غالب عباد [ العيسوية ] في عدم العلم بالسوي، وإرادته والفتنة به، ويوصفون بسلامة القلوب . وغالب علماء [ الموسوية ] في العلم بالسوي وإرادته والفتنة به، ويوصفون بالعلم، لكن الأولون موصوفون بالجهل والعدل . والآخرون موصوفون بالظلم . . . وكلاهما صحيح .
فأما العلم بالحق والخلق، وإرادة اللّه وحده لا شريك له فهذا نعت المحمدية الكاملون في العلم والإرادة، وسلامة القلب المحمودة، هي سلامة . . . إذ الجهل لا يكون بنفسه صفة مدح . إلا أنه قد يمدح لسلامته به عن الشرور، فإن أكثر النفوس إذا عرفت الشر الذي تهواه اتبعته أو فزعت منه أو فتنها .
الثالث : فناء عن وجود السوى : بمعنى أنه يرى أن اللّه هو الوجود، وأنه لا وجود لسواه، لا به ولا بغيره، وهذا القول والحال للاتحادية الزنادقة من المتأخرين كالبلياني والتلمساني والقونوني ونحوهم الذين يجعلون الحقيقة أنه عين الموجودات وحقيقة الكائنات، وأنه / لا وجود لغيره، لا بمعنى أن قيام الأشياء به ووجودها به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل**
وكما قيل في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] فإنهم لو أرادوا ذلك لكان ذلك هو الشهود الصحيح، لكنهم يريدون أنه هو عين الموجودات، فهذا كفر وضلال . ربما تمسك أصحابه بألفاظ متشابهة توجد في كلام بعض المشايخ، كما تمسك النصارى بألفاظ متشابهة تروى عن المسيح، ويرجعون إلى وجد فاسد أو قياس فاسد . فتدبر هذا التقسيم فإنه بيان الصراط المستقيم .
/وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلام ـ قدس الله روحه :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=198 - TOP#TOPفَصْل(184/309)
الأمر والنهي، الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد، وكما لا تجب الطهارة بالماء، والصلاة قائمًا والصوم، وغير ذلك على من يعجز عنه .
سواء قيل : يجوز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز، فإنه لا خلاف أن تكليف العاجز الذي لا قدرة له على الفعل بحال غير واقع في / الشريعة، بل قد تسقط الشريعة التكليف عمن لم تكمل فيه أداة العلم، والقدرة تخفيفًا عنه، وضبطًا لمناط التكليف، وإن كان تكليفه ممكنًا، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه، ولأن العقل يظهر في الناس شيئًا فشيئًا، وهم يختلفون فيه، فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ .
وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زادًا وراحلة عند جمهور العلماء، مع إمكان المشي لما فيه من المشقة، وكما لا يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفًا عليه، وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض وتأخر البرء، وإن كان فعلها ممكنًا .(184/310)
لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع، فقد يوجب اللّه في شريعة ما يشق، ويحرم ما يشق تحريمه، كالآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وقد يخفف في شريعة أخرى، كما قال المؤمنون : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } [ البقرة : 286 ] ، وكما قال اللّه تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وقال : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] ، وقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، وقال : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء : 28 ] .
/وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في قصة الأعرابي : ( إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين ) ، وقال لمعاذ وأبي موسى : ( يسرا ولا تعسرا ) ، وقال : ( إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) ، وقال : ( لا تشددوا على أنفسكم فيشدد اللّه عليكم، فإن أقوامًا شددوا على أنفسهم، فشدد اللّه عليهم،فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ) ، وقال : ( لا رهبانية في الإسلام ) ،وقال : ( لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ، وقال : ( إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته ) ، وروى عنه أنه قال : ( بعثت بالحنيفية السمحة ) .
وأما كون الإنسان مريدًا لما أمر به، أو كارهًا له، فهذا لا تلتفت إليه الشرائع، بل ولا أمر عاقل، بل الإنسان مأمور بمخالفة هواه .(184/311)
والإرادة : هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار، كما قال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 18، 19 ] ، وقال تعالى : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا } [ القصص : 83 ] ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } الآية [ هود : 15 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، ونظائره كثيرة .
فإن هذه الأصول ممهدة في الكتاب والسنة، وكلام العلماء والعارفين، وليس الغرض هنا تقريرها .
وإنما الغرض شيء آخر، وهو أنه إذا كان التكليف مشروطًا بالتمكن من العلم الذي أصله العقل، وبالقدرة على الفعل فنقول : كل من هذين قد يزول بأسباب محظورة، وبأسباب غير محظورة، فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج ونحوهما لم يزل عنه بذلك، أثم بما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات، إذا كان السكر يقتضي ذلك، بخلاف ما إذا زال بسبب غير محرم، كالإغماء لمرض، أو خوف، أو سكر بشرب غير محرم، مثل أن يجرع الخمر مكرهًا، فإن هذا لا إثم عليه .
وأما قضاء الصلاة عليه عند أحمد، وعند من يقول : يقضي صلاة يوم وليلة، فذاك نظير وجوب قضائها على النائم والناسي، ولا إثم عليهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط في اليقظة ) ، وقال : ( من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك ) .(184/312)
/وكذلك قدرة العبد، فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه، حتى ضيع ماله بقى الحج في ذمته، وكذلك في استحلال المحرمات، قال اللّه تعالى : { فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 173 ] . فالضرورة بسبب محظور لا تستباح بها المحرمات، بخلاف الضرورة التي هي بسبب غير محظور .
وقد اختلف العلماء في العاصي بسفره هل يترخص ترخص المسافر ؟ ومذهب الشافعي، وأحمد أنه لا يترخص .
فالأحوال التي ترد على العباد، وأهل المعرفة والزهاد، ونحوهم مما توجب زوال عقل أحدهم وعلمه، حتى تجعله كالمجنون والموله والسكران والنائم، أو زوال قدرته حتى تجعله كالعاجز، أو تجعله كالمضطر الذي يصدر عنه القول والفعل بغير إرادته واختياره، فإن زوال العقل والقدرة قد يوجب عجزه عن أداء واجبات، وقد يوجب وقوعه في محرمات .
فهؤلاء يقال فيهم : إن كان زوال ذلك بسبب غير محرم، فلا حرج عليهم فيما يتركونه من الواجبات، ويفعلونه من المحرمات، ولا يجوز أيضًا اتباعهم فيما هو خارج عن الشريعة من أقوالهم وأفعالهم، ولا نذمهم على ذلك، بل قد يمدحون على ما وافقوا فيه الشريعة من / الأقوال والأعمال، ويرفع عنهم اللوم فيما عذرهم فيه الشارع، كما يقال في المجتهد المخطئ سواء، بل المجتهد المخطئ نوع من هذا الجنس، حيث سقط عنه اللوم؛ لعجزه عن العلم .
وإن كان زوال ذلك بسبب محرم، استحقوا الذم والعقاب على ما يتركونه من واجب ويفعلونه من محرم .(184/313)
مثال الأول : من يسمع القرآن على الوجه المشروع، فهاج له وجد يحبه، أو مخافة أو رجاء، فضعف عن حمله حتى مات، أو صعق، أو صاح صياحًا عظيمًا، أو اضطرب اضطرابًا كثيرًا، فتولد عن ذلك ترك صلاة واجبة، أو تعدي على بعض الناس، فإن هذا معذور في ذلك، فإن هذا في هذه الحال بمنزلة عقلاء المجانين المولهين، الذين حصل لهم الجنون، مع أنهم من الصالحين وأهل المعرفة، إما لقوة الوارد الذي ورد عليهم، وإما لضعف قلوبهم عن حمله، وإما لانحراف أمزجتهم وقوة الخلط، وإما لعارض من الجن، فإن هؤلاء كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي، حيث سئل عنهم، فقال : هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب .
ولهذا كان هذا الصنف والذي قبله موجودًا في التابعين ومن / بعدهم، لا سيما في عباد البصريين، فإن فيهم من مات من سماع القرآن، كزرارة بن أوفى، وأبي جهير الضرير وغيرهما .
وأما الصحابة، فإن حالهم كان أكمل من أن يكون فيهم مجنون أو مصعوق، ومن هؤلاء أيضًا من غلب عليه الذكر للّه، والتوحيد له والمحبة حتى غاب بالمذكور المشهود المحبوب المعبود عما سواه، كما يحصل لبعض العاشقين في غيبته بمعشوقه عما سواه، فيقول أحدهم في هذه الحال . أنا الحق، أو سبحاني، أو ما في الجبة إلا اللّه . ومنهم من غلب عليه حال الرجاء والرحمة، حتى قال : أبسط سجادتي على جهنم . فمن قال هذا في حال زوال عقله بحيث يكون كالسكران أو الموله، وكان السبب الذي أوجب ذلك غير منهي عنه شرعًا : فلا إثم عليه .(184/314)
ومثال الثاني : ما قد يحصل عند سماع المكاء والتصدية لكثير من أهل السماع، فإنه قد ينشد أشعارًا فيها ما يخالف الشرع بأصوات مخالفة للشرع، ويكون الإنسان فيه استعداد فيوجب ذلك اختلاطًا، وزوال عقل، حتى يقتل بعضهم بعضًا، إما ظاهرًا وإما باطنًا بالهمة والقلوب، ويوجب أيضًا من ترك واجبات الشريعة، ومن الاعتداء على المؤمنين في الدين والدنيا ما اللّه به عليم .
/وكذلك قد يسلك أحدهم عبادات غير شرعية في الاعتقادات والأعمال فتورثه تلك العبادات والأعمال أحوالًا قوية قاهرة، يترك بها الواجبات، ويفعل بها المحرمات أعظم مما يفعله الملك الجبار، إذا سكر بشرب الخمر بالنفوس والأموال .
وإذا خوطب أحدهم في حال صحوه، وعقله قال : كنت مغلوبًا، وورد علي وارد فعل بي هذا، والحكم للوارد، وهذه حال كثير من خفراء العدو، وكثير ممن يعين الكفرة والظلمة، ويعتدي على المسلمين والمؤمنين من أهل الأحوال، ويقول : إنه مغلوب في ذلك، وأنه ورد عليه وارد أوجب ذلك، وأنه خوطب بذلك الفعل .
فيقال : أما زوال عقلك حتى صرت لا تفهم أمر اللّه ونهيه، وزوال قدرتك حتى صرت مضطرًا إلى تلك الأفعال، وإن كنت صادقًا في ذلك، فسببه تفريطك وعدوانك أولًا، حتى صرت في حال المجانين والسكارى، فأنت بمنزلة شارب الخمر الذي سكر منها، والمتعرض للعشق حتى يعشق فيفعل فيه العشق الأفاعيل؛ إذ لا فرق بين سكر الأصوات والصور والشراب، فإن هذا سكر الأجسام، وهذا سكر النفوس، وهذا سكر الأرواح، فإذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا في دين الإسلام .
/ولهذا إنما تقع هذه الأحوال ممن فيه نصرانية يميل بسببها إلى السكر، كما يفعله النصارى في الشراب والأصوات والصور؛ ولهذا كان هؤلاء في عالم الضلال .
وأما قولك : إنك خوطبت بذلك، وأمرت فمن أي الجهتين ؟ أمن جهة الكلمات الدينية ؟ أم من جهة الكلمات الكونية ؟(184/315)
فالأولى مثل قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } [ النحل : 90 ] وقوله : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ } [ الجمعة : 2 ] ، وقوله : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } [ الحديد : 25 ] .
والثانية مثل قوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } [ الإسراء : 16 ] ، وقوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا } [ الإسراء : 5 ] ، وقوله : { أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ } [ مريم : 83 ] فإن ذكرت أنه من الجهة الأولى، فباطل، بخلاف الكتاب والسنة .
وإن أقررت أنه من الثانية فصحيح، لكن هذا حال الكفار والمنافقين مثل إبليس وفرعون ونمرود، وسائر من أطاع الأوامر الكونية، وتبع الإرادة القدرية، وأعرض عن الأوامر الشرعية، ولم يقف عند الإرادة الدينية .
فتدبر هذا الأصل فإنه عظيم نافع جداً، فتنكشف به الأحوال المخالفة للشرع، وانقسام أهلها إلى معذور وموزور، كانقسامها إلى / مسطور على صاحبه، ومغفور، بمنزلة الأحوال الصادرة عن غير أهل العبادات والزهادات من العقل والصحو، ومن الإغماء والسكر والجنون ومن الاضطرار والاختيار، فإن أحوال الملوك والأمراء وأحوال الهداة والعلماء، وأحوال المشايخ والفقراء، تشترك في هذه القاعدة الشريفة، وتحكم الشريعة فيها بالفرقان .
وإذا ضم إلى ذلك أن ما يصدر عن ذوي الأحوال من كشف علمي أو تأثير قدري ليس بمستلزم لولاية الله، بل ولا للصلاح، بل ولا للإيمان؛ إذ قد يكون هذا الجنس في كافر، ومنافق، وفاسق، وعاصي، وإنما أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون .(184/316)
ففرق بين ولاية اللّه وبين الأحوال، كما فرق بين خلافة النبوة وبين جنس الملك، وفرق بين العلم الذي ورثته الأنبياء، وبين جنس الكلام، فبين هذين النوعين خصوص وعموم، فقد يكون الرجل ولياً للّه له حال تأثير وكشف، وقد يكون ولياً ليس له تلك الحال بكمالها، وقد يكون له شيء من هذه الأحوال، وليس ولياً للّه، كما قد يكون خليفة نبي مطاعاً، وقد يكون خليفة نبي مستضعفاً، وقد يكون جباراً مطاعاً ليس من النبوة في شيء، وقد يكون عالماً ليس متكلما بما يخالف كلام الأنبياء، وقد يكون عالماً متكلماً بكلام الأنبياء .
فَصل
واعلم أن عامة البدع المتعلقة بالعلوم والعبادات في هذا القدر وغيره، إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( من يعش منكم بعدي فسيري اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) .
ومعلوم أنه إذا استقام ولاة الأمور الذين يحكمون في النفوس والأموال استقام عامة الناس، كما قال أبو بكر الصديق فيما رواه البخاري في صحيحه للمرأة الأحمسية لما سألته فقالت : ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح ؟ قال : ما استقامت لكم أئمتكم، وفي الأثر : صنفان إذا صلحوا صلح الناس : العلماء والأمراء أهل الكتاب وأهل الحديد، كما دل عليه قوله : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا } الآية [ الحديد : 25 ] .
وهم أولو الأمر، في قوله : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] .
/وكذلك من جهتهم يقع الفساد، كما جاء في الحديث مرفوعًا، وعن جماعة من الصحابة ( إن أخوف ما أخاف عليكم : زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون ) . فالأئمة المضلون هم الأمراء، والعالم والمجادل هم العلماء، لكن أحدهما صحيح الاعتقاد يزل، وهو العالم، كما يقع من أئمة الفقهاء أهل السنة والجماعة .(184/317)
والثاني، كالمتفلسفة والمتكلمين الذين يجادلون بشبهات القرآن مع أنهم في الحقيقة منسلخون من آيات اللّه، وإنما احتجاجهم به دفعًا للخصم، لا اهتداء به واعتمادًا عليه؛ ولهذا قال : ) جدال منافق بالقرآن ( فإن السنة والإجماع تدفع شبهته .
والدين القائم بالقلب من الإيمان علمًا وحالًا هو الأصل، والأعمال الظاهرة هي الفروع، وهي كمال الإيمان .
فالدين أول ما يبنى من أصوله ويكمل بفروعه، كما أنزل اللّه بمكة أصوله من التوحيد والأمثال التي هي المقاييس العقلية، والقصص، والوعد، والوعيد، ثم أنزل بالمدينة ـ لما صار له قوة ـ فروعه الظاهرة من الجمعة والجماعة، والأذان والإقامة، والجهاد، والصيام، وتحريم الخمر والزنا، والميسر وغير ذلك من واجباته ومحرماته .
/فأصوله تمد فروعه وتثبتها، وفروعه تكمل أصوله وتحفظها، فإذا وقع فيه نقص ظاهر فإنما يقع ابتداء من جهة فروعه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ) ، وروى عنه أنه قال : ( أول ما يرفع الحكم بالأمانة ) . والحكم هو عمل الأمراء، وولاة الأمور، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [ النساء : 58 ] ، وأما الصلاة فهي أول فرض، وهي من أصول الدين والإيمان، مقرونة بالشهادتين، فلا تذهب إلا في الآخر، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبي للغرباء ) فأخبر أن عوده كبدئه .
فلما ذهبت دولة الخلفاء الراشدين، وصار ملكًا ظهر النقص في الأمراء، فلابد أن يظهر أيضًا في أهل العلم والدين، فحدث في آخر خلافة علي بدعتا الخوارج والرافضة، إذ هي متعلقة بالإمامة والخلافة، وتوابع ذلك من الأعمال، والأحكام الشرعية .(184/318)
وكان ملك معاوية ملكًا ورحمة، فلما ذهب معاوية ـ رحمة اللّه عليه ـ وجاءت إمارة يزيد، وجرت فيها فتنة قتل الحسين بالعراق، وفتنة أهل الحرة بالمدينة، وحصروا مكة، لما قام عبد اللّه بن الزبير .
/ثم مات يزيد وتفرقت الأمة، ابن الزبير بالحجاز،وبنو الحكم بالشام،ووثب المختار بن أبي عبيد وغيره بالعراق . وذلك في أواخر عصر الصحابة، وقد بقى فيهم مثل عبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عمر، وجابر بن عبد اللّه، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، حدثت بدعة القدرية والمرجئة، فردها بقايا الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وجابر، وواثلة بن الأسقع وغيرهم ـ رضي اللّه عنهم ـ مع ما كانوا يردونه هم، وغيرهم من بدعة الخوارج والروافض .
وعامة ما كانت القدرية إذ ذاك يتكلمون فيه، أعمال العباد، كما يتكلم فيها المرجئة، فصار كلامهم في الطاعة والمعصية، والمؤمن والفاسق ونحو ذلك من مسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، ولم يتكلموا بعد في ربهم ولا في صفاته إلا في أواخر عصر صغار التابعين، من حين أواخر الدولة الأموية حين شرع القرن الثالث ـ تابعوا التابعين ـ ينقرض أكثرهم ـ فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقى من أهل بدر، إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان، انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية ـ وصار / في ولاة الأمور كثير من الأعاجم، وخرج كثير من الأمر عن ولاية العرب وعربت بعض الكتب العجمية من كتب الفرس والهند والروم، وظهر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل، ولا يستشهد، ويحلف، ولا يستحلف ) ، حدث ثلاثة أشياء :
الرأي و الكلام والتصوف .
وحدث التجهم : وهو نفي الصفات . وبإزائه التمثيل .(184/319)
فكان جمهور الرأي من الكوفة، إذ هو غالب على أهلها، مع ما كان فيهم من التشيع الفاحش، وكثرة الكذب في الرواية، مع أن في خيار أهلها من العلم، والصدق، والسنة والفقه، والعبادة أمر عظيم، لكن الغرض أن فيها نشأ كثرة الكذب في الرواية . وكثرة الآراء في الفقه، والتشيع في الأصول، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة .
فإنه بعد موت الحسن، وابن سيرين بقليل، ظهر عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، ومن اتبعهما من أهل الكلام والاعتزال .
وظهر أحمد بن عطاء الهجيمي الذي صحب عبد الواحد بن زيد، / وعبد الواحد صحب الحسن البصري، ومن اتبعه من المتصوفة، وبنى دويرة للصوفية، هي أول ما بني في الإسلام، وكان عبد الرحمن بن مهدي وغيره يسمونهم الفقرية، وكانوا يجتمعون في دويرة لهم .
وصار لهؤلاء من الكلام المحدث، طريق يتدينون به، مع تمسكهم بغالب الدين .
ولهؤلاء من التعبد المحدث، طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع، وصار لهؤلاء حال من السماع، والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه .
ولهؤلاء حال في الكلام والحروف، حتى خرجوا به إلى تفكير أوقعهم في تحير .
وهؤلاء أصل أمرهم الكلام .
وهؤلاء أصل أمرهم الإرادة .
وهؤلاء يقصدون بالكلام التوحيد، ويسمون نفوسهم الموحدين .
وهؤلاء يقصدون بالإرادة، التوحيد ويسمون نفوسهم أهل / التوحيد، والتجريد .
وقد كتبت قبل هذا في القواعد، ما في طريقي أهل الكلام، والنظر وأهل الإرادة والعمل من الانحراف، إذا لم يقترن بمتابعة الرسول . كما بينت في قاعدة كبيرة أن أصل العلم، والهدى، والدين هو : الإيمان باللّه ورسوله، واستصحاب ذلك في جميع الأقوال والأحوال .
وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء، وهؤلاء في القول والعمل، إذ لم ينحرفوا انحراف الطائفتين من الكوفيين والبصريين، هوى ورواية، ورأيا، وكلامًا، وسماعًا، وإن كان في بعضهم نوع انحراف لكن هم أقرب .(184/320)
وأما الشاميون، فكان غالبهم مجاهدين، وأهل أعمال قلبية، أقرب إلى الحال المشروع، من صوفية البصريين إذ ذاك .
ولهذا تجد كتب الكلام، والتصوف، إنما خرجت في الأصل من البصرة، فمتكلمة المعتزلة أئمتهم بصريون، مثل أبي الهذيل العلاف، وأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم، وأبي عبد اللّه . . . ، وأبي الحسين / البصري، وكذلك متكلمة الكلابية والأشعرية، كعبد اللّه بن سعيد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري وصاحبه أبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر بن الباقلاني وغيرهم .
وكذلك كتب المتصوفة ومن خلط التصوف بالحديث والكلام، ككتب الحارث بن أسد المحاسبي، وأبي الحسن بن سالم، وأبي سعيد الأعرابي وأبي طالب المكي .
وقد شرك هؤلاء من البغداديين، والخراسانيين، والشاميين خلق .
لكن الغرض أن الأصول من ثم .
كما أن علم النبوة، من الإيمان والقرآن، وما يتبع ذلك من الفقه والحديث وأعمال القلوب، إنما خرجت من الأمصار التي يسكنها جمهور أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهي الحرمان والعراقان والشام : المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام، وسائر الأمصار تبع .
فالقراء السبعة من هذه الأمصار، وكذلك أئمة أهل الحديث وأثبتهم أهل المدينة، وأهل البصرة، كالزهري ومالك، وكقتادة وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي .
/وأهل الكوفة فيهم الصادق، والكاذب .
وأهل الشام لم يكن فيهم كثير كاذب، ولا أئمة كبار في القراءة والحديث . وكذلك أئمة الفقهاء، فمالك عالم أهل المدينة، والثوري وأبو حنيفة وغيرهما من أهل الكوفة . وابن جريج وغيره من أهل مكة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد من أهل البصرة، والأوزاعي وطبقته بالشام، وقد قيل إن مالكًا إنما احتذى موطأه على كتاب حماد بن سلمة، وقيل : إن كتاب ابن جريج قبل ذلك .
ثم الشافعي، وإن كان أصله مكيًا، فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بمصره .(184/321)
وكذلك الإمام أحمد، وإن كان أجداده بصريين، فإنه تفقه على طريقة أهل الحديث غير متقيد بالبصريين، ولا غيرهم . كما أن عبد اللّه بن المبارك، وإسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وغيرهم من الخراسانيين، وكذلك أئمة الزهاد والعباد من هذه الأمصار، كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في [ صفوة الصفوة ] .
فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأما ما جاء عمن بعدهم، فلا ينبغي أن يجعل / أصلًا، وإن كان صاحبه معذورًا، بل مأجورًا، لاجتهاد أو تقليد .
فمن بنى الكلام في العلم : الأصول، والفروع على الكتاب والسنة، والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية، والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى .
تجد الإمام أحمد إذا ذكر أصول السنة، قال : هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
وكَتَبَ كُتُبَ التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين . وكتب الحديث والآثار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وعلى ذلك يعتمد في أصوله العلمية وفروعه، حتى قال في رسالته إلى خليفة وقته المتوكل : لا أحب الكلام في شيء من ذلك إلا ما كان في كتاب اللّه، أو في حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة أو التابعين، فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود .(184/322)
/وكذلك في الزهد والرقاق والأحوال، فإنه اعتمد في كتاب [ الزهد ] على المأثور عن الأنبياء، صلوات اللّه عليهم من آدم إلى محمد، ثم على طريق الصحابة والتابعين، ولم يذكر من بعدهم، وكذلك وصفه لآخذ العلم أن يكتب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن الصحابة، ثم عن التابعين . ـ وفي رواية أخرى ـ ثم أنت في التابعين مخير .
وله كلام في الكلام الكلامي . والرأي الفقهي وفي الكتب الصوفية، والسماع الصوفي ليس هذا موضعه . يحتاج تحريره إلى تفصيل، وتبيين كيفية استعماله في حال دون حال .
فإنه ينبني على الأصل، الذي قدمناه من أنه قد يقترن بالحسنات سيئات إما مغفورة، أو غير مغفورة، وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة، إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علمًا وعملًا . فإذا لم يحصل النور الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف . وإلا بقى الإنسان في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة . إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية، إذا خرج غيره عن ذلك؛ لما رآه في طرق الناس من الظلمة .
/وإنما قررت هذه القاعدة؛ ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه، ويعرف أن العدول عن كمال خلافة النبوة المأمور به شرعًا، تارة يكون لتقصير بترك الحسنات علمًا وعملًا، وتارة بعدوان بفعل السيئات علمًا وعملًا، وكل من الأمرين قد يكون عن غلبة، وقد يكون مع قدرة .
فالأول، قد يكون؛ لعجز وقصور، وقد يكون مع قدرة وإمكان .(184/323)
والثاني : قد يكون مع حاجة وضرورة، وقد يكون مع غنى وسعة، وكل واحد من العاجز عن كمال الحسنات، والمضطر إلى بعض السيئات معذور، فإن اللّه يقول : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، وقال : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ـ في البقرة والطلاق ـ وقال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف : 42 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ، وقال سبحانه : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، وقال : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] ، وقال : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وقال : { فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 173 ] ، وقال : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } [ الأحزاب : 5 ] .
/وهذا أصل عظيم وهو : أن تعرف الحسنة في نفسها علمًا وعملًا، سواء كانت واجبة أو مستحبة، وتعرف السيئة في نفسها علمًا وقولًا وعملًا، محظورة كانت، أو غير محظورة ـ إن سميت غير المحظورة سيئة ـ وإن الدين تحصيل الحسنات والمصالح، وتعطيل السيئات والمفاسد .
وإنه كثيرًا ما يجتمع في الفعل الواحد، أو في الشخص الواحد الأمران، فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما، فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية، لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية .(184/324)
فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومن سلكه كان قائمًا بالقسط الذي أنزل اللّه له الكتاب والميزان .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=199 - TOP#TOPفَصْل
ثم المتقدمون الذين وضعوا طرق الرأي والكلام والتصوف، وغير ذلك : كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب / والسنة والآثار؛ إذ العهد قريب، وأنوار الآثار النبوية بعد فيها ظهور، ولها برهان عظيم، وإن كان عند بعض الناس قد اختلط نورها بظلمة غيرها .
فأما المتأخرون، فكثير منهم جرد ما وضعه المتقدمون، مثل من صنف في الكلام من المتأخرين، فلم يذكر إلا الأصول المبتدعة وأعرض عن الكتاب والسنة، وجعلهما إما فرعين، أو آمن بهما مجملًا، أو خرج به الأمر إلى نوع من الزندقة، ومتقدمو المتكلمين خيرمن متأخريهم .
وكذلك من صنف في الرأي فلم يذكر إلا رأي متبوعه وأصحابه، وأعرض عن الكتاب والسنة، ووزن ماجاء به الكتاب والسنة على رأي متبوعه، ككثير من أتباع أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم .
وكذلك من صنف في التصوف والزهد، جعل الأصل ما روى عن متأخري الزهاد وأعرض عن طريق الصحابة والتابعين، كما فعل صاحب الرسالة أبوالقاسم القشيري، وأبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي، وابن خميس الموصلي في [ مناقب الأبرار ] ، وأبو عبد الرحمن السلمي في [ تاريخ الصوفية ] ، لكن أبوعبد الرحمن صنف أيضا [ سير السلف ] من الأولياء والصالحين . وسير الصالحين من السلف، كما صنف في سير الصالحين من الخلف ونحوهم، من ذكرهم لأخبار أهل / الزهد والأحوال، من بعد القرون الثلاثة، من عند إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ومن بعدهم، وإعراضهم عن حال الصحابة، والتابعين الذين نطق الكتاب والسنة بمدحهم، والثناء عليهم، والرضوان عنهم .(184/325)
وكان أحسن من هذا أن يفعلوا، كما فعله أبو نعيم الأصبهاني في [ الحلية ] من ذكره للمتقدمين والمتأخرين . وكذلك أبو الفرج بن الجوزي في [ صفوة الصفوة ] وكذلك أبو القاسم التيمي في [ سير السلف ] . . . ، وكذلك ابن أسد بن موسى، إن لم يصعدوا إلى طريقة عبد اللّه بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وهناد بن السرى وغيرهم في كتبهم في الزهد، فهذا هذا . واللّه أعلم وأحكم .
فإن معرفة أصول الأشياء ومبادئها . ومعرفة الدين وأصله، وأصل ما تولد فيه من أعظم العلوم نفعًا . إذ المرء ما لم يحط علمًا بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها، يبقى في قلبه حسكة .
وكان للزهاد، عدة أسماء : يسمون بالشام الجوعية، ويسمون بالبصرة الفقرية، والفكرية، ويسمون بخراسان المغاربة، ويسمون أيضًا الصوفية والفقراء .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=199 - TOP#TOPوالنسبة في الصوفية، إلى الصوف؛ لأنه غالب لباس الزهاد، وقد قيل هو نسبة إلى صوفة بن مراد بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون حول البيت . وأما من قال : هم نسبة إلى الصفة، فقد قيل : كان حقه أن يقال : صفية، وكذلك من قال : نسبة إلى الصفا، قيل له : كان حقه أن يقال : صفائية، ولو كان مقصورًا لقيل صفوية، وإن نسب إلى الصفوة قيل : صفوية . ومن قال : نسبة إلى الصف المقدم بين يدي اللّه . قيل له : كان حقه أن يقال : صفية، ولا ريب أن هذا يوجب النسبة والإضافة، إذا أعطى الاسم حقه من جهة العربية .
لكن التحقيق، أن هذه النسب إنما أطلقت على طريق الاشتقاق الأكبر والأوسط، دون الاشتقاق الأصغر، كما قال أبو جعفر : العامة اسم مشتق من العمى،فراعوا الاشتراك في الحروف دون الترتيب، وهو الاشتقاق الأوسط، أو الاشتراك في جنس الحروف دون أعيانها وهو الأكبر .
وعلى الأوسط قول نحاة الكوفيين الاسم، مشتق من السمة .(184/326)
وكذلك إذا قيل الصوفي من الصفا، وأما إذا قيل هو من الصفة أو الصف، فهو على الأكبر .
وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة، كأحمد بن حنبل، وغيره، / وقد تكلم به أبو سليمان الداراني وغيره، وأما الشافعي فالمنقول عنه ذم الصوفية، وكذلك مالك ـ فيما أظن ـ وقد خاطب به أحمد لأبي حمزة الخراساني، وليوسف بن الحسين الرازي، ولبدر ابن أبي بدر المغازلي، وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم، ومن العباد أيضًا من أصحاب أحمد، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأهل الحديث، والعباد، ومدحه آخرون .
والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم، كغيره من الطريق، وأن المذموم منه قد يكون اجتهاديا، وقد لا يكون، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد طوائف كثيرة، والقاعدة التي قدمتها تجمع ذلك كله، وفي المتسمين بذلك من أولياء اللّه وصفوته، وخيار عباده ما لا يحصى عده . كما في أهل الرأي من أهل العلم والإيمان من لا يحصى عدده إلا اللّّه . واللّّه ـ سبحانه ـ أعلم .
وبهذا يتبين لك أن البدعة في الدين، وإن كانت في الأصل مذمومة، كما دل عليه الكتاب والسنة، سواء في ذلك البدع القولية والفعلية . وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) متعين، وإنه يجب العمل بعمومه، وإن من أخذ يصنف [ البدع ] إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك / ذريعة إلى ألا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة والمتصوفة، والمتعبدة، إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع ادعوا ألا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال : كل ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة .
وما سمي بدعة، وثبت حسنه بأدلة الشرع، فأحد الأمرين، فيه لازم :(184/327)
إما أن يقال : ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة . كما قال عمر : نعمت البدعة هذه .
وإما أن يقال : هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح، كما يبقى فيما عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة وهذا قد قررته في اقتضاء الصراط المستقيم، وفي قاعدة السنة والبدعة، وغيره .
وإنما المقصود هنا، أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة، أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص، فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما / لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع، وقررته أيضًا في أصل التكفير والتفسيق المبني على أصل الوعيد .
فإن نصوص الوعيد، التي في الكتاب والسنة، ونصوص الأئمة بالتكفير، والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، لا فرق في ذلك بين الأصول، والفروع . هذا في عذاب الآخرة، فإن المستحق للوعيد من عذاب اللّه ولعنته وغضبه في الدار الآخرة، خالد في النار، أو غير خالد، وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق، يدخل في هذه القاعدة، سواء كان بسبب بدعة اعتقادية، أو عبادية، أو بسبب فجور في الدنيا، وهو الفسق بالأعمال .
فأما أحكام الدنيا، فكذلك أيضًا، فإن جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقًا بدعوتهم، إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة، وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة .
/وَهُنا قَاعِدةٌ شريفَة ينبغي التفطن لها وهى :
أن ما عاد من الذنوب بإضرار الغير في دينه ودنياه، فعقوبتنا له في الدنيا أكبر، وأما ما عاد من الذنوب بمضرة الإنسان في نفسه، فقد تكون عقوبته في الآخرة أشد، وإن كنا نحن لا نعاقبه في الدنيا .
وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس، فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان :(184/328)
أحدهما : منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط .
والثاني : فعل ما يضر به وهو العدوان . فالتفريط في حقوق العباد . . .
/ولهذا يعاقب الداعية إلى البدع، بما لا يعاقب به الساكت، ويعاقب من أظهر المنكر بما لا يعاقب به من استخفى به، ونمسك عن عقوبة المنافق في الدين، وإن كان في الدرك الأسفل من النار .
وهذا لأن الأصل، أن تكون العقوبة من فعل اللّه ـ تعالى ـ فإنه الذي يجزي الناس على أعمالهم في الآخرة، وقد يجزيهم أيضًا في الدنيا . وأما نحن، فعقوبتنا للعباد بقدر ما يحصل به أداء الواجبات، وترك المحرمات بحسب إمكاننا، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه ) وقال تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [ الأنفال : 39 ] ، وقال : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ } [ البقرة : 217 ] .
ولهذا من تاب من الكفار، والمحاربين، وسائر الفساق قبل القدرة عليه سقطت عنه العقوبة التي لحق اللّه، فإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه عصم دمه، وأهله، وماله، وكذلك قاطع الطريق، والزاني والسارق، والشارب إذا تابوا قبل القدرة عليهم؛ لحصول المقصود بالتوبة وأما إذا تابوا بعد القدرة لم تسقط العقوبة كلها؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الحدود وحصول الفساد؛ ولأن هذه التوبة غير موثوق بها؛ ولهذا إذا أسلم الحربي عند القتال صح إسلامه؛ لأنه أسلم قبل القدرة عليه، / بخلاف من أسلم بعد الأسر، فإنه لا يمنع استرقاقه وإن عصم دمه .(184/329)
ويبنى على هذه القاعدة : أنه قد يقر من الكفار والمنافقين، بلا عقوبة من يكون عذابه في الآخرة أشد، إذا لم يتعد ضرره إلى غيره، كالذين يؤتون الجزية عن يد وهم صاغرون، والذين أظهروا الإسلام والتزموا شرائعه ظاهرًا مع نفاقهم؛ لأن هذين الصنفين كفوا ضررهم في الدين والدنيا عن المسلمين، ويعاقبون في الآخرة على ما اكتسبوا من الكفر والنفاق، وأما من أظهر ما فيه مضرة فإنه تدفع مضرته ولو بعقابه وإن كان مسلمًا فاسقًا، أو عاصيًا، أو عدلًا مجتهدًا مخطئًا، بل صالحًا أو عالمًا سواء في ذلك المقدور عليه والممتنع .
مثال المقدور عليه إنما يعاقب من أظهر الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وشهادة الزور، وقطع الطريق، وغير ذلك لما فيه من العدوان على النفوس والأموال والأبضاع، وإن كان مع هذا حال الفاسق في الآخرة خيرًا من حال أهل العهد الكفار، ومن حال المنافقين، إذ الفاسق خير من الكافر والمنافق بالكتاب والسنة والإجماع .
وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم، وإن كان قد يكون معذورًا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد .
/وكذلك يجوز قتال البغاة : وهم الخارجون على الإمام، أو غير الإمام بتأويل سائغ مع كونهم عدولًا، ومع كوننا ننفذ أحكام قضائهم ونسوغ ما قبضوه من جزية أو خراج أو غيرذلك . إذ الصحابة لا خلاف في بقائهم على العدالة، وذلك أن التفسيق انتفى للتأويل السائغ . وأما القتال : فليؤدوا ما تركوه من الواجب، و ينتهوا عما ارتكبوه من المحرم، وإن كانوا متأولين .(184/330)
وكذلك نقيم الحد على من شرب النبيذ المختلف فيه، وإن كانوا قومًا صالحين، فتدبر كيف عوقب أقوام في الدنيا على ترك واجب، أو فعل محرم بين في الدين أو الدنيا، وإن كانوا معذورين فيه؛ لدفع ضرر فعلهم في الدنيا، كما يقام الحد على من تاب بعد رفعه إلى الإمام وإن كان قد تاب توبة نصوحًا، وكما يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم وفيهم المكره فيحشرون على نياتهم وكما يقاتل جيوش الكفار وفيهم المكره كأهل بدر لما كان فيهم العباس وغيره، وكما لو تترس الكفار بمسلمين ولم يندفع ضرر الكفار إلا بقتالهم، فالعقوبات المشروعة والمقدورة قد تتناول في الدنيا من لا يستحقها في الآخرة، وتكون في حقه من جملة المصائب كما قيل في بعضهم : القاتل مجاهد والمقتول شهيد .
وعلى هذا، فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع / يهجر، فلا يستشهد ولا يروي عنه، ولا يستفتى ولا يصلي خلفه، قد يكون من هذا الباب، فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبًا أو معذورًا، إذ الهجرة مقصودها أحد شيئين : إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله، فأما هجره بترك . . . في غير هذا الموضع .(184/331)
ومن هذا الباب : هجر الإمام أحمد للذين أجابوا في المحنة قبل القيد، ولمن تاب بعد الإجابة، ولمن فعل بدعة ما،مع أن فيهم أئمة في الحديث والفقه والتصوف والعبادة، فإن هجره لهم والمسلمين معه لا يمنع معرفة قدر فضلهم،كما أن الثلاثة الذين خلفوا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بهجرهم لم يمنع ذلك ما كان لهم من السوابق . حتى قد قيل أن اثنين منهما شهدا بدرًا،وقد قال اللّه لأهل بدر : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) وأحدهم كعب بن مالك شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وأحد أهل العقبة، فهذا أصل عظيم أن عقوبة الدنيا المشروعة من الهجران إلى القتل لا يمنع أن يكون المعاقب عدلًا، أو رجلًا صالحًا كما بينت من الفرق بين عقوبة الدنيا المشروعة والمقدورة، وبين عقوبة الآخرة،واللّه سبحانه أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=199 - TOP#TOPفَصْل
ومما يناسب هذا الباب قولهم : فلان يسلم إليه حاله، أو لا يسلم إليه حاله، فإن هذا كثيرًا ما يقع فيه النزاع فيما قد يصدر عن بعض المشائخ، والفقراء، والصوفية، من أمور يقال : إنها تخالف الشريعة، فمن يرى أنها منكرة وإن إنكار المنكر من الدين، ينكر تلك الأمور، وينكر على ذلك الرجل وعلى من أحسن به الظن ويبغضه ويذمه ويعاقبه، ومن رأي ما في ذلك الرجل من صلاح وعبادة، كزهد وأحوال، وورع، وعلم لا ينكرها بل يراها سائغة أو حسنة أو يعرض عن ذلك .
وقد يغلو كل واحد من هذين، حتى يخرج بالأول، إنكاره إلى التكفير والتفسيق في مواطن الاجتهاد، متبعًا لظاهر من أدلة الشريعة، ويخرج بالثاني إقراره إلى الإقرار بما يخالف دين الإسلام مما يعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بخلافه، اتباعًا في زعمه لما يشبه قصة موسى والخضر، والأول يكثر في الموسوية ومن انحرف منهم إلي يهودية والثاني يكثر في العيسوية ومن انحرف منهم إلى نصرانية .(184/332)
/والأول : كثيرًا ما يقع في ذوي العلم، لكن مقرونًا بقسوة وهوى .
والثاني : كثيرًا ما يقع في ذوي الرحمة، لكن مقرونًا بضلال وجهل .
فأما الأمة الوسط : فلهم العلم والرحمة، كما أخبر عن نفسه بقوله : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [ غافر : 7 ] ، وقال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] ، وقال : { إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } [ طه : 98 ] ، وكذلك وصف العبد الذي لقيه موسى حيث قال : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } [ الكهف : 65 ] .
والعدل في هذا الباب قولًا وفعلًا، أن تسليم الحال له معنيان :
أحدهما : رفع اللوم عنه بحيث لا يكون مذمومًا ولا مأثومًا . . .
والثاني : تصويبه علي ما فعل بحيث يكون محمودًا مأجورًا . فالأول عدم الذم والعقاب . والثاني : وجود الحمد والثواب . الأول : عدم سخط الله وعقابه، والثاني : وجود رضاه وثوابه؛ ولهذا / تجد المنكرين غالبًا في إثبات السخط والذم والعقاب، والمقرين في إثبات الرضا والحمد والثواب، وكلاهما قد يكون مخطئًا ويكون الصواب في أمر ثالث وسط، وهو أنه لا حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب .
وبيان ذلك : أن ذلك الأمر الصادر عنه سواء كان قولًا أو فعلًا، إذا علم أنه مخالف للكتاب والسنة، بحيث يكون قولًا باطلًا، أو عملًا محرمًا فإنه يعذر في موضعين :
أحدهما : عدم تمكنه من العلم به .
والثاني : عدم قدرته على الحق المشروع .
مثال الأول : أن يكون صاحب الحال مولها مجنونًا، قد سقط عنه القلم، فهذا إذا قيل فيه : يسلم له حاله، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب، لا بمعنى تصويبه فيه، كما يقال في سائر المجانين فهو صحيح .
وإن عنى به أن ذلك القول صواب فهذا خطأ .(184/333)
وكذلك إذا كان ذلك الحال صادرًا عنه باجتهاد، كمسائل الاجتهاد المتنازع فيها بين أهل العلم والدين . فإن هذا إذا قيل : يسلم إليه حاله، كما يقال : يقر على اجتهاده، بمعنى أنه لا يذم ولا يعاقب فهو صحيح .
/وأما إذا قيل ذلك بمعنى أنه صواب، أو صحيح، فلابد من دليل على تصويبه، وإلا فمجرد القول، أو الفعل الصادر من غير الرسول، ليس حجة على تصويب القائل أو الفاعل، فإذا علم أن ذلك الاجتهاد خطأ كان تسليم حاله بمعني رفع الذم عنه، لا بمعنى إصابته وكذلك إذا أريد بتسليم حاله وإقراره، أنه يقر على حكمه، فلا ينقض، أو على فتياه، فلا تنكر أو على جواز اتباعه لمن هو من أهل تقليده واتباعه، بأن للقاصرين أن يقلدوا ويتبعوا من يسوغ تقليده، واتباعه من العلماء والمشايخ، فيما لم يظهر لهم أنه خطأ، لكن بعض هذا يدخل في القسم الثاني، الذي لم يعلم مخالفته للشريعة .
وتسليم الحال في مثل هذا إذا عرف أنه معذور، أو عرف أنه صادق في طريقه، وإن هذا الأمر قد يكون اجتهادًا منه، فهذه ثلاثة مواضع يسلم إليه فيها حاله؛ لعدم تمكنه من العلم، وخفاء الحق عليه فيها على وجه يعذر به .
ومثال الثاني : عدم قدرته ـ أن يرد عليه من الأحوال ما يضطره إلى أن يخرق ثيابه، أو يلطم وجهه، أو يصيح صياحًا منكرًا، أو يضطرب اضطرابًا شديدًا . فهذا إذا عرف أن سبب ذلك لم يكن محرمًا، وأنه مغلوب عليه سلم إليه حاله، وإن شك هل هو مغلوب، أو متصنع، فإن عرف منه الصدق، قيل : هذا يسلم إليه حاله، / وإن عرف كذبه أنكر عليه، وإن شك فيه توقف في التسليم والإنكار، حتى يتبين أمره، كما يفعل بمن شهد شهادة، أو اتهم بسرقة . فإن ظهر صدقه وعدله قبلت الشهادة ودفعت إليهم، وإن ظهر كذبه وخيانته ردت الشهادة، وعوقب على السرقة، وإن اشتبه الأمر توقف فيه؛ فإن المؤمن وقاف متبين، هكذا قال الحسن البصري .(184/334)
وكذلك إذا ترك الواجبات مظهرًا أنه مغلوب لا يقدر على فعلها، مثل أن يترك الصلاة مظهرًا أنه بمنزلة المغمى عليه، والنائم الذي لا يتمكن من فعلها . كما قد يعترى بعض المصعوقين من وارد خوف الله، أو محبته، أو نحو ذلك بحيث يسقط تمييزه، فلا يمكنه الصلاة، فهو فيما يتركه من الواجبات نظير ما يرتكبه من المحرمات، فتسليم الحال بمعني عدم اللوم قد يراد به الحكم بأنه معذور، وقد يراد به ترك الحكم بأنه ملوم .
هذا فيما يعلم من الأقوال والأفعال أنه مخالف للشرع بلا ريب، كالشطحات المأثورة عن بعض المشائخ، كقول ابن هود : إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على جهنم، وكون الشبلي كان يحلق لحيته ويمزق ثيابه حتي أدخلوه المارستان مرتين، وما يحكى عن بعضهم أنه قال : إذا كانت لك حاجة فتعال إلى قبري واستغث به، وكترك آخر صلاة الجمعة خلف إمام صالح، لكونه دعًا لسلطان وقته وسماه العادل،وترك آخر الصلاة خلف إمام؛ لما كوشف به من حديث نفسه، وما يحكي عن عقلاء / المجانين الذين قيل فيهم : إن الله أعطاهم عقولًا وأحوالا فسلب عقولهم وترك أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب .(184/335)
فجماع هذا : أن هذه الأمور تعطى حقها من الكتاب والسنة . فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر، والأمر والنهي وجب اتباعه، ولم يلتفت إلى من خالفه كائنًا من كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك كائنًا من كان، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من اتباع الرسول وطاعته، وإن الرجل الذي صدر عنه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة بأن يكون مسلوب العقل، أو ساقط التمييز أو مجتهدًا مخطئًا اجتهادًا قوليًا أو عمليًا، أو مغلوبًا على ذلك الفعل أو الترك بحيث لا يمكنه رد ما صدر عنه من الفعل المنكر بلا ذنب فعله، ولا يمكنه أداء ذلك الواجب بلا ذنب فعله، ويكون هذا الباب نوعه محفوظًا بحيث لا يتبع ما خالف الكتاب والسنة ولا يجعل ذلك شرعة ولا منهاجًا، بل لا سبيل إلى الله ولا شرعة إلا ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما الأشخاص الذين خالفوا بعض ذلك على الوجوه المتقدمة فيعذرون، ولا يذمون، ولا يعاقبون . فإن كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما من الأئمة إلا من له أقوال، وأفعال لا يتبع عليها، مع أنه لا يذم عليها، وأما الأقوال والأفعال التي لم يعلم قطعًا مخالفتها للكتاب والسنة، بل / هي من موارد الاجتهاد التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها؛ لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم، فيلتحق من وجه بالقسم الأول . ومن وجه بالقسم الثاني .
وقد تكون اجتهادية عنده أيضًا، فهذه تسلم لكل مجتهد، ومن قلده طريقهم تسليمًا نوعيا، بحيث لا ينكر ذلك عليهم، كما سلم في القسم الأول تسليمًا شخصيًا .(184/336)
وأما الذي لا يسلم إليه حاله : فمثل أن يعرف منه أنه عاقل يتوله ليسقط عنه اللوم، ككثير من المنتسبة إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي، واليونسية فيما يأتونه من المحرمات، ويتركونه من الواجبات، أو يعرف منه أنه يتواجد ويتساكر في وجده ليظن به خيرًا، ويرفع عنه الملام فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه أن الحق قد تبين له، وأنه متبع لهواه، أو يعرف منه تجويز الانحراف عن موجب الشريعة المحمدية، وأنه قد يتفوه بما يخالفها، وأن من الرجال من قد يستغنى عن الرسول أو له أن يخالفه، أو أن يجري مع القدر المحض المخالف للدين، كما يحكى بعض الكذابين الضالين : أن أهل الصفة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار لما انهزم أصحابه وقالوا : نحن مع الله، من غلب كنا معه، وأنه صبيحة الإسراء سمع منه ما جرى بينه وبين ربه من المناجاة / وأنه تواجد في السماء، حتى وقع الرداء عنه، وأن السر الذي أوصى إليه أودعه في أرض نبت فيها اليراع فصار في الشبابة بمعنى ذلك السر، أو يسوغ لأحد بعد محمد الخروج عن شريعته، كما ساغ للخضر الخروج عن أمر موسى، فإنه لم يكن مبعوثًا إليه كما بعث محمد إلى الناس كافة . فهؤلاء ونحوهم ممن يخالف الشريعة، ويبين له الحق فيعرض عنه، يجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب .
وكذلك ـ أيضًا ـ ينكر علي من اتبع الأولين المعذورين في أقوالهم، وأفعالهم المخالفة للشرع، فإن العذر الذي قام بهم منتف في حقه فلا وجه لمتابعته فيه .(184/337)
ومن اشتبه أمره من أي القسمين هو : توقف فيه، فإن الإمام إن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة، لكن لا يتوقف في رد ما خالف الكتاب والسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد ) . فلا يسوغ الخروج عن موجب العموم والإطلاق في الكتاب والسنة بالشبهات، ولا يسوغ الذم والعقوبة بالشبهات، ولا يسوغ جعل الشىء حقًا، أو باطلًا أو صوابًا، أو خطأ بالشبهات، والله يهدينا الصراط المستقيم : صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
/وبقيت هنا المسألة التي تشتبه غالبًا، وهو أن يظهر من بعض الرجال المجهول الحال، أمر مخالف للشرع في الظاهر، ويجوز أن يكون معذورًا فيه عذرًا شرعيًا . مثل وجد خرج فيه عن الشرع، لا يدري أهو صادق فيه أم متصنع، وأخذ مال بغير إذن صاحبه في الظاهر، مع تجويز أن يكون علم طيب قلب صاحبه به، فهذا إن قيل : ينكر عليه جاز أن يكون معذورًا، وإن قيل : لا ينكر عليه لزم إقرار المجهولين على مخالفة الشرع في الظاهر، فالواجب في مثل هذا أن يخاطب صاحبه أولا برفق، ويقال له : هذا في الظاهر منكر، وأما في الباطن، فأنت أمين الله على نفسك، فأخبرنا بحالك فيه أولا تظهره حيث يكون إظهاره فتنة، وتسلك في ذلك طريقة لا تفضي إلى إقرار المنكرات، ولا لوم البرآء .
والضابط أن من عرف من عادته الصدق، والأمانة أقر على ما لم يعلم أنه كذب وحرام، ومن عرف منه الكذب أو الخيانة، لم يقر على المجهول، وأما المجهول فيتوقف فيه .
/وقال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام، بقية السلف الكرام، العالم الرباني، المقذوف في قلبه النور القرآني، أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني ـ قدس الله روحه، ونور ضريحه، وأسكنه فسيح الجنان :(184/338)
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده و رسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله و كفى بالله شهيدًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله مخلصًا حتى أتاه اليقين من ربه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين .
فصل
في العبادات و الفرق بين شرعيها وبدعيها
فإن هذا باب كثر فيه الاضطراب، كما كثر في باب الحلال والحرام، فإن أقوامًا استحلوا بعض ما حرمه الله، وأقوامًا حرموا بعض ما أحل الله ـ تعالى ـ وكذلك أقوامًا أحدثوا عبادات لم يشرعها الله، بل نهى عنها .
وأصل الدين : أن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله . قال الله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] .
وفي حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطًا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال : ( هذه سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو / إليه ) ، ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } .(184/339)
وقد ذكر الله تعالي في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما ما ذم به المشركين حيث حرموا ما لم يحرمه الله ـ تعالى ـ كالبحيرة، والسائبة ؛ واستحلوا ما حرمه الله كقتل أولادهم، وشرعوا دينا لم يأذن به الله، فقال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ، ومنه أشياء هي محرمة جعلوها عبادات، كالشرك والفواحش، مثل الطواف بالبيت عراة وغير ذلك .
والكلام في الحلال والحرام له مواضع أخر .
والمقصود هنا العبادات فنقول :
العبادات التي يتقرب بها إلى الله ـ تعالى ـ منها ما كان محبوبًا لله ورسوله مرضيًا لله ورسوله، إما واجب وإما مستحب، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروى عن ربه ـ تبارك وتعالى : ( ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، / فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، و ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ) .
ومعلوم أن الصلاة منها فرض، وهي الصلوات الخمس، ومنها نافلة، كقيام الليل، وكذلك الصيام فيه فرض، وهو صوم شهر رمضان، ومنه نافلة كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكذلك السفر إلى المسجد الحرام فرض وإلى المسجدين الآخرين ـ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وبيت المقدس ـ مستحب .
وكذلك الصدقة، منها ما هو فرض، ومنها ما هو مستحب، وهو العفو، كما قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] .(184/340)
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يابن آدم، إنك إن تنفق الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ) ، والفرق بين الواجب، والمستحب له موضع آخر غير هذا، والمقصود هنا الفرق بين ما هو مشروع، سواء كان واجبًا، أو مستحبًا، وما ليس بمشروع .
فالمشروع هو الذي يتقرب به إلى الله ـ تعالى ـ وهو سبيل الله، / وهو البر والطاعة والحسنات، والخير، والمعروف، وهو طريق السالكين، ومنهاج القاصدين، والعابدين، وهو الذي يسلكه كل من أراد الله هدايته، وسلك طريق الزهد والعبادة، وما يسمى بالفقر والتصوف، ونحو ذلك .
ولا ريب أن هذا يدخل فيه الصلوات المشروعة، واجبها، ومستحبها، ويدخل في ذلك قيام الليل المشروع، وقراءة القرآن على الوجه المشروع، والأذكار والدعوات الشرعية، وما كان من ذلك موقتًا بوقت كطرفي النهار، وما كان متعلقًا بسبب، كتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستخارة، وما ورد من الأذكار، والأدعية الشرعية في ذلك . وهذا يدخل فيه أمور كثيرة، وفي ذلك من الصفات ما يطول وصفه، وكذلك يدخل فيه الصيام الشرعي، كصيام نصف الدهر، وثلثه أو ثلثيه، أو عشره، وهو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ويدخل فيه السفر الشرعي، كالسفر إلى مكة وإلى المسجدين الآخرين، ويدخل فيه الجهاد على اختلاف أنواعه، وأكثر الأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد، ويدخل فيه قراءة القرآن على الوجه المشروع .(184/341)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=200 - TOP#TOPوالعبادات الدينية أصولها : الصلاة والصيام والقراءة التي جاء ذكرها في الصحيحين في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، لما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال : ( ألم أحدث أنك قلت : لأصومن / النهار، ولأقومن الليل، ولأقرأن القرآن في ثلاث ؟ ) قال : بلى ! قال : ( فلا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هَجَمَتْ له العين، ونَفِهَتْ له النفس ) ، ثم أمره بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال : إني أطيق أكثر من ذلك، فانتهى به إلى صوم يوم وفطر يوم، فقال : إني أطيق أكثر من ذلك، فقال : ( لا أفضل من ذلك ) ، وقال : ( أفضل الصيام صيام داود ـ عليه السلام ـ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى، وأفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأمره أن يقرأ القرآن في سبع ) .
ولما كانت هذه العبادات هي المعروفة، قال في حديث الخوارج الذي في الصحيحين : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة ) فذكر اجتهادهم بالصلاة والصيام والقراءة، وأنهم يغلون في ذلك، حتى تحقر الصحابة عبادتهم في جنب عبادة هؤلاء .
وهؤلاء غلوا في العبادات بلا فقه، فآل الأمر بهم إلى البدعة، فقال : ( ىمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة ) . فإنهم قد استحلوا دماء المسلمين، وكفروا من خالفهم، وجاءت فيهم الأحاديث / الصحيحة، قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ : صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، وقد أخرجها مسلم في صحيحه وأخرج البخاري قطعة منها .(184/342)
ثم هذه الأجناس الثلاثة مشروعة، ولكن يبقى الكلام في القدر المشروع منها، وله صنف كتاب [ الاقتصاد في العبادة ] . وقال أبي بن كعب، وغيره : اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة .
والكلام في سرد الصوم وصيام الدهر سوى يومي العيدين، وأيام التشريق، وقيام جميع الليل، هل هو مستحب ؟ كما ذهب إلى ذلك طائفة من الفقهاء، والصوفية والعباد، أو هو مكروه ـ كما دلت عليه السنة وإن كان جائزًا ؟ لكن صوم يوم وفطر يوم أفضل، وقيام ثلث الليل أفضل، ولبسطه موضع آخر .
إذ المقصود هنا الكلام في أجناس عبادات غير مشروعة، حدثت في المتأخرين كالخلوات فإنها تشتبه بالاعتكاف الشرعي، والاعتكاف الشرعي في المساجد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه، من العبادات الشرعية .
وأما الخلوات، فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي، وهذا خطأ، / فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة، فنحن مأمورون باتباعه فيه، وإلا فلا . وهو من حين نبأه الله ـ تعالى ـ لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون . وقد أقام ـ صلوات الله عليه ـ بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ودخل مكة في عمرة القضاء، وعام الفتح أقام بها قريبًا من عشرين ليلة، وأتاها في حجة الوداع، وأقام بها أربع ليال، وغار حراء قريب منه، ولم يقصده .(184/343)
وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية، ويقال : إن عبد المطلب هو سن لهم إتيانه؛ لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة ـ صلوات الله عليه ـ كالصلاة والاعتكاف في المساجد، فهذه تغني عن إتيان حراء بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي، فإنه لم يكن يقرأ، بل قال له الملك ـ عليه السلام ـ : اقرأ . قال ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ : ( فقلت : لست بقارئ ) ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة ! ولهذا لما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنها من نهاه من المشركين، كأبي جهل، قال الله تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى . عَبْدًا إِذَا صَلَّى . أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى . أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى . أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى . أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى . كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ . نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ . فَلْيَدْعُ نَادِيَه . سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ . كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [ العلق : 9 ـ 19 ] .
وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يومًا، ويعظمون أمر الأربعينية، / ويحتجون فيها بأن الله ـ تعالى ـ واعد موسى ـ عليه السلام ـ ثلاثين ليلة وأتمها بعشر . وقد روى أن موسى ـ عليه السلام ـ صامها وصام المسيح أيضًا أربعين لله ـ تعالى ـ وخوطب بعدها . فيقولون يحصل بعدها الخطاب والتنزل، كما يقولون في غار حراء حصل بعده نزول الوحي .
وهذا أيضًا غلط، فإن هذه ليست من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بل شرعت لموسى ـ عليه السلام ـ كما شرع له السبت والمسلمون لا يسبتون، وكما حرم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى الله عليه وسلم . فهذا تمسك بشرع منسوخ، و ذاك تمسك بما كان قبل النبوة .(184/344)
وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين، وحصل له تنزل شيطاني، وخطاب شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عددًا طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل، فنزلت عليهم الشياطين؛ لأنهم خرجوا عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمروا بها . قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 18، 19 ] .
وكثير منهم لا يحد للخلوة مكانًا، ولا زمانًا، بل يأمر الإنسان أن يخلو في الجملة .
/ثم صار أصحاب الخلوات فيهم من يتمسك بجنس العبادات الشرعية، الصلاة والصيام، والقراءة والذكر . وأكثرهم يخرجون إلى أجناس غير مشروعة، فمن ذلك طريقة أبي حامد ومن تبعه، وهؤلاء يأمرون صاحب الخلوة ألا يزيد على الفرض، لا قراءة ولا نظرًا في حديث نبوي، ولا غير ذلك، بل قد يأمرونه بالذكر، ثم قد يقولون ما يقوله أبو حامد : ذكر العامة : لا إله إلا الله، وذكر الخاصة : الله، الله، وذكر خاصة الخاصة : هو، هو .
والذكر بالاسم المفرد مظهرًا، ومضمرًا بدعة في الشرع، وخطأ في القول واللغة، فإن الاسم المجرد ليس هو كلامًا لا إيمانًا ولا كفرًا .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ) . وفي حديث آخر : ( أفضل الذكر لا إله إلا الله ) ، وقال : ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ) . والأحاديث في فضل هذه الكلمات كثيرة صحيحة .(184/345)
وأما ذكر الاسم المفرد، فبدعة لم يشرع، وليس هو بكلام يعقل ولا فيه إيمان؛ ولهذا صار بعض من يأمر به من المتأخرين يبين أنه ليس / قصدنا ذكر الله ـ تعالى ـ ولكن جمع القلب على شيء معين حتي تستعد النفس لما يرد عليها، فكان يأمر مريده بأن يقول هذا الاسم مرات، فإذا اجتمع قلبه ألقى عليه حالًا شيطانيًا، فيلبسه الشيطان، ويخيل إليه أنه قد صار في الملأ الأعلى، وأنه أعطى ما لم يعطه محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ولا موسى ـ عليه السلام ـ يوم الطور، وهذا وأشباهه وقع لبعض من كان في زماننا .
وأبلغ من ذلك من يقول : ليس مقصودنا إلا جمع النفس بأي شيء كان، حتي يقول : لا فرق بين قولك : يا حي ! وقولك : يا جحش ! وهذا مما قاله لي شخص منهم، وأنكرت ذلك عليه، ومقصودهم بذلك أن تجتمع النفس حتى يتنزل عليها الشيطان .
ومنهم من يقول : إذا كان قصد وقاصد، ومقصود، فاجعل الجميع واحدًا، فيدخله في أول الأمر في وحدة الوجود .
وأما أبو حامد، وأمثاله ممن أمروا بهذه الطريقة، فلم يكونوا يظنون أنها تفضي إلى الكفر لكن ينبغي أن يعرف أن البدع بريد الكفر، ولكن أمروا المريد أن يفرغ قلبه من كل شيء، حتى قد يأمروه أن يقعد في مكان مظلم ويغطي رأسه ويقول : الله، الله . وهم يعتقدون أنه إذا فرغ قلبه استعد بذلك فينزل على قلبه من المعرفة ما هو المطلوب، بل / قد يقولون : إنه يحصل له من جنس ما يحصل للأنبياء .(184/346)
ومنهم من يزعم أنه حصل له أكثر مما حصل للأنبياء، وأبو حامد يكثر من مدح هذه الطريقة في [ الإحياء ] وغيره، كما أنه يبالغ في مدح الزهد، وهذا من بقايا الفلسفة عليه . فإن المتفلسفة، كابن سينا، وأمثاله يزعمون أن كل ما يحصل في القلوب من العلم للأنبياء وغيرهم فإنما هو من العقل الفعال؛ ولهذا يقولون : النبوة مكتسبة، فإذا تفرغ صفى قلبه ـ عندهم ـ وفاض على قلبه من جنس ما فاض على الأنبياء . وعندهم أن موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم كلم من سماء عقله، لم يسمع الكلام من خارج؛ فلهذا يقولون : إنه يحصل لهم مثل ما حصل لموسى، وأعظم مما حصل لموسى .
وأبو حامد يقول : إنه سمع الخطاب، كما سمعه موسى ـ عليه السلام ـ وإن لم يقصد هو بالخطاب، وهذا كله ؛ لنقص إيمانهم بالرسل وأنهم آمنوا ببعض ما جاءت به الرسل وكفروا ببعض، وهذا الذي قالوه باطل من وجوه :
أحدها : أن هذا الذي يسمونه : العقل الفعال، باطل لا حقيقة له كما قد بسط هذا في موضع آخر .
الثاني : أن ما يجعله الله في القلوب يكون تارة بواسطة الملائكة / إن كان حقًا، وتارة بواسطة الشياطين، إذا كان باطلًا . والملائكة، والشياطين أحياء ناطقون، كما قد دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من جهة الأنبياء، وكما يدعي ذلك من باشره من أهل الحقائق . وهم يزعمون أن الملائكة، والشياطين صفات لنفس الإنسان فقط . وهذا ضلال عظيم .
الثالث : أن الأنبياء جاءتهم الملائكة من ربهم بالوحي، ومنهم من كلمه الله ـ تعالى ـ فقربه وناداه، كما كلم موسى ـ عليه السلام ـ لم يكن ما حصل لهم مجرد فيض، كما يزعمه هؤلاء .
الرابع : أن الإنسان إذا فرغ قلبه من كل خاطر . فمن أين يعلم أن ما يحصل فيه حق ؟ هذا إما أن يعلم بعقل، أو سمع، وكلاهما لم يدل على ذلك .(184/347)
الخامس : أن الذي قد علم بالسمع والعقل، أنه إذا فرغ قلبه من كل شيء حلت فيه الشياطين، ثم تنزلت عليه الشياطين، كما كانت تتنزل على الكهان، فإن الشيطان إنما يمنعه من الدخول إلى قلب ابن آدم ما فيه من ذكر الله، الذي أرسل به رسله، فإذا خلا من ذلك تولاه الشيطان، قال الله ـ تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36، 37 ] ، وقال الشيطان، فيما أخبر الله عنه : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، والمخلصون هم الذين يعبدونه وحده لا يشركون به شيئًا، وإنما يعبد الله بما أمر به على ألسنة رسله فمن لم يكن كذلك تولته الشياطين .
وهذا باب دخل فيه أمر عظيم على كثير من السالكين، واشتبهت عليهم الأحوال الرحمانية بالأحوال الشيطانية، وحصل لهم من جنس ما يحصل للكهان والسحرة، وظنوا أن ذلك من كرامات أولياء الله المتقين، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
السادس : أن هذه الطريقة لو كانت حقًا، فإنما تكون في حق من لم يأته رسول، فأما من أتاه رسول وأمر بسلوك طريق، فمن خالفه ضل، وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، قد أمر أمته بعبادات شرعية من صلاة، وذكر، ودعاء، وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب من كل خاطر، وانتظار ما ينزل .(184/348)
فهذه الطريقة لو قدر أنها طريق لبعض الأنبياء، لكانت منسوخة بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف وهي طريقة جاهلية لا توجب الوصول إلى المطلوب إلا بطريق الاتفاق، بأن يقذف الله ـ تعالى ـ في قلب / العبد إلهامًا ينفعه ؟ وهذا قد يحصل لكل أحد ليس هو من لوازم هذه الطريق .
ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله، ويدخل فيه خوف الله ـ تعالى ـ وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله . وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، لا ينقاضه وينافيه، كما قال جندب وابن عمر : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا .
وأما الاقتصار على الذكر المجرد الشرعي، مثل قول : لا إله إلا الله، فهذا قد ينتفع به الإنسان أحيانًا، لكن ليس هذا الذكر وحده هو الطريق إلى الله ـ تعالى ـ دون ما دعاه، بل أفضل العبادات البدنية الصلاة، ثم القراءة، ثم الذكر، ثم الدعاء، والمفضول في وقته الذي شرع فيه أفضل من الفاضل، كالتسبيح في الركوع، والسجود، فإنه أفضل من القراءة، وكذلك الدعاء في آخر الصلاة أفضل من القراءة، ثم قد يفتح على الإنسان في العمل المفضول، ما لا يفتح عليه في العمل الفاضل . وقد ييسر عليه هذا دون هذا، فيكون هذا أفضل في حقه لعجزه عن الأفضل، كالجائع إذا وجد الخبز المفضول متيسرًا عليه، والفاضل متعسرًا / عليه فإنه ينتفع بهذا الخبز المفضول، وشبعه واغتذاؤه به حينئذ أولى به .(184/349)
السابع : أن أبا حامد يشبه ذلك بنقش أهل الصين والروم على تزويق الحائط، وأولئك صقلوا حائطهم حتى تمثل فيه ما صقله هؤلاء، وهذا قياس فاسد؛ لأن هذا الذي فرغ قلبه لم يكن هناك قلب آخر يحصل له به التحلية، كما حصل لهذا الحائط من هذا الحائط . بل هو يقول إن : العلم منقوش في النفس الفلكية، ويسمى ذلك [ اللوح المحفوظ ] تبعًا لابن سينا .
وقد بينا في غير هذا الموضع أن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله ورسوله ليس هو النفس الفلكية، وابن سينا ومن تبعه أخذوا أسماء جاء بها الشرع، فوضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم يقصدون بها ما قصده صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، وكسوه لحاء الشريعة .
وهذا كلفظ المُلْكِ، والملكوت، والجبروت، و اللوح المحفوظ، والملك، والشيطان، والحدوث، والقدم وغير ذلك .
/وقد ذكرنا من ذلك طرفًا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين وابن عربي وما يوجد في كلام أبي حامد، ونحوه من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة الذين يحرفون كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت طائفة القرامطة الباطنية .
والمقصود هنا أنه لو كانت العلوم تنزل على القلوب من النفس الفلكية، كما يزعم هؤلاء، فلا فرق في ذلك بين الناظر والمستدل والمفرغ قلبه، فتمثيل ذلك بنقش أهل الصين والروم تمثيل باطل .
ومن أهل هذه الخلوات من لهم أذكار معينة وقوت معين، ولهم تنزلات معروفة، وقد بسط الكلام عليها ابن عربي الطائي ومن سلك سبيله، كالتلمساني، وهي تنزلات شيطانية قد عرفتها وخبرت ذلك من وجوه متعددة، لكن ليس هذا موضع بسطها، وإنما المقصود التنبيه على هذا الجنس .(184/350)
ومما يأمرون به الجوع والسهر والصمت مع الخلوة بلا حدود شرعية، بل سهر مطلق، وجوع مطلق، وصمت مطلق مع الخلوة، كما ذكر ذلك ابن عربي وغيره، وهي تولد لهم أحوالًا شيطانية، و أبو طالب قد ذكر بعض ذلك، لكن أبو طالب أكثر اعتصامًا بالكتاب والسنة من هؤلاء . ولكن يذكر أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة . / من جنس أحاديث المسبعات التي رواها عن الخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كذب محض، وإن كان ليس فيه إلا قراءة قرآن، ويذكر أحيانًا عبادات بدعية من جنس ما بالغ في مدح الجوع هو، وأبو حامد وغيرهما، وذكروا أنه يزن الخبز بخشب رطب، كلما جف نقص الأكل .
وذكروا صلوات الأيام والليالي، وكلها كذب موضوعة؛ ولهذا قد يذكرون مع ذلك شيئًا من الخيالات الفاسدة، وليس هذا موضع بسط ذلك .
وإنما الغرض التنبيه بهذا علي جنس من العبادات البدعية، وهي : [ الخلوات البدعية ] سواء قدرت بزمان، أو لم تقدر؛ لما فيها من العبادات البدعية، أما التي جنسها مشروع، ولكن غير مقدرة وأما ما كان جنسه غير مشروع، فأما الخلوة، والعزلة، والانفراد المشروع، فهو ما كان مأمورًا به أمر إيجاب، أو استحباب :(184/351)
فالأول : كاعتزال الأمور المحرمة، ومجانبتها، كما قال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ] ، ومنه قوله تعالى عن الخليل : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [ مريم : 49 ] ، و قوله عن أهل / الكهف : { وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } [ الكهف : 16 ] ، فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة، ولا من يأمر بشرع نبي ؛ فلهذا أووا إلى الكهف، وقد قال موسى : { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي } [ الدخان : 21 ] .
وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع، وذلك بالزهد فيه، فهو مستحب، وقد قال طاووس : نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره، وسمعه .
وإذا أراد الإنسان تحقيق علم، أو عمل، فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة، فهذا حق كما في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الناس أفضل ؟ قال : ( رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويدع الناس إلا من خير ) .
وقوله : ( يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ) دليل على أن له مالا يزكيه، وهو ساكن مع ناس يؤذن بينهم وتقام الصلاة فيهم، فقد قال صلوات الله عليه : ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة جماعة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان ) وقال : ( عليكم بالجماعة، فإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم ) .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=200 - TOP#TOPفَصْل(184/352)
وهذه الخلوات، قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان، ولا إقامة، ولا مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس، إما مساجد مهجورة، وإما غير مساجد، مثل الكهوف، والغيران التي في الجبال، ومثل المقابر لا سيما قبر من يحسن به الظن، ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي، أو رجل صالح؛ ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية، يظنون أنها كرامات رحمانية .
فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه، وقد مات من سنين كثيرة، ويقول : أنا فلان، وربما قال له : نحن إذا وضعنا في القبر خرجنا، كما جرى للتونسي مع نعمان السلامي .
والشياطين كثيرًا ما يتصورون، بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف فتقول : أنا الشيخ فلان، أو العالم فلان، وربما قالت : أنا أبو بكر وعمر وربما أتى في اليقظة دون المنام، وقال : أنا المسيح، أنا موسى، أنا محمد، وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها، / وثم من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم، وثم شيوخ لهم زهد، وعلم، وورع، ودين يصدقون بمثل هذا .
ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي، أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه . ومن هؤلاء من رأى في دائرة ذرى الكعبة صورة شيخ، قال : إنه إبراهيم الخليل، ومنهم من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلمه، وجعلوا هذا من كراماته، ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه .(184/353)
وبعضهم كان يحكي : أن ابن منده، كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك، وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك : ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ؟ فهل في هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت وأجابه ؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم ؟ وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه، فهلا سألته فأجابها ؟
فَصْل
والأنبياء ـ صلوات اللّه عليهم وسلامه أجمعين ـ قد أمرنا أن نؤمن بما أوتوه، وأن نقتدي بهم، وبهداهم . قال تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] ، وقال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } [ الأنعام : 90 ] ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده، وقد نسخ بشرعه ما نسخه من شرع غيره، فلم يبق طريق إلى اللّه إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم فما أمر به من العبادات أمر إيجاب أو استحباب، فهو مشروع، وكذلك ما رغب فيه، وذكر ثوابه، وفضله .(184/354)
ولا يجوز أن يقال : إن هذا مستحب، أو مشروع، إلا بدليل شرعي، ولا يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف، لكن إذا ثبت أن العمل مستحب بدليل شرعي، وروى له فضائل بأسانيد ضعيفة، جاز أن تروى إذا لم يعلم أنها كذب، وذلك أن مقادير الثواب غير معلومة، فإذا روى في مقدار الثواب حديث لا يعرف أنه كذب، لم يجز أن يكذب /به، وهذا هو الذي كان الإمام أحمد بن حنبل، وغيره يرخصون فيه، وفي روايات أحاديث الفضائل . وأما أن يثبتوا أن هذا عمل مستحب مشروع بحديث ضعيف، فحاشا للّه، كما أنهم إذا عرفوا أن الحديث كذب، فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته إلا أن يبينوا أنه كذب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( من روى عني حديثًا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) .
وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد، فهو عبادة يشرع التأسي به فيه . فإذا خصص زمان أو مكان بعبادة، كان تخصيصه بتلك العبادة سنة؛ كتخصيصه العشر الأواخر بالاعتكاف فيها وكتخصيصه مقام إبراهيم بالصلاة فيه، فالتأسي به أن يفعل مثل ما فعل، على الوجه الذي فعل؛ لأنه فعل .(184/355)
وذلك إنما يكون بأن يقصد مثلما قصد، فإذا سافر لحج أو عمرة أو جهاد وسافرنا كذلك، كنا متبعين له، وكذلك إذا ضرب لإقامة حد، بخلاف من شاركه في السفر، وكان قصده غير قصده، أو شاركه في الضرب، وكان قصده غير قصده، فهذا ليس بمتابع له، ولو فعل فعلًا بحكم الاتفاق مثل نزوله في السفر بمكان، أو أن يفضل في إداوته ماء فيصبه في أصل شجرة، أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق ونحو ذلك، فهل يستحب قصد متابعته في ذلك ؟ كان ابن عمر يحب أن / يفعل مثل ذلك . وأما الخلفاء الراشدون، وجمهور الصحابة، فلم يستحبوا ذلك؛ لأن هذا ليس بمتابعة له، إذ المتابعة لابد فيها من القصد، فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل، بل حصل له بحكم الاتفاق كان في قصده غير متابع له، وابن عمر ـ رضي اللّه عنه ـ يقول : وإن لم يقصده، لكن نفس فعله حسن على أي وجه كان، فأحب أن أفعل مثله، إما لأن ذلك زيادة في محبته، وإما لبركة مشابهته له .
ومن هذا الباب : إخراج التمر في صدقة الفطر لمن ليس ذلك قوته، وأحمد قد وافق ابن عمر على مثل ذلك، ويرخص في مثل ما فعله ابن عمر، وكذلك رخص أحمد في التمسح بمقعده من المنبر اتباعًا لابن عمر، وعن أحمد في التمسح بالمنبر روايتان .
أشهرهما أنه مكروه، كقول الجمهور، وأما مالك وغيره من العلماء، فيكرهون هذه الأمور وإن فعلها ابن عمر، فإن أكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، لم يفعلها . فقد ثبت بالإسناد الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أنه كان في السفر فرآهم ينتابون مكانًا يصلون فيه، فقال : ما هذا ؟ قالوا : مكان صلى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فقال : أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد ؟ ! إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته فيه الصلاة فليصل فيه وإلا فليمض .(184/356)
/وهكذا للناس قولان، فيما فعله من المباحات على غير وجه القصد هل متابعته فيه مباحة فقط، أو مستحبة ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، كما قد بسط ذلك في موضعه، ولم يكن ابن عمر، ولا غيره من الصحابة يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها ويبيت فيها مثل بيوت أزواجه، ومثل مواضع نزوله في مغازيه، وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقط، وإن كان هو لم يقصد التعبد به، فأما الأمكنة نفسها، فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم منها، إلا ما عظمه الشارع .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=201 - TOP#TOPفَصل
وأهل العبادات البدعية، يزين لهم الشيطان تلك العبادات، ويبغض إليهم السبل الشرعية حتى يبغضهم في العلم والقرآن والحديث، فلا يحبون سماع القرآن والحديث، ولا ذكره، وقد يبغض إليهم حتى الكتاب، فلا يحبون كتابا، ولا من معه كتاب، ولو كان مصحفًا أو حديثًا، كما حكى النصراباذي أنهم كانوا يقولون : يدع علم الخرق، ويأخذ علم الورق، قال : وكنت أستر الواحى منهم، فلما كبرت احتاجوا إلى علمي .
وكذلك حكى السري السقطي : أن واحدًا منهم دخل عليه فلما رأى عنده محبرة وقلمًا خرج، ولم يقعد عنده، ولهذا قال سهل بن عبد / اللّه التستري : يا معشر الصوفية، لا تفارقوا السواد على البياض، فما فارق أحد السواد على البياض إلا تزندق . وقال الجنيد : علمنا هذا مبني على الكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن .(184/357)
وكثير من هؤلاء ينفر ممن يذكر الشرع، أو القرآن أو يكون معه كتاب أو يكتب، وذلك؛ لأنهم استشعروا أن هذا الجنس فيه ما يخالف طريقهم، فصارت شياطينهم تهربهم من هذا، كما يهرب اليهودي والنصراني ابنه أن يسمع كلام المسلمين حتى لا يتغير اعتقاده في دينه، وكما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم في آذانهم، ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلامه ولا يروه، وقال اللّه تعالى عن المشركين : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، وقال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 - 51 ] . وهم من أرغب الناس في السماع البدعي، سماع المعازف . ومن أزهدهم في السماع الشرعي سماع آيات اللّه ـ تعالى :
وكان مما زين لهم طريقهم، أن وجدوا كثيرًا من المشتغلين بالعلم والكتب معرضين عن عبادة اللّه ـ تعالى ـ وسلوك سبيله، إما اشتغالًا بالدنيا، وإما بالمعاصي وإما جهلا وتكذيبًا بما يحصل لأهل التأله والعبادة، فصار وجود هؤلاء مما ينفرهم، وصار بين الفريقين نوع تباغض يشبه / من بعض الوجوه ما بين أهل الملتين، هؤلاء يقولون : ليس هؤلاء على شيء، وهؤلاء يقولون : ليس هؤلاء على شيء، وقد يظنون أنهم يحصل لهم بطريقهم أعظم مما يحصل في الكتب .(184/358)
فمنهم من يظن أنه يلقن القرآن بلا تلقين، ويحكون أن شخصًا حصل له ذلك، وهذا كذب . نعم قد يكون سمع آيات اللّه، فلما صفى نفسه تذكرها فتلاها . فإن الرياضة تصقل النفس فيذكر أشياء كان قد نسيها، ويقول بعضهم أو يحكي أن بعضهم قال : أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت . وهذا يقع، لكن منهم من يظن أنَّ ما يلقي إليه من خطاب، أو خاطر هو من اللّه ـ تعالى ـ بلا واسطة، وقد يكون من الشيطان وليس عندهم فرقان يفرق بين الرحماني والشيطاني، فإن الفرق الذي لا يخطئ هو القرآن والسنة، فما وافق الكتاب والسنة، فهو حق . وماخالف ذلك، فهو خطأ .
وقد قال تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [ الزخرف : 36-38 ] .(184/359)
وذكر الرحمن هو ما أنزله على رسوله، قال تعالي : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] ، وقال تعالى : { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [ القلم : 52 ] ، وقال تعالى : / { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 123-126 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا . وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الإسراء : 9، 10 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } [ الشورى : 52، 53 ] ، وقال تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدٌِ } [ إبراهيم : 1 ] ، وقال تعالى : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 157 ] .(184/360)
ثم إن هؤلاء لما ظنوا أن هذا يحصل لهم من اللّه بلا واسطة، صاروا عند أنفسهم أعظم من اتباع الرسول . يقول أحدهم : فلان عطيته على يد محمد، وأنا عطيتي من اللّه بلا واسطة، ويقول أيضًا : فلان يأخذ عن الكتاب، وهذا الشيخ يأخذ عن اللّه، ومثل هذا .
وقول القائل : يأخذ عن اللّه، وأعطاني اللّه لفظ مجمل، فإن / أراد به الإعطاء والأخذ العام وهو الكوني الخلقي أي : بمشيئة اللّه وقدرته حصل لي هذا، فهو حق، ولكن جميع الناس يشاركونه في هذا، وذلك الذي أخذ عن الكتاب، هو أيضًا عن اللّه أخذ بهذا الاعتبار . والكفار من المشركين وأهل الكتاب أيضًا هم كذلك، وإن أراد أن هذا الذي حصل له هو مما يحبه اللّه، ويرضاه، ويقرب إليه، وهذا الخطاب الذي يلقي إليه هو كلام اللّه تعالى . فهنا طريقان :
أحدهما : أن يقال له : من أين لك أن هذا إنما هو من اللّه، لا من الشيطان، وإلقائه ووسوسته ؟ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم وينزلون عليهم، كما أخبر اللّه ـ تعالى ـ بذلك في القرآن، وهذا موجود كثيرًا في عباد المشركين، وأهل الكتاب، وفي الكهان، والسحرة، ونحوهم، وفي أهل البدع بحسب بدعتهم . فإن هذه الأحوال قد تكون شيطانية وقد تكون رحمانية، فلا بد من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والفرقان إنما هو الفرقان الذي بعث اللّه به محمدًا صلى الله عليه وسلم فهو { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1 ] ، وهوالذي فرق اللّه به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين طريق الجنة وطريق النار، وبين سبيل أولياء الرحمن وسبيل أولياء الشيطان، كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
/والمقصود هنا أنه يقال لهم : إذا كان جنس هذه الأحوال مشتركًا بين أهل الحق وأهل الباطل فلا بد من دليل يبين أن ما حصل لكم هو الحق .(184/361)
الطريق الثاني : أن يقال : بل هذا من الشيطان لأنه مخالف لما بعث اللّه به محمدًا صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه ينظر فيما حصل له وإلى سببه وإلى غايته، فإن كان السبب عبادة غير شرعية مثل أن يقال له : اسجد لهذا الصنم حتى يحصل لك المراد، أو استشفع بصاحب هذه الصورة حتى يحصل لك المطلوب، أو ادع هذا المخلوق واستغث به مثل أن يدعو الكواكب كما يذكرونه في كتب دعوة الكواكب، أو أن يدعو مخلوقًا، كما يدعو الخالق سواء كان المخلوق ملكًا، أو نبيًا، أو شيخًا، فإذا دعاه كما يدعو الخالق، سبحانه، إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة صار مشركا به، فحينئذ ما حصل له بهذا السبب حصل بالشرك، كما كان يحصل للمشركين .
وكانت الشياطين تتراءى لهم أحيانًا، وقد يخاطبونهم من الصنم ويخبرونهم ببعض الأمور الغائبة . أو يقضون لهم بعض الحوائج، فكانوا يبذلون لهم هذا النفع القليل بما اشتروه منهم من توحيدهم، وإيمانهم الذي هلكوا بزواله كالسحر، قال اللّه تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 102 ] .(184/362)
وكذلك قد يكون سببه سماع المعازف، وهذا كما يذكر عن عثمان بن عفان ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال : اتقوا الخمر فإنها أم الخبائث، وإن رجلًا سأل امرأة، فقالت : لا أفعل حتى تسجد لهذا الوثن، فقال : لا أشرك باللّه، فقالت : أو تقتل هذا الصبي ؟ فقال : لا أقتل النفس التي حرم اللّه، فقالت : أو تشرب هذا القدح ؟ فقال هذا أهون . فلما شرب الخمر قتل الصبي وسجد للوثن وزنا بالمرأة .
والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك، ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم، فيشركون ويقتلون النفس التي حرم اللّه، ويزنون .
وهذه الثلاثة موجودة كثيرًا في أهل سماع المعازف، سماع المكاء والتصدية، أما الشرك فغالب عليهم بأن يحبوا شيخهم أو غيره، مثل ما يحبون اللّه ويتواجدون على حبه .
وأما الفواحش، فالغناء رقية الزنا، وهو من أعظم الأسباب،/ لوقوع الفواحش، ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره، فتنحل نفسه، وتسهل عليه الفاحشة، ويميل لها فاعلا ً، أو مفعولًا به أو كلاهما، كما يحصل بين شاربي الخمر، وأكثر .
وأما القتل، فإن قتل بعضهم بعضًا في السماع، كثير يقولون : قتله بحاله ويعدون ذلك من قوته، وذلك أن معهم شياطين تحضرهم فأيهم كانت شياطينه أقوى قتل الآخر . كالذين يشربون الخمر، ومعهم أعوان لهم فإذا شربوا عربدوا فأيهم كانت أعوانه أقوى قتل الآخر، وقد جرى مثل هذا لكثير منهم، ومنهم من يقتل إما شخصًا، وإما فرسًا، أو غير ذلك بحاله، ثم يقوم صاحب الثأر، ويستغيث بشيخه، فيقتل ذلك الشخص، وجماعة معه : إما عشرة، وإما أقل أو أكثر . كما جرى مثل هذا لغير واحد . وكان الجهال يحسبون هذا من باب الكرامات .
فلما تبين لهم أن هذه أحوال شيطانية، وأن هؤلاء معهم شياطين تعينهم على الإثم والعدوان عرف ذلك من بصره اللّه ـ تعالى ـ وانكشف التلبيس والغش الذي كان لهؤلاء .(184/363)
وكنت في أوائل عمري حضرت مع جماعة من أهل الزهد والعبادة والإرادة فكانوا من خيار أهل هذه الطبقة، فبتنا بمكان وأرادوا أن / يقيموا سماعا وأن أحضر معهم فامتنعت من ذلك، فجعلوا لي مكانا منفردًا قعدت فيه، فلما سمعوا وحصل الوجد والحال صار الشيخ الكبير يهتف بي في حال وجده، ويقول : يا فلان قد جاءك نصيب عظيم تعال خذ نصيبك، فقلت في نفسي ثم أظهرته لهم لما اجتمعنا : أنتم في حل من هذا النصيب فكل نصيب لا يأتي عن طريق محمد بن عبد اللّه، فإني لا آكل منه شيئًا، وتبين لبعض من كان فيهم ممن له معرفة، وعلم أنه كان معهم الشياطين، وكان فيهم من هو سكران بالخمر .
والذي قلته معناه : أن هذا النصيب، وهذه العطية والموهبة والحال سببها غير شرعي، ليس هو طاعة للّه ورسوله ولا شرعها الرسول فهو مثل من يقول : تعال اشرب معنا الخمر ونحن نعطيك هذا المال، أو عظم هذا الصنم ونحن نوليك هذه الولاية ونحو ذلك .
وقد يكون سببه نذرًا لغير اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ مثل أن ينذر لصنم، أو كنيسة، أو قبر، أو نجم، أو شيخ، ونحو ذلك من النذور، التي فيها شرك، فإذا أشرك بالنذر، فقد يعطيه الشيطان بعض حوائجه، كما تقدم في السحر .
وهذا بخلاف النذر للّه ـ تعالى ـ فإنه ثبت في الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن النذر، وقال : ( إنه لا يأتي / بخير، وإنما يستخرج به من البخيل ) وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي رواية : ( فإن النذر يلقي ابن آدم إلى القدر ) فهذا المنهي عنه هو النذر الذي يجب الوفاء به، منهى عن عقده، ولكن إذا كان قد عقده فعليه، الوفاء به كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من نذر أن يطيع اللّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يعصه ) .(184/364)
وإنما نهى عنه صلى الله عليه وسلم ؛لأنه لا فائدة فيه إلا التزام ما التزمه، وقد لا يرضى به، فيبقى آثمًا . وإذا فعل تلك العبادات بلا نذر كان خيرًا له، والناس يقصدون بالنذر تحصيل مطالبهم، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن النذر لا يأتي بخير، فليس النذر سببًا في حصول مطلوبهم، وذلك أن الناذر إذا قال : للّه علي إن حفظني اللّه القرآن أن أصوم مثلًا ثلاثة أيام، أو إن عافاني اللّه من هذا المرض، أو إن دفع اللّه هذا العدو، أو إن قضي عني هذا الدين فعلت كذا، فقد جعل العبادة التي التزمها عوضًا عن ذلك المطلوب . واللّه ـ سبحانه ـ لا يقضي تلك الحاجة بمجرد تلك العبادة المنذورة، بل ينعم على عبده بذلك المطلوب؛ ليبتليه أيشكر أم يكفر ؟ وشكره يكون بفعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه .
وأما تلك العبادة المنذورة، فلا تقوم بشكر تلك النعمة، ولا ينعم اللّه تلك النعمة؛ ليعبده العبد تلك العبادة المنذورة التي كانت مستحبة، فصارت / واجبة؛ لأنه سبحانه لم يوجب تلك العبادة ابتداء، بل هو يرضى من العبد بأن يؤدي الفرائض، ويجتنب المحارم، لكن هذا الناذر يكون قد ضيع كثيرًا من حقوق اللّه ثم بذل ذلك النذر؛ لأجل تلك النعمة، وتلك النعمة أجل من أن ينعم اللّه بها؛ لمجرد ذلك المبذول المحتقر .
وإن كان المبذول كثيرًا، والعبد مطيع للّه، فهو أكرم على اللّه من أن يحوجه إلى ذلك المبذول الكثير، فليس النذر سببًا لحصول مطلوبه كالدعاء، فإن الدعاء من أعظم الأسباب وكذلك الصدقة وغيرها من العبادات جعلها اللّه تعالى أسبابا؛ لحصول الخير ودفع الشر إذا فعلها العبد ابتداء، وأما ما يفعله على وجه النذر، فإنه لا يجلب منفعة، ولا يدفع عنه مضرة، لكنه كان بخيلا فلما نذر، لزمه ذلك، فاللّه ـ تعالى ـ يستخرج بالنذر من البخيل، فيعطي على النذر مالم يكن يعطيه بدونه واللّه أعلم .(184/365)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=201 - TOP#TOPسُئلَ شَيْخُ الإِسْلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
ما عمل أهل الجنة ؟ وما عمل أهل النار ؟
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، عمل أهل الجنة : الإيمان والتقوى، وعمل أهل النار الكفر والفسوق والعصيان، فأعمال أهل الجنة الإيمان باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، والشهادتان : شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت . وأن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك .
ومن أعمال أهل الجنة : صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، والمملوك من الآدميين والبهائم .
/ومن أعمال أهل الجنة : الإخلاص للّه، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله، وخشية اللّه ورجاء رحمته، والإنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه .
ومن أعمال أهل الجنة : قراءة القرآن، وذكر اللّه، ودعاؤه، ومسألته، والرغبة إليه .
ومن أعمال أهل الجنة : الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين .
ومن أعمال أهل الجنة : أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإن اللّه أعد الجنة للمتقين، الذين ينفقون في السراء، والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، واللّه يحب المحسنين .
ومن أعمال أهل الجنة : العدل في جميع الأمور، وعلى جميع الخلق حتى الكفار، وأمثال هذه الأعمال .(184/366)
وأما عمل أهل النار، فمثل : الإشراك باللّه، والتكذيب بالرسل، والكفر والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من / روح اللّه، والأمن من مكر اللّه، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض اللّه، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، ورجاء المخلوق دون الخالق، والتوكل على المخلوق دون الخالق، والعمل رياء وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب بالباطل، والاستهزاء بآيات اللّه، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة .
ومن عمل أهل النار : السحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم اللّه بغير الحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .
وتفصيل الجملتين لا يمكن، لكن أعمال أهل الجنة كلها تدخل في طاعة اللّه ورسوله، وأعمال أهل النار كلها تدخل في معصية اللّه ورسوله، { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ النساء : 13، 14 ] واللّه أعلم .
/وقال الشيخ ـ رحمه اللّه تعالى :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=201 - TOP#TOPفَصْل
وأما قوله : هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة ؟(184/367)
فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها ؟ إما نزاعًا كليًا وإما حاليًا، فحقيقة الأمر : أن الخلطة تارة تكون واجبة أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة . وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات، كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر اللّه به ورسوله .
وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار والخوارج المارقين، وإن كان أئمة ذلك فجارًا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، / وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا، إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك .
ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته، كما قال طاووس : نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته .
فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ، واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا، وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال، فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم .
وكذلك السبب وترك السبب، فمن كان قادرًا على السبب، ولا يشغله عما هو أنفع له في دينه فهو مأمور به، مع التوكل على اللّه، وهذا خير له من أن يأخذ من الناس ولو جاءه بغير سؤال، وسبب مثل هذا عبادة اللّه، وهو مأمور أن يعبد اللّه ويتوكل عليه، فإن تسبب بغير نية صالحة، أو لم يتوكل على اللّه، فهو مطيع في هذا وهذا، وهذه طريق الأنبياء والصحابة .(184/368)
وأما من كان من الفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه لا يستطيعون / ضربًا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، فهذا إما أن يكون عاجزًا عن الكسب، أو قادرًا عليه بتفويت ما هو فيه أطوع للّه من الكسب، ففعل ما هو فيه أطوع هو المشروع في حقه، وهذا يتنوع بتنوع أحوال الناس .
وقد تقدم أن الأفضل يتنوع تارة بحسب أجناس العبادات، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء، و تارة يختلف باختلاف الأوقات، كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة .
وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر، كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق، وأما القراءة في الطواف، ففيها نزاع معروف .
وتارة باختلاف الأمكنة كما أن المشروع بعرفة ومزدلفة وعند الجمار وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة ونحوها، والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل .
/وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة، فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج، والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها، بخلاف الأيمة فإنها مأمورة بطاعة أبويها .
وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه، فما يقدر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل، وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتبعون أهواءهم .
فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبة له؛ ولكونه أنفع لقلبه وأطوع لربه، يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك .
واللّه بعث محمدًا بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد، وهديًا لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له، فعلى المسلم أن يكون ناصحًا للمسلمين يقصد لكل إنسان ما هو أصلح له .(184/369)
وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات / البدنية ـ كالصلاة والصيام ـ أفضل له، والأفضل المطلق ما كان أشبه بحال النبي صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرًا .
فإن خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=201 - TOP#TOPوقال الشيخ :
الحمد للّه رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد :
اعلم أنه يجب على كل بالغ عاقل من الإنس والجن، أن يشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله وكفى باللّه شهيدًا . أرسله إلى جميع الخلق، إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، وفرسهم وهندهم، وبربرهم ورومهم، وسائر أصناف العجم أسودهم، وأبيضهم، والمراد بالعجم من ليس بعربي على اختلاف ألسنتهم .
فمحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل أحد، من الإنس والجن كتابيهم وغير كتابيهم، في كل ما يتعلق بدينه من الأمور الباطنة والظاهرة، في عقائده وحقائقه، وطرائقه وشرائعه، فلا عقيدة إلا عقيدته، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا طريقة إلا طريقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا يصل أحد من الخلق إلى اللّه، وإلى رضوانه وجنته وكرامته / وولايته، إلا بمتابعته باطنًا وظاهرًا في الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده، وأحوال القلب وحقائقه، وأقوال اللسان وأعمال الجوارح .(184/370)
وليس للّه ولي إلا من اتبعه باطنًا، وظاهرًا، فصدقه فيما أخبر به من الغيوب، والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات . فمن لم يكن له مصدقًا فيما أخبر ملتزمًا طاعته فيما أوجب، وأمر به في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمنا فضلا عن أن يكون وليًا للّه ولو حصل له من خوارق العادات ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها إلا من أهل الأحوال الشيطانية، المبعدة لصاحبها عن اللّه، والمقربة إلى سخطه وعذابه .
لكن من ليس بمكلف من الأطفال والمجانين قد رفع القلم عنهم، فلا يعاقبون وليس لهم من الإيمان باللّه وتقواه باطنًا وظاهرًا ما يكونون به من أولياء اللّه المتقين، وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعًا لآبائهم، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] .
/وهم مع عدم العقل لا يكونون ممن في قلوبهم حقائق الإيمان، ومعارف أهل ولاية اللّه وأحوال خواص اللّه؛ لأن هذه الأمور كلها مشروطة بالعقل، فالجنون مضاد العقل والتصديق والمعرفة واليقين والهدى والثناء، وإنما يرفع اللّه الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، فالمجنون وإن كان اللّه لا يعاقبه ويرحمه في الآخرة فإنه لا يكون من أولياء اللّه المقربين والمقتصدين الذين يرفع اللّه درجاتهم .(184/371)
ومن ظن أن أحدًا من هؤلاء الذين لا يؤدون الواجبات ولا يتركون المحرمات، سواء كان عاقلًا، أو مجنونًا، أو مولها، أو متولهًا، فمن اعتقد أن أحدًا من هؤلاء من أولياء اللّه المتقين، وحزبه المفلحين، وعباده الصالحين وجنده الغالبين، السابقين، المقربين والمقتصدين الذين يرفع اللّه درجاتهم بالعلم والإيمان، مع كونه لا يؤدي الواجبات ولا يترك المحرمات، كان المعتقد لولاية مثل هذا كافرًا مرتدًا عن دين الإسلام، غير شاهد أن محمدًا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بل هو مكذب لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما شهد به؛ لأن محمدًا أخبر عن اللّه، أن أولياء اللّه هم المتقون المؤمنون، قال تعالى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] ، وقال تعالي : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] .
/والتقوى أن يعمل الرجل بطاعة اللّه، على نور من اللّه، يرجو رحمة اللّه، وأن يترك معصية اللّه، على نور من اللّه، يخاف عذاب اللّه، ولا يتقرب ولي اللّه إلا بأداء فرائضه، ثم بأداء نوافله . قال تعالى : ( وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ) كما جاء في الحديث الصحيح الإلهي الذي رواه البخاري .
فَصْل(184/372)
ومن أحب الأعمال إلى اللّه، وأعظم الفرائض عنده : الصلوات الخمس في مواقيتها، وهي أول ما يحاسب عليها العبد من عمله يوم القيامة، وهي التي فرضها اللّه ـ تعالى ـ بنفسه ليلة المعراج لم يجعل فيها بينه وبين محمد واسطة، وهي عمود الإسلام الذي لا يقوم إلا به، وهي أهم أمر الدين، كما كان ـ أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب يكتب إلى عماله : إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ) وقال : ( العهد الذي بيننا وبينهم / الصلاة، فمن تركها فقد كفر ) . فمن لم يعتقد وجوبها على كل عاقل بالغ غير حائض ونفساء، فهو كافر مرتد باتفاق أئمة المسلمين، وإن اعتقد أنها عمل صالح وإن اللّه يحبها ويثيب عليها، وصلى مع ذلك وقام الليل، وصام النهار، وهو مع ذلك لا يعتقد وجوبها على كل بالغ، فهو أيضًا كافر مرتد، حتى يعتقد أنها فرض واجب على كل بالغ عاقل .
ومن اعتقد أنها تسقط عن بعض الشيوخ العارفين والمكاشفين والواصلين، أو أن للّه خواصًا لا تجب عليهم الصلاة، بل قد سقطت عنهم لوصولهم إلى حضرة القدس، أو لاستغنائهم عنها بما هو أهم منها أو أولى، أو أن المقصود حضور القلب مع الرب، أو أن الصلاة فيها تفرقة، فإذا كان العبد في جمعيته مع اللّه فلا يحتاج إلى الصلاة، بل المقصود من الصلاة هي المعرفة، فإذا حصلت لم يحتج إلى الصلاة، فإن المقصود أن يحصل لك خرق عادة، كالطيران في الهواء، والمشي على الماء، أو ملء الأوعية ماء من الهواء أو تغوير المياه واستخراج ما تحتها من الكنوز، وقتل من يبغضه بالأحوال الشيطانية . فمتى حصل له ذلك استغنى عن الصلاة ونحو ذلك .(184/373)
أو أن للّه رجالًا خواصًا لا يحتاجون إلى متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل استغنوا عنه كما استغنى الخضر عن موسى، أو أن كل / من كاشف وطار في الهواء، أو مشى على الماء، فهو ولي سواء صلى أو لم يصل .
أو اعتقد أن الصلاة تقبل من غير طهارة، أو أن المولهين والمتولهين والمجانين الذين يكونون في المقابر والمزابل والطهارات والحانات والقمامين، وغير ذلك من البقاع، وهم لا يتوضؤون ولا يصلون الصلوات المفروضات، فمن اعتقد أن هؤلاء أولياء اللّه فهو كافر مرتد عن الإسلام باتفاق أئمة الإسلام، ولو كان في نفسه زاهدًا عابدًا، فالرهبان أزهد وأعبد، وقد آمنوا بكثير مما جاء به الرسول، وجمهورهم يعظمون الرسول ويعظمون اتباعه ولكنهم لم يؤمنوا بجميع ماجاء به، بل آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فصاروا بذلك كافرين كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا . وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 150-152 ] .(184/374)
ومن كان مسلوب العقل أو مجنونًا، فغايته أن يكون القلم قد رفع عنه، فليس عليه عقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل . فمن لا عقل / له لا يصح شيء من عبادته لا فرائضه ولا نوافله، ومن لا فريضة له ولا نافلة، ليس من أولياء اللّه؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى } [ طه : 54 ] أي العقول، وقال تعالى : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } [ الفجْر : 5 ] أي لذي عقل . وقال تعالى : { وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ } [ البقرة : 197 ] وقال : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } [ الأنفال : 22 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 2 ] .
فإنما مدح اللّه وأثنى على من كان له عقل . فأما من لا يعقل فإن اللّه لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط، بل قال ـ تعالى ـ عن أهل النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] وقال : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [ الفرقان : 44 ] .(184/375)
فمن لا عقل له لا يصح إيمانه ولا فرضه ولا نفله، ومن كان يهوديًا أو نصرانيًا ثم جن وأسلم بعد جنونه لم يصح إسلامه لا باطنًا ولا ظاهرًا . ومن كان قد آمن ثم كفر وجن بعد ذلك فحكمه حكم الكفار . ومن كان مؤمنًا ثم جن بعد ذلك أثيب على إيمانه الذي كان في / حال عقله، ومن ولد مجنونًا ثم استمر جنونه لم يصح منه إيمان ولا كفر . وحكم المجنون حكم الطفل إذا كان أبواه مسلمين كان مسلمًا تبعًا لأبويه باتفاق المسلمين، وكذلك إذا كانت أمه مسلمة عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد .
وكذلك من جن بعد إسلامه يثبت لهم حكم الإسلام تبعًا لآبائهم، وكذلك المجنون الذي ولد بين المسلمين يحكم له بالإسلام ظاهرًا تبعًا لأبويه أو لأهل الدار، كما يحكم بذلك للأطفال . لا لأجل إيمان قام به، فأطفال المسلمين ومجانينهم يوم القيامة تبع لآبائهم، وهذا الإسلام لا يوجب له مزية على غيره، ولا أن يصير به من أولياء اللّه المتقين الذين يتقربون إليه بالفرائض والنوافل . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } [ النساء : 43 ] فنهى اللّه عز وجل عن قربان الصلاة إذا كانوا سكارى حتى يعلموا ما يقولون .(184/376)
وهذه الآية نزلت باتفاق العلماء قبل أن تحرم الخمر بالآية التي أنزلها اللّه في " سورة المائدة " . وقد روى أنه كان سبب نزولها : أن بعض الصحابة صلى بأصحابه وقد شرب الخمر قبل أن تحرم فخلط في القراءة، فأنزل اللّه هذه الآية؛ فإذا كان قد حرم اللّه الصلاة مع السكر والشرب الذي لم يحرم حتى يعلموا ما يقولون، علم أن ذلك يوجب ألا يصلي /أحد حتى يعلم ما يقول . فمن لم يعلم ما يقول لم تحل له الصلاة، وإن كان عقله قد زال بسبب غير محرم؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه لا تصح صلاة من زال عقله بأي سبب زال، فكيف بالمجنون ؟ ! .
وقد قال بعض المفسرين ـ وهو يروي عن الضحاك ـ : لا تقربوها وأنتم سكارى من النوم . وهذا إذا قيل : إن الآية دلت عليه بطريق الاعتبار أو شمول معنى اللفظ العام، وإلا فلا ريب أن سبب نزول الآية كان السكر من الخمر . واللفظ صريح في ذلك؛ والمعنى الآخر صحيح أيضًا . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا قام أحدكم يصلي بالليل فاستعجم القرآن على لسانه فليرقد، فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ـ وفي لفظ ـ إذا قام يصلي فنعس فليرقد ) .
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة مع النعاس الذي يغلط معه الناعس . وقد احتج العلماء بهذا على أن النعاس لا ينقض الوضوء، إذ لو نقض بذلك لبطلت الصلاة، أو لوجب الخروج منها لتجديد الطهارة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما علل ذلك بقوله : ( فإنه لا يدري لعله يريد أن يستغفر فيسب نفسه ) فعلم أنه قصد النهي عن الصلاة لمن لا يدري ما يقول وإن كان ذلك بسبب النعاس . وطرد ذلك أنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال : ( لا يصلي / أحدكم، وهو يدافع الأخبثين ولا بحضرة طعام ) لما في ذلك من شغل القلب . وقال أبو الدرداء : من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته فيقضيها ثم يقبل على صلاته وقلبه فارغ .(184/377)
فإذا كانت الصلاة محرمة مع ما يزيل العقل ولو كان بسبب مباح حتى يعلم ما يقول كانت صلاة المجنون ومن يدخل في مسمى المجنون، وإن سمي مولها أو متولها، أولى ألا تجوز صلاته .
ومعلوم أن الصلاة أفضل العبادات، كما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى اللّه ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) . قلت : ثم أي ؟ قال : ( بر الوالدين ) . قلت : ثم أي ؟ قال : ( الجهاد ) . قال : حدثني بهن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني . وثبت أيضًا في الصحيحين عنه : أنه جعل أفضل الأعمال إيمان باللّه، وجهاد في سبيله، ثم الحج المبرور . ولا منافاة بينهما؛ فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان باللّه، كما دخلت في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] . قال البراء بن عازب وغيره من السلف : أي صلاتكم إلى بيت المقدس .
ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال، فلا يصلي أحد عن أحد الفرض، لا لعذر ولا لغير عذر . كما لا يؤمن أحد عنه، ولا / تسقط بحال كما لا يسقط الإيمان، بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرًا، وهو متمكن من فعل بعض أفعالها . فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال، فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه ؟ فيه قولان للعلماء، وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع .(184/378)
فإذا كان كذلك، تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى اللّه من فرض ونفل، و [ الولاية ] هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل، فقد حرم ما به يتقرب أولياء اللّه إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فلا يعاقب، كما لا يعاقب الأطفال والبهائم؛ إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال . ثم إن كان مؤمنًا قبل حدوث الجنون به، وله أعمال صالحة، وكان يتقرب إلى اللّه بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم، وكان له من ولاية اللّه تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى، كما لا يسقط ذلك بالموت، بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام؛ فإن الردة تحبط الأعمال، وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة، كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة، فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته، كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالأعمال المسكرة والنوم؛ لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح، ولكن في الحديث / الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ) .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك : ( إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم ) قالوا : وهم بالمدينة ؟ ! قال : ( وهم بالمدينة حبسهم العذر ) ، فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلًا، بخلاف أولئك فإن لهم قصدًا صحيحًا يكتب لهم به الثواب .(184/379)
وأما إن كان قبل جنونه كافرًا أو فاسقًا أو مذنبًا، لم يكن حدوث الجنون به مزيلًا؛ لما ثبت من كفره وفسقه؛ ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورًا معهم، وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين . وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمى صاحبه مولهًا أو متولهًا، لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى، ولا يكون زوال عقله سببًا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب زوال العقل، فيبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده ولا ينقصه، لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر .
/وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم، كشرب الخمر، وأكل الحشيشة، أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله، أو الذي يتعبد بعبادات بديعة حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله، أو يأكل بنجا يزيل عقله، فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول . وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه فيرقص رقصًا عظيمًا حتى يغيب عقله، أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني، وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولهًا . فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم .
واختلف العلماء : هل هم مكلفون في حال زوال عقلهم ؟ والأصل " مسألة السكران " والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله . وقال كثير من العلماء ليس مكلفًا، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وإحدى الروايتين عن أحمد : أن طلاق السكران لا يقع، وهذا أظهر القولين . ولم يقل أحد من العلماء : إن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء اللّه الموحدين المقربين وحزبه المفلحين . ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير، فهم من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم .(184/380)
ومن علامة هؤلاء : أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو / تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، لا بالكفر والبهتان، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقه بالكفر والشرك، ويهذي في زوال عقله بالكفر، فهذا إنما يكون كافرًا لا مسلمًا، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية، وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع، ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل ـ أو بغير العربية ـ فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع .
ومن قال : إن هؤلاء أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب .
قيل : قولك وهب اللّه لهم أحوالًا، كلام مجمل، فإن الأحوال تنقسم إلى : حال رحماني، وحال شيطاني، وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب، [ فتارة ] يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان، وتارة يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان؛ فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية، وكانوا من المؤمنين المتقين، فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول، وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية ـ كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون ـ فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق، كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان / والتقوى، كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل، غايته أن يسقط التكليف .(184/381)
ورفع القلم لا يوجب حمدًا ولامدحًا ولا ثوابًا ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء اللّه، ولا كرامة من كرامات الصالحين، بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ولا مدح في ذلك ولا ذم، بل النائم أحسن حالًا من هؤلاء، ولهذا كان الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ينامون وليس فيهم مجنون ولا موله، والنبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه النوم والإغماء، ولا يجوز عليه الجنون، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد أغمى عليه في مرضه .
وأما الجنون فقد نزه اللّه أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص الإنسان؛ إذ كمال الإنسان بالعقل؛ ولهذا حرم اللّه إزالة العقل بكل طريق، وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل، كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لأنها ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل، فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببًا أو شرطًا أو مقربًا إلى ولاية اللّه كما يظنه كثير من أهل الضلال ؟ ! حتى قال قائلهم في هؤلاء :
/هم معشر حلوا النظام وخرقوا ** السياج فلا فرض لديهم ولا نفل
مجانين إلا أن سر جنونهم ** عزيز على أبوابه يسجد العقل(184/382)
فهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للمجنون سرًا يسجد العقل على بابه، وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا للّه ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى؛ فإن كثيرًا من الكفار والمشركين فضلًا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء؛ لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لابد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان . ولابد في أعمالهم من فجور وطغيان، كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان، قال اللّه تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] .(184/383)
فكل من تنزلت عليه الشياطين لابد أن يكون فيه كذب / وفجور، من أي قسم كان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أولياء اللّه هم الذين يتقربون إليه بالفرائض، وحزبه المفلحون، وجنده الغالبون، وعباده الصالحون . فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء اللّه المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك، فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء اللّه المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين، وإذا قال : أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدًا رسول اللّه كان من الكاذبين الذين قيل فيهم : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 1-3 ] .(184/384)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من ترك ثلاث جمع تهاونًا من غير عذر طبع اللّه على قلبه ) ، فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر، فكيف بمن لا يصلي ظهرًا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة، ولا يتطهر للصلاة لا الطهارة الكبرى ولا الصغرى ؟ ! فهذا لو كان قبل مؤمنًا، وكان قد طبع على قلبه كان كافرًا مرتدًا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض، وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرًا مرتدًا، فكيف يعتقد أنه من أولياء / اللّه المتقين، وقد قال تعالى في صفة المنافقين : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } [ المجادلة : 19 ] أي : استولى، يقال : حاذ الإبل حوذًا : إذا استاقها، فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر اللّه به ورسوله قال تعالى : { أَلَمْ تَرَى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم : 83 ] أي تزعجهم إزعاجًا، فهؤلاء { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ } [ المجادلة : 19 ] .(184/385)
وفي السنن عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من ثلاثة في قرية، لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان ) ، فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان الذين استحوذ عليهم، لا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم، فإن كانوا عبادًا زهادًا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات، كأهل جبل لبنان، وأهل جبل الفتح الذي بآسون، وجبل ليسون، ومغارة الدم بجبل قاسيون، وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلال، ويفعلون فيها خلوات ورياضات من غير أن يؤذن، وتقام فيهم الصلاة الخمس، بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها اللّه ورسوله، بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة، / ولا قصد المتابعة لرسول اللّه الذي قال اللّه فيه : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } الآية [ آل عمران : 31 ] فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان لا من أولياء الرحمن، فمن شهد لهم بولاية اللّه فهو شاهد زور كاذب وعن طريق الصواب ناكب .
ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول، وشهد مع ذلك أنهم من أولياء اللّه، فهو مرتد عن دين الإسلام وإما مكذب للرسول، وإما شاك فيما جاء به مرتاب، وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودًا أو عنادًا أو اتباعًا لهواه، وكل من هؤلاء كافر .(184/386)
وأما إن كان جاهلًا بما جاء به الرسول، وهو معتقد مع ذلك أنه رسول اللّه إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة، وأنه لا طريق إلى اللّه إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم، لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان، لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته، لا لقصد مخالفته، ولا يرجو الهدى في غير متابعته ـ فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب، فإن تاب وأناب وإلا ألحق بالقسم الذي قبله وكان كافرًا مرتدًا، ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب اللّه، كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الأوثان، مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية، ومكاشفات شيطانية قال / تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 103، 104 ] .
قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات . وقد روى عن علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ وغيرهم أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات . وقال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] فالأفاك هو الكذاب والأثيم الفاجر كما قال : { لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ . نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [ العلق : 15، 16 ] .(184/387)
ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبًا وإن كان لا يتعمد الكذب، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قالت له سبيعة الأسلمية، وقد توفى عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع، فكانت حاملًا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل، فقال لها أبو السنابل بن بعكك : ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كذب أبو السنابل، بل حللت فانكحى ) ، وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع أنهم يقولون : إن عامرًا قتل نفسه وحبط عمله فقال : ( كذب من قالها، إنه لجاهد مجاهد ) ، وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب، فإنه كان رجلًا صالحًا، وقد روى أنه كان أسيد بن الحضير، لكنه لما تكلم بلا علم كذبه النبي صلى الله عليه وسلم .
/وقد قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم ـ : إن يكن صوابًا فمن اللّه، وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه . فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان، فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين ؟ فهذا خطؤه أيضًا من الشيطان، مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب، والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له، كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور له بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك، فهذا كاذب آثم في ذلك، وإن كانت له حسنات في غير ذلك، فإن الشيطان ينزل على كل إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له، ويطرد بحسب إخلاصه للّه وطاعته له قال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] .(184/388)
وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات، وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد الشيطان، لا من عباد الرحمن . قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ . وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [ يس : 60-62 ] .
والذين يعبدون الشيطان أكثرهم لا يعرفون أنهم يعبدون الشيطان، بل قد يظنون أنهم يعبدون الملائكة أو الصالحين، كالذين يستغيثون بهم / ويسجدون لهم فهم في الحقيقة، إنما عبدوا الشيطان وإن ظنوا أنهم يتوسلون ويستشفعون بعباد اللّه الصالحين . قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40، 41 ] .
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غربها، فإن الشيطان يقارنها حينئذ حتى يكون سجود عباد الشمس له، وهم يظنون أنهم يسجدون للشمس وسجودهم للشيطان، وكذلك أصحاب دعوات الكواكب الذين يدعون كوكبًا من الكواكب ويسجدون له ويناجونه ويدعونه ويصنعون له من الطعام واللباس والبخور والتبركات ما يناسبه، كما ذكره صاحب [ السر المكتوم ] المشرقي، وصاحب [ الشعلة النورانية ] البوني المغربي وغيرهما؛ فإن هؤلاء تنزل عليهم أرواح تخاطبهم وتخبرهم ببعض الأمور وتقضي لهم بعض الحوائج ويسمون ذلك روحانية الكواكب .(184/389)
ومنه من يظن أنها ملائكة وإنما هي شياطين تنزل عليهم، قال تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] وذكر الرحمن هو الذي أنزله وهو الكتاب والسنة اللذان قال اللّه فيهما : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } [ البقرة : 231 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ الجمعة : 2 ] ، وهو الذكر الذي قال اللّه فيه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، فمن أعرض عن هذا الذكر وهو الكتاب والسنة قيض له قرين من الشياطين فصار من أولياء الشيطان بحسب ما تابعه .(184/390)
وإن كان مواليا للرحمن تارة وللشيطان أخرى كان فيه من الإيمان وولاية اللّه بحسب ما والى فيه الرحمن، وكان فيه من عداوة اللّه والنفاق بحسب ما والى فيه الشيطان، كما قال حذيفة بن اليمان : القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن . وقلب أغلف فذلك قلب الكافر ـ والأغلف : الذي يلف عليه غلاف . كما قال تعالى عن اليهود : { ٍوَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك ثلاث جمع طبع اللّه على قلبه ) ـ وقلب منكوس فذلك قلب المنافق . وقلب فيه مادتان : مادة تمده للإيمان ومادة تمده للنفاق، فأيهما غلب كان الحكم له . وقد روى هذا في [ مسند الإمام أحمد ] مرفوعًا .
وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم / أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) .
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن القلب يكون فيه شعبة نفاق، وشعبة إيمان، فإذا كان فيه شعبة نفاق كان فيه شعبة من ولايته وشعبة من عداوته؛ ولهذا يكون بعض هؤلاء يجري على يديه خوارق من جهة إيمانه باللّه وتقواه تكون من كرامات الأولياء، وخوارق من جهة نفاقه وعداوته تكون من أحوال الشياطين؛ ولهذا أمرنا اللّه تعالى : أن نقول كل صلاة : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] .
و ( المغضوب عليهم ) هم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، و ( الضالون ) الذين يعبدون اللّه بغير علم . فمن اتبع هواه وذوقه ووجده، مع علمه أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو من ( المغضوب عليهم ) وإن كان لا يعلم ذلك فهو من ( الضالين ) .(184/391)
نسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا .
والحمد للّه رب العالمين . والعاقبة للمتقين . وصلى اللّه على محمد .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=202 - TOP#TOPوَسُئِلَ عمَّن يَقُول :
الطرق إلى اللّه عدد أنفاس الخلائق . هل قوله صحيح ؟
فأجاب :
إن أراد بذلك الأعمال المشروعة الموافقة للكتاب والسنة، كالصلاة، والصدقة، والجهاد، والذكر، والقراءة وغير ذلك . فهذا صحيح .
وإن أراد إلى اللّه طريقًا مخالفًا للكتاب والسنة، فهو باطل . واللّه أعلم .
قَالَ شَيخ الإِسْلام عَلاَّمة الزَّمَان أبو العباس أحمد بن تيمية ـ قدس اللّه روحه ونور ضريحه :
الحمد للّه، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللّه عليه وسلم تسليما كثيرًا .
قال الشيخ أبو محمد عبد القادر في كتاب ] فتوح الغيب [ : لابد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء :
أمر يمتثله .
ونهي يجتنبه .
وقدر يرضي به .
/فأقل حالة لا يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة، فينبغي له أن يلزم بها قلبه، ويحدث بها نفسه، ويأخذ بها الجوارح في كل أحواله .(184/392)
قلت : هذا كلام شريف، جامع يحتاج إليه كل أحد، وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد، وهي مطابقة لقوله تعالى : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] ، ولقوله تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ولقوله تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ؛ فإن [ التقوى ] تتضمن : فعل المأمور، وترك المحظور، و [ الصبر ] يتضمن : الصبر على المقدور . فالثلاثة ترجع إلى هذين الأصلين، والثلاثة في الحقيقة ترجع إلى امتثال الأمر، وهو طاعة اللّه ورسوله .
فحقيقة الأمر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة اللّه ورسوله، وهو : أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في ذلك الوقت وطاعة اللّه ورسوله هي : عبادة اللّه التي خلق لها الجن والإنس، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=203 - TOP#TOPوالرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا اللّه، ولا يشركوا به شيئًا، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] .(184/393)
وإنما كانت الثلاثة ترجع إلى امتثال الأمر؛ لأنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل شيء من الفرائض، كالصلوات الخمس والحج ونحو ذلك، يحتاج إلى فعل ذلك المأمور، وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى الامتناع والكراهة والإمساك عن ذلك، وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت، وأما من لم تخطر له المعصية ببال، فهذا لم يفعل شيئًا يؤجر عليه، ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلامته من عقوبة الذنب، والعدم المحض المستمر لا يؤمر به، وإنما يؤمر بأمر يقدر عليه العبد، وذاك لا يكون إلا حادثًا، سواء كان إحداث إيجاد أمر، أو إعدام أمر .
وأما القدر الذي يرضى به، فإنه إذا ابتلى بالمرض أو الفقر أو الخوف، فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب، ومأمور بالرضا، إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولان، ونفس الصبر والرضا بالمصائب هو طاعة للّه ورسوله، هو من امتثال الأمر وهو عبادة للّه .
/لكن هذه الثلاثة وإن دخلت في امتثال الأمر عند الإطلاق، فعند التفصيل والاقتران : إما أن تخص بالذكر، وإما أن يقال : يراد بهذا مالا يراد بهذا، كما في قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [ طه : 14 ] ، فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة، وعند الاقتران إما أن يقال : ذكره عمومًا وخصوصًا، وإما أن يقال : ذكره خصوصًا يغني عن دخوله في العام .(184/394)
ومثل هذا قوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله : { وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا . وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا } [ المزَّمل : 8-10 ] . وقد يقال : لفظ [ التبتيل ] لا يتناول هذه الأمور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة .
وبالجملة فرق ما بين ما يؤمر به الإنسان ابتداء، وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة، أو عند حب الشيء وبغضه .
وكلام الشيخ ـ قدس اللّه روحه ـ يدور على هذا القطب، وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور، ويخلوا فيما سواهما عن إرادة؛/ لئلا يكون له مراد غير فعل ما أمر اللّه به، وما لم يؤمر به العبد بل فعله الرب عز وجل بلا واسطة العبد، أو فعله بالعبد بلا هوى من العبد . فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به .
وسيأتي في كلام الشيخ ما يبين مراده، وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به، ويترك ما نهي عنه . وأما إذا لم يكن هو أمر العبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله، وهذه هي [ الحقيقة ] في كلام الشيخ وأمثاله . وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان :
أحدهما : أن يكون العبد مأمورًا فيما فعله الرب . إما بحب له وإعانة عليه . وإما ببغض له ودفع له .
والثاني : ألا يكون العبد مأمورًا بواحد منهما .
فالأول : مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره، فهو مأمور بحبه وإعانته عليه، كإعانة المجاهدين في سبيل اللّه على الجهاد، وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب الإمكان، وبمحبة ذلك والرضا به، وكذلك هو مأمور عند مصيبة الغير : إما بنصر مظلوم، وإما بتعزية مصاب، وإما بإغناء فقير ونحو ذلك .(184/395)
/وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه، فمثل ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان، فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه، وإنكاره بحسب الإمكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) .
وأما ما لا يؤمر العبد فيه بواحد منهما، فمثل ما يظهر له من فعل الإنسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها على طاعة ولا معصية . فهذه لا يؤمر بحبها، ولا ببغضها، وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الاستعانة بها على طاعة ولا معصية .
مع أن هذا نقص منه، فإن الذي ينبغي أنه لا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة، فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى اللّه تعالى بالنوافل بعد الفرائض، ولم يزل أحدهم يتقرب إليه بذلك حتى أحبه، فكان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وأما من فعل المباحات مع الغفلة، أو فعل فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب المحارم باطنًا وظاهرًا، فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين .
/وبالجملة الأفعال التي يمكن دخولها تحت الأمر والنهي لا تكون مستوية من كل وجه، بل إن فعلت على الوجه المحبوب كان وجودها خيرًا للعبد، وإلا كان تركها خيرًا له وإن لم يعاقب عليها، ففضول المباح التي لا تعين على الطاعة عدمها خير من وجودها، إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة اللّه، فإنها تكون شاغلة له عن ذلك، وأما إذا قدر أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها، وإن شغلته عن معصية اللّه كانت رحمة في حقه، وإن كان اشتغاله بطاعة اللّه خيرًا له من هذا وهذا .(184/396)
وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الاستعانة بها على الطاعة، كالنوم الذي يقصد به الاستعانة على العبادة؛ والأكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الاستعانة به على العبادة، إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصًا من العبد وفوات حسنة، وخير يحبه الله، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك ) ، وقال في الصحيح : ( نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة ) .
فما لا يحتاج إليه من المباحات، أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة، فعدمه خير من وجوده، إذا كان مع عدمه يشتغل بما هو / خير منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( في بضع أحدكم صدقة ) . قالوا : يارسول اللّه، يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر . قال : ( أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر ؟ ) قالوا : بلى ! قال : ( فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر، فلم تعتدون بالحرام ولا تعتدون بالحلال ؟ ) .
وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه اللّه إلى ما أباحه اللّه، يقصد فعل المباح معتقدًا أن اللّه أباحه، ( واللّه يحب أن يأخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته ) كما رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره؛ ولهذا أحب القصر والفطر، فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي لا يحبه اللّه إلى ما يحبه اللّه من الرخصة، هو من الحسنات التي يثيبه اللّه عليها، وإن فعل مباحًا لما اقترن به من الاعتقاد والقصد اللذين كلاهما طاعة للّه ورسوله . فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى .(184/397)
وأيضًا، فالعبد مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات، هو مأمور بالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش؛ ولهذا يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها، ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبًا للوعيد، كما هو قول جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه، بل وهو مأمور / بنفس عقد النكاح إذا احتاج إليه وقدر عليه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( في بضع أحدكم صدقة ) فإن المباضعة مأمور بها لحاجته ولحاجة المرأة إلى ذلك، فإن قضاء حاجتها التي لا تنقضي إلا به بالوجه المباح صدقة .
والسلوك سلوكان :
سلوك الأبرار أهل اليمين، وهو أداء الواجبات وترك المحرمات باطنًا وظاهرًا .
والثاني : سلوك المقربين السابقين، وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان، وترك المكروه والمحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
وكلام الشيوخ الكبارـ كالشيخ عبد القادر وغيره ـ يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم، فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة، وبالعامة مسلك العامة، وطريق الخاصة طريق المقربين ألا يفعل العبد إلا ما أمر به، ولا يريد إلا ما أمر اللّه ورسوله بإرادته، وهو ما يحبه / اللّه ويرضاه، ويريده إرادة دينية شرعية، وإلا فالحوادث كلها مرادة له خلقًا وتكوينًا .
والوقوف مع الإرادة الخلقية القدرية مطلقًا غير مقدور عقلًا، ولا مأمور شرعًا؛ وذلك لأن من الحواث ما يجب دفعه ولا تجوز إرادته، كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله، أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على دفعه، أو أراد إضلال الخلق وإفساد دينهم ودنياهم، فهذه الأمور يجب دفعها وكراهتها؛ لا تجوز إرادتها .(184/398)
وأما الامتناع عقلا، فلأن الإنسان مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافره، فهو عند الجوع يحب ما يغنيه كالطعام، ولا يحب ما لا يغنيه كالتراب فلا يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء .
وكذلك يحب الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعه، ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره، بل ويحب اللّه وعبادته وحده، ويبغض عبادة ما دونه، كما قال الخليل : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75 - 77 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] .
فقد أمرنا اللّه أن نتأسى بإبراهيم والذين معه، إذ تبرؤوا من المشركين ومما يعبدونه من دون اللّه، وقال الخليل : { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي } [ الزخرف : 26، 27 ] ، والبراءة ضد الولاية، وأصل البراءة البغض وأصل الولاية الحب، وهذا لأن حقيقة التوحيد ألا يحب إلا اللّه، ويحب ما يحبه اللّه للّه، فلا يحب إلا للّه، ولا يبغض إلا للّه، قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] .
والفرق ثابت بين الحب للّه والحب مع اللّه، فأهل التوحيد والإخلاص يحبون غير اللّه للّه، والمشركون يحبون غير اللّه مع اللّه، كحب المشركين لآلهتهم، وحب النصارى للمسيح، وحب أهل الأهواء رؤوسهم .(184/399)
فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه، وبغض مايضره لم يمكن أن تستوى إرادته لجميع الحوادث فطرة وخلقًا، ولا هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدًا لجميع الحوادث، بل قد أمره اللّه بإرادة أمور وكراهة أخرى .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=203 - TOP#TOPوالرسل ـ صلوات اللّه عليهم وسلامه ـ بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ الروم : 30 ] ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول اللّه تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا ) .
والحنيفية : هي الاستقامة بإخلاص الدين للّه، وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له، لا يشرك به شيء، لا في الحب ولا في الذل؛ فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، وذلك لا يستحقه إلا اللّه وحده، وكذلك الخشية والتقوى للّه وحده، والتوكل على اللّه وحده .
والرسول يطاع ويحب، فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى : { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] .(184/400)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=203 - TOP#TOPوهذا حقيقة دين الإسلام .
والرسل بعثوا بذلك، كما قال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِي } [ المؤمنون : 51، 52 ] .
فهذا هو الأصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به، فلا بد أن يكون مريدًا محبًا لما أمره اللّه بإرادته ومحبته . كارهًا مبغضًا لما أمره اللّه بكراهته وبغضه .
والناس في هذا الباب أربعة أنواع :
أكملهم الذين يحبون ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغضون ما أبغضه اللّه ورسوله، فيريدون ما أمرهم اللّه ورسوله بإرادته، ويكرهون ما أمرهم اللّه ورسوله بكراهته، وليس عندهم حب ولا بغض لغير ذلك . فيأمرون بما أمر اللّه به ورسوله، ولا يأمرون بغير ذلك، وينهون عما نهى اللّه عنه ورسوله، ولا ينهون عن غيرذلك، وهذه حال الخليلين أفضل البرية : محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم، وقد / ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا ) وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إني واللّه لا أعطي أحدًا، ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ) .(184/401)
وذكر : أن ربه خيره بين أن يكون نبيًا ملكًا؛ وبين أن يكون عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا . فإن النبي الملك مثل : داود وسليمان، قال تعالى : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] ، قالوا : معناه اعط من شئت، وامنع من شئت، لا نحاسبك .
فالنبي الملك : يعطي بإرادته لا يعاقب على ذلك، كالذي يفعل المباحات بإرادته، وأما العبد الرسول فلا يعطي ولا يمنع إلا بأمر ربه، وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية، والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول، والمقتصدون أهل اليمين أتباع النبي الملك، وقد يكون للإنسان حال هو فيها خال عن الإرادتين : وهو ألا تكون له إرادة في عطاء ولا منع، لا إرادة دينية هو مأمور بها، ولا إرادة نفسانية سواء كان منهيًا عنها أو غير منهي عنها، بل ما وقع كان مرادًا له، ومهما فعل به كان مرادًا له، من غير أن يفعل المأمور به شرعًا في ذلك .
/فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين، لا إرادة شرعية ولا إرادة مذمومة، بل يعطي كل أحد . فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفى عليه الإرادة الشرعية في تفصيل أفعاله، فإنه لايذم على ما فعل ولا يمدح مطلقًا، بل يمدح لعدم هواه، ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل؛ بل هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب . وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛وإن كان ذلك مباحًا له، وهو دون من يريد بأمر ربه لا بهواه، ولا بالقدر المحض .
فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلاثة أقسام :
قوم لا يتصرفون فيها إلا بحكم الأمر الشرعي . وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم . وهو حال العبد الرسول ومن اتبعه في ذلك .
وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة . وهذا حال النبي الملك . وهو حال الأبرار أهل اليمين .(184/402)
وقوم لا يتصرفون بهذا ولا بهذا . أما الأول : فلعدم / علمهم به . وأما الثاني : فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم القدر المحض، اتباعًا لإرادة اللّه الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الإرادة الشرعية الأمرية، وهذا كالترجيح بالقرعة إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم، وقد يتصرف هؤلاء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب .
وكلام الشيخ عبد القادر ـ قدس اللّه روحه ـ كثيرًا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها، حتى لا يتصرف بحكم الإرادة والنفس، وهذا رفع له عن حال الأبرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلقًا ، ومن حصل هذا وتصرف بالأمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق، لكن هذا قد يخفى عليه، فإن معرفة هذا على التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم سعد ابن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم، وبسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم . قال : ( لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة ) ، وذلك أن تخيير ولي الأمر بين القتل والاسترقاق، والمن والفداء ليس تخيير شهوة، بل تخيير رأي ومصلحة، فعليه أن يختار الأصلح، فإن اختار ذلك فقد وافق حكم اللّه، وإلا فلا .
ولما كان هذا يخفي كثيرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث / الصحيح : ( إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه، فإنك لا تدري ماحكم اللّه فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ) ، والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده، فلما أمر سعد بما هو الأرضي للّه، والأحب إليه، حكم بحكمه، ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده، وإن لم يكن ذلك هو حكم اللّه في الباطن .(184/403)
ففي مثل هذه الحال التي لا يتبين الأمر الشرعي في الواقعة المعينة، يأمر الشيخ عبدالقادر وأمثاله من الشيوخ : تارة بالرجوع إلى الأمر الباطن والإلهام إن أمكن ذلك، وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر الأسباب المرجحة من جهة الشرع، كما يرجح الشارع بالقرعة . فهم يأمرون ألا يرجح بمجرد إرادته وهواه، فإن هذا إما محرم وإما مكروه، وإما منقص، فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات .
ثم إن تبين لهم الأمر الشرعي وجب الترجيح به، وإلا رجحوا، إما بسبب باطن من الإلهام والذوق، وإما بالقضاء والقدر الذي لا يضاف إليهم . ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة اللّه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن، فقد أصاب .
/وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد، وعند المقلد المستفتي، فإنه لا يرجح شيئًا، بل ما جرى به القدر أقروه، ولم ينكروه، وتارة يرجح أحدهم : إما بمنام، وإما برأي مشير ناصح، وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين .
وأما الترجيح بمجرد الاختيار، بحيث إذا تكافأت عنده الأدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره . فهذا ليس قول أحد من أئمة الإسلام، وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام، ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي : أنه يخير بين المفتين المختلفين . وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده الأمران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته، فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر، لا يقول به أحد من أئمة العلم والزهد . فأئمة الفقهاء والصوفية لا يقولون هذا .
ولكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته، فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته وذوقه .(184/404)
لكن قد يقال : القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي . وعلى هذا التقدير ليس من هذا، فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه اللّه، وبغض ما يكرهه اللّه، إذا لم يدر في الأمر المعين / هل هو محبوب للّه أو مكروه، ورأي قلبه يحبه أو يكرهه، كان هذا ترجيحًا عنده . كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه، فإن الترجيح بخبر هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي .
ففي الجملة، متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين أحب إلى اللّه ورسوله، كان هذا ترجيحًا بدليل شرعي، والذين أنكروا كون الإلهام طريقًا على الإطلاق أخطؤوا، كما أخطأ الذين جعلوه طريقًا شرعيًا على الإطلاق .
ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحًا، وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى، فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة، والأحاديث الضعيفة، والظواهر الضعيفة، والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب، والخلاف وأصول الفقه .
وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور اللّه ) ثم قرأ قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينََ } [ الحجر : 57 ] . وقال عمر بن الخطاب : اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور / صادقة . وقد ثبت في الصحيح قول اللّه تعالى : ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ) .(184/405)
وأيضًا فاللّه ـ سبحانه وتعالى ـ فطر عباده على الحنيفية : وهو حب المعروف، وبغض المنكر، فإذا لم تستحل الفطرة فالقلوب مفطورة على الحق، فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان، منورة بنور القرآن، وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة، ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين، كان هذا من أقوى الأمارات عند مثله، وذلك أن اللّه علم القرآن والإيمان . قال اللّه تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } الآية ثم قال : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 51، 52 ] ، وقال جندب بن عبد اللّه، وعبد اللّه بن عمر : تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا .
وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ) ، وفي الترمذي وغيره حديث النواس عن النبي صلى الله عليه وسلم / أنه قال : ( ضرب اللّه مثلًا صراطًا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو من فوق الصراط . فالصراط المستقيم هو الإسلام، والستور حدود اللّه، والأبواب المفتحة محارم اللّه . فإذا أراد العبد أن يفتح بابًا من تلك الأبواب ناداه المنادي ـ أو كما قال ـ يا عبد اللّه لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه . والداعي على رأس الصراط كتاب اللّه، والداعي فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مؤمن ) .(184/406)
فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظ، والواعظ الأمر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا الأمر والنهي الذي يقع في قلب المؤمن مطابق لأمر القرآن ونهيه؛ ولهذا يقوى أحدهما بالآخر . كما قال تعالى : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } [ النور : 35 ] ، قال بعض السلف في الآية : هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر . فإذا سمع بالأثر كان نورًا على نور . نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن، كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل؛ فإن اللّه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط .
وقد يؤتي العبد أحدهما ولا يؤتي الآخر، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل / المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر ) .
والإلهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والاعتقاد، وتارة يكون من جنس العمل والحب والإرادة والطلب، فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب، وقد يميل قلبه إلى أحد الأمرين دون الآخر، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر ) ، والمحدث الملهم المخاطب، وفي مثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وابصة : ( البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك ) وهو في السنن . وفي صحيح مسلم عن النواس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس ) . وقال ابن مسعود : الإثم حزاز القلوب .(184/407)
وأيضًا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينًا أو ظنًا، فالأمور الدينية كذلك بطريق الأولى، فإنه إلى كشفها أحوج، لكن هذا في الغالب لابد أن يكون كشفًا بدليل، وقد يكون / بدليل ينقدح في قلب المؤمن، ولا يمكنه التعبير عنه . وهذا أحد ما فسر به معنى الاستحسان .
وقد قال من طعن في ذلك ـ كأبي حامد وأبي محمد ـ : ما لا يعبر عنه فهو هوس، وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه، وكثير من الناس يبينها بيانًا ناقصًا، وكثيرمن أهل الكشف يلقي في قلبه أن هذا الطعام حرام، أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق، من غيردليل ظاهر، وبالعكس قد يلقي في قلبه محبة شخص وأنه ولي للّه أو أن هذا المال حلال .
وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية، لكن إن مثل هذا يكون ترجيحًا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة . فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعًا، فإن التسوية بينهما باطلة قطعًا . كما قلنا : إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل بأحدهما . والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لابد في كل حادثة من دليل شرعي، فلايجوز تكافؤ الأدلة في نفس الأمر، لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له، وأما من قال : إنه ليس في نفس الأمر حق معين، بل كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة، وليس لأحدهما على الأخر مزية في علم ولا عمل، فهؤلاء / قد يجوزون أو بعضهم تكافؤ الأدلة، ويجعلون الواجب التخيير بين القولين، وهؤلاء يقولون ليس على الظن دليل في نفس الأمر؛ وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والإرادة، كترجيح النفس الغضبية للانتقام، والنفس الحليمة للعفو .(184/408)
وهذا القول خطأ؛ فإنه لابد في نفس الأمر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى . كالكعبة في حق من اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاد إلى جهة سقط عنه الفرض بالصلاة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى قول فعمل بموجبه كلاهما مطيع للّه، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع للّه وله أجر على ذلك، وليس مصيبًا بمعنى أنه علم الحق المعين؛ فإن ذلك لا يكون إلا واحدًا ومصيبه له أجران وهذا في كشف الأنواع التي يكون عليها دليل شرعي لكن قد يخفي على العبد، فإن الشارع بين الأحكام الكلية .
وأما الأحكام المعينات التي تسمى : تنقيح المناط، مثل كون الشخص المعين عدلًا أو فاسقًا أو مؤمنًا أو منافقًا أو وليًا للّه أو عدوًا له، وكون هذا المعين عدوًا للمسلمين يستحق القتل، وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الإحسان إليه، وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم، فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله، فهذه / الأمور لا يجب أن تعلم بالأدلة الشرعية العامة الكلية، بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها .
ومن طرق ذلك : الإلهام، فقد يلهم اللّه بعض عباده حال هذا المال المعين، وحال هذا الشخص المعين، وإن لم يكن هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره .
وقصة موسى مع الخضر هي من هذا الباب، ليس فيها مخالفة لشرع اللّه تعالى؛ فإنه لا يجوز قط لأحد لا نبي ولا ولي أن يخالف شرع اللّه، لكن فيها علم حال ذاك المعين بسبب باطن يوجب فيه الشرع ما فعله الخضر، كمن دخل إلى دار وأخذ ما فيها من المال لعلمه بأن صاحبها أذن له وغيره لم يعلم، ومثل من رأى ضالة أخذها ولم يعرفها، لعلمه بأنه أتى بها هدية له، ونحو ذلك . ومثل هذا كثير عند أهل الإلهام الصحيح .(184/409)
والنوع الثاني : عكس هذا، وهو أنهم يتبعون هواهم، لا أمر اللّه، فهؤلاء لا يفعلون ولا يأمرون إلا بما يحبونه بهواهم، ولا يتركون وينهون إلا عما يكرهونه بهواهم، وهؤلاء شر الخلق . قال تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } [ الفرقان : 43 ] قال الحسن : هو المنافق لا يهوي شيئًا إلا ركبه، وقال تعالى : / { ْوَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، وقال عمر بن عبد العزيز : لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق، وتعاقب على ما خالفته . وهو كما قال ـ رضي اللّه عنه ـ لأنه في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل للّه .
ألا ترى أن أبا طالب نصر النبي صلى الله عليه وسلم، وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لأجل القرابة، لا لأجل اللّه تعالى، فلم يتقبل اللّه ذلك منه، ولم يثبه على ذلك ؟ ! وأبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ أعانه بنفسه وماله للّه؛ فقال اللّه فيه : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [ الليل : 17-21 ] .
القسم الثالث : الذي يريد تارة إرادة يحبها اللّه؛ وتارة إرادة يبغضها اللّه . وهؤلاء أكثر المسلمين، فإنهم يطيعون اللّه تارة، ويريدون ما أحبه، ويعصونه تارة، ويريدون ما يهوونه، وإن كان يكرهه .
والقسم الرابع : أن يخلو عن الإرادتين، فلا يريد للّه ولا لهواه، وهذا يقع لكثير من الناس في بعض الأشياء، ويقع لكثير / من الزهاد والنساك في كثير من الأمور .(184/410)
وأما خلو الإنسان عن الإرادة مطلقًا فممتنع، فإنه مفطور على إرادة مالابد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه، والزاهد الناسك إذا كان مسلمًا فلا بد أن يريد أشياء يحبها اللّه : مثل أداء الفرائض وترك المحارم، بل وكذلك عموم المؤمنين لابد أن يريد أحدهم أشياء يحبها اللّه، وإلا فمن لم يحب اللّه، ولا أحب شيئًا للّه، فلم يحب شيئًا من الطاعات، لا الشهادتين ولا غيرهما ولا يريد ذلك فإنه لا يكون مؤمنًا، فلابد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه اللّه؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ولا يحبه اللّه، فهذا لازم لكل من عصى اللّه، فإنه أراد المعصية واللّه لا يحبها ولا يرضاها . وأما الخلو عن الإرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين :
أحدهما : مع إعراض العبد عن عبادة اللّه تعالى وطاعته وإن علم بها، فإنه قد يعلم كثيرًا من الأمور أنه مأمور بها، وهو لا يريدها ولا يكره من غيره فعلها، وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريدًا لانتصار هؤلاء الذي يحبه اللّه، ولا لانتصار هؤلاء الذي يبغضه اللّه .(184/411)
والوجه الثاني : يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما / يعلمون أن اللّه أمر به، المجتنبين لما يعلمون أن اللّه نهى عنه، وأمور أخرى لا يعلمون أنها مأمور بها ولا منهي عنها، فلا يريدونها ولا يكرهونها لعدم العلم، وقد يرضونها من جهة كونها مخلوقة مقدرة، وقد يعاونون عليها، ويرون هذا موافقة للّه وأنهم لما خلو عن هوى النفس كانوا مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه . وهذا موضع يقع فيه الغلط، فإن ما أحبه اللّه ورسوله علينا أن نحب ما أحبه اللّه ورسوله . وما أبغضه اللّه ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه اللّه ورسوله، وأما ما لا يحبه اللّه ورسوله ولا يبغضه اللّه ورسوله كالأفعال التي لا تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون، فهذا إذا كان اللّه لا يحبها ويرضاها ولا يكرهها ويذمها، فالمؤمن أيضًا لا ينبغي أن يحبها ويرضاها ولا يكرهها .
وأما كونها مقدورة ومخلوقة للّه فذاك لا يختص بها، بل هو شامل لجميع المخلوقات . واللّه تعالى خلق ما خلقه لما شاء من حكمته، وقد أحسن كل شيء خلقه، والرضا بالقضاء ثلاثة أنواع :
أحدها : الرضا بالطاعات؛ فهذا طاعة مأمور بها .
والثاني : الرضا بالمصائب، فهذا مأمور به : إما مستحب، وإما واجب .
/والثالث : الكفر والفسوق والعصيان، فهذا لا يؤمر بالرضا به، بل يؤمر ببغضه وسخطه، فإن اللّه لا يحبه ولا يرضاه، كما قال تعالى : { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } [ النساء : 108 ] ، وقال : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، وقال : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] ، وقال : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 32 ] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 87 ] .(184/412)
وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فلا يمتنع أن يخلق مالا يحبه لإفضائه إلى الحكمة التي يحبها، كما خلق الشياطين، فنحن راضون عن اللّه في أن يخلق ما يشاء، وهو محمود على ذلك .
وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله، فلا نرضى به ولا نحمده، وفرق بين ما يحب لنفسه، وما يراد لإفضائه إلى المحبوب، مع كونه مبغضًا من جهة أخرى؛ فإن الأمر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر، كالمريض الذي يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه، وهو مع هذا يريد استعماله لإفضائه إلى المحبوب، لا لأنه في نفسه محبوب .
وفي الحديث الصحيح يقول اللّه تعالى : ( وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ) ، فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي / يكره الموت، كان هذا مقتضيًا أن يكره إماتته، مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة ـ سبحانه وتعالى ـ فالأمور التي يبغضها اللّه تعالى وينهى عنها لا تحب ولا ترضى، لكن نرضى بما يرضى اللّه به حيث خلقها، لما له في ذلك من الحكمة، فكذلك الأفعال التي لا يحبها ولا يبغضها لا ينبغي أن تحب ولا ترضى، كما لا ينبغي أن تبغض .
والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، كان حقًا على اللّه أن يرضيه ) ، وأما بالنسبة إلى القدر فيرضى عن اللّه، إذ له الحمد على كل حال، ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لأجلها ما خلق وإن كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات، فحيث انتفي الأمر الشرعي أو خفي الأمر الشرعي لا يكون الامتثال والرضا والمحبة، كما يكون في الأمر الشرعي، وإن كان ذلك مقدورًا .
وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم، فضلًا عن عامتهم، ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم بالأمر الشرعي وطاعتهم له .(184/413)
فمنهم من هو أعرف من غيره بالأمر الشرعي وأطوع له، فهذا / تكون حاله أحسن ممن يقصر عنه في المعرفة بالأمر الشرعي والطاعة له .
ومنهم من يبعد عن الأمر الشرعي، ويسترسل حتى ينسلخ من الإسلام بالكلية، ويبقى واقفًا مع هواه والقدر .
ومن هؤلاء من يموت كافرًا، ومنهم من يتوب اللّه عليه، ومنهم من يموت فاسقًا، ومنهم من يتوب اللّه عليه .
وهؤلاء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر الشرعي ولا بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير الأمر الشرعي، إما من أنفسهم وإما من غير اللّه ورسوله، إذ الاسترسال مع القدر مطلقًا ممتنع لذاته، لما تقدم من أن العبد مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء .
وقول من قال : إن العبد يكون مع اللّه كالميت مع الغاسل لا يصح ولا يسوغ على الإطلاق عن أحد من المسلمين، وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر اللّه عليه، وإلا فإذا علم ما أمر اللّه به وأحبه، فلابد أن يحب ما أحبه اللّه، ويبغض ما أبغضه .
فَصْل
وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الأدلة والأسباب هي الموجبة للعلم، كتدبر القرآن والحديث، فالطريقة العملية بصحة الإرادة والأسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك : المريد، كما يسميه أولئك : الطالب، و النظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم، وكذلك : الإرادة .
فكما أن طريق العلم لابد فيه من العلم النبوي الشرعي، بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية، ويكون علمك بها مطابقًا لما أخبرت به الرسل، وإلا فلا ينفعك أي معلوم علمته، ولا أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل، بل لابد من الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فكذلك [ الإرادة ] لابد فيها من تعيين المراد، وهو اللّه والطريق إليه، وهو ما أمرت به الرسل . فلا بد أن تعبد اللّه وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله، إذ لابد من تصديق الرسول فيما أخبر علمًا، ولابد من طاعته فيما أمر عملًا .(184/414)
/ولهذا كان الإيمان قولًا وعملًا مع موافقة السنة، فعلم الحق ما وافق علم اللّه، والإرادة الصالحة ما وافقت محبة اللّه ورضاه، وهو حكمه الشرعي، واللّه عليم حكيم .
فالأمور الخبرية لابد أن تطابق علم اللّه وخبره؛ والأمور العملية لابد أن تطابق حب اللّه وأمره، فهذا حكمه، وذاك علمه .
وأما من جعل حكمه مجرد القدر، كما فعل صاحب [ منازل السائرين ] وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة ـ فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع . فلا ينفع المريد القاصد أن يعبد أي معبود كان، ولا أن يعبد اللّه بأي عبادة كانت، بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به اللّه، كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير اللّه بغير أمر اللّه، وأما أهل الإسلام والسنة فهم يعبدون اللّه وحده، ويعبدونه بما شرع . لا يعبدونه بالبدع إلا ما يقع من أحدهم خطأ .
فالسالكون طريق الإرادة قد يغلطون تارة في المراد، وتارة في الطريق إليه، وتارة يألهون غير اللّه بالخوف منه والرجاء له، والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه، فهذا حقيقة الشرك المحرم، فإن حقيقة / التوحيد ألا يعبد إلا اللّه .
والعبادة تتضمن كمال الحب، وكمال التعظيم، وكمال الرجاء، والخشية، والإجلال والإكرام . والفناء في هذا التوحيد فناء المرسلين واتباعهم، وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ماسواه، وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه .(184/415)
وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون اللّه، لكن لا يتبعون الأمر الشرعي في إرادته، لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه يرضيه، ولا يكون كذلك، وتارة ينظرون القدر لكونه مراده، فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض، وأما الفناء المطلق فيه فممتنع . وهؤلاء يفني أحدهم متبعًا لذوقه ووجده المخالف للأمر الشرعي، أو ناظرًا إلى القدر . وهذا يبتلى به كثير من خواصهم .
والشيخ عبد القادر، ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمرًا بترك الهوى والإرادة النفسية . فإن الخطأ في الإرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه الجهة؛ فهو يأمر السالك / ألا تكون له إرادة من جهة هواه أصلًا، بل يريد ما يريده الرب ـ عز وجل ـ : إما إرادة شرعية أن تبين له ذلك، وإلا جرى مع الإرادة القدرية، فهو إما مع أمر الرب، وإما مع خلقه، وهو سبحانه له الخلق والأمر .
وهذه طريقة شرعية صحيحة، إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية لا يعلم أنها شرعية، أو من تقديم إرادة قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها، وقد يريد ضدها، فيكون ترك مأمورًا أو فعل محظورًا وهو لا يعلم . فإن طريقة الإرادة : يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل، والوقوع في الضلال، كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل، وضعف العلم الذي يقترن بالعمل، لكن لا يكلف اللّه نفسًا إلا وسعها من هذا، وهذا . قال تعالى : javascript:openquran(63,16,16){ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، فإذا تفقه السالك، وتعلم الأمر والنهي بحسب اجتهاده، وكان علمه وإرادته بحسب ذاك، فهذا مستطاعه . وإذا أدى الطالب ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وكان علمه مطابقًا لعمله، فهذا مستطاعه .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=204 - TOP#TOPفَصْل(184/416)
قال الشيخ عبد القادر ـ قدس اللّه روحه ـ : ( افن عن الخلق بحكم اللّه، وعن هواك بأمره، وعن إرادتك بفعله، فحينئذ يصلح أن تكون وعاء لعلم اللّه ) .
قلت : فحكمه يتناول خلقه وأمره، أي : افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة اللّه والتوكل عليه، فلا تطعهم في معصية اللّه تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعه ولا دفع مضرة . وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقًا للأمر الشرعي لا لهواه، وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل اللّه لا لإرادة نفسه، فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات .
فالأول : يكون بالأمر، والثاني : لا تكون له إرادة . ولا بد في هذا أن يقيد بألا تكون له إرادة لم يؤمر بها، وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئًا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته، سواء كان موافقًا للقدر أم لا . وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين . /والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور .
قال الشيخ : ( فعلامة فنائك عن خلق اللّه انقطاعك عنهم وعن التردد إليهم واليأس مما في أيديهم ) .
وهو كما قال .
فإذا كان القلب لا يرجوهم، ولا يخافهم، لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورًا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر اللّه به، ونهيهم عما نهاهم اللّه عنه، كذهاب الرسل، واتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات اللّه، فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد . ليكون عابدًا للّه متوكلًا عليه، وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل، أو مثله أو دونه، كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب، بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه .(184/417)
قال الشيخ : ( وعلامة فنائك عنك وعن هواك : ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضر، فلا تتحرك فيك بك ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك، ولا تذب عنك، لكن تكل ذلك كله / إلى من تولاه أولًا فيتولاه آخرًا . كما كان ذلك موكولًا إليه في حال كونك مغيبًا في الرحم، وكونك رضيعًا طفلا في مهدك ) .
قلت : وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها ودفع ما تبغضه ويضرها، فإذا فنى عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه اللّه وترك ما يبغضه اللّه فاعتاض بفعل محبوب اللّه عن محبوبه وبترك ما يبغضه اللّه عما يبغضه وحينئذ فالنفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فيكون في ذلك متوكلًا على اللّه .
والشيخ ـ رحمه اللّه ـ ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لابد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإن لم تكن متوكلة على اللّه في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقًا، بل لابد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة للّه وطاعة أمره بدون التوكل عليه، كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته، قال تعالى : javascript:openquran(10,123,123){ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(64,2,2){ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 2، 3 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(72,8,8){ وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [ المزمل : 8، 9 ] .(184/418)
والمقصود أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون / التوكل والاستعانة، ومن كان واثقًا باللّه أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمره، وإلا فنفسه لا تدعه أن يترك ما يقول : إنه محتاج فيه إلى غيره .
قال الشيخ ـ رضي اللّه عنه ـ : وعلامة فناء إرادتك بفعل اللّه أنك لا تريد مرادًا قط، فلا يكن لك غرض، ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة اللّه سواها، بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة اللّه تعالي وفعله، ساكن الجوارح مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها، تقلبك يد القدرة ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك ويكسوك نورًا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولى العلم الأول، فتكون منكسرًا أبدًا .
فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة : كالإناء المتثلم الذي لا يثبت فيه مائع ولا كدر فتفنوا عن أخلاق البشرية، فلن يقبل باطنك ساكنًا غير إرادة اللّه، فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم وهو فعل اللّه تبارك وتعالى حقًا في العلم فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية، وأزيلت شهواتهم الطبيعية واستوثقت لهم إرادات ربانية وشهوات إضافية . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حبب إلى من / دنياكم : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ) فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه تحقيقًا لما أشرت إليه وتقدم، قال اللّه تعالى : ( أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ) وساق كلامه . وفيه : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل ) الحديث .(184/419)
قلت : هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر ـ رضي اللّه عنه ـ وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورًا بإرادته . فقوله : علامة فناء إرادتك بفعل اللّه أنك لا تريد مرادًا قط . أي لا تريد مرادًا لم تؤمر بإرادته، فأما ما أمرك اللّه ورسوله بإرادتك إياه، فإرادته إما واجب وإما مستحب، وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص .
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلًا، وإن قول أبي يزيد : أريد ألا أريد ـ لما قيل له : ماذا تريد ؟ ـ نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشائخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقًا، وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين، وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقًا، فإن هذا غلط ممن قاله، فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور .
/فإن الحي لابد له من إرادة، فلا يمكن حيًا ألا تكون له إرادة، فإن الإرادة التي يحبها اللّه ورسوله ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركًا لما هو خير له .(184/420)
واللّه ـ تعالى ـ قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه الإرادة، فقال تعالى : javascript:openquran(5,52,52){ وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(91,19,19){ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } [ الليل : 19، 20 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(75,9,9){ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } [ الإنسان : 9 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(32,29,29){ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } [ الأحزاب : 29 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(16,19,19){ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(38,2,2){ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ّ . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [ الزمر : 2، 3 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(38,14,14){ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } [ الزمر : 14 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(3,36,36){ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [ النساء : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .(184/421)
ولا عبادة إلا بإرادة اللّه، ولما أمر به، وقال تعالى : javascript:openquran(1,112,112){ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } [ البقرة : 112 ] ، أي أخلص قصده للّه . وقال تعالى : javascript:openquran(97,5,5){ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ البينة : 5 ] ، وإخلاص الدين له / هو إرادته وحده بالعبادة . وقال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(1,165,165){ ِوَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(2,31,31){ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، وكل محب فهو مريد، وقال الخليل ـ عليه السلام ـ : javascript:openquran(5,76,76){ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينََ } [ الأنعام : 76 ] ، ثم قال : javascript:openquran(5,79,79){ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [ الأنعام : 79 ] .
ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر اللّه بإرادته، وإرادة ما يأمر به، وينهى عن إرادة غيره، وإرادة ما نهى عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، فهما إرادتان : إرادة يحبها اللّه ويرضاها، وإرادة لا يحبها اللّه ولا يرضاها، بل إما نهي عنها، وإما لم يأمر بها، ولا ينهي عنها والناس في الإرادة ثلاثة أقسام :
قوم يريدون ما يهوونه، فهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان .(184/422)
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الإرادة مطلقًا، ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب، وإن هذا المقام هو أكمل المقامات، ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة، وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه / شهد القيومية العامة، ويجعلون الفناء في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا الجمع والفناء والاصطلام، ونحو ذلك . وكثير من الشيوخ زلقوا في هذا الموضع .
وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية، وأن اللّه خالق كل شيء وربه ومليكه، وهو شهود القدر، وسموا هذا مقام الجمع؛ فإنه خرج به عن الفرق الأول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا، ورؤية فعل هذا وترك هذا، فإن الإنسان قبل أن يشهد هذا التوحيد يرى للخلق فعلًا يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبعًا لهواه فيما يريده، فإذا أراد الحق خرج بإرادته عن إرادة الهوى والطبع، ثم شهد أنه خالق كل شيء، فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق، فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد الفرق الثاني، وهو بعد هذا الجمع، وهو الفرق الشرعي . ألا تري أنك تريد ما أمرت به، ولا تريد ما نهيت عنه ؟ ! وتشهد أن اللّه يستحق العبادة دون ما سواه، وأن عبادته هي بطاعة رسله، فتفرق بين المأمور والمحظور، وبين أوليائه وأعدائه، وتشهد توحيد الألوهية، فنازعوه في هذا الفرق .
منهم من أنكره .
/ومنهم من لم يفهمه .
ومنهم من ادعي أن المتكلم فيه لم يصل إليه .
ثم إنك تجد كثيرًا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع، وهو : توحيد الربوبية، والفناء فيه . كما في كلام صاحب [ منازل السائرين ] مع جلالة قدره، مع أنه قطعًا كان قائمًا بالأمر والنهي المعروفين، لكن قد يدعون أن هذا لأجل العامة .
ومنهم من يتناقض .
ومنهم من يقول : الوقوف مع الأمر لأجل مصلحة العامة، وقد يعبر عنهم بأهل المارستان .(184/423)
ومنهم من يسمى ذلك مقام التلبيس .
ومنهم من يقول : التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهودًا، والفرق على لسانك موجودًا، فيشهد بقلبه استواء المأمور والمحظور مع تفريقه بينهما .
ومنهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك / العارفين، وغاية منازل الأولياء الصديقين .
و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهي يكون في السلوك والبداية، وأما في النهاية فلاتبقى إلا إرادة القدر . وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة والطاعة، فإن العبادة للّه والطاعة له ولرسوله إنما تكون في امتثال الأمر الشرعي لا في الجري مع المقدور، وإن كان كفرًا أو فسوقًا أو عصيانًا، ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان الكفار والفجار وخفرائهم، حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا الأمر والنهي الشرعيين .
ومن هؤلاء من يقول : من شهد القدر سقط عنه الملام، ويقولون إن الخضر إنما سقط عنه الملام لما شهد القدر .
وأصحاب شهود القدر قد يؤتي أحدهم ملكًا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف، فيظن ذلك كمالا في الولاية، وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية، وأهواء نفسانية، وإنما الكمال في الولاية أن يستعمل خرق العادات في إقامة الأمر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور، فإذاحصلت بغير الأسباب الشرعية فهي مذمومة، وإن حصلت بالأسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة، وإن توصل بها إلى مباح / لا يستعان بها على طاعة كانت للأبرار دون المقربين .
وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل الأمر الشرعي، فهذه خوارق المقربين السابقين .(184/424)
فلابد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها : من أين حصلت، وإلى ماذا أوصلت ـ كما ينظر في الأموال في مستخرجها ومصروفها ـ ومن استعملها ـ أعني الخوارق ـ في إرادته الطبيعية كان مذمومًا، ومن كان خاليًا عن الإرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفي عنه، لكونه لم يعرف الإرادة الشرعية .
وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذمومًا مستحقًا للعقاب إن لم يعف عنه، وهو يمدح بكون إرادته ليست بهواه، لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لأمر اللّه تعالى ورسوله، لا يكفيه أن تكون لا من هذا ولامن هذا، مع أنه لا يمكن خلوه عن الإرادة مطلقًا؛ بل لابد له من إرادة، فإن لم يرد ما يحبه اللّه ورسوله، أراد مالا يحبه اللّه ورسوله، لكن إذا جاهد نفسه على ترك ما تهواه بقى مريدًا لما يظن أنه مأمور به، فيكون ضالًا .
فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى . وقد قال تعالى : javascript:openquran(0,6,6){ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ) .
فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها . كما أخبر عنهم بأنهم عصوا وكانوا يعتدون . وهم يعرفون الحق ولا يعملون به، فلهم علم، لكن ليس لهم عمل بالعلم، وهم في الإرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الإرادة المحمودة المأمور بها، وهي إرادة ما يحبه اللّه ورسوله .(184/425)
والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلال، يعملون بغير علم، فلا يعرفون الإرادة التي يحبها اللّه ورسوله، بل غاية أحدهم تجريد نفسه عن الإرادات، فلا يبقى مريدًا لما أمر اللّه به ورسوله، كما لا يريد كثيرًا مما نهى اللّه عنه ورسوله، وهؤلاء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة اللّه ورسوله، ولهذا كانوا ملعونين : أي بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة اللّه عز وجل .
والعالم الفاجر يشبه اليهود . والعابد الجاهل يشبه النصارى . ومن أهل العلم من فيه شيء من الأول، ومن أهل العبادة من فيه شيء من الثاني .
/وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم، وتباينوا تباينًا عظيمًا، لا يحيط به إلا اللّه . ففيهم من لم يخلق اللّه خلقًا أكرم عليه منه، وهو خير البرية . ومنهم من هو شر البرية، وأفضل الأحوال فيه حال الخليلين : إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، وهو المعروج به إلى ما فوق الأنبياء كلهم ـ إبراهيم و موسى وغيرهما .
وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم، كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن إبراهيم خير البرية ) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول في خطبة الجمعة : ( خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم ) . وكذلك كان عبد اللّه بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس، كما رواه البخاري في صحيحه .
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أنها قالت : ما ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خادمًا له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل اللّه، وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم اللّه، فإذا انتهكت محارم اللّه لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم للّه .(184/426)
/وقال أنس : خدمت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي : أف قط، وما قال لي لشىء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته ؟ . وكان بعض أهله إذا عنفني على شيء قال : ( دعوه، فلو قضى شيء لكان ) .
ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلائق، وسيد ولد آدم، وله الوسيلة في المقامات كلها، ولم يكن حاله أنه لا يريد شيئًا، ولاأنه يريد كل واقع، كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى، بل هو منزه عن هذا وهذا، قال اللّه تعالى : javascript:openquran(52,3,3){ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 3، 4 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(71,19,19){ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] وقال تعالى : javascript:openquran(1,23,23){ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] ، وقال : javascript:openquran(16,1,1){ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } [ الإسراء : 1 ] . والمراد بعبده عابده المطيع لأمره، وإلا فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبودون مخلوقون مدبرون .(184/427)
وقد قال اللّه لنبيه : javascript:openquran(14,99,99){ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] . قال الحسن البصري : لم يجعل اللّه لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، وقد قال اللّه تعالى له : javascript:openquran(67,4,4){ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] . قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن حنبل : على دين عظيم . والدين : فعل ما أمر به . وقالت عائشة : كان خلقه القرآن . رواه مسلم . وقد أخبرت أنه لم يكن يعاقب لنفسه، ولا ينتقم لنفسه، لكن يعاقب للّه / وينتقم للّه، وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه، وأما حدود اللّه فقد قال : ( والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) أخرجاه في الصحيحين .
وهذا هو كمال الإرادة؛ فإنه أراد ما يحبه اللّه ويرضاه من الإيمان و العمل الصالح، وأمر بذلك وكره ما يبغضه اللّه من الكفر والفسوق والعصيان، ونهى عن ذلك، كما وصفه اللّه تعالى بقوله : javascript:openquran(6,156,156){ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 156، 157 ] .(184/428)
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ولا ينتقم، بل يستوفى حق ربه، ويعفو عن حظ نفسه، وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر، فيقول : ( لو قضى شيء لكان ) ، وفي حق اللّه يقوم بالأمر فيفعل ما أمر اللّه به، ويجاهد في سبيل اللّه أكمل الجهاد الممكن، فجاهدهم أولًا بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه، كما قال تعالى : javascript:openquran(24,51,51){ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا . فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [ الفرقان : 51، 52 ] . ثم لما / هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال، جاهدهم بيده .
وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة، وهو معروف أيضًا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث احتجاج آدم وموسى، لما لام موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب الذي فعله، فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبًا علىَّ قبل أن أخلق بمدة طويلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فحج آدم موسى ) .
وذلك لأن ملام موسى لآدم لم يكن لحق اللّه، وإنما كان لما لحقه وغيره من الآدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل، فذكر له آدم أن هذا كان أمرًا مقدرًا لابد من كونه، والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو الذي ينفعهم، وأما لومهم لمن كان سببًا فيها فلا فائدة لهم في ذلك، وكذلك ما فاتهم من الأمور التي تنفعهم يؤمرون في ذلك بالنظر إلى القدر، وأما التأسف والحزن فلا فائدة فيه، فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم، أو حصول مضرة لهم، فلينظروا في ذلك إلى القدر، وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من المعاصي، والإصلاح في المستقبل . فإن هذا الأمر ينفعهم، وهو مقدور لهم بمعونة اللّه لهم .(184/429)
/وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجزن . وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل : قدر اللّه وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحرص العبد على ما ينفعه، والاستعانة باللّه، ونهاه عن العجز، وأنفع ما للعبد طاعة اللّه ورسوله، وهي عبادة اللّه تعالى . وهذان الأصلان هما حقيقة قوله تعالى : javascript:openquran(0,5,5){ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] . ونهاه عن العجز وهو الإضاعة والتفريط والتواني . كما قال في الحديث الآخر : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني على اللّه الأماني ) رواه الترمذي .
وفي سنن أبي داود : أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه : حسبي اللّه ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي اللّه ونعم الوكيل ) فالكيس ضد العجز . وفي الحديث : ( كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ) رواه مسلم . وليس المراد بالعجز في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يضاد / القدرة؛ فإن من لا قدرة له بحال لا يلام، ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال .
ثم لما أمره بالاجتهاد والاستعانة باللّه ونهاه عن العجز، أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر ويقول : قدر اللّه وما شاء فعل، ولا يتحسر ويتلهف ويحزن . ويقول : ( لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(184/430)
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى : الأمر أمران : أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه؛ فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه . وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين . كما ذكر الشيخ عبد القادر وغيره . فإنه لابد من فعل المأمور وترك المحظور، والرضا والصبر على المقدور . وقد قال تعالى حكاية عن يوسف : javascript:openquran(11,90,90){ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .
فالتقوى : تتضمن فعل المأمور وترك المحظور . والصبر : يتضمن الصبر على المقدور . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلى قوله : javascript:openquran(2,120,120){ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 118-120 ] ، فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر لا يضر / المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين، وقال تعالى : javascript:openquran(2,125,125){ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، فبين أنه مع الصبر والتقوى يمدهم بالملائكة، وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم .(184/431)
وقال تعالى : javascript:openquran(2,186,186){ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين وأهل الكتاب لابد أن يؤذوهم بألسنتهم، وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم الأمور . فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة، المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم، وشر العدو المبطن للعداوة، وهم المنافقون . وهذا الذي كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه هو أكمل الأمور .
فأما من أراد ما يحبه اللّه تارة وما لا يحبه تارة، أو لم يرد لا هذا ولا هذا، فكلاهما دون خلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وإن لم يكن على واحد منهما إثم، كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والانتقام المباح كما هو خلق بعض الأنبياء والصالحين، فهو وإن كان جائزًا لا إثم فيه، فخلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكمل منه .
/وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب، ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا جاز العفو وإن كان الانتقام للّه أرضى للّه . كما هو أيضًا خلق بعض الأنبياء والصالحين فهذا وإن كان جائزًا لا إثم فيه فخلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكمل منه .
وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فلا عيب على نبي فيما شرع اللّه له .(184/432)
لكن قد فضل اللّه بعض النبيين على بعض، وفضل بعض الرسل على بعض، والشريعة التي بعث اللّه بها محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، وأمته خير أمة أخرجت للناس . قال أبو هريرة في قوله تعالى : javascript:openquran(2,110,110){ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] : كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة، يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس، فهم خير الأمم للخلق . والخلق عيال اللّه، فأحبهم إلى اللّه أنفعهم لعياله، وأما غير الأنبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لاتباعه لذلك النبي، وأما من كان من أهل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبًا عليه وما فعله محرمًا عليه كان مستحقًا للذم والعقاب، إلا أن يكون متأولًا مخطئًا فاللّه قد وضع عن هذه الأمة / الخطأ والنسيان وذنب أحدهم قد يعفو اللّه عنه بأسباب متعددة .
ومن أسباب هذا الانحراف : أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه، فيزهد في موجب الشهوة والغضب، كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين، وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم، وهؤلاء يرون الجهاد نقصًا لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، ويرون أن اللّه لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود؛ لأنه جرى علي يديه سفك الدماء .
ومنهم من لا يري ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة، ومنهم من لا يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى اللّه بأنه لا يذبح حيوانًا ولا يأكل لحمه ولا ينكح النساء، ويقول مادحه : فلان ما نكح، ولا ذبح .(184/433)
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء كما في الصحيحين عن أنس : أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم : لا أتزوج النساء، وقال بعضهم : لا آكل اللحم، وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه وأثني عليه وقال : ( ما بال أقوام قالوا : كذا وكذا ؟ ! لكني أصلي وأنام، / وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . وقد قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] نزلت في عثمان ابن مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل، ونوع من الترهب . وفي الصحيحين عن سعد قال : رد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا .
والزهد النافع المشروع الذي يحبه اللّه ورسوله هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة، فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك، فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة اللّه وطاعته، والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر، أو زهد فيما لا ينفع، فأما الزهد في النافع فجهل وضلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه ولا تعجزن ) .
والنافع للعبد هو عبادة اللّه وطاعته وطاعة رسوله، وكل ما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع، ثم الأنفع له أن تكون كل أعماله عبادة للّه وطاعة له، وإن أدى الفرائض وفعل مباحًا لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره .(184/434)
وكذلك الورع المشروع، هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو / ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه، وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله ـ مثل محرم معين ـ مثل من يترك أخذ الشبهة ورعًا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينًا تحريمه، أو يترك واجبًا تركه أعظم فسادًا من فعله مع الشبهة، كمن يكون على أبية أو عليه ديون هو مطالب بها، وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها، ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة .
وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه .
وتمام الورع أن يعم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعًا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع .
/وكذلك الزهد والرغبة، من لم يراع مايحبه اللّه ورسوله من الرغبة والزهد ومايكرهه من ذلك، وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل، أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق اللّه تعالى أو حقوق عباده، أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل اللّه، لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم، حتى يستولى الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك .(184/435)
وقد قال تعالى : javascript:openquran(1,217,217){ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ } [ البقرة : 217 ] .
يقول ـ سبحانه وتعالى ـ : وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر وظهور أهله أعظم من ذلك، فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما .
وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلمًا له هو جاهل، فإن هذا الحيوان لابد أن يموت، فإذا قتل لمنفعة الآدميين / وحاجتهم كان خيرًا من أن يموت موتًا لا ينتفع به أحد، والآدمي أكمل منه، ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك، لكن مالا يحتاج إليه من تعذيبه نهي اللّه عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك، وأوجب اللّه الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح . كما في صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه كتب الإحسان على كل شيء : فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته ) .
وهؤلاء الذين زهدوا في الإرادات حتى فيما يحبه اللّه ورسوله من الإرادات بإزائهم طائفتان :
طائفة رغبت فيما كره اللّه ورسوله الرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان .(184/436)
وطائفة رغبت فيما أمر اللّه ورسوله، لكن لهواء أنفسهم لا لعبادة اللّه تعالى، وهؤلاء الذين يأتون بصور الطاعات مع فساد النيات، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : يا رسول اللّه، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل اللّه ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا، / فهو في سبيل اللّه ) . قال تعالى : javascript:openquran(3,142,142){ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [ النساء : 142 ] .(184/437)
وهؤلاء أهل إرادات فاسدة مذمومة، فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم، وهم يشبهون اليهود، كما يشبه أولئك النصارى . قال تعالى : javascript:openquran(2,112,112){ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [ آل عمران : 112 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(6,146,146){ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ الأعراف : 146 ] ، وقال تعالى : javascript:openquran(6,175,175){ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } إلى قوله : javascript:openquran(6,176,176){ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 175، 176 ] .
فهؤلاء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق، وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلال والجهل بالحق . كما قال تعالى : javascript:openquran(4,77,77){ ِوَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة : 77 ] .(184/438)
/وكلا الطائفتين تاركة ما أمر اللّه ورسوله به من الإرادات، والأعمال الصالحة، مرتكبة لما نهى اللّه ورسوله عنه من الإرادات والأعمال الفاسدة .
فَصْل
فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشائخ أهل الاستقامة ـ رضي اللّه عنهم ـ : بأنه لا يريد السالك مرادًا قط، وأنه لا يريد مع إرادة اللّه ـ عز وجل ـ سواها، بل يجرى فعله فيه، فيكون هو مراد الحق، إنما قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر اللّه ورسوله فيه، فأما ما علم أن اللّه أمر به فعليه أن يريده ويعمل به، وقد صرحوا بذلك في غير موضع . وإن كان غيرهم من الغالطين يري القيام بالإرادة الخلقية هو الكمال، وهو الفناء في توحيد الربوبية، وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد، فصاحبه إذا قام بالأمر فلأجل غيره، أو أنه لا يحتاج أن يقوم بالأمر، فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع .
فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشائخ السلف، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف / الكرخي، والسري السقطي، والجنيد ابن محمد، وغيرهم من المتقدمين ومثل الشيخ عبد القادر، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للمسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور، ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف .(184/439)
وهذا كثير في كلامهم : كقول الشيخ عبد القادر في كتاب [ فتوح الغيب ] : [ اخرج من نفسك، وتنح عنها، وانعزل عن ملكك، وسلم الكل إلى اللّه تبارك وتعالى، وكن بوابه علي باب قلبك، وامتثل أمره تبارك وتعالى في إدخال من يأمرك بإدخاله، وانته نهيه في صد من يأمرك بصده، فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه، وإخراج الهوى من القلب بمخالفته وترك متابعته في الأحوال كلها، وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته، فلا ترد إرادة غير إرادته تبارك وتعالى، وغير ذلك منك غير، وهو واد الحمقى، وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه تبارك وتعالى، وحجابك عنه .
احفظ أبدا أمره، وانته أبدا نهيه، وسلم إليه أبدا مقدوره، ولا تشركه بشيء من خلقه، فإرادتك وهواك وشهواتك خلقه، فلا ترد ولا تهوى ولا تشته لئلا يكون شركا . قال اللّه تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110 ] ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب؛ بل هو أيضًا متابعتك لهواك، وأن تختار مع ربك شيئًا سواه من الدنيا وما فيها، والآخرة وما فيها، فما سواه تبارك وتعالى غيره، فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به غيره، فاحذر ولا تركن، وخف ولا تأمن، وفتش ولا تغفل فتطمئن، ولا تضف إلى نفسك حالًا ولا مقامًا، ولاتدع شيئًا من ذلك ] .
وقال الشيخ عبد القادر أيضًا : [ إنما هو اللّه ونفسك، وأنت المخاطب، والنفس ضد اللّه وعدوته، والأشياء كلها تابعة للّه، فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها كنت خصمًا له على نفسك ] ـ إلى أن قال ـ :
[ فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك، قال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ ص : 26 ] ] إلى أن قال :(184/440)
[ والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي ـ رحمه اللّه تعالى ـ لما رأي رب العزة في المنام فقال له : كيف الطريق إليك ؟ فقال : [ اترك نفسك وتعال ] قال أبو يزيد : فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها .
فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الأحوال كلها، فإن / كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج من إجرام الخلق، وشبههم ومنتهم، والاتكال عليهم والثقة بهم، والخوف منهم؛ والرجاء لهم، والطمع فيما عندهم من حطام الدنيا، فلا ترج عطاءهم على طريق الهدية، أو الزكاة، أو الصدقة، أو الكفارة أو النذر، فاقطع همك منهم من سائر الوجوه والأسباب، فاخرج من الخلق جدًا، واجعلهم كالباب يرد ويفتتح، وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة وتحيل أخرى، كل ذلك بفعل فاعل، وتدبير مدبر، وهو اللّه ـ تبارك وتعالى .
فإذا صح لك هذا كنت موحدًا له ـ تبارك وتعالى ـ ولا تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية، واعتقد أن الأفعال لا تتم لهم دون اللّه ـ تبارك وتعالى ـ لكيلا تعبدهم، وتنسى اللّه ـ تعالى ـ ولا تقبل فعلهم دون اللّه فتكفر، وتكون قدريًا . ولكن قل : هي للّه خلقًا وللعباد كسبا . كما جاءت به الآثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب، وامتثل أمر اللّه فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ولا تجاوزه، فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم، فلا تكن أنت الحاكم، وكونك معهم قدر، والقدر ظلمة، فادخل في الظلمة بالمصباح وهو الحكم ـ كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ـ لا تخرج عنهما .(184/441)
فإن خطر خاطر أو وجدت إلهاما فاعرضهما على الكتاب والسنة، فإن وجدت فيهما تحريم ذلك، مثل أن تلهم بالزنا أو الربا أو مخالطة / أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك، واهجره ولاتقبله، ولاتعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين، وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحه من الأكل والشرب واللبس والنكاح فاهجره أيضًا ولا تقبله، واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها، وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها ]
قلت : ومراده بهجر المباح، إذا لم يكن مأمورًا به، كما قد بين مراده في غير هذا الموضع، فإن المباح المأمور به إذا فعله بحكم الأمر كان ذلك من أعظم نعمة اللّه عليه، وكان واجبًا عليه، وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين المقربين؛ لا يقف عند طريقة الأبرار أصحاب اليمين ] .
قال : [ وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ولا إباحته بل هو أمر لا تعقله، مثل أن يقال لك : ائت موضع كذا وكذا، الق فلانًا الصالح، ولا حاجة لك هناك ولا في الصالح، لاستغنائك عنه بما أولاك اللّه تعالى من نعمه من العلم والمعرفة، فتوقف في ذلك ولا تبادر إليه، فتقول : هل هذا إلهام إلا من الحق فأعمل به ؟ بل أنتظر الخير في ذلك، وفعل الحق بأن يتكرر ذلك الإلهام وتؤمر بالسعي، أو علامة تظهر لأهل العلم باللّه تبارك وتعالى يفعلها العقلاء من أولياء اللّه، والمؤيدون من الأبدال .
وإنما لم تبادر إلى ذلك لأنك لا تعلم عاقبته وما يؤول الأمر إليه، وربما / كان فيه فتنة وهلاك ومكر من اللّه وامتحان، فاصبر حتى يكون عز وجل هو الفاعل فيك، فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولًا محفوظًا فيها؛ لأن اللّه تعالى لا يعاقبك على فعله، وإنما تتطرق العقوبات نحوك لكونك في الشىء ] .(184/442)
قلت : فقد أمر ـ رضي اللّه عنه ـ بأن ما كان محظورًا في الشرع يجب تركه ولابد، وما كان معلومًا أنه مباح بعينه لكونه يفعل بحكم الهوى لا بأمر الشارع فيترك أيضًا، وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح لا مضرة فيه أو فيه مضرة مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين، والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين، فإن جنس هذا العمل ليس محرمًا ولا كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على الإنسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن الذهاب حتى يظهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لأنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له فعله، وإذا خاف الضرر ينبغي له تركه، فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فلا يؤاخذ بالفعل، لخلاف ما إذا فعله باختياره أو شهوته؛ وإذ تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنًا .
وقد جاءت شواهد السنة بأن من ابتلى بغير تعرض منه أعين ومن تعرض للبلاء خيف عليه . مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : ( لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها / عن غير مسألة أعنت عليها ) ، ومنه قوله : ( لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا اللّه العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا ) . وفي السنن : ( من سأل القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إليه، ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل اللّه عليه ملكًا يسدده ـ وفي رواية ـ وإن أكره عليه ) ، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال في الطاعون : ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ) ، وعنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر . ومنه قوله : ( ذروني ماتركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=205 - TOP#TOPفَصْل(184/443)
قال الشيخ عبد القادر : وإن كنت في حال الحقيقة، وهي حال الولاية : فخالف هواك واتبع الأمر في الجملة، واتباع الأمر على قسمين :
أحدهما : أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس، وتترك الحظ وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن .
/والقسم الثاني : ما كان بأمر باطن، وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه، وإنما يتحقق هذا الأمر في المباح الذي ليس حكمًا في الشرع، على معنى أنه ليس من قبيل النهي ولا من قبيل الأمر الواجب، بل هو مهمل ترك العبد يتصرف فيه باختياره، فسمى مباحًا فلا يحدث العبد فيه شيئًا من عنده بل ينتظر الأمر فيه فإذا أمر امتثل فيصير جميع حركاته وسكناته باللّه تعالى، مافي الشرع حكمه فبالشرع، وما ليس له حكم في الشرع فبالأمر الباطن، فحينئذ يصير محققًا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم .
وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحق، والفناء حالة الأبدال المنكسري القلوب؛ لأجل الحق، والموحدين العارفين أرباب العلوم والفعل، السادة الأمراء، السخي الخفراء للحق، خلفاء الرحمن وأجلائه وأعيانه وأحبابه ـ عليهم السلام ـ فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة، وألا تكون لك إرادة وهمة في شيء البتة، دنيا وأخرى عبد المَلِك لاعبد المَلَك، وعبد الأمر لا عبد الهوى كالطفل مع الظئر، والميت الغسيل مع الغاسل، والمريض المغلوب على حسه مع الطبيب فيما سوى الأمر والنهي .(184/444)
وقال أيضًا : اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك، إن كنت في / حال التقوى التي هي القدم الأولى، واتبع الأمر في حالة الولاية ووجود الهوي ولا تتجاوزه، وهي القدم الثانية، وارض بالفعل ووافق وافن في حالة البدلية والعينية والصديقية، وهي المنتهى، تنح عن الطريق القذر، خل عن سبيله، رد نفسك وهواك، كف لسانك عن الشكوى، فإذا فعلت ذلك، إن كان خيرًا زادك المولى طيبة ولذة وسرورًا، وإن كان شرا ً حفظك في طاعته فيه، وأزال عنك الملامة وأقعدك فيه حتى يتجاوز ويريحك عند انقضاء أجله، كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف، ذلك النموذج عندك فاعتبر به . ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطايا، ولا يصلح لمجالسة الكريم إلا طاهر عن أنجاس الذنوب والزلات، ولايقبل على شدته إلا طيب من دون الدعوى والهواشات، كما لا يصلح لمجالسة الملوك إلا الطاهر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ، فالبلايا مكفرات . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حمى يوم كفارة سنة ) .
قلت : فقد بين الشيخ عبد القادر ـ رضي اللّه عنه ـ أن لزوم الأمر والنهي لابد منه في كل مقام، وذكر الأحوال الثلاث التي جعلها : حال صاحب التقوى، وحال الحقيقة، وحال حق الحق، وقد فسر مقصوده بأنه لابد للعبد في كل حال من أن يريد فعل ما أمر به / في الشرع وترك ما نهى عنه في الشرع، وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه، وهذا حق . فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ولا نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو في مثل هذا عن إرادة النقيضين .
وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم الأمر دائمًا الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه، أو الأمر الباطن، وبين أن الأمر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم، وإن مثل هذا ينتظر فيه الأمر الخاص حتى يفعله بحكم الأمر .(184/445)
فإن قلت : فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله ؟ وصاحب الحق الذي بعده ؟ .
قيل : أما الذي بعده الذين سماهم : الأبدال، فهم الذين لا يفعلون إلا بأمر الحق ولا يفعلون إلا به فلا يشهدون لأنفسهم فعلًا فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره، ولهذا قال : فاتباع الأمر فيها مخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة .
فهؤلاء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد الإلهية، فيشهدون / أن اللّه هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير، فلا يرون لأنفسهم حمدًا ولا منة على أحد، ويرون أن اللّه خالق أفعال العباد فلا يرون أحدًا مسيئًا إليهم، ولا يرون لهم حقًا على أحد إذ قد شهدوا أن اللّه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وهم يعلمون أن العبادة لا يستحقون من أنفسهم ولا بأنفسهم على اللّه شيئًا، بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة ويشهدون أنه يستحق أن يعبد، ولا يشرك به شيء وأنه يستحق أن يتقي حق تقاته، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فيرون إنما قام بهم من العمل الصالح فهو جوده وفضله وكرمه له الحمد في ذلك .
ويشهدون : أنه لا حول ولا قوة إلا باللّه . وأما ما قام بالعباد من أذاهم، فهو خلقه وهو من عدله، وما تركه الناس من حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه، وله الحمد علي كل حال على ما فعل ومالم يفعل . ولهذا كانوا منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل وعدمهم المحض، ولا أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إلا العدم لا يرى له شيئًا، ولا يرى به شيئًا .(184/446)
وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلاص الدين للّه، وأنه لا يفعل إلاما أمر به، فلايفعل إلا للّه، لكن قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته، وأنه لا حول ولا قوة إلا باللّه / وأنه ليس له في الحقيقة شيء؛ بل الرب هو الخالق الفاعل لكل ما قام به، وإن كمال هذا الشهود لا يبقى شيئًا من العجب ولا الكبر ونحو ذلك . فكلاهما قائم بالأمر مطيع للّه، لكن هذا يشهد أن اللّه هو الذي جعله مسلمًا مصليًا، وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئًا . وذاك وإن كان يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرًا بأن اللّه خالق أفعال العباد؛ لكن قد لا يشهده شهودًا يجعله فيه بمنزلة المعدوم .
وأيضًا، بينهما فرق من جهة ثانية : وهي أن الأول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها، فهو يميز في مراداته بين ما يؤمر به وما ينهى عنه، ومالا يؤمر به ولا ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصلا إلا ما أراده الرب، إما أمرًا به فيمتثله هو باللّه، وإما فعلا فيه فيفعله اللّه به، ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر، في غير الأمر والنهي .
وأما الأول : الذي هو في مقام التقوى العامة، فإن له شهوات للمحرمات، وله التفات إلى الخلق، وله رؤية نفسه، فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى، بأن يكف عن المحرمات، وعن تناول الشهوات بغير الأمر، فهذا يحتاج أن يميز بين ما يفعله ومالا يفعله، وهو التقوى، وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إلا ما يؤمر به فقط، فلا يفعل إلا ما أمر به في الشرع، وما كان مباحًا لم يفعل إلا ما أمر به .
/وأما الثالث : فقد تم شهوده في أنه لا يفعل إلا للّه وباللّه، فلا يفعل إلا ما أمر اللّه به للّه، ويشهد أن اللّه هو الذي فعل ذلك في الحقيقة، ولا تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ولا لغير اللّه، ولا يفعل بنفسه ولا بغير اللّه ـ تعالى .(184/447)
والثلاثة مشتركون في الطريق، في أن كلًا منهم لا يفعل إلا الطاعة، لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة، وبصفاء النية والإرادة . واللّه أعلم .
فإن قيل : كلام الشيخ كله يدور على أنه يتبع الأمر مهما أمكن معرفته باطنًا وظاهرًا، وما ليس فيه أمرًا باطنًا ولا ظاهرًا يكون فيه مسلمًا لفعل الرب، بحيث لا يكون له اختيار لا في هذا ولا في هذا بل إن عرف الأمر كان معه، وإن لم يعرفه كان مع القدر، فهو مع أمر الرب إن عرف وإلا فمع خلقه، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، وهذا يقتضي أن من الحوادث ماليس فيه أمر ولا نهي، فلا يكون للّه فيه حكم لا باستحباب ولا كراهة، وقد صرح بذلك هو والشيخ حماد الدباس، وإن السالك يصل إلى أمور لا يكون فيها حكم شرعي بأمر ولا نهي، بل يقف العبد مع القدر؛ وهذا الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع الحقيقة القدرية المحضة، إذ ليس هنا حقيقة شرعية .
/وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة، ويقولون : الفعل إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحًا على عدمه، وهو الواجب والمستحب . وإما أن يكون عدمه راجحًا على وجوده، وهو المحرم والمكروه، وإما أن يستوى الأمران وهو المباح، وهذا التقسيم بحسب الأمر المطلق .
ثم الفعل المعين الذي يقال : هو مباح، إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لاستعانته به على طاعته ولحسن نيته . فهذا يصير أيضًا محبوبًا راجح الوجود بهذا الاعتبار، وإما أن يكون مفوتًا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن مستحب، فهذا عدمه خير له .(184/448)
والسالك المتقرب إلى اللّه بالنوافل بعد الفرائض لا يكون المباح المعين في حقه مستوى الطرفين، فإنه إذا لم يستعن به على طاعته كان تركه، وفعل الطاعة مكانه خيرًا له، وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح مثله . فيقال : لا فرق بين هذا وهذا، فهذا يصلح للأبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى اللّه بالفرائض، كأداء الواجبات، وترك المحرمات، ويشتغلون مع ذلك بمباحات . فهؤلاء قد يكون المباح المعين يستوى وجوده وعدمه في حقهم، إذا كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر، ولا سبيل إلى أن تترك النفس فعلًا إن / لم تشتغل بفعل آخر يضاد الأول؛ إذ لا تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات .
ومن هذا أنكر الكعبي : المباح في الشريعة؛ لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب، ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده، وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده إن لم يكن له إلا ضد واحد، وإلا فهو أمر بأحد أضداده، فأي ضد تلبس به كان واجبًا من باب الواجب المخير .
وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار . فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه : كأبي الحسن الآمدي، وقواه طائفة، بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي . ومنهم من قال : هذا فيما إذا كانت أضداده محصورة، فأما ما ليست أضداده محصورة فلا يكون النهي عنه أمرًا بأحدهما، كما يفرق بين الواجب المطلق والواجب المخير، فيقال في المخير : هو أمر بأحد الثلاثة، ويقال في المطلق : هو أمر بالقدر المشترك، وجدنا أبو البركات يميل إلى هذا .
وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر، وهو قد يقول : عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم، بل إما مباح وإما مستحب، وإما واجب .(184/449)
/وتحقيق الأمر أن قولنا : الأمر بالشىء نهى عن ضده وأضداده، والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده، من جنس قولنا : الأمر بالشىء أمر بلوازمه، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، والنهي عن الشىء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به . فإن وجود المأمور يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده، وعدم النهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته، وإذا كان لا يعدم إلابضد يخلقه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده، فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم يكن مقصوده الأمر . والفرق ثابت بين مايؤمر به قصدًا، وما يلزمه في الوجود .
فالأول : هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلاف الثاني، فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدًا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب، فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به، ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب، بل ذلك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم، فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها، فكان يكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعًا .
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لابد من ترك أضداده، لكن / ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودًا للأمر، بحيث أنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها، وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده، وإذا تركه متلبسًا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك .(184/450)
وعلى هذا إذا ترك حرامًا بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني، ولا يقال : فعل واجبًا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بامتثاله أمرًا مقصودًا؛ لكن نهى عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده، فذاك يقع لازمًا لترك المنهي عنه، فليس هو الواجب المحدود بقولنا : الواجب ما يذم تاركه، ويعاقب تاركه، أو يكون تركه سببًا للذم والعقاب .
فقولنا : ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أو [ يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب ] . يتضمن إيجاب اللوازم، والفرق ثابت بين الواجب الأول، والثاني . فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعًا، أي لا يحصل إلا به، ويؤمر به أمرًا بالوسائل، ويثاب عليه، لكن العقوبة ليست على تركه .
/ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكي، فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما، بحيث إذا أكلهما جميعًا لم يعاقب عقوبة من أكل ميتتين، بل عقوبة من أكل ميتة واحدة، والأخرى وجب تركها وجوب الوسائل . فقول من قال : كلاهما محرم صحيح بهذا الاعتبار؛ وقول من قال : المحرم في نفس الأمر أحدهما صحيح أيضًا بذلك الاعتبار وهذا نظير قول من قال : يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب .
وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا، ومن قال : المحرم أحدهما لا يناسب طريقة الفقهاء، وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي . فإن الوجوب والحرمة الثابتة لأحدهما ليست ثابتة للآخر، بل نوع آخر، حتى لو اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الأخرى، كان ولده من مملوكته ثابتًا نسبه بخلاف الأخرى، ولو قدرنا أنها اشتبهت بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلًا، ثم تزوج الأخرى لم يحد حدين، مع أنه لاحد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الأجنبية .(184/451)
وبهذا تنحل شبهة الكعبي . فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة؛ فإذا قيل المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل، أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق .
/ثم إن هذا يعتبر فيه القصد، فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها، أو يأكل طعامًا حلالًا ليشتغل به عن الطعام الحرام، فهذا يثاب على هذه النية والفعل؛ كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( وفي بضع أحدكم صدقة ) . قالوا : يارسول اللّه، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر ؟ ! قال : ( أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر، فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال ؟ ! ) ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته ) رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه .
وقد يقال : المباح يصير واجبًا بهذا الاعتبار، وإن تعين طريقًا صار واجبًا معينًا، وإلا كان واجبا مخيرًا، لكن مع هذا القصد، أما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبًا أصلًا، إلا وجوب الوسائل إلى الترك وترك المحرم لا يشترط فيه القصد . فكذلك ما يتوسل به إليه، فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك . فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري . وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها .(184/452)
والمقصود هنا أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون بمباح / عن مباح آخر، فيكون كل من المباحين يستوى وجوده وعدمه في حقهم . أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها، والاستعانة على طاعة اللّه، وحينئذ فمباحاتهم طاعات، وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده، فيؤمرون به شرعًا أمر استحباب، أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم أن لا يفعلوه، وإن لم يكن فيه إثم . والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها فهذا سؤال .
وسؤال ثان : وهو أنه إذا قدر أن من الأفعال ماليس فيه أمر ولا نهي، كما في حق الأبرار، فهذا الفعل لا يحمد ولا يذم، ولا يحب ولا يبغض، ولا ينظر فيه إلا وجود القدر وعدمه، بل إن فعلوه لم يحمدوا، وإن لم يفعلوه لم يحمدوا، فلا يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل، مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم وإرادتهم . إذ الكلام في ذلك .
وأما غيرالأفعال الاختيارية، وهو ما فعل بالإنسان كما يحمل الإنسان وهو لا يستطيع الامتناع، فهذا خارج عن التكليف، مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة، ويبغضه إن كان سيئة، ويخلو عنهما إن لم يكن حسنة ولا سيئة، فمن جعل الإنسان فيما يستعمله فيه القدر من الأفعال الاختيارية كالميت بين / يدي الغاسل فقد رفع الأمر والنهي عنه في الأفعال الاختيارية وهذا باطل .
وسؤال ثالث : وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط الأمر والنهي عن العبد في هذه الأحوال، مع كون أفعاله اختيارية، وهب أنه ليس له هوى، فليس كل مالا هوى فيه يسقط عنه فيه الأمر والنهي، بل عليه أن يحب ما أحبه اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغضه اللّه ورسوله .
قيل : هذه الأسولة أسئلة صحيحة .(184/453)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=205 - TOP#TOPوفصل الخطاب : أن السالك قد يخفي عليه الأمر والنهي، بحيث لا يدري هل ذلك الفعل مأمور به شرعًا أو منهي عنه شرعًا؛ فيبقى هواه لئلا يكون له هوى فيه، ثم يسلم فيه للقدر، وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب وأمره وحبه في ذلك الفعل .
وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد، وأئمة العلماء، فإنه قد يكون عندهم أفعال وأقوال لا يعرفون حكم اللّه الشرعي فيها، بل قد تعارضت عندهم فيها الأدلة أو خفيت الأدلة بالكلية، فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم، وحكم الشرع إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من / معرفته، وأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فلا يطالب به، وإنما عليه أن يتقي اللّه ما استطاع . وهذا خطأ في العلم، وليس خطأ في العمل، وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده واجتهاده، وخطؤه مرفوع عنه .
فإن قيل : فإذا كان الأمر هكذا . فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به أو منهي عنه، وهو لا يريد أن يفعل شيئًا لا مدح فيه ولا ذم، فيقف لا يستسلم للقدر ويصير محلًا لما يستعمل فيه من الأفعال، اللّهم إلا إذا فعل غيره فعلًا، فهو لا يمدحه ولا يذمه، ولا يرضاه ولا يسخطه؛إذا لم يتبين له حكمه .
فأما كونه هو من أفعاله الاختيارية يصير مستسلمًا لما يستعمله القدر فيه : كالطفل مع الظئر، والميت مع الغاسل، فهذا مما لم يأمر اللّه به ولا رسوله، بل هذا محرم، وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لاجتهاده وحسن قصده، أما كونه يحمد على ذلك، ويجعل هذا أفضل المقامات فليس الأمر كذلك، وكونه مجردًا عن هواه ليس مسوغًا له أن يستسلم لكل مايفعل به .
ثم يقال : الأمور مع هذا نوعان :(184/454)
/أحدهما : أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل الإنسان ولا يمكنه الامتناع، وكما تضجع المرأة قهرًا وتوطأ، فهذا لا إثم فيه باتفاق العلماء، وأما أن يكره بالإكراه الشرعي حتى يفعل، فهذا أيضًا معفو عنه في الأفعال عند الجمهور، وهو أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالى : { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النور : 33 ] .
وأما إذا لم يكره الإكراه الشرعي فاستسلامه للفعل المطلق الذي لا يعرف أخير هو أم شر ؟ ليس هو مأمورًا به، وإن جرى على يده خرق عادة أو لم يجر، فليس هو مأمورًا أن يفعل إلا ما هو خير عند اللّه ورسوله .
قيل : هذا السؤال صحيح، وحقيقة الأمر : أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فيحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم لربهم، وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الأصلح، إذا استعملوا في أمورهم لا يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن يكون خيرًا؛ لأن معرفتهم بحكمه قد تعذرت عليهم، والإنسان غير عالم في كل حال بما هو الأصلح له في دينه، وبما هو أرضى للّه ورسوله، فيبقى حالهم حال المستخير للّه فيما لم يعلم عاقبته، إذا قال : ( اللهم، إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر؛ وتعلم ولا أعلم؛ وأنت علام الغيوب، اللّهم، إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني / ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه . وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به ) .(184/455)
فإذا استخار اللّه كان ما شرح له صدره وتيسر له من الأمور هو الذي اختاره اللّه له . إذ لم يكن معه دليل شرعي على أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال، فإن الأدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام، لا بعين كل فعل من كل فاعل، إذ كان هذا ممتنعًا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الأفراد المعينة داخلة تحت الأمر العام الكلي؛ لكن لا يقدر كل أحد على استحضار هذا، ولا على استحضار أنواع الخطاب .
ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم .
ثم القياس ـ أيضًا ـ قد لا يحصل في كل واقعة، فقد يخفى على الأئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام، أو اعتبارها بنظير لها، فلا يعرف لها أصل، ولا نظير . هذا مع كثرة نظرهم في خطاب الشارع ومعرفة معانيه، ودلالته على الأحكام . فكيف من لم يكن كذلك ؟ !
/ثم السالك ليس قصده معرفة الحلال والحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا، وهذا خير من هذا، وأيهما أحب إلى اللّه في حقه في تلك الحال، وهذا باب واسع لا يحيط به إلا اللّه ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيها بما ينهي عنه غيره، ويؤمر في حال بما ينهي عنه في أخرى .
فقالوا : نحن نفعل الخير بحسب الإمكان، وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به، ونترك أصل الشر وهو هوى النفس، ونلجأ إلى اللّه فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن أصبنا فلنا أجران، وإلا فلنا أجر، وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا .(184/456)
وحينئذ، فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا؛ ولكن كثير ممن يعلم المشروع لا يفعله ولا يقصد أحب الأمور إلى اللّه وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى، فيبقى هذا فعل المشروع بهوى وهذا ترك مالم يعلم أنه مشروع بلا هوى . فهذا نقص في العلم، وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل، ولو كان المفعول واجبًا .
فيقال : إن تاب صاحب الهوي من هواه كان أرفع بعلمه، وإن / لم يتب فله نصيب من عالم السوء؛ ولهذا تشاجر رجلان من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا . فقال أحدهما لصاحبه : إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث . وقال الآخر : أنت كالحمار يحمل أسفارًا؛ فهذا أحسن قصدًا وأقوى علمًا .
ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلاء اتباع الهوي وحب الدنيا والرئاسة، وأهل العلم يعيبون على أولئك نقص علمهم بالشرع، وعدولهم عن الأمر والنهي فهذا هذا .
واللّه ـ تعالى ـ المسؤول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا .
وقد قال بعض أهل الفقه والزهد : من الناس من سلك الشريعة، ومنهم من سلك الحقيقة . ولعله أراد هؤلاء وهؤلاء؛ فإن هؤلاء يرجحون بما ييسره اللّه مع حسن القصد واتباع الأمر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الأدلة الشرعية في ذلك المتيسر لهم، وهؤلاء يرجحون بالأدلة الشرعية من الظواهر والأقيسة، وأخبار الآحاد وأقوال العلماء مع خفاء الأمر المتيسر لهم .
وأيضًا، فهؤلاء قد يشهدون مافي ذلك الفعل المقدر من / المصلحة والخير، فيرجحونه بحكم الإيمان وإن لم يعرفوا دليلًا من النص على حسنه، وأولئك إنما يرجحون من النصوص، وما استنبط منها، فهؤلاء لهم القرآن، وهؤلاء لهم الإيمان، وسبب هذا أن كلا من الطائفتين خفي عليه ما مع الأخرى من الحق، وكل من الطائفتين في طريقها حق وباطل .(184/457)
فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة الأمر والنهي الشرعيين، فهم ضالون، كالذين يعرفون الأمر والنهي ولا يفعلون إلا ما يهوونه من الكبائر، فإنهم فساق . وهؤلاء الذين قيل فيهم : احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية، وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المنزل، و المؤول والمبدل .
والمقصود هنا ذكر أهل الاستقامة من الطائفتين والكلام على حال أهل العبادة والإرادة، الذين خرجوا عن الهوي وهو الفرق الطبعي، وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي .
وبقى قسم ثالث، ليس لهم فيه فرق طبعي ولا عندهم فيه فرق شرعي، فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر .
وأما من جري مع الفرق الطبعي، إما عالمًا بأنه عاص وهو العالم / الفاجر، أو محتجًا بالقدر أو بذوقه ووجده معرضًا عن الكتاب والسنة، وهو العابد الجاهل فهذا خارج عن الصراط المستقيم .
وهذا مما بين حال كمال الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ وأنهم خير قرون هذه الأمة، إذ كانوا في خلافة النبوة يقومون بالفروق الشرعية في جليل الأمور ودقيقها مع اتساع الأمر، والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق الشرعية فيما يخصه، كما أن الواحد من هؤلاء يتبع هواه في أمر قليل . فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من الأمر والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات، ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات، والكثير من المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس، أو يفوته القصد في كثير من الأعمال، حتي يتبع هواه فيما وضح له من الأمر والنهي .
فنسأل اللّه أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .(184/458)
هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة، وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوي حقيقة، فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول، وخلط القصد الحسن باتباع الهوى، فهؤلاء / وهؤلاء مخلطون في علمهم وعملهم، وتخليط هؤلاء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد، وتخليط هؤلاء في القصد سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم .
فإنه من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم . وحسن القصد : من أعون الأشياء على نيل العلم ودركه . والعلم الشرعي : من أعون الأشياء على حسن القصد والعمل الصالح، فإن العلم قائد والعمل سائق والنفس حرون، فإن ونى قائدها لم تستقم لسائقها، وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها، فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك، فغايته أن يستطرح للقدر، وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه، فهذا حائر لا يدري أين يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به .
قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] . هذا جاهل وهذا ظالم، قال تعالى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [ الأحزاب : 72 ] . مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل لا يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة له من العلم . قال تعالى : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } [ النساء : 17 ] .
قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد فقالوا : كل من عصى اللّه / فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب .
وقد روى الخلال عن أبي حيان التيمي قال : العلماء ثلاثة : فعالم باللّه ليس عالمًا بأمر اللّه، وعالم بأمر اللّه ليس عالمًا باللّه، وعالم باللّه وبأمر اللّه .
فالعالم باللّه الذي يخشاه، والعالم بأمر اللّه الذي يعرف أمره ونهيه .(184/459)
قلت : والخشية تمنع اتباع الهوى قال تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 40، 41 ] .
والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [ النجم : 1-4 ] ، فنفى عنه الضلال والغي ووصفه بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي، فهذا كمال العلم وذاك كمال القصد صلى الله عليه وسلم .
ووصف أعداءه بضد هذين، فقال تعالى : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } [ النجم : 23 ] ، فالكمال المطلق للإنسان هو تكميل العبودية للّه علمًا وقصدًا . قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقال تعالى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] ، وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] ، وقال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، وقال تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99، 100 ] .(184/460)
وعبادته : طاعة أمره، وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه، فالكمال في كمال طاعة اللّه ورسوله باطنًا وظاهرًا، ومن كان لم يعرف ما أمر اللّه به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورًا به، أو تعارضت عنده الأدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس الأمر، فهؤلاء مطيعون للّه مثابون على ما أحسنوه من القصد للّه، واستفرغوه من وسعهم في طاعة اللّه، وما عجزوا عن علمه فأخطؤوه إلى غيره فمغفور لهم .
وهذا من أسباب فتن تقع بين الأمة، فإن أقوامًا يقولون ويفعلون أمورًا هم مجتهدون فيها . وقد أخطؤوا فتبلغ أقوامًا يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب، أو يظنون أنهم لا يعذرون بالخطأ، وهم أيضًا مجتهدون مخطئون، فيكون هذا مجتهدًا مخطئًا في فعله، وهذا مجتهدًا مخطئًا / في إنكاره، والكل مغفور لهم . وقد يكون أحدهما مذنبًا، كما قد يكونان جميعًا مذنبين .
وخير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة .
والواحد من هؤلاء قد يعطي طرفًا بالأمر والنهي، فيولي ويعزل ويعطي ويمنع، فيظن الظان أن هذا كمال، وإنما يكون كمالا إذا كان موافقًا للأمر، فيكون طاعة للّه، وإلا فهو من جنس الملك، وأفعال الملك : إما ذنب، وإما عفو، وإما طاعة .
فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة، وهم أتباع العبد الرسول وهي طريقة السابقين المقربين .
وأما طريقة الملوك العادلين، فإما طاعة وإما عفو، وهي طريقة الأنبياء الملوك؛ وطريقة الأبرار أصحاب اليمين .(184/461)
وأما طريقة الملوك الظالمين، فتتضمن المعاصي، وهي طريقة الظالمين لأنفسهم . قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [ فاطر : 32 ] فلا يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون / من أحد هذه الأصناف : إما ظالم لنفسه وإما مقتصد، وإما سابق بالخيرات .
وخوارق العادات : إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق، وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة، وأصحابها لا يخرجون عن الأقسام الثلاثة .
قالَ شيخُ الإِسْلاَم ـ رَحِمَه اللَّه تَعَالَى :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=206 - TOP#TOPفَصْل
حدثني أبي عن محيى الدين بن النحاس؛ وأظني سمعتها منه أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارًا عن الحق تعالى : ( من جاءنا تلقيناه من البعيد، ومن تصرف بحولنا ألنا له الحديد، ومن اتبع مرادنا أردنا ما يريد، ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد ) .
قلت : هذا من جهة الرب ـ تبارك وتعالى :
فالأولتان : العبادة والاستعانة، والآخرتان : الطاعة والمعصية، فالذهاب إلى اللّه هي عبادته وحده كما قال تعالى : ( من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلىّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .(184/462)
والتقرب بحوله هو الاستعانة، والتوكل عليه، فإنه لا حول ولا / قوة إلا باللّه . وفي الأثر : ( من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه ) . وعن سعيد بن جبير : ( التوكل جماع الإيمان ) ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] ، وقال : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } [ الأنفال : 9 ] ، وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه ـ بمنزلة الدعاء على أصح القولين أيضًا ـ سبب لجلب المنافع ودفع المضار، فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا هو الغالب على ذوي الأحوال متشرعهم وغير متشرعهم، وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق الأمر، وتارة بما يخالفه .
وقوله : ( ومن اتبع مرادنا ) يعني : المراد الشرعي كقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } [ النساء : 28 ] ، وقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 6 ] هذا هو طاعة أمره، وقد جاء في الحديث : ( وأنت يا عمر لو أطعت اللّه لأطاعك ) ، وفي الحديث الصحيح : ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ) ، وقد قال تعالى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } [ الشورى : 26 ] .
وقوله : ( ومن ترك من أجلنا أعطيناه فوق المزيد ) . يعني : ترك ما كره اللّه من المحرم والمكروه لأجل اللّه : رجاء ومحبة وخشية أعطيناه فوق المزيد؛ لأن هذا مقام الصبر، وقد قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] .(184/463)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=206 - TOP#TOPسُئِلَ عن [ إحياء علوم الدين ] و [ قوت القلوب ] . . . إلخ .
فأجاب :
أما [ كتاب قوت القلوب ] و [ كتاب الإحياء ] تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب : مثل الصبر والشكر، والحب والتوكل، والتوحيد ونحو ذلك . وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر، وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم، من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسد وأجود تحقيقًا، وأبعد عن البدعة مع أن في [ قوت القلوب ] أحاديث ضعيفة وموضوعة، وأشياء كثيرة مردودة .
وأما ما في [ الإحياء ] من الكلام في [ المهلكات ] مثل الكلام على الكبر، والعجب والرياء، والحسد ونحو ذلك، فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية، ومنه ماهو مقبول ومنه ماهو مردود، ومنه ما هو متنازع فيه .
و [ الإحياء ] فيه فوائد كثيرة، لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا / ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوًا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين .
وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه . وقالوا : مرضه [ الشفاء ] يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة .
وفيه أحاديث وآثار ضعيفة، بل موضوعة كثيرة .
وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم .
وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه؛ فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه .
/وَقَالَ شيْخُ الإِسْلام ـ قدس الله روحه :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=206 - TOP#TOPفَصْل(184/464)
قد دل الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة على جنس المشروع المستحب في ذكر اللّه ودعائه كسائر العبادات، وبين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب الأذكار، كقوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن سمرة بن جندب : ( أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن : سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه، واللّه أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت ) وفي صحيحه عن أبي ذر قال : سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أي الكلام أفضل ؟ قال : ( ما اصطفى اللّه لملائكته سبحان اللّه وبحمده ) .
وفي [ كتاب الذكر ] لابن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الذكر لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء الحمد / للّه ) . وفي الموطأ وغيره حديث طلحة بن عبد اللّه بن كريز عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) ، وفي السنن حديث الذي قال : يا رسول اللّه، إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا، فعلمني ما يجزئني في صلاتي فقال : ( قل : سبحان اللّّه والحمد للّه، ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ) . ولهذا قال الفقهاء : إن من عجز عن القراءة في الصلاة انتقل إلى هذه الكلمات الباقيات الصالحات . وفضائل هذه الكلمات ونحوها كثير ليس هذا موضعه .
وإنما الغرض من الذكر والدعاء ما ليس بمشروع الجنس أو هو منهي عنه أو عن صفته . كما قال تعالى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ الأعراف : 55 ] ، وقال تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [ الأعراف : 180 ] فلا يدعي إلا بأسمائه الحسنى .(184/465)
ومن المنهي عنه : ما كانوا يقولونه في الجاهلية في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك . ومثل قول بعض الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نستشفع باللّه عليك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( شأن اللّه أعظم من ذلك، إن اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه ) ومثل ما كانوا يقولون في أول الإسلام : / السلام على اللّه قبل عباده . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه هو السلام، فإذا قعد أحدكم فليقل : التحيات للّه والصلوات والطيبات ) .
أشار بذلك إلى أن [ السلام ] إنما يطلب لمن يحتاج إليه، واللّه هو [ السلام ] ، فالسلام يطلب منه لا يطلب له . بل يثنى عليه، فإنه له فيقال : التحيات للّه والصلوات والطيبات . فالحق سبحانه يثنى عليه ويطلب منه، وأما المخلوق فيطلب له . فيقال : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين . قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 56، 57 ] ، والرزق يعم كل ما ينتفع به المرتزق؛ فالإنسان يرزق الطعام والشراب واللباس، وما ينتفع بسمعه وبصره وشمه، ويرزق ما ينتفع به باطنه من علم وإيمان، وفرح وسرور، وقوة ونور، وتأييد وغير ذلك، واللّه سبحانه ما يريد من الخلق من رزق، فإنهم لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، بل هو الغني وهم الفقراء . { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } [ آل عمران : 181 ] ، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد .(184/466)
وكذلك الدعاء المكروه، مثل الدعاء ببغي أو قطيعة رحم أو دعاء منازل الأنبياء أو دعاء الأعرابي الذي قال : اللهم ما كنت معذبي به في / الآخرة فعجله لي في الدنيا، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم للمصابين بميت لما صاحوا : ( لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ) وقد قال تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ] ، وقال تعالى : { وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا } [ الإسراء : 11 ] ، وهذا باب واسع ليس الغرض هنا استيعابه . وإنما نبهنا على جنس المكروه .
وإنما الغرض هنا أن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلامًا تامًا مفيدًا مثل : [ لا إله إلا اللّه ] ، ومثل : [ اللّه أكبر ] ، ومثل [ سبحان اللّه والحمد للّه ] ، ومثل [ لا حول ولا قوة إلا باللّه ] ، ومثل { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } [ الرحمن : 78 ] ، { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [ الملك : 1 ] ، { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الحديد : 1 ] { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } [ الفرقان : 1 ] .
فأما ( الاسم المفرد ) مظهرًا مثل : [ اللّه، اللّه ] أو [ مضمرًا ] مثل : [ هو، هو ] . فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة، ولا هو مأثور أيضًا عن أحد من سلف الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين .(184/467)
وربما اتبعوا فيه حال شيخ مغلوب فيه، مثلما يروي عن الشبلي أنه كان يقول : [ اللّه، اللّه ] . فقيل له : لم لا تقول : لا إله إلا اللّه ؟ /فقال : أخاف أن أموت بين النفي والإثبات . وهذه من زلات الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه، وقوة وجده، وغلبة الحال عليه، فإنه كان ربما يجن ويذهب به إلى المارستان، و يحلق لحيته . وله أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها؛ وإن كان معذورًا أو مأجورًا، فإن العبد لو أراد أن يقول : [ لا إله إلا اللّه ] ومات قبل كمالها لم يضره ذلك شيئًا؛ إذ الأعمال بالنيات؛ بل يكتب له ما نواه .
وربما غلا بعضهم في ذلك حتى يجعلوا ذكر الاسم المفرد للخاصة، وذكر الكلمة التامة للعامة، وربما قال بعضهم : [ لا إله إلا اللّه ] للمؤمنين، و [ اللّه ] للعارفين، و [ هو ] للمحققين، وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعته على [ اللّه، اللّه، اللّه ] . أو على [ هو ] أو [ يا هو ] أو [ لا هو إلا هو ] .
وربما ذكر بعض المصنفين في الطريق تعظيم ذلك . واستدل عليه تارة بوجد، وتارة برأي، وتارة بنقل مكذوب، كما يروي بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن عليّا بن أبي طالب أن يقول : [ اللّه، اللّه، اللّه ] . فقالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا . ثم أمر عليًا فقالها ثلاثا . وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث .(184/468)
/وإنما كان تلقين النبي صلى الله عليه وسلم للذكر المأثور عنه، ورأس الذكر : ( لا إله إلا اللّه ) ، وهي الكلمة التي عرضها على عمه أبي طالب حين الموت . وقال : ( ياعم، قل : لا إله إلا اللّه، كلمة أحاج لك بها عند اللّه ) ، وقال : ( إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجد روحه لها روحًا ) ، وقال : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا اللّه دخل الجنة ) ، وقال : ( من مات وهو يعلم أن لا إله إلا اللّه دخل الجنة ) ، وقال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللهّ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على اللّه ) والأحاديث كثيرة في هذا المعنى .
وقد كتبت فيما تقدم من [ القواعد ] بعض ما يتعلق بهاتين [ الكلمتين ] العظيمتين الجامعتين الفارقتين : شهادة أن لا إله إلا اللّه، وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا .
فأما ذكر [ الاسم المفرد ] فلم يشرع بحال، وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على استحبابه .
وأما ما يتوهمه طائفة من غالطي المتعبدين في قوله تعالى : { قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } [ الأنعام : 91 ] ، ويتوهمون أن المراد قول هذا الاسم فخطأ واضح؛ ولو تدبروا ما قبل هذا تبين مراد الآية، فإنه سبحانه قال : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ } [ الأنعام : 91 ] أي : قل : اللّه أنزل الكتاب الذي جاء به موسى . فهذا كلام تام، وجملة إسمية مركبة من مبتدأ وخبر، حذف الخبر منها لدلالة السؤال على الجواب .(184/469)
وهذا قياس مطرد في مثل هذا في كلام العرب كقوله : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ } الآية [ الزمر : 38 ] ، وقوله : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } [ النمل : 60 ] ، وكذلك ما بعدها وقوله : [ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم . سيقولون اللّه ] على قراءة أبي عمرو، وتقول في الكلام : من جاء ؟ فتقول : زيد . ومن أكرمت ؟ فتقول : زيدًا . وبمن مررت ؟ فتقول : بزيد . فيذكرون الاسم الذي هو جواب من، ويحذفون المتصل به، لأنه قد ذكر في السؤال مرة، فيكرهون تكريره من غير فائدة بيان، لما في ذلك من التطويل والتكرير .
/وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلاء الغالطين في قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [ آل عمران : 7 ] قال المعنى : وما يعلم تأويل ( هو ) أي اسم [ هو ] الذي يقال فيه : [ هو، هو ] . وصنف ابن عربي كتابًا في [ الهو ] فقلت له ـ وأنا إذ ذاك صغير جدًا ـ : لو كان كما تقول لكتبت في المصحف مفصولة ( تأويل هو ) ولم تكتب موصولة، وهذا الكلام الذي قاله هذا معلوم الفساد بالاضطرار . وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلات الباطلة في الكتاب والسنة .(184/470)
وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحًا، لكن لا يدل عليه الكلام وليس هو مراد المتكلم، وقد لا يكون صحيحًا . فيقع الغلط تارة في الحكم، و تارة في الدليل كقول بعضهم : { أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 7 ] أي : إن رأى ربه استغنى، والمعني أنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى، وكقول بعضهم : ( فإن لم تكن تراه ) : يعني فإن فنيت عنك رأيت ربك . وليس هذا معنى الحديث، فإنه لو أريد هذا لقيل : فإن لم تكن تره . وقد قيل : [ تراه ] ثم كيف يصنع بجواب الشرط ؟ وهو قوله : فإنه يراك؛ ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة . فالتقدير : فإن لم تكن : أي لم تقع، ولم تحصل . وهذا تقدير محال فإن العبد كائن موجود ليس بمعدوم . ولو أريد فناؤه عن هواه أو فناء شهوده للأغيار لم يعبر بنفي كونه؛ فإن هذا محال . ومتى كان المعنى صحيحًا والدلالة ليست مرادة فقد يسمى ذلك [ إشارة ] .
/وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي [ حقائق التفسير ] من هذا قطعة .
وليس المقصود الآن الكلام في هذا فإنه باب آخر، وإنما الغرض بيان حكم ذكر الاسم وحده من غير كلام تام، وقد ظهر بالأدلة الشرعية أنه غير مستحب .
وكذلك بالأدلة العقلية الذوقية؛ فإن الاسم وحده لا يعطي إيمانًا ولا كفرًا، ولاهدى ولا ضلالًا، ولا علمًا ولا جهلًا، وقد يذكر الذاكر اسم نبي من الأنبياء، أو فرعون من الفراعنة، أو صنم من الأصنام، ولا يتعلق بمجرد اسمه حكم إلا أن يقرن به ما يدل على نفي أو إثبات، أو حب أو بغض، وقد يذكر الموجود والمعدوم .
ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن الاسم وحده لا يحسن السكوت عليه، ولا هو جملة تامة، ولا كلامًا مفيدًا ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول : أشهد أن محمدًا رسول اللّه . قال : فعل ماذا ؟ ! فإنه لما نصب الاسم صار صفة، والصفة من تمام الاسم الموصوف، فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد؛ ولكن المؤذن قصد الخبر ولحن .(184/471)
/ولو كرر الإنسان اسم [ اللّه ] ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنًا، ولم يستحق ثواب اللّه ولا جنته؛ فإن الكفار من جميع الأمم يذكرون الاسم مفردًا، سواء أقروا به وبوحدانيته أم لا؛ حتى إنه لما أمرنا بذكر اسمه كقوله : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ المائدة : 4 ] ، وقوله : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ، وقوله : { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] ، وقوله : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 74، 96، الحاقة : 52 ] ونحو ذلك : كان ذكر اسمه بكلام تام مثل أن يقول : بسم اللّه، أو يقول : سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، ونحو ذلك . ولم يشرع ذكر الاسم المجرد قط، ولا يحصل بذلك امتثال أمر، ولا [ حل صيد ] ولا ذبيحة ولا غير ذلك .
فإن قيل : فالذاكر أو السامع للاسم المجرد قد يحصل له وجد محبة، وتعظيم للّه، ونحو ذلك .
قلت : نعم، ويثاب على ذلك الوجد المشروع، والحال الإيماني، لا لأن مجرد الاسم مستحب، وإذا سمع ذلك حرك ساكن القلب، وقد يتحرك الساكن بسماع ذكر محرم أو مكروه، حتى قد يسمع المسلم من يشرك باللّه، أو يسبه فيثور في قلبه حال وجد ومحبة للّه بقوة نفرته / وبغضه لما سمعه، وقد قال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة، أو يخر من السماء إلى الأرض، أحب إليه من أن يتكلم به . قال : ( أو قد وجدتموه ؟ ! ) قالوا : نعم، قال : ( ذاك صريح الإيمان ) ، وفي رواية : قال : ( الحمد للّه الذي رد كيده إلى الوسوسة ) .
فالشيطان لما قذف في قلوبهم وسوسة مذمومة تحرك الإيمان الذي في قلوبهم بالكراهة لذلك، والاستعظام له، فكان ذلك صريح الإيمان، ولا يقتضى ذلك أن يكون السبب الذي هو الوسوسة مأمورًا به .(184/472)
والعبد ـ أيضًا ـ قد يدعوه داع إلى الكفر أو المعصية فيستعصم ويمتنع ويورثه ذلك إيماناِ وتقوى، وليس السبب مأمورًا به؛ وقد قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ } الآية [ آل عمران : 173، 174 ] ، فهذا الإيمان الزائد والتوكل كان سبب تخويفهم بالعدو وليس ذلك مشروعًا بل العبد يفعل ذنبًا فيورثه ذلك توبة يحبه اللّه بها، ولا يكون الذنب مأمورًا به، وهذا باب واسع جدًا .
ففرق بين أن يكون نفس السبب موجبًا للخير ومقتضيًا، وبين / ألا يكون؛ وإنما نشأ الخير من المحل . فالمأمور به من الكلمات الطيبات والأعمال الصالحات، هي موجبة للخير والرحمة والثواب . وإذا اقترن بها قوة إيمان العبد وما يجده من حلاوة الإيمان وتذوقه من طعمه تضاعف الخير والرحمة والبركة، وما ليس مأمورًا به . إما من فعل العبد : محرمه ومكروهه ومباحه . وإما من فعل غيره معه : من الإنس والجن، وإما من الحوادث السمائية التي يصيبه بها الرب، إذا صادفت منه إيمانًا ويقينًا فحركت ذلك الإيمان واليقين، وازداد العبد بذلك إيمانا لم يكن ذلك مما يوجب أن تحب تلك الأسباب، أو تحمد أو يؤمر بها، إذا لم يكن كذلك، فإنها ليست مقتضية لذلك الخير، وإنما مقتضاها تحريك الساكن وطال ما جرت إلى شر وضرر .
ويشبه هذا الباب ذكر الحب المطلق والشوق المطلق، والوجل المطلق، وما يتضمن ذلك من نظم ونثر، فإن هذا من المجمل أيضًا : يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فلذلك لم يشرعها اللّه ورسوله، ولم يأمر بها فإن اللّه إنما يأمر بالخير والعمل الصالح والبر وذلك ليس من هذا الباب، فإن شعر المحبين مشترك بين محب الإيمان ومحب الأوثان، ومحب النسوان، ومحب المردان، ومحب الأوطان، ومحب الأخدان .(184/473)
/فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحبًا، فضلًا عن أن يكون هو ذكر الخاصة .
وأبعد من ذلك ذكر [ الاسم المضمر ] وهو : [ هو ] . فإن هذا بنفسه لا يدل على معين، وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته؛ ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق . وقد يقول : [ لا هو إلا هو ] ويسرى قلبه في [ وحدة الوجود ] ومذهب فرعون والإسماعيلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين بحيث يكون قوله : [ هو ] كقوله : [ وجوده ] . وقد يعني بقوله : [ لا هو إلا هو ] أي : أنه هو الوجود وأنه ما ثم خلق أصلًا، وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد . كما بينته من مذهب ( الاتحادية ) في غير هذا الموضع .
ومن أسباب هذه الاعتقادات والأحوال الفاسدة الخروج عن الشرعة والمنهاج الذي بعث به الرسول إلينا صلى الله عليه وسلم . فإن البدع هي : مبادئ الكفر ومظان الكفر . كما أن السنن المشروعة هي : مظاهر الإيمان، ومقوية للإيمان؛ فإنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . كما أخبر اللّه عن زيادته في مثل قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } [ آل عمران : 173 ] ، وقوله : { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } [ التوبة : 124 ] ، /وقوله : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] وغير ذلك .
فإن قيل : إذا لم يكن هذا الذكر مشروعًا . فهل هو مكروه ؟
قلت : أما في حق المغلوب فلا يوصف بكراهة؛ فإنه قد يعرض للقلب أحوال يتعسر عليه فيها نطق اللسان مع امتلاء القلب بأحوال الإيمان، وربما تيسر عليه ذكر الاسم المجرد دون الكلمة التامة وهؤلاء يأتون على ما في قلوبهم من أحوال الإيمان وما قدروا عليه من نطق اللسان، فإن الناس في الذكر أربع طبقات .(184/474)
إحداها : الذكر بالقلب واللسان، وهو المأمور به .
الثاني : الذكر بالقلب فقط، فإن كان مع عجز اللسان فحسن وإن كان مع قدرته فترك للأفضل .
الثالث : الذكر باللسان فقط، وهو كون لسانه رطبًا بذكر اللّه، وفيه حكاية التي لم تجد الملائكة فيه خيرًا إلا حركة لسانه بذكر اللّه . ويقول اللّه تعالى : ( أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ) .
الرابع : عدم الأمرين وهو حال الخاسرين .
/وأما مع تيسر الكلمة التامة فالاقتصار على مجرد الاسم مكررًا بدعة، والأصل في البدع الكراهة .
وما نقل عن أبي يزيد والنوري والشبلي وغيرهم : من ذكر الاسم المجرد، فمحمول على أنهم مغلوبون، فإن أحوالهم تشهد بذلك، مع أن المشائخ الذين هم أصح من هؤلاء وأكمل لم يذكروا إلا الكلمة التامة، وعند التنازع يجب الرد إلى اللّه والرسول، وليس فعل غير الرسول حجة على الإطلاق . واللّه أعلم .
وَقَالَ الشيْخُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=207 - TOP#TOPفَصل
في الصراط المستقيم، في الزهد والعبادة والورع، في ترك المحرمات والشهوات، والاقتصاد، في العبادة . وإن لزوم السنة هو يحفظ من شر النفس والشيطان بدون الطرق المبتدعة، فإن أصحابها لابد أن يقعوا في الآصار والأغلال، وإن كانوا متأولين، فلابد لهم من اتباع الهوى، ولهذا سمى أصحاب البدع أصحاب الأهواء، فإن طريق السنة علم وعدل وهدي، وفي البدعة جهل وظلم، وفيها اتباع الظن وما تهوى الأنفس .
والرسول، ما ضل وما غوى، والضلال : مقرون بالغي، فكل غاو ضال، والرشد ضد الغي والهدى ضد الضلال، وهو مجانبة طريق الفجار وأهل البدع، كما كان السلف ينهون عنهما، قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [ مريم : 59 ] .(184/475)
/والغي في الأصل : مصدر غوي يغوي غيًا، كما يقال : لوى يلوي ليًا . وهو ضد الرشد، كما قال تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } [ الأعراف : 146 ] .
والرشد : العمل الذي ينفع صاحبه، والغي : العمل الذي يضر صاحبه، فعمل الخير رشد، وعمل الشر غي، ولهذا قالت الجن : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [ الجن : 10 ] ، فقابلوا بين الشر وبين الرشد، وقال في آخر السورة : { قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } [ الجن : 21 ] ، ومنه الرشيد، الذي يسلم إليه ماله . وهو الذي يصرف ماله فيما ينفع لا فيما يضر .
وقال الشيطان : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وهو أن يأمرهم بالشر الذي يضرهم فيطيعونه، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } [ إبراهيم : 22 ] ، وقال : { وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } إلى أن قال : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ . وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } [ الشعراء : 91ـ95 ] ، وقال : { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [ القصص : 63 ] ، وقال : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ النجم : 2 ] .
ثم إن الغي، إذا كان اسمًا لعمل الشر الذي يضر صاحبه، فإن عاقبة العمل أيضًا تسمى غيًا، كما أن عاقبة الخير تسمى رشدًا، كما / يسمى عاقبة الشر شرًا، وعاقبة الخير خيرًا، وعاقبة الحسنات حسنات، وعاقبة السيئات سيئات .(184/476)
فالحسنات والسيئات، في كتاب اللّه يراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يراد بها النعم والمصائب والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيرًا وحسنات لقي خيرًا وحسنات، ومن عمل شرًا وسيئات لقي شرًا وسيئات . كذلك من عمل غيًا لقى غيًا، وترك الصلاة واتباع الشهوات غي يلقي صاحبه غيًا . فلهذا قال الزمخشري : كل شر عند العرب غي، وكل خير رشاد . كما قيل :
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا
وقال الزجاج : جزاؤه غي، لقوله : { يَلْقَ أَثَامًا } [ الفرقان : 68 ] ، أي مجازات آثام . وفي الحديث المأثور : إن غيا واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها، وهذا تعبير عن ملاقات الشر، وقال سبحانه : { أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] ، فإن الصلاة فيها إرادة وجه اللّه . كما قال تعالى : { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، أي يصلون صلاة الفجر والعصر . والداعي يقصد ربه ويريده، فتكون القلوب في هذه الأشياء مريدة لربها محبة له .(184/477)
/واتباع الشهوات : هو اتباع ما تشتهيه النفس، فإن الشهوات، جمع شهوة، والشهوة هي في الأصل مصدر، ويسمي المشتهي شهوة . تسمية للمفعول باسم المصدر . قال تعالى : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [ النساء : 27 ] فجعل التوبة في مقابلة اتباع الشهوات، فإنه يريد أن يتوب علينا، أي فاللّه يحب لنا ذلك ويرضاه ويأمر به، { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } وهم الغاوون { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } يعدل بكم عن الصراط المستقيم إلى اتباع الشهوات عدولًا عظيمًا، فإن أصل الميل العدول، فلابد منه للذين يتبعون الشهوات، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) رواه أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان .
فأخبر أنا لا نطيق الاستقامة أو ثوابها إذا استقمنا، وقال : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } [ النساء : 129 ] ، فقوله : كل الميل أي : يريد نهاية الميل، يريد الزيغ عن الطريق، والعدول عن سواء الصراط إلى نهاية الشر، بل إذا بليت بذلك فتوسط، وعد إلى الطريق بالتوبة .(184/478)
كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ميل المؤمن كميل الفرس في آخيته يحول ثم يرجع إلى آخيته . كذلك المؤمن يحول ثم يرجع / إلى ربه ) ، قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } إلى قوله : { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ آل عمران : 133ـ 136 ] ، فلم يقل : لا يظلمون ولا يذنبون، بل قال : { إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران : 135 ] ، أي بذنب آخر غير الفاحشة، فعطف العام على الخاص . كما قال موسى : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } [ القصص : 16 ] ، وقالت بلقيس : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } [ النمل : 44 ] ، وقال تعالي عمومًا عن أهل القرى المهلكة : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، فظلموا أنفسهم بارتكابهم ما نهوا عنه، وبعصيانهم لأنبيائهم، وبتركهم التوبة إلى ربهم .
وقوله تعالى : { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 27 ] ، ثم قال : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا } [ النساء : 28 ] . قال مجاهد وغيره : يتبعون الشهوات الزنا، وقال ابن زيد : هم أهل الباطل . وقال السدي : هم اليهود والنصارى والجميع حق، فإنهم قد يتبعون الشهوات مع الكفر، وقد يكون مع الاعتراف بأنها معصية .(184/479)
ثم ذكر أنه خلق الإنسان ضعيفًا، وسياق الكلام يدل على أنه ضعيف عن ترك الشهوات . فلابد له من شهوة مباحة يستغنى بها عن المحرمة، ولهذا قال طاوس ومقاتل : ضعيف في قلة الصبر عن النساء، وقال الزجاج وابن كيسان : ضعيف العزم عن قهر الهوى . وقيل : ضعيف في أصل الخلقة، لأنه خلق من ماء مهين، يروي ذلك / عن الحسن، لكن لابد أن يوجد مع ذلك أنه ضعيف عن الصبر؛ ليناسب ما ذكر في الآية، فإنه قال : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وهو تسهيل التكليف بأن يبيح لكم ما تحتاجون إليه ولا تصبروا عنه . كما أباح نكاح الفتيات، وقد قال قبل ذلك : { لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النساء : 25 ] .
فهو ـ سبحانه ـ مع إباحته نكاح الإماء عند عدم الطول، وخشية العنت، قال : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [ النساء : 25 ] ، فدل ذلك على أنه يمكن الصبر مع خشية العنت، وأنه ليس النكاح كإباحة الميتة عند المخمصة، فإن ذلك لا يمكن الصبر عنه .
وكذلك من أباح الاستمناء، عند الضرورة فالصبر عن الاستمناء أفضل، فقد روى عن ابن عباس : أن نكاح الإماء خير منه، وهو خير من الزنا، فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل .
لا سيما وكثير من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقًا، وهو أحد الأقوال في مذهب أحمد . واختاره ابن عقيل في المفردات والمشهور عنه ـ يعني عن أحمد ـ أنه محرم إلا إذا خشي العنت . والثالث أنه مكروه إلا إذا خشي العنت . فإذا كان اللّه قد قال في نكاح الإماء : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ففيه أولى . وذلك يدل على أن الصبر عن كلاهما ممكن .
فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه، فذلك لتسهيل التكليف، كما قال تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا } .(184/480)
و الاستمناء لا يباح عند أكثر العلماء سلفًا وخلفًا سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك . وكلام ابن عباس وما روى عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت، وهو الزنا واللواط خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك؛ فأبيح له ذلك لتكسير شدة عنته وشهوته .
وأما من فعل ذلك تلذذًا أو تذكرًا أو عادة، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها . فهذا كله محرم لا يقول به أحمد، ولا غيره وقد أوجب فيه بعضهم الحد والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات .
وأما الصبر عن المحرمات فواجب، وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها . قال تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [ النور : 33 ] ، و الاستعفاف : هو ترك المنهي عنه . كما في الحديث / الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من يستعفف يعفه اللّه، ومن يستغن يغنه اللّه، ومن يتصبر يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر ) .
فالمستغني، لا يستشرف بقلبه . و المستعف : هو الذي لا يسأل الناس بلسانه، والمتصبر : هو الذي لا يتكلف الصبر . فأخبر أنه من يتصبر يصبره اللّه . وهذا كأنه في سياق الصبرعلى الفاقة، بأن يصبر على مرارة الحاجة، لا يجزع مما ابتلى به من الفقر، وهو الصبر في البأساء والضراء . قال تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } [ البقرة : 177 ] .
والضراء : المرض . وهو الصبر على ما ابتلى به من حاجة ومرض وخوف . والصبر على ما ابتلى به باختياره، كالجهاد، فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره، ولذلك إذا ابتلى بالعنت في الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده؛ لأن هذا الصبر من تمام الجهاد . وكذلك لو ابتلى في الجهاد بفاقة، أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل . كما قد بسط هذا في مواضع .(184/481)
وكذلك ما يؤذي الإنسان به في فعله للطاعات، كالصلاة، والأمر بالمعروف، / والنهي عن المنكر، وطلب العلم من المصائب، فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلى به بدون ذلك، وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات : من رئاسة، وأخذ مال، وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ماهو دون ذلك، فإن أعمال البر، كلما عظمت كان الصبر عليها أعظم مما دونهما .
فإن في العلم، والإمارة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة، والحج، والصوم، والزكاة، من الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها . ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور . فإذا كانت النفس غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه، كما تطمع مع القدرة، فإنها مع القدرة تطلب تلك الأمور المحرمة، بخلاف حالها بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد، بل هو من أفضل الجهاد . وأكمل من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الصبر عن المحرمات، أفضل من الصبر على المصائب .
الثاني : أن ترك المحرمات مع القدرة عليها، وطلب النفس لها، أفضل من تركها بدون ذلك .
الثالث : أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني ـ كمن / خرج لصلاة، أو طلب علم، أو جهاد، فابتلى بما يميل إليه من ذلك فإن صبره عن ذلك ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور، بخلاف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل صالح، ولهذا كان يونس ابن عبيد يوصي بثلاث يقول : لا تدخل على سلطان، وإن قلت : آمره بطاعة اللّه . ولا تدخل علي امرأة : وإن قلت : أعلمها كتاب اللّه، ولا تصغ أذنك إلى صاحب بدعة، وإن قلت أرد عليه .
فأمره بالاحتراز من أسباب الفتنة، فإن الإنسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ولا يسلم .(184/482)
فإذا قدر أنه ابتلى بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره، وابتلى، فعليه أن يتقى اللّه ويصبر ويخلص ويجاهد . وصبره على ذلك وسلامته مع قيامه بالواجب، من أفضل الأعمال، كمن تولى ولاية وعدل فيها، أو رد على أصحاب البدع بالسنة المحضة، ولم يفتنوه، أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة .
لكن اللّه إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه، وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله اللّه إلى نفسه . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : ( لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة، وكلت إليها . وإن أعطيتها عن غير مسألة، أعنت عليها ) وكذلك /قال في الطاعون : ( إذا وقع ببلد وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ) فمن فعل ما أمره اللّه به فعرضت له فتنة من غير اختياره، فإن اللّه يعينه عليها بخلاف من تعرض لها .
لكن باب التوبة مفتوح، فإن الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها، ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب اللّه عليه ويعينه، إما على إقامة الواجب، وإما على الخلاص منها، وكذلك سائر الفتن . كماقال : { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] ، وهذه الأمور تحتاج إلى بسط لا يتسع له هذا الموضع .
والمقصود أن اللّه سبحانه يريد أن يبين لنا، ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } [ الأنعام : 90 ] ، وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [ الفاتحة : 6، 7 ] فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلاء، وهو سبيل من أناب إليه، فذكر هنا ثلاثة أمور : البيان، والهداية، والتوبة .(184/483)
وقيل : المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل، أي : يريد أن يبين لنا سنن هؤلاء وهؤلاء، فيهدي عباده المؤمنين إلى الحق، / ويضل آخرين، فإن الهدى والضلال إنما يكون بعد البيان . كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ إبراهيم : 4 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } [ التوبة : 115 ] .
فتكون { سُنَنَ } [ النساء : 26 ] ، متعلقًا بيبين يعني سنن أهل الباطل لا بيهدي، وأهل الحق متعلق بقوله : ويهديكم . وقال الزجاج : السنن الطرق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم . وهذا أولى، لأنه قد يقدم فعلين فلا يجعل الأول هوالعامل وحده، بل العامل إما الثاني وحده . وإما الاثنان، كقوله : { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } [ الكهف : 96 ] .
أو إذا أريد هذا التقدير : يبين لكم سنن الذين من قبلكم، ويهديكم سننًا . فدل علي أنه يهدينا سننهم . والمراد بذلك سنن أهل الحق، بخلاف قوله : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } فإنه قال بعدها : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ آل عمران : 137 ] ، فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان ، وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين من قبلنا، وهم الذين أنعم اللّه عليهم . وذكر ثلاثة أمور : التبيين، والهدى، والتوبة .(184/484)
لأن الإنسان أولا يحتاج إلى معرفة الخير والشر، وما أمر به وما نهى عنه، ثم يحتاج بعد ذلك / إلى أن يهدي، فيقصد الحق ويعمل به دون الباطل . وهو سنن الأنبياء والصالحين . ثم لابد له بعد ذلك من الذنوب، فيريد أن يتطهر منها بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به . وإلى التوبة مع ذلك . فلابد له من التقصير، أو الغفلة في سلوك تلك السنن التي هداه اللّه إليها . فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن . وهذه السنن : تدخل فيها الواجبات والمستحبات، فلابد للسالك فيها من تقصير وغفلة، فيستغفر اللّه، ويتوب إليه . فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد لا يستطيع أن يقوم للّه بالحق الذي أوجبه عليه، فما يسعه إلا الاستغفار والتوبة عقيب كل طاعة .
وقد يقال : الهداية، هنا البيان والتعريف، أي : يعرفكم سنن الذين من قبلكم، من أهل السعادة والشقاوة؛ لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه، كما قال تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [ البلد : 10 ] ، قال علي وابن مسعود : سبيل الخير والشر . وعن ابن عباس : سبيل الهدى والضلال . وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة، أي فطرناه على ذلك، وعرفناه إياه، والجميع واحد . والنجدان الطريقان الواضحان، والنجد المرتفع من الأرض، فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له، كتبيين الطريقين العاليين، لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الآية يشترك / فيه بنو آدم، ويعرفونه بعقولهم .(184/485)
وأما طريق من تقدم من الأنبياء، فلا بد من إخبار اللّه تعالى عنها، كما قال : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } [ هود : 49 ] ، لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى، لقال : يريد اللّه ليبين لكم سنن الذين من قبلكم، ولم يحتج أن يذكر الهدى، إذا كان المعنى واحدًا، فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدي، علم أن هذا غير هذا، فالتبيين : التعريف والتعليم، والهدى : هو الأمر والنهي، وهو الدعاء إلى الخير . كما قال تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، أي داع يدعوهم إلى الخير . كما قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، أي تدعوهم إليه دعاء تعليم .
وهداه هنا يتعدى بنفسه، لأن التقدير : ويلزمكم سنن الذين من قبلكم، فلا تعدلوا عنها، وليس المراد هنا بالهدى الإلهام . كما في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لكونه لو أراد ذلك لوقع، ولم يكن فينا ضال، بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، ولهذا قال الزجاج : يريد أن يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم، فعلق الإرادة بفعل نفسه . فإن الزجاج ظن الإرادة في القرآن ليست إلا كذلك، وليس كما ظن، بل الإرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك، فإنه / ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وأما الإرادة الموجودة في أمره وشرعه، فهو كقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الآية [ المائدة : 6 ] ، وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } [ الأحزاب : 33 ] ، ونحو ذلك .(184/486)
فهذه إرادته لما أمر به، بمعنى أنه يحبه ويرضاه، ويثيب فاعله، لا بمعنى أنه أراد أن يخلقه، فيكون كما قال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الآية [ الأنعام : 125 ] .
وكما قال نوح : { وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ هود : 34 ] .
فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه . كما يقول المسلمون : ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه الإرادة متعلقة بكل حادث، والإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات، كما يقول الناس لمن يفعل القبيح : يفعل شيئًا ما يريده اللّه، مع قولهم : ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن . فإن هذه الإرادة نوعان . كما قد بسط في موضع آخر .
وقد يراد بالهدى الإلهام، ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين / هداهم اللّه إلى طاعته، فإن اللّه تعالى أراد أن يتوب عليهم ويهديهم، فاهتدوا، ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا، كما قالوا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 43 ] .(184/487)
لكن الخطاب في الآية لجميع المسلمين، كالخطاب بآية الوضوء . والخطاب لأهل البيت بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ } [ الأحزاب : 33 ] ؛ ولهذا يهدد من لم يطعه . وكما في الصيام : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا، لا إرادة الخلق المستلزمة للمراد، لأنه لو كان كذلك لم تكن الآية خطابًا، إلا لمن أخذ باليسر، ولمن فعل ما أمر به، وكان من تخلف عن ذلك لا يدخل تحت الأمر والنهي الذي في الآية، وليس كذلك . بل الحكم الشرعي لازم لجميع المسلمين، فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب، والذين أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم، هدي الإلهام، والإعانة بأن جعلهم مهتدين . كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليًا، والمسلم مسلمًا .
ولو كانت الإرادة هنا من الإنسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } [ النساء : 27 ] ، فإنه حينئذ لا تأثير لإرادة هؤلاء، بل وجودها وعدمها سواء . كما في قول نوح : { وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] ، فإن ما شاء اللّه كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاءه الناس .
والمقصود بالآية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات . والمعنى : إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم، وهؤلاء يريدون لكم الشر الذي يضركم، كالشيطان الذي يريد أن يغويكم، وأتباعه هم أهل الشهوات فلا تتخذوه وذريته أولياء من دوني، بل اسلكوا طرق الهدي والرشاد، وإياكم وطرق الغي والفساد . كما قال تعالى : { فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } الآيات [ طه : 123 ] .(184/488)
وقوله : { يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } [ النساء : 27 ] ، في الموضعين، فاتباع الشهوة من جنس اتباع الهوى، كما قال تعالى : { أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، وقال : { وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] ، وقال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } [ محمد : 14 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الجاثية : 18 ] ، وهذا في القرآن كثير .
والهوى : مصدر هوى يهوي هوى، ونفس المهوي يسمى هوى ما يهوى، فاتباعه كاتباع السبيل . كما قال تعالى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } وكما في لفظ الشهوة، فاتباع الهوى يراد به نفس مسمى المصدر، أي اتباع إرادته ومحبته التي هي هواه واتباع الإرادة : هو فعل ما تهواه النفس، كقوله تعالى : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ لقمان : 15 ] ، وقوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ، وقال : { وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } [ الأعراف : 3 ] ، فلفظ الاتباع يكون للآمر الناهي، وللأمر والنهي، وللمأمور به والمنهي عنه، وهو الصراط المستقيم .(184/489)
كذلك يكون للهوى أمر ونهي، وهو أمر النفس ونهيها، كما قال تعالى : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ يوسف : 53 ] ، ولكن ما يأمر به من الأفعال المذمومة، فأحدها مستلزم للآخر، فاتباع الأمر هو فعل المأمور، واتباع أمر النفس هو فعل ما تهواه، فعلى هذا يعلم أن اتباع الشهوات، واتباع الأهواء هو اتباع شهوة النفس، وهواها، وذلك بفعل ما تشتهيه وتهواه .
بل قد يقال : هذا هو الذي يتعين في لفظ اتباع الشهوات والأهواء، لأن الذي يشتهي ويهوى، إنما يصير موجودًا بعد أن يشتهي ويهوى، وإنما يذم الإنسان إذا فعل ما يشتهي ويهوى عند وجوده، / فهو حينئذ قد فعل، ولا ينهى عنه بعد وجوده، ولا يقال لصاحبه : لا تتبع هواك .
وأيضًا فالفعل المراد المشتهى، الذي يهواه الإنسان : هو تابع لشهوته وهواه، فليست الشهوة والهوي تابعة له، فاتباع الشهوات هو اتباع شهوة النفس، وإذا جعلت الشهوة بمعنى المشتهى كان مع مخالفة الأصل يحتاج إلى أن يجعل في الخارج ما يشتهي، والإنسان يتبعه كالمرأة المطلوبة، أو الطعام المطلوب، وإن سميت المرأة شهوة والطعام أيضًا، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) أي : يترك شهوته، وهو إنما يترك ما يشتهيه كما يترك الطعام، لا أنه يدع طعامه بترك الشهوة الموجودة في نفسه، فإن تلك مخلوقة فيه مجبول عليها، وإنما يثاب إذا ترك ما تطلبه تلك الشهوة .(184/490)
وحقيقة الأمر، أنهما متلازمان، فمن اتبع نفس شهوته القائمة بنفسه اتبع ما يشتهيه، وكذلك من اتبع الهوى القائم بنفسه اتبع ما يهواه، فإن ذلك من آثار الإرادة، واتباع الإرادة هو امتثال أمرها، وفعل ما تطلبه، كالمأمور الذي يتبع أمر أميره، ولابد أن يتصور مراده الذي يهواه ويشتهيه في نفسه ويتخيله قبل فعله . فيبقى ذلك المثال كالإمام مع المأموم يتبعه حيث كان، وفعله في الظاهر / تبع لاتباع الباطن، فتبقى صورة المراد المطلوب المشتهي التي في النفس هي المحركة للإنسان الآمرة له .
ولهذا يقال : العلة الغائية علة فاعلية، فإن الإنسان للعلة الغائية ـ بهذا التصور والإرادة ـ صار فاعلًا للفعل، وهذه الصورة المرادة المتصورة في النفس هي التي جعلت الفاعل فاعلًا، فيكون الإنسان متبعًا لها، والشيطان يمده في الغي، فهو يقوي تلك الصورة ويقوي أثرها ويزين للناس اتباعها، وتلك الصورة تتناول صورة العين المطلوبة ـ كالمحبوب من الصور والطعام والشراب ـ ويتناول نفس الفعل الذي هو المباشر لذلك المطلوب المحبوب، والشيطان والنفس تحب ذلك، وكلما تصور ذلك المحبوب في نفسه أراد وجوده في الخارج، فإن أول الفكر آخر العمل، وأول البغية آخر الدرك .
ولهذا يبقى الإنسان عند شهوته، وهواه أسيرًا لذلك، مقهورًا تحت سلطان الهوى، أعظم من قهر كل قاهر، فإن هذا القاهر الهوائي، القاهر للعبد، هو صفة قائمة بنفسه، لايمكنه مفارقته البتة، والصورة الذهنية تطلبها النفس، فإن المحبوب تطلب النفس أن تدركه، وتمثله لها في نفسها، فهو متبع للإرادة . وإن كانت الذهنية والتزين من الزين والمراد التصور في نفسه . والمشتهى الموجود في الخارج له محركان : التصور والمشتهى، هذا يحركه تحريك طلب وأمر، وهذا يأمره أن يتبع / طلبه وأمره، فاتباع الشهوات والأهواء يتناول هذا كله، بخلاف كل قاهر ينفصل عن الإنسان فإنه يمكنه مفارقته مع بقاء نفسه على حالها، وهذا إنما يفارقه بتغير صفة نفسه .(184/491)
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث مهلكات : شح مطاع، وهوي متبع، وإعجاب المرء بنفسه . وثلاث منجيات : خشية اللّه في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا ) .
وقوله في الحديث : هوي متبع، فيه دليل على أن المتبع هو ما قام في النفس . كقوله : في الشح المطاع، وجعل الشح مطاعًا، لأنه هو الآمر، وجعل الهوى متبعًا، لأن المتبع قد يكون إمامًا يقتدى به ولا يكون آمرًا . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إياكم والشح . فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) . فبين أن الشح يأمر بالبخل والظلم والقطيعة، فالبخل، منع منفعة الناس بنفسه وماله، والظلم، هو الاعتداء عليهم .
فالأول هو التفريط فيما يجب، فيكون قد فرط فيما يجب، واعتدى عليهم بفعل ما يحرم وخص قطيعة الرحم بالذكر إعظامًا لها؛ لأنها تدخل / في الأمرين المتقدمين قبلها .
وقال المفسرون في قوله تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ الحشر : 9 ] ، هو ألا يأخذ شيئًا مما نهاه اللّه عنه، ولا يمنع شيئًا أمره اللّه بأدائه، فالشح يأمر بخلاف أمراللّه ورسوله . فإن اللّه ينهى عن الظلم، ويأمر بالإحسان، والشح يأمر بالظلم، وينهى عن الإحسان .
وقد كان عبد الرحمن بن عوف يكثر في طوافه بالبيت، وبالوقوف بعرفة أن يقول : اللّهم قني شح نفسي، فسئل عن ذلك، فقال : إذا وقيت شح نفسي، وقيت الظلم والبخل والقطيعة . وفي رواية عنه قال : إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال : وماذاك ؟ قال : أسمع اللّه يقول : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } ، وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء، فقال : ليس ذاك بالشح الذي ذكره اللّه في القرآن إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلمًا، وإنما يكن بالبخل وبئس الشيء البخل .(184/492)
وقد ذكر تعالى الشح في سياق ذكر الحسد والإيثار في قوله : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ، ثم قال : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] ، فمن وقى شح نفسه لم يكن حسودًا باغيًا على المحسود والحسد أصله بغض المحسود .
/والشح يكون في الرجل مع الحرص، وقوة الرغبة في المال، وبغض للغير وظلم له، كما قال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا . أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } الآيات ـ إلى قوله : { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } [ الأحزاب : 18، 19 ] ، فشحهم على المؤمنين، وعلى الخير يتضمن كراهيته وبغضه، وبغض الخير يأمر بالشر، وبغض الإنسان يأمر بظلمه، وقطيعته كالحسد، فإن الحاسد يأمر حاسده بظلم المحسود وقطيعته، كابني آدم وإخوة يوسف .
فالحسد والشح، يتضمنان بغضًا وكراهية، فيأمران بمنع الواجب وبظلم ذلك الشخص، فإن الفعل صدر فيه عن بغض، بخلاف الهوى فإن الفعل صدر فيه عن حب أحب شيئًا فاتبعه ففعله، وذلك مقصوده أمر عدمي والعدم لا ينفع . ولكن ذاك القصد أمر بأمر وجودي، فأطيع أمره .
وابن مسعود جعل البخل خارجًا عن الشح والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الشح يأمر بالبخل .(184/493)
ومن الناس من يقول : الشح، والبخل سواء . كما قال ابن جرير : الشح في كلام العرب هو البخل، ومنع الفضل من المال . وليس / كما قال : بل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وابن مسعود أحق أن يتبع ، فإن البخيل قد يبخل بالمال محبة لما يحصل له به من اللذة والتنعم، وقد لا يكون متلذذًا به ولا متنعمًا بل نفسه تضيق عن إنفاقه وتكره ذلك حتي يكون يكره، أن ينفع نفسه منه مع كثرة ماله، وهذا قد يكون مع التذاذه بجمع المال ومحبته لرؤيته . وقد لا يكون هناك لذة أصلا، بل يكره أن يفعل إحسانًا إلى أحد حتى لو أراد غيره أن يعطي كره ذلك منه بغضًا للخير لا للمعطي ولا للمعطي، بل بغضًا منه للخير وقد يكون بغضًا وحسدًا للمعطي، أو للمعطي وهذا هو الشح وهذا هو الذي يأمر بالبخل قطعًا، ولكن كل بخل يكون عن شح، فكل شحيح بخيل وليس كل بخيل شحيحًا .
قال الخطابي : الشح أبلغ في المنع من البخل، والبخل إنما هو من أفراد الأمور وخواص الأشياء، والشح عام، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة .
وحكى الخطابي عن بعضهم أنه قال : البخل : أن يظن الإنسان بماله، والشح : أن يضن بماله ومعروفه، وقيل : الشح : أن يشح بمعروف غيره على غيره، و البخل : أن يبخل بمعروفه على غيره والذين يتبعون الشهوات، ويتبعون أهواءهم يحبون ذلك ويريدونه، فاتبعوا /محبتهم وإرادتهم من غير علم، فلم ينظروا هل ذلك نافع لهم في العاقبة أو ضار .(184/494)
ولهذا قال : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } ثم قال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِِ } [ القصص : 50 ] ، واتباع الهوى درجات : فمنهم المشركون والذين يعبدون من دون اللّه ما يستحسنون بلا علم، ولا برهان، كما قال : { أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] ، أي يتخذ إلهه الذي يعبده وهو ما يهواه من آلهة، ولم يقل : إن هواه نفس إلهه فليس كل من يهوي شيئًا يعبده، فإن الهوى أقسام بل المراد أنه جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه، فكانت عبادته تابعة لهوى نفسه في العبادة، فإنه لم يعبد ما يحب أن يعبد، ولا عبد العبادة التي أمر بها .
وهذه حال أهل البدع، فإنهم عبدوا غير اللّه، وابتدعوا عبادات زعموا أنهم يعبدون اللّه بها، فهم إنما اتبعوا أهواءهم، فإن أحدهم يتبع محبة نفسه وذوقها ووجدها وهواها من غير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير .
فلو اتبع العلم والكتاب المنير، لم يعبد إلا اللّه بما شاء، لا بالحوادث والبدع .
/والمقصود أن الآلهة كثيرة، والعبادات لها متنوعة، وبالجملة فكل ما يريده الإنسان ويحبه لابد أن يتصوره في نفسه، فتلك الصورة العلمية محركة له إلى محبوبه ولوازم الحب، فمن عبده عبد غير اللّه، وتمثلت له الشياطين في صورة من يعبده، وهذا كثير ما زال ولم يزل؛ ولهذا كان كل من عبد شيئًا غير اللّه، فإنما يعبد الشيطان؛ ولهذا يقارن الشيطان الشمس عند طلوعها وغروبها، واستوائها ليكون سجود من يعبدها له .(184/495)
وقد كانت الشياطين، تتمثل في صورة من يعبد، كما كانت تكلمهم من الأصنام التي يعبدونها، وكذلك في وقتنا خلق كثير من المنتسبين إلى الإسلام، والنصارى والمشركين ممن أشرك ببعض من يعظمه من الأحياء والأموات من المشايخ وغيرهم، فيدعوه ويستغيث به في حياته وبعد مماته، فيراه قد أتاه وكلمه وقضى حاجته، وإنما هو شيطان تمثل على صورته، ليغوى هذا المشرك .
والمبتلون بالعشق، لا يزال الشيطان يمثل لأحدهم صورة المعشوق، أو يتصور بصورته، فلا يزال يرى صورته، مع مغيبه عنه بعد موته، فإنما جلاه الشيطان على قلبه، ولهذا إذا ذكر العبد اللّه الذكر الذي يخنس منه الوسواس الخناس خنس هذا المثال الشيطاني، وصورة المحبوب تستولى على المحب أحيانًا حتى لا يرى غيرها، ولا يسمع غير كلامها، فتبقى / نفسه مشتغلة بها .
والذين يسلكون في محبة اللّه مسلكا ناقصًا، يحصل لأحدهم نوع من ذلك يسمى الاصطلام والفناء، يغيب بمحبوبه عن محبته، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره، حتى لا يشعر بشيء من أسماء اللّه وصفاته وكلامه وأمره ونهيه .
ومنهم من قد ينتقل من هذا إلى الاتحاد . فيقول : أنا هو، وهو أنا، وأنا اللّه، ويظن كثير من المسالكين، أن هذا هو غاية السالكين، وأن هذا هو التوحيد، الذي هو نهاية كل سالك، وهم غالطون في هذا، بل هذا من جنس قول النصارى، ولكن ضلوا لأنهم لم يسلكوا الطريق الشرعية في الباطن في خبر اللّه وأمره .
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
والمقصود أن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس، يستولى على قلب أحدهم مايشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيرًا ما يهواه، يصرفه كيف تصرف ذلك المطلوب؛ ولهذا قال بعض السلف : ما أنا على الشاب الناسك بأخوف مني عليه من سبع ضار يثب عليه من صبي حدث يجلس إليه .(184/496)
/وذلك أن النفس الصافية التي فيها رقة الرياضة، ولم تنجذب إلى محبة اللّه وعبادته انجذابًا تامًا، ولا قام بها من خشية اللّه التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها . كما يستولى السبع على ما يفترسه، فالسبع يأخذ فريسته بالقهر، ولا تقدر الفريسة على الامتناع منه . كذلك ما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة، تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه، فيبقى قلبه مستغرقًا في تلك الصورة أعظم من استغراق الفريسة في جوف الأسد؛ لأن المحبوب المراد هو غاية النفس، له عليها سلطان قاهر .
والقلب يغرق فيما يستولى عليه، إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور، والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقًا فيه، كما يغرق الغريق في الماء، فلابد أن يستولى عليها مايحيط بها من الأجسام، والقلوب يستولى عليها ما يتمثل لها من المخاوف، والمحبوبات والمكروهات، فالمحبوب يطلبه، والمكروه يدفعه، والرجاء يتعلق بالمحبوب والخوف يتعلق بالمكروه، ولا يأتي بالحسنات إلا اللّه، ولا يذهب السيئات إلا اللّه { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ يونس : 107 ] { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] .(184/497)
/وإذا دعا العبد ربه بإعطاء المطلوب، ودفع المرهوب، جعل له من الإيمان باللّه، ومحبته، ومعرفته، وتوحيده، ورجائه، وحياة قلبه، واستنارته بنور الإيمان ما قد يكون أنفع له من ذلك المطلوب إن كان عرضًا من الدنيا، وأما إذا طلب منه أن يعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته ومايتبع ذلك، فهنا المطلوب قد يكون أنفع من الطلب . وهو الدعاء والمطلوب الذكر والشكر، وقيام العبادة على أحسن الوجوه وغير ذلك . وهذا لبسطه موضع آخر .
والمقصود أن القلب قد يغمره، فيستولى عليه ما يريده العبد، ويحبه، ومايخافه ويحذره، كائنا من كان؛ ولهذا قال تعالى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } [ المؤمنون : 36 ] ، فهي فيما يغمرها عما أنذرت به، فيغمرها ذلك عن ذكر اللّه والدار الآخرة وما فيها من النعيم، والعذاب الأليم . قال اللّه تعالى : { فّذّرًهٍمً فٌي غّمًرّتٌهٌمً حّتَّى " حٌينُ } [ المؤمنون : 54 ] ، أي فيما يغمر قلوبهم من حب المال والبنين المانع لهم من المسارعة في الخيرات، والأعمال الصالحة . وقال تعالى : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } الآيات [ الذاريات : 10، 11 ] ، أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة، وما خلقوا له .
وهذا يشبه قوله : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [ الكهف : 28 ] ، فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة؛ ولهذا قال من قال : السهو : الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب عنه، وهذا جماع الشر الغفلة، والشهوة .
فالغفلة عن اللّه والدار الآخرة تسد باب الخير، الذي هو الذكر واليقظة .(184/498)
والشهوة تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورًا فيما يهواه ويخشاه، غافلًا عن اللّه، رائدًا غير اللّه، ساهيًا عن ذكره، قد اشتغل بغير اللّه، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه، كما روى في صحيح البخاري، وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطى رضى، وإن منع سخط ) .
جعله عبد ما يرضيه وجوده ويسخطه فقده، حتى يكون عبد الدرهم، وعبد ما وصف في هذا الحديث، والقطيفة : هي التي يجلس عليها، فهو خادمها، كما قال بعض السلف : البس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما تكن أنت تخدمه، وهي كالبساط الذي تجلس عليه، والخميصة : هي التي يرتدي بها، وهذا من أقل المال . وإنما / نبه به النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو أعلي منه، فهو عبد لذلك، فيه أرباب متفرقون، وشركاء متشاكسون .
ولهذا قال : ( إن أعطى رضي، وإن منع سخط ) . فما كان يرضى الإنسان حصوله ويسخطه فقده، فهو عبده، إذ العبد يرضى باتصاله بهما، ويسخط لفقدهما . والمعبود الحق الذي لا إله إلا هو إذا عبده المؤمن وأحبه حصل للمؤمن بذلك في قلبه إيمان، وتوحيد ومحبة، وذكر، وعبادة، فيرضى بذلك، وإذا منع من ذلك غضب .
وكذلك من أحب شيئًا، فلا بد أن يتصوره في قلبه، ويريد اتصاله به بحسب الإمكان .
قال الجنيد : لا يكون العبد عبدًا حتى يكون مما سوى اللّه تعالى حرًا . وهذا مطابق لهذا الحديث، فإنه لا يكون عبدًا للّه خالصًا مخلصًا دينه للّه كله، حتى لا يكون عبدًا لما سواه، ولا فيه شعبة، ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى اللّه، فإذا كان يرضيه، ويسخطه غير اللّه فهو عبد لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته، وعبادته لذلك الغير زيادة .(184/499)
قال الفضيل بن عياض : واللّه ما صدق اللّه في عبوديته، من / لأحد من المخلوقين عليه ربانية، وقال زيد بن عمرو بن نفيل :
أربا ًواحدًا، أم ألف رب ** أدين إذا انقسمت الأمور ؟ !
روى الإمام أحمد والترمذي، والطبراني، من حديث أسماء بنت عميس، قالت : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( بئس العبد عبد تخيل، واختال، ونسى الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد سها ولها، ونسى المقابر والبلى، بئس العبد عبد بغى واعتدى، ونسى المبدأ والمنتهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس العبد عبد رغب يذله ويزيله عن الحق، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله ) قال الترمذي : غريب . وفي الحديث الصحيح المتقدم ما يقويه . واللّه أعلم .
وكذلك أحاديث وآثار كثيرة رويت في معنى ذلك . كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] .
وطالب الرئاسة ـ ولو بالباطل ـ ترضيه الكلمة التي فيها تعظيمه وإن كانت باطلًا، وتغضبه الكلمة التي فيها ذمه وإن كانت حقًا . / والمؤمن ترضيه كلمة الحق له وعليه، وتغضبه كلمة الباطل له وعليه؛ لأن اللّه تعالى يحب الحق، والصدق، والعدل، ويبغض الكذب، والظلم .
فإذا قيل : الحق والصدق والعدل الذي يحبه اللّه أحبه، وإن كان فيه مخالفة هواه؛ لأن هواه قد صار تبعًا لماجاء به الرسول . وإذا قيل : الظلم والكذب، فاللّه يبغضه، والمؤمن يبغضه، ولو وافق هواه .(184/500)
وكذلك طالب المال ـ ولو بالباطل ـ كما قال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [ التوبة : 58 ] وهؤلاء هم الذين قال فيهم : ( تعس عبد الدينار ) الحديث . فكيف إذا استولى على القلب ما هو أعظم استعبادًا من الدرهم والدينار، من الشهوات والأهواء، والمحبوبات التي تجذب القلب عن كمال محبته للّه وعبادته ؟ ! لما فيها من المزاحمة والشرك بالمخلوقات، كيف تدفع القلب، وتزيغه عن كمال محبته لربه وعبادته وخشيته؛ لأن كل محبوب يجذب قلب محبه إليه، ويزيغه عن محبة غير محبوبه، وكذلك المكروه يدفعه، ويزيله، ويشغله عن عبادة اللّه تعالى .
ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم / قال لأصحابه : ( الفقر تخافون ؟ ! لا أخاف عليكم الفقر، إنما أخاف عليكم الدنيا، حتى إن قلب أحدكم إذا زاغ لا يزيغه إلا هي ) .
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه، والذين يبغضونه كأعدائه، فالذين يحبونه يجذبونه إليهم . فإذا لم تكن المحبة منهم له للّه، كان ذلك مما يقطعه عن اللّه، والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن اللّه، ولو أحسن إليه أصدقاؤه الذين يحبونه، لغير اللّه أوجب إحسانهم إليه محبته لهم، وإنجذاب قلبه إليهم . ولو كان على غير الاستقامة، وأوجب مكافأته لهم، فيقطعونه عن اللّه وعبادته .(185/1)
فلا تزول الفتنة عن القلب، إلا إذا كان دين العبد كله للّه عز وجل، فيكون حبه للّه ولما يحبه اللّه، ويبغضه للّه، ولما يبغضه اللّه، وكذلك موالاته ومعاداته، وإلا فمحبة المخلوق تجذبه، وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه، ثم قد يكون هذا أقوى، وقد يكون هذا أقوى، فإذا كان هو غالبًا لهواه لم يجذبه مغلوب مع هواه، ولا محبوباته إليها؛ لكونه غلبًا لهواه ناهيًا لنفسه عن الهوى، لما في قلبه من خشية اللّه، ومحبته التى تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات .
وأما حب الناس له، فإنه يوجب أن يجذبوه هم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة اللّه، وخشيته / وإلا جذبوه وأخذوه إليهم، كحب امرأة العزيز ليوسف، فإن قوة ىوسف ومحبته للّه وإخلاصه وخشيته، كانت أقوى من جمال امرأة العزيز وحسنها وحبه لها، هذا إذا أحب أحدهم صورته، مع أن هنا الداعي قوي منه ومنهم، فهنا المعصوم من عصمه اللّه، وإلا فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين، أنه يقع بعض الشر بينهم .
ولهذا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ) .
وقد يحبونه لعلمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك، فالفتنة في هذا أعظم، إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية وتوحيد تام، فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون . وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم، إن لم يفعلها وإلا نقص الحب، أو حصل نوع بغض، وربما زاد أو أدى إلى الانسلاخ من حبه، فصار مبغوضًا بعد أن كان محبوبا، فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم، حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره، وأولئك يطلبون منه انتفاعهم، وإن كان مضرًا له مفسدًا لدينه لا يفكرون في ذلك . وقليل منهم الشكور .(185/2)
فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه ولا دفع ضرره، وإنما / يقصدون أغراضهم به، فإن لم يكن الإنسان عابدًا اللّه، متوكلًا عليه مواليًا له ومواليًا فيه ومعاديًا، وإلا أكلته الطائفتان، وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة .
وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم، وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والاختلاف والفتن . قوم يوالون زيدًا، ويعادون عمرًا . وآخرون بالعكس؛ لأجل أغراضهم، فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه من زيد انقلبوا إلى عمرو، وكذلك أصحاب عمرو، كما هو الواقع بين أصناف الناس .
وكذلك الرأس، من الجانبين، يميل إلى هؤلاء الذين يوالونه، وهم إذا لم تكن الموالاة للّه أضر عليه من أولئك، فإن أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه إما بقتله، أو بأخذ ماله، وإما بإزالة منصبه، وهذا كله ضرر دنيوي، لا يعتد به إذا سلم العبد، وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين لايعتدون بفساد دينهم مع سلامة دنياهم . فهم لا يبالون بذلك . وأما " دين العبد " الذي بينه وبين اللّه فهم لا يقدرون عليه .
وأما أولياءه الذين يوالونه للأغراض، فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك، فإن لم يفعل انقلبوا أعداء، فدخل بذلك عليه الأذى من جهتين :
/من جهة مفارقتهم، ومن جهة عداوتهم .
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لأنهم قد شاهدوا منه . وعرفوا مالم يعرفه أعداؤه . فاستجلبوا بذلك عداوة غيرهم، فتتضاعف العداوة .
وإن لم يحب مفارقتهم، احتاج إلى مداهنتهم، ومساعدتهم على ما يريدونه، وإن كان فيه فساد دينه . فإن ساعدهم على نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيبًا وافرًا وحظًا تامًا من ظلمهم وجورهم، وطلبوا منه أيضًا أن يعاونهم على أغراضهم، ولو فاتت أغراضه الدنيوية . فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده ! ! فإن الإنسان ظالم جاهل، لا يطلب إلا هواه .(185/3)
فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم . ويصبر على أذاهم . ويقضى حوائجهم للّه، وتكون استعانته عليهم باللّه تامة، وتوكله على اللّه تام . وإلا أفسدوا دينه ودنياه، كما هو الواقع المشاهد من الناس، ممن يطلب الرئاسة الدنيوية، فإنه يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة، ويحسن له هذا الرأي، ويعاديه إن لم يقم معه، كما قد /جرى ذلك مع غير واحد .
وذلك يجري فيمن يحب شخصًا لصورته، فإنه يخدمه، ويعظمه، ويعطيه ما يقدر عليه، ويطلب منه من المحرم ما يفسد دينه .
وفيمن يحب صاحب بدعة؛ لكونه له داعية إلى تلك البدعة، يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل، وإلا عاداه؛ ولهذا صار علماء الكفار، وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لأجل الأتباع والمحبين، ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم .
فمن أحب غير اللّه، ووالى غيره، كره محب اللّه ووليه، ومن أحب أحدًا لغير اللّه كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه، فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمة في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة، وذهابها عنه، فأي صداقة هذه ؟ ! ويحبون بقاء ذلك المحبوب؛ ليستعملوه في أغراضهم، وفيما يحبونه، وكلاهما ضرر عليه .(185/4)
قال تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ } [ البقرة : 166 ] ، قال الفضيل بن عياض عن ليث / عن مجاهد : هي المودات التي كانت لغير اللّه، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ } [ البقرة : 167 ] . فالأعمال التي أراهم اللّه حسرات عليهم : هي الأعمال التي يفعلها بعضهم، مع بعض في الدنيا كانت، لغير اللّه، ومنها الموالاة، والصحبة، والمحبة، لغير اللّه . فالخير كله في أن يعبد اللّه وحده لا يشرك به شيئًا، ولا حول ولا قوة إلا باللّه .
فَصْل
ومما يحقق هذه الأمور أن المحب يجذب، والمحبوب يجذب . فمن أحب شيئًا جذبه إليه بحسب قوته، ومن أحب صورة جذبته تلك الصورة إلى المحبوب الموجود في الخارج بحسب قوته . فإن المحب علته فاعلية، والمحبوب علته غائية، وكل منهما له تأثير في وجود المعلول، والمحب إنما يجذب المحبوب بما في قلب المحب من صورته التي يتمثلها، فتلك الصورة تجذبه بمعنى انجذابه إليها، لا أنها هي في نفسها قصد وفعل، فإن في المحبوب من المعنى المناسب ما يقتضى انجذاب المحب إليه، كما ينجذب الإنسان إلى الطعام ليأكله، وإلى امرأة ليباشرها، وإلى / صديقه ليعاشره، وكما تنجذب قلوب المحبين للّه ورسوله إلى اللّه ورسوله، والصالحين من عباده لما اتصف به سبحانه من الصفات التي يستحق؛ لأجلها أن يحب ويعبد .(185/5)
بل لايجوز أن يحب شيء من الموجودات، لذاته إلا هو سبحانه وبحمده، فكل محبوب في العالم إنما يجوز أن يحب لغيره، لا لذاته، والرب تعالى هوالذي يجب أن يحب لنفسه، وهذا من معاني إلهيته و { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، فإن محبة الشيء لذاته شرك، فلا يحب لذاته إلا اللّه، فإن ذلك من خصائص إلهيته، فلا يستحق ذلك إلا اللّه وحده، وكل محبوب سواه إن لم يحب لأجله، أو لما يحب لأجله فمحبته فاسدة .
واللّه ـ تعالى ـ خلق في النفوس حب الغذاء، وحب النساء، لما في ذلك من حفظ الأبدان وبقاء الإنسان، فإنه لولا حب الغذاء لما أكل الناس ففسدت أبدانهم، ولولا حب النساء لما تزوجوا فانقطع النسل، والمقصود بوجود ذلك : بقاء كل منهم ؛ليعبدوا اللّه وحده، ويكون هو المحبوب المعبود لذاته الذي لا يستحق ذلك غيره .
وإنما تحب الأنبياء والصالحون تبعا لمحبته، فإن من تمام حبه حب ما يحبه، وهو يحب الأنبياء والصالحين، ويحب الأعمال الصالحة، فحبها / للّه هو من تمام حبه، وأما الحب معه فهو حب المشركين الذين يحبون أندادهم كحب اللّه، فالمخلوق إذا أحب للّه كان حبه جاذبًا إلى حب اللّه، وإذا تحاب الرجلان في اللّه اجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه، كان كل منهما جاذبا للآخر إلى حب اللّه، كما قال تعالى : ( حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، وإن للّه عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بقربهم من اللّه، وهم قوم تحابوا بروح اللّه علي غير أموال يتباذلونها، ولا أرحام يتواصلون بها، إن لوجوههم لنورًا، وإنهم لعلى كراسي من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس ) .(185/6)
فإنك إذا أحببت الشخص للّه كان اللّه هو المحبوب لذاته، فكلما تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك للّه، كما إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء قبله، والمرسلين وأصحابهم الصالحين، وتصورتهم في قلبك، فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة اللّه المنعم عليهم، وبهم إذا كنت تحبهم للّه، فالمحبوب للّه يجذب إلى محبة اللّه، والمحب للّه، إذا أحب شخصًا للّه، فإن اللّه هو محبوبه، فهو يحب أن يجذبه إلى اللّه تعالى، وكل من المحب للّه والمحبوب للّه يجذب إلى اللّه .
وهكذا إذا كان الحب لغير اللّه، كما إذا أحب كل من الشخصين / الآخر بصورة : كالمرأة مع الرجل، فإن المحب يطلب المحبوب، والمحبوب يطلب المحب، بانجذاب المحبوب، فإذا كانا متحابين صار كل منهما جاذبًا مجذوبًا من الوجهين، فيجب الاتصال، ولو كان الحب من أحد الجانبين ؛لكان المحب يجذب المحبوب، والمحبوب يجذبه، لكن المحبوب لا يقصد جذبه، والمحب يقصد جذبه وينجذب .
وهذا سبب التأثير في المحبوب، إما تمثل يحصل في قلبه، فينجذب، وإما أن ينجذب بلا محبة : كما يأكل الرجل الطعام، ويلبس الثوب، ويسكن الدار، ونحو ذلك من المحبوبات التي لا إرادة لها .
وأما الحيوان، فيحب بعضه بعضًا بكونه سببًا للإحسان إليه وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، لكن هذا في الحقيقة إنما هو محبة الإحسان، لا نفس المحسن، ولو قطع ذلك لاضمحل ذلك الحب وربما أعقب بغضًا، فإنه ليس للّه عز وجل .
فإن من أحب إنسانًا ؛لكونه يعطيه، فما أحب إلا العطاء، ومن قال : إنه يحب من يعطيه للّه فهذا كذب، ومحال، وزور من القول، وكذلك من أحب إنسانًا لكونه ينصره إنما أحب النصر لا الناصر . وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس، فإنه لم يحب في الحقيقة إلا ما يصل إليه من جلب منفعة، أو دفع مضرة، فهو إنما أحب تلك المنفعة ودفع المضرة وإنما / أحب ذلك لكونه وسيلة إلى محبوبه، وليس هذا حبًا للّه ولا لذات المحبوب .(185/7)
وعلى هذا تجرى عامة محبة الخلق بعضهم مع بعض، وهذا لا يثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم، بل ربما أدى ذلك إلى النفاق والمداهنة، فكانوا في الآخرة من الأخلاء الذين بعضهم لبعض عدو إلا المتقين . وإنما ينفعهم في الآخرة الحب في اللّه وللّه وحده، وأما من يرجو النفع والنصر من شخص ثم يزعم أنه يحبه للّه، فهذا من دسائس النفوس ونفاق الأقوال .
وإنما ينفع العبد الحب للّه لما يحبه اللّه من خلقه، كالأنبياء والصالحين ؛لكون حبهم يقرب إلى اللّه ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون محبة اللّه لهم .
ونبينا كان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويدع آخرين هم أحب إليه من الذي يعطي؛ يكلهم إلى ما في قلوبهم من الإيمان، وإنما كان يعطي المؤلفة قلوبهم، لما في قلوبهم من الهلع والجزع؛ ليكون ما يعطيهم سببًا لجلب قلوبهم إلى أن يحبوا الإسلام فيحبوا اللّه، فكان مقصوده بذلك دعوة القلوب إلى حب اللّه عز وجل، وصرفها عن ضد ذلك؛ ولهذا كان يعطي أقوامًا خشية أن يكبهم اللّه على وجوههم في النار فمنعهم بذلك العطاء عما / يكرهه منهم فكان يعطي للّه ويمنع للّه . وقد قال : ( من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه، فقد استكمل الإيمان ) ، وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إني واللّه إنما أنا قاسم لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، ولكن أضع حيث أمرت ) .
وصورة المحبوب المتمثلة في النفس يتحرك لها المحب، ويريد لها، ويحب ويبغض ويبتهج وينشرح عند ذكرها، من أي جنس كانت، فتبقى هي كالآمر الناهي له؛ ولهذا يجد في نفسه كأنها تخاطبه بأمر ونهي وغير ذلك، كما يرى كثير من الناس من يحبه، ويعظمه في منامه، وهو يأمره، وينهاه، ويخبره بأمور .
والمشركون تتمثل لهم الشياطين في صور من يعبدونه، تأمرهم وتنهاهم .(185/8)
والقائلون بالشاهد والمنتسبون إلى السلوك يقول أحدهم : إنه يخاطب في باطنه على لسان الشاهد، فمنهم من يصلي بالليل وذاك بإزائه ليشاهده في الضوء، ومنهم من يشاهده في حال السماع في غيره، ويظنون أنهم يخاطبون ويجدون المريد في قلوبهم بذلك، وذلك لأنهم يتمثلونه في أنفسهم، وربما كان الشيطان يتمثل في صورته، فيجدون في نفوسهم خطابا من تلك الصورة، فيقولون : خوطبنا من جهته . وهذا وإن كان موجودًا في / المخاطب فمن المخاطب له ؟ فالفرقان هنا . فإنما ذلك المخاطب من وسواس الشيطان والنفس .
وقد يخاطبون بأشياء حسنة رشوة منه لهم، ولا يخاطبون بما يعرفون أنه باطل؛لئلا ينفرون منه، بل الشيطان يخاطب أحدهم بما يري أنه حق، والراهب إذا راض نفسه فمرة يرى في نفسه صورة التثليث، وربما خوطب منها؛لأنه كان قد يتمثلها قبل ذلك، فلما انصقلت نفسه بالرياضة ظهرت له، والمؤمن الذي يحب اللّه ورسوله يرى الرسول في منامه بحسب إيمانه، وكذلك يري اللّه تعالى في منامه بحسب إيمانه، كما قد بسط في غير هذا الموضع .
ولهذا كثير من أهل الزهد والعبادة يكون من أعوان الكفار، ويزعم أنه مأمور بذلك، ويخاطب به ويظن أن اللّه هو الذي أمره بذلك، واللّه منزه عن ذلك، وإنما الآمر له بذلك النفس والشيطان ومافي نفسه من الشرك، إذ لو كان مخلصًا للّه الدين، لما عرض له شيء من ذلك، فإن هذا لا يكون إلا لمن فيه شرك في عبادته، أو عنده بدعة، ولا يقع هذا لمخلص متمسك بالسنة البتة .
وإذا كانت الرؤيا، على ثلاثة أقسام :
رؤيا من اللّه .
/ورؤيا من حديث النفس .
ورؤيا من الشيطان .
فكذلك ما يلقي في نفس الإنسان في حال يقظته ثلاثة أقسام .
ولهذا كانت الأحوال ثلاثة : رحماني، ونفساني، وشيطاني .(185/9)
وما يحصل من نوع المكاشفة والتصرف ثلاثة أصناف : ملكي، ونفسي، وشيطاني، فإن الملك له قوة، والنفس لها قوة، والشيطان له قوة، وقلب المؤمن له قوة، فما كان من الملك ومن قلب المؤمن، فهو حق، وما كان من الشيطان ووسوسة النفس، فهو باطل .
وقد اشتبه هذا بهذا على طوائف كثيرة، فلم يفرقوا بين أولياء اللّه وأعداء اللّه، بل صاروا يظنون في من هو من جنس المشركين والكفار ـ أهل الكتاب من وجوه كثيرة ـ أنه من أولياء اللّه المتقين . والكلام في هذا مبسوط في موضع آخر .
ولهذا في هؤلاء من يرى جواز قتال الأنبياء، ومنهم من يرى أنه أفضل من الأنبياء، إلى أنواع أخر . وذلك ؛لأنه حصل لهم من الأنواع الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الأولياء، فظنوا / أنهم منهم، فكان الأمر بالعكس . وأصل هذا أنهم تعبدوا بما تحبه النفس، وأما العبادة بما يحبه اللّه ويرضاه، فلا يحبونه ولا يريدونه وحده، ويرون أنهم إذا عبدوا اللّه بما أمر به ورسله حط لهم عن منصب الولاية، فيحدثون محبة قوية وتألهًا وعبادة وشوقًا وزهدًا، ولكن فيه شرك وبدعة .(185/10)
ومحبة التوحيد : إنما تكون للّه وحده على متابعة رسوله، كما قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ؛ فلهذا يكون أهل الاتباع فيهم جهاد ونية في محبتهم، يحبون للّه، ويبغضون له . وهم على ملة إبراهيم . والذين معه { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] ، وأولئك محبتهم فيها شرك، وليسوا متابعين للرسول، ولا مجاهدين في سبيل اللّه، فليست هي المحبة الإخلاصية، فإنها مقرونة بالتوحيد؛ ولهذا سمي أبو طالب المكي كتابه : قوت القلوب في معاملة المحبوب، ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، واللّه ـ سبحانه ـ أعلم .
/قَالَ شَيْخُ الإِسْلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ أَيْضًا :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=208 - TOP#TOPفَصْل
قد كتبت في كراسة الحوادث فصلا في : جماع الزهد والورع .
وإن الزهد : هو عما لا ينفع، إما لانتفاء نفعه، أو لكونه مرجوحًا؛ لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه . وأما المنافع الخالصة، أو الراجحة فالزهد فيها حمق
وأما الورع، فإنه الإمساك عما قد يضر، فتدخل فيه المحرمات والشبهات ؛لأنها قد تضر . فإنه من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه .
وأما الورع، عما لا مضرة فيه، أو فيه مضرة مرجوحة ـ لما / تقترن به من جلب منفعة راجحة، أو دفع مضرة أخرى راجحة ـ فجهل وظلم . وذلك يتضمن : ثلاثة أقسام لا يتورع عنها المنافع المكافئة والراجحة والخالصة كالمباح المحض أو المستحب أو الواجب فإن الورع عنها ضلالة .(185/11)
وأنا أذكر هنا تفصيل ذلك فأقول :
الزهد، خلاف الرغبة . يقال : فلان زاهد في كذا . وفلان راغب فيه . و الرغبة : هي من جنس الإرادة . فالزهد في الشيء انتفاء الإرادة له، إما مع وجود كراهته، وإما مع عدم الإرادة والكراهة، بحيث لايكون لا مريدًا له، ولا كارهًا له، وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه .
وكما أن سبيل اللّه يحمد فيه الزهد، فيما زهد اللّه فيه من فضول الدنيا، فتحمد فيه الرغبة والإرادة لما حمد اللّه إرادته، والرغبة فيه؛ ولهذا كان أساس الطريق الإرادة . كما قال تعالى : { وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [ الإسراء : 19 ] ، ونظائره متعددة .
/كما رغب في الزهد، وذم ضده في قوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّار }
[ هود : 15، 16 ] ، وقال تعالى : { أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرٍُ } السورة [ التكاثر ] ، وقال تعالى : {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا . وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } [ الفجر : 19، 20 ] ، وقال : { إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ . وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ . وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 6-8 ] ، وقال تعالى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } الآية [ الحديد : 20 ] ، وهذا باب واسع .(185/12)
وإنما المقصود هنا تميز الزهد الشرعي، من غيره، وهو الزهد المحمود، وتميز الرغبة الشرعية، من غيرها، وهي الرغبة المحمودة، فإنه كثيرًا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز والبطالة عن الأوامر الشرعية، وكثيرًا ما تشتبه الرغبة الشرعية بالحرص، والطمع، والعمل الذي ضل سعى صاحبه .
وأما الورع، فهو اجتناب الفعل واتقاؤه، والكف والإمساك عنه والحذر منه، وهو يعود إلى كراهة الأمر، والنفرة منه، والبغض له، وهو أمر وجودي أيضًا ـ وإن كان قد اختلف في المطلوب بالنهي . هل هو عدم المنهى عنه، أو فعل ضده ؟ وأكثر أهل الإثبات على الثاني ـ فلا ريب أنه لايسمى ورعًا، ومتورعًا، ومتقيًا، إلا إذا وجد منه الامتناع والإمساك الذي هو فعل ضد المنهي عنه .
/والتحقيق : أنه مع عدم المنهي عنه يحصل له عدم مضرة الفعل المنهي عنه، وهو ذمه وعقابه ونحو ذلك، ومع وجود الامتناع والاتقاء والاجتناب يكون قد وجد منه عمل صالح وطاعة وتقوى، فيحصل له منفعة هذا العمل، من حمده وثوابه، وغير ذلك، فعدم المضرة لعدم السيئات، ووجود المنفعة لوجود الحسنات .(185/13)
فتلخص أن الزهد من باب عدم الرغبة، والإرادة في المزهود فيه . والورع من باب وجود النفرة، والكراهة للمتورع عنه، وانتفاء الإرادة، إنما يصلح فيما ليس فيه منفعة خالصة أو راجحة، وأما وجود الكراهة، فإنما يصلح فيما فيه مضرة خالصة أو راجحة، فأما إذا فرض مالا منفعة فيه ولا مضرة، أو منفعته ومضرته سواء من كل وجه، فهذا لا يصلح أن يراد، ولا يصلح أن يكره، فيصلح فيه الزهد، ولا يصلح فيه الورع، فظهر بذلك أن كل ما يصلح فيه الورع يصلح فيه الزهد، من غير عكس، وهذا بين، فإن ما صلح أن يكره وينفر عنه صلح أن لا يراد ولا يرغب فيه، فإن عدم الإرادة أولى من وجود الكراهة، ووجود الكراهة مستلزم عدم الإرادة من غير عكس، وليس كل ما صلح أن لا يراد يصلح أن يكره، بل قد يعرض من الأمور مالا تصلح إرادته ولا كراهته، ولا حبه ولا بغضه ولا الأمر به، ولا النهي عنه .
/وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات، لا يصلح فيها زهد ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات، فيصلح فيها الزهد والورع . وأما المباحات، فيصلح فيها الزهد دون الورع، وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل .
وإنما الشأن فيما إذا تعارض في الفعل . هل هو مأمور به، أو منهي عنه، أو مباح ؟ وفيما إذا اقترن بما جنسه مباح ما يجعله مأمورًا به، أو منهيًا عنه، أو اقترن بالمأمور به، مايجعله منهيًا عنه وبالعكس .
فعند اجتماع المصالح والمفاسد والمنافع والمضار وتعارضها، يحتاج إلى الفرقان .
وَقَال :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=209 - TOP#TOPفَصْل(185/14)
قول بعض الناس : الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما قد يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات، والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها اللّه ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل اللّه من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال : ( هلك المتنطعون ) ، وقال : ( لو مد لي الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم ) ، مثل الجوع أو العطش المفرط، الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم، وأن يقوم قائما ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم / صومه ) رواه البخاري، وهذا باب واسع .
وأما الأجر على قدر الطاعة فقد تكون الطاعة للّه ورسوله في عمل ميسر، كما يسر اللّه على أهل الإسلام : الكلمتين، وهما أفضل الأعمال؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان اللّه وبحمده، سبحان اللّه العظيم ) أخرجاه في الصحيحين .
ولو قيل : الأجر على قدر منفعة العمل، وفائدته ؛لكان صحيحًا اتصاف الأول باعتبار تعلقه بالأمر والثاني باعتبار صفته في نفسه . والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة الأمر فقط، وتارة من جهة صفته في نفسه، وتارة من كلا الأمرين . فبالاعتبار الأول ينقسم إلى طاعة ومعصية، وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة، والطاعة والمعصية اسم له من جهة الأمر، والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه . . . وإن كان كثير من الناس لا يثبت إلا الأول، كما تقوله الأشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم .(185/15)
ومن الناس من لايثبت إلا الثاني، كما تقوله المعتزلة وطائفة / من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، والصواب إثبات الاعتبارين، كما تدل عليه نصوص الأئمة وكلام السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم .
فأما كونه مشقًا، فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا، ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر، يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة : ( أجرك على قدر نصبك ) لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة، وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر، وكذلك الجهاد، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران ) .
فكثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، لكن ؛لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا، فقد تكون المشقة مطلوبة منهم . وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبًا مقربًا إلى اللّه؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون / إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم .
ولهذا تجد هؤلاء مع من شابههم من الرهبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات، مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها، ولا منفعة إلا أن يكون شيئًا يسيرًا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه .(185/16)
ونظير هذا الأصل الفاسد، مدح بعض الجهال بأن يقول : فلان ما نكح ولا ذبح . وهذا مدح الرهبان الذين لا ينكحون ولا يذبحون، وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
وهذه الأشياء هي من الدين الفاسد، وهو مذموم، كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم .
والناس أقسام :
أصحاب دنيا محضة : وهم المعرضون عن الآخرة .
وأصحاب دين فاسد : وهم الكفار، والمبتدعة الذين يتدينون بما لم / يشرعه اللّه من أنواع العبادات، والزهادات .
والقسم الثالث وهم : أهل الدين الصحيح، أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب، والسنة والجماعة، والحمد للّه الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه لقد جاءت رسل ربنا بالحق .
/وَقَالَ شَيخُ الإِسْلام أحمَد بن تيمية ـ رَحِمَهُ اللَّهُ :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=209 - TOP#TOPفَصْل
في تزكية النفس وكيف تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات، قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، و { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] .
قال قتادة وابن عيينة وغيرهما : قد أفلح من زكى نفسه بطاعة اللّه، وصالح الأعمال . وقال الفراء والزجاج : قد أفلحت نفس زكاها اللّه، وقد خابت نفس دساها اللّه . وكذلك ذكره الوالبي، عن ابن عباس وهو منقطع . وليس هو مراد من الآية؛ بل المراد بها الأول قطعًا لفظًا ومعنى .
أما اللفظ فقوله : من زكاها اسم موصول ولابد فيه من عائد/ على { مّن } فإذا قيل : قد أفلح الشخص الذي زكاها؛ كان ضمير الشخص في زكاها يعود على { مّن } ، هذا وجه الكلام الذي لا ريب في صحته كما يقال : قد أفلح من اتقى الله وقد أفلح من أطاع ربه .(185/17)
وأما إذا كان المعنى : قد أفلح من زكاه اللّه، لم يبق في الجملة ضمير يعود على { مّن } فإن الضميرعلى هذا يعود على اللّه، وليس هو { مّن } وضمير المفعول يعود على النفس المتقدمة فلا يعود على { مّن } لا ضمير الفاعل، ولا المفعول . فتخلوا الصلة من عائد وهذا لا يجوز .
نعم، لو قيل : قد أفلح من زكى اللّه نفسه، أو من زكاها اللّه له، ونحو ذلك صح الكلام، وخفاء هذا على من قال به من النحاة عجب . وهو لم يقل : قد أفلحت نفس زكاها . فإنه هنا كانت تكون زكاها صفة لنفس لا صلة، بل قال : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، فالجملة صلة لـ { مّن } لا صفة لها .
ولا قال أيضًا : قد أفلحت النفس التي زكاها، فإنه لو قيل ذلك، وجعل في { زّكَّاهّا } ضمير يعود على اسم اللّه صح، فإذا تكلفوا، وقالوا : التقدير { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } هي النفس التي زكاها، وقالوا : في زكى ضمير المفعول يعود على { مَنْ } وهي تصلح للمذكر والمؤنث / والواحد والعدد، فالضمير عائد على معناها المؤنث، وتأنيثها غير حقيقي؛ ولهذا قيل : { قّدً أّفًلّح } ولم يقل : قد أفلحت، قيل لهم : هذا مع أنه خروج من اللغة الفصيحة، فإنما يصح إذا دل الكلام على ذلك في مثل ومن . . . على أن المراد لنا، وكذا قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ، ونحو ذلك .(185/18)
وأما هنا فليس في لفظ { مَنْ } ، وما بعدها ما يدل على أن المراد به النفس المؤنثة، فلا يجوز أن يراد بالكلام ما ليس فيه دليل على إرادته، فإن مثل هذا مما يصان كلام اللّه عز وجل عنه، فلو قدر احتمال عود ضمير { زَكَّاهَا } إلى نفس وإلى { مَنْ } ، مع أن لفظ { مَنْ } لا دليل يوجب عوده عليه ؛لكان إعادته إلى المؤنث أولى من إعادته إلى ما يحتمل التذكير والتأنيث، وهو في التذكير أظهر، لعدم دلالته على التأنيث، فإن الكلام إذا احتمل معنيين وجب حمله على أظهرهما، ومن تكلف غير ذلك، فقد خرج عن كلام العرب المعروف، والقرآن منزه عن ذلك، والعدول عما يدل عليه ظاهر الكلام إلى مالا يدل عليه بلا دليل لا يجوز البتة فكيف إذا كان نصًا من جهة المعني ؟ ! فقد أخبر اللّه أنه يلهم التقوى والفجور . ولبسط هذا موضع آخر .(185/19)
/والمقصود هنا أمر الناس بتزكية أنفسهم، والتحذير من تدسيتها، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، فلو قدر أن المعنى قد أفلح من زكى اللّه نفسه لم يكن فيه أمر لهم ولا نهي، ولا ترغيب ولا ترهيب . والقرآن إذا أمر أو نهى لا يذكر مجرد القدر فلا يقول : من جعله اللّه مؤمنًا، بل يقول : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 1 ] ، { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } إذ ذكر مجرد القدر في هذا يناقض المقصود، ولا يليق هذا بأضعف الناس عقلا فكيف بكلام اللّه ؟ ! ألا ترى أنه في مقام الأمر، والنهي، والترغيب، والترهيب يذكر ما يناسبه من الوعد، والوعيد، والمدح، والذم، وإنما يذكر القدر عند بيان نعمه عليهم، إما بما ليس من أفعالهم، وإما بإنعامه بالإيمان، والعمل الصالح، ويذكره في سياق قدرته ومشيئته، وأما في معرض الأمر فلا يذكره إلا عند النعم . كقوله : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى } الآية [ النور : 21 ] ، فهذا مناسب . وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وهذه الآية من جنس الثانية لا الأولى .
والمقصود ذكر التزكية قال تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الآية [ النور : 30 ] ، وقال : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } [ النور : 28 ] ، وقال : { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 7 ] ، وقال : { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } [ عبس : 7 ] .(185/20)
وأصل الزكاة الزيادة في الخير . ومنه يقال : زكا الزرع، وزكا /المال إذا نما . ولن ينمو الخير إلا بترك الشر، والزرع لا يزكو حتى يزال عنه الدغل، فكذلك النفس والأعمال لا تزكوا حتي يزال عنها ما يناقضها ولا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشر، فإنه يدنس النفس ويدسيها . قال الزجاج : { دّسَّاهّا } جعلها ذليلة حقيرة خسيسة، وقال الفراء : دساها؛ لأن البخيل يخفي نفسه ومنزله وماله، قال ابن قتيبة : أي أخفاها بالفجور والمعصية، فالفاجر دس نفسه، أي قمعها وخباها، وصانع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الربى لتشهر أنفسها، واللئام تنزل الأطراف والوديان .
فالبر والتقوى يبسط النفس، ويشرح الصدر، بحيث يجد الإنسان في نفسه اتساعًا وبسطًا عما كان عليه قبل ذلك، فإنه لما اتسع بالبر والتقوى والإحسان بسطه اللّه وشرح صدره، والفجور، والبخل يقمع النفس ويضعها ويهينها، بحيث يجد البخيل في نفسه أنه ضيق . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الصحيح، فقال : ( مثل البخيل والمتصدق، كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما . فجعل المتصدق كلما هم بصدقة اتسعت وانبسطت عنه، حتى تغشى أنامله، وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة، قلصت، وأخذت كل حلقة بمكانها، وأنا رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه في جيبه، فلو رأيتها يوسعها فلا تتسع ) أخرجاه .(185/21)
/وإخفاء المنزل وإظهاره تبعًا لذلك، قال تعالى : { يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } الآية [ النحل : 59 ] . فهكذا النفس البخيلة الفاجرة قد دسها صاحبها في بدنه بعضها في بعض؛ ولهذا وقت الموت تنزع من بدنه كما ينزع السفود من الصوف المبتل، والنفس البرة التقية النقية، التي قد زكاها صاحبها فارتفعت، واتسعت، ومجدت، ونبلت فوقت الموت تخرج من البدن تسيل، كالقطرة من في السقاء، وكالشعرة من العجين . قال ابن عباس : إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق . وإن للسيئة لظلمة في القلب، وسوادًا في الوجه، ووهنا في البدن، وضيقًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق . قال تعالى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } الآية [ الأعراف : 58 ] . وهذا مثل البخيل والمنفق . قال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ } الآية [ الأنعام : 521 ] . وقال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } الآية [ البقرة : 257 ] .
وقال له في سياق الرمي بالفاحشة، وذم من أحب إظهارها في المؤمنين، والمتكلم بما لا يعلم : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } الآية [ النور : 21 ] . فبين أن الزكاة إنما تحصل بترك الفاحشة ولهذا قال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية [ النور : 30 ] . وذلك أن ترك السيئات هو من أعمال النفس، فإنها تعلم أن السيئات مذمومة ومكروه فعلها، ويجاهد نفسه إذا دعته إليها، إن كان مصدقًا لكتاب / ربه مؤمنا بما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا التصديق والإيمان والكراهة وجهاد النفس أعمال تعملها النفس المزكاة ، فتزكو بذلك أيضًا، بخلاف ما إذا عملت السيئات فإنها تتدنس وتندس، وتنقمع، كالزرع إذا نبت معه الدغل .(185/22)
والثواب إنما يكون على عمل موجود، وكذلك العقاب . فأما العدم المحض، فلا ثواب فيه ولا عقاب، لكن فيه عدم الثواب والعقاب، واللّه سبحانه أمر بالخير، ونهى عن الشر، واتفق الناس على أن المطلوب بالأمر فعل موجود، واختلفوا في النهي هل المطلوب أمر وجودي، أم عدمي ؟ فقيل : وجودي، وهو الترك، وهذا قول الأكثر . وقيل : المطلوب عدم الشر، وهو ألا يفعله .
والتحقيق أن المؤمن إذا نهى عن المنكر، فلا بد ألا يقربه ويعزم على تركه، ويكره فعله، وهذا أمر وجودي بلا ريب، فلايتصور أن المؤمن الذي يعلم أنه . . . وجودي، لكن قد لا يكون مريدًا له كما يكره أكل الميتة طبعًا، ومع ذلك، فلابد له من اعتقاد التحريم والعزم على تركه لطاعة الشارع، وهذا قدر زائد على كراهة الطبع، وهو أمر وجودي يثاب عليه، ولكن ليس كثواب من كف نفسه وجاهدها عن طلب / المحرم، ومن كانت كراهته للمحرمات كراهة إيمان . وقد غمر إيمانه حكم طبعه، فهذا أعلى الأقسام الثلاثة، وهذا صاحب النفس المطمئنة، وهو أرفع من صاحب اللوامة التي تفعل الذنب، وتلوم صاحبها عليه، وتتلوم وتتردد، هل تفعله أم لا ؟ !
وأما من لم يخطر بباله أن اللّه حرمه، ولا هو مريد له، بل لم يفعله، فهذا لايعاقب ولا يثاب، إذ لم يحصل منه أمر وجودي يثاب عليه، أو يعاقب فمن قال : المطلوب ألا يفعل، إن أراد أن هذا المطلوب يكفي في عدم العقاب، فقد صدق، وإن أراد أنه يثاب على هذا العدم، فليس كذلك، والكافر إذا لم يؤمن باللّه ورسوله، فلا بد لنفسه من أعمال يشتغل بها عن الإيمان، وترك الأعمال كفر يعاقب عليها .(185/23)
ولهذا لما ذكر اللّه عقوبة الكفار في النار، ذكر أمورًا وجودية وتلك تدس النفس؛ ولهذا كان التوحيد والإيمان أعظم ما تزكو به النفس، وكان الشرك أعظم ما يدسيها، وتتزكى بالأعمال الصالحة والصدقة هذا كله مما ذكره السلف . قالوا : في { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، تطهر من الشرك، ومن المعصية بالتوبة، وعن أبي سعيد وعطاء وقتادة : صدقة الفطر . ولم يريدوا أن الآية لم تتناول إلا هي، بل مقصودهم : أن من أعطى صدقة الفطر، وصلى صلاة العيد فقد تناولته وما بعدها، ولهذا / كان يزيد بن حبيب، كلما خرج إلى الصلاة خرج بصدقة، ويتصدق بها، قبل الصلاة، ولو لم يجد إلا بصلًا . قال الحسن : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } من كان عمله زاكيًا، وقال أبو الأحوص : زكاة الأمور كلها، وقال الزجاج : تزكى بطاعة اللّه عز وجل، ومعنى الزاكي : النامي الكثير .
وكذلك قالوا في قوله : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] قال ابن عباس : لايشهدون أن لا إله إلا اللّه، وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم أي ليست زاكية، وقيل لا يطهرونها بالإخلاص، كأنه أراد ـ واللّه أعلم ـ أهل الرياء، فإنه شرك . وعن الحسن : لا يؤمنون بالزكاة، ولا يقرون بها . وعن الضحاك : لا يتصدقون، ولا ينفقون في الطاعة، وعن ابن السائب : لا يعطون زكاة أموالهم . قال : كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون .
والتحقيق أن الآية تتناول كل ما يتزكى به الإنسان من التوحيد والأعمال الصالحة . كقوله : { هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } [ النازعات : 18 ] ، وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [ الأعلى : 14 ] ، والصدقة المفروضة لم تكن فرضت عند نزولها .
فإن قيل : { يؤتي } فعل متعد .(185/24)
قيل : هذا كقوله : { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا } [ الأحزاب : 14 ] ، وتقدم قبلها أن / الرسول دعاهم، وهو طلب منه، فكان هذا اللفظ متضمنًا قيام الحجة عليهم بالرسل، والرسل إنما يدعونهم لما تزكو به أنفسهم .
ومما يليق : أن الزكاة تستلزم الطهارة؛ لأن معناها معنى الطهارة . قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } من الشر { وَتُزَكِّيهِمْ } [ التوبة : 103 ] بالخير قال صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهم طهرني بالماء والبرد والثلج ) كان يدعو به في الاستفتاح وفي الاعتدال من الركوع، والغسل .
فهذه الأمور توجب تبريد المغسول بها، و [ البرد ] يعطي قوة وصلابة، ومايسر يوصف بالبرد وقرة العين؛ ولهذا كان دمع السرور باردًا، ودمع الحزن حارًا؛ لأن مايسوء النفس يوجب حزنها وغمها، وما يسرها يوجب فرحها وسرورها وذلك مما يبرد الباطن .
فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : أن يغسل الذنوب على وجه يبرد القلوب أعظم برد يكون بما فيه من الفرح والسرور الذي أزال عنه ما يسوء النفس من الذنوب .
وقوله : بالثلج والبرد والماء البارد : تمثيل بما فيه من هذا الجنس، وإلا فنفس الذنوب لا تغسل بذلك، كما يقال : أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك . ولما قضى أبو قتادة دين المدين قال صلى الله عليه وسلم : ( الآن / برّدت جلدته ) ، ويقال : برد اليقين، وحرارة الشك، ويقال : هذا الأمر يثلج له الصدر، إذا كان حقًا يعرفه القلب ويفرح به، حتى يصير في مثل برد الثلج، ومرض النفس : إما شبهة وإما شهوة أو غضب، والثلاثة توجب السخونة، ويقال لمن نال مطلوبه : برد قلبه، فإن الطالب فيه حرارة الطلب .(185/25)
وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } : دليل على أن عمل الحسنات يطهر النفس ويزكيها من الذنوب السالفة، فإنه قاله بعد قوله : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا } الآية [ التوبة : 102 ] . فالتوبة والعمل الصالح يحصل بهما التطهير والتزكية ولهذا قال في سياق قوله : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الآيات [ النور : 30 ] { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ } الآية [ النور : 31 ] . فأمرهم جميعًا بالتوبة في سياق ما ذكره؛ لأنه لا يسلم أحد من هذا الجنس . كما في الصحيح : ( إن اللّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا ) الحديث . وكذلك في الصحيح : إن قوله : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] نزلت بسبب رجل نال من امرأة كل شيء إلا الجماع، ثم ندم فنزلت .
ويحتاج المسلم في ذلك إلى أن يخاف اللّه، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة للّه، وعملًا صالحًا، وثبت عنه أنه قال : ( المجاهد من جاهد نفسه في ذات اللّه ) ، فيؤمر بجهادها / كما يؤمر بجهاد من يأمر بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلي جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين وذاك فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن هذا الجهاد حقيقة ذلك الجهاد، فمن صبر عليه صبر على ذلك الجهاد . كما قال : ( والمهاجر من هجر السيئات ) .
ثم هذا لا يكون محمودًا فيه، إلا إذا غلب، بخلاف الأول فإنه من { فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 74 ] ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة . . . ) إلخ؛ وذلك لأن اللّه أمر الإنسان أن ينهي النفس عن الهوى، وأن يخاف مقام ربه، فحصل له من الإيمان ما يعينه على الجهاد، فإذا غلب كان لضعف إيمانه، فيكون مفرطًا بترك المأمور، بخلاف العدو الكافر فإنه قد يكون بدنه أقوى .(185/26)
فالذنوب إنما تقع إذا كانت النفس غير ممتثلة لما أمرت به، ومع امتثال المأمور لا تفعل المحظور، فإنهما ضدان . قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } الآية [ يوسف : 24 ] . وقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42، الإسراء : 65 ] فعباد اللّه المخلصون لا يغويهم الشيطان، والغي خلاف الرشد، وهو اتباع الهوى، فمن مالت نفسه إلى محرم، فليأت بعبادة اللّه كما أمر اللّه مخلصًا له الدين، فإن ذلك يصرف عنه السوء والفحشاء . . . . خشية ومحبة، والعبادة له / وحده، وهذا يمنع من السيئات .
فإذا كان تائبًا، فإن كان ناقصًا، فوقعت السيئات من صاحبه كان ماحيا لها بعد الوقوع، فهو كالترياق الذي يدفع أثر السم، ويرفعه بعد حصوله، وكالغذاء من الطعام والشراب، وكالاستمتاع بالحلال الذي يمنع النفس عن طلب الحرام، فإذا حصل له طلب إزالته، وكالعلم الذي يمنع من الشك، ويرفعه بعد وقوعه، وكالطب الذي يحفظ الصحة ويدفع المرض، وكذلك ما في القلب من الإيمان يحفظ بأشباهه مما يقوم به .(185/27)
وإذا حصل منه مرض من الشبهات والشهوات أزيل بهذه، ولا يحصل المرض إلا لنقص أسباب الصحة، كذلك القلب لا يمرض إلا لنقص إيمانه . وكذلك الإيمان والكفران متضادان، فكل ضدين : فأحدهما يمنع الآخر تارة، ويرفعه أخرى، كالسواد والبياض . . . حصل موضعه ويرفعه إذا كان حاصلًا، كذلك الحسنات والسيئات والإحباط . . . والمعتزلة إن الكبيرة تحبط الحسنات حتى الإيمان، وإن من مات عليها لم يكن . . . الجبائي وابنه بالموازنة . لكن قالوا : من رجحت سيئاته خلد في النار، والموازنة بلا تخليد قول . . . الإحباط ما أجمع عليه وهو حبوط الحسنات كلها بالكفر كما قال : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } الآية [ البقرة : 217 ] ، وقوله : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } الآية [ المائدة : 5 ] ، وقال : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ، وقال : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الآية [ الزمر : 65 ] .
وما ادعته المعتزلة مخالف لأقوال السلف، فإنه سبحانه ذكر حد الزاني وغيره، ولم يجعلهم كفارًا حابطي الأعمال، ولا أمر بقتلهم كما أمر بقتل المرتدين، والمنافقون لم يكونوا يظهرون كفرهم . والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على الغال، وعلى قاتل نفسه، ولو كانوا كفارًا ومنافقين لم تجز الصلاة عليهم . فعلم أنهم لم يحبط إيمانهم كله . وقال عمن شرب الخمر : ( لا تلعنه فإنه يحب اللّه ورسوله ) وذلك الحب من أعظم شعب الإيمان . فعلم أن إدمانه لا يذهب الشعب كلها، وثبت من وجوه كثيرة : ( يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) ولو حبط لم يكن في قلوبهم شيء منه . وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الآية [ فاطر : 32 ] . فجعل من المصطفين .(185/28)
فإذا كانت السيئات لا تحبط جميع الحسنات، فهل تحبط بقدرها وهل يحبط بعض الحسنات بذنب دون الكفر ؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة . منهم من ينكره، ومنهم من يثبته، كما دلت عليه النصوص، مثل قوله : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } الآية [ البقرة : 264 ] . دل على أن هذه السيئة تبطل الصدقة، وضرب مثله بالمرائي، وقالت عائشة : ابلغي زيدًا أن جهاده بطل . الحديث .
/وأما قوله : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } [ الحجرات : 2 ] ، وحديث صلاة العصر ففي ذلك نزاع . وقال تعالى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 33 ] قال الحسن : بالمعاصي والكبائر، وعن عطاء : بالشرك والنفاق، وعن ابن السائب : بالرياء والسمعة، وعن مقاتل : بالمن . وذلك أن قومًا منوا بإسلامهم، فما ذكر عن الحسن يدل على أن المعاصي والكبائر تحبط الأعمال .
فإن قيل : لم يرد إلا إبطالها بالكفر .
قيل : ذلك منهي عنه في نفسه، وموجب للخلود الدائم، فالنهي عنه لا يعبر عنه بهذا، بل يذكره على وجه التغليظ . كقوله : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] ونحوها . واللّه سبحانه في هذه وفي آية المن سماها إبطالا، ولم يسمه إحباطًا؛ ولهذا ذكر بعدها الكفر بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الآية [ محمد : 34 ] .
فإن قيل : المراد إذا دخلتم فيها فأتموها، وبها احتج من قال : يلزم التطوع بالشروع فيه .
قيل : لو قدر أن الآية تدل على أنه منهي عن إبطال بعض العمل، فإبطاله كله أولى، بدخوله فيها فكيف وذلك قبل فراغه لا يسمى صلاة ولا صومًا ؟ !(185/29)
ثم يقال : الإبطال يوجد قبل الفراغ أو بعده، وما ذكروه أمر بالإتمام، والإبطال هو إبطال الثواب، ولا نسلم أن من لم يتم العبادة يبطل جميع ثوابه، بل يقال : إنه يثاب على ما فعل من ذلك . وفي الصحيح حديث المفلس ( الذي يأتي بحسنات أمثال الجبال ) .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=209 - TOP#TOPسُئِلَ شَيْخ الإِسْلام ـ قدس الله روحه ـ عن رجل تفقه وعلم ما أمر اللّه به وما نهى عنه، ثم تزهد وترك الدنيا والمال والأهل والأولاد خائفًا من كسب الحرام والشبهات، وبعث الآخرة وطلب رضا اللّه ورسوله، وساح في أرض اللّه والبلدان، فهل يجوز له أن يقطع الرحم ويسيح كما ذكر أم لا ؟
فأجاب :
الحمد للّه وحده، الزهد المشروع هو ترك كل شيء لا ينفع في الدار الآخرة، وثقة القلب بما عند اللّه، كما في الحديث الذي في الترمذي ( ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد اللّه أوثق بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك ) لأن اللّه تعالى يقول : { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] . فهذا صفة القلب .
/وأما في الظاهر، فترك الفضول التي لا يستعان بها على طاعة اللّه من مطعم وملبس ومال وغير ذلك، كما قال الإمام أحمد : إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام قلائل .(185/30)
وجماع ذلك خلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول : ( خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) . وكان عادته في المطعم أنه لا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، ويلبس من اللباس ما تيسر من قطن وصوف وغير ذلك، وكان القطن أحب إليه، وكان إذا بلغه أن بعض أصحابه يريد أن يعتدي فيزيد في الزهد، أو العبادة على المشروع، ويقول : أينا مثل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ ! يغضب لذلك، ويقول : ( واللّه إني لأخشاكم للّه، وأعلمكم بحدود اللّه تعالى ) وبلغه أن بعض أصحابه قال : أما أنا فأصوم فلا أفطر، وقال الآخر : أما أنا فأقوم فلا أنام، وقال آخر : أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر : أما أنا فلا آكل اللحم، فقال صلى الله عليه وسلم : ( لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
فأما الإعراض عن الأهل والأولاد فليس مما يحبه اللّه ورسوله، ولا هو من دين الأنبياء؛ بل قد قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } [ الرعد : 38 ] والإنفاق على العيال والكسب لهم يكون واجبًا تارة ومستحبًا أخرى، فكيف يكون ترك الواجب أو المستحب من الدين .
وكذلك السياحة في البلاد لغير مقصود مشروع، كما يعانيه بعض النساك أمر منهي عنه، قال الإمام أحمد : ليست السياحة من الإسلام في شىء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين .(185/31)
وأما السياحة المذكورة في القرآن من قوله : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ } [ التوبة : 112 ] ومن قوله : { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } [ التحريم : 5 ] فليس المراد بها هذه السياحة المبتدعة؛ فإن اللّه قد وصف النساء اللاتي يتزوجهن رسوله بذلك، والمرأة المزوجة لا يشرع لها أن تسافر في البراري سائحة، بل المراد بالسياحة شيئان :
أحدهما : الصيام . كما روى عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيرمن الناس، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل / ملك حمى، ألا وإن حمى اللّه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب ) . متفق عليه .
لكن إذا ترك الإنسان الحرام، أو الشبهة، بترك واجب أو مستحب، وكان الإثم أو النقص الذي عليه في الترك أعظم من الإثم الذي عليه في الفعل لم يشرع ذلك، كما ذكر أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي، عن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عمن ترك ما لا شبهة فيه وعليه دين ؟ فسأله ولده أترك هذا المال الذي فيه شبهة فلا أقضيه ؟ فقال له : أتدع . . . [ بياض بالأصل ] .
سُئِلَ شَيْخُ الإسلام أَبُو الْعَبَّاس أحمد بن تيمية ـ رحمه اللّه ـ عن
قوله تعالى : { حَقُّ الْيَقِينِ } [ الواقعة : 95 ] و { عَيْنَ الْيَقِينِ } [ التكاثر : 7 ] و { عِلْمَ الْيَقِينِ } [ التكاثر : 5 ] فما معنى كل مقام منها ؟ وأي مقام أعلى ؟ .
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، للناس في هذه الأسماء مقالات معروفة .(185/32)
منها : أن يقال : { عِلْمَ الْيَقِينِِ } ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنظر، و { عَيْنَ الْيَقِينِ } ما شاهده وعاينه بالبصر، و { حَقُّ الْيَقِينِ } ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار .
فالأول : مثل من أخبر أن هناك عسلًا، وصدق المخبر . أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده .
والثاني : مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه، وهذا أعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس المخبر كالمعاين ) .
/والثالث : مثل من ذاق العسل، ووجد طعمه وحلاوته، ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله؛ ولهذا يشير أهل المعرفة إلى ما عندهم من الذوق والوجد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقي في النار ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( ذاق طعم الإيمان : من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا ) فالناس فيما يجده أهل الإيمان ويذوقونه من حلاوة الإيمان وطعمه على ثلاث درجات :
الأولى : من علم ذلك مثل من يخبره به شيخ له يصدقه، أو يبلغه ما أخبر به العارفون عن أنفسهم، أو يجد من آثار أحوالهم ما يدل على ذلك .
والثانية : من شاهد ذلك وعاينه، مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم وأذواقهم، وإن كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه، ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر، والمستدل بآثارهم .
والثالثة : أن يحصل له من الذوق والوجد في نفسه ما كان / سمعه، كما قال بعض الشيوخ : لقد كنت في حال أقول فيها : إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب . وقال آخر : إنه ليمر على القلب أوقات يرقص منها طربًا . وقال الآخر : لأهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم .(185/33)
والناس فيما أخبروا به من أمر الآخرة على ثلاث درجات :
إحداها : العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل، وما قام من الأدلة على وجود ذلك .
الثانية : إذا عاينوا ما وعدوا به من الثواب والعقاب والجنة والنار .
والثالثة : إذا باشروا ذلك؛ فدخل أهل الجنة الجنة، وذاقوا ما كانوا يوعدون، ودخل أهل النار النار، وذاقوا ما كانوا يوعدون، فالناس فيما يوجد في القلوب، وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلاث .
وكذلك في أمور الدنيا : فإن من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به، فإن شاهده ولم يذقه كان له معاينة له، فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به، ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته، فإن / العبارة إنما تفيد التمثيل والتقريب . وأما معرفة الحقيقة فلا تحصل بمجرد العبارة، إلا لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه، وعرفه وخبره؛ ولهذا يسمون أهل المعرفة؛ لأنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر، وفي الحديث الصحيح : ( أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب فيما سأله عنه من أمور النبي صلى الله عليه وسلم قال : فهل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ قال : لا، قال : وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلب لا يسخطه أحد ) .(185/34)
فالإيمان إذا باشر القلب وخالطته بشاشته لا يسخطه القلب، بل يحبه ويرضاه، فإن له من الحلاوة في القلب واللذة والسرور والبهجة ما لا يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه، والناس متفاوتون في ذوقه والفرح والسرور الذي في القلب له من البشاشة ما هو بحسبه، وإذا خالطت القلب لم يسخطه، قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنْ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ } [ الرعد : 36 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] فأخبرـ سبحانه ـ أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن، والاستبشار هو الفرح والسرور؛ وذلك لما يجدونه في قلوبهم من الحلاوة واللذة والبهجة بما أنزل اللّه . javascript:openquran(1,1,1)
/واللذة أبدا تتبع المحبة فمن أحب شيئًا ونال ما أحبه وجد اللّذة به؛ فالذوق هو إدراك المحبوب، اللذة الظاهرة كالأكل مثلًا : حال الإنسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه، ثم يذوقه ويتناوله فيجد حينئذ لذته وحلاوته، وكذلك النكاح وأمثال ذلك .(185/35)
وليس للخلق محبة أعظم ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا اللّه تعالى، وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما يحب لأجل اللّه، ويطاع لأجل اللّه، ويتبع لأجل اللّه . كما قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، وفي الحديث : ( أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب اللّه، وأحبوا أهل بيتي لحبي ) ، وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } إلى قوله : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) وفي حديث الترمذي وغيره : ( من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه، فقد استكمل الإيمان ) وقال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، فالذين آمنوا أشد حبًا للّه، من كل محب لمحبوبه، وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع متعددة .
/والمقصود هنا أن أهل الإيمان يجدون بسبب محبتهم للّه ولرسوله من حلاوة الإيمان ما يناسب هذه المحبة، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه بالمحبة فقال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للّه، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) .
ومن ذلك ما يجدونه من ثمرة التوحيد والإخلاص، والتوكل والدعاء للّه وحده، فإن الناس في هذا الباب على ثلاث درجات :(185/36)
منهم : من علم ذلك سماعًا واستدلالًا .
ومنهم : من شاهد وعاين ما يحصل لهم .
ومنهم : من وجد حقيقة الإخلاص والتوكل على اللّه، والالتجاء إليه، والاستعانة به، وقطع التعلق بما سواه، وجرب من نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم، وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة، فإنه يخذل من جهتهم، ولا يحصل مقصوده، بل قد يبذل لهم من الخدمة والأموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم، فلا ينفعونه : إما لعجزهم، وإما لانصراف قلوبهم عنه، وإذا / توجه إلى اللّه بصدق الافتقار إليه، واستغاث به مخلصًا له الدين، أجاب دعاءه؛ وأزال ضرره، وفتح له أبواب الرحمة . فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء للّه، ما لم يذق غيره . وكذلك من ذاق طعم إخلاص الدين للّه وإرادة وجهه دون ما سواه؛ يجد من الأحوال والنتائج والفوائد مالا يجده من لم يكن كذلك .
بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو؛ وتعلقه بالصور الجميلة، أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم والغموم والأحزان والآلام وضيق الصدر ما لا يعبر عنه، وربما لا يطاوعه قلبه على ترك الهوى، ولا يحصل له ما يسره، بل هو في خوف وحزن دائمًا، إن كان طالبًا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل . فإذا أدركه كان خائفًا من زواله وفراقه .
وأولياء اللّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإذا ذاق هذا أو غيره حلاوة الإخلاص للّه، والعبادة له، وحلاوة ذكره ومناجاته، وفهم كتابه، وأسلم وجهه للّه وهو محسن بحيث يكون عمله صالحًا، ويكون لوجه اللّه خالصًا، فإنه يجد من السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا . أو اندفع عنه ما يضره، فإن حلاوة ذلك هي بحسب ما حصل له من / المنفعة، أو اندفع عنه من المضرة، ولا أنفع للقلب من التوحيد وإخلاص الدين للّه، ولا أضر عليه من الإشراك .(185/37)
فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي حقيقة { إيَّاكَ نَعْبُدُ } مع حقيقة التوكل التي هي حقيقة { إيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، كان هذا فوق ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا . واللّه أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=210 - TOP#TOPسؤال أبى القاسم المغربى يتفضل الشيخ الإمام بقية السلف، وقدوة الخلف، أعلم من لقيت ببلاد المشرق والمغرب، تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية، بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار، واللّه تعالى يحفظه . والسلام الكريم عليه ورحمة اللّه وبركاته .
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، أما الوصية : فما أعلم وصية أنفع من وصية اللّه ورسوله لمن عقلها / واتبعها، قال تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ } [ النساء : 131 ] .
ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا لما بعثه إلى اليمن فقال : ( يامعاذ، اتق اللّه حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ) .
وكان معاذ ـ رضي اللّه عنه ـ من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة علية؛ فإنه قال له : ( يامعاذ، واللّه، إني لأحبك ) وكان يردفه وراءه . وروى فيه : ( أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام ) ( وأنه يحشر إمام العلماء برتوة ـ أي بخطوة ) . ومن فضله أنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مبلغًا عنه داعيًا ومفقهًا ومفتيًا وحاكمًا إلى أهل اليمن .
وكان يشبهه بإبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ وإبراهيم إمام الناس . وكان ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ يقول : إن معاذًا كان أمة قانتًا للّه حنيفًا ولم يك من المشركين؛ تشبيهًا له بإبراهيم .(185/38)
ثم إنه صلى الله عليه وسلم وصاه هذه الوصية، فعلم أنها جامعة وهي كذلك لمن عقلها، مع أنها تفسير الوصية القرآنية .
أما بيان جمعها؛ فلأن العبد عليه حقان :
/حق للّه عز وجل، وحق لعباده . ثم الحق الذي عليه لابد أن يخل ببعضه أحيانًا : إما بترك مأمور به، أو فعل منهي عنه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اتق اللّه حيثما كنت ) وهذه كلمة جامعة، وفي قوله : ( حيثما كنت ) تحقيق لحاجته إلى التقوى في السر والعلانية . ثم قال : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) فإن الطبيب متى تناول المريض شيئًا مضرًا أمره بما يصلحه . والذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات . وإنما قدم في لفظ الحديث ( السيئة ) وإن كانت مفعولة، لأن المقصود هنا محوها لا فعل الحسنة، فصار كقوله في بول الأعرابي : ( صبوا عليه ذنوبًا من ماء ) .
وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات، فإنه أبلغ في المحو والذنوب يزول موجبها بأشياء :
أحدها : التوبة .
والثاني : الاستغفار من غير توبة . فإن اللّه تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب، فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال .
الثالث : الأعمال الصالحة المكفرة : إما الكفارات المقدرة، / كما يكفر المجامع في رمضان والمظاهر والمرتكب لبعض محظورات الحج أو تارك بعض واجباته، أو قاتل الصيد بالكفارات المقدرة، وهي أربعة أجناس : هدى وعتق وصدقة وصيام .
وإما الكفارات المطلقة، كما قال حذيفة لعمر : فتنة الرجل في أهله وماله وولده، يكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وقد دل على ذلك القرآن والأحاديث الصحاح في التكفير بالصلوات الخمس، والجمعة والصيام، والحج وسائر الأعمال التي يقال فيها : من قال كذا وعمل كذا غفر له، أو غفر له ما تقدم من ذنبه، وهي كثيرة لمن تلقاها من السنن خصوصًا ما صنف في فضائل الأعمال .(185/39)
واعلم أن العناية بهذا من أشد ما بالإنسان الحاجة إليه؛ فإن الإنسان من حين يبلغ؛ خصوصًا في هذه الأزمنة ونحوها من أزمنة الفترات التي تشبه الجاهلية من بعض الوجوه، فإن الإنسان الذي ينشأ بين أهل علم ودين قد يتلطخ من أمور الجاهلية بعدة أشياء، فكيف بغير هذا ؟ ! .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد ـ رضي اللّه عنه ـ : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة / حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) . قالوا : يا رسول اللّه، اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) هذا خبر تصديقه في قوله تعالى : { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [ التوبة : 69 ] ، ولهذا شواهد في الصحاح والحسان .
وهذا أمر قد يسري في المنتسبين إلى الدين من الخاصة، كما قال غير واحد من السلف منهم ابن عيينة، فإن كثيرًا من أحوال اليهود قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى العلم، وكثيرًا من أحوال النصارى قد ابتلى به بعض المنتسبين إلى الدين، كما يبصر ذلك من فهم دين الإسلام الذي بعث اللّه به محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم نزله على أحوال الناس .
وإذا كان الأمر كذلك فمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه، وكان ميتًا فأحياه اللّه وجعل له نورًا يمشي به في الناس، لابد أن يلاحظ أحوال الجاهلية وطريق الأمتين المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، فيرى أن قد ابتلى ببعض ذلك .
فأنفع ما للخاصة والعامة العلم بما يخلص النفوس من هذه الورطات وهو اتباع السيئات الحسنات . والحسنات ما ندب اللّه إليه على لسان خاتم النبيين من الأعمال والأخلاق والصفات .
/ومما يزيل موجب الذنوب المصائب المكفرة، وهي كل ما يؤلم من هم أو حزن أو أذى في مال أو عرض أو جسد أو غير ذلك، لكن ليس هذا من فعل العبد .(185/40)
فلما قضى بهاتين الكلمتين حق اللّه : من عمل الصالح، وإصلاح الفاسد قال : ( وخالق الناس بخلق حسن ) وهو حق الناس .
وجماع الخلق الحسن مع الناس : أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له والاستغفار والثناء عليه، والزيارة له وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض . وبعض هذا واجب، وبعضه مستحب .
وأما الخلق العظيم الذي وصف اللّه به محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهو الدين الجامع لجميع ما أمر اللّه به مطلقًا، هكذا قال مجاهد وغيره، وهو تأويل القرآن، كما قالت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ : ( كان خلقه القرآن ) وحقيقته المبادرة إلى امتثال ما يحبه اللّه تعالى بطيب نفس وانشراح صدر .
وأما بيان أن هذا كله في وصية اللّه، فهو : أن اسم تقوى اللّه يجمع فعل كل ما أمر اللّه به إيجابًا واستحبابًا، وما نهى عنه تحريمًا / وتنزيهًا، وهذا يجمع حقوق اللّه وحقوق العباد . لكن لما كان تارة يعني بالتقوى خشية العذاب المقتضية للانكفاف عن المحارم، جاء مفسرًا في حديث معاذ، وكذلك في حديث أبي هريرة ـ رضي اللّه عنهما ـ الذي رواه الترمذي وصححه : قيل : يارسول اللّه ! ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قال : ( تقوى اللّه وحسن الخلق ) . قيل : وما أكثر ما يدخل الناس النار ؟ قال : ( الأجوفان : الفم والفرج ) .
وفي الصحيح عن عبد اللّه بن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقا ) فجعل كمال الإيمان في كمال حسن الخلق . ومعلوم أن الإيمان كله تقوى اللّه .(185/41)
وتفصيل أصول التقوى وفروعها لايحتمله هذا الموضع؛ فإنها الدين كله، لكن ينبوع الخير وأصله : إخلاص العبد لربه عبادة واستعانة، كما في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وفي قوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وفي قوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] ، وفي قوله : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت : 17 ] ، بحيث يقطع العبد تعلق قلبه من المخلوقين انتفاعًا بهم أو عملًا لأجلهم، ويجعل همته ربه تعالى، وذلك بملازمة الدعاء له في كل مطلوب من فاقة وحاجة ومخافة وغير ذلك، / والعمل له بكل محبوب . ومن أحكم هذا فلا يمكن أن يوصف ما يعقبه ذلك .
وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه وما يناسب أوقاتهم، فلا يمكن فيه جواب جامع مفصل لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء باللّه وأمره : إن ملازمة ذكر اللّه دائما هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة، وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم : ( سبق المفردون ) ، قالوا : يارسول اللّه، ومن المفردون ؟ قال : ( الذاكرون اللّه كثيرًا والذاكرات ) ، وفيما رواه أبو داود عن أبي الدرداء ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ ) قالوا : بلى يارسول اللّه ! قال : ( ذكر اللّه ) .
والدلائل القرآنية والإيمانية بصرًا وخبرًا ونظرًا على ذلك كثيرة .(185/42)
وأقل ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير وإمام المتقين صلى الله عليه وسلم، كالأذكار المؤقتة في أول النهار وآخره، / وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات، والأذكار المقيدة مثل مايقال عند الأكل والشرب واللباس والجماع، ودخول المنزل والمسجد والخلاء والخروج من ذلك، وعند المطر والرعد إلى غير ذلك، وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة .
ثم ملازمة الذكر مطلقًا وأفضله [ لا إله إلا اللّه ] . وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل : ( سبحان اللّه والحمد للّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلا باللّه ) أفضل منه .
ثم يعلم أن كل ما تكلم به اللسان وتصوره القلب مما يقرب إلى اللّه، من تعلم علم وتعليمه، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، فهو من ذكر اللهّّ . ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلسًا يتفقه أو يفقه فيه الفقه الذي سماه اللّه ورسوله فقها، فهذا أيضًا من أفضل ذكر اللّه . وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف .
وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالاستخارة المشروعة، فما ندم من استخار اللّه تعالى، وليكثر من ذلك ومن الدعاء، فإنه مفتاح كل خير، ولا يعجل فيقول : قد دعوت فلم يستجب لي، وليتحر الأوقات / الفاضلة، كآخر الليل، وأدبار الصلوات، وعند الأذان، ووقت نزول المطر، ونحو ذلك .
وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على اللّه، والثقة بكفايته، وحسن الظن به . وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلى اللّه ويدعوه، كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه : ( كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . ياعبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ) وفيما رواه الترمذي عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر ) .(185/43)
وقد قال اللّه تعالى في كتابه : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } [ النساء : 32 ] ، وقال سبحانه : { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات . ولهذا ـ واللّه أعلم ـ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدخل المسجد أن يقول : ( اللهم افتح لي أبواب رحمتك ) وإذا خرج أن يقول : ( اللّهم إني أسألك من فضلك ) وقد قال الخليل صلى الله عليه وسلم : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت : 17 ] وهذا أمر، والأمر يقتضي الإيجاب فالاستعانة باللّه واللجأ إليه في أمر الرزق وغيره أصل عظيم .
/ثم ينبغى له أن يأخذ المال بسخاوة نفس ليبارك له فيه، ولا يأخذه بإشراف وهلع؛ بل يكون المال عنده بمنزلة الخلاء الذي يحتاج إليه من غير أن يكون له في القلب مكانة، والسعي فيه إذا سعى كإصلاح الخلاء . وفي الحديث المرفوع الذي رواه الترمذي وغيره : ( من أصبح والدنيا أكبر همه، شتت اللّه عليه شمله، وفرق عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له . ومن أصبح والآخرة أكبر همه، جمع اللّه عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة ) .
وقال بعض السلف : أنت محتاج إلى الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر على نصيبك من الدنيا فانتظمه انتظامًا، قال اللّه تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 56-58 ] .(185/44)
فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك، فهذا يختلف باختلاف الناس، ولا أعلم في ذلك شيئًا عامًا، لكن إذا عن للإنسان جهة فليستخر اللّه تعالى فيها الاستخارة المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من البركة مالا يحاط به . ثم ما تيسر له فلا يتكلف غيره إلا أن يكون منه كراهة شرعية .
/وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم، فهذا باب واسع، وهو أيضًا يختلف باختلاف نشء الإنسان في البلاد، فقد يتيسر له في بعض البلاد من العلم أو من طريقه ومذهبه فيه مالا يتيسر له في بلد آخر، لكن جماع الخير أن يستعين باللّه ـ سبحانه ـ في تلقي العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي يستحق أن يسمى علمًا، وما سواه إما أن يكون علمًا فلا يكون نافعًا، وإما أن لا يكون علمًا، وإن سمى به، ولئن كان علمًا نافعًا فلا بد أن يكون في ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ما يغني عنه مما هو مثله وخير منه . ولتكن همته فهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه . فإذا اطمأن قلبه أن هذا هو مراد الرسول فلا يعدل عنه فيما بينه وبين اللّه تعالى ولامع الناس، إذا أمكنه ذلك .
وليجتهد أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم . وإذا اشتبه عليه مما قد اختلف فيه الناس فليدع بمارواه مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام يصلي من الليل : ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) فإن اللّه تعالى / قد قال فيما رواه عنه رسوله : ( ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ) .(185/45)
وأما وصف [ الكتب والمصنفين ] ، فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره اللّه سبحانه، وما في الكتب المصنفة المبوبة كتاب أنفع من [ صحيح محمد بن إسماعيل البخاري ] لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم . ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لابد من معرفة أحاديث أخر، وكلام أهل الفقه وأهل العلم في الأمور التي يختص بعلمها بعض العلماء . وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعابًا، فمن نور اللّه قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي لبيد الأنصاري : ( أو ليست التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ؟ فماذا تغني عنهم ؟ ) .
فنسأل اللّه العظيم أن يرزقنا الهدى والسداد، ويلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد للّه رب العالمين، وصلواته على أشرف المرسلين .
وَسُئل الشَّيخُ الإمَامُ، العَالِمُ العَامل الحبر الكامل، شيخ الإسلام ومفتي الأنام تقي الدين ابن تيمية ـ أيده اللّه وزاده من فضله العظيم ـ عن ( الصبرالجميل ) و ( الصفح الجميل ) و ( الهجر الجميل ) وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس ؟
فأجاب ـ رحمه اللّه :(185/46)
الحمد للّه، أما بعد : فإن اللّه أمر نبيه بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، فالهجر الجميل : هجر بلا أذى، والصفح الجميل : صفح بلا عتاب، والصبر الجميل : صبر بلا شكوى قال يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [ يوسف : 86 ] مع قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] فالشكوى إلى اللّه لا تنافي الصبر الجميل، ويروي عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه كان يقول : ( اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك / المستغاث وعليك التكلان ) ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللّهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، اللّهم إلي من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبي حتى ترضى ) .
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقرأ في صلاة الفجر : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } [ يوسف : 86 ] ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف؛ بخلاف الشكوي إلى المخلوق . قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووسًا كره أنين المريض، وقال : إنه شكوى . فما أن حتى مات . وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال، إما إزالة ما يضره أو حصول ما ينفعه والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [ الشرح : 7، 8 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس : ( إذا سألت فاسأل اللّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه ) .(185/47)
ولابد للإنسان من شيئين : طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور . فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر . قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلى قوله : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ، وقال تعالى : { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 118-125 ] ، وقال تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] وقد قال يوسف : { أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .(185/48)
ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشائخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين : المسارعة إلى فعل المأمور، والتقاعد عن فعل المحظور، والصبر والرضا بالأمر المقدور، وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة؛ بل ومن السالكين، فمنهم من يشهد القدر فقط ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية فيرى أن اللّه خالق كل شيء وربه، ولا يفرق بين ما يحبه اللّه ويرضاه، وبين ما يسخطه ويبغضه، وإن قدره وقضاه ولا يميز بين توحيد الألوهية، وبين توحيد الربوبية فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات ـ سعيدها وشقيها ـ مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر والنبي الصادق والمتنبئ الكاذب، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء اللّه وأعداؤه، والملائكة المقربون والمردة الشياطين .
/فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع وهذه الحقيقة الكونية، وهو أن اللّه ربهم وخالقهم ومليكهم لا رب لهم غيره . ولا يشهد الفرق الذي فرق اللّه به بين أوليائه وأعدائه . وبين المؤمنين والكافرين، والأبرار والفجار، وأهل الجنة والنار وهو توحيد الألوهية، وهو عبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، وفعل ما يحبه ويرضاه، وهو ما أمر اللّه به ورسوله أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وترك ما نهى اللّه عنه ورسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان، فمن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء، ويكون مع أهل الحقيقة الدينية وإلا فهو من جنس المشركين، وهو شر من اليهود والنصارى .(185/49)
فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية . إذ هم يقرون بأن اللّه رب كل شيء كما قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84-89 ]
ولهذا قال سبحانه : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] قال بعض السلف : تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون اللّه وهم مع هذا يعبدون غيره .
فمن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاؤوا بالأمر والنهي الشرعيين لكن آمنوا ببعض وكفروا ببعض . كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا . أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا } [ النساء : 150، 151 ] .(185/50)
وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية، وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ويسلك هذه الحقيقة، فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر اللّه الذي بعث به رسله، وبين من عصى اللّه ورسوله من الكفار والفجار، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى . لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر أو يفرق بين بعض الأبرار، وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين اللّه تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه .
/ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر كان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس .
ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا، فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ـ سبحانه ـ وخاصمه كما نقل ذلك عنه .
فهذا التقسيم في القول والاعتقاد .
وكذلك هم في الأحوال والأفعال . فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي اللّه فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على مايصيبه من المقدور، فهو عند الأمر والنهي والدين والشريعة ويستعين باللّه على ذلك . كما قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .(185/51)
وإذا أذنب استغفر وتاب : لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات، بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) ، فيقر بنعمة / اللّه عليه في الحسنات، ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها، كما قال بعضهم : أطعتك بفضلك، والمنة لك وعصيتك بعلمك، والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي، إلا غفرت لي . وفي الحديث الصحيح الإلهي : ( ياعبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غيرذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع .
وآخرون قد يشهدون الأمر فقط : فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة؛ لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر . وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر، ماليس عند أولئك؛ لكنهم لا يلتزمون أمر اللّه ورسوله واتباع شريعته، وملازمة ماجاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون اللّه ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه؛ والمؤمن يعبده ويستعينه .
والقسم الرابع شر الأقسام، وهو من لا يعبده ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية؛ ولا مع القدر الكوني . وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو/ذلك؛ وما يكون بعده من صبر ورضا ونحوذلك، فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام .
أحدها : أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم اللّه عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة .(185/52)
والثاني : الذين لهم نوع من التقوى بلاصبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه، أو ابتلى بعدو يخيفه عظم جزعه، وظهر هلعه .
والثالث : قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون علي مايصيبهم في مثل أهوائهم، كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها . وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام . وهؤلاء هم الذين يريدون علوًا في الأرض / أو فسادًا من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان، والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب : كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر .(185/53)
وأما القسم الرابع، فهو شر الأقسام : لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19-21 ] فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا . إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك، وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبًا . وأقلهم رحمة وإحسانًا وعفوًا، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد : مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم . وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم، فالاعتبار بالحقائق : ( فإن اللّه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) .
/فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهًا لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو مايظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية، وأبعد عن الأخلاق الإسلامية، من التتار .(185/54)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته : ( خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ) ، وإذا كان خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه به أضعف، كان عن الكمال أبعد، وبالباطل أحق . والكامل هو من كان للّه أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر اللّه به ورسوله وأعظم موافقة للّه فيما يحبه ويرضاه، وصبرًا على ماقدره وقضاه، كان أكمل وأفضل . وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك .(185/55)
وقد ذكر اللّه ـ تعالى ـ الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين، وعلى من ظلمه من المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة، / قال الله تعالى : { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] ، وقال اللّه تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . هَاأَنْتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الْأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [ آل عمران : 118-120 ] ، وقال إخوة يوسف له : { أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ](185/56)
.
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يونس : 109 ] .
وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها تصديقًا لخبر اللّه وطاعة لأمره وقال تعالى : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ . وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114، 115 ] ، وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] ، وقال تعالى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ } [ طه : 130 ] ، وقال تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] ، وقال تعالى : { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر .(185/57)
وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] . وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها؛ فإن القسمة أيضًا رباعية، إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء، ومن يشبههن، ومنهم من لايصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع . والمحمود هو الذي يصبر ويرحم، كما قال الفقهاء في المتولي : ينبغي أن يكون قويًا من غير عنف، لينا من غير ضعف فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصر العبد؛ فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه اللّه تعالى . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما يرحم اللّه من عباده الرحماء ) ، وقال : ( من لا يرحم لا يرحم ) ، وقال : ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي ) ، وقال : ( الراحمون يرحمهم الرحمن، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) . واللّه أعلم . انتهى .
وَسُئلَ شَيْخُ الإسلام ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عما ذكر الأستاذ القشيري في ( باب الرضا ) عن الشيخ أبي سليمان أنه قال : الرضا ألاّ يسأل اللّه الجنة، ولا يستعيذ من النار، فهل هذا الكلام صحيح ؟
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، الكلام على هذا القول من وجهين :
أحدهما : من جهة ثبوته عن الشيخ .
والثاني : من جهة صحته في نفسه وفساده .(185/58)
أما المقام الأول : فينبغي أن يعلم أن الأستاذ أبا القاسم لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان بإسناد، وإنما ذكره مرسلًا عنه، وما يذكره أبو القاسم في رسالته عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والمشائخ وغيرهم، تارة يذكره بإسناد، وتارة يذكره مرسلًا، وكثيرًا ما يقول : وقيل كذا ثم الذي يذكره بإسناد تارة يكون إسناده / صحيحًا، وتارة يكون ضعيفًا، بل موضوعًا . وما يذكره مرسلًا، ومحذوف القائل أولى، وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء، فإن فيها من الأحاديث والآثار ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما هو موضوع .
فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الآثار المنقولة، فيها الصحيح، وفيها الضعيف، وفيها الموضوع . وهذا الأمر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون أن هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا، بل نفس الكتب المصنفة في [ التفسير ] فيها هذا وهذا، مع أن أهل الحديث أقرب إلى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم ؟ !
والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه أو التصوف أو الحديث، ويروون هذا تارة؛ لأنهم لم يعلموا أنه كذب، وهو الغالب على أهل الدين، فإنهم لا يحتجون بما يعلمون أنه كذب، وتارة يذكرونه وإن علموا أنه كذب؛ إذ قصدهم رواية ما روي في ذلك الباب، ورواية
الأحاديث المكذوبة مع بيان كونها كذبًا جائز . وأما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل فإنه حرام عند العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) ـ . وقد فعل كثير من العلماء / متأولين أنهم لم يكذبوا، وإنما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل إذ رووه لتعريف أنه روى؛ لا لأجل العمل به ولا الاعتماد عليه .(185/59)
والمقصود هنا أن ما يوجد في الرسالة وأمثالها : من كتب الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من المنقولات عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من السلف فيه الصحيح والضعيف والموضوع . فالصحيح : الذي قامت الدلالة على صدقه، والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه، والضعيف الذي رواه من لم يعلم صدقه، إما لسوء حفظه وإما لاتهامه، ولكن يمكن أن يكون صادقًا فيه؛ فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ .
وغالب أبواب الرسالة فيها الأقسام الثلاثة . ومن ذلك : باب الرضا، فإنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ذاق طعم الإيمان من رضي باللّه ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ) . وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وإن كان الأستاذ لم يذكر أن مسلمًا رواه لكنه رواه، بإسناد صحيح .
وذكر في أول هذا الباب حديثًا ضعيفًا ـ بل موضوعا ـ وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر، فهو وإن كان أول حديث ذكره في الباب / فإن أحاديث الفضل بن عيسى من أوهى الأحاديث وأسقطها، ولا نزاع بين الأئمة أنه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها؛ فإن الضعف ظاهر عليها وإن كان هو لا يتعمد الكذب، فإن كثيرًا من الفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب، وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك أئمة هذا الشأن؛ حتى قال أيوب السختياني : لو ولد أخرس لكان خيرًا له، وقال سفيان بن عيينة : لا شيء، وقال الإمام أحمد والنسائي : هو ضعيف . وقال يحيى بن معين : رجل سوء . وقال أبو حاتم وأبو زرعة : منكر الحديث .(185/60)
وكذلك ما ذكره من الآثار؛ فإنه قد ذكر آثارًا حسنة بأسانيد حسنة مثل ما رواه عن الشيخ أبي سليمان الداراني أنه قال : إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض، فإن هذا رواه عن شيخه أبي عبد الرحمن السلمي بإسناده، والشيخ أبو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشائخ وحكاياتهم، وصنف في الأسماء كتاب [ طبقات الصوفية ] وكتاب [ زهاد السلف ] وغير ذلك، وصنف في الأبواب كتاب [ مقامات الأولياء ] وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على الأقسام الثلاثة .
وذكر عن الشيخ أبي عبد الرحمن أنه قال : سمعت النصر آبادي يقول : من أراد أن يبلغ محل الرضا فيلزم ماجعل اللّه رضاه فيه، فإن هذا الكلام في غاية الحسن، فإنه من لزم مايرضى اللّه من امتثال / أوامره واجتناب نواهيه لا سيما إذا قام بواجبها ومستحبها فإن اللّه يرضى عنه، كما أن من لزم محبوبات الحق أحبه اللّه، كما قال في الحديث الصحيح الذي في البخاري : ( من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته ) الحديث . وذلك أن الرضا نوعان :(185/61)
أحدهما : الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه . ويتناول ما أباحه اللّه من غيرتعد إلى المحظور، كما قال : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذم من تركه بقوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 58، 59 ] .
والنوع الثاني : الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء . وليس بواجب، وقد قيل : إنه واجب، والصحيح أن الواجب هو الصبر . كما قال الحسن : الرضا غريزة، ولكن الصبر معول المؤمن . وقد روى في حديث ابن عباس / أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا ) .(185/62)
وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان : فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فإن اللّه لا يرضاه كما قال : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] وقال : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، وقال تعالى : { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 96 ] ، وقال تعالى : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [ النساء : 93 ] ، وقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] ، وقال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ } [ التوبة : 68 ] ، وقال تعالى : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } [ المائدة : 80 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] فإذا كان اللّه ـ سبحانه ـ لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك، وهو يسخط عليهم، ويغضب عليهم، فكيف يشرع للمؤمن أن يرضى ذلك وألا يسخط ويغضب لما يسخط اللّه ويغضبه ؟ ! .
وإنما ضل هنا فريقان من الناس :(185/63)
قوم : من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في مناظرة القدرية ظنوا أن محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى إرادته، وقد / علموا أنه مريد لجميع الكائنات خلافًا للقدرية . وقالوا : هو أيضا محب لها مريد لها، ثم أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقالوا : لا يحب الفساد، بمعنى لا يريد الفساد : أي لا يريده للمؤمنين، ولا يرضى لعباده الكفر : أي لا يريده لعباده المؤمنين . وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال : لا يحب الإيمان ولا يرضى لعباده الإيمان : أي لا يريده للكافرين، ولا يرضاه للكافرين، وقد اتفق أهل الإسلام على أن ما أمر اللّه به فإنه يكون مستحبًا يحبه . ثم قد يكون مع ذلك واجبًا، وقد يكون مستحبًا ليس بواجب سواء فعل أو لم يفعل . والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والفريق الثاني : من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين : فشهدوا أن اللّه رب الكائنات جميعها، وعلموا أنه قدر على كل شيء وشاءه، وظنوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى قال بعضهم : المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب . قالوا : والكون كله مراد المحبوب . وضل هؤلاء ضلالًا عظيمًا، حيث لم يفرقوا بين الإرادة الدينية والكونية، والإذن الكوني والديني، والأمر الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني . كما بسطناه في غير هذا الموضع .(185/64)
/وهؤلاء يؤول الأمر بهم إلى ألا يفرقوا بين المأمور والمحظور وأولياء اللّه وأعدائه، والأنبياء والمتقين . ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، ويجعلون المتقين كالفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويعطلون الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والشرائع وربما سموا هذا : حقيقة، ولعمري إنه حقيقة كونية، لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الأصنام، كما قال : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الآيات [ المؤمنون : 84، 85 ] .
فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرين بأن اللّه خالق كل شيء وربه ومليكه، فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعباد الأصنام .
والمؤمن إنما فارق الكفر بالإيمان باللّه وبرسله، وبتصديقهم فيما أخبروا، وطاعتهم فيما أمروا، واتباع ما يرضاه اللّه، ويحبه دون ما يقدر ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، ولكن يرضى بما أصابه من المصائب، لا بما فعله من المعائب . فهو من الذنوب يستغفر . وعلى المصائب يصبر، فهو كما قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب . كما / قال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال يوسف : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .(185/65)
والمقصود هنا : أن ما ذكره القشيري عن النصر آبادي من أحسن الكلام حيث قال : من أراد أن يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل اللّه رضاه فيه، وكذلك قول الشيخ أبي سليمان : إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض؛ وذلك أن العبد إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها، فإذا لم يحصل سخط، فإذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم اللّه له من الرزق، وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي : الرضا أفضل من الزهد في الدنيا؛ لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته، كلام حسن . لكن أشك في سماع بشر الحافي من الفضيل .
وكذلك ما ذكره معلقًا قال : قال الشبلي بين يدي الجنيد : لاحول ولا قوة إلا باللّه . فقال الجنيد : قولك ذا ضيق صدر، وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء . فإن هذا من أحسن الكلام . وكان الجنيد ـ رضي اللّه عنه ـ سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا ـ وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة؛ لا كلمة استرجاع، وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها جزعًا لا صبرًا . فالجنيد / أنكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها، إذ كانت حالًا ينافى الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه .(185/66)
وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقًا . قال : وقيل : قال موسى : ( إلهي، دلني على عمل إذا عملته رضيت عني . فقال : إنك لا تطيق ذلك، فخر موسى ساجدًا متضرعًا . فأوحى اللّه إليه : يابن عمران، رضائي في رضاك عني ) ، فهذه الحكاية الإسرائيلية فيها نظر؛ فإنه قد يقال : لا يصلح أن يحكي مثلها عن موسى بن عمران . ومعلوم أن هذه الإسرائيليات ليس لها إسناد، ولا يقوم بها حجة في شيء من الدين، إلا إذا كانت منقولة لنا نقلًا صحيحًا، مثل ما ثبت عن نبينا أنه حدثنا به عن بني إسرائيل، ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه؛ فإن موسى من أعظم أولي العزم، وأكابر المسلمين؛ فكيف يقال : إنه لا يطيق أن يعمل ما يرضى اللّه به عنه ؟ ! واللّه تعالى راض عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان . أفلا يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن ؟ ! وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [ البينة : 7، 8 ] ومعلوم أن موسى بن عمران ـ عليه السلام ـ من أفضل الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
/ثم إن اللّه خص موسى بمزية فوق الرضا، حيث قال : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ طه : 39 ] . ثم إن قوله له في الخطاب : يابن عمران، مخالف لماذكره اللّه من خطابه في القرآن حيث قال : يا موسى، وذلك الخطاب فيه نوع غض منه كما يظهر . ومثل ما ذكر أنه قيل : كتب عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ إلى أبي موسى الأشعري أما بعد : فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر . فهذا الكلام كلام حسن . وإن لم يعلم إسناده .(185/67)
وإذا تبين أن فيما ذكره مسندًا ومرسلًا ومعلقًا ما هو صحيح وغيره، فهذه الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إلا مرسلة . وبمثل ذلك لا تثبت عن أبي سليمان باتفاق الناس؛ فإنه وإن قال بعض الناس : إن المرسل حجة، فهذا لم يعلم أن المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف . فأما إذا عرف ذلك فلا يبقى حجة باتفاق العلماء . كمن علم أنه تارة يحفظ الإسناد وتارة يغلط فيه .
والكتب المسندة في أخبار هؤلاء المشائخ وكلامهم مثل كتاب " حلية الأولياء " لأبي نعيم، و " طبقات الصوفية " لأبي عبد الرحمن، و [ صفوة الصفوة ] لابن الجوزي . وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ أبي سليمان . ألا ترى الذي رواه عنه مسندًا حيث قال : قال لأحمد بن أبي الحواري : يا أحمد، لقد أوتيت من الرضا / نصيبًا لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا . فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالإسناد؛ ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه أبي عبد الرحمن، بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه . فلا أصل لها عن الشيخ أبي سليمان .
ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي سليمان بكلمة أحسن منها فإنه قبل أن يرويها قال : وسئل أبو عثمان الحيري النيسابوري عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أسألك الرضا بعد القضاء ) ، فقال : لأن الرضا بعد القضاء هوالرضا . فهذا الذي قاله الشيخ أبوعثمان كلام حسن سديد . ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال : أرجو أن أكون قد عرفت طرفًا من الرضا . لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا .(185/68)
فتبين بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا . وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما يكون بعد القضاء، وإن كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ، وما أكثر انفساخ العزائم خصوصًا عزائم الصوفية؛ ولهذا قيل لبعضهم : بماذا عرفت ربك ؟ قال : بفسخ العزائم ونقض الهمم . وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشائخ : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [ آل عمران : 143 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 2-4 ] وفي الترمذي أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لو علمنا أي العمل أحب إلى اللّه لعملناه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } الآية [ النساء : 77 ] . فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه، وأين ألم الجهاد من ألم النار ؟ وعذاب اللّه الذي لا طاقة لأحد به، ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه كان يقول :
وليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فاختبرني
فأخذه العسر من ساعته : أي حصر بوله؛ فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول : ادعوا لعمكم الكذاب .(185/69)
وحكى أبو نعيم الأصبهاني عن أبي بكر الواسطي أنه قال سمنون : يارب، قد رضيت بكل ما تقضيه عليّ، فاحتبس بوله أربعة عشر يومًا، فكان يتلوى كما تتلوى الحية، يتلوى يمينًا وشمالًا، فلما / أطلق بوله، قال : ربي قد تبت إليك . قال أبو نعيم : فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدني بلوي، مع أن سمنونا هذا كان يضرب به المثل، وله في المحبة مقام مشهور، حتى روى عن إبراهيم بن فاتك أنه قال : رأيت سمنونًا يتكلم على الناس في المسجد الحرام، فجاء طائر صغير فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده، ثم لم يزل يضرب بمنقاره الأرض حتى سقط منه دم؛ ومات الطائر . وقال : رأيته يومًا يتكلم في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضًا .
وقد ذكر القشيري في ( باب الرضا ) عن رويم المقري ـ رفيق سمنون ـ حكاية تناسب هذا حيث قال : قال رويم : إن الراضي لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل اللّه أن يحولها عن يساره، فهذا يشبه قول سمنون : فكيف ما شئت فامتحني . وإذا لم يطق الصبر على عسر البول، أفيطيق أن تكون النار عن يمينه ؟
والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من هؤلاء وابتلى بعسر البول فغلبه الألم حتى قال : بحبي لك ألا فرجت عني؛ ففرج عنه .
ورويم ـ وإن كان من رفقاء الجنيد ـ فليس هو عندهم من هذه الطبقة، بل الصوفية يقولون : إنه رجع إلى الدنيا وترك التصوف؛ حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه قال : من أراد أن يستكتم سرًا / فليفعل . كما فعل رويم . كتم حب الدنيا أربعين سنة فقيل : وكيف يتصور ذلك ؟ قال : ولي إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد وكان بينهما مودة أكيدة، فجذبه إليه، وجعله وكيلًا على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقي وأكل الطيبات، وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حب الدنيا مالم يجدها، فلما وجدها أظهر ماكان يكتم من حبها . هذا مع أنه ـ رحمه اللّه ـ كان له من العبادات ما هو معروف وكان على مذهب داود .(185/70)
وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم أقواله وعواقبها لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلًا؛ ولكن قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة، ونحو ذلك، وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق، وما يقدر عليه من التقوى والصبر وما لا يقدر عليه من التقوى والصبر، والرسل ـ صلوات اللّه عليهم ـ أعلم بطريق سبيل اللّه وأهدى وأنصح، فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصًا مخطئًا محرومًا، وإن لم يكن عاصيًا أو فاسقًا أو كافرًا .
ويشبه هذا الأعرابي الذي دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض كالفرخ فقال : ( هل كنت تدعو اللّه بشيء، قال : كنت أقول : اللّهم ما كنت معذبني به في الآخرة فاجعله في الدنيا، فقال : سبحان اللّه لا تستطيعه ولا تطيقه، هلا قلت : ربنا آتنا في / الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار ) فهذا أيضًا حمله خوفه من عذاب النار، ومحبته لسلامة عاقبته على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا، وكان مخطئا في ذلك غالطًا، والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهده وورعه وكراماته كثير جدًا، فليس من شرط ولي اللّه أن يكون معصومًا من الخطأ والغلط؛ بل ولا من الذنوب، وأفضل أولياء اللّه بعد الرسل أبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له لما عبر الرؤيا : ( أصبت بعضًا وأخطأت بعضا ) .(185/71)
ويشبه ـ واللّه أعلم ـ أن أبا سليمان لما قال هذه الكلمة ـ : لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا ـ أن يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال : الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار . وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان، مع أنها لا تدل على رضاه بذلك، ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك، فنحن نعلم أن هذا العزم لا يستمر بل ينفسخ، وإن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها؛ وأنها مستدركة، كما استدركت دعوى سمنون ورويم وغير ذلك؛ فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقًا عظيمًا . فإن تلك الكلمة مضمونها : أن من سأل اللّه الجنة، واستعاذ من النار، لا يكون راضيًا .
وفرق بين من يقول : أنا إذا فعل كذا كنت راضيًا، وبين / من يقول : لا يكون راضيًا إلا من لا يطلب خيرًا، ولا يهرب من شر؛ وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجل من أن يقول مثل هذا الكلام، فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشائخ، وساداتهم ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه قال : إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة . فمن لا يقبل نكت قلبه إلا بشاهدين، يقول هذا مثل الكلام ؟ ! وقال الشيخ أبو سليمان أيضًا : ليس لمن ألهم شيئًا من الخير أن يفعله، حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورًا على نور؛ بل صاحبه أحمد بن أبي الحواري كان من أتبع المشائخ للسنة، فكيف أبو سليمان ؟ ! .
وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام تظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنًا من كان : الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار .(185/72)
ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها أصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب، وذلك أن قومًا كثيرًا من الناس، من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة، وغيرهم، ظنوا أن الجنة التنعم بالمخلوق من أكل وشرب ونكاح ولباس، وسماع أصوات طيبة، وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيمًا غير ذلك . ثم صاروا ضربين :
/ضرب أنكروا أن يكون المؤمنون يرون ربهم . كما ذهب إلى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم .
ومنهم من أقر بالرؤية، إما الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، وإما برؤية فسروها بزيادة كشف أو علم، أو جعلها بحاسة سادسة، ونحو ذلك
ًاالتي ذهب إليها ضرار بن عمرو وطوائف من أهل الكلام المنتسبين إلى نصر أهل السنة في مسألة الرؤية، وإن كان ما يثبتونه من جنس ما تنفيه المعتزلة والضرارية . والنزاع بينهم لفظي، ونزاعهم مع أهل السنة معنوي؛ ولهذا كان بشر وأمثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء .
والمقصود هنا أن مثبتة الرؤية منهم من أنكر أن يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه، قالوا : لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالى الجويني في [ الرسالة النظامية ] ، وكما ذكره أبو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه، ونقلوا عن ابن عقيل أنه سمع رجلا ً يقول : أسألك لذة النظر إلى وجهك . فقال : يا هذا، هب أن له وجهًا، أله وجه يتلذذ بالنظر إليه ؟ ! وذكر أبو المعالي أن اللّه يخلق لهم نعيمًا ببعض المخلوقات مقارنًا للرؤية، فأما النعيم بنفس الرؤية فأنكره، وجعل هذا من أسرار التوحيد .(185/73)
/وأكثر مثبتي الرؤية يثبتون تنعم المؤمنين برؤية ربهم، وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها، ومشائخ الطريق، كما في الحديث الذي في النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللّهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) . وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد، يا أهل الجنة، إن لكم عند اللّه موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ؟ ويثقل موازيننا ؟ ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ) .
وكلما كان الشيء أحب كانت اللذة بنيله أعظم، وهذا متفق عليه بين السلف والأئمة ومشائخ الطريق، كما روي عن الحسن البصري أنه قال : لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في / الدنيا شوقًا إليه، وكلامهم في ذلك كثير .(185/74)
ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والأئمة والمشائخ على التنعم بالنظر إلى اللّه تعالى، تنازعوا في مسألة المحبة التي هي أصل ذلك؛ فذهب طوائف من . . . والفقهاء إلى أن اللّه لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا : هو أيضًا لا يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته للإحسان إليهم وولايتهم . ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد : كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء .
وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم، أستاذ الجهم بن صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري . وقال : أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا ثم نزل فذبحه .
والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق : أن اللّه يحب ويحب . ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من / أهل الكلام : كأبي القاسم القشيري؛ وأبي حامد الغزالي، وأمثالهما . ونصر ذلك أبو حامد في ( الإحياء ) وغيره . وكذلك أبو القاسم ذكر ذلك في ( الرسالة ) على طريق الصوفية كما في كتاب أبي طالب المسمى بـ ( قوت القلوب ) وأبو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية، استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من إثبات نحو ذلك حيث قالوا : يعشق ويعشق .(185/75)
وقد بسط الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه . وقد قال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقال : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 24 ] ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان اللهّّ ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقى في النار ) .
والمقصود هنا أن هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم ـ الذين ينكرون حقيقة المحبة ـ يلزمهم أن ينكروا التلذذ بالنظر إليه؛ ولهذا ليس في الحقيقة عندهم إلا التنعم بالأكل والشرب، ونحو ذلك . وهذا القول باطل بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ومشائخها، فهذا أحد الحزبين الغالطين .
والضرب الثاني : طوائف من المتصوفة والمتفقرة والمتبتلة : / وافقوا هؤلاء على أن الجنة ليست إلا هذه الأمور التي يتنعم بها المخلوق؛ ولكن وافقوا السلف والأئمة على إثبات رؤية اللّه والتنعم بالنظر إليه، وأصابوا في ذلك وجعلوا يطلبون هذا النعيم، وتسمو إليه همتهم، ويخافون فوته، وصار أحدهم يقول : ما عبدتك شوقًا إلى جنتك، أو خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك وإجلالًا لك، وأمثال هذه الكلمات . مقصودهم بذلك : هو أعلى من الأكل والشرب والتمتع بالمخلوق، لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة . وقد يغلطون أيضًا في ظنهم أنهم يعبدون اللّه بلا حظ ولا إرادة، وإن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس، وتوهموا أن البشر يعمل بلا إرادة ولا مطلوب ولا محبوب، وهو سوء معرفة بحقيقة الإيمان والدين والآخرة .(185/76)
وسبب ذلك أن همة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تفنيه عن نفسه، حتى لا يشعر بنفسه وإرادتها، فيظن أنه يفعل لغير مراده، والذي طلب وعلق به همته غاية مراده ومطلوبه ومحبوبه، وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات يكون لأحدهم وجد صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين كلامه، فيقع في كلامه غلط وسوء أدب، مع صحة مقصوده؛ وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده .
فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام، إذا عنوا به طلب رؤية اللّه / تعالى أصابوا في ذلك، لكن أخطؤوا من جهة أنهم جعلوا ذلك خارجًا عن الجنة، فأسقطوا حرمة اسم الجنة، ولزم من ذلك أمور منكرة؛ نظير ما ذكر عن الشبلي ـ رحمه اللّه ـ أنه سمع قارئًا يقرأ : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [ آل عمران : 152 ] . فصرخ وقال : أين مريد اللّه ؟ فيحمد منه كونه أراد اللّه؛ ولكن غلط في ظنه أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا اللّه؛ وهذه الآية في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه بأحد، وهم أفضل الخلق، فإن لم يريدوا اللّه، أفيريد اللّه من هو دونهم . كالشبلي، وأمثاله ؟ !
ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشائخ أنه سأل مرة عن قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] قال : فإذا كانت الأنفس والأموال في ثمن الجنة، فالرؤية بم تنال ؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال .(185/77)
والواجب أن يعلم أن كل ما أعده اللّه للأولياء من نعيم، بالنظر إليه وما سوى ذلك، هو في الجنة، كما أن كل ما وعد به أعداءه هو في النار . وقد قال تعالى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول اللّه أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر بَلْهُ ما أطلعتهم عليه ) وإذا علم أن / جميع ذلك داخل في الجنة، فالناس في الجنة على درجات متفاوتة، كما قال : { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } [ الإسراء : 21 ] وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غيرذلك من مطالب الآخرة هو في الجنة .
وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق أنبياء اللّه ورسله، وجميع أوليائه السابقين المقربين، وأصحاب اليمين . كما في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه : ( كيف تقول في دعائك ؟ ) قال : أقول : اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار؛ أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ . فقال : ( حولهما ندندن ) فقد أخبر أنه هو صلى الله عليه وسلم ومعاذ ـ وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ـ إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعاذ، ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار ؟ ! ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة .(185/78)
وأهل الجنة نوعان : سابقون مقربون، وأبرار أصحاب يمين . قال تعالى : { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ . كِتَابٌ مَرْقُومٌ . يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ . إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ . تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ . يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ . خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ . وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 18-28 ] قال ابن عباس : تمزج لأصحاب اليمين مزجًا ويشربها المقربون صرفًا .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى اللّه عليه عشرًا، ثم سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل اللّه لي الوسيلة، حلت عليه شفاعتي يوم القيامة ) ، فقد أخبر أن الوسيلة ـ التي لا تصلح إلا لعبد واحد من عباد اللّه ورجاء أن يكون هو ذلك العبد ـ هي درجة في الجنة، فهل بقى بعد الوسيلة شيء أعلي منها يكون خارجًا عن الجنة يصلح للمخلوقين ؟ !(185/79)
وثبت في الصحيح ـ أيضًا ـ في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال : ( فيقولون للرب تبارك وتعالى : وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك ) . قال : ( فيقول : وما يطلبون ؟ قالوا : يطلبون الجنة ) . قال : ( فيقول : وهل رأوها ؟ ) قال : ( فيقولون : لا ) ، قال : ( فيقول : فكيف لو رأوها ؟ ! ) قال : ( فيقولون : لو رأوها لكانوا أشد لها طلبًا ) . قال : ( ومم يستعيذون ؟ ! ) قالوا : ( يستعيذون من النار ) . قال : ( فيقول : وهل رأوها ؟ ! ) قال : ( فيقولون : لا ) . قال : ( فيقول : / فكيف لو رأوها ؟ ) قالوا : ( لو رأوها لكانوا أشد منها استعاذة ) . قال : ( فيقول : أشهدكم أني أعطيتهم ما يطلبون، وأعذتهم مما يستعيذون ) ـ أو كما قال ـ قال : ( فيقولون : فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم ) ، قال : ( فيقول : هم القوم لايشقى بهم جليسهم ) . فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء اللّه كان مطلوبهم الجنة، ومهربهم من النار .
والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا بايع الأنصار ليلة العقبة، وكان الذين بايعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء المشائخ كلهم، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ولأصحابك قال : ( أشترط لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم، وأشترط لأصحابي أن تواسوهم ) . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : ( لكم الجنة ) . قالوا : مد يدك فواللّه لا نقيلك، ولا نستقيلك . وقد قالوا له في أثناء البيعة : إن بيننا وبين القوم حبالًا وعهودًا وإنا ناقضوها .(185/80)
فهؤلاء الذين بايعوه من أعظم خلق اللّه محبة للّه ورسوله، وبذلًا لنفوسهم وأموالهم في رضا اللّه ورسوله، على وجه لا يلحقهم فيه أحد من هؤلاء المتأخرين، قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة، فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه، ولكن علموا أن في الجنة كل محبوب ومطلوب؛ بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه، فإن / الطلب والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصور، فما لا يتصوره الإنسان ولا يحسه ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده فالجنة فيها هذا وهذا . كما قال تعالى : { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ ق : 35 ] ، وقال : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] ففيها ما يشتهون، وفيها مزيد على ذلك، وهو مالم يبلغه علمهم ليشتهوه . كماقال صلى الله عليه وسلم : ( مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) وهذا باب واسع .(185/81)
فإذا عرفت هذه المقدمة، فقول القائل : الرضا ألا تسأل اللّه الجنة، ولا تستعيذه من النار، إن أراد بذلك ألا تسأل اللّه ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية، فلا تسأله النظر إليه، ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الأنبياء والأولياء، وإنك لا تستعيذ به من احتجابه عنك، ولا من تعذيبك في النار . فهذا الكلام مع كونه مخالفًا لجميع الأنبياء والمرسلين، وسائر المؤمنين، فهو متناقض في نفسه، فاسد في صريح العقول، وذلك أن الرضا الذي لا يسأل، إنما لا يسأله لرضاه عن اللّه . ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به، ومحبته له، وإذا لم يبق معه رضا عن اللّه ولا محبة للّه فكأنه قال : يرضى ألا يرضى وهذا جمع بين النقيضين . ولا ريب أنه كلام من لم يتصور ما يقول، ولا عقله، يوضح ذلك أن الراضي إنما يحمله على احتمال المكاره والآلام / ما يجده من لذة الرضا وحلاوته، فإذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع أن يتحمل ألمًا ومرارة، فكيف يتصور أن يكون راضيًا، وليس معه من حلاوة الرضا ما يحمل به مرارة المكاره ؟ وإنما هذا من جنس كلام السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلاوة الرضا، فظن أن هذا يبقى معه على أي حال كان، وهذا غلط عظيم منه : كغلط سمنون كما تقدم .
وإن أراد بذلك ألا يسأل التمتع بالمخلوق، بل يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين :
من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة .(185/82)
ومن جهة أنه ـ أيضًا ـ أثبت أنه طالب مع كونه راضيًا، فإذا كان الرضا لا ينافى هذا الطلب، فلا ينافي طلبًا آخر إذا كان محتاجًا إلى مطلوبه؛ ومعلوم أن تمتعه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار، وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر، وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب؛ فيكون طلبه للنظر طلبًا للوازمه التي منها النجاة من النار، فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ودفع المضرة عنه . ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر، فتبين تناقض قوله .
/وأيضًا فإذا لم يسأل اللّه الجنة، ولم يستعذ به من النار، فإما أن يطلب من اللّه ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب منفعة ودفع مضرة . وإما ألا يطلبه، فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة أولى، واستعاذته من النار أولى . وإن كان الرضا ألا يطلب شيئًا قط، ولو كان مضطرًا إليه، ولا يستعيذ من شيء قط وإن كان مضرًا، فلا يخلو : إما أن يكون ملتفتًا بقلبه إلى اللّه في أن يفعل به ذلك، وإما أن يكون معرضًا عن ذلك، فإن التفت بقلبه إلى اللّه فهو طالب مستعيذ بحاله، ولا فرق بين الطلب بالحال والقال، وهو بهما أكمل وأتم فلا يعدل عنه .
وإن كان معرضًا عن جميع ذلك، فمن المعلوم أنه لا يحيا ويبقى إلا بما يقيم حياته، ويدفع مضاره بذلك، والذي به يحيا من المنافع ودفع المضار، إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد، أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده . فإن أحبه وطلبه وأراده من غير اللّه كان مشركًا مذمومًا، فضلا عن أن يكون محمودًا . وإن قال : لا أحبه وأطلبه وأريده لا من اللّه ولا من خلقه . قيل : هذا ممتنع في الحي، فإن الحي ممتنع عليه ألا يحب ما به يبقى، وهذا أمر معلوم بالحس، ومن كان بهذه المثابة امتنع أن يوصف بالرضا، فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة، إذ الرضا مستلزم لذلك . فكيف يسلب عنه ذلك كله ؟ / فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام .(185/83)
وأما في سبيل اللّه وطريقه ودينه فمن وجوه :
أحدها أن يقال : الراضي لابد أن يفعل ما يرضاه اللّه، وإلا فكيف يكون راضيًا عن اللّه من لا يفعل ما يرضاه اللّه ؟ وكيف يسوغ رضا ما يكرهه اللّه ويسخطه ويذمه، وينهي عنه .
وبيان هذا : أن الرضا المحمود إما أن يكون اللّه يحبه ويرضاه، وإما ألا يحبه ويرضاه، فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم يكن هذا الرضا مأمورًا به، لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب؛ فإن من الرضا ما هو كفر، كرضا الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه اللّه ويكرهه . قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] ، فمن اتبع ما أسخط اللّه برضاه وعمله فقد أسخط اللّه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الخطيئة إذا عملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها، ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وأنكرها ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( سيكون بعدي أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم ولكن من رضى وتابع هلك ) . وقال تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 96 ] فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه اللّه ويرضاه، وهو لا يرضى عنهم . وقال تعالى : { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] فهذا رضا قد ذمه اللّه . وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } [ يونس : 7 ] فهذا أيضًا رضا مذموم، وسوى هذا، وهذا كثير .(185/84)
فمن رضى بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعًا لرضا اللّه ولا هو مؤمن باللّه . بل هو مسخط لربه، وربه غضبان عليه، لاعن له، ذام له، متوعد له بالعقاب .
وطريق اللّه التي يأمر بها المشائخ المهتدون : إنما هي الأمر بطاعة اللّه والنهي عن معصيته . فمن أمر أو استحب أو مدح الرضا الذي يكرهه اللّه ويذمه وينهى عنه ويعاقب أصحابه فهو عدو للّه لا ولى للّه وهو يصد عن سبيل اللّه وطريقه، ليس بسالك لطريقه وسبيله . وإذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه اللّه، ومنه ما يكرهه ويسخطه، ومنه ما هو مباح لا من هذا ولا من هذا، كسائر أعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك، كلها تنقسم إلى محبوب للّه ومكروه للّه مباح .
/فإذا كان الأمر كذلك فالراضي الذي لا يسأل اللّه الجنة ولا يستعيذه من النار يقال له : سؤال اللّه الجنة واستعاذته من النار إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون مستحبة، وإما أن تكون مباحة، وإما أن تكون مكروهة، ولا يقول مسلم : إنها محرمة ولامكروهة، وليست أيضًا مباحة مستوية الطرفين . ولو قيل : إنها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين لا ينافي الرضا؛ إذ ليس من شرط الراضي ألا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفعل أمثال هذه الأمور، فإذا كان ما يفعله من هذه الأمور لا ينافي رضاه، أينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح ؟ ! وإذا كان السؤال والدعاء كذلك واجبا أو مستحبا فمعلوم أن اللّه يرضى بفعل الواجبات والمستحبات، فكيف يكون الراضي الذي من أولياء اللّه لا يفعل ما يرضاه ويحبه؛ بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة أعداء اللّه لا أولياء اللّه .(185/85)
والقشيري قد ذكره في أوائل باب الرضا فقال : اعلم أن الواجب على العبد أن يرضى بقضاء اللّه الذي أمر بالرضا به، إذ ليس كل ماهو بقضائه يجوز للعبد أو يجب على العبد الرضا به . كالمعاصي وفنون محن المسلمين . وهذا الذي قاله، قاله قبله وبعده ومعه غير واحد من العلماء : كالقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى وأمثالهما، لما احتج عليهم القدرية بأن الرضا بقضاء اللّه مأمور به، فلو كانت المعاصي / بقضاء اللّه لكنا مأمورين بالرضا بها، والرضا بما نهى اللّه عنه لا يجوز فأجابهم أهل السنة عن ذلك بثلاثة أجوبة :
أحدها ـ وهو جواب هؤلاء وجماهير الأئمة ـ : أن هذا العموم ليس بصحيح، فلسنا مأمورين أن نرضى بكل ما قضى وقدر، ولم يجئ في الكتاب والسنة أمر بذلك، ولكن علينا أن نرضي بما أمرنا أن نرضى به، كطاعة اللّه ورسوله . وهذا هو الذي ذكره أبو القاسم .
والجواب الثاني : أنهم قالوا : إنا نرضى بالقضاء الذي هو صفة اللّه أو فعله لا بالمقضي الذي هو مفعوله . وفي هذا الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع .
الثالث : أنهم قالوا : هذه المعاصي لها وجهان : وجه إلى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه، ووجه إلى الرب من حيث هو خلقها وقضاها وقدرها، فيرضى من الوجه الذي يضاف به إلى اللّه، ولا يرضى من الوجه الذي يضاف به إلى العبد، إذ كونها شرًا وقبيحة ومحرمًا وسببًا للعذاب والذم ونحو ذلك إنما هو من جهة كونها مضافة إلى العبد . وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والأسرار ما قد ذكرنا منه ما قد ذكرناه في غيرهذا الموضع، ولا يحتمله هذا المكان . فإن / هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر، وهي من أعظم مطالب الدين وأشرف علوم الأولين والآخرين وأدقها على عقول أكثر العالمين .(185/86)
والمقصود هنا أن مشائخ الصوفية والعلماء وغيرهم قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزًا، ومنه مالا يكون جائزًا فضلا عن كونه مستحبًا أو من صفات المقربين، وإن أبا القاسم ذكر ذلك في [ الرسالة ] أيضًا .
فإن قيل : هذا الذي ذكرتموه أمر بين واضح، فمن أين غلط من قال : الرضا ألا تسأل اللّه الجنة ولا تستعيذه من النار ؟ وغلط من يستحسن مثل هذا الكلام كائنا من كان ؟ .
قيل : غلطوا في ذلك لأنهم رأوا أن الراضي بأمر لا يطلب غير ذلك الأمر، فالعبد إذا كان في حال من الأحوال فمن رضاه ألا يطلب غير تلك الحال، ثم إنهم رأوا أن أقصى المطالب الجنة، وأقصى المكاره النار . فقالوا : ينبغي ألايطلب شيئًا ولو أنه الجنة ولا يكره ما يناله، ولو أنه النار، وهذا وجه غلطهم، ودخل عليهم الضلال من وجهين :
أحدهما : ظنهم أن الرضا بكل ما يكون أمر يحبه اللّه ويرضاه / وأن هذا من أعظم طرق أولياء اللّه، فجعلوا الرضا بكل حادث وكائن أو بكل حال يكون فيها للعبد طريقًا إلى اللّه، فضلوا ضلالًا مبينًا والطريق إلى اللّه إنما هي أن ترضيه بأن تفعل مايحبه ويرضاه ليس أن ترضى بكل ما يحدث ويكون، فإنه هو لم يأمرك بذلك، ولا رضيه لك ولا أحبه؛ بل هو ـ سبحانه ـ يكره ويسخط ويبغض على أعيان أفعال موجودة لا يحصيها إلا هو، وولاية اللّه موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض، وتكره ما يكره، وتسخط ما يسخط، وتوالي من يوالي، وتعادي من يعادي، فإذا كنت تحب وترضى ما يكرهه ويسخطه كنت عدوه لا وليّه، وكان كل ذم نال من رضى ما أسخط اللّه قد نالك .
فتدبر هذا؛ فإنه ينبه على أصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد والعامة من لا يحصيهم إلا اللّه .
الوجه الثاني : أنهم لا يفرقون بين الدعاء الذي أمروا به أمر إيجاب، وأمر استحباب، وبين الدعاء الذي نهوا عنه، أو لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه، فإن دعاء العبد لربه ومسألته إياه ثلاثة أنواع :(185/87)
نوع أمر العبد به إما أمر إيجاب وإما أمر استحباب : مثل / قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] ، ومثل دعائه في آخر الصلاة كالدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به أصحابه فقال : ( إذا قعد أحدكم في الصلاة فليستعذ باللّه من أربع : من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال ) . فهذا دعاء أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا به في آخر صلاتهم . وقد اتفقت الأمة على أنه مشروع يحبه اللّه ورسوله ويرضاه، وتنازعوا في وجوبه . فأوجبه طاووس وطائفة، وهو قول في مذهب أحمد رضي اللّه عنه، والأكثرون قالوا : هذا مستحب، والأدعية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها : لا تخرج عن أن تكون واجبة، أو مستحبة، وكل واحد من الواجب والمستحب يحبه اللّه ويرضاه، ومن فعله ـ رضي اللّه عنه وأرضاه ـ فهل يكون من الرضا ترك ما يحبه ويرضاه ؟ !(185/88)
ونوع من الدعاء ينهي عنه : كالاعتداء مثل أن يسأل الرجل مالا يصلح من خصائص الأنبياء، وليس هو بنبي، وربما هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى . مثل أن يسأل لنفسه الوسيلة التي لا تصلح إلا لعبد من عباده، أو يسأل اللّه تعالى أن يجعله بكل شيء عليمًا، أو على كل شيء قدير، وأن يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب . وأمثال ذلك، أو مثل من يدعوه ظانًا أنه محتاج إلى عباده؛ وأنهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل، ويذكر أنه إذا لم يفعله / حصل له من الخلق ضير . وهذا ونحوه جهل بالله واعتداء في الدعاء . وإن وقع في ذلك طائفة من الشيوخ . ومثل أن يقولوا : اللهم اغفر لي إن شئت، فيظن أن الله قد يفعل الشىء مكرها، وقد يفعل مختارًا، كالملوك، فيقول : اغفر لي إن شئت، وقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : ( لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له ) ، ومثل أن يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق، وأمثال ذلك فهذه الأدعية ونحوها منهي عنها .
ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لامعصية فيها .
والمقصود أن الرضا الذي هو من طريق الله لا يتضمن ترك واجب ولا ترك مستحب، فالدعاء الذي هو واجب أو مستحب لا يكون تركه من الرضا، كما أن ترك سائر الواجبات لا يكون من الرضا المشروع، ولا فعل المحرمات من المشروع . فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم أن الرضا مشروع بكل مقدور، ومن جهة أنهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع إيجابا، واستحبابا، والدعاء غير المشروع .(185/89)
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن طلب الجنة من الله، والاستعاذة به من النار، هو من أعظم الأدعية المشروعة لجميع المرسلين / والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن ذلك لا يخرج عن كونه واجبًا أو مستحبا، وطريق أولياء الله التي يسلكونها لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات؛ إذ ما سوي ذلك محرم أو مكروه أو مباح لا منفعة فيه في الدين .
ثم إنه لما أوقع هؤلاء في هذا الغلط أنهم وجدوا كثيرًا من الناس لا يسألون الله جلب المنافع، ودفع المضار، حتى طلب الجنة، والاستعاذة من النار، من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرًا، بل من جهة كون النفس تطلب ذلك، فرأوا أن من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريده، وألا يكون لأحدهم إرادة أصلا، بل يكون مطلوبه الجريان تحت القدر ـ كائنًا من كان ـ وهذا هو الذي أدخل كثيرًا منهم في الرهبانية، والخروج عن الشرعية، حتى تركوا من الأكل والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون إليه، وما لا تتم مصلحة دينهم إلا به؛ فإنهم رأوا العامة تعد هذه الأمور بحكم الطبع والهوى والعادة، ومعلوم أن الأفعال التي على هذا الوجه لا تكون عبادة ولا طاعة ولا قربة، فرأي أولئك الطريق إلي الله ترك هذه العبادات، والأفعال الطبعيات، فلازموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق، ما أوقعهم في ترك واجبات ومستحبات، وفعل مكروهات ومحرمات .(185/90)
/وكلا الأمرين غير محمود، ولا مأمور به، ولا طريق إلى اللّه : طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الأفعال المحتاج إليها على غير وجه العبادة، والتقرب إلى اللّه، وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الأفعال؛ بل المشروع أن تفعل بنية التقرب إلى اللّه، وأن يشكر اللّه . قال اللّه تعالى : { كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [ المؤمنون : 51 ] ، وقال تعالى : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } [ البقرة : 172 ] ، فأمر بالأكل والشرب، فمن أكل ولم يشكر كان مذمومًا، ومن لم يأكل ولم يشكر كان مذمومًا، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن اللّه ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه، إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك ) ، وفي الصحيح أيضًا أنه قال : ( نفقة المؤمن على أهله يحتسبها صدقة ) . فكذلك الأدعية هنا من الناس من يسأل اللّه جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه طبعًا وعادة لا شرعًا وعبادة، فليس من المشروع أن أدع الدعاء مطلقًا لتقصيرهذا وتفريطه؛ بل أفعله أنا شرعًا وعبادة .(185/91)
ثم اعلم أن الذي يفعله شرعًا وعبادة إنما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه وآخرته؛ بخلاف / الذي يفعله طبعًا فإنه إنما يطلب مصلحة دنياه فقط، كما قال تعالى : { فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ البقرة : 200-202 ] وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار إنما يطلب حسنة الآخرة فهو محمود .
ومما يبين الأمر في ذلك أن يرد قول هؤلاء : بأن العبد لا يفعل مأمورًا ولا يترك محظورًا . فلا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يحج ولا يجاهد ولا يفعل شيئًا من القربات، فإن ذلك إنما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب . فإذا كان هو لا يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة، ولا دفع العقاب الذي هو النار، فلا يفعل مأمورًا، ولا يترك محظورًا، ويقول : أنا راض بكل ما يفعله بي وإن كفرت وفسقت وعصيت؛ بل يقول : أنا أكفر وأفسق وأعصى حتى يعاقبني وأرضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه، وهذا قول من هو من أجهل الخلق وأحمقهم وأضلهم وأكفرهم .
أما جهله وحمقه؛ فلأن الرضى بذلك ممتنع متعذر؛ لأن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين .
/وأما كفره؛ فلأنه مستلزم لتعطيل دين اللّه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه .
ولا ريب أن ملاحظة القضاء والقدر، أوقعت كثيرًا من أهل الإرادة من المتصوفة في أن تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين، وإما عاصين فاسقين، وإما كافرين، وقد رأيت من ذلك ألوانا . { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ النور : 40 ] .(185/92)
وهؤلاء المعتزلة ونحوهم من القدرية طرفا نقيض ـ هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الأمر . وأولئك يلاحظون الأمر ويعرضون عن القدر ـ والطائفتان تظن أن ملاحظة الأمر والقدر متعذر . كما أن طائفة تجعل ذلك مخالفًا للحكمة والعدل . وهذه الأصناف الثلاثة هي : القدرية المجوسية، والقدرية المشركية؛ والقدرية الإبليسية؛ وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع .
وأصل ما يبتلى به السالكون أهل الإرادة والعامة في هذا الزمان هي القدرية المشركية، فيشهدون القدر ويعرضون عن الأمر، كما قال فيهم بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به . وإنما المشروع العكس، وهو أن يكون عند الطاعة يستعين اللّه عليها قبل الفعل، ويشكره عليها بعد الفعل / ويجتهد ألا يعصى فإذا أذنب وعصى بادر إلى التوبة والاستغفار، كما في حديث سيد الاستغفار : ( أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي ) ، وكما في الحديث الصحيح الإلهي : ( ياعبادي، إنماهي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
ومن هذا الباب دخل قوم من أهل الإرادة في ترك الدعاء، وآخرون جعلوا التوكل والمحبة من مقامات العامة، وأمثال هذه الأغاليط التي تكلمنا عليها في غير هذا الموضع، وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك؛ ولهذا يوجد في كلام هؤلاء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة، حتى قال سهل بن عبد اللّه التستري : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل . وقال الجنيد بن محمد : علمنا مقيد بالكتاب والسنة؛ فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصح أن يتكلم في علمنا، واللّه أعلم .(185/93)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=212 - TOP#TOPما تقول السادة العلماء فيمن عزم على فعل محرم، كالزنا والسرقة، وشرب الخمر عزمًا جازمًا فعجز عن فعله : إما بموت، أو غيره . هل يأثم بمجرد العزم أم لا ؟ وإن قلتم : يأثم، فما جواب من يحتج على عدم الإثم بقوله : ( إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه ( ( 1 ) وبقوله : ) إن اللّه تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، مالم تعمل أو تتكلم ) واحتج به من وجهين :
أحدهما : أنه أخبر بالعفو عن حديث النفس، والعزم داخل في العموم والعزم والهم واحد . قاله ابن سيده .
الثاني : أنه جعل التجاوز ممتدا إلى أن يوجد كلام أوعمل، وما قبل ذلك داخل في حد التجاوز، ويزعم ألا دلالة في قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) ؛ لأن الموجب لدخول المقتول في النار مواجهته أخيه، لأنه عمل لا مجرد قصد، وألا دلالة في قوله صلى الله عليه وسلم في الذي قال : ( لو أن لي مالا لفعلت وفعلت، إنهما في الإثم سواء وفي الأجر سواء ) ؛ لأنه تكلم، / والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما لم تعمل به أو تتكلم ) وهذا قد تكلم، وقد وقع في هذه المسألة كلام كثير . واحتيج إلى بيانها مطولًا مكشوفًا مستوفًا .
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس اللّه روحه ونور ضريحه :
الحمد للّه، هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها، فإن اضطراب الناس في هذه المسائل وقع عامته من أمرين :
أحدهما : عدم تحقيق أحوال القلوب وصفاتها، التي هي مورد الكلام .
والثاني : عدم إعطاء الأدلة الشرعية حقها، ولهذا كثر اضطراب كثير من الناس في هذا الباب، حتى يجد الناظر في كلامهم أنهم يدعون إجماعات متناقضة في الظاهر .(185/94)
فينبغي أن يعلم أن كل واحد من صفات الحي التي هي العلم والقدرة والإرادة ونحوها له من المراتب ما بين أوله وآخره مالا يضبطه العباد : كالشك، ثم الظن، ثم العلم، ثم اليقين، ومراتبه؛ وكذلك الهم والإرادة والعزم وغير ذلك؛ ولهذا كان الصواب عند جماهير أهل السنة ـ وهو / ظاهر مذهب أحمد، وهو أصح الروايتين عنه، وقول أكثر أصحابه ـ أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان، بل وكذلك الصفات التي تقوم بغير الحي : كالألوان والطعوم والأرواح . فنقول أولًا : الإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها، إذا كانت القدرة حاصلة فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة وجب وجود الفعل، لكمال وجود المقتضى السالم عن المعارض المقاوم، ومتي وجدت الإرادة والقدرة التامة ولم يقع الفعل لم تكن الإرادة جازمة، وهو إرادات الخلق لما يقدرون عليه من الأفعال، ولم يفعلوه، وإن كانت هذه الإرادات متفاوتة في القوة والضعف تفاوتًا كثيرًا؛ لكن حيث لم يقع الفعل المراد مع وجود القدرة التامة فليست الإرادة جازمة جزمًا تامًا .
وهذه المسألة إنما كثر فيها النزاع؛ لأنهم قدروا إرادة جازمة للفعل لا يقترن بها شىء من الفعل، وهذا لا يكون . وإنما يكون ذلك في العزم على أن يفعل، فقد يعزم على الفعل في المستقبل من لا يفعل منه شيئا في الحال، والعزم على أن يفعل في المستقبل لا يكفي في وجود الفعل، بل لابد عند وجوده من حدوث تمام الإرادة المستلزمة للفعل، وهذه هي الإرادة الجازمة .(185/95)
والإرادة الجازمة إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام : له ثواب الفاعل التام، وعقاب الفاعل التام / الذي فعل جميع الفعل المراد، حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته، مثل المشتركين والمتعاونين على أفعال البر، ومنها ما يتولد عن فعل الإنسان كالداعي إلى هدى أو إلى ضلالة، والسّان سّنة حسنة، وسنة سيئة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، من غير أن ينقص أوزارهم شىء ) ، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ( من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ) .
فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة، هو طالب مريد كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه، لكن قدرته بالدعاء والأمر، وقدرة الفاعل بالاتباع والقبول؛ ولهذا قرن اللّه تعالى في كتابه بين الأفعال المباشرة والمتولدة فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ التوبة : 120، 121 ] .(185/96)
فذكر في الآية الأولى ما يحدث عن أفعالهم بغير قدرتهم المنفردة، / وهو ما يصيبهم من العطش والجوع والتعب، وما يحصل للكفار بهم من الغيظ، وما ينالونه من العدو . وقال : { كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } ، فأخبر أن هذه الأمور التي تحدث وتتولد من فعلهم وفعل آخر منفصل عنهم يكتب لهم بها عمل صالح، وذكر في الآية الثانية نفس أعمالهم المباشرة التي باشروها بأنفسهم : وهي الإنفاق، وقطع المسافة، فلهذا قال فيها : { إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ } فإن هذه نفسها عمل صالح، وإرادتهم في الموضعين جازمة على مطلوبهم الذي هو أن يكون الدين كله للّه، وأن تكون كلمة اللّه هي العليا، فما حدث مع هذه الإرادة الجازمة من الأمور التي تعين فيها قدرتهم بعض الإعانة هي لهم عمل صالح .
وكذلك الداعي إلى الهدى والضلالة، لما كانت إرادته جازمة كاملة في هدي الأتباع وضلالهم، وأتى من الإعانة على ذلك بما يقدر عليه، كان بمنزلة العامل الكامل، فله من الجزاء مثل جزاء كل من اتبعه : للهادي مثل أجور المهتدين، وللمضل مثل أوزار الضالين وكذلك السان سنة حسنة وسنة سيئة؛ فإن السنة هي ما رسم للتحري، فإن السان كامل الإرادة لكل ما يفعل من ذلك، وفعله بحسب قدرته .
ومن هذا : قوله في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل ) ، فالكفل / النصيب مثل نصيب القاتل . كما فسره الحديث الآخر، وهو كما استباح جنس قتل المعصوم، لم يكن مانع يمنعه من قتل نفس معصومة، فصار شريكًا في قتل كل نفس، ومنه قوله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [ المائدة : 32 ] .(185/97)
ويشبه هذا أنه من كذب رسولًا معينًا كان كتكذيب جنس الرسل، كما قيل فيه : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 105 ] { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 123 ] ونحو ذلك .
ومن هذا الباب قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ العنكبوت : 12، 13 ] فأخبر أن أئمة الضلال لا يحملون من خطايا الأتباع شيئًا، وأخبر أنهم يحملون أثقالهم، وهي أوزار الأتباع، من غير أن ينقص من أوزار الأتباع شيء؛ لأن إرادتهم كانت جازمة بذلك، وفعلوا مقدورهم، فصار لهم جزاء كل عامل؛ لأن الجزاء على العمل يستحق مع الإرادة الجازمة، وفعل المقدور منه .
وهو كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس عن أبي سفيان : / أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل : ( فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ) ، فأخبر أن هرقل لما كان إمامهم المتبوع في دينهم أن عليه إثم الأريسيين، وهم الأتباع، وإن كان قد قيل : أن أصل هذه الكلمة من الفلاحين والأكرة، كلفظ الطاء بالتركي، فإن هذه الكلمة تقلب إلى ما هو أعم من ذلك، ومعلوم أنه إذا تولى عن اتباع الرسول كان عليه مثل آثامهم من غير أن ينقص من آثامهم شيء كما دل عليه سائر نصوص الكتاب والسنة .(185/98)
ومن هذا قوله تعالى : { إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ . لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ . لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 22-25 ] .
فقوله : { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم } [ النحل : 25 ] هي الأوزار الحاصلة لضلال الأتباع، وهي حاصلة من جهة الآمر، ومن جهة المأمور الممتثل، فالقدرتان مشتركتان في حصول ذلك الضلال؛ فلهذا كان علي هذا بعضه، وعلى هذا بعضه، إلا أن كل بعض من هذين البعضين هو مثل وزر عامل كامل، كما دلت عليه سائر النصوص، مثل قوله : / ( من دعا إلى الضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) .
ومن هذا الباب قوله تعالى : { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] .(185/99)
فأخبر ـ سبحانه ـ أن الأتباع دعوا على أئمة الضلال بتضعيف العذاب، كما أخبر عنهم بذلك في قوله تعالى : { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ . رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 67، 68 ] . وأخبر ـ سبحانه ـ أن لكل من المتبعين والأتباع تضعيفًا من العذاب . ولكن لا يعلم الأتباع التضعيف .
ولهذا وقع عظيم المدح والثناء لأئمة الهدى، وعظيم الذم واللعنة لأئمة الضلال، حتى روى في أثر ـ لا يحضرني إسناده ـ : ( أنه ما من عذاب في النار إلا يبدأ فيه بإبليس ثم يصعد بعد ذلك إلى غيره، وما من نعيم في الجنة إلا يبدأ فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم ينتقل إلى غيره ) فإنه هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم . كما قال : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة / ولا فخر ) ، وهو شفيع الأولين والآخرين في الحساب بينهم ؛ وهو أول من يستفتح باب الجنة، وذلك أن جميع الخلائق أخذ اللّه عليهم ميثاق الإيمان به كما أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن قبله من الأنبياء ؛ ويصدق بمن بعده، قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } الآية [ آل عمران : 81 ] . فافتتح الكلام باللام الموطئة للقسم التي يؤتي بها إذا اشتمل الكلام على قسم وشرط؛ وأدخل اللام على ما الشرطية ليبين العموم، ويكون المعنى : مهما آتيكم من كتاب وحكمة فعليكم إذا جاءكم ذلك النبي المصدق الإيمان به ونصره . كما قال ابن عباس : ما بعث اللّه نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه .(185/100)
واللّه ـ تعالى ـ قد نوه بذكره وأعلنه في الملأ الأعلى، ما بين خلق جسد آدم ونفخ الروح فيه، كما في حديث ميسرة الفجر قال : ، قلت : يا رسول اللّه ! متى كنت نبيًا ؟ وفي رواية ـ متى كتبت نبيًا ؟ فقال : ( وآدم بين الروح والجسد ) رواه أحمد . وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إني عند اللّه لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته ) الحديث .
/فكتب اللّه وقدر في ذلك الوقت، وفي تلك الحال أمر إمام الذرية كما كتب وقدر حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده ونفخ الروح فيه، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود .
فمن آمن به من الأولين والآخرين أثيب على ذلك، وإن كان ثواب من آمن به وأطاعه في الشرائع المفصلة أعظم من ثواب من لم يأت إلا بالإيمان المجمل، على أنه إمام مطلق لجميع الذرية، وإن له نصيبا من إيمان كل مؤمن من الأولين والآخرين، كما أن كل ضلال وغواية في الجن والإنس لإبليس منه نصيب، فهذا يحقق الأثر المروي ويؤيد ما في نسخة شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا ـ إما من مراسيل الزهري، وإما من مراسيل من فوقه من التابعين ـ قال : ( بعثت داعيًا وليس إلى من الهداية شيء، وبعث إبليس مزينا ومغويا وليس إليه من الضلالة شيء ) .
ومما يدخل في هذا الباب من بعض الوجوه : قوله في الحديث الذي في السنن : ( وزنت بالأمة فرجحت، ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح، ثم وزن عمر بالأمة فرجح، ثم رفع الميزان ) .(185/101)
فأما كون النبي صلى الله عليه وسلم راجحًا بالأمة فظاهر ؛ لأن له مثل أجر جميع الأمة مضافا إلى أجره . وأما أبو بكر وعمر؛ فلأن لهما / معاونة مع الإرادة الجازمة في إيمان الأمة كلها، وأبو بكر كان في ذلك سابقًا لعمر وأقوى إرادة منه، فإنهما هما اللذان كانا يعاونان النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان الأمة في دقيق الأمور وجليلها؛ في محياه وبعد وفاته .
ولهذا سأل أبو سفيان يوم أحد : أفي القوم محمد ؟ أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال النبي : ( لا تجيبوه ) . فقال : أما هؤلاء فقد كفيتموهم . فلم يملك عمر نفسه أن قال : كذبت ياعدو اللّه ! إن الذي ذكرت لأحياء وقد بقى لك ما يسوؤك رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب، فأبو سفيان ـ رأس الكفر حينئذ ـ لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم قادة المؤمنين . كما ثبت في الصحيحين أن علي بن أبي طالب لما وضعت جنازة عمر قال : واللّه ما على وجه الأرض أحد أحب أن ألقي اللّه بعمله من هذا المسجي، واللّه إني لأرجو أن يحشرك اللّه مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ) .
وأمثال هذه النصوص كثيرة، تبين سبب استحقاقهما أن كان لهما مثل أعمال جميع الأمة، لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من القدرة / على ذلك كله، بخلاف من أعان على بعض ذلك دون بعض، ووجدت منه إرادة في بعض ذلك دون بعض .(185/102)
وأيضًا فالمريد إرادة جازمة مع فعل المقدور هو بمنزلة العامل الكامل، وإن لم يكن إمامًا وداعيًا، كما قال سبحانه : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا . دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 95، 96 ] .
فاللّه ـ تعالى ـ نفى المساواة بين المجاهد والقاعد الذي ليس بعاجز، ولم ينف المساواة بين المجاهد وبين القاعد العاجز، بل يقال : دليل الخطاب يقتضى مساواته إياه . ولفظ الآية صريح . استثنى أولو الضرر من نفي المساواة، فالاستثناء هنا هو من النفي، وذلك يقتضي أن أولى الضرر قد يساوون القاعدين، وإن لم يساووهم في الجميع، ويوافقه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في غزوة تبوك : ( إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ) . قالوا : وهم بالمدينة . قال : ( وهم بالمدينة حبسهم العذر ) ، فأخبر أن القاعد بالمدينة الذي لم يحبسه إلا العذر هو مثل من معهم في هذه الغزوة . ومعلوم أن الذي معه في الغزوة يثاب كل واحد منهم ثواب غاز على قدر نيته، / فكذلك القاعدون الذين لم يحبسهم إلا العذر .(185/103)
ومن هذا الباب : ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ) ، فإنه إذا كان يعمل في الصحة والإقامة عملا ثم لم يتركه إلا لمرض أو سفر؛ ثبت أنه إنما ترك لوجود العجز والمشقة، لا لضعف النية وفتورها، فكان له من الإرادة الجازمة التي لم يتخلف عنها الفعل إلا لضعف القدرة، ما للعامل والمسافر وإن كان قادرًا مع مشقة كذلك بعض المرض، إلا أن القدرة الشرعية هي التي يحصل بها الفعل من غير مضرة راجحة، كما في قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [ آل عمران : 97 ] ، وقوله : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } [ المجادلة : 4 ] ، ونحو ذلك ليس المعتبر في الشرع القدرة التي يمكن وجود الفعل بها على أي وجه كان، بل لابد أن تكون المكنة خالية عن مضرة راجحة، بل أو مكافية .
ومن هذا الباب ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا ) ، وقوله : ( من فطر صائمًا فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء ) ، فإن الغزو يحتاج إلى جهاد بالنفس، وجهاد بالمال، فإذا بذل هذا بدنه، وهذا ماله مع وجود الإرادة الجازمة في كل منهما؛ كان كل منهما مجاهدًا / بإرادته الجازمة ومبلغ قدرته، وكذلك لابد للغازي من خليفة في الأهل، فإذا خلفه في أهله بخير فهو أيضًا غاز، وكذلك الصيام لابد فيه من إمساك، ولا بد فيه من العشاء الذي به يتم الصوم، وإلا فالصائم الذي لا يستطيع العشاء لا يتمكن من الصوم .(185/104)
وكذلك قوله في الحديث الصحيح : ( إذا أنفقت المرأة من مال زوجها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجور بعض شيئًا ) وكذلك قوله في حديث أبي موسى : ( الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به كاملا موفرا طيبة به نفسه أحد المتصدقين ) أخرجاه . وذلك أن إعطاء الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به موفرًا طيبة به نفسه لا يكون إلا مع الإرادة الجازمة الموافقة لإرادة الآمر، وقد فعل مقدوره وهو الامتثال، فكان أحد المتصدقين .
ومن هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري الذي رواه أحمد وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الدنيا لأربعة : رجل آتاه اللّه علما ومالا فهو يعمل فيه بطاعة اللّه ) ، فقال رجل : لو أن لي مثل فلان لعملت بعمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فهما في الأجر سواء ) ، وقد رواه الترمذي مطولا، وقال : حديث حسن صحيح، فهذا التساوي مع ( الأجر والوزر ) هو في حكاية حال من قال ذلك، / وكان صادقًا فيه، وعلم اللّه منه إرادة جازمة لا يتخلف عنها الفعل إلا لفوات القدرة؛ فلهذا استويا في الثواب والعقاب .(185/105)
وليس هذه الحال تحصل لكل من قال : ( لو أن لي ما لفلان لفعلت مثل ما يفعل ) إلا إذا كانت إرادته جازمة يجب وجود الفعل معها إذا كانت القدرة حاصلة، وإلا فكثير من الناس يقول ذلك عن عزم، لو اقترنت به القدرة لانفسخت عزيمته، كعامة الخلق يعاهدون وينقضون، وليس كل من عزم على شيء عزمًا جازمًا قبل القدرة عليه وعدم الصوارف عن الفعل تبقى تلك الإرادة عند القدرة المقارنة للصوارف، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [ آل عمران : 143 ] ، وكما قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] ، وكما قال : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ . فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ التوبة : 75، 76 ] .
وحديث أبي كبشة في النيات مثل حديث البطاقة في الكلمات . وهو الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن رجلًا من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ينشر اللّه له يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مدى البصر، ويقال له : هل تنكر من هذا شيئًا ؟ هل ظلمتك ؟ فيقول : / لا يارب . فيقال له : لا ظلم عليك اليوم، فيؤتي ببطاقة فيها التوحيد فتوضع في كفة والسجلات في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ) . فهذا لما اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية، إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة، فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما .(185/106)
ومثل هذا الحديث الذي في حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر اللّه لها، فهذا لما حصل في قلبها من حسن النية والرحمة إذ ذاك، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان اللّه ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يكتب اللّه له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط اللّه ما يظن أن تبلغ ما بلغت ؛ يكتب اللّه له بها سخطه إلى يوم القيامة ) .
فَصْل
وبهذا تبين أن الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل وأمثالها، إنما هي فيما دون الإرادة الجازمة التي لابد أن يقترن بها الفعل، كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : / ( إن اللّه كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها اللّه عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها؛ كتبها اللّّه عنده عشر حسنات، ومن هم بسيئة ولم يعملها؛ كتبها له اللّه حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها؛ كتبها اللّه له عنده سيئة واحدة ) وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة .
فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال : ( فعملها ) ، ( فلم يعملها ) ومن أمكنه الفعل فلم يفعل؛ لم تكن إرادته جازمة، فإن الإرادة الجازمة مع القدرة مستلزمة للفعل، كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل، وموجب له، إذ لو توقف على شيء آخر؛ لم تكن الإرادة الجازمة مع القدرة تامة كافية في وجود الفعل، ومن المعلوم المحسوس أن الأمر بخلاف ذلك، ولا ريب أن [ الهم ] و [ العزم ] و [ الإرادة ] ونحو ذلك قد يكون جازمًا لا يتخلف عنه الفعل إلا للعجز، وقد لا يكون هذا على هذا الوجه من الجزم .(185/107)
فهذا القسم الثاني يفرق فيه بين المريد والفاعل، بل يفرق بين إرادة وإرادة، إذ الإرادة هي عمل القلب الذي هو ملك الجسد، كما قال أبو هريرة : القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك؛ طابت جنوده، وإذا خبث الملك؛ خبثت جنوده . وتحقيق ذلك ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم : / ( إن في الجسد مضغة إذا صلحت؛ صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب ) . فإذا هم بحسنة فلم يعملها كان قد أتى بحسنة، وهي الهم بالحسنة فتكتب له حسنة كاملة، فإن ذلك طاعة وخير، وكذلك هو في عرف الناس كما قيل :
لأشكرنك معروفًا هممت به ** إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدر ** فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
فإن عملها كتبها اللّه له عشر حسنات، لما مضى من رحمته أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، كما قال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة : ( لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة مزمومة ) إلى أضعاف كثيرة . وقد روى عن أبي هريرة مرفوعًا : ( أنه يعطى به ألف ألف حسنة ) .(185/108)
وأما الهام بالسيئة الذي لم يعملها وهو قادر عليها، فإن اللّه لا يكتبها عليه كما أخبر به في الحديث الصحيح، وسواء سمى همه إرادة أو عزمًا أو لم يسم، متى كان قادرًا على الفعل وهم به وعزم عليه ولم يفعله مع القدرة فليست إرادته جازمة، وهذا موافق لقوله في الحديث الصحيح / ـ حديث أبي هريرة ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به ) . فإن ما هم به العبد من الأمور التي يقدر عليها من الكلام والعمل ولم يتكلم بها ولم يعملها لم تكن إرادته لها جازمة، فتلك مما لم يكتبها اللّه عليه، كما شهد به قوله : ( من هم بسيئة فلم يعملها ) ، ومن حكى الإجماع كابن عبد البر وغيره في هذه المسألة على هذا الحديث فهو صحيح بهذا الاعتبار .
وهذا الهام بالسيئة، فإما أن يتركها لخشية اللّه وخوفه، أو يتركها لغير ذلك، فإن تركها لخشية اللّه؛ كتبها اللّه له عنده حسنة كاملة كما قد صرح به في الحديث، وكما قد جاء في الحديث الآخر : ( اكتبوها له حسنة، فإنما تركها من أجلي ) ، أو قال : ( من جرائي ) ، وأما إن تركها لغير ذلك لم تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث الآخر : ( فإن لم يعملها لم تكتب عليه ) . وبهذا تتفق معاني الأحاديث .
وإن عملها لم تكتب عليه إلا سيئة واحدة، فإن اللّه تعالى لا يضعف السيئات بغير عمل صاحبها، ولا يجزي الإنسان في الآخرة إلا بما عملت نفسه، ولا تمتلئ جهنم إلا من أتباع إبليس من الجنة والناس، كما قال تعالى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس : ( إن الجنة يبقى فيها فضل فينشئ اللّه لها أقوامًا في الآخرة، وأما النار فإنه ينزوي بعضها إلى / بعض حتى يضع عليها قدمه فتمتلئ بمن دخلها من أتباع إبليس ) .(185/109)
ولهذا كان الصحيح المنصوص عن أئمة العدل كأحمد وغيره الوقف في أولاد المشركين، وأنه لا يجزم لمعين منهم بجنة ولا نار، بل يقال فيهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين الصحيحين : حديث أبي هريرة وابن عباس : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) . فحديث أبي هريرة في الصحيحين، وحديث ابن عباس في البخاري، وفي حديث سمرة ابن جندب الذي رواه البخاري : ( إن منهم من يدخل الجنة ) ، وثبت : ( أن منهم من يدخل النار ) كما في صحيح مسلم في قصة الغلام الذي قتله الخضر، وهذا يحقق ما روى من وجوه : أنهم يمتحنون يوم القيامة فيظهر على علم اللّه فيهم، فيجزيهم حينئذ على الطاعة والمعصية، وهذا هو الذي حكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث واختاره .
وأما أئمة الضلال ـ الذين عليهم أوزار من أضلوه ـ ونحوهم، فقد بينا أنهم إنما عوقبوا لوجود الإرادة الجازمة مع التمكن من الفعل؛ بقوله في حديث أبي كبشة : ( فهما في الوزر سواء ) ، وقوله : ( من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه ) ، فإذا وجدت الإرادة الجازمة، والتمكن من الفعل صاروا بمنزلة الفاعل التام، والهام بالسيئة التي لم يعملها مع قدرته عليها لم توجد منه إرادة جازمة، وفاعل / السيئة التي تمضي لا يجزي بها إلا سيئة واحدة، كما شهد به النص، وبهذا يظهر قول الأئمة حيث قال الإمام أحمد : ( الهم ) همان : هم خطرات، وهم إصرار . فهم الخطرات يكون من القادر، فإنه لو كان همه إصرارًا جازمًا وهو قادر لوقع الفعل .(185/110)
ومن هذا الباب هم [ يوسف ] ، حيث قال تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } الآية [ يوسف : 24 ] . وأما هم المرأة التي راودته فقد قيل : إنه كان هم إصرار؛ لأنها فعلت مقدورها، وكذلك ما ذكره عن المنافقين في قوله تعالى : { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } [ التوبة : 74 ] ، فهذا الهم المذكور عنهم هم مذموم، كما ذمهم اللّه عليه، ومثله يذم وإن لم يكن جازمًا، كما سنبينه في آخر الجواب من الفرق بين ما ينافى الإيمان، وبين مالا ينافيه، وكذلك الحريص على السيئات الجازم بإرادة فعلها، إذا لم يمنعه إلا مجرد العجز، فهذا يعاقب على ذلك عقوبة الفاعل، لحديث أبي كبشة، ولما في الحديث الصحيح : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) قيل : هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ) وفي لفظ : ( إنه أراد قتل صاحبه ) .
فهذه الإرادة هي الحرص، وهي الإرادة الجازمة، وقد وجد معها المقدور، وهو القتال لكن عجز عن القتل، وليس هذا من الهم الذي لا يكتب، ولا يقال : إنه استحق ذلك بمجرد قوله : لو أن لي ما لفلان / لعملت مثل ما عمل، فإن تمنى الكبائر ليس عقوبته كعقوبة فاعلها بمجرد التكلم، بل لابد من أمر آخر، وهو لم يذكر أنه يعاقب على كلامه، وإنما ذكر أنهما في الوزر سواء .(185/111)
وعلى هذا فقوله : ( إن اللّه تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها مالم تكلم به أو تعمل ) لا ينافي العقوبة على الإرادة الجازمة التي لابد أن يقترن بها الفعل، فإن الإرادة الجازمة هي التي يقترن بها المقدور من الفعل، وإلا فمتى لم يقترن بها المقدور من الفعل لم تكن جازمة، فالمريد الزنا والسرقة وشرب الخمر العازم على ذلك متى كانت إرادته جازمة عازمة فلابد أن يقترن بها من الفعل ما يقدر عليه، ولو أنه يقربه إلى جهة المعصية، مثل تقرب السارق إلى مكان المال المسروق، ومثل نظر الزاني واستماعه إلى المزني به، وتكلمه معه، ومثل طلب الخمر والتماسها ونحو ذلك، فلابد مع الإرادة الجازمة من شىء من مقدمات الفعل المقدور، بل مقدمات الفعل توجد بدون الإرادة الجازمة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه : ( العينان تزنيان وزناهما النظر، واللسان يزني وزناه النطق، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) ، وكذلك حديث أبي بكرة المتفق عليه : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) . قيل : يارسول الّله ! هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ / قال : ( إنه أراد قتل صاحبه ) وفي رواية في الصحيحين : ( إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ) .
فإنه أراد ذلك إرادة جازمة فعل معها مقدوره، منعه منها من قتل صاحبه العجز، وليست مجرد هم ولا مجرد عزم على فعل مستقبل، فاستحق حينئذ النار، كما قدمنا من أن الإرادة الجازمة التي أتى معها بالممكن يجري صاحبها مجرى الفاعل التام .(185/112)
والإرادة التامة قد ذكرنا أنه لابد أن يأتي معها بالمقدور أو بعضه وحيث ترك الفعل المقدور فليست جازمة، بل قد تكون جازمة فيما فعل دون ما ترك، مع القدرة، مثل الذي يأتي بمقدمات الزنا : من اللمس، والنظر والقبلة، ويمتنع عن الفاحشة الكبرى ؛ ولهذا قال في حديث أبي هريرة الصحيح : ( العين تزنى، والأذن تزني، واللسان يزني ـ إلى أن قال ـ : والقلب يتمنى ويشتهي ) أي يتمنى الوطء ويشتهيه، ولم يقل : يريد، ومجرد الشهوة والتمني ليس إرادة جازمة، ولا يستلزم وجود الفعل، فلا يعاقب على ذلك، وإنما يعاقب إذا أراد إرادة جازمة مع القدرة والإرادة الجازمة التي يصدقها الفرج .
ومن هذا الحديث الذي في الصحيحين عن ابن مسعود : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك / له، فأنزل اللّه تعالى : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } الآية [ هود : 114 ] فقال الرجل : ألى هذه ؟ فقال : ( لمن عمل بها من أمتي ) . فمثل هذا الرجل وأمثاله لابد في الغالب أن يهم بما هو أكبر من ذلك، كما قال : ( والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . لكن إرادته القلبية للقبلة كانت إرادة جازمة، فاقترن بها فعل القبلة بالقدرة، وأما إرادته للجماع فقد تكون غير جازمة، وقد تكون جازمة، لكن لم يكن قادرا . والأشبه في الذي نزلت فيه الآية أنه كان متمكنًا لكنه لم يفعل .(185/113)
فتفريق أحمد وغيره بين هم الخطرات وهم الإصرار هو الذي عليه الجواب، فمن لم يمنعه من الفعل إلا العجز، فلابد أن يفعل ما يقدر عليه من مقدماته، وإن فعله وهو عازم على العود متى قدر فهو مصر؛ ولهذا قال ابن المبارك : المصر الذي يشرب الخمر اليوم، ثم لا يشربها إلى شهر، وفي رواية إلى ثلاثين سنة، ومن نيته أنه إذا قدر على شربها ( شربها ) . وقد يكون مصرًا إذا عزم على الفعل في وقت دون وقت، كمن يعزم على ترك المعاصي في شهر رمضان دون غيره، فليس هذا بتائب مطلقا، ولكنه تارك للفعل في شهر رمضان، ويثاب إذا كان ذلك الترك للّه وتعظيم شعائر اللّه، واجتناب محارمه في ذلك الوقت، ولكنه ليس من التائبين الذين يغفر لهم بالتوبة مغفرة مطلقة، ولا هو مصر مطلقًا . وأما الذي / وصفه ابن المبارك، فهو مصر إذا كان من نيته العود إلى شربها .
قلت : والذي قد ترك المعاصي في شهر رمضان من نيته العود إليها في غير شهر رمضان مصر أيضًا، لكن نيته أن يشربها إذا قدر عليها، غير النية مع وجود القدرة، فإذا قدر قد تبقى نيته وقد لا تبقى، ولكن متى كان مريدا إرادة جازمة لا يمنعه إلا العجز فهو معاقب على ذلك، كما تقدم .
وتقدم أن مثل هذا لابد أن يقترن بإرادته ما يتمكن من الفعل معه، وبهذا يظهر ما يذكر عن الحارث المحاسبي أنه حكى الإجماع على أن الناوي للفعل ليس بمنزلة الفاعل له، فهذا الإجماع صحيح مع القدرة، فإن الناوي للفعل القادر عليه ليس بمنزلة الفاعل، وأما الناوي الجازم الآتي بما يمكن، فإنه بمنزلة الفاعل التام، كما تقدم .(185/114)
ومما يوضح هذا : أن اللّه ـ سبحانه ـ في القرآن رتب الثواب والعقاب على مجرد الإرادة، كقوله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } [ الإسراء : 18 ] ، وقال : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ } [ هود : 15، 16 ] ، وقال : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
فرتب الثواب والعقاب على كونه يريد العاجلة، ويريد الحياة الدنيا، ويريد حرث الدنيا، وقال في آية هود : { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } إلى أن قال : { وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ هود : 15، 16 ] ، فدل على أنه كان لهم أعمال بطلت، وعوقبوا على أعمال أخرى عملوها، وإن الإرادة هنا مستلزمة للعمل، ولما ذكر إرادة الآخرة، قال : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ الإسراء : 19 ] ، وذلك لأن إرادة الآخرة وإن استلزمت عملها فالثواب إنما هو على العمل المأمور به، لا كل سعي، ولابد مع ذلك من الإيمان .(185/115)
ومنه قوله : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآية [ الأحزاب : 28 ] ، { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } [ الأحزاب : 29 ] ، فهذا نظير تلك الآية التي في سورة هود، وهذا يطابق قوله : ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما ) إلا أنه قال : ( فإنه أراد قتل صاحبه ) . أو : ( إنه كان حريصًا على قتل صاحبه ) ، فذكر الحرص والإرادة على القتل وهذا لابد أن يقترن به فعل، وليس هذا مما دخل في حديث العفو : ( إن اللّه عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ) .
ومما يبني على هذا مسألة معروفة ـ بين أهل السنة وأكثر العلماء / وبين بعض القدرية ـ وهي توبة العاجز عن الفعل، كتوبة المجبوب عن الزنا، وتوبة الأقطع العاجز عن السرقة، ونحوه من العجز، فإنها توبة صحيحة عند جماهير العلماء من أهل السنة وغيرهم . وخالف في ذلك بعض القدرية؛ بناء على أن العاجز عن الفعل لا يصح أن يثاب على تركه الفعل، بل يعاقب على تركه وليس كذلك، بل إرادة العاجز عليها الثواب والعقاب كما بينا، وبينا أن الإرادة الجازمة مع القدرة تجري مجرى الفاعل التام، فهذا العاجز إذا أتى بما يقدر عليه من مباعدة أسباب المعصية بقوله وعمله وهجرانها وتركها بقلبه، كالتائب القادر عليها سواء، فتوبة هذا العاجز عن كمال الفعل، كإصرار العاجز عن كمال الفعل .
ومما يبني على هذا المسألة المشهورة في الطلاق، وهو أنه لو طلق في نفسه وجزم بذلك ولم يتكلم به، فإنه لا يقع به الطلاق عند جمهور العلماء . وعند مالك في إحدى الروايتين يقع، وقد استدل أحمد وغيره من الأئمة على ترك الوقوع بقوله : ( إن اللّه تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ) فقال المنازع : هذا المتجاوز عنه، إنما هو حديث النفس، والجازم بذلك في النفس ليس من حديث النفس .(185/116)
فقال المنازع لهم : قد قال : ( ما لم تكلم به أو تعمل به ) ، فأخبر أن التجاوز عن حديث النفس امتد إلى هذه الغاية التي هي الكلام به / والعمل به، كما ذكر ذلك في صدر السؤال من استدلال بعض الناس وهو استدلال حسن، فإنه لو كان حديث النفس إذا صار عزمًا ولم يتكلم به أو يعمل يؤاخذ به ؛ لكان خلاف النص، لكن يقال : هذا في المأمور صاحب المقدرة التي يمكن فيها الكلام والعمل، إذا لم يتكلم ولم يعمل، وأما الإرادة الجازمة المأتي فيها بالمقدور فتجرى مجرى التي أتى معها بكمال العمل، بدليل الأخرس لما كان عاجزا عن الكلام، وقد يكون عاجزا عن العمل باليدين ونحوهما، لكنه إذا أتى بمبلغ طاقته من الإشارة جرى ذلك مجرى الكلام من غيره، والأحكام والثواب والعقاب وغير ذلك .
وأما الوجه الآخر الذي احتج به وهو أن العزم والهم داخل في حديث النفس المعفو عنه مطلقًا فليس كذلك، بل إذا قيل : إن الإرادة الجازمة مستلزمة لوجود فعل ما يتعلق به الذم والعقاب وغير ذلك، يصح ذلك، فإن المراد إن كان مقدورا مع الإرادة الجازمة؛ وجب وجوده، وإن كان ممتنعًا فلابد مع الإرادة الجازمة من فعل بعض مقدماته، وحيث لم يوجد فعل أصلا فهو هم، وحديث النفس ليس إرادة جازمة ولهذا لم يجئ في النصوص العفو عن مسمى الإرادة والحب والبغض والحسد والكبر والعجب وغير ذلك من أعمال القلوب، إذ كانت هذه الأعمال حيث وقع عليهم ذم وعقاب فلأنها تمت حتى صارت قولا وفعلا .
/وحينئذ قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه تجاوز لأمتي ) الحديث حق، والمؤاخذة بالإرادات المستلزمة لأعمال الجوارح حق، ولكن طائفة من الناس قالوا : إن الإرادة الجازمة قد تخلو عن فعل أو قول، ثم تنازعوا في العقاب عليها، فكان القاضي أبو بكر ومن تبعه كأبي حامد وأبي الفرج بن الجوزي يرون العقوبة على ذلك، وليس معهم دليل على أنه يؤاخذ إذا لم يكن هناك قول أو عمل .(185/117)
والقاضي بناها على أصله في الإيمان الذي اتبع فيه جهمًا والصالحي، وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري، وهو أن الإيمان مجرد تصديق القلب، ولو كذب بلسانه، وسب اللّه ورسوله بلسانه، وإن سب اللّه ورسوله إنما هو كفر في الظاهر، وأن كلما كان كفرًا في نفس الأمر، فإنه يمتنع أن يكون معه شيء من تصديق القلب، وهذا أصل فاسد في الشرع والعقل، حتى أن الأئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبي عبيدة وغيرهم كفروا من قال في الإيمان بهذا القول، بخلاف المرجئة من الفقهاء الذين يقولون : هو تصديق القلب واللسان، فإن هؤلاء لم يكفرهم أحد من الأئمة، وإنما بدعوهم .
وقد بسط الكلام في الإيمان وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع، وبين أن من الناس من يعتقد وجود الأشياء بدون لوازمها، فيقدر ما لا وجود له .
/وأصل جهم في الإيمان تضمن غلطًا من و جوه :
منها : ظنه أنه مجرد تصديق القلب ومعرفته بدون أعمال القلب، كحب اللّه وخشيته ونحو ذلك .
ومنها : ظنه ثبوت إيمان قائم في القلب بدون شيء من الأقوال والأعمال .
ومنها : ظنه أن من حكم الشرع بكفره وخلوده في النار، فإنه يمتنع أن يكون في قلبه شيء من التصديق، وجزموا بأن إبليس وفرعون واليهود ونحوهم لم يكن في قلوبهم شيء من ذلك . وهذا كلامهم في الإرادة والكراهة والحب والبغض ونحو ذلك، فإن هذه الأمور إذا كانت هما وحديث نفس فإنه معفو عنه، وإذا صارت إرادة جازمة وحبًا وبغضًا؛ لزم وجود الفعل ووقوعه، وحينئذ فليس لأحد أن يقدر وجودها مجردة، ثم يقول : ليس فيها إثم، وبهذا يظهر الجواب عن حجة السائل .(185/118)
فإن الأمة مجمعة على أن اللّه يثيب على محبته ومحبة رسوله، والحب فيه والبغض فيه، ويعاقب على بغضه وبغض رسوله، وبغض أوليائه، وعلى محبة الأنداد من دونه، وما يدخل في هذه المحبة من الإرادات / والعزوم، فإن المحبة سواء كانت نوعًا من الإرادة أو نوعًا آخر مستلزمًا للإرادة، فلابد معها من إرادة وعزم، فلا يقال : هذا من حديث النفس المعفو عنه، بل كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي : ( أوثق عرى الإيمان : الحب في اللّه، والبغض في اللّه ) ، وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) ، وفي صحيح البخاري عن عبد الّله بن هشام قال : كنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال عمر : لأنت يا رسول اللّه أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا، والذي نفسي بيده ! حتى أكون أحب إليك من نفسك ) ، فقال عمر : فإنك الآن أحب إلي من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الآن ياعمر ! ) ، بل قد قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] .(185/119)
فانظر إلى هذا الوعيد الشديد الذي قد توعد اللّه به من كان أهله وماله أحب إليه من اللّه ورسوله وجهاد في سبيله، فعلم أنه يجب / أن يكون اللّه ورسوله والجهاد في سبيله أحب إلى المؤمن من الأهل والمال والمساكن والمتاجر والأصحاب والإخوان، وإلا لم يكن مؤمنًا حقًا، ومثل هذا ما في الصحيحين عن أنس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا للّه، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع في الكفر، وحتى يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ) وهذا لفظ البخاري، فأخبر أنه لا يجد أحد حلاوة الإيمان إلا بهذه المحبات الثلاث :
أحدها : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه من سواهما، وهذا من أصول الإيمان المفروضة التي لا يكون العبد مؤمنًا بدونها .
الثاني : أن يحب العبد لا يحبه إلا للّه وهذا من لوازم الأول .
والثالث : أن يكون إلقاؤه في النار أحب إليه من الرجوع إلى الكفر .
وكذلك التائب من الذنوب من أقوى علامات صدقه في التوبة هذه الخصال، محبة اللّه ورسوله، ومحبة المؤمنين فيه، وإن كانت متعلقة بالأعيان ليست من أفعالنا كالإرادة المتعلقة بأفعالنا، فهي مستلزمة لذلك، فإن من كان اللّه ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وماله لابد / أن يريد من العمل ما تقتضيه هذه المحبة، مثل إرادته نصر اللّه ورسوله ودينه والتقريب إلى اللّه ورسوله، ومثل بغضه لمن يعادي اللّه ورسوله .(185/120)
ومن هذا الباب : ما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحاح من حديث ابن مسعود وأبي موسى وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المرء مع من أحب ) ، وفي رواية : ( الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ) أي ولما يعمل بأعمالهم، فقال : ( المرء مع من أحب ) . قال أنس : فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يجعلني اللّه معهم، وإن لم أعمل عملهم، وهذا الحديث حق، فإن كون المحب مع المحبوب أمر فطري لا يكون غير ذلك، وكونه معه هو على محبته إياه، فإن كانت المحبة متوسطة أو قريبا من ذلك كان معه بحسب ذلك، وإن كانت المحبة كاملة كان معه كذلك، والمحبة الكاملة تجب معها الموافقة للمحبوب في محابه، إذا كان المحب قادرًا عليها، فحيث تخلفت الموافقة مع القدرة يكون قد نقص من المحبة بقدر ذلك، وإن كانت موجودة .
وحب الشيء وإرادته يستلزم بغض ضده وكراهته، مع العلم بالتضاد؛ ولهذا قال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ المجادلة : 22 ] ، والموادة من أعمال القلوب .(185/121)
فإن الإيمان باللّه يستلزم مودته ومودة رسوله، وذلك يناقض موادة من حاد اللّه ورسوله، وما ناقض الإيمان فإنه يستلزم الذم والعقاب؛ لأجل عدم الإيمان . فإن ما ناقض الإيمان كالشك والإعراض وردة القلب، وبغض اللّه ورسوله يستلزم الذم والعقاب لكونه تضمن ترك المأمور مما أمر اللّه به رسوله، فاستحق تاركه الذم والعقاب وأعظم الواجبات إيمان القلب، فما ناقضه استلزم الذم والعقاب لتركه هذا الواجب، بخلاف ما استحق الذم لكونه منهيًا عنه كالفواحش والظلم، فإن هذا هو الذي يتكلم في الهم به وقصده، إذا كان هذا لا يناقض أصل الإيمان، وإن كان يناقض كماله، بل نفس فعل الطاعات يتضمن ترك المعاصي، ونفس ترك المعاصي يتضمن فعل الطاعات، ولهذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالصلاة تضمنت شيئين :
أحدهما : نهيها عن الذنوب .
والثاني : تضمنها ذكر اللّه، وهو أكبر الأمرين، فما فيها من ذكر اللّه أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر، ولبسط هذا موضع آخر .
/والمقصود هنا أن المحبة التامة للّه ورسوله تستلزم وجود محبوباته؛ ولهذا جاء في الحديث الذي في الترمذي : ( من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه؛ فقد استكمل الإيمان ) ، فإنه إذا كان حبه للّه، وبغضه للّه، وهما عمل قلبه، وعطاؤه للّه، ومنعه للّه، وهما عمل بدنه؛ دل على كمال محبته للّه، ودل ذلك على كمال الإيمان؛ وذلك أن كمال الإيمان أن يكون الدين كله للّه، وذلك عبادة اللّه وحده لا شريك له، والعبادة تتضمن كمال الحب، وكمال الذل، والحب مبدأ جميع الحركات الإرادية، ولابد لكل حي من حب وبغض، فإذا كانت محبته لمن يحبه اللّه، وبغضه لمن يبغضه اللّه؛ دل ذلك على صحة الإيمان في قلبه، لكن قد يقوى ذلك وقد يضعف، بما يعارضه من شهوات النفس وأهوائها، الذي يظهر في بذل المال الذي هو مادة النفس، فإذا كان حبه للّه، وعطاؤه للّه، ومنعه لله؛ دل على كمال الإيمان باطنًا وظاهرًا .(185/122)
وأصل الشرك في المشركين ـ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ـ إنما هو اتخاذ أنداد يحبونه كحب اللّه، كما قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، ومن كان حبه للّه وبغضه للّه، لا يحب إلا للّه، ولا يبغض إلا للّه، ولا يعطي إلا للّه، ولا يمنع إلا للّه، فهذه حال السابقين من أولياء اللّه كما روى البخاري / في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه : من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ) . فهؤلاء الذين أحبوا اللّه محبة كاملة تقربوا بما يحبه من النوافل، بعد تقربهم بما يحبه من الفرائض، أحبهم اللّه محبة كاملة حتى بلغوا ما بلغوه، وصار أحدهم يدرك باللّه، ويتحرك باللّه، بحيث إن اللّه يجيب مسألته، ويعيذه مما استعاذ منه .(185/123)
وقد ذم في كتابه من أحب أندادا من دونه، قال تعالى : { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } [ البقرة : 93 ] ، وذم من اتخذ إلهه هواه وهو أن يتأله ما يهواه ويحبه، وهذا قد يكون فعل القلب فقط، وقد مدح تعالى وذم في كتابه في غير موضع على المحبة والإرادة والبغض والسخط والفرح والغم، ونحو ذلك من أفعال القلوب كقوله : { ِوَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقوله : { كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ . وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ } [ القيامة : 20، 21 ] ، / وقوله : { يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } [ الإنسان : 27 ] .
وقوله : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } [ آل عمران : 120 ] ، وقوله : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر : 45 ] ، وقوله : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } [ الحج : 72 ] ، وقوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] ، وقوله : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 105 ] ، وقوله : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] .(185/124)
وقوله : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] ، وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 9 ] ، وقوله : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } الآية [ التوبة : 124 ] ، وقوله : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } [ الرعد : 36 ] ، وقوله : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا } [ يونس : 58 ] .(185/125)
وقال : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } [ القصص : 76 ] ، وقال : { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } [ غافر : 75 ] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [ لقمان : 18 ] ، وقال : { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } [ الشورى : 48 ] ، وقال : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ . وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ . إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ هود : 9-11 ] ، وقال : { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } [ الفجر : 20 ] ، وقال : { إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ . وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ . وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 6-8 ] ، وقال : { وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] ، وقال : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [ الحجر : 56 ] .(185/126)
وقال : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ فصلت : 23 ] ، وقال : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا } [ الفتح : 12 ] ، وقال : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] ، وقال : { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ الفلق : 5 ] ، وقال : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } [ الحشر : 9 ] ، وقال : { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . هَاأَنْتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ } [ آل عمران : 118، 119 ] ، وقال : { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } [ محمد : 37 ] ، وقال : { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ . وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } [ العاديات : 9، 10 ] ، وقال : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] ، وقال : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] ، وقال : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 12 ] ، وقال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [ المائدة : 41 ] ، وقال : { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] .(185/127)
ومثل هذا كثير في كتاب اللّه وسنة رسوله واتفاق المؤمنين يحمد ويذم على ما شاء اللّه من مساعي القلوب وأعمالها، مثل قوله في الحديث الصحيح المتفق عليه : ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ) ، وقوله : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه ) ، وقوله : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ، وقوله : ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) ، و ( لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) ، وقوله : ( لا تسموا العنب الكرم، وإنما الكرم قلب المؤمن ) وأمثال هذا كثير .
بل قول القلب وعمله هو الأصل، مثل تصديقه وتكذيبه وحبه وبغضه، من ذلك ما يحصل به مدح وذم وثواب وعقاب بدون فعل الجوارح الظاهرة، ومنه ما لا يقترن به ذلك إلا مع الفعل بالجوارح الظاهرة / إذا كانت مقدورة، وأما ما ترك فيه فعل الجوارح الظاهرة للعجز عنه فهذا حكم صاحبه حكم الفاعل، فأقوال القلب وأفعاله ثلاثة أقسام :
أحدها : ما هو حسنة وسيئة بنفسه .
وثانيها : ما ليس سيئة بنفسه حتى يفعل، وهو السيئة المقدورة كما تقدم .
وثالثها : ما هو مع العجز كالحسنة والسيئة المفعولة، وليس هو مع القدرة كالحسنة والسيئة المفعولة، كما تقدم .(185/128)
فالقسم الأول : هو ما يتعلق بأصول الإيمان من التصديق والتكذيب، والحب والبغض، وتوابع ذلك؛ فإن هذه الأمور يحصل فيها الثواب والعقاب، وعلو الدرجات، وأسفل الدركات، بما يكون في القلوب من هذه الأمور، وإن لم يظهر على الجوارح، بل المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة، وإنما عقابهم وكونهم في الدرك الأسفل من النار على ما في قلوبهم من الأمراض، وإن كان ذلك قد يقترن به أحيانًا بغض القول والفعل، لكن ليست العقوبة مقصورة على ذلك البغض اليسير، وإنما ذلك البغض دلالة كما قال تعالى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [ محمد : 30 ] ، فأخبر أنهم لابد أن يعرفوا في لحن القول .
وأما القسم الثاني، والثالث : فمظنة الأفعال التي لا تنافى أصول الإيمان، مثل المعاصي الطبعية، مثل الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من مات يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، دخل الجنة، وإن زنا وإن سرق، وإن شرب الخمر ) ، وكما شهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للرجل الذي كان يكثر شرب الخمر، وكان يجلده كلما جيء به فلعنه رجل، فقال : ( لا تلعنه فإنه يحب اللّه ورسوله ) ، وفي رواية قال بعضهم : أخزاه اللّه ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تكونوا أعوانًا للشيطان على أخيكم ) وهذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة .(185/129)
ولهذا قال : ( إن اللّه تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به ) ، والعفو عن حديث النفس إنما وقع لأمة محمد المؤمنين باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فعلم أن هذا العفو هو فيما يكون من الأمور التي لا تقدح في الإيمان، فأما ما نافى الإيمان فذلك لا يتناوله لفظ الحديث؛لأنه إذا نافى الإيمان لم يكن صاحبه من / أمة محمد في الحقيقة، ويكون بمنزلة المنافقين، فلا يجب أن يعفى عما في نفسه من كلامه أو عمله، وهذا فرق بين يدل عليه الحديث، وبه تأتلف الأدلة الشرعية، وهذا كما عفا اللّه لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، كما دل عليه الكتاب والسنة، فمن صح إيمانه عفى له عن الخطأ والنسيان، وحديث النفس، كما يخرجون من النار، بخلاف من ليس معه الإيمان فإن هذا لم تدل النصوص على ترك مؤاخذته بما في نفسه وخطئه ونسيانه؛ ولهذا جاء : ( نية المؤمن خير من عمله ) هذا الأثر رواه أبو الشيخ الأصبهاني في [ كتاب الأمثال ] من مراسيل ثابت البناني، وقد ذكره ابن القيم في النية من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضعفها، فاللّه أعلم .
فإن النية يثاب عليها المؤمن بمجردها، وتجرى مجرى العمل إذا لم يمنع من العمل بها إلا العجز، ويمكنه ذلك في عامة أفعال الخير، وأما عمل البدن فهو مقيد بالقدرة، وذلك لا يكون إلا قليلا؛ ولهذا قال بعض السلف : قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في بدنه، وقوة المنافق في بدنه، وضعفه في قلبه .(185/130)
وقد دل على هذا الأصل قوله تعالى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } الآية [ البقرة : 284 ] ، وهذه الآية وإن كان قد قال طائفة من السلف : إنها منسوخة كما روى البخاري في صحيحه عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو ابن عمر ـ أنها نسخت، فالنسخ في لسان السلف أعم مما هو في لسان المتأخرين، يريدون به رفع الدلالة مطلقا، وإن كان تخصيصًا للعام أو تقييدا للمطلق، وغير ذلك، كما هو معروف في عرفهم، وقد أنكر آخرون نسخها لعدم دليل ذلك، وزعم قوم أن ذلك خبر، والخبر لا ينسخ، ورد آخرون بأن هذا خبر عن حكم شرعي، كالخبر الذي بمعنى الأمر والنهي .
والقائلون بنسخها يجعلون الناسخ لها الآية التي بعدها وهي قوله : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أنس في هذه الآية، فيكون المرفوع عنهم ما فسرت به الأحاديث، وهو ما هموا به وحدثوا به أنفسهم من الأمور المقدورة، ما لم يتكلموا به أو يعملوا به، ورفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . كما روى ابن ماجه وغيره بإسناد حسن : ( إن اللّه تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .
وحقيقة الأمر : أن قوله سبحانه : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } [ البقرة : 284 ] ، لم يدل على المؤاخذة بذلك؛ بل دل على المحاسبة به، ولا / يلزم من كونه يحاسب أن يعاقب؛ ولهذا قال : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء } لا يستلزم أنه قد يغفر ويعذب بلا سبب ولا ترتيب، ولا أنه يغفر كل شيء، أو يعذب على كل شيء، مع العلم بأنه لا يعذب المؤمنين، وأنه لا يغفر أن يشرك به إلا مع التوبة، ونحو ذلك .(185/131)
والأصل أن يفرق بين ما كان مجامعًا لأصل الإيمان وما كان منافيًا له، ويفرق أيضًا بين ما كان مقدورًا عليه فلم يفعل، وبين ما لم يترك إلا للعجز عنه، فهذان الفرقان هما فصل في هذه المواضيع المشتبهة .
وقد ظهر بهذا التفصيل أن أصل النزاع في المسألة إنما وقع لكونهم رأوا عزمًا جازمًا لا يقترن به فعل قط، وهذا لا يكون إلا إذا كان الفعل مقارنًا للعزم، وإن كان العجز مقارنًا للإرادة؛ امتنع وجود المراد، لكن لا تكون تلك إرادة جازمة، فإن الإرادة الجازمة لما هو عاجز عنه ممتنعة أيضًا، فمع الإرادة الجازمة يوجد ما يقدر عليه من مقدمات الفعل ولوازمه، وإن لم يوجد الفعل نفسه .
والإنسان يجد من نفسه : أن مع قدرته على الفعل يقوى طلبه والطمع فيه وإرادته، ومع العجز عنه يضعف ذلك الطمع، وهو لا يعجز عما يقوله ويفعله على السواء، ولا عما يظهر على صفحات وجهه، /وفلتات لسانه، مثل بسط الوجه وتعبسه، وإقباله على الشيء والإعراض عنه، وهذه وما يشبهها من أعمال الجوارح التي يترتب عليها الذم والعقاب، كما يترتب عليها الحمد والثواب .
وبعض الناس يقدر عزما جازما لا يقترن به فعل قط، وهذا لا يكون إلا لعجز يحدث بعد ذلك من موت أو غيره، فسموا التصميم على الفعل في المستقبل عزما جازمًا، ولا نزاع في إطلاق الألفاظ؛ فإن من الناس من يفرق بين العزم والقصد فيقول : ما قارن الفعل فهو قصد، وما كان قبله فهو عزم . ومنهم من يجعل الجميع سواء، وقد تنازعوا : هل تسمى إرادة اللّه لما يفعله في المستقبل عزمًا ؟ وهو نزاع لفظي؛ لكن ما عزم الإنسان عليه أن يفعله في المستقبل، فلابد حين فعله من تجدد إرادة، غير العزم المتقدم، وهي الإرادة المستلزمة لوجود الفعل مع القدرة، وتنازعوا أيضًا : هل يجب وجود الفعل مع القدرة والداعي ؟ وقد ذكروا أيضًا في ذلك قولان .
والأظهر أن القدرة مع الداعي التام تستلزم وجود المقدور، والإرادة مع القدرة تستلزم وجود المراد .(185/132)
والمتنازعون في هذه أراد أحدهم إثبات العقاب مطلقًا على كل عزم على فعل مستقبل، وإن لم يقترن به فعل، وإرادة الآخر رفع العقاب / مطلقًا عن كل ما في النفس من الإرادات الجازمة ونحوها، مع ظن الاثنين أن ذلك الواحد لم يظهر بقول ولا عمل، وكل من هذين انحراف عن الوسط .
فإذا عرف أن الإرادة الجازمة لا يتخلف عنها الفعل مع القدرة إلا لعجز يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في الثواب والعقاب . وأما إذا تخلف عنها ما يقدر عليها فذلك المتخلف لا يكون مرادًا إرادة جازمة، بل هو الهم الذي وقع العفو عنه، وبه ائتلفت النصوص والأصول .
ثم هنا مسائل كثيرة فيما يجتمع في القلب من الإرادات المتعارضة كالاعتقادات المتعارضة، وإرادة الشيء وضده، مثل شهوة النفس للمعصية وبغض القلب لها، ومثل حديث النفس الذي يتضمن الكفر إذا قارنه بعض ذلك والتعوذ منه، كما شكا أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليه فقالوا : إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة، أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به . فقال : ( أو قد وجدتموه ؟ ! ) فقالوا : نعم . قال : ( ذلك صريح الإيمان ) رواه مسلم من حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وفيه : ( الحمد للّه الذي رد كيده إلى الوسوسة ) .(185/133)
وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان / به على الجواب، فإن له موارد واسعة . فهنا لما اقترن بالوسواس هذا البغض وهذه الكراهة، كان هو صريح الإيمان، وهو خالصه ومحضه؛ لأن المنافق والكافر لا يجد هذا البغض، وهذه الكراهة مع الوسوسة بذلك، بل إن كان في الكفر البسيط، وهو الإعراض عما جاء به الرسول، وترك الإيمان به ـ وإن لم يعتقد تكذيبه ـ فهذا قد لا يوسوس له الشيطان بذلك، إذ الوسوسة بالمعارض المنافي للإيمان إنما يحتاج إليها عند وجود مقتضيه، فإذا لم يكن معه ما يقتضي الإيمان لم يحتج إلى معارض يدفعه، وإن كان في الكفر المركب وهو التكذيب فالكفر فوق الوسوسة، وليس معه إيمان يكره به ذلك .
ولهذا لما كانت هذه الوسوسة عارضة لعامة المؤمنين، كما قال تعالى : { أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ } الآيات [ الرعد : 17 ] . فضرب اللّه المثل لما ينزله من الإيمان والقرآن بالماء الذي ينزل في أودية الأرض، وجعل القلوب كالأودية، منها الكبير، ومنها الصغير كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وشربوا، وكانت منها طائفة إنما هي / قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين اللّه ونفعه اللّه بما بعثني به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به ) فهذا أحد المثلين .(185/134)
والمثل الآخر ما يوقد عليه لطلب الحلية والمتاع، من معادن الذهب والفضة والحديد ونحوه، وأخبر أن السيل يحتمل زبدًا رابيًا ومما يوقدون عليه في النار زبد مثله، ثم قال : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ } [ الرعد : 17 ] ، الرابي على الماء وعلى الموقد عليه فهو نظير ما يقع في قلوب المؤمنين من الشك والشبهات في العقائد والإرادات الفاسدة كما شكاه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى : { فَيَذْهَبُ جُفَاءً } يجفوه القلب فيرميه ويقذفه كما يقذف الماء الزبد ويجفوه { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } وهو مثل ما ثبت في القلوب من اليقين والإيمان، كما قال تعالى : { مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ } الآية، إلى قوله : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 24 ـ 27 ] .
فكل ما وقع في قلب المؤمن من خواطر الكفر والنفاق فكرهه وألقاه ازداد إيمانًا ويقينًا، كما أن كل من حدثته نفسه بذنب فكرهه ونفاه عن نفسه وتركه للّه ازداد صلاحًا وبرًا وتقوى .
/وأما المنافق فإذا وقعت له الأهواء والآراء المتعلقة بالنفاق لم يكرهها ولم ينفها، فإنه قد وجدت منه سيئة الكفر من غير حسنة إيمانية تدفعها أو تنفيها، والقلوب يعرض لها الإيمان والنفاق، فتارة يغلب هذا، وتارة يغلب هذا .(185/135)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ) كما في بعض ألفاظه في الصحيح، هو مقيد بالتجاوز للمؤمنين، دون من كان مسلمًا في الظاهر، وهو منافق في الباطن وهم كثيرون في المتظاهرين بالإسلام قديمًا وحديثًا . وهم في هذه الأزمان المتأخرة في بعض الأماكن أكثر منهم في حال ظهور الإيمان في أول الأمر، فمن أظهر الإيمان وكان صادقًا مجتنبًا ما يضاده أويضعفه يتجاوز له عما يمكنه التكلم به والعمل به، دون ما ليس كذلك . كما دل عليه لفظ الحديث .
فالقسمان اللذان بينا أن العبد يثاب فيهما ويعاقب على أعمال القلوب خارجة من هذا الحديث، وكذلك قوله : ( من هم بحسنة ) ، ( من هم بسيئة ) إنما هو في المؤمن الذي يهم بسيئة أو حسنة يمكنه فعلها فربما فعلها وربما تركها؛ لأنه أخبر أن الحسنة تضاعف بسبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .
/وهذا إنما هو لمن يفعل الحسنات للّه . كما قال تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ البقرة : 261 ] ، و { ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } [ البقرة : 265 ] ، و { ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ } [ الليل : 20 ] وهذا للمؤمنين؛ فإن الكافر وإن كان اللّه يطعمه بحسناته في الدنيا، وقد يخفف عنه بها في الآخرة، كما خفف عن أبي طالب لإحسانه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يوعد لكافر على حسناته بهذا التضعيف، وقد جاء ذلك مقيدًا في حديث آخر : إنه في المسلم الذي هو حسن الإسلام .
واللّه ـ سبحانه ـ أعلم، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(185/136)
مجموع فتاوى ابن تيمية – 11 – المجلد الحادي عشر
(الآداب والتصوف)
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
سُئِلَ شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحَهُ ـ عن ( الصوفية )
سئل في رجل يقول : إن الفقر لم نتعبد به
سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَم عن أهل الصفة
فصل في حال أهل الصفة
فصل فيمن قال : إن أحدًا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار
فصل في تخطئة من فضل [ أهل الصفة ] على العشرة وغيرهم
فصل في حكم سماع المكاء والتصدية
فصل في تفسير قوله تعالى: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ }
فصل في الحديث المروي : ( ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله )
فصل في من هم أولياء الله؟
فصل في الفقراء
سئل : عن قوم يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى باب [ أهل الصفة ] فاستأذن
سئل ـ رحمه الله ـ عن قوم يروون عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحاديث لا سند لهم بها
سئل عن [ الفتوة ] المصطلح عليها . . . إلخ
سئل الشيخ في جماعة يجتمعون في مجلس، ويلبسون لشخص منهم لباس [ الفتوة ]
فصل في الشروط التي تشترطها شيوخ [ الفتوة ]
فصل في معنى لفظ [ الفتى ]
فصل: في بشرية النبي
فصل في المؤاخاة
فصل عن الشيخ [ عدي بن مسافر بن صخر ]
سئل: هل تخلل أبو بكر بالعباءة ؟ وتخللت الملائكة لأجله بالعباءة أو لا ؟
سئل عن معنى قول : [ حب الدنيا رأس كل خطيئة ] فهل هي من جهة المعاصي ؟ أو من جهة جمع المال ؟
سئل ــ رحمه الله ــ عما يذكر من قولهم : اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة ؟
فصل: قول القائل : نحن في بركة فلان، أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة
سئل عن رجل [ متصوف ] قال لإنسان ــ في كلام جرى بينهم : فقراء الأسواق
سئل عمن قال : إن [ الفقير، والغني ] لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى(186/1)
فصل : أيهما أفضل [ الفقير الصابر،أو الغني الشاكر ] ؟
سئل عن [ الحمد والشكر ] ما حقيقتهما ؟ هل هما معنى واحد، أو معنيان ؟
تلخيص مناظرة في [ الحمد والشكر ]
العلاقة بين الحمد والشكر
أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
فصل في التفرقة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
فصل في العبد يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق
فصل في طبقات أولياء الله
فصل في أولياء الله المقتصدين والسابقين
فصل في تفاضل الناس في الإيمان والتقوى والولاية
فصل في الإيمان المجمل بالرسل
فصل في العبد لا يكون وليًا لله إلا إذا كان مؤمنًا تقيًا
فصل في ليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور
فصل في ليس من شرط ولي الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ
فصل في حقيقة الدين
فصل في كون الأنبياء أفضل من الأولياء
فصل في اشتباه الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية
فصل في الفرق بين الأمور الكونية والأمور الشرعية
فصل في كون رسالة محمد إلى جميع الإنس والجن
فصل في الأمور الخارقة
فصل في كلمات الله تعالى
فصل في العلم بالكائنات
فصل في تكلم طائفة من الصوفية في [ خاتم الأولياء ]
فصل في تَكَلُّم أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي في كتاب [ ختم الولاية ] بكلام مردود
فصل في قول القاضي أبو يعلى في عيون المسائل
سئل: أيهما أولى معالجة ما يكره الله من القلب أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة؟
سئل هل قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( زدني فيك تحيرًا ؟ )
سئل عن رجل يحب رجلاً عالمًا . فإذا التقيا ثم افترقا حصل لذلك الرجل شبه الغشى
سئل: ما الحكمة في أن المشتغلين بالذكر والفكر والرياضة ومجاهدة النفس وما أشبهه يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات؟
سئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن قوم داوموا على [ الرياضة ] مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا
سئل شيخ الإسلام عن الحديث المروي في الأبدال : هل هو صحيح أو مقطوع ؟(186/2)
ما قاله شيخ الإسلام عن [البطائحية]
فصل في موقف الشيخ من الذين يصرون على الابتداع في الدين
سئل شيخ الإسلام عن [ المرشدة ] كيف كان أصلها وتأليفها ؟
سئل عن رجل تخاطب هو وإنسان على من قرأ [ المرشدة ]
سئل شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه ـ عن قوم منتسبين إلى المشائخ
فصل في ذكر غلوهم في الشيوخ
فصل في فساد الأولاد
فصل في [ النذر للموتى ] من الأنبياء والمشائخ وغيرهم
فصل في مؤاخاة الرجال النساء الأجانب
فصل في الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم
فصل في قول القائل لمن أنكر عليه : أنت شرعي
فصل في كون الأمر بالمعروف هو الحق الذي بعث الله به رسوله
فصل في لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشائخ المريدين
فصل في قول القائل : أنت للشيخ فلان، وهو شيخك في الدنيا والآخرة
فصل في قول القائل : إن الله يرضى لرضا المشائخ، ويغضب لغضبهم
فصل في قوله صلى الله عليه وسلم : ( المرء مع من أحب )
سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد
سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عما أحدثه الفقراء المجردون
ما تقول السادة الأعلام في صفة سماع الصالحين
سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن [ السماع ]
سئل عمن قال : إن السماع على الناس حرام وعليَّ حلال هل يفسق في ذلك أو لا ؟
سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف
سئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص
سئل عن الذين يعملون النار والإشارات
سئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته
سئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل
سئل شيخ الإسلام عن [ جماعة ] يجتمعون على قصد الكبائر
فصل في متابعة الكلام في [ المكاشفات، والمشاهدات ]
فصل في الكون يقظة ومنامًا
سئل شيخ الإسلام عمن يقول : إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب
سئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار
سئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن(186/3)
سئل ـ رضي الله عنه ـ عن شرب الخمر وفعل الفاحشة
سئل الشيخ ـ رحمه الله ـ عن رجل مدمن على المحرمات
فصل في كل من تاب من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه
فصل في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات
فصل في المقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين
فصل في إخبار الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول
فصل في أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه
فصل فيما يستغفر ويتاب منه
سئل رحمه الله عن قوله : [ ما أصر من استغفر]
سئل عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم . هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام ؟
كتاب التّصًوُّف
/بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=216 - TOP#TOPسُئِلَ شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحَهُ ـ عن ( الصوفية ) وأنهم أقسام و ( الفقراء ) أقسام، فما صفة كل قسم ؟ وما يجب عليه ويستحب له أن يسلكه ؟
فأجاب :
الحمد للّه . أما لفظ ( الصوفية ) : فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ؛ كالإمام أحمد ابن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما . وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي / أضيف إليه الصوفي، فإنه من أسماء النسب؛ كالقرشي، والمدني، وأمثال ذلك .(186/4)
فقيل : إنه نسبة إلى ( أهل الصفة ) وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صُفِّيّ . وقيل : نسبة إلى الصف المقدم بين يدي اللّه، وهو أيضًا غلط؛ فإنه لو كان كذلك لقيل : صَفِّيّ . وقيل : نسبة إلى الصفوة من خلق اللّه وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صفوي . وقيل : نسبة إلى صوفة بن بشر بن أدِّ بن طابخة، قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقًا للنسب من جهة اللفظ، فإنه ضعيف أيضًا؛ لأن هؤلاء غير مشهورين، ولا معروفين عند أكثر النساك، ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، ولأن غالب من تكلم باسم ( الصوفى ) لا يعرف هذه القبيلة، ولا يرضى أن يكون مضافًا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام .
وقيل ـ وهو المعروف ـ : إنه نسبة إلى لبس الصوف؛ فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد [ عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة البصرى شيخ الصوفية وواعظهم، لحق الحسن البصرى وغيره . قال البخارى : تركوه . وقال النسائى : متروك الحديث . وقال الجوزجانى : سيئ المذهب، ليس من معادن الصدق . توفى بعد الخمسين ومائة من الهجرة . [ سير أعلام النبلاء 7/178 ـ 180، ميزان الاعتدال 2/372، 376 ] .
وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان فى البصرة من المبالغة فى الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، /مالم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال : فقه كوفي، وعبادة بصرية . وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال : إن قوما يتخيرون الصوف، يقولون : أنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا .(186/5)
ولهذا غالب ما يحكي من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشى عليه في سماع القرآن، ونحوه .
كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } [ المدثر : 8 ] فخر ميتا، وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات، وكذلك غيره ممن روى أنهم ماتوا باستماع قراءته، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين : كأسماء بنت أبي بكر، وعبد اللّه بن الزبير، ومحمد بن سيرين، ونحوهم .
والمنكرون لهم مأخذان :
منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا . يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال : ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ / على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق .
ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدى الصحابة، كما نقل عن أسماء، وابنهاعبد اللّه .
والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه، وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا . فقال : قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى ابن سعيد، فما رأيت أعقل منه، ونحو هذا . وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة، وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه .(186/6)
لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود، كما قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] وقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] . وقال تعَالى : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] ، وقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] وقال : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 109 ] .
وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها، والجفاء عن الدين، ماهو مذموم، وقد فعلوا، ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها، وكلاطرفي هذه الأمور ذميم .
بل المراتب ثلاث :(186/7)
أحدها : حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب، لا يلين للسماع والذكر، وهؤلاء فيهم شبه من اليهود . قال اللّه تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ] وقال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] .
والثانية : حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه، فهذا الذي يصعق صعق موت، أو صعق غشي، فإن ذلك/ إنما يكون لقوة الوارد، وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية، يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله . ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه، وكذلك في غيره، ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه، بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله، أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك .(186/8)
فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه، فلا وجه للريبة . كمن سمع القرآن السماع الشرعي، ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفنا، ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما، بل معذورا فإن السكران بلا تمييز، وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة فإنه يحرم بلانزاع بين المسلمين، ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر، وقد يحصل بسبب محبة الصور وعشقها كما قيل :
سكران : سكر هوى، وسكر مدامة**ومتى إفاقة من به سكران
/وهذا مذموم، لأن سببه محظور، وقد يحصل بسبب سماع الأصوات المطربة التي تورث مثل هذا السكر، وهذا أيضًا مذموم، فإنه ليس للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله؛ إذ إزالة العقل محرم . ومتي أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرما، وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان، فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل، ولم يأذن لنا اللّه أن نمتع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات الإيمان ولا غيرها بما يوجب زوال عقولنا؛ بخلاف من زال عقله بسبب مشروع، أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه .
وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه، كسماع لم يقصده يهيج قاطنه، ويحرك ساكنه، ونحو ذلك . وهذا لا ملام عليه فيه، وما صدر عنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور؛ لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم، كالمغمي عليه والمجنون ونحوهما .
ومن زال عقله بالخمر . فهل هو مكلف حال زوال عقله ؟ فيه قولان مشهوران، وفي طلاق من هذه حاله نزاع مشهور، ومن زال عقله بالبنج يلحق به، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وقيل يفرق بينه وبين الخمر؛ لأن هذا يشتهي، وهذا لا يشتهي؛ ولهذا/ أوجب الحد في هذا دون هذا، وهذا هو المنصوص عن أحمد ومذهب أبي حنيفة .(186/9)
ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونًا، إما بسبب خلط يغلب عليه، وإما بغير ذلك، ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك، وقد يسمون المولهين [ المولهين : الوَلهُ : الحزن، وقيل : هو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد أو الحزن . ] . قال فيهم بعض العلماء : هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا؛ فسلب عقولهم، وأسقط ما فرض بما سلب .
فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه اللّه أو فعل ما يكرهه اللّه .
ولكن من لم يزل عقله، مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم . وهذه حال الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسرى به إلى السماء وأراه اللّه ما أراه، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من/ حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة، لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلا وأفضل .(186/10)
والمقصود : أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، وذلك لشدة الخوف، فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم . ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية اللّه ما قابلهم أو تفضل عليهم . ومن خاف اللّه خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه اللّه وترك ما يكرهه اللّه من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء، وهو حال الصحابة رضي اللّه عنهم وقد روى : أن عطاء السليمي - رضي اللّه عنه - رؤى بعد موته فقيل له : مافعل اللّه بك ؟ فقال : قال لي : ياعطاء ! أما استحيت مني أن تخافني كل هذا ؟ ! أما بلغك أني غفور رحيم ؟ ! .
وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة وأمثال ذلك قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي اللّه عنهم وعلى ما سنه الرسول أمور توجب أن يصير الناس طرفين :
قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك .
/وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها .
والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك . وخرج فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس .
وخيار الناس من ( أهل الفقه والرأي ) في أولئك الكوفيين على طرفين :
قوم يذمونهم ويسرفون فى ذمهم .
وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم وربما فضلوهم على الصحابة . كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة، وهذا باب يفترق فيه الناس .(186/11)
والصواب : للمسلم أن يعلم أن خيرالكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم، وأن أفضل الطرق والسبل إلى اللّه ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا اللّه بحسب اجتهادهم ووسعهم، كما قال اللّه تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] وقال صلى الله عليه وسلم : / ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ، وقال : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 285 ] . وإن كثيرا من المؤمنين - المتقين أولياء اللّه - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ماحصل للصحابة، فيتقى اللّه ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده، فلابد أن يصدر منه خطأ إما في علومه وأقواله وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم؛ فإن اللّه تعالى قال : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } إلى قوله : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 285، 286 ] قال اللّه تعالى : قد فعلت .
فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ، ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا، فهو مخطئ ضال مبتدع .(186/12)
ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة،وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقا، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقا، وأعرض عن حسناته، محاط وحال من يقول / بالتحافظ وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة .
وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد اللّه وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه، فهذا هذا .
وإذا عرف أن منشأ ( التصوف ) كان من البصرة، وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد، مما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ماله فيه اجتهاد، وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة، وهي لباس الصوف . فقيل في أحدهم : ( صوفي ) وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به، لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال .(186/13)
ثم ( التصوف ) عندهم له حقائق وأحوال معروفة قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه، كقول بعضهم : ( الصوفي ) من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر . التصوف كتمان المعاني، وترك الدعاوي . وأشباه ذلك : وهم يسيرون بالصوفي إلى/ معنى الصديق، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون . كما قال اللّه تعالى : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 ] ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، فكان الصديق من أهل هذه الطريق، كما يقال : صديقوا العلماء، وصديقوا الأمراء، فهو أخص من الصديق المطلق، ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين : إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضًا، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة اللّه ورسوله بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجلِّ الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصديق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع؛ ولهذا يوجد لك منهم صنف من الأحوال والعبادات، حققه وأحكمه وغلب عليه، وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه .
ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنزع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت ( الصوفية والتصوف ) . وقالوا : إنهم / مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام .
وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم .(186/14)
و ( الصواب ) أنهم مجتهدون في طاعة اللّه، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة اللّه، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب .
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه .
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم : كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشائخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق . مثل : الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره . كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي؛ في ( طبقات الصوفية ) وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد .
فهذا أصل التصوف . ثم أنه بعد ذلك تشعب وتنوع، وصارت / الصوفية ( ثلاثة أصناف ) : صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسم .
فأما ( صوفية الحقائق ) : فهم الذين وصفناهم .
وأما ( صوفية الأرزاق ) فهم الذين وقفت عليهم الوقوف . كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق . فإن هذا عزيز وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم الخوانك؛ ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط :
( أحدها ) : العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم .
و ( الثاني ) : التأدب بآداب أهل الطريق،وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها .
و ( الثالث ) : أن لا يكون أحدهم متمسكًا بفضول الدنيا، فأما من كان جماعا للمال، أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة، ولا يتأدب بالآداب الشرعية، أو كان فاسقا فإنه لا يستحق ذلك .
وأما صوفية الرسم : فهم المقتصرون على النسبة،فهمهم في اللباس/ والآداب الوضعية، ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع مَّا من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم .(186/15)
وأما اسم ( الفقير ) : فإنه موجود في كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن المراد به في الكتاب والسنة الفقير المضاد للغني . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . و ( الفقراء والفقر ) أنواع : فمنه المسوغ لأخذ الزكاة . وضده الغني المانع لأخذ الزكاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ) والغني الموجب للزكاة غير هذا عند جمهور العلماء . كمالك والشافعي وأحمد،وهو ملك النصاب وعندهم قد تجب على الرجل الزكاة، ويباح له أخذ الزكاة خلافا لأبي حنيفة .
واللّه سبحانه قد ذكر الفقراء في مواضع؛ لكن ذكر اللّه الفقراء المستحقين للزكاة في آية والفقراء المستحقين للفيء في آية . فقال في الأولى : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } ـ إلى قوله : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ } [ البقرة : 271 : 273 ] . وقال في الثانية : { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } الآية إلى قوله : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 7-8 ] .
وهؤلاء [ الفقراء ] قد يكون فيهم من هو أفضل من كثير من الأغنياء، وقد يكون من الأغنياء من هو أفضل من كثير منهم .(186/16)
وقد تنازع الناس أيما أفضل : الفقير الصابر،أوالغني الشاكر ؟ والصحيح : أن أفضلهما أتقاهما؛ فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة كما قد بيناه في غير هذا الموضع، فإن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة لأنه لا حساب عليهم . ثم الأغنياء يحاسبون، فمن كانت حسناته أرجح من حسنات فقير، كانت درجته في الجنة أعلى، وإن تأخر عنه في الدخول . ومن كانت حسناته دون حسناته كانت درجته دونه؛ لكن لما كان جنس الزهد في الفقراء أغلب صار الفقر في إصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق الزهد، وهو من جنس التصوف .
فإذا قيل : هذا فيه فقر أو ما فيه فقر لم يرد به عدم المال، / ولكن يراد به ما يراد باسم الصوفي من المعارف والأحوال والأخلاق، والآداب ونحو ذلك .
وعلى هذا الاصطلاح قد تنازعوا أيما أفضل : الفقير، أو الصوفي ؟ فذهب طائفة إلي ترجيح الصوفي، كأبي جعفر السهروردي ونحوه، وذهب طائفة إلى ترجيح الفقير ـ كطوائف كثيرين ـ وربما يختص هؤلاء بالزوايا وهؤلاء بالخوانك ونحو ذلك، وأكثر الناس قد رجحوا الفقير .
والتحقيق أن أفضلهما أتقاهما، فإن كان الصوفي أتقى للّه كان أفضل منه، وهو أن يكون أعمل بما يحبه اللّه، وأترك لما لايحبه فهو أفضل من الفقير، وإن كان الفقير أعمل بما يحبه اللّه وأترك لما لا يحبه كان أفضل منه، فإن استويا في فعل المحبوب وترك غير المحبوب استويا في الدرجة .
وأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون، سواء سمى أحدهم فقيرًا أو صوفيًا أو فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك .
قال اللّه تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] .(186/17)
/وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول اللّه تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ) . وهذا الحديث قد بين فيه أولياء اللّه المقتصدين، أصحاب اليمين والمقربين السابقين .
فالصنف الأول : الذين تقربوا إلى اللّه بالفرائض . والصنف الثاني : الذي تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وهم الذين لم يزالوا يتقربون إليه بالنوافل حتى أحبهم، كما قال تعالى .
وهذان الصنفان قد ذكرهم اللّه في غير موضع من كتابه كما قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [ فاطر : 32 ] وكما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 22-28 ] قال ابن عباس : يشرب /بها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا .(186/18)
وقال تعالى : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا } [ الإنسان : 17، 18 ] وقال تعالى : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 8-11 ] وقال تعالى : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } [ الواقعة : 88-91 ] .
وهذا الجواب فيه جمل تحتاج إلى تفصيل طويل لم يتسع له هذا الموضع . واللّه أعلم .
وسئل :
ما تقول الفقهاء - رضي اللّه عنهم- في رجل يقول : إن الفقر لم نتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى، وأنه غير سبيل موصل إلى رضا اللّه تعالى وإلى رضا رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،وإن أصل كل شيء العلم والتعبد به والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، [ والفقر ] المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم، وهذا هو الفقر، فإذا الفقر فرع من فروع العلم،والأمر على هذا . وما ثم طريق أوصل من العلم والعمل بالعلم، على ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويقول : إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاحات المعتادة غير مرضى للّه ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك ؟ أفتونا مأجورين .
/ فأجاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية ـ رضي اللّه عنه ـ :(186/19)
الحمد للّه . أصل هذه [ المسألة ] أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه، مثل لفظ الإيمان، والبر، والتقوى، والصدق، والعدل، والإحسان، والصبر، والشكر، والتوكل، والخوف والرجاء، والحب للّه، والطاعة للّه وللرسول، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه اللّه ورسوله من القلب والبدن . فهذه الأمور التي يحبها اللّه ورسوله هي الطريق الموصل إلى اللّه، مع ترك ما نهى اللّه عنه ورسوله : كالكفر، والنفاق والكذب، والإثم والعدوان، والظلم والجزع والهلع، والشرك والبخل والجبن، وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم ونحو ذلك . فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر اللّه به ورسوله فيفعله، وما نهى اللّه عنه ورسوله فيتركه . هذا هو طريق اللّه وسبيله ودينه الصراط المستقيم . صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .
وهذا [ الصراط المستقيم ] يشتمل على علم وعمل : علم شرعي، وعمل شرعي، فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرا، ومن عمل بغيرعلم كان ضال ًا، وقد أمرنا اللّه ــ سبحانه ــ أن نقول : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ سورة الفاتحة ] . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى /ضالون ) وذلك إن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به، والنصارى عبدوا اللّه بغير علم .(186/20)
ولهذا كان السلف يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون . وكانوا يقولون : من فسد من العلماء ففيه شبه من اليهود؛ ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى . فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضل ًا، ومن دعا إلى العمل دون العلم كان مضلًا، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع؛ فيتبع أمورا تخالف الكتاب والسنة يظنها علوما وهي جهالات . وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع . فيعمل أعمالًا تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات . فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر . يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم، ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة . وطريق اللّه لا تتم إلا بعلم وعمل، يكون كلاهما موافقا الشريعة .
فالسالك طريق [ الفقر والتصوف والزهد والعبادة ] إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالًا عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه . والسالك من [ الفقه والعلم والنظر والكلام ] إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق . فهذا هو /الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم .
وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من اللّه فهو من عمل الجاهلية : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] .(186/21)
ولا ريب أن لفظ [ الفقر ] في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق اللّه، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك؛ بل الفقر عندهم ضد الغنى . والفقراء هم الذين ذكرهم اللّه في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] وفي قوله : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } [ البقرة : 273 ] وفي قوله : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } [ الحشر : 8 ] والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي تجب عليه الزكاة، أو ما يشبه ذلك؛ لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعا أو كرها؛ إذ من العصمة ألا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر . ففي الأنبياء والسابقين والأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير .
و [ الزهد ] المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة اللّه فليس تركه من الزهد المشروع/ بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة اللّه ورسوله هو المشروع . وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي؛ لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد، ومن قال إن الصوفي نسبة إلى الصفة، أو الصفا أو الصف الأول، أو صوفة بن بشر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى؛ لكن من الناس من قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين اللّه تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه .(186/22)
ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وكان من القدرية كالمعتزلة ونحوهم،الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب ــ سبحانه ــ وخاصمه، كما نقل ذلك عنه . فهذا التقسيم في القول والاعتقاد .
وكذلك هم في [ الأحوال، والأفعال ] فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي اللّه فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر علي ما يصيبه / من المقدور، فهو عند الأمر والدين والشريعة، ويستعين باللّه علي ذلك، كما قال تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد : ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك مااستطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) فيقر بنعمة اللّه عليه في الحسنات . ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى . ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها . كما قال بعضهم : أطعتك بفضلك، والمنة لك . وعصيتك بعلمك، والحجة لك . فأسألك بوجوب حجتك علي، وانقطاع حجتي إلا غفرت لي .
وفي الحديث الصحيح الإلهي : ( يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها،فمن وجد خيرا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع .(186/23)
وآخرون قد يشهدون [ الأمر ] فقط، فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة، لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب/ لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر . وآخرون يشهدون [ القدر ] فقط، فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر اللّه ورسوله، واتباع شريعته، وملازمته ما جاء به الكتاب والسنة من الدين . فهؤلاء يستعينون اللّه ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه، والمؤمن يعبده ويستعينه .
والقسم الرابع : شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه،فلا هو مع الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني . وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل المقدور من توكل واستعانة، ونحو ذلك . وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك، فهم في التقوى هي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام :
أحدها : أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم اللّه عليهم أهل السعادة في الدنيا والآخرة .
والثاني : الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات؛ لكن إذا أصيب أحدهم/ في بدنه بمرض ونحوه أو ماله أو في عرضه، أو ابتلى بعدو يخيفه، عظم جزعه، وظهر هلعه .
والثالث : قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى : مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص، والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب، وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس .(186/24)
وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام، وهؤلاء هم الذين يريدون علوا في الأرض أو فسادا من طلاب الرياسة، والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرا أو مباشرة وغير ذلك، يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور، وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب : كالمرض والفقر وغير ذلك، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر .
/وأما القسم الرابع : فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا؛ بل هم كما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } [ المعارج : 19- 21 ] . فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك، ونافقوك، وحبوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل، وتعظيم المسؤول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس، وأقساهم قلبا، وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا . كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد : مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومن يشبههم في كثير من أمورهم، وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق . فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .(186/25)
فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم، كان شبيها لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبه : ( خير الكلام كلام اللّه، و خير/ الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) .
وإذ كان خير الكلام كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب، وهو به أشبه، كان إلى الكمال أقرب، وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف، كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق . والكامل هو من كان للّه أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر اللّه به ورسوله، وأعظم موافقة للّه فيما يحبه ويرضاه، وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك .(186/26)
وقد ذكر اللّه تعالى الصبر والتقوى جميعا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة، قال اللّه تعالى : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] وقال اللّه تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } آل عمران : 186 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌِ } [ آل عمران : 118 : 120 ] وقال إخوة يوسف له : { أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ّ } [ يوسف : 90 ] .(186/27)
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عمومًا وخصوصًا فقال تعالى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يونس : 109 ] . وفي اتباع ما أوحى إليه التقوى كلها : تصديقًا لخبر اللّه، وطاعة لأمره، وقال تعالى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114، 115 ] .
وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ غافر : 55 ] . وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [ طه : 130 ] وقال تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ َ } [ البقرة : 45 ] وقال تعالى : { اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر .(186/28)
/وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها، فإن القسمة أيضا رباعية . إذ من الناس من يصبر ولا يرحمك كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر : كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع،والمحمود هو الذي يصبر ويرحم؛ كما قال الفقهاء في صفة المتولي : ينبغي أن يكون قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف، فبصبره يقوى، وبلينه يرحم، وبالصبر ينصرالعبد، فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه اللّه تعالى . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما يرحم اللّه من عباده الرحماء ) ، وقال : ( من لم يرحم لا يرحم ) ، وقال : ( لا تنزع الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) . واللّه أعلم، انتهى .(186/29)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=217 - TOP#TOPسُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَم وقدوة الأنام ومفتى الفرق وناصر السنة : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ـ رضي اللّه عنه ـ عن ( أهل الصفة ) كم كانوا ؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة ؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون فيه ؟ وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة ؟ أو كان منهم من يقعد بالصفة ؟ ومنهم من يتسبب في القوت ؟ وما كان تسببهم ؟ هل يعملون بأبدانهم، أم يشحذون بالزنبيل [ الزنبيل : خطأ لغة، والصواب : الزبِّيِل : وهى القفة أو الجراب، وهو الوعاء الذى يحمل فيه : جمع زُبُل وزبُلان . انظر : معجم متن اللغة 3/14 ] ؟ وفي من يعتقد أن [ أهل الصفة ] قاتلوا المؤمنين مع المشركين ؟ وفيمن يعتقد أن [ أهل الصفة ] أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللّه عنهم ؟ ومن الستة الباقين من العشرة ؟ وهل كان في ذلك الزمان أحد ينذر لأهل الصفة ؟ وهل تواجدوا على دف أو شبابة [ الشبابة : آلة طرب متخذة من القصب المجوف . يقال لها : اليراع ويعبر عنها بالمزمار العراقى وهى معروفة إلى اليوم . انظر : معجم متن اللغة 3/264 ] ؟ أو كان لهم حاد ينشد الأشعار ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون ؟
وعن هذه الآية وهي قوله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [ الكهف : 28 ] هل هي مخصوصة بأهل الصفة ؟ أم هي / عامة ؟ وهل الحديث الذي يرويه كثير من العامة ويقولون : إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي للّه : لا الناس يعرفونه ولا الولي يعرف أنه ولي ) صحيح ؟ وهل تخفى حالة الأولياء أو طريقتهم على أهل العلم أو غيرهم ؟ ولماذا سمي الولي وليا؛ وما المراد بالولي ؟ .(186/30)
وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة ؟ وما الفقراء الذين أوصى بهم في كلامه، وذكرهم سيد خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم في سنته . هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم لا ؟ .
فأجاب : شيخ الإسلام تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيميه ـ رضي اللّه عنه ـ بقلمه ما صورته :
الحمد للّه رب العالمين .
أما [ الصفة ] التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمالي المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوى إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوى إليه؛ وذلك أن اللّه سبحانه وتعالى أمر نبيه/ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية، حين آمن من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج، وبايعهم بيعة العقبة عند منى، وصار للمؤمنين دار عز ومنعة، جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، وكان المؤمنون السابقون بها صنفين : المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم، والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر . وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم .(186/31)
فكل هذه [ الأصناف ] مذكورة في القرآن، وحكمهم باق إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم . قال اللّه تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 72 : 74 ] فهذا في السابقين .
ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ٌ } [ الأنفال : 57 ] ،وقال الله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } الآية [ التوبة : 100 ](186/32)
وذكر في السورة الأعراب المؤمنين، وذكر المنافقين من أهل المدينة ومن حولها، وقال سبحانه وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } [ النساء : 97-99 ] .
فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله، أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم، ويواسوهم، وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على من ينزل عنده منهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار، وآخى بينهم، ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء؛ فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه .
والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه، وتارة بسراياه /فيسلم خلق تارة ظاهرا وباطنا وتارة ظاهرا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والأهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوى إليه، يأوى إلى تلك الصفة التي في المسجد، ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد، بل منهم من يتأهل، أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له . ويجيء ناس بعد ناس، فكانوا تارة يقلون، وتارة يكثرون، فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر، وتارة يكونون ستين وسبعين .
وأما جملة من أوى إلى الصفة مع تفرقهم، فقد قيل : كانوا نحو أربعمائة من الصحابة، وقد قيل : كانوا أكثر من ذلك ولم يعرف كل واحد منهم .(186/33)
وقد جمع أسماءهم [ الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ] في كتاب [ تاريخ أهل الصفة ] جمع ذكر من بلغه أنه كان من [ أهل الصفة ] وكان معتنيا بذكر أخبار النساك، والصوفية؛ والآثار التي يستندون إليها، والكلمات المأثورة عنهم؛ وجمع أخبار زهاد السلف، وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة؛ وكم بلغوا، وأخبار الصوفية المتأخرين بعد القرون الثلاثة .
وجمع أيضا في الأبواب : مثل حقائق التفسير، ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه، ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة، ومسألة السماع وغير ذلك من الأحوال، وغير ذلك من الأبواب . وفيما جمعه فوائد كثيرة، ومنافع جليلة .
/وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل . وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير . ويروي أحيانا أخبارا ضعيفة بل موضوعة . يعلم العلماء أنها كذب .
وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه .(186/34)
وكان البيهقي إذا روى عنه يقول : حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه، وما يظن به وبأمثاله إن شاء اللّه تعمد الكذب، لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية؛ فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث، مثل ثابت البناني [ أبو محمد ثابت بن أسلم البنانى البصرى، كان من أئمة أهل العلم والعمل، ولد فى خلافة معاوية، وثقه العجلى والنسائى وابن حبان، وغيرهم، توفى سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقيل : سبع وعشرين . [ تهذيب التهذيب 2/2، وسير أعلام النبلاء 5/220 ــ 223 ] ، والفضيل ابن عياض، وأمثالهما ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط، وضعف . مثل مالك بن دينار وفرقد السبخي [ هو فرقد بن يعقوب السبخى أبو يعقوب البصرى من سبخة البصرة، وقيل : من سبخة الكوفة، روى عن أنس وسعيد بن جبير . قال البخارى : فى حديثه مناكير، وقال النسائى : ليس بثقة، وقال يعقوب بن شيبة : رجل صالح ضعيف الحديث جدًا، وقال ابن حبان : كانت فيه غفلة ورداءة حفظ فكان يرفع المراسيل وهو لا يعلم . وقال ابن سعد : مات بالطاعون سنة 131 هـ . [ تهذيب التهذيب 8/262، 263 ]
ونحوهما .
وكذلك ما يأثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأفعال والأحوال . فيه من الهدى والعلم شيء كثير . وفيه ـ أحيانا ـ من الخطأ أشياء؛ وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ . وبعضه باطل قطعا . مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة . وذكر عن بعض طائفة أنواعا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة . واستدلالات مناسبة . وبعضها من نوع الباطل واللغو .
/فالذي جمعه [ الشيخ أبو عبد الرحمن ] ونحوه في [ تاريخ أهل الصفة ] وأخبار زهاد السلف، وطبقات الصوفية، يستفاد منه فوائد جليلة، ويجتنب منه ما فيه من الروايات الباطلة، ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة .(186/35)
وهكذا كثير من أهل الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق، من الفقهاء والزهاد والمتكلمين، وغيرهم . يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير، وأمر عظيم من الهدى، ودين الحق، الذي بعث اللّه به رسوله . ويوجد ـ أحيانا ـ عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة، ومن جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير .
ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يثنى عليه، ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها، وهم الذين يتبعون العلم والعدل، فهم بعداء عن الجهل والظلم، وعن اتباع الظن، وما تهوى الأنفس .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=217 - TOP#TOPفصل
وأما حال [ أهل الصفة ] هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة، أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم اللّه تعالى في كتابه، حيث بين مستحقي الصدقة منهم، ومستحقي الفيء منهم . فقال : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } إلى قوله : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [ البقرة : 271 : 273 ] . وقال في أهل الفيء : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] .(186/36)
وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى اللّه ورسوله من الكسب، وأما إذا أحصروا في سبيل اللّه عن الكسب، فكانوايقدمون ما هو أقرب إلى اللّه ورسوله، وكان أهل الصفة ضيوف /الإسلام، يبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون عنده، فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق .
وأما [ المسألة ] فكانوا فيها كما أدبهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث حرمها على المستغنى عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه، مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال اللّه،أو يسأل إذا كان لابد سائلًا الصاحلين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك، ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقًا، حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلايقول لأحد : ناولني إياه .
وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل . وكلام العلماء لا يسعه هذا المكان . مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب : ( ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك ) ومثل قوله : ( من يستغن يغنه اللّّه ومن يستعفف يعفه اللّه، ومن يتصبر يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ) ومثل قوله : ( من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشا [ خدوشا : خدش الجلد : قشره بعود أو نحوه . خدشه، يخدشه خدشا والجمع خُدُوش . اننظر : النهاية فى غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/14 ] ، أو خموشا [ خموشا : هو بمعنى الخدوش . انظر : النهاية فى غريب الحديث والأثر لا بن الأثير 2/80 ] ، أو كدوشا [ كدوشا : الكدش : الجرح . انظر : النهاية فى غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/155 ] ( في وجهه ) ومثل قوله : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ) إلى غير ذلك من الأحاديث .(186/37)
/وأما الجائز منها فمثل ما أخبر اللّه تعالى عن موسى والخضر : أنهما أتيا أهل قرية فاستطعما أهلها . ومثل قوله : ( لا تحل المسألة إلا لذي دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع [ مدقع : أى : شديد يفضى بصاحبه إلى الدقعاء . وقيل : هو سوء احتمال الفقر . انظر : النهاية فى غريب الحديث والأثر 2/127 ] ) ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي : ( يا قبيصة ! لا تحل المسألة إلا لثلاثة : رجل أصابته جائحه [ جائحة : الجائحة هى الآفة التى تهلك الثمار والأموال وتستأصلها . انظر : اللسان، مادة [ جوح ] ] اجتاحت ماله : فسأل حتى يجد سدادا [ السداد : هو مايفى من الشىء وماتسد بها الحاجة انظر : النهاية 2/353 ] من عيش، أو قواما [ قواما من عيش : أى يجد ماتقوم به حاجته من معيشة . انظر : النهاية 4/124 ] من عيش، ثم يمسك . ورجل أصابته فاقة [ فاقة : فقر وحاجة . انظر : النهاية فى غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/480 ] ، حتي يقوم ثلاثة من ذوي الحجا [ الحجا : العقل . انظر : النهاية فى غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/348 ] من قومه فيقولون : لقد أصابت فلانًا فاقة، فسأل حتى يجد سدادا من عيش، أو قوامًا من عيش، ثم يمسك، ورجل تحمل حمالة فسأل حتي يجد حمالته، ثم يمسك . وما سوى ذلك من المسألة فإنما هي سحت يأكله صاحبه سحتًا [ السحت : الحرام . الذى لايحل كسبه لأنه يسحت البركة أي يذهبها . انظر : النهاية فى غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2/345 ] ) .(186/38)
ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس، ولا الإلحاف في المسألة بالكدية، والشحاذة لا بالزنبيل ولا غيره صناعة وحرفة، بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك، كما لم يكن في الصحابة أيضا أهل فضول من الأموال يتركون، لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولا يعطون في النوائب . بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر، من مانعي الزكاة، والحقوق الواجبة، والمتعدين حدود اللّه تعالى في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المثنى عليهم .
فصل
وأما من قال : إن أحدًا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار، أو قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، أو أنهم كانوا يستحلون ذلك، أو أنه يجوز ذلك . فهذا ضال غاو؛ بل كافر يجب أن يستتاب من ذلك، فإن تاب وإلا قتل . { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } [ النساء : 115 ] ؛ بل كان أهل الصفة وغيرهم كالقراء الذين قنت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو على من قتلهم من أعظم الصحابة إيمانًا وجهادًا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونصرًا للّه ورسوله، كما أخبر اللّه تعالى عنهم بقوله : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] .(186/39)
وقال : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } إلى قوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [ الفتح : 29 ] وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ المائدة : 54 ] .
وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة، وكان القتال منها في تسع مغاز : مثل بدر . وأحد . والخندق . وخيبر . وحنين . وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا، ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق حتى دفع اللّه عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن كان يكون المؤمنون من أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقاتلوا مع الكفار قط، وإنما يظن هذا ويقوله من الضلال والمنافقين قسمان :
[ قسم ] منافقون . وإن أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة، يظنون أن إلى اللّه طريقا غير الإيمان بالرسول ومتابعته، وإن من أولياء اللّه من يستغنى عن متابعة الرسول، كاستغناء الخضر عن متابعة موسى . وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو ملكه على النبي صلى الله عليه وسلم : إما تفضيلاً مطلقًا، أو في بعض صفات الكمال . وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم .(186/40)
فإن اللّه تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين : إنسهم وجنهم وزهادهم وملوكهم . وموسى عليه السلام إنما بعث إلى/ قومه لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه؛ بل قال له : إني على علم من علم اللّه تعالى علمنيه اللّه لا تعلمه، وأنت على علم من علم اللّه علمكه اللّه لا أعلمه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة . وبعثت إلى الناس عامة ) وقال اللّه تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ الأعراف : 158 ] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [ سبأ : 28 ] .
والقسم الثاني : من يشاهد ربوبية اللّه تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا، ويظن أن دين اللّه الموافقة للقدر، سواء كان في ذلك عبادة اللّه وحده لا شريك له، أو كان فيه عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه، وسواء كان فيه الإيمان بكتبه ورسله، أو الإعراض عنهم والكفر بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار، وأولياء اللّه كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من [ باب الرضا بالقضاء ] وربما جعلوه [ التوحيد والحقيقة ] بناء على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون، وأنه [ الحقيقة الكونية ] .(186/41)
/وهؤلاء يعبدون اللّه على حرف : فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم،خسروا الدنيا والآخرة، وغالبهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتالًا للّه، ويجعلون أعيان الكفار والفجار والأوثان من نفس اللّه وذاته، ويقولون : ما في الوجود غيره، ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق، والمصنوع هو الصانع . وقد يقولون : { لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ويقولون : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] .
إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى، بل ومن مقالات المشركين والمجوس، وسائر الكفار، من جنس مقالة فرعون والدجال، ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق البارئ رب العالمين، أو يقولون : إنه هو، أو أنه حل فيه .
وهؤلاء كفار بأصلي الإسلام وهما : شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا رسول الله .(186/42)
فإن التوحيد الواجب أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئًا، ولا نجعل له ندا في إلهيته، لا شريكا ولا شفيعا . فأما [ توحيد الربوبية ] وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء، فهذا قد أقر به المشركون الذين قال اللّه فيهم : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] قال ابن عباس : تسألهم من خلق السموات والأرض ؟ فيقولون : / اللّّه، وهم يعبدون غيره . وقال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [ الزمر : 38 ] وقال تعالى : { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84 : 89 ] .
فالكفار المشركون مقرون أن اللّه خالق السموات والأرض، وليس في جميع الكفار من جعل للّه شريكا مساويا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط، لا من المجوس الثنوية،ولا من أهل التثليث، ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة،ولا من عباد الأنبياء والصالحين، ولا من عباد التماثيل والقبور وغيرهم؛ فإن جميع هؤلاء - وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك - فهم مقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته، وجميع أفعاله؛ ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته، بأن يعبدوا معه آلهة أخرى، يتخذونها شفعاء أو شركاء؛ أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب بعض الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب، وخالق ذلك الخلق .(186/43)
وقد أرسل اللّه جميع الرسل، وأنزل جميع الكتب بالتوحيد / الذي هو عبادة اللّه وحده، لا شريك له . كما قال اللّه تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونَِ } [ الأنبياء : 25 ] وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ َ } [ الزخرف : 45 ] وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون : 51، 52 ] .
وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } [ نوح : 3 ] فكل الرسل دعوا إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، وإلى طاعتهم .
والإيمان بالرسل، هو [ الأصل الثاني ] من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن محمدا رسول اللّه إلى جميع العالمين، وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه اللّه، والدين ما شرعه، فهو كافر : مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يجوز الخروج عن دينه وشرعته وطاعته؛ إما عمومًا وإما خصوصًا . ويجوز إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته .(186/44)
/ويحتجون بما يفترونه : إن أهل الصفة قاتلوه . وإنهم قالوا : نحن مع اللّه، من كان اللّه معه كنا معه، يريدون بذلك القدر و [ الحقيقة الكونية ] دون الأمر و [ الحقيقة الدينية ] ويحتج بمثل هذا من ينصر الكفار والفجار، ويخفرهم بقلبه وهمته، وتوجهه من ذوي الفقر، ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء اللهّّ، وإن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل . وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهم في العباد مثل أوليائهم من التتار ونحوهم في الأجناد فإن ( المرء على دين خليله ) و ( المرء مع من أحب ) . هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جعل اللّه المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكافرين بعضهم أولياء بعض .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم . يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية . أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا عن شريعة رسول الله/ صلى الله عليه وسلم وسنته، وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم ؟ !
ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين : أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب اللّه به رسوله ليلة المعراج؛ وإن اللّه أمره ألا يعلم به أحدا . فلما أصبح وجدهم يتحدثون، فأنكر ذلك، فقال اللّه تعالى : ( أنا أمرتك ألا تعلم به أحدًا؛ لكن أنا الذي أعلمتهم به ) .(186/45)
إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر . وهي كذب واضح؛ فإن [ أهل الصفة ] لم يكونوا إلا بالمدينة؛ لم يكن بمكة أهل صفة؛ والمعراج إنما كان من مكة؛ كما قال سبحانه وتعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] .
ومما يشبه هذا من بعض الوجوه : رواية بعضهم عن عمر أنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث هو أبو بكر وكنت كالزنجي بينهما .
وهذا من الإفك المختلق . ثم أنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه، وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام، بل كان كالزنجي . ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها [ علم الأسرار والحقائق ] ويريدون بذلك إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع ونحو ذلك . مثل ما تدعي النصيرية / والإسماعيلية؛ والقرامطة والباطنية الثنوية، والحاكمية وغيرهم، من الضلالات المخالفة لدين الإسلام . وما ينسبونه إلى علي بن أبي طالب؛ أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة بن عنضب، وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل .
فإنه لما كان لآل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء الصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة، صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يموه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته، وأهل موالاته ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء، أو من هؤلاء، حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وحتى يخالف كتاب اللّه وسنة رسوله، وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال .(186/46)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=218 - TOP#TOPفصل
وأما تفضيل [ أهل الصفة ] على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال، بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب موقوفًا ومرفوعا، وكما دل على ذلك الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمة العلم والسنة، وبعدهما عثمان وعلي وكذلك سائر أهل الشورى : مثل طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن ابن عوف، وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراج ـ أمين هذه الأمة ـ ومع سعيد بن زيد .
هم العشرة المشهود لهم بالجنة .
قال اللّه عز وجل في كتابه : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ الحديد : 10 ] . ففضل اللّه السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأموالهم وأنفسهم على التابعين بعدهم، وقال اللّه تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [ الفتح : 18 ] وقال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] فرضى اللّه سبحانه عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .(186/47)
/وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم، وهؤلاء الذين فضلهم اللّه ورسوله . فمنهم من هو من أهل الصفة، وأكثرهم لم يكونوا من أهل الصفة، والعشرة لم يكن فيهم من هو من أهل الصفة إلا سعد بن أبي وقاص . فقد قيل : إنه أقام بالصفة مرة، وأما أكابر المهاجرين والأنصار مثل الخلفاء الأربعة، ومثل سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وعباد بن بشر، وأبي أيوب الأنصاري، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب ونحوهم، فلم يكونوا من [ أهل الصفة ] بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين؛ لأن الأنصار كانوا في ديارهم . ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=218 - TOP#TOPفصل(186/48)
وأما سماع المكاء والتصدية : وهو الإجتماع لسماع القصائد الربانية، سواء كان بكف، أو بقضيب، أو بدف، أو كان مع ذلك شبابة، فهذا لم يفعله أحد من الصحابة، لا من أهل الصفة ولا من غيرهم؛ بل ولا من التابعين، بل القرون المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع، لا في الحجاز ولا في الشام / ولا في اليمن، ولا العراق ولامصر، ولاخراسان ولا المغرب . وإنما كان السماع الذي يجتمعون عليه سماع القرآن، وهو الذي كان الصحابة من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه، فكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ، والباقي يستمعون، وقد روى ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم ) وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى : يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون . وكان وجدهم على ذلك، وكذلك إرادة قلوبهم وكل من نقل أنهم كان لهم حاد ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب، أو أنهم لما أنشد بعض القصائد تواجدوا على ذلك . أو أنهم مزقوا ثيابهم، أو أن قائلًا أنشدهم :
قد لسعت حية الهوى كبدي**فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الطبيب الذي شغفت به**فعنده رقيتي وترياقي
أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : ( إن الفقراء يدخلون / الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ) أنشدوا شعرا وتواجدواعليه، فكل هذا وأمثاله إفك مفترى، وكذب مختلق باتفاق أهل الاتفاق من أهل العلم والإيمان، لا ينازع في ذلك إلاجاهل ضال، وإن كان قد ذكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل العلم والإيمان .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=218 - TOP#TOPفصل(186/49)
وأما قوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [ الكهف : 28 ] فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف؛ مثل الذين يصلون الفجر والعصر في جماعة، فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، سواء كانوا من [ أهل الصفة ] أو غيرهم، أمر اللّه نبيه بالصبر مع عباده الصالحين؛ الذين يريدون وجهه، وإلا تعد عيناه عنهم، تريد زينة الحياة الدنيا . وهذه الآية في الكهف وهي سورة مكية . وكذلك الآية التي في سورة الأنعام : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنعام : 52 ] .
/وقد روى أن هاتين الآيتين نزلنا في المؤمنين المستضعفين لما طلب المتكبرون أن يبعدهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه فنهاه الله عن طرد من يريد وجه الله وإن كان مستضعفا ثم أمره بالصبر معهم، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة وقبل وجود الصفة؛ لكن هي متناولة لكل من كان بهذا الوصف من أهل الصفة وغيرهم .
والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله وإن كانوا فقراء ضعفاء، ولا يتقدم أحد عند الله بسلطانه وماله ولا بذله وفقره، وإنما يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى اللّه نبيه أن يطيع أهل الرياسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفًا أو فقيرًا وأمره ألا يطرد من كان منهم يريد وجهه، وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع بهم، كصلاة الفجر والعصر، ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر اللّه المتبعين لأهوائهم .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=218 - TOP#TOPفصل(186/50)
وأما الحديث المروي : ( ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله ) فمن الأكاذيب ليس في شيء من دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد يكونون كفارا أو فساقا يموتون على ذلك ؟ ! .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=218 - TOP#TOPفصل
وأولياء اللّه هم { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 63 ] كما ذكر اللّه تعالى في كتابه . وهم ( قسمان ) : المقتصدون أصحاب اليمين . والمقربون السابقون .
فولي اللّه ضد عدو اللّه، قال اللّه تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ } إلى قوله : { وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [ المائدة : 55، 56 ] ، وقال تعالى : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [ الممتحنة : 1 ] ، وقال : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } [ فصلت : 19 ] وقال : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [ الكهف : 50 ] .(186/51)
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( يقول اللّه تعالى : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها . فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) .
/و [ الولي ] مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد . فولي اللّه من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته . وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصنفين المقتصدين من أصحاب اليمين، وهم المتقربون إلى اللّه بالواجبات، والسابقين المقربين وهم المتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات .
وذكر اللّه الصنفين في [ سورة فاطر ] و [ الواقعة ] و [ الإنسان ] و [ المطففين ] وأخبر أن الشراب الذي يروى به المقربون بشربهم إياه صرفًا يمزج لأصحاب اليمين .
والولي المطلق هو من مات على ذلك . فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم اللّه أنه يرتد عن ذلك، فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليا للّه أو يقال : لم يكن وليا لله قط لعلم اللّه بعاقبته ؟ هذا فيه قولان للعلماء . وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر : هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله، أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه ومن أحدث قبل السلام في صلاته . فيه أيضًا قولان : للفقهاء والمتكلمين والصوفية .(186/52)
والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد/ وغيرهم وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم . لكن أكثر اصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يشترط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث : كالأشعري، ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع : أن ولي اللّه هل يصير عدوا لله وبالعكس ؟ ومن أحبه الله ورضي عنه . هل أبغضه وسخط عليه في وقت ما وبالعكس ؟ ومن أبغضه اللّه وسخط عليه هل أحبه اللّه ورضى عنه، في وقت ما على القولين ؟
والتحقيق هو الجمع بين القولين . فإن علم اللّه القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه، وبغضه وسخطه، وولايته وعداوته لا يتغير . فمن علم اللّه منه أنه يوافى حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة اللّه وولايته ورضاه عنه أزلًا وأبدًا، وكذلك من علم اللّه منه أنه يوافى حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض اللّه وعداوته، وسخطه أزلًا وأبدًا لكن مع ذلك فإن اللّه تعالى يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته . وقد يقال : إنه يبغضه ويمقته على ذلك، كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى، ويحب ما يأمر به ويرضاه، وقد يقال إنه يواليه حينئذ على ذلك .(186/53)
والدليل على ذلك : اتفاق الأئمة على أن من كان مؤمنًا ثم ارتد، /فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا، بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال؛ وإنما يقال كما قال اللّه تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] وقال : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وقال : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة،وتحريم ذبائحه، وبطلان إرثه المتقدم، وبطلان عباداته جميعها، حتى لو كان قد حج عن غيره كان حجه باطلًا، ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد لوجب أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك . وكذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره، لو كان محبوبًا لله وليا له في حال كفره، لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر، وهذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع .
والكلام في هذه [ المسألة ] نظير الكلام في الأرزاق والآجال وهي أيضا مبنية على [ قاعدة الصفات الفعلية ] وهي قاعدة كبيرة .
وعلى هذا يخرج جواب السائل، فمن قال : إن ولي اللّه لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى، فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره . ومن قال : قد يكون وليا للّه من كان مؤمنًا تقيًا وإن لم تعلم عاقبته فالعلم به أسهل .
/ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره، ولكنه قليل ولا يجوز لهم القطع على ذلك، فمن ثبتت ولايته بالنص، وإنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص . وأما من شاع له لسان صدق في الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك ؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة، والأشبه أن يشهد له بذلك . هذا في الأمر العام .(186/54)
وأما [ خواص الناس ] فقد يعلمون عواقب أقوام بما كشف اللّه لهم، لكن هذا ليس ممن يجب التصديق العام به، فإن كثيرًا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنًا لا يغني من الحق شيئًا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة؛ ويخطئون أخرى؛ كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهدتهم وآرائهم ومعقولاتهم بكتاب اللّه وسنة رسوله؛ ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب؛ وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ أو صديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدث الذي يحدثه قلبه عن ربه .
ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم /وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من اللّه مالا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه .
وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى . ومن قال هذا فهو كافر .
وقد قال اللّه تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ الحج : 52 ] فقد ضمن اللّه للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته، ولم يضمن ذلك للمحدث، ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) .(186/55)
ويحتمل واللّه أعلم ألا يكون هذا الحرف متلوًا، حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان في أمنية المحدث؛ فإن نسخ ما ألقى الشيطان ليس إلا للأنبياء والمرسلين؛ إذ هم معصومون فيما يبلغونه عن اللّه تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان، وغيرهم لا تجب عصمته من ذلك، وإن كان من أولياء اللّه المتقين، فليس من شرط أولياء اللّه المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم؛ بل / ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة .
وقد قال اللّه تعالى : { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ َ } [ الزمر : 33-35 ] فقد وصفهم اللّه بأنهم هم المتقون .
و [ المتقون ] هم أولياء اللّه، ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان .
وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشائخ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء . فالرافضة تزعم أن [ الأثناعشر ] معصومون من الخطأ والذنب .
ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشائخ قد يقولون : إن الولي محفوظ والنبي معصوم . وكثير منهم إن لم يقل ذلك بلسانه؛ فحاله حال من يرى أن الشيخ والولي لا يخطئ ولا يذنب؛ وقد بلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي وأفضل منه، وإن زاد الأمر جعلوا له نوعا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهية للضلالات النصرانية .(186/56)
فإن في النصارى من الغلو في المسيح والأحبار والرهبان ما ذمهم اللّه عليه في القرآن؛ وجعل ذلك عبرة لنا؛ لئلا /نسلك، سبيلهم، ولهذا قال سيد ولد آدم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم . فإنما أنا عبد فقولوا : عبد اللّه؛ ورسوله ) .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=218 - TOP#TOPفصل
وأما ( الفقراء ) الذين ذكرهم اللّه في كتابه فهم صنفان : مستحقوا الصدقات، ومستحقوا الفيء .
أما مستحقوا الصدقات فقد ذكرهم اللّه في كتابه في قوله : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لكم } [ البقرة : 271 ] وفي قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] .
وإذا ذكر في القرآن اسم [ الفقير ] وحده، و [ المسكين ] وحده ـ كقوله : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } [ المائدة : 89 ] ـ فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعًا فهما صنفان . والمقصود بهما أهل الحاجة . وهم الذين لا يجدون كفايتهم، لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من الصدقات المفروضة، والموقوفة والمنذورة، والموصى بها، وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع المسألة معروف عند أهل العلم .
وضد هؤلاء [ الأغنياء ] الذين تحرم عليهم الصدقة، ثم هم / [ نوعان ] : نوع تجب عليهم الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء .
ونوع لا تجب عليه الزكاة .
وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة، وهم الذين قال اللّه فيهم : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] . وقد لا يكون له فضل، وهؤلاء الذين رزقهم قوت وكفاف هم أغنياء باعتبار غناهم عن الناس، وهم فقراء باعتبار أنه ليس لهم فضول يتصدقون بها .(186/57)
وإنما يسبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة بنصف يوم، لعدم فضول الأموال التي يحاسبون على مخارجها ومصارفها، فمن لم يكن له فضل كان من هؤلاء، وإن لم يكن من أهل الزكاة، ثم أرباب الفضول إن كانوا محسنين في فضول أموالهم، فقد يكونون بعد دخول الجنة أرفع درجة من كثير من الفقراء الذين سبقوهم، كما تقدم أغنياء الأنبياء والصديقين من السابقين وغيرهم على الفقراء الذين دونهم . ومن هنا قال الفقراء : ( ذهب أهل الدثور بالأجور ) وقيل لما ساواهم الأغنياء في العبادات البدنية، وامتازوا عنهم بالعبادات المالية : { ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } فهذا هو [ الفقير ] في عرف الكتاب والسنة .
/وقد يكون الفقراء سابقين، وقد يكونون مقتصدين، وقد يكونون ظالمي أنفسهم كالأغنياء، وفي كلا الطائفتين : المؤمن الصديق، والمنافق الزنديق .
وأما المستأخرون فـ [ الفقير ] في عرفهم عبارة عن السالك إلى اللّه تعالى، كماهو [ الصوفي ] في عرفهم أيضًا، ثم منهم من يرجح مسمى [ الصوفي ] على مسمى [ الفقير ] لأنه عنده الذي قام بالباطن والظاهر ومنهم من يرجح مسمي الفقير؛ لأنه عنده الذي قطع العلائق، ولم يشتغل في الظاهر بغير الأمور الواجبة، وهذه منازعات لفظية اصطلاحية .(186/58)
و [ التحقيق ] أن المراد المحمود بهذين الاسمين، داخل في مسمى الصديق، والولي والصالح، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة، فمن حيث دخل في الأسماء النبوية، يترتب عليه من الحكم ما جاءت به الرسالة، وأما ما تميز به مما يعده صاحبه فضلًا وليس بفضل، أو مما يوالي عليه صاحبه غيره، ونحو ذلك من الأمور التي يترتب عليها زيادة الدرجة في الدين والدنيا، فهي أمور مهدرة في الشريعة إلا إذا جعلت من المباحات كالصناعات، فهذا لا بأس به، بشرط ألا يعتقد أن تلك المباحات من الأمور المستحبات . وإما ما يقترن بذلك من الأمور المكروهة في دين اللّه : من أنواع البدع والفجور . فيجب النهي عنه كما جاءت به الشريعة .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=218 - TOP#TOPوسئل : عن قوم يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى باب [ أهل الصفة ] فاستأذن، فقالوا : من أنت ؟ قال : أنا محمد، قالوا : ماله عندنا موضع الذي يقول : أنا . فرجع ثم استأذن ثانية، وقال : أنا محمد مسكين، فأذنوا له . فهل يجوز التكلم بهذا . أم هو كفر ؟
فأجاب :
هذا الكلام من أعظم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى [ أهل الصفة ] فإن [ أهل الصفة ] لم يكن لهم مكان يستأذن عليهم فيه، إنما كانت الصفة في شمالي مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، يأوى إليها من لا أهل له من المؤمنين، ولم يكن يقيم بها ناس معينون، بل يذهب قوم ويجىء آخرون، ولم يكن [ أهل الصفة ] خيار الصحابة؛ بل كانوا من جملة الصحابة؛ ولم يكن أحد من الصحابة يستخف بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر . ومن فعل ذلك فهو كافر ومن اعتقد هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل . واللّه أعلم .(186/59)
سئل ـ رحمه الله ـ عن قوم يروون عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحاديث لا سند لهم بها . فيقولون : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( أنا من اللّه، والمؤمنون مني يتسمون بالأهوية منه ) ، فهل هذا صحيح أم لا ؟ ويقرءون بينهم أحاديث، ويزعمون أن عمر ـ رضي اللّه عنه ـ قال : كان أبو بكر ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتحدثان بحديث أبقى بينهما كأني زنجي، لا أفقه، فهل يصح هذا أم لا ؟
ويتحدثون عن أصحاب الصفة بأحاديث كثيرة : منها أنهم يقولون : إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجدهم على الإسلام من قبل أن يبعث فوجدهم على الطريق، وأنهم لم يكونوا يغزون معه حقيقة، وأنه ألزمهم النبي صلى الله عليه وسلم مرة، فلما فر المسلمون منهزمين ضربوا بسيوفهم في عسكر النبي صلى الله عليه وسلم . وقالوا : نحن حزب اللّه الغالبون، وزعموا أنهم لم يقتلوا إلا منافقين في تلك المرة، فهل يصح ذلك أم لا ؟
والمسؤول تعيين [ أصحاب الصفة ] كم هم من رجل ؟ ومن كانوا من/ الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ ويزعمون أن اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ لما عرج بنبيه صلى الله عليه وسلم أوحى اللّه إليه مائة ألف سر، وأمره ألا يظهرها على أحد من البشر . فلما نزل إلى الأرض وجد أصحاب الصفة يتحدثون بها . فقال : يارب، إنني لم أظهر على هذا السر أحدًا، فأوحى اللّه إليه أنهم كانوا شهودًا بيني وبينك، فهل لهذه الأشياء صحة أم لا ؟
فأجاب :
الحمد للّه رب العالمين، جميع هذه الأحاديث أكاذيب مختلقة، ليتبوأ مفتريها مقعده من النار . لا خلاف بين جميع علماء المسلمين ـ أهل المعرفة وغيرهم ـ أنها مكذوبة مخلوقة، ليس لشيء منها أصل؛ بل من اعتقد صحة مجموع هذه الأحاديث فإنه كافر؛ يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وليس لشيء من هذه الأحاديث أصل البتة . ولا توجد في كتاب، ولا رواها قط أحد ممن يعرف اللّه ورسوله .(186/60)
فأما الحديث الأول ـ قوله : ( أنا من اللّه والمؤمنون مني ) ـ فلا يحفظ هذا اللفظ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : ( أنت مني وأنا منك ) كما قال اللّه ـ سبحانه : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } [ آل عمران : 195 ] أي : أنتم نوع واحد، متفقون في القصد والهدى، كالروحين اللتين تتفقان في صفاتهما؛ وهي الجنود المجندة التي/ قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ) .
وأما أن يكون الخلق جزءًا من الخالق تعالى، فهذا كفر صريح يقوله أعداء اللّه النصارى، ومن غلا من الرافضة؛ وجهال المتصوفة ومن اعتقده فهو كافر . نعم ! للمؤمنين العارفين باللّه المحبين له من مقامات القرب ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله، والرب رب، والعبد عبد؛ ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته؛ وليس أحد من أهل المعرفة باللّه يعتقد حلول الرب تعالى به، أو بغيره من المخلوقات ولا اتحاده به .
وإن سمع شيء من ذلك منقول عن بعض أكابر الشيوخ، فكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاكون من الاتحادية المباحية؛ الذين أضلهم الشيطان وألحقهم بالطائفة النصرانية .
والذي يصح منه عن الشيوخ له معان صحيحة؛ ومنه ما صدر عن بعضهم في حال استيلاء حال عليه، ألحقه تلك الساعة بالسكران الذي لا يميز ما يخرج منه من القول، ثم إذا ثاب عليه عقله وتمييزه ينكر ذلك القول، ويكفر من يقوله، وما يخرج من القول في حال غيبة /عقل الإنسان لا يتخذه هو ولا غيره عقيدة، ولا حكم له، بل القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمى عليه والسكران الذي سكر بغير سبب محرم؛ مثل من يسقى الخمر وهو لا يعرفها أو أوجرها حتى سكر أو أطعم البنج وهو لا يعرفه، فكذلك .(186/61)
وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال اللّه وعظمته وجماله أمورا عظيمة، تصادف قلوبًا رقيقة، فتحدث غشيًا وإغماءً . ومنها ما يوجب الموت . ومنها ما يخل العقل . وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا كما لا يعتري الناقصين عنهم؛ لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم، وضعف المحل المورود عليه، فمن اغتر بما يقولونه أو يفعلونه في تلك الحال كان ضالًا مضلًا .
وإنما [ الأحوال الصحيحة ] مثل ما دل عليه ما رواه البخاري في صحيحه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : ( من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها . فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وماترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن/ قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ) .(186/62)
فانظر كيف قال في تمام الحديث : ( فبي يسمع، وبي يبصر، ولئن سألني، ولئن استعاذني ) فميز بين الرب وبين العبد، ألا تسمع إلى قوله تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [ المائدة : 72 ] ، وقال : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } إلى قوله : { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } [ المائدة : 75 ] ، وقال : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } إلى قوله : { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا } [ النساء : 171-172 ] .
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول اللّه تعالى : يابن آدم ! مرضت فلم تعدني فيقول : رب ! كيف أعودك، وأنت رب العالمين ؟ ! فيقول : أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلوعدته لوجدتني عنده ) .(186/63)
وذكر في الجوع والعري مثل ذلك . فانظر كيف عبر في أول الحديث بلفظ /مرضت ثم فسره في تمامه؛ بأن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده، فميز بين الرب والعبد، والعبد العارف باللّه تتحد إرادته بإرادة اللّه، بحيث لا يريد إلا مايريده اللّه أمرًا به ورضا، ولا يحب إلا ما يحبه اللّه، ولا يبغض إلا ما يبغضه اللّه، ولا يلتفت إلى عذل العاذلين، ولوم اللائمين، كما قال سبحانه : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } [ المائدة : 54 ] .
والكلام في مقامات العارفين طويل .
وإنما الغرض أن يتفطن المؤمن للفرق بين هؤلاء الزنادقة الذين ضاهوا النصارى، وسلكوا سبيل أهل [ الحلول، والاتحاد ] وكذبوا على اللّه ورسوله . وكذبوا اللّه ورسوله، وبين العالمين باللّه والمحبين له أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فإنه قد يشتبه هؤلاء بهؤلاء، كما اشتبه على كثير من الضالين حال مسيلمة الكذاب المتنبي بمحمد ابن عبد اللّه رسول اللّه حقًا، حتى صدقوا الكاذب وكذبوا الصادق . واللّه قد جعل على الحق آيات وعلامات وبراهين . { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [ النور : 40 ] .
وأما حديث عمر : أنه كان كالزنجي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فكذب مختلق، نعم ! كان أبو بكر الصديق - رضي اللّه عنه - أقرب الناس إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،وأولاهم به، وأعلمهم بمراده لما يسألونه عنه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام العربي الذي يفهمه الصحابة ـ رضي اللّه عنهم .(186/64)
ويزداد الصديق بفهم آخر يوافق ما فهموه، ويزيد عليهم ولا يخالفه؛ مثل ما في الصحيحين عن أبي سعيد : أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال : ( إن عبدًا خيره اللّه بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند اللّه ) . فبكى أبو بكر . وقال : بل نفديك بأنفسنا وأموالنا . فجعل بعض الناس يعجب ويقول : عجبًا لهذا الشيخ يبكي أن ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره اللّه بين الدنيا والآخرة . قال : فكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به .
فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبدًا مطلقًا، وهذا كلام عربي لا لغز فيه، ففهم الصديق لقوة معرفته بمقاصد النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبد المخير، ومعرفة أن المطلق هذا المعين خارج عن دلالة اللفظ، لكن يوافقه ولا يخالفه؛ ولهذا قال أبو سعيد : كان أبو بكر أعلمنا به .
ومن هذا أن الصديق - رضي اللّه عنه - لما عزم على قتال /مانعي الزكاة قال له عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على اللّه عز وجل ) ؟ . فقال أبو بكر : الزكاة من حقها، واللّه، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ واللّه لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها .
فرجع عمر وغيره إلى قول أبي بكر . وكان هو أفهم لمعنى كلام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا رسول اللّه، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ) . فهذا النص الصريح موافق لفهم أبي بكر .(186/65)
وكذلك قوله في صلح الحديبية لعمر مثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم قال له، وأمثال ذلك كثير . فأما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بكلام لا يفهمه عمر وأمثاله، بل يكون عندهم ككلام الزنجي . فمن اعتقد هذا فهو جاهل ضال، عليه من اللّه ما يستحقه .
وأما كون أهل الصفة كانوا قبل المبعث مهتدين . فعلى من قال /هذا : لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا جاهلين؛ بل لا خلاف بين المسلمين أنهم كانوا كافرين جاهلين باللّه وبدينه؛ وإنما هداهم اللّه بكتابه؛ وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن بين أهل الصفة وسائر الصحابة فرق في الكفر والضلالة قبل إيمانهم برسول اللّه صلى الله عليه وسلم . ولقد كان بعد الإسلام كثير ممن لم يكن من [ أهل الصفة ] كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي اللّه عنهم ـ أعلم باللّه؛ وأعظم يقينًا من عامة أهل الصفة .
وأما ما ذكر من تخلفهم عنه في الجهاد فقول جاهل ضال؛ بل هم الذين كانوا أعظم الناس قتالًا وجهادًا؛ كما وصفهم القرآن في قوله : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] .(186/66)
وقال في صفتهم : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [ البقرة : 273 ] ، ولقد قتل منهم في يوم واحد ــ يوم بئر معونة ــ سبعون؛ حتى وجد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم موجدة، وقنت شهرًا يدعوا على الذين قتلوهم؛ وأخبر عنهم : ( أنهم بهم تتقي المكاره، وتسد بهم الثغور، وأنهم أول الناس ورودًا على الحوض، وأنهم الشعث رؤوسًا، الدنّس ثيابا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب الملوك ) .
/وأما [ عددهم ] فقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخهم : وهم نحو من ستمائة، أو سبعمائة، أو نحو ذلك . ولم يكونوا مجتمعين في وقت واحد، بل كان في شمال المسجد صفة يأوي إليها فقراء المهاجرين، فمن تأهل منهم، أو سافر، أو خرج غازيًا خرج منها، وقد كان يكون في الوقت الواحد فيها السبعون، أو أقل، أو أكثر ومنهم : سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة، وأبو هريرة، وخبيب، وسلمان وغيرهم .
وأما ما ذكر من أنهم عرفوا ما أوحاه اللّه إلى نبيه ليلة المعراج فكذب، ملعون قائله . وكيف يكون ذلك والمعراج كان بمكة قبل الهجرة ؟ ! وأهل الصفة إنما كانوا بالمدينة بعد الهجرة، وبناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة : الطيبة، وهذا كله واضح عند من عرف اللّه ورسوله وكان مسلمًا حنيفًا أو كان عالما بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه معه .
وإنما يقع في هذه الجالهات أقوام نقص إيمانهم وقل علمهم، واستكبرت أنفسهم، حتى صاروا بمنزلة فرعون، وصاروا أسوأ حالًا من النصارى .
واللّه يتوب علينا وعليهم، وعلى سائر إخواننا المسلمين، ويهدينا وإياهم صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم . غير المغضوب عليهم . ولا الضالين . واللّه تعالى أعلم .(186/67)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=219 - TOP#TOPوسئل عن [ الفتوة ] المصطلح عليها . . . إلخ .
فأجاب ـ رضي اللّه عنه ـ قائلًا :
أما ما ذكره من [ الفتوة ] التي يلبس فيها الرجل لغيره سراويل، ويسقيه ماء وملحًا؛ فهذا لا أصل له . ولم يفعلها أحد من السلف لا علي ولا غيره . والإسناد الذي يذكرونه في [ الفتوة ] إلى أمير المؤمنين : علي بن أبي طالب، من طريقة الخليفة الناصر وغيره، إسناد مظلم، عامة رجاله مجاهيل لا يعرفون وليس لهم ذكر عند أهل العلم .
وقد ذكر أن أصل ذلك : أنه وضع سراويل عند قبر علي فأصبح مسدودًا، وهذا يجري عند غير علي، كما يجري أمثال ذلك من الأمور التي يظن أنها كرامة، في الكنائس وغيرها، مثل دخول مصروع إليها فيبرأ بنذر يجعل للكنيسة، ونحو ذلك . وهذا إذا لم يكن كذبًا فإنه من فعل الشياطين . كما يفعل مثل ذلك عند الأوثان، وأنا أعرف من ذلك وقائع متعددة .
/والمقصود هنا أن سراويل الفتوة لا أصل له عن علي ولا غيره من السلف، وما يشترطه بعضهم من الشروط، إن كان مما أمر اللّه به ورسوله، فإنه يفعل؛ لأن اللّه أمر به ورسوله، وما نهى عنه مثل التعصب لشخص على شخص، والإعانة على الإثم والعدوان، فهو مما ينهي عنه، ولو شرطوه .
ولفظ [ الفتى ] في اللغة هو الشاب، كما ذكر ذلك أهل اللغة . ومنه قوله تعالى : { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ } [ يوسف : 36 ] ، وقوله : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } [ الكهف : 13 ] { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاه } [ الكهف : 60 ] . وقد فتى يفتي فهو فتى، أي بين الفتا، والأفتا من الدواب خلاف المسان، وقد يعبر بالفتى عن المملوك مطلقًا، كما قال تعالى : { مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } [ النساء : 25 ] .(186/68)
ولما كان الشاب ألين عريكة من الشيخ صار في طبعه من السخاء والكرم ما لا يوجد في الشيوخ . فصاروا يعبرون بلفظ الفتى عن السخي الكريم . يقال : هو فتى بين الفتوة وقد يفتى، ويفاتى، والجمع فتيان وفتية .
واستعمال لفظ الفتى بمعنى المتصف بمكارم الأخلاق موجود في كلام كثير من المشائخ،وقد يظن أن لفظ القرآن يدل على هذا . ومنه قول بعض الشيوخ : طريقنا تفتى وليس تنصر، يعني هو استعمال مكارم /الأخلاق؛ ليس هو النسك اليابس . ومنه قول أبي إسماعيل الأنصاري [ أبو إسماعيل الأنصارى : هو عبد الله بن محمد بن على بن محمد بن أحمد بن على بن جعفر بن متَّ الأنصارى الهروىّ، مصنف كتاب [ ذم الكلام ] ، وشيخ خراسان، من ذرية صاحب النبى صلى الله عليه وسلم أبى أيوب الأنصارى . ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة . توفى فى ذي الحجة سنة 481 هـ . [ سير أعلام النبلاء : 18/503 ــ 518 ] : الفتوة أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظما، وموادة لا مصابرة .
ونقل عن أحمد بن حنبل - رضي اللّه عنه - أنه قال : الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى . كما قال تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [ النازعات : 40 ] . فمن دعا إلى ما دعا إليه اللّه ورسوله من مكارم الأخلاق كان محسنًا، سواء سمى ذلك فتوة أو لم يسمه، ومن أحدث في دين اللّه ما ليس منه فهو رد .
والغالب أنهم يدخلون في الفتوة أمورًا ينهى عنها فينهون عن ذلك، ويؤمرون بما أمر اللّه به ورسوله، كما ينهون عن الإلباس، والإسقاء . وإسناد ذلك إلى علي ـ رضي اللّه عنه ـ وأمثال ذلك .(186/69)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=219 - TOP#TOPسئل الشيخ العالم العلامة إمام الوقت، فريد الدهر، جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان مفتى الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام بن تيمية الحراني ـ رضي اللّه عنه ونفع به آمين ـ في جماعة يجتمعون في مجلس، ويلبسون لشخص منهم لباس [ الفتوة ] ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها ويزعمون أن هذا من الدين، ويذكرون في مجلسهم ألفاظًا لا تليق بالعقل والدين .
فمنها أنهم يقولون : إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ألبس علي ابن أبي طالب - رضي اللّه تعالى عنه - لباس الفتوة، ثم أمره أن يلبس من شاء، ويقولون : إن اللباس أنزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صندوق، ويستدلون عليه بقوله تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } [ الأعراف : 26 ] ، فهل هو كما زعموا ؟ أم /كذب مختلق ؟ وهل هو من الدين أم لا ؟ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من يفعل ذلك أو يعين عليه ؟ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين اللّه . إلى عبد الجبار ويزعم أن ذلك من الدين؛ فهل لذلك أصل أم لا ؟
وهل الأسماء التي يسمون بها يعضهم بعضا من اسم الفتوة، ورؤوس الأحزاب والزعماء فهل لهذا أصل أم لا ؟ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه [ دسكرة ] ويقوم للقوم نقيب إلى الشخص الذي يلبسونه فينزعه اللباس الذي عليه بيده، ويلبسه اللباس الذي يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائر . أم لا ؟ وإذا قيل : لايجوز فعل ذلك ولا الإعانة عليه، فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك ؟(186/70)
وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا ؟ وإذا قيل : لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر أن ينكر عليهم، ويمنعهم من ذلك أم لا مع تمكنه من الإنكار ؟ وهل أحد من الصحابة ـ رضي اللّه تعالى عنهم، أو التابعين، أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا ؟
وهل خلق النبي صلى الله عليه وسلم من النور ؟ أم خلق من الأربع عناصر ؟ أم من غير ذلك ؟ وهل الحديث الذي يذكره بعض الناس : ( لولاك ماخلق اللّه عرشًا . ولا كرسيًا، ولا أرضًا، ولا سماء، / ولا شمسًا، ولا قمرًا ولا غيرذلك ) صحيح هو أم لا ؟
وهل [ الأخوة ] التي يواخيها المشائخ بين الفقراء في السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا ؟ وهل آخي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ؟ أم بين كل مهاجري وأنصاري ؟ وهل آخى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب- كرم اللّه وجهه -أم لا ؟ بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة، وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطا شافيًا مأجورين . أثابكم اللّه تعالى .
فأجاب :
الحمد للّه . أما ما ذكر من إلباس لباس [ الفتوة ] السراويل أو غيره، وإسقاء الملح والماء فهذا باطل، لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه . لا علي ابن أبي طالب ولا غيره، ولا من التابعين لهم بإحسان .
والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة، فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف، ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الإسناد المجهول/ الرجال أمرًا من الأمور التي لا تعرف عنه، فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه ؟ ! فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه وعلى علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه تعالى عنه، وما ذكروه من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب، باتفاق العارفين بسنته .(186/71)
و [ اللباس الذى يوارى السوءة ] هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح . أنزل الله تعالى هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، ويقولون : ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [ الأعراف : 13 ] .
والكذب فى هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبى صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه وقال له : إن ربك يطلب نصيبه من زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش . فهذا أيضًا كذب باتفاق أهل المعرفة؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف، ولا سماع دفوف وشبابات، ولا رقص ولا سقط عنه ثوب من ثيابه فى ذلك، ولا قسمه على أصحابه، وكل ما يروى من ذلك فهو كذب مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته .
فصل
والشروط التي تشترطها شيوخ [ الفتوة ] ما كان منها مما أمر الله به ورسوله كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم ونصر المظلوم، وصلة الأرحام والوفاء بالعهد . أو كانت مستحبة : كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذى يحبه الله ورسوله وأن يجتمعوا على السنة، ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة، ونحوذلك . فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله : مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية، أن كلا منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهى شروط ليست في كتاب الله .(186/72)
وفي السنن عنه أنه قال : ( المسلمون عند شروطهم : إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالا ) وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، ما كان من الأمر المشروط الذى قد أمر الله به ورسوله / فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله . وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه، كما نهى الله عنه ورسوله، وليس لبنى آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بنى آدم كما قال الله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] .
وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر أو يعقده الاثنان : كعقد البيع والإجارة، والهبة وغيرهما، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين : كعقد الوقف والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئًا مما نهى الله عنه ورسوله كان شرطه باطلا . وفي الصحيح عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه ) . والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هى من جنس دين الجاهلية، وهى شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقودًا أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله .
فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=220 - TOP#TOPفصل(186/73)
وأما لفظ [ الفتى ] فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ } [ الكهف : 13 ] ، وقوله تعالى : { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [ الأنبياء : 60 ] ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } [ الكهف : 60 ] ؛ لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ [ الفتوة ] عن مكارم الأخلاق . كقول بعضهم : طريقنا تفتى وليس تنصر . وقوله بعضهم : [ الفتوة ] أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسىء إليك، سماحة لا كظمًا، ومودة لا مضارة وقول بعضهم : [ الفتوة ] ترك ما تهوى لما تخشى، وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة، سواء سميت فتوة أو لم تسم، وهى لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء . كلفظ الإحسان والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم، وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، والزكاة والخير . ونحو ذلك من الأسماء الحسنة التي تتضمن هذه المعانى، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب، والخيانة، / والفجور، والظلم والفاحشة ونحو ذلك .
وأما لفظ [ الزعيم ] فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى : { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 72 ] فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال : هو زعيم؛ فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًا كان مذمومًا على ذلك .(186/74)
وأما [ رأس الحزب ] فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أى تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم . وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذى ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان .
وفي الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ) وشبك بين/ أصابعه . وفي الصحيح عنه أنه قال : ( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله ) وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا ) قيل : يا رسول الله أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا ؟ ! قال : ( تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه ) . وفي الصحيح عنه أنه قال : ( خمس تجب للمسلم على المسلم : يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويشيعه إذا مات ) . وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه ) .(186/75)
فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض . وفي الصحيحين عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا ) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يرضى لكم ثلاثًا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا؛ وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ) .
وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله، قال : ( صلاح ذات البين، فإن /فساد ذات البين هى الحالقة، لا أقول تحلق الشعر . ولكن تحلق الدين ) فهذه الأمور مما نهى الله ورسوله عنها .
وأما لفظ [ الدسكرة ] فليست من الألفاظ التي لها أصل في الشريعة فيتعلق بها حمد أو ذم، ولكن هى في عرف الناس يعبر بها عن المجامع . كما في حديث هرقل : أنه جمع الروم في دسكرة؛ ويقال للمجتمعين على شرب الخمر : إنهم في دسكرة؛ فلا يتعلق بهذا اللفظ حمد ولا ذم، وهو إلى الذم أقرب؛ لأن الغالب في عرف الناس أنهم يسمون بذلك الاجتماع على الفواحش والخمر والغناء .
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض على كل مسلم، لكنه من فروض الكفايات، فإن قام بهما من يسقط به الفرض من ولاة الأمر، أو غيرهم . وإلا وجب على غيرهم أن يقوم من ذلك بما يقدر عليه .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=220 - TOP#TOPفصل(186/76)
والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خلق مما يخلق منه البشر؛ ولم يخلق أحد من البشر من نور، بل قد ثبت في الصحيح عن النبى/صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( إن الله خلق الملائكة من نور؛ وخلق إبليس من مارج من نار؛ وخلق آدم مما وصف لكم ) وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت منه فقط؛ بل قد يخلق المؤمن من كافر، والكافر من مؤمن، كابن نوح منه وكإبراهيم من آزر، وآدم خلقه الله من طين، فلما سواه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة، وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شىء وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك . فهو وصالحو ذريته أفضل من الملائكة؛ وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين، وهؤلاء من نور . وهذه [ مسألة كبيرة ] مبسوطة في غير هذا الموضع، فإن فضل بنى آدم هو بأسباب يطول شرحها هنا . وإنما يظهر فضلهم إذا دخلوا دار القرار : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد : 23، 24 ] والآدمى خلق من نطفة، ثم من مضغة، ثم من علقة، ثم انتقل من صغر إلى كبر، ثم من دار إلى دار، فلا يظهر فضله وهو في ابتداء أحواله، وإنما يظهر فضله عند كمال أحواله، بخلاف الملك الذى تشابه أول أمره وآخره . ومن هنا غلط من فضل الملائكة على الأنبياء حيث نظر إلى أحوال الأنبياء . وهم في أثناء الأحوال، قبل أن يصلوا إلى ما وعدوا به في الدار الآخرة من نهايات الكمال .(186/77)
/وقد ظهر فضل نبينا على الملائكة ليلة المعراج لما صار بمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، وعلا على مقامات الملائكة، والله تعالى أظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحى الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة، حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات . فخلق بدنه من الأرض، وروحه من الملأ الأعلى، ولهذا يقال : هو العالم الصغير، وهو نسخة العالم الكبير . ومحمد سيد ولد آدم، وأفضل الخلق، وأكرمهم عليه . ومن هنا قال من قال : إن الله خلق من أجله العالم، أو أنه لولا هو لما خلق عرشًا، ولا كرسيًا، ولا سماء ولا أرضًا ولا شمسًا ولا قمرًا .
لكن ليس هذا حديثًا عن النبى صلى الله عليه وسلم لا صحيحًا ولا ضعيفًا، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، بل ولا يعرف عن الصحابة، بل هو كلام لا يدرى قائله . ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [ الجاثية : 13 ] ، وقوله : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 32 ــ 34 ] وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبنى آدم . ومعلوم أن لله فيها حكمًا عظيمة غير ذلك، /وأعظم من ذلك . ولكن يبين لبنى آدم ما فيها من المنفعة، وما أسبغ عليهم من النعمة .(186/78)
فإذا قيل : فعل كذا لكذا لم يقتض ألا يكون فيه حكمة أخرى . وكذلك قول القائل : لولا كذا ما خلق كذا . لا يقتضى ألا يكون فيه حكم أخرى عظيمة، بل يقتضى إذا كان أفضل صالحى بنى آدم محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة، وحكمة بالغة مقصودة أعظم من غيره، صار تمام الخلق، ونهاية الكمال، حصل بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم .
والله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وكان آخر الخلق يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وهو آخر ما خلق، خلق يوم الجمعة بعد العصر في آخر يوم الجمعة . وسيد ولد آدم هو محمد ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ آدم فمن دونه تحت لوائه ـ قال صلى الله تعالى عليه وسلم : ( إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل [ منجدل : أى ملقى على الجَدَالة وهى الأرض . انظر غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/248 ] في طينته ) أي كتبت نبوتي وأظهرت لما خلق آدم قبل نفخ الروح فيه، كما يكتب الله رزق العبد وأجله وعمله وشقى أو سعيد إذا خلق الجنين قبل نفخ الروح فيه .
فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها /وهو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقًا، ومحمد إنسان هذا العين، وقطب هذه الرحى، وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات، فما ينكر أن يقال : إنه لأجله خلقت جميعها، وأنه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل علىه الكتاب والسنة قبل ذلك .(186/79)
وأما إذا حصل في ذلك غلو من جنس غلو النصارى بإشراك بعض المخلوقات في شىء من الربوبية، كان ذلك مردودًا غير مقبول، فقد صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا : عبد الله ورسوله ) وقد قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ النساء : 171 ] .(186/80)
والله قد جعل له حقًا لا يشركه فيه مخلوق فلا تصلح العبادة إلا له، ولا الدعاء إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا الرغبة إلا إليه، ولا الرهبة إلا منه، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به { وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 93 ــ 95 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ النور : 52 ] ، فجعل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده، وكذلك في قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] فالإيتاء لله والرسول . وأما التوكل فعلى الله وحده، والرغبة إلى الله وحده .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=220 - TOP#TOPفصل(186/81)
وأما [ المؤاخاة ] فإن النبى صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسى وبين أبى الدرداء، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة، حتى أنزل الله تعالى : { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } [ الأنفال : 75 ] فصاروا يتوارثون بالقرابة . وفي ذلك أنزل الله تعالى : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } [ النساء : 33 ] وهذا هو المحالفة . واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ ؟ على قولين :
/أحدهما : أن ذلك منسوخ، وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال : ( لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة ) .
والثاني : أن ذلك محكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه .
وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال : إنه آخى بين أبى بكر وعمر، وأنه آخى عليًا ونحو ذلك، فهذا كله باطل، وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة، وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة، وذلك نقل ضعيف : إما منقطع، وإما بإسناد ضعيف . والذى في الصحيح هو ما تقدم، ومن تدبر الأحاديث الصحيحة، والسيرة النبوية الثابتة، تيقن أن ذلك كذب .(186/82)
وأما عقد الأخوة بين الناس في زماننا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ، وقول النبى صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ) ، وقوله : ( لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه ) . وقوله : ( والذى / نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه ) ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن . فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله . وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة، وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان، بناء على أن ذلك منسوخ أم لا ؟ فمن قال : إنه منسوخ ـ كمالك والشافعى وأحمد في المشهور عنه ـ قال : إن ذلك غير مشروع . ومن قال : إنه لم ينسخ ـ كما قال : أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى ـ قال : إنه مشروع .
وأما [ الشروط ] التي يلتزمها كثير من الناس في [ السماع ] وغيره . مثل أن يقول : على المشاركة في الحسنات، وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه، ونحو ذلك . فهذه كلها شروط باطلة؛ فإن الأمر يومئذ لله، هو { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا } [ الانفطار : 19 ] وكما قال تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] .(186/83)
وكذلك يشترطون شروطًا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها، / وما أعلم أحدًا ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ماشرطه الله ورسوله وفي بها، بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال؛ لا حقيقة له في المآل، وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله، فضلا عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك .
وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع . والله أعلم .
/وقال ـ رحمه الله :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=220 - TOP#TOPفصل
والشيخ [ عدى بن مسافر بن صخر ] [ عدى بن مسافر بن صخر : هو عدى بن صخر الشامى، وقيل : عدى بن مسافر ــ وهذا أشهر ــ ابن إسماعيل بن موسى الشامى، ثم الهكارى مسكنا . قال الحافظ عبد القادر : ساح سنين كثيرة، وصحب المشايخ، سكن جبال الموصل في موضع ليس به أنيس، ثم أنس الله تلك المواضع به وعمرها ببركته، كان معلما للخير، ناصحًا متشرعًا، شديدًا في الله، كانت له غليلة يزرعها في الجبل ويحصدها ويتقوت، ولا يأكل من مال أحد شيئًا . صحب الشيخ عقيلا المنبجى، والشيخ حماد الدباس وغيرهما، وتوفي سنة 557 وعاش تسعين سنة . [ سير أعلام النبلاء : 20/342 ــ 344 ] كان رجلا صالحًا، وله أتباع صالحون، ومن أصحابه من فيه غلو عظيم، يبلغ بهم غليظ الكفر، وقد رأيت جزءًا أتى بيد أتباعه فيه نسبه وسلسلة طريقه، فرأيت كليهما مضطربًا .
أما [ النسب ] فقالوا : عدى بن مسافر بن إسماعيل بن موسى بن مروان بن أحمد بن مروان بن الحكم بن مروان الأموى . وهذا كذب قطعًا فإن يمتنع أن يكون بينه وبين مروان ابن الحكم خمسة أنفس .
وأما [ الخرقة ] فقالوا : دخل على الشيخ العارف عقيل المنبجى وألبسه الخرقة بيده، والشيخ عقيل لبس الخرقة من يد الشيخ مسلمة المردجى، والشيخ مسلمة لبس الخرقة من يد الشيخ أبى سعيد الخراز .
/قلت : هذا كذب واضح، فإن مسلمة لم يدرك أبا سعيد، بل بينهما أكثر من مائة سنة، بل قريبًا من مائتي سنة .(186/84)
ثم قالوا : والشيخ أبو سعيد الخراز لبس الخرقة من يد الشيخ أبى محمد العنسى والعنسى لبسها من يد الشيخ على بن عليل الرملى، والشيخ على بن عليل لبسها من يد والده الشيخ عليل الرملى، والشيخ عليل لبس الخرقة من يد الشيخ عمار السعدى، والشيخ عمار السعدى لبس الخرقة من يد الشيخ يوسف الغسانى، والشيخ يوسف الغسانى لبس الخرقة من يد والده الشيخ يعقوب الغساني، والشيخ يعقوب الغساني لبس الخرقة من يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يوم خطب الناس بالجابية، وعمر بن الخطاب لبس الخرقة من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لبس الخرقة من يد جبرائيل، وجبرائيل من الله تعالى .
قلت : لبس عمر للخرقة وإلباسه ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم للخرقة وإلباسه يعرف كل من له أدنى معرفة أنه كذب . وأما الإسناد المذكور ما بين أبى سعيد إلى عمر فمجهول، وما أعرف لهؤلاء ذكرًا لا في كتب الزهد والرقائق، ولا في كتب الحديث والعلم، ومن الممكن أن يكون بعض هؤلاء كانوا شيوخًا، وقد ركب هذا الإسناد عليهم من لم يعرف أزمانهم والله أعلم بحقيقة أمرهم .(186/85)
/ثم ذكروا بعد هذا [ عقيدته ] وقالوا : هذه عقيدة السنة من إملاء الشيخ عدى . و [ العقيدة ] من كتاب [ التبصرة ] للشيخ أبى الفرج المقدسى، بألفاظه، نقل المسطرة، لكن حذفوا منها تسمية المخالفين وأقوالهم، وذكروا ما ذكره من الأدلة، وزادوا فيها من ذكر يزيد وغيره أشياء لم يقلها الشيخ أبو الفرج وفيها أحاديث موضوعة، وقال في آخرها : فهذا اعتقادنا، وما نقلناه عن مشائخنا نقله جبرائيل عن الله، ونقله النبى صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل، ونقله الصحابة عن النبى صلى الله عليه وسلم وسمى من سماه اللالكائي في أول كتاب [ شرح أصول السنة ] كما ذكروا أن هذا أملاه الشيخ عدي من حفظه، وأمر بكتابته، ورووا ذلك بالسماع عن الشيخ حسن بن عدى بن أبي البركات بسماعه من والده عدى بن أبي البركات بن صخر بن مسافر وهو عدي .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=220 - TOP#TOPوسئل :
هل تخلل أبو بكر بالعباءة ؟ وتخللت الملائكة لأجله بالعباءة أم لا ؟
فأجاب :
الحمد لله، لم يتخلل أبو بكر بالعباءة، ولا الملائكة تخللوا بالعباءة، وذلك كذب . والله أعلم .
وسئل عن معنى قول من يقول : [ حب الدنيا رأس كل خطيئة ] فهل هى من جهة المعاصي؟ أو من جهة جمع المال؟ .
فأجاب :
ليس هذا محفوظًا عن النبيصلى الله عليه وسلم؛ ولكن هو معروف عن جندب بن عبد الله البجلى من الصحابة، ويذكر عن المسيح ابن مريم عليه السلام، وأكثر ما يغلو في هذا اللفظ المتفلسفة، ومن حذا حذوهم من الصوفية على أصلهم، في تعلق النفس إلى أمور ليس هذا موضع بسطها .(186/86)
وأما حكم الإسلام في ذلك : فالذى يعاقب الرجل عليه الحب الذى يستلزم المعاصي : فإنه يستلزم الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن الحرص على المال والرئاسة يوجب هذا، كما في الصحيحين أنه قال : ( إياكم والشُّحَّ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) ، وعن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم /بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) . قال الترمذى : حديث حسن .
فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين، فأما مجرد الحب الذى في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به، ويترك ما نهى الله عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى، فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل، وجمع المال، إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام، لا يعاقب عليه، لكن إخراج فضول المال، والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب، وأجمع للهَمّ، وأنفع في الدنيا والآخرة . وقال النبيصلى الله عليه وسلم : ( من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه ضيعته، وأتته الدنيا وهى راغمة ) .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=221 - TOP#TOPوسئل ــ رحمه الله ــ عما يذكر من قولهم : اتخذوا مع الفقير أيادى فإن لهم دولة وأى دولة ؟ ! وقول عمر بن الخطاب ــ رضى الله عنه : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث مع أبي بكر ــ رضى الله عنه ــ وكنت بينهما كالزنجى، ما معنى ذلك؟ وقول بعض الناس لبعض : نحن في بركتك، أو من وقت حللت عندنا حلت علينا البركة . ونحن في بركة هذا الشيخ المدفون عندنا، هل هو قول مشروع أم لا؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب :(186/87)
الحمد لله، أما الحديثان الأولان فكلاهما كذب، وما قال عمر بن الخطاب ما ذكر عنه قط، ولا روى هذا أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف، وهو كلام باطل؛ فإن من كان دون عمر كان يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ويفهم ما ينفعه الله به، فكيف بعمر؟ ! وعمر أفضل الخلق بعد أبي بكر، فكيف يكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بمنزلة كلام الزنجى .
/ثم الذين يذكرون هذا الحديث من ملاحدة الباطنية؛ يدعون أنهم علموا ذلك السر الذى لم يفهمه عمر . وحمله كل قوم على رأيهم الفاسد، والنجادية يدعون أنه قولهم، وأهل الحقيقة الكونية الذين ينفون الأمر والنهى والوعيد يدعون أنه قولهم .
وأهل الحلول الخاص أشباه النصارى يدعون أنه قولهم؛ إلى أصناف أخر يطول تعدادها .
فهل يقول عاقل : إن عمر وهو شاهد لم يفهم ما قالا، وإن هؤلاء الجهال الضلال أهل الزندقة والإلحاد والمحال علموا معنى ذلك الخطاب، ولم ينقل أحد لفظه، وإنما وضع مثل هذا الكذب ملاحدة الباطنية، حتى يقول الناس : إن ما أظهره الرسل من القرآن والإيمان والشريعة له باطن يخالف ظاهرة؛ وكان أبو بكر يعلم ذلك الباطن دون عمر، ويجعلون هذا ذريعة عند الجهال إلى أن يسلخوهم من دين الإسلام .
ونظير هذا ما يروونه أن عمر تزوج امرأة أبي بكر ليعرف حاله في الباطن، فقالت : كنت أشم رائحة الكبد المشوية، فهذا أيضًا كذب، وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر، بل تزوجها على بن أبي طالب وكانت قبل أبي بكر عند جعفر، وهى أسماء بن عميس وكانت من/ عقلاء النساء، وعمر كان أعلم بأبي بكر من نسائه وغيرهم .(186/88)
وأما الحديث الآخر وهو قوله : ( اتخذوا مع الفقراء أيادى فإن لهم دولة وأى دولة ! ) فهذا ــ أيضًا ــ كذب، ما رواه أحد من الناس، والإحسان إلى الفقراء الذين ذكرهم الله في القرآن، قال الله فيهم : { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ } إلى قوله : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } [ البقرة : 271 ــ 273 ] ، وأهل الفيء وهم الفقراء المجاهدون الذين قال الله فيهم : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } الآية [ الحشر : 8 ] . والمحسن إليهم وإلى غيرهم عليه أن يبتغى بذلك وجه الله، ولا يطلب من مخلوق لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال تعالى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [ الليل : 17 ـ 21 ] ، وقال : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } الآية [ الإنسان : 8، 9 ] .
ومن طلب من الفقراء الدعاء أو الثناء خرج من هذه الآية؛ فإن في الحديث الذى في سنن أبي داود ( من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ) ؛ ولهذا كانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسول : اسمع ما دعوا به لنا؛ حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا، ويبقى أجرنا على الله .(186/89)
/وقال بعض السلف : إذا أعطيت المسكين، فقال : بارك الله عليك . فقل : بارك الله عليك . أراد أنه إذا أثابك بالدعاء فادع له بمثل ذلك الدعاء، حتى لا تكون اعتضت منه شيئًا . هذا والعطاء لم يطلب منهم . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما نفعني مال كمال أبي بكر ) أنفقه يبتغى به وجه الله، كما أخبر الله عنه، لا يطلب الجزاء من مخلوق لا نبي ولا غيره، لا بدعاء ولا شفاعة .
وقول القائل : لهم في الآخرة دولة وأي دولة ! ، فهذا كذب، بل الدولة لمن كان مؤمنًا تقيًا فقيرًا كان أو غنيًا، وقال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الآيتين [ الروم : 14، 15 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13، 14 ] ، وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ونظير هذا في القرآن كثير .
ومع هذا فالمؤمنون ـ الأنبياء وسائر الأولياء ـ لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله،كما قال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } [ الأنبياء : 28 ] ، وقال تعالى : { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] فمن أحسن إلى مخلوق يرجو أن ذلك المخلوق يجزيه يوم القيامة كان من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، بل إنما يجزى على الأعمال يومئذ الواحد القهار، /الذى إليه الإياب والحساب، الذى لا يظلم مثقال ذرة، وإن تكن حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا . ولا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه .(186/90)
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=221 - TOP#TOPفصل
وأما قول القائل : نحن في بركة فلان، أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة . فهذا الكلام صحيح باعتبار، باطل باعتبار . فأما الصحيح : فأن يراد به أنه هدانا وعلمنا وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، فببركة اتباعه وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح . كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بركته لما آمنوا به، وأطاعوه، فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة مالا يعلمه إلا الله .
وأيضًا، إذا أريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر وحصل لنا رزق ونصر فهذا حق،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم ؟ ) وقد يدفع العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن/ لا يستحق العذاب، ومنه قوله تعالى : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ } إلى قوله : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الفتح : 25 ] .(186/91)
فلولا الضعفاء المؤمنون الذين كانوا بمكة بين ظهرانى الكفار عذب الله الكفار، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لولا ما في البيوت من النساء والذراري لأمرت بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم ) وكذلك ترك رجم الحامل حتى تضع جنينها، وقد قال المسيح عليه السلام : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ } [ مريم : 31 ] فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقًا، فقوله حق .
وأما [ المعنى الباطل ] فمثل أن يريد الإشراك بالخلق : مثل أن يكون رجل مقبور بمكان فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل . فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم مدفون بالمدينة عام الحرة، وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالا أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم، لأن الخلفاء الراشدين كانوا يدعونهم إلى ذلك/ وكان ببركة طاعتهم للخلفاء الراشدين، وبركة عمل الخلفاء معهم ينصرهم الله ويؤيدهم . وكذلك الخليل صلى الله عليه وسلم مدفون بالشام، وقد استولى النصارى على تلك البلاد قريبًا من مائة سنة، وكان أهلها في شر . فمن ظن أن الميت يدفع عن الحى مع كون الحى عاملا بمعصية الله فهو غالط .(186/92)
وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له السعادة، وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله . وكذلك إذا اعتقد أن ذلك الشخص يشفع له، ويدخله الجنة بمجرد محبته، وانتسابه إليه، فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين، وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده، ولا اعتماده . والله سبحانه وتعالى أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=221 - TOP#TOPوسئل عن رجل [ متصوف ] قال لإنسان ــ في كلام جرى بينهم : فقراء الأسواق، فقال له الرجل : اليهودي والنصراني والمسلم في السوق، قال تعالى : { وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } [ الإسراء : 35 ] ، فقال : الصوفي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الفقر إلى الله، والأولياء مفتقرون للخاتمة والأشقياء تحت القضاء ) ، قال الصوفي للرجل : تعرف الفقر؟ فقال له : لا، قال الصوفي : الفقر هو الله . فأنكروا عليه هذا اللفظ . ثم في ثانى يوم قال رجل : أنت قلت : الفقر هو الله، فقال الصوفي : أنا قرأت في كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من رآنى آمن بي ) وأنا رأيت الفقر فآمنت به، والفقر هو الله .
فأجاب :
الحمد لله، أما الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مع كونه كذبًا مناقض للعقل والدين، فإنه ليس كل من رآه آمن به، بل قد رآه كثير مثل الكفار والمنافقين . وقول القائل : آمنت بالفقر أو كفرت بالفقر هو من الكلام الباطل، بل هو / كفر يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل . والله سبحانه هو الغنى، والخلق هم الفقراء إليه .(186/93)
وقد قال تعالى : { لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [ آل عمران : 181 ] ، فإذا كان الذين قالوا : إنه فقير قد توعدهم بهذا، فكيف بمن يقول له الفقر؟ ! و [ المصدر ] أبلغ من الصفة وإذا كان منزهًا على أن يوصف بذلك فكيف يجعل المصدر اسمًا له؟ !
ولو قال القائل : أردت بذلك الفقر هو إرادة الله ولم يكن في السياق ما يقتضى تصديقه لم يقبل ذلك منه، وإن كان في السياق ما يقبل تصديقه، نهى عن العبارة الموهومة وأمر بالعبارة الحسنة .
وأما قوله : الحديث المذكور وهو قوله : ( الفقر فخرى، وبه أفتخر ) فهو كذب موضوع لم يروه أحد من أهل المعرفة بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه باطل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتخر بشىء بل قال : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) وقال في الحديث : ( إنه أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد ) ولو افتخر بشىء لافتخر بما فضله الله به على سائر الخلق .
/و [ الفقر ] وصف مشترك بينه وبين سائر الفقراء، سواء أريد به الشرعى وهو عدم المال، أو الفقر الاصطلاحى وهو مكارم الأخلاق والزهد، مع أن لفظه في كلامه وكلام أصحابه لا يراد به إلا الفقر الشرعى دون الاصطلاحى، والله أعلم .(186/94)
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=221 - TOP#TOPوسئل عمن قال : إن [ الفقير، والغنى ] لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى . فمن كان أتقى لله كان أفضل وأحب إلى الله تعالى . وإن الحديث الصحيح الذى قال فيه صلى الله عليه وسلم : ( يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ) هذا في حق ضعفاء المسلمين، وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى، وليس مختصًا بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة، من السجاد والمرقعة والعكاز، والألفاظ المنمقة، بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة، فهل الأمر على ما ذكر أم لا؟
فأجاب ـ رضى الله عنه :
الحمد لله رب العالمين، قد تنازع كثير من متأخرى المسلمين في [ الغنى الشاكر، والفقير الصابر ] أيهما أفضل؟ فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد، وقد حكى في ذلك عن الإمام أحمد روايتان . وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين/ على الآخر . وقال طائفة ثالثة : ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة، وهذا أصح الأقوال؛ لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى . وقد قال الله تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] .(186/95)
وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام . كحال نبينا صلى الله عليه وسلم، وحال أبي بكر وعمر ــ رضى الله عنهما ــ ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، كما في الحديث الذى رواه البغوى وغيره ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى . ولو أفقرته لأفسده ذلك . وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر . ولو أغنيته لأفسده ذلك . وإن من عبادى من لا يصلحه إلا السقم . ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادي إني بهم خبير بصير ) .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ) وفي الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات سمع بذلك الأغنياء فقالوا مثل /ما قالوا . فذكر ذلك الفقراء للنبيصلى الله عليه وسلم، فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه، وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم . وصلى الله وسلم على محمد .
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى :
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOPفصل(186/96)
قد كثر تنازع الناس : أيهما أفضل [ الفقير الصابر،أو الغنى الشاكر ] ؟ وأكثر كلامهم فيها مشوب بنوع من الهوى، أو بنوع من قلة المعرفة، والنزاع فيها بين الفقهاء والصوفية، والعامة والرؤساء وغيرهم . وقد ذكر القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في كتاب [ التمام لكتاب الروايتين والوجهين ] لأبيه فيها عن أحمد روايتين :
إحداهما : أن الفقير الصابر أفضل . وذكر أنه اختار هذه الرواية أبو إسحق بن شاقلا، ووالده القاضي أبو يعلى، ونصرها هو .
والثانية : أن الغني الشاكر أفضل، اختاره جماعة منهم ابن قتيبة . و [ القول الأول ] يميل إليه كثير من أهل المعرفة والفقه / والصلاح، من الصوفية والفقراء، ويحكى هذا القول عن الجنيد وغيره و [ القول الثاني ] يرجحه طائفة منهم، كأبي العباس بن عطاء [ أبو العباس بن عطاء : هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمىّ البغدادى، الزاهد العابد المتأله، حدث عن : يوسف بن موسى القطان، وعنه محمد بن على بن حُبيش، وقال : كان له في كل يوم ختمة، وكان ينام في اليوم والليلة ساعتين، وقيل عنه : إنه فقد عقله ثمانية عشر عاما، ثم ثاب إليه عقله، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة من ذى القعدة، [ سير أعلام النبلاء 14/255، 256 ] . وغيره وربما حكى بعض الناس في ذلك إجماعًا، وهو غلط .(186/97)
وفي المسألة [ قول ثالث ] وهو الصواب أنه ليس هذا أفضل من هذا مطلقًا، ولا هذا أفضل من هذا مطلقًا بل أفضلهما أتقاهما . كما قال تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، وقال عمر بن الخطاب : الغنى والفقر مطيتان، لا أبالى أيتهما ركبت، وقد قال تعالى : { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [ النساء : 135 ] وهذا القول اختيار طائفة منهم الشيخ ابن حفص السهروردي، وقد يكون هذا أفضل لقوم، في بعض الأحوال . وهذا أفضل لقوم في بعض الأحوال، فإن استويا في سبب الكرامة استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما الآخر في سببها ترجح عليه، هذا هو الحكم العام .
والفقر والغنى حالان يعرضان للعبد باختياره تارة وبغير اختياره أخرى كالمقام والسفر، والصحة والمرض، والإمارة والائتمار، والإمامة والائتمام . وكل جنس من هذه الأجناس لا يجوز إطلاق القول بتفضيله على الآخر، بل قد يكون هذا أفضل في حال، وهذا في حال، وقد يستويان في حال كما في الحديث المرفوع في [ شرح السنة ] للبغوى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تعالى : ( وإن من عبادي من / لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادى، إنى بهم خبير بصير ) .
وفي هذا المعنى ما يروى : ( إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا؛ كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب ) ، ويروى في مناجاة موسى نحو هذا . ذكره أحمد في الزهد . فهذا فيمن يضره الغنى ويصلحه الفقر، كما في الحديث الآخر : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .(186/98)
وكما أن الأقوال في المسألة [ ثلاثة ] فالناس [ ثلاثة أصناف ] : غنى، وهو من ملك ما يفضل عن حاجته، وفقير، وهو من لا يقدر على تمام كفايته، وقسم ثالث : وهو من يملك وفق كفايته، ولهذا كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيًا : كإبراهيم الخليل وأيوب، وداود وسليمان، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين .
/وفيهم من كان فقيرًا : كالمسيح عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا وعلى بن أبي طالب، وأبي ذر الغفاري، ومصعب بن عمير، وسلمان الفارسي ونحوهم . ممن هو من أفضل الخلق، من النبيين والصديقين، وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران : الغنى تارة والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء : كنبينا صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر .
والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر، ولا غنى، كما لم يفضل أحدًا بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام، بل قال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وفضلهم بالأعمال الصالحة : من الإيمان ودعائمه، وشعبه كاليقين والمعرفة، ومحبة الله والإنابة إليه، والتوكل عليه ورجائه، وخشيته وشكره والصبر له . وقال في آية العدل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } [ النساء : 135 ] .(186/99)
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يعدلون بين المسلمين . غنيهم وفقيرهم في أمورهم . ولما طلب بعض الأغنياء من النبي صلى الله عليه وسلم إبعاد الفقراء نهاه الله عن ذلك . وأثنى عليهم بأنهم يريدون وجهه، فقال : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } الآية [ الأنعام : 52 ] ، /وقال : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [ الكهف : 28 ] . ولما طلب بعض الفقراء من النبي صلى الله عليه وسلم مالا يصلح له نهاه عن ذلك، وقال : ( يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا . وإني أحب لك ما أحب لنفسي . لا تأمرن على اثنين . ولا تولين مال يتيم ) .
وكانوا يستوون في مقاعدهم عنده، وفي الاصطفاف خلفه، وغير ذلك . و من اختص منهم بفضل عرف النبيصلى الله عليه وسلم له ذلك الفضل، كما قنت للقراء السبعين، وكان يجلس مع أهل الصفة، وكان أيضًا لعثمان وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وعباد ابن بشر ونحوهم، من سادات المهاجرين والأنصار الأغنياء منزلة ليست لغيرهم من الفقراء، وهذه سيرة المعتدلين من الأئمة في الأغنياء والفقراء . وهذا هو العدل والقسط الذي جاء به الكتاب والسنة، وهي طريقة عمر بن عبد العزيز، والليث بن سعد، وابن المبارك ومالك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، في معاملتهم للأقوياء والضعفاء والأغنياء والفقراء .
وفي الأئمة كالثوري ونحوه من كان يميل إلى الفقراء، ويميل على الأغنياء مجتهدًا في ذلك طالبًا به رضا الله، حتى عتب عليه ذلك في آخر عمره، ورجع عنه .
/وفيهم من كان يميل مع الأغنياء والرؤساء : كالزهري، ورجاء بن حيوة، وأبي الزناد، وأبي يوسف ومحمد وأناس آخرين، وتكلم فيهم من تكلم بسبب ذلك . ولهم في ذلك تأويل واجتهاد، والأول هوالعدل والقسط، الذي دل عليه الكتاب والسنة .(186/100)
ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة فإنه قد روى : أن الفقراء قالوا له : يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يُصَلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضول أموال يتصدقون بها ولا نتصدق فقال : ( ألا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه أدركتم به من سبقكم، ولم يلحقكم من بعدكم إلا من عمل مثل عملكم ؟ ) فعلمهم التسبيح المائة في دبر كل صلاة . فجاؤوا إليه فقالوا : إن إخواننا من الأغنياء سمعوا ذلك ففعلوه، فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) وهذه الزيادة في صحيح مسلم من مراسيل أبي صالح، فهذا فيه تفضيل للأغنياء الذين عملوا مثل عمل الفقراء من العبادات البدنية بالقلب والبدن، وزادوا عليهم بالإنفاق في سبيل الله ونحوه من العبادات المالية .
وثبت عنه أيضًا في الصحيح أنه قال : ( يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ـ خمسمائة عام ) ، وفي رواية : ( بأربعين خريفًا ) فهذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق، فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على /قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب، فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب، لما فاته في الدنيا من الطيبات . والغني يحاسب، فإن كان محسنًا في غناه غير مسىء وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول . وإن كان مثله ساواه، وإن كان دونه نزل عنه . وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير .(186/101)
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم في [ حوضه ] : الذي طوله شهر وعرضه شهر : ( ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس، علي وردا فقراء المهاجرين : الدنسين ثيابا، الشُّعث رؤوسًا، الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم وحاجته تختلج في صدره لا يجد لها قضاء ) فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة، وهذا موضع ضيافة عامة فإنه يقدم الأشد جوعًا في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين لاستحقاقه ذلك ببذله عنده أو غير ذلك، وليس في المسألة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح من هذين الحديثين وفيها الحكم الفصل : إن الفقراء لهم السبق والأغنياء لهم الفضل، وهذا قد يترجح تارة، وهذا كالسبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغيرحساب ومع كل ألف سبعين ألفًا، وقد يحاسب بعدهم من إذا دخل رفعت درجته عليهم .
وما روي : ( إن ابن عوف يدخل الجنة حبوًا ) كلام موضوع / لا أصل له، فإنه قد ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن أفضل الأمة أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، والعشرة مفضلون على غيرهم والخلفاء الأربعة أفضل الأمة . وقد ثبت في الصحاح أنه قال : ( اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ) وثبت في الصحاح أيضًا أنه قال : ( احتجت الجنة والنار فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار : مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون ) وقوله : ( وقفت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها المساكين، وإذا أصحاب الجد محبوسون، إلا أهل النار فقد أمر بهم إلى النار ) ، هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) .(186/102)
فهذه الأحاديث فيها معنيان : أحدهما : أن الجنة دار المتواضعين الخاشعين، لا دار المتكبرين الجبارين سواء كانوا أغنياء أو فقراء، فإنه قد ثبت في الصحيح : أنه ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) ، و ( لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) . فقيل : يارسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك ؟ فقال : ( لا، إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس ) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الله يحب التجمل في اللباس /الذي لا يحصل إلا بالغنى، وأن ذلك ليس من الكبر، وفي الحديث الصحيح : ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : فقير مختال، وشيخ زان، وملك كذاب ) وكذلك الحديث المروي : ( لا يزال الرجل يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، ثم يذهب بنفسه، حتى يكتب عند الله جبارًا . وما يملك إلا أهله ) . فعلم بهذين الحديثين : أن من الفقراء من يكون مختالًا؛ لا يدخل الجنة . وأن من الأغنياء من يكون متجملا غير متكبر؛ يحب الله جماله، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) . ومن هذا الباب : قول هرقل لأبي سفيان : أفضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم . قال : وهم أتباع الأنبياء . وقد قالوا لنوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] فهذا فيه أن أهل الرئاسة والشرف يكونون أبعد عن الانقياد إلى عبادة الله وطاعته؛ لأن حبهم للرئاسة يمنعهم ذلك، بخلاف المستضعفين . وفي هذا المعنى الحديث المأثور ـ إن كان محفوظًا : ( اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين ) فالمساكين ضد المتكبرين، وهم الخاشعون لله، المتواضعون لعظمته، الذين لا يريدون علوًا في الأرض . سواء كانوا أغنياء أو فقراء . /ومن هذا الباب :(186/103)
أن الله خيره : بين أن يكون عبدًا رسولًا وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا؛ لأن العبد الرسول يتصرف بأمر سيده؛ لا لأجل حظه، وأما الملك فيتصرف لحظ نفسه، وإن كان مباحًا . كما قيل لسليمان : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] ففي هذه الأحاديث : أنه اختار العبودية والتواضع . وإن كان هو الأعلى هو ومن اتبعه . كما قال : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } [ آل عمران : 139 ] ، وقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ولم يرد العلو وإن كان قد حصل له .
وقد أعطى مع هذا من العطاء ما لم يعطه غيره، وإنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع، بل قد يضر وقد صبر مع هذا من اللأواء والشدة على مالم يصبر عليه غيره، فنال أعلى درجات الشاكرين وأفضل مقامات الصابرين، وكان سابقًا في حالي الفقر والغنى، لم يكن ممن لا يصلحه إلا أحدهما، كبعض أصحابه وأمته . المعنى الثاني : أن الصلاح في الفقراء أكثر منه في الأغنياء . كما أنه إذا كان في الأغنياء فهو أكمل منه في الفقراء، فهذا في هؤلاء أكثر وفي هؤلاء أكثر، لأن فتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل . ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط؛ ولهذا/صار الناس يطلبون الصلاح في الفقراء، لأن المظنة فيهم أكثر . فهذا هذا والله أعلم .(186/104)
فلهذا السبب صارت المسكنة نسبته، وكذلك لما رأوا المسكنة والتواضع في الفقراء أكثر، اعتقدوا أن التواضع والمسكنة هو الفقر وليس كذلك، بل الفقر هنا عدم المال، والمسكنة خضوع القلب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم : يستعيذ من فتنة الفقر، وشر فتنة الغني، وقال بعض الصحابة : ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها ) ولهذا كان الغالب على المهاجرين الفقر، والغالب على الأنصار الغنى، والمهاجرون أفضل من الأنصار، وكان في المهاجرين أغنياء، هم من أفضل المهاجرين، مع أنهم بالهجرة تركوا من أموالهم ماصاروا به فقراء بالنسبة إلى ما كانوا عليه .
/وhttp://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOPسئل عن [ الحمد والشكر ] ما حقيقتهما ؟ هل هما معنى واحد، أو معنيان ؟ وعلى أي شيء يكون الحمد ؟ وعلى أي شيء يكون الشكر ؟ .
فأجاب :(186/105)
الحمد لله رب العالمين، الحمد : يتضمن المدح، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد، أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان، فإن الله تعالى يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، والمثل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى؛ ولهذا قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] ، وقال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } [ سبأ : 1 ] ، وقال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } [ فاطر : 1 ] .
/وأما [ الشكر ] فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، كما قيل :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة**يدي، ولساني، والضمير المحجبا
ولهذا قال تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } [ سبأ : 13 ] .
والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه، ومن هذا الحديث ( الحمد لله رأس الشكر، فمن لم يحمد الله لم يشكره ) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها ) والله أعلم .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOPتلخيص مناظرة في [ الحمد والشكر ]
بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وبين ابن المرحل .
كان الكلام في الحمد والشكر، وإن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، والحمد لا يكون إلا باللسان .(186/106)
فقال ابن المرحل : قد نقل بعض المصنفين ـ وسماه ـ : إن مذهب أهل السنة والجماعة : إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد . ومذهب الخوارج : أنه يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وبنوا على هذا : إن من ترك الأعمال يكون كافرًا؛ لأن الكفر نقيض الشكر، فإذا لم يكن شاكرًا كان كافرًا .
قال الشيخ تقي الدين : هذا المذهب المحكى عن أهل السنة خطأ والنقل عن أهل السنة خطأ . فإن مذهب أهل السنة : أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل . قال الله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا } [ سبأ : 13 ] . وقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له : أتفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : ( أفلا أكون عبدًا شكورًا ) .
قال ابن المرحل : أنا لا أتكلم في الدليل، وأسلم ضعف هذا القول، لكن أنا أنقل أنه مذهب أهل السنة .
قال الشيخ تقي الدين : نسبة هذا إلى أهل السنة خطأ، فإن القول إذا ثبت ضعفه، كيف ينسب إلى أهل الحق ؟
ثم قد صرح من شاء الله من العلماء المعروفين بالسنة أن الشكر يكون بالاعتقاد، والقول والعمل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة .
قلت : وباب سجود الشكر في الفقه أشهر من أن يذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سجدة سورة [ ص ] ( سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا ) . ثم من الذي قال من أئمة السنة : إن الشكر لا يكون إلا بالاعتقاد ؟
قال ابن المرحل : هذا قد نقل، والنقل لا يمنع، لكن يستشكل . ويقال : هذا مذهب مشكل .
/قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية : النقل نوعان . أحدهما : أن ينقل ما سمع أو رأى . والثاني : ما ينقل باجتهاد واستنباط . وقول القائل : مذهب فلان كذا، أو مذهب أهل السنة كذا، قد يكون نسبه إليه لاعتقاده أن هذا مقتضى أصوله، وإن لم يكن فلان قال ذلك .(186/107)
ومثل هذا يدخله الخطأ كثيرًا . ألا ترى أن كثيرًا من المصنفين يقولون : مذهب الشافعي أو غيره كذا، ويكون منصوصه بخلافه ؟ وعذرهم في ذلك : أنهم رأوا أن أصوله تقتضي ذلك القول، فنسبوه إلى مذهبه من جهة الاستنباط، لا من جهة النص ؟ . وكذلك هذا . لما كان أهل السنة لا يكفرون بالمعاصي، والخوارج يكفرون بالمعاصي، ثم رأى المصنف الكفر ضد الشكر، أعتقد أنا إذا جعلنا الأعمال شكرًا لزم انتفاء الشكر بانتفائها، ومتى انتفي الشكر خلفه الكفر، ولهذا قال : إنهم بنوا على ذلك : التكفير بالذنوب . فلهذا عزى إلى أهل السنة إخراج الأعمال عن الشكر .
قلت : كما أن كثيرًا من المتكلمين أخرج الأعمال عن الإيمان لهذه العلة .
قال : وهذا خطأ، لأن التكفير نوعان : أحدهما : كفر النعمة . والثاني : الكفر بالله . والكفر الذي هو ضد الشكر : إنما هو كفر/ النعمة لا الكفر بالله . فإذا زال الشكر خلفه كفر النعمة، لا الكفر بالله .
قلت : على أنه لو كان ضد الكفر بالله، فمن ترك الأعمال شاكرًا بقلبه ولسانه فقد أتى ببعض الشكر وأصله . والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية . كما قال أهل السنة : إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرًا، حتى يترك أصل الإيمان . وهو الاعتقاد . ولا يلزم من زوال فروع الحقيقة ـ التي هي ذات شعب وأجزاء ـ زوال اسمها، كالإنسان، إذا قطعت يده، أو الشجرة، إذا قطع بعض فروعها .
قال الصدر بن المرحل : فإن أصحابك قد خالفوا الحسن البصري في تسمية الفاسق كافر النعمة، كما خالفوا الخوارج في جعله كافرًا بالله .
قال الشيخ تقي الدين : أصحابي لم يخالفوا الحسن في هذا، فعمن تنقل من أصحابي هذا ؟ بل يجوز عندهم أن يسمى الفاسق كافر النعمة، حيث أطلقته الشريعة .
قال ابن المرحل : إني أنا ظننت أن أصحابك قد قالوا هذا، لكن أصحابي قد خالفوا الحسن في هذا .(186/108)
قال الشيخ تقي الدين : ولا أصحابك خالفوه . فإن أصحابك /قد تأولوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي أطلق فيها الكفر على بعض الفسوق ـ مثل ترك الصلاة، وقتال المسلمين ـ على أن المراد به كفر النعمة . فعلم أنهم يطلقون على المعاصي في الجملة أنها كفر النعمة . فعلم أنهم موافقو الحسن، لا مخالفوه .
ثم عاد ابن المرحل، فقال : أنا أنقل هذا عن المصنف . والنقل ما يمنع، لكن يستشكل .
قال الشيخ تقي الدين : إذا دار الأمر بين أن ينسب إلى أهل السنة مذهب باطل، أو ينسب الناقل عنهم إلى تصرفه في النقل كان نسبة الناقل إلى التصرف أولى من نسبة الباطل إلى طائفة أهل الحق، مع أنهم صرحوا في غير موضع : أن الشكر يكون بالقول، والعمل، والاعتقاد . وهذا أظهر من أن ينقل عن واحد بعينه .
ثم إنا نعلم بالاضطرار أنه ليس من أصول أهل الحق إخراج الأعمال أن تكون شكرًا لله . بل قد نص الفقهاء على أن الزكاة شكر نعمة المال . وشواهد هذا أكثر من أن تحتاج إلى نقل .
وتفسير الشكر بأنه يكون بالقول والعمل في الكتب التي يتكلم فيها على لفظ [ الحمد ] و [ الشكر ] مثل كتب التفسير واللغة، / وشروح الحديث، يعرفه آحاد الناس، والكتاب والسنة قد دلا على ذلك .
فخرج ابن المرحل إلى شيء غير هذا، فقال : الحسن البصري يسمى الفاسق منافقًا، وأصحابك لا يسمونه منافقًا .
قال الشيخ تقي الدين له : بل يسمى منافقًا النفاق الأصغر، لا النفاق الأكبر . والنفاق يطلق على النفاق الأكبر، الذي هو إضمار الكفر . وعلى النفاق الأصغر، الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات .
قال له ابن المرحل : ومن أين قلت : إن الاسم يطلق على هذا وعلى هذا ؟
قال الشيخ تقي الدين : هذا مشهور عند العلماء . وبذلك فسروا قول النبي صلى الله عليه وسلم ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) وقد ذكر ذلك الترمذي وغيره . وحكوه عن العلماء .(186/109)
وقال غير واحد من السلف ( كفر دون كفر، و نفاق دون نفاق، وشرك دون شرك ) .
/وإذا كان النفاق جنسًا تحته نوعان، فالفاسق داخل في أحد نوعيه .
قال ابن المرحل : كيف تجعل النفاق اسم جنس، وقد جعلته لفظًا مشتركًا، وإذا كان اسم جنس كان متواطئًا، والأسماء المتواطئة غير المشتركة، فكيف تجعله مشتركًا متواطئًا .
قال الشيخ تقي الدين : أنا لم أذكر أنه مشترك . وإنما قلت : يطلق على هذا وعلى هذا، والإطلاق أعم .
ثم لو قلت : إنه مشترك لكان الكلام صحيحًا . فإن اللفظ الواحد قد يطلق على شيئىن بطريق التواطؤ، وبطريق الاشتراك . فأطلقت لفظ النفاق على إبطان الكفر، وإبطان المعصية، تارة بطريق الاشتراك وتارة بطريق التواطؤ، كما أن لفظ الوجود يطلق على الواجب والممكن، عند قوم باعتبار الاشتراك، وعند قوم باعتبار التواطؤ . ولهذا سمى مشككا .
قال ابن المرحل : كيف يكون هذا ؟ وأخذ في كلام لا يحسن ذكره .
قال له الشيخ تقي الدين : المعاني الدقيقة تحتاج إلى إصغاء واستماع وتدبر . وذلك أن الماهيتين إذا كان بينهما قدر مشترك وقدر مميز، واللفظ يطلق على كل منهما، فقد يطلق عليهما باعتبار ما به/ تمتاز كل ماهية عن الأخرى . فيكون مشتركًا كالاشتراك اللفظي . وقد يكون مطلقًا باعتبار القدر المشترك بين الماهيتين، فيكون لفظًا متواطئًا .
قلت : ثم إنه في اللغة يكون موضوعًا للقدر المشترك، ثم يغلب عرف الاستعمال على استعماله : في هذا تارة، وفي هذا تارة . فيبقى دالا بعرف الاستعمال على ما به الاشتراك والامتياز . وقد يكون قرينة، مثل لام التعريف، أو الإضافة، تكون هي الدالة على ما به الامتياز .(186/110)
مثال ذلك : [ اسم الجنس ] إذا غلب في العرف على بعض أنواعه كلفظ الدابة، إذا غلب على الفرس، قد نطلقه على الفرس باعتبار القدر المشترك بينهما وبين سائر الدواب . فيكون متواطئًا . وقد نطلقه باعتبار خصوصية الفرس، فيكون مشتركا بين خصوص الفرس وعموم سائر الدواب، ويصير استعماله في الفرس : تارة بطريق التواطؤ، وتارة بطريق الاشتراك .
وهكذا اسم الجنس إذا غلب على بعض الأشخاص وصار علمًا بالغلبة : مثل ابن عمرو، والنجم، فقد نطلقه عليه باعتبار القدر المشترك بينه وبين سائر النجوم وسائر بني عمرو . فيكون إطلاقه عليه بطريق التواطؤ . وقد نطلقه عليه باعتبار ما به يمتاز عن غيره من النجوم، ومن بني عمرو، فيكون بطريق الاشتراك بين هذا المعنى الشخصي وبين المعنى النوعي . وهكذا كل اسم عام غلب على بعض أفراده، يصح /استعماله في ذلك الفرد بالوضع الأول العام، فيكون بطريق التواطؤ، بالوضع الثاني، فيصير بطريق الاشتراك .
ولفظ [ النفاق ] من هذا الباب . فإنه في الشرع إظهار الدين وإبطان خلافه . وهذا المعنى الشرعي أخص من مسمى النفاق في اللغة، فإنه في اللغة أعم من إظهار الدين .
ثم إبطان ما يخالف الدين، إما أن يكون كفرًا أو فسقًا . فإذا أظهر أنه مؤمن وأبطن التكذيب، فهذا هو النفاق الأكبر الذي أوعد صاحبه بأنه في الدرك الأسفل من النار . وإن أظهر أنه صادق أو موف، أو أمين، وأبطن الكذب والغدر والخيانة ونحو ذلك . فهذا هو النفاق الأصغر الذي يكون صاحبه فاسقًا .
فإطلاق النفاق عليهما في الأصل بطريق التواطؤ .(186/111)
وعلى هذا، فالنفاق اسم جنس تحته نوعان . ثم إنه قد يراد به النفاق في أصل الدين، مثل قوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [ النساء : 145 ] و { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] والمنافق هنا : الكافر .
وقد يراد به النفاق في فروعه . مثل قوله صلى الله عليه وسلم : / ( آية المنافق ثلاث ) وقوله : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ) وقول ابن عمر : فيمن يتحدث عند الأمراء بحديث . ثم يخرج فيقول بخلافه : كنا نعد هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نفاقًا .
فإذا أردت به أحد النوعين، فإما أن يكون تخصيصه لقرينة لفظية مثل لام العهد، والإضافة . فهذا لا يخرجه عن أن يكون متواطئًا، كما إذا قال الرجل : جاء القاضي . وعني به قاضي بلده، لكون اللام للعهد .
كما قال سبحانه : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل : 16 ] أن اللام هي أوجبت قصر الرسول على موسى، لا نفس لفظ ( رسول ) . وإما أن يكون لغلبة الاستعمال عليه، فيصير مشتركًا بين اللفظ العام والمعنى الخاص . فكذلك قوله : { إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ } فإن تخصيص هذا اللفظ بالكافر إما أن يكون لدخول اللام التي تفيد العهد، والمنافق المعهود : هو الكافر .
أو تكون لغلبة هذا الاسم في الشرع على نفاق الكفر . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه كان منافقًا ) يعني به منافقًا بالمعنى العام، وهو إظهاره من الدين خلاف ما يبطن .(186/112)
فإطلاق لفظ [ النفاق ] على الكافر وعلى الفاسق إن أطلقته باعتبار ما يمتاز به عن الفاسق، كان إطلاقه عليه وعلى الفاسق باعتبار الاشتراك . وكذلك يجوز أن يراد به الكافر خاصة . ويكون متواطئًا إذا كان الدال على الخصوصية غير لفظ [ منافق ] بل لام التعريف .
/وهذا البحث الشريف جار في كل لفظ عام استعمل في بعض أنواعه، إما لغلبة الاستعمال، أو لدلالة لفظية خصته بذلك النوع، مثل تعريف الإضافة، أو تعريف اللام . فإن كان لغلبة الاستعمال صح أن يقال : إن اللفظ مشترك . وإن كان لدلالة لفظية كان اللفظ باقيًا على مواطأته .
فلهذا صح أن يقال : [ النفاق ] اسم جنس تحته نوعان . لكون اللفظ في الأصل عاما متواطئًا .
وصح أن يقال : هو مشترك بين النفاق في أصل الدين، وبين مطلق النفاق في الدين . لكونه في عرف الاستعمال الشرعي غلب على نفاق الكفر .
/بحث ثان http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=222 - TOP#TOP
وهو : أن الحمد والشكر بينهما عموم وخصوص .
فالحمد أعم من جهة أسبابه التي يقع عليها؛ فإنه يكون على جميع الصفات، والشكر لا يكون إلا على الإحسان . والشكر أعم من جهة ما به يقع، فإنه يكون بالاعتقاد، والقول، والفعل . والحمد يكون بالفعل أو بالقول، أو بالاعتقاد .(186/113)
أورد الشيخ الإمام زين الدين ابن المنجى الحنبلي [ زين الدين ابن المنجى الحنبلي : هو أسعد بن المنجَّى بن أبي المنجي بركات بن المؤمل التنوخي المعري الدمشقي الحنبلي، الشيخ الإمام العلامة شيخ الحنابلة وجيه الدين أبو المعالي . ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة . ارتحل إلى بغداد بعد أن تفقه على شرف الإسلام عبد الوهاب بن الحنبلي سمع من أبي الفضل الأرموي وغيره وروى عنه الشيخ موفق الدين بن قدامة وغيره، ولى قضاء حران في دولة الملك نور الدين، ألف كتاب [ النهاية في شرح الهداية ] . في عدة مجلدات، توفي في جمادي الآخرة سنة ست وستمائة، وله سبع وثمانون سنة . [ سير أعلام النبلاء 12/436، 437 - شذرات الذهب 5/18، 19 ] : إن هذا الفرق إنما هو من جهة متعلق الحمد والشكر؛ لأن كونه يقع على كذا ويقع بكذا خارج عن ذاته، فلا يكون فرقًا في الحقيقة، والحدود إنما يتعرض فيها لصفات الذات، لا لما خرج عنها .
فقال شيخ الإسلام ـ تقي الدين ابن تيمية : ـ
المعاني على قسمين : مفردة، ومضافة . فالمعاني المفردة : حدودها لا توجد فيها بتعلقاتها . وأما المعاني الإضافية فلابد أن يوجد في /حدودها تلك الإضافات . فإنها داخلة في حقيقتها . ولا يمكن تصورها إلا بتصور تلك المتعلقات، فتكون المتعلقات جزءًا من حقيقتها فتعين ذكرها في الحدود .
والحمد والشكر معلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه . فلا يتم ذكر حقيقتهما إلا بذكر متعلقهما . فيكون متعلقهما داخلًا في حقيقتهما .
فاعترض الصدر ابن المرحل : بأنه ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية . فلا يكون الحمد والشكر من متعلقهما صفة ثبوتية . فإن المتعلق صفة نسبية . والنسب أمور عدمية . وإذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن داخلة في الحقيقة؛لأن العدم لا يكون جزءًا من الوجود .(186/114)
فقال الشيخ تقي الدين : قولك : ليس للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، ليس على العموم . بل قد يكون للمتعلق من المتعلق صفة ثبوتية، وقد لا يكون . وإنما الذي يقوله أكثر المتكلمين : ليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية .
ثم الصفات المتعلقة نوعان : أحدهما : إضافة محضة . مثل الأبوة والبنوة، والفوقية والتحتية ونحوها . فهذه الصفة هي التي يقال فيها : هي مجرد نسبة وإضافة . والنسب أمور عدمية . والثاني : صفة ثبوتية مضافة / إلى غيرها، كالحب والبغض . والإرادة والكراهة، والقدرة، وغير ذلك من الصفات، فإن الحب صفة ثبوتية متعلقة بالمحبوب . فالحب معروض للإضافة، بمعنى أن الإضافة صفة عرضت له؛ لا أن نفس الحب هو الإضافة . ففرق بين ما هو إضافة وبين ما هو صفة مضافة . فالإضافة يقال فيها : إنها عدمية . قال : وأما الصفة المضافة فقد تكون ثبوتية، كالحب .
قال ابن المرحل : الحب أمر عدمي؛ لأن الحب نسبة، والنسب عدمية .
قال الشيخ تقي الدين : كون الحب، والبغض، والإرادة، والكراهة أمرًا عدميًا باطل بالضرورة . وهو خلاف إجماع العقلاء .
ثم هو مذهب بعض المعتزلة في إرادة الله . فإنه زعم أنها صفة سلبية . بمعنى أنه غير مغلوب ولا مستكره . وأطبق الناس على بطلان هذا القول . وأما إرادة المخلوق وحبه وبغضه فلم نعلم أحدًا من العقلاء قال : إنه عدمي .
فأصر ابن المرحل على أن الحب ـ الذي هو ميل القلب إلى المحبوب ـ أمر عدمي . وقال : المحبة : أمر وجودي .
/قال الشيخ تقي الدين : المحبة هي الحب، فإنه يقال : أحبه، وحبه حبًا ومحبة . ولا فرق . وكلاهما مصدر .
قال ابن المرحل : وأنا أقول : إنهما إذا كانا مصدرين فهما أمر عدمي .(186/115)
قال له الشيخ تقي الدين : الكلام إذا انتهى إلى المقدمات الضرورية فقد انتهى وتم . وكون الحب والبغض أمرًا وجوديًا معلوم بالاضطرار؛ فإن كل أحد يعلم أن الحي إن كان خاليًا عن الحب كان هذا الخلو صفة عدمية . فإذا صار محبا، فقد تغير الموصوف وصار له صفة ثبوتية زائدة على ما كان قبل أن يقوم به الحب . ومن يحس ذلك من نفسه يجده، كما يجد شهوته ونفرته ورضاه وغضبه ولذته وألمه .
ودليل ذلك : أنك تقول : أحب يحب محبة، ونقيض أحب : لم يحب . ولم يحب صفة عدمية، ونقيض العدم الإثبات .
قال ابن المرحل : هذا ينتقض بقولهم : امتنع يمتنع، فإن نقيض الامتناع : لا امتناع . وامتناع صفة عدمية .
قال الشيخ تقي الدين : الامتناع أمر اعتباري عقلي؛ فإن الممتنع ليس له وجود خارجي، حتى تقوم به صفة . وإنما هو معلوم بالعقل، / وباعتبار كونه معلومًا له ثبوت علمي، وسلب هذا الثبوت العلمي : عدم هذا الثبوت؛ فلم ينقض هذا قولنا : نقيض العدم ثبوت . وأما الحب فإنه صفة قائمة بالمحب . فإنك تشير إلى عين خارجة، وتقول : هذا الحي صار محبًا بعد أن لم يكن محبًا . فتخبر عن الوجود الخارجي . فإذا كان نقيضها عدمًا خارجيًا، كانت وجودًا خارجيًا .
وفي الجملة، فكون الحب والبغض صفة ثبوتية وجودية معلوم بالضرورة . فلا يقبل فيه نزاع ولا يناظر صاحبه إلا مناظرة السوفسطائية .(186/116)
قلت : وإذا كان الحب والبغض ونحوهما من الصفات المضافة المتعلقة بالغير : صفات وجودية، ظهر الفرق بين الصفات التي هي إضافة ونسبة، وبين الصفات التي هي مضافة منسوبة . فالحمد والشكر من القسم الثاني؛ فإن الحمد أمر وجودي متعلق بالمحمود عليه . وكذلك الشكر أمر وجودي متعلق بالمشكور عليه . فلا يتم فهم حقيقتهما إلا بفهم الصفة الثبوتية لهما التي هي متعلقة بالغير . وتلك الصفة داخلة في حقيقتهما . فإذا كان متعلق أحدهما أكبر من متعلق الآخر، وذلك التعلق إنما هو عارض لصفة ثبوتية لهما، وجب ذكر تلك الصفة الثبوتية في ذكرحقيقتهما .
والدليل على هذا : أن من لم يفهم الإحسان امتنع أن يفهم الشكر /فعلم أن تصور متعلق الشكر داخل في تصور الشكر .
قلت : ولو قيل : إنه ليس هذا إلا أمرًا عدميًا . فالحقيقة إن كانت مركبة من وجود وعدم، وجب ذكرهما في تعريف الحقيقة . كما أن من عرف الأب ـ من حيث هو أب ـ فإن تصوره موقوف على تصور الأبوة، التي هي نسبة وإضافة . وإن كان الأب أمرًا وجوديًا . فالحمد والشكر متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه .
وإن لم يكن هذا المتعلق عارضًا لصفة ثبوتية . فلا يفهم الحمد والشكر إلا بفهم هذا المتعلق . كما لا يفهم معنى الأب إلا بفهم معنى الأبوة، الذي هو التعلق . وكذلك الحمد والشكر أمران متعلقان بالمحمود عليه والمشكور عليه .
وهذا التعلق جزء من هذا المسمى . بدليل أن من لم يفهم الصفات الجميلة لم يفهم الحمد . ومن لم يفهم الإحسان لم يفهم الشكر .
فإذا كان فهمها موقوفًا على فهم متعلقهما، فوقوفه على فهم التعلق أولى . فإن التعلق فرع على المتعلق، وتبع له . فإذا توقف فهمهما على فهم المتعلق الذي هو أبعد عنهما من التعلق، فتوقفه على فهم التعلق أولى . وإن كان التعلق أمرًا عدميًا . والله أعلم .(186/117)
/قال له الشيخ تقي الدين ابن تيمية : قوله : { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ } [ البقرة : 275 ] قد اتبع بقوله : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } وعامة أنواع الربا يسمى بيعًا . والربا ـ وإن كان اسمًا مجملاً ـ فهو مجهول . واستثناء المجهول من المعلوم يوجب جهالة المستثنى فيبقى المراد إحلال البيع الذي ليس بربا . فما لم يثبت أن الفرد المعين ليس بربا لم يصح إدخاله في البيع الحلال . وهذا يمنع دعوى العموم . وإن كان الربا اسمًا عامًا فهو مستثنى من البيع أيضًا . فيبقى البيع لفظًا مخصوصًا . فلا يصح ادعاء العموم على الإطلاق .
قال ابن المرحل : هذا من باب التخصيص . وهنا عمومان تعارضا، وليس من باب الاستثناء . فإن صيغ الاستثناء معلومة . وإذا كان هذا تخصيصًا لم يمنع ادعاء العموم فيه .
قال الشيخ تقي الدين : هذا كلام متصل بعضه ببعض، وهو من باب التخصيص المتصل . وتسميه الفقهاء استثناءً، كقوله : له هذه الدار ولي منها هذا البيت . فإن هذا بمنزلة قوله : إلا هذا البيت . وكذلك لو قال : أكرم هؤلاء القوم ولا تكرم فلانًا وهو منهم . كان بمنزلة قوله : إلا فلانًا . وإذا كان كذلك صار بمنزلة قوله : أحل الله البيع إلا ما كان منه ربًا .
/فمن ادعى بعد هذا أنه عام في كل ما يسمى بيعًا فهو مخطئ .
قال ابن المرحل : أنا أسلم أنه إنما هو عام في كل بيع لا يسمى ربا .
قال له الشيخ تقي الدين : وهذا كان المقصود . ولكن بطل بهذا دعوى عمومه على الإطلاق؛ فإن دعوى العموم على الإطلاق ينافي دعوى العموم في بعض الأنواع دون بعض . وهذا كلام بين .
وادعى مدعٍ أن فيه قولين : أحدهما : أنه عام مخصوص . والثاني : أنه عموم مراد .
فقال الشيخ تقي الدين : فإن دعوى أنه عموم مراد، باطل قطعًا، فإنا نعلم أن كثيرًا من أفراد البيع حرام .
فاعترض ابن المرحل بأن تلك الأفراد حرمت بعد ما أحلت فيكون نسخًا .(186/118)
قال الشيخ تقي الدين : فيلزم من هذا ألا نحرم شيئًا من البيوع بخبر واحد، ولا بقياس، فإن نسخ القرآن لا يجوز بذلك، وإنما يجوز تخصيصه به . وقد اتفق الفقهاء على التحريم بهذه الطريقة .
/قال ابن المرحل : رجعت عن هذا السؤال؛ لكن أقول : هو عموم مراد في كل ما يسمى بيعًا في الشرع . فإن البيع من الأسماء المنقولة إلى كل بيع صحيح شرعي .
قال الشيخ تقي الدين : البيع ليس من الأسماء المنقولة؛ فإن مسماه في الشرع والعرف هو المسمى اللغوي، لكن الشارع اشترط لحله وصحته شروطًا . كما قد كان أهل الجاهلية لهم شروط أيضًا بحسب اصطلاحهم . وهكذا سائر أسماء العقود، مثل الإجارة والرهن، والهبة والقرض والنكاح، إذا أريد به العقد وغير ذلك، هي باقية على مسمياتها . والنقل إنما يحتاج إليه إذا أحدث الشارع معاني لم تكن العرب تعرفها، مثل الصلاة والزكاة، والتيمم . فحينئذ يحتاج إلى النقل . ومعاني هذه العقود ما زالت معروفة .
قال ابن المرحل : أصحابي قد قالوا : إنها منقولة .
قال الشيخ تقي الدين : لو كان لفظ البيع في الآية المراد به البيع الصحيح الشرعي لكان التقدير : أحل الله البيع الصحيح الشرعي . أو أحل الله البيع الذي هو عنده حلال . وهذا ـ مع أنه مكرر ـ فإنه يمنع الاستدلال بالآية . فإنا لا نعلم دخول بيع من البيوع في الآية حتى نعلم أنه بيع صحيح شرعي . ومتى علمنا ذلك استغنينا عن الاستدلال بالآية .
/قال ابن المرحل : متى ثبت أن هذا الفرد يسمى بيعًا في اللغة قلت : هو بيع في الشرع؛ لأن الأصل عدم النقل، وإذا كان بيعًا في الشرع دخل في الآية .(186/119)
قال الشيخ تقي الدين : هذا إنما يصح لو لم يثبت أن الاسم منقول أما إذا ثبت أنه منقول لم يصح إدخال فرد فيه . حتى يثبت أن الاسم المنقول واقع عليه . وإلا فيلزم من هذا أن كل ما سمى في اللغة صلاة وزكاة، وتيممًا، وصومًا وبيعًا، وإجارة، ورهنا : أنه يجوز إدخاله في المسمى الشرعي بهذا الاعتبار وعلى هذا التقدير، فلا يبقى فرق بين الأسماء المنقولة وغيرها . وإنما يقال : الأصل عدم النقل، إذا لم يثبت، بل متى ثبت النقل فالأصل عدم دخول هذا الفرد في الاسم المنقول، حتى يثبت أنه داخل فيه بعد النقل .
وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفي بالله شهيدًا . أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا . فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميًا وآذانًا صما، وقلوبًا غلفًا، وفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغي، والمؤمنين / والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله، فمن شهد له محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن، ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أولياء الشيطان .(186/120)
وقد بين ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء، ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان . فقال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ يونس : 62 : 64 ] ، وقال تعالى : { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ(186/121)
مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُون } [ المائدة : 51 : 56 ] ، وقال تعالى : { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } [ سورة الكهف : 44 ] .(186/122)
وذكر [ أولياء الشيطان ] فقال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 98 ــ 100 ] وقال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [ النساء : 76 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } [ الكهف : 50 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا } [ النساء : 119 ] وقال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 173 ــ 175 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا } إلى قوله : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ(186/123)
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الأعراف : 27 ــ 30 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] وقال الخليل عليه السلام : { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } [ مريم : 45 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } الآيات، إلى قوله : { إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الممتحنة 1ــ 5 ] .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=223 - TOP#TOPفصل
وإذا عرف أن الناس فيهم [ أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ] فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62 : 63 ] .
وفي الحديث الصحيح الذى رواه البخارى وغيره عن أبى هريرة ــ رضى الله عنه ــ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله : من عادى لي وليًا فقد بارزنى بالمحاربة ــ أو فقد آذنته الحرب ــ وما تقرب إلي/ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، فبى يسمع، وبى يبصر، وبى يبطش، وبى يمشى . ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذ بى لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ) وهذا أصح حديث يروى في الأولياء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من عادى وليًا لله فقد بارز الله بالمحاربة .(186/124)
وفي حديث آخر : ( وإنى لأثأر لأوليائى كما يثأر الليث الحرب ) أي آخذ ثأرهم ممن عاداهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذى وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أوثق عرى الإيمان : الحب في الله والبغض في الله ) وفي حديث آخر رواه أبو داود قال : ( ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ) .
و [ الولاية ] ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل /العداوة البغض والبعد . وقد قيل : إن الولى سمى وليًا من موالاته للطاعات أي متابعته لها، والأول أصح . والولى القريب، فيقال : هذا يلى هذا، أي يقرب منه . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذَكَر ) أي لأقرب رجل إلى الميت . وأكده بلفظ [ الذكر ] ليبين أنه حكم يختص بالذكور، ولا يشترك فيها الذكور والإناث كما قال في الزكاة ( فابن لبون ذكر ) .
فإذا كان ولى الله هو المرافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمره به وينهى عنه كان المعادى لوليه معاديًا له كما قال الله تعالى : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } [ الممتحنة : 1 ] فمن عادى أولياء الله فقد عاداه، ومن عاداه فقد حاربه، فلهذا قال : ( ومن عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة ) .(186/125)
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا } [ الشورى : 13 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا } [ الأحزاب : 8،7 ] .
وأفضل أولى العزم محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين، وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذى يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد، وصاحب الحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة، الذى بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم، وهم آخر الأمم خلقًا، وأول الأمم بعثًا، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيدأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم؛ فهذا يومهم الذى اختلفوا فيه ــ يعنى يوم الجمعة ــ فهدانا الله له : الناس لنا تبع فيه، غدًا لليهود وبعد غد للنصارى ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول من تنشق عنه الأرض ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( آتى باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : أنا محمد، فيقول : بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك ) .(186/126)
/وفضائله صلى الله عليه وسلم وفضائل أمته كثيرة، ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه، فلا يكون وليًا لله إلا من آمن به وبما جاء به، واتبعه باطنًا وظاهرًا . ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان، قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، قال الحسن البصرى ــ رحمه الله ــ : ادعى قوم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم، وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فإن الله يحبه، ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه . قال تعالى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } الآية [ المائدة : 18 ] وقال تعالى : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } إلى قوله : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 111، 112 ] .(186/127)
وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، وكانوا يستكبرون به على غيرهم، كما قال تعالى : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } [ المؤمنون : 66، 67 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ } إلى قوله : { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ } [ الأنفال : 30 ـ 34 ] فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه . ولا أولياء بيته، إنما أولياؤه المتقون .
وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جهارًا من غير سر : ( إن آل فلان ليسوا لى بأولياء ـ يعنى طائفة من أقاربه ـ إنما ولى الله وصالح المؤمنين ) وهذا موافق لقوله تعالى : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } الآية [ التحريم : 4 ] . وصالح المؤمنين هو من كان صالحًا من المؤمنين، وهم المؤمنون المتقون أولياء الله . ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ) ومثل هذا الحديث الآخر : ( إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا ) .(186/128)
كما أن من الكفار من يدعى أنه ولى الله وليس وليًا لله، بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأنه مرسل إلى جميع الإنس، بل إلى الثقلين الإنس والجن، ويعتقدون في الباطن /ما يناقض ذلك، مثل ألا يقروا في الباطن بأنه رسول اله، وإنما كان ملكا مطاعًا ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقولون : إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى، أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته، كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنة فلم يرسل بها، أو لم يكن يعرفها، أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته .
وقد يقول بعض هؤلاء : إن [ أهل الصُّفَّة ] كانوا مستغنين عنه، ولم يرسل إليهم، ومنهم من يقول : إن الله أوحى إلى أهل الصفة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج، فصار أهل الصفة بمنزلته، وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الإسراء كان بمكة كما قال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] ، وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة، وكانت صفة في شمالى مسجده صلى الله عليه وسلم ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم؛ فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي/ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه .(186/129)
ولم يكن [ أهل الصفة ] ناسًا بأعيانهم يلازمون الصفة، بل كانوا يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها زمانًا ثم ينتقل منها . والذين ينزلون بها من جنس سائر المسلمين؛ ليس لهم مزية في علم ولا دين، بل فيهم من ارتد عن الإسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم كالعرنيين الذين اجتووا المدينة ـ أي استوخموها ـ فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح ـ أي إبل لها لبن ـ وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا الراعى، واستاقوا الذود فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون . وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس، وفيه أنهم نزلوا الصفة . فكان ينزلها مثل هؤلاء، ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبى وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل عنها ونزلها أبو هريرة وغيره .
وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي [ هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى بن خالد بن سالم بن زاوية بن سعيد بن قبيصة بن سراق الأزدى السلمى الحافظ المحدث،شيخ خراسان وكبير الصوفية أبو عبد الرحمن النيسابورى الصوفي صاحب التصانيف، ولد سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، صنف في علوم القوم سبعمائة جزء وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من جميع الأبواب والمشايخ، وكانت تصانيفه مقبولة، قال عنه الخطيب : غير ثقة، وكان يضع للصوفية الأحاديث . مات في شهر شعبان سنة اثنتى عشرة وأربعمائة . [ سير أعلام النبلاء : 17/247 ــ 255 ] تاريخ من نزل الصفة .
وأما [ الأنصار ] فلم يكونوا من أهل الصفة، وكذلك أكابر المهاجرين كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وعبد الرحمن/ بن عوف وأبى عبيدة وغيرهم، لم يكونوا من أهل الصفة .(186/130)
وقد روي أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هذا واحد من السبعة ) وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحلية، وكذا كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة [ الأولياء ] و [ الأبدال ] و [ النقباء ] و [ النجباء ] و [ الأوتاد ] و [ الأقطاب ] مثل أربعة أو سبعة أو اثنى عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شىء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق السلف بشىء من هذه الألفاظ إلا بلفظ [ الأبدال ] . وروى فيهم حديث : أنهم أربعون رجلًا وأنهم بالشام، وهو في المسند من حديث على رضى الله عنه . وهو حديث منقطع ليس بثابت، ومعلوم أن عليًا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر على، وقد أخرجا في الصحيحين عن أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة على، فقتلهم على بن أبى طالب وأصحابه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي /بن أبى طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما ؟
وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنشد منشد :
قد لسعت حية الهوى كبدى ** فلا طبيب لها ولا راقى
إلا الحبيب الذى شغفت به ** فعنده رقيتى وترياقى
وأن النبي صلى الله عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم : ( أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش ) ، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أظهر الأحاديث كذبًا عليه صلى الله عليه وسلم .(186/131)
وكذلك ما يروونه عن عمر ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجى . وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث .
والمقصود هنا أن فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر من يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك، فيكون منافقًا وهو يدعى في نفسه وأمثاله /أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما عنادًا وإما جهلًا، كما أن كثيرًا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله، وأن محمدًا رسول الله، ولكن يقولون : إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب، وأنه لا يجب علينا اتباعه؛ لأنه أرسل إلينا رسلًا قبله، فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بولايته بقوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] .(186/132)
ولابد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمن بكل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله، كما قال تعالى : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة : 136، 137 ] وقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } إلى آخر السورة [ البقرة : 285، 286 ] .
وقال في أول السورة : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 1ــ 5 ] .(186/133)
فلابد في الإيمان من أن تؤمن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبى بعده، وأن الله أسرله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن؛ فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين؛ ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن، كما قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ النساء : 150 ــ 152 ] ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ماحرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقًا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان .
/وأما خلق الله تعالى للخلق، ورزقه إياهم، وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار، فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل .(186/134)
ثم لو بلغ الرجل في [ الزهد والعبادة والعلم ] ما بلغ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى، كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم، وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من المشركين مشركى العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه وليس مؤمنًا بجميع ما جاء به فهو كافر عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولى لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارًا مجوسًا .
وكذلك حكماء [ اليونان ] مثل أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب، وكان أرسطو قبل المسيح ـ عليه السلام ـ بثلاثمائة سنة، وكان وزيرًا للإسكندر بن فيلبس المقدونى، وهو الذى تؤرخ به تواريخ الروم واليونان، وتؤرخ به اليهود والنصارى، وليس هذا هو ذو القرنين الذى ذكره الله في كتابه، كما يظن بعض الناس أن أرسطو كان وزيرًا لذى القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الإسكندر، وهذا قد يسمى بالإسكندر، ظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه / وليس الأمر كذلك، بل هذا الإسكندر المشرك الذى قد كان أرسطو وزيره متأخر عن ذاك، ولم يبن هذا السد، ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج، وهذا الإسكندر الذى كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعرف .(186/135)
وفي أصناف المشركين من مشركى العرب ومشركى الهند والترك واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمتبع للرسل ولا يؤمن بما جاؤوا به ولا يصدقهم بما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتنزل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين، قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 221 ــ 223 ] .(186/136)
وهؤلاء جميعهم ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات إذا لم يكونوا متبعين للرسل فلا بد أن يكذبوا، وتكذبهم شياطينهم . ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة؛ ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الر حمن . قال الله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] وذكر الرحمن هو الذكر الذى بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القرآن، فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره، فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به، قال تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] وقال تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [ طه : 124 ـ 126 ] فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، لهذا لو ذكر الرجل الله ـ سبحانه وتعالى ـ دائمًا ليلًا ونهارًا مع غاية الزهد، وعبده مجتهدًا في عبادته ولم يكن متبعًا لذكره الذى أنزله ـ وهو القرآن ـ كان من أولياء الشيطان ولو طار في الهواء أو مشى على الماء؛ فإن الشيطان يحمله في الهواء . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=223 - TOP#TOPفصل(186/137)
ومن الناس من يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، /وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر ) وفي الصحيحين أيضًا عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الإيمان بضع وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها، وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لأبى ذر ـ وهو من خيار المؤمنين ـ : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) فقال : يا رسول الله، أعلى كبر سني ؟ ! قال : ( نعم ) ! .(186/138)
وثبت في الصحيح عنه أنه قال : ( أربع في أمتى من أمر الجاهلية : الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم ) وفي الصحيحين عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ) وفي صحيح مسلم : ( وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ) وذكر البخارى عن ابن أبى مُليْكةَ قال : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، وقد قال الله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } [ آل عمران : 166، 167 ] فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان، فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى؛ وغيرهم يكون مخلطًا وإيمانه أقوى .(186/139)
وإذا كان [ أولياء الله ] هم المؤمنين المتقين فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانًا وتقوى، كان أكمل ولاية لله . فالناس متفاضلون في ولاية الله ــ عز وجل ــ بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124، 125 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } [ التوبة : 37 ] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقال تعالى في المنافقين : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] . فبين ـ سبحانه وتعالى ـ أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه، وقال تعالى : { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } [ المدثر : 31 ] ، وقال تعالى : { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] .
فصل(186/140)
وأولياء الله على [ طبقتين ] سابقون مقربون، وأصحاب يمين مقتصدون . ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، والمطففين وفي سورة فاطر، فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها، فقال في أولها : { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ } [ الواقعة : 1ــ 14 ] .
فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين، كما وصف الله ـ سبحانه ـ ذلك في كتابه في غير موضع .
ثم قال تعالى في آخر السورة : { فَلَوْلَا } أي : فهلا { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الواقعة : 83 ــ 96 ] .(186/141)
وقال تعالى في سورة الإنسان : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } الأيات [ الإنسان : 3 ــ 12 ] .(186/142)
وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال : {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} إلى أن قال : { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ أياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 7 ــ 28 ](186/143)
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيره من السلف قالوا : يمزج/ لأصحاب اليمين مزجًا، ويشرب بها المقربون صرفًا، وهو كما قالوا . فإنه تعالى قال : { يَشْرَبُ بِهَا } ولم يقل : يشرب منها؛ لأنه ضمن ذلك قوله يشرب، يعنى : يروى بها، فإن الشارب قد يشرب ولا يروى، فإذا قيل : يشربون منها لم يدل على الرى، فإذا قيل : يشربون بها كان المعنى يروون بها، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها؛ فلهذا يشربون منها صرفًا، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجًا، وهو كما قال تعالى في سورة الإنسان : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } [ الإنسان : 5، 6 ] .
فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة، وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكين، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) رواه مسلم في صحيحه، وقال/ صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) قال الترمذى : حديث صحيح .
وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن : ( يقول الله تعالى : أنا الرحمن خلقت الرحم، وشققت لها اسمًا من اسمى، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته ) ، وقال : ( ومن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله ) ومثل هذا كثير .(186/144)
وأولياء الله تعالى على نوعين : مقربون وأصحاب يمين كما تقدم . وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عمل القسمين في حديث الأولياء فقال : ( يقول الله تعالى : من عادى لى وليًا فقد بارزنى بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ) .
فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات .
وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا / الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبًا تامًا، كما قال تعالى : ( ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ) يعنى الحب المطلق، كقوله تعالى : { اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [ الفاتحة : 6، 7 ] أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 ] . فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات، يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله فشربوا صرفًا كما علموا له صرفًا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم، فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفًا، بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا .(186/145)
ونظير هذا انقسام الأنبياء ـ عليهم السلام ـ إلى عبد رسول، ونبي ملك، وقد خير الله سبحانه محمدًا صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدًا رسولا، وبين أن يكون نبيًا ملكا، فاختار أن يكون عبدًا رسولا، فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام، قال الله تعالى في قصة سليمان الذي { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 35 ـ 39 ] أي اعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك، فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه، ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه .
وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدًا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، بل روى عنه أنه قال : ( إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ) ، ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى : { قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ } [ الأنفال : 1 ] وقوله تعالى : { مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } [ الحشر : 7 ] ، وقوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] .
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الأموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولى الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف، ويذكر هذا روأية عن أحمد، وقد قيل في الخمس أنه يقسم على خمسة، كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه، وقيل : على ثلاثة، كقول أبي حنيفة ـ رحمه الله .(186/146)
/ والمقصود هنا أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك، كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين . فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=224 - TOP#TOPفصل
وقد ذكر الله تعالى [ أولياءه ] المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ فاطر : 32 ـ 35 ] ، لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الأية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } .(186/147)
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصًا بحفاظ القرآن، بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسمهم إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق؛ بخلاف الأيات التي في الواقعة والمطففين والانفطار، فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم، وهذا التقسيم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فـ [ الظالم لنفسه ] أصحاب الذنوب المصرون عليها، ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين، و [ المقتصد ] المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق للخيرات هو المؤدى للفرائض والنوافل، كما في تلك الأيات، ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج من بذلك عن السابقين والمقتصدين كما في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء َالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [ آل عمران : 133 ـ 136 ] و [ المقتصد ] المؤدى للفرائض المجتنب للمحارم، و [ السابق بالخيرات ] هو المؤدى للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات .
وقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } [ فاطر : 33 ] مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد .(186/148)
وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره . فمن قال : إن أهل الكبائر مخلدون في النار وتأول الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، كما تأوله من المعتزلة فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار . ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب، وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولإجماع سلف الأمة وأئمتها .
وقد دل على فساد قول [ الطائفتين ] قول الله تعالى في آيتين من كتابه وهو قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] ، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب كما يقوله من يقوله من / المعتزلة؛ لأن الشرك يغفره الله لمن تاب وما دون الشرك يغفره الله أيضًا للتائب فلا تعلق بالمشيئة، ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] .(186/149)
فهنا عمم المغفرة وأطلقها، فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له، ففي أية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الأية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة ومن الشرك التعطيل للخالق وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه بالشرك على ما هو أعظم منه كتعطيل الخالق، أو يجوز ألا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورًا له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة .
وقوله تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } دليل على أنه يغفر البعض دون البعض، فبطل النفي والوقف العام .
/http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=224 - TOP#TOPفصل
وإذا كان [ أولياء الله عز وجل ] هم المؤمنون المتقون . والناس يتفاضلون في الأيمان والتقوى، فهم متفاضلون في ولاية الله بحسب ذلك . كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك .(186/150)
وأصل الأيمان والتقوى : الأيمان برسل الله، وجماع ذلك : الأيمان بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فالأيمان به يتضمن الأيمان بجميع كتاب الله ورسله، وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل، وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة؛ فإن الله تعالى : أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة، قال الله تعالى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [ الإسراء : 15 ] وقال تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأيوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ النساء : 163 ـ 165 ] ، وقال تعالى عن أهل النار : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 8، 9 ] فأخبر أنه كلما ألقى في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير . وقال تعالى في خطابه لإبليس : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه؛ فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم . فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وهذا يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له(186/151)
فإنه ممن لا يتبع الشيطان ولم يكن مذنبًا، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=224 - TOP#TOPفصل
ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانًا مجملا، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك فيؤمن بما بلغه عن الرسل، وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به؛ ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانًا مجملًا، فهذا إذا عمل بما علم أن الله أمره به مع /إيمانه وتقواه فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب أيمانه وتقواه، وما لم تقم عليه الحجة فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته والإيمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسل وآمن به أيمانًا مفصلا وعمل به فهو أكمل أيمانًا وولاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به؛ وكلاهما ولي لله تعالى .
والجنة درجات متفاضلة تفاضلًا عظيمًا، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب أيمانهم وتقواهم، قال تبارك وتعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } [ الإسراء : 18 ــ 21 ] .(186/152)
فبين الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه وإن عطاءه ما كان محظورًا من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى : { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } . فبين الله ـ سبحانه ـ أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا وقد بين/ تفاضل أنبيائه ـ عليهم السلام ـ كتفاضل سائر عباده المؤمنين، فقال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأيدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [ البقرة : 253 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا } [ الإسراء : 55 ] .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أنى فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ) .(186/153)
وقد قال الله تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ الحديد : 10 ] ، وقال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ النساء : 95، 96 ] ، / وقال تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَأيةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 19 ـ 22 ] ، وقال تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ(186/154)
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ المجادلة : 11 ] .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=224 - TOP#TOPفصل
وإذا كان العبد لا يكون وليًا لله إلا إذا كان مؤمنًا تقيًا لقوله تعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] وفي صحيح البخارى الحديث المشهور ـ وقد تقدم ـ يقول الله تبارك وتعالى فيه : ( ولا يزال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه ) ولا يكون مؤمنًا تقيًا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار/ أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحدًا من الكفار والمنافقين لا يكون وليًا لله .
وكذلك من لا يصح أيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة ـ وإن قيل : إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولًا ـ فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين؛ فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا يترك السيئات لم يكن من أولياء الله . وكذلك المجانين والأطفال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبى حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ ) .(186/155)
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول . لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء . وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء . ولا يصح منه أيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة . فلا يصلح أن يكون بزازًا ولا عطارًا ولا حدادًا ولا نجارًا ولا تصح عقوده باتفاق العلماء . فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته، ولا غير ذلك من أقواله، بل/ أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ولا ثواب ولا عقاب . بخلاف الصبى المميز فإن له أقوالًا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع . وفي مواضع فيها نزاع .(186/156)
وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليًا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله؛ لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين ـ من المشركين وأهل الكتاب ـ لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليًا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله ؟ ! مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة . أو يعتقد أن لأولياء الله طريقًا إلى الله غير طريق الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أو يقول : إن الأنبياء ضيقوا الطريق أو هم على قدوة العامة دون الخاصة ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعى الولأية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان. فضلا عن ولاية الله عز وجل . فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على ولأيتهم كان أضل من اليهود والنصارى .
/وكذلك المجنون؛ فإن كونه مجنونًا يناقض أن يصح منه الأيمان والعبادات التي هى شرط في ولاية الله، ومن كان يجن أحيانًا ويفيق أحيانًا .
إذا كان في حال إفاقته مؤمنًا بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم، فهذا إذا جن لم يكن جنونه مانعًا من أن يثيبه الله على أيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك . وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من أيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه .(186/157)
فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدى الفرائض ولا يجتنب المحارم بل قد يأتى بما يناقض ذلك . لم يكن لأحد أن يقول : هذا ولى لله، فإن هذا إن لم يكن مجنونًا، بل كان متولهًا من غير جنون أو كان يغيب عقله بالجنون تارة، ويفيق أخرى وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وإن كان مجنونًا باطنًا وظاهرًا قد ارتفع عنه القلم، فهذا وإن لم يكن معاقبًا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقًا لما يستحقه أهل الأيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولى لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنًا بالله متقيًا كان له من ولاية الله بحسب ذلك . / وإن كان له في حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرًا أو منافقًا ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=224 - TOP#TOPفصل
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحًا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحًا، كما قيل : كم من صديق في قباء وكم من زنديق في عباء، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويجدون في التجار والصناع والزراع .(186/158)
وقد ذكر الله أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرضي وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] .
/وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم [ القراء ] فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم حدث بعد ذلك اسم [ الصوفية والفقراء ] . واسم [ الصوفية ] هو نسبة إلى لباس الصوف؛ هذا هو الصحيح . وقد قيل : إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء . وقيل : إلى صوفة بن أدّ بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك . وقيل : إلى أهل الصفة . وقيل : إلى الصفا . وقيل : إلى الصفوة . وقيل : إلى الصف المقدم بين يدى الله تعالى . وهذه أقوال ضعيفة؛ فإنه لوكان كذلك لقيل : صَفي أو صفائى أو صَفَوى أو صُفي، ولم يقل : صوفي .
وصار ـ أيضًا ـ اسم [ الفقراء ] يعنى به : أهل السلوك . وهذا عرف حادث . وقد تنازع الناس : أيما أفضل : مسمى [ الصوفي ] أو مسمى [ الفقير ] ؟ ويتنازعون ـ أيضًا ـ : أيما أفضل : الغنى الشاكر أو الفقير الصابر ؟
وهذه المسألة فيها نزاع قديم بين الجنيد وبين أبي العباس بن عطاء . وقد روى عن أحمد بن حنبل فيها روأيتان، والصواب في هذا كله ما قاله الله ـ تبارك وتعالى ـ حيث قال : { يَا أيهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] .(186/159)
وفي الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي/ صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الناس أفضل ؟ قال : ( أتقاهم ) . قيل له : ليس عن هذا نسألك . فقال : ( يوسف نبى الله ابن يعقوب نبى الله ابن إسحاق نبى الله ابن إبراهيم خليل الله ) . فقيل له : ليس عن هذا نسألك . فقال : ( عن معادن العرب تسألوني ؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة . خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) .
فدل الكتاب والسنة أن أكرم الناس عند الله أتقاهم .
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا فضل لعربى على عجمى ولا لعجمى على عربى ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى . كلكم لآدم وآدم من تراب ) .
وعنه ـ أيضًا ـ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان : مؤمن تقي، وفاجر شقي ) .
فمن كان من هذه الأصناف أتقى لله فهو أكرم عند الله، وإذا استويا في التقى استويا في الدرجة(186/160)
ولفظ [ الفقر ] في الشرع يراد به الفقر من المال، ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه كما قال تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] ، / وقال تعالى : { يَا أيهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ } [ فاطر : 15 ] . وقد مدح الله ـ تعالى ـ في القرآن صنفين من الفقراء : أهل الصدقات، وأهل الفيء، فقال في الصنف الأول : { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [ البقرة : 273 ] ، وقال في الصنف الثاني ـ وهم أفضل الصنفين ـ : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] .
وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات وجاهدوا أعداء الله باطنًا وظاهرًا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ) .(186/161)
أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك : ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) فلا أصل له،ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وجهاد الكفار من أعظم الأعمال؛ بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان قال الله تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ النساء : 95، 96 ] وقال تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَأيةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 19 ـ 22 ] .(186/162)
وثبت في صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالى ألا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر : ما أبالى أن أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال على بن أبي طالب : الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتما، فقال عمر : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضيت الصلاة سألته، فسأله فأنزل الله تعالى هذه الأية .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله، أي الأعمال أفضل عند الله عز وجل ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( بر الوالدين ) . قلت : ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) قال : حدثنى بهن رسول الله /صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني ) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال ( أيمان بالله وجهاد في سبيله ) ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : ( حج مبرور ) .
وفي الصحيحين أن رجلًا قال له صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، أخبرنى بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال : ( لا تستطيعه أو لا تطيقه ) قال : فأخبرني به قال : ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر ؟ ) .(186/163)
وفي السنن عن معاذ ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال : ( يا معاذ، اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ) ، وقال : ( يا معاذ، إنى لأحبك، فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة : اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) ، وقال له ـ وهو رديفه : ( يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا . أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( حقهم عليهم ألا يعذبهم ) .
وقال ـ أيضًا ـ لمعاذ : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة/ سنامه الجهاد في سبيل الله ) ، وقال : ( يا معاذ، ألا أخبرك بأبواب البر ؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وقيام الرجل في جوف الليل ) ثم قرأ { تَتَجَافي جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 16، 17 ] ، ثم قال : ( يا معاذ، ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ ) قلت : بلى ! فقال : ( أمسك عليك لسانك هذا ) فأخذ بلسانه، قال : يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) .(186/164)
وتفسير هذا ما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ) فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهى عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضًا، كما ثبت في صحيح البخارى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلًا قائمًا في الشمس فقال : ( ما هذا ؟ ) فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه ) .
/وثبت في الصحيحين عن أنس : أن رجالًا سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تَقَالُّوها فقالوا : وأينا مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! ثم قال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر . وقال الآخر : أما أنا فأقوم ولا أنام . وقال الآخر : أما أنا فلا آكل اللحم .
وقال الآخر : أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا ؟ ! ولكنى أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) أي : سلك غيرها؛ ظانًا أن غيرها خير منها، فمن كان كذلك فهو برىء من الله ورسوله، قال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] . بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة .
فصل(186/165)
وليس من شرط ولى الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفي عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى/ الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فقال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 285، 286 ] .(186/166)
وقد ثبت في الصحيحين أن الله ـ سبحانه ـ استجاب هذا الدعاء وقال : قد فعلت، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : لما نزلت هذه الآية { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 284 ] قال : دخل قلوبهم منها شىء لم يدخلها قبل ذلك شىء أشد منه، فقال النبي صلى الله علية وسلم : ( قولوا : سمعنا وأطعنا وسلمنا ) قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى قوله : { أَوْ أَخْطَأْنَا } قال الله : قد فعلت { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال : قد فعلت : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } قال : قد فعلت وقد قال تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } [ الأحزاب : 5 ] .(186/167)
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم من حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعًا أنه قال : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر ) فلم يؤثم المجتهد المخطئ، بل جعل له أجرًا على اجتهاده، وجعل خطأه مغفورًا له ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه، ولهذا لما كان ولى الله يجوز أن يغلط لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولى لله لئلا يكون نبيًا، بل ولا يجوز لولى الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا للشرع وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله علية وسلم فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه .
والناس في الباب [ ثلاثة أصناف ] طرفان وسط . فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولى لله وافقه في كل ما يظن أنه حدث/ به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدًا مخطئًا، وخيار الأمور أوساطها وهو ألا يجعل معصومًا ولا مأثومًا إذا كان مجتهدًا مخطئًا، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده .
والواجب على الناس اتباع مع بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء، ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه يقول المخالف ويقول : هذاخالف الشرع .(186/168)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال : ( قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم ) وروى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال : ( لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ) وفي حديث آخر : ( إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه ) ، وفيه : ( لو كان نبى بعدى لكان عمر ) ، وكان على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ يقول : ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر . ثبت هذا عنه من رواية الشعبى . وقال ابن عمر : ما كان عمر يقول في شيء : إني لأراه كذا، إلا كان كما يقول . وعن قيس بن طارق قال : كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك . وكان عمر يقول : /اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه تتجلى لهم أمور صادقة .
وهذه الأمور الصادقة التى أخبر بها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنها تتجلى للمطيعين هي الأمور التى يكشفها الله عز وجل لهم . فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات ومكاشفات؛ فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبى بكر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر .(186/169)
وقد ثبت في الصحيح تعيين عمر بأنه محدَّث في هذه الأمة، فأى محدث ومخاطب فرض في أمة محمد صلى الله علية وسلم فعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يفعل ما هو الواجب عليه، فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم، فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غيره مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين، والحديث معروف في البخارى وغيره، فإن النبي صلى الله علية وسلم قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر بعد العام القابل، وشرط لهم شروطًا فيها نوع غضاضة على المسلمين في / الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك حتى قال للنبى صلى الله علية وسلم : يا رسول الله، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : ( بلى ) قال : أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : ( بلى ) قال : فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ ! فقال له النبي ، : ( إنى رسول الله وهو ناصرى، ولست أعصيه ) ثم قال : أفلم تكن تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به ؟ قال : ( بلى ) . قال : ( أقلت لك . إنك تأتيه العام ؟ ) قال : لا، قال : ( إنك آتيه ومطوف به ) فذهب عمر إلى أبى بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال النبي صلى الله علية وسلم، فكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أكمل موافقة لله وللنبي صلى الله علية وسلم من عمر، وعمر ـ رضي الله عنه ـ رجع عن ذلك، وقال : فعملت لذلك أعمالًا .
وكذلك لما مات النبي صلى الله علية وسلم أنكر عمر موته أولا، فلما قال أبو بكر : إنه مات رجع عمر عن ذلك .(186/170)
وكذلك في [ قتال مانعي الزكاة ] قال عمر لأبى بكر : كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله علية وسلم : ( أمرت أن / أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) فقال له أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : ألم يقل : ( إلا بحقها ) ؟ ! فإن الزكاة من حقها، والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله علية وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعلمت أنه الحق .
ولهذا نظائر تبين تقدم أبى بكر على عمر، مع أن عمر ـ رضي الله عنه ـ مُحدَّث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدث يأخذ عن قلبه أشياء، وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي صلى الله علية وسلم، ولهذا كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يشاور الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ويناظهرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته، ولا يقول لهم : أنا محدث ملهم مخاطب فينبغى لكم أن تقبلوا منى ولا تعارضونى، فأى أحد ادعى أو ادعى له أصحابه أنه ولى لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون، ومثل هذا من أضل الناس، فعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أفضل منه وهو / أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله، وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله علية وسلم .(186/171)
وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبّرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنة كان مردودًا، وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهدًا معذورًا فيما قاله، له أجر على اجتهاده . لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئًا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ،وهذا تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] قال ابن مسعود وغيره : حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أى بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، كما قال تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الأعراف :42 ] ، وقال تعالى : { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ الأنعام : 152 ] .(186/172)
وقد ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى : { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 136 ] ، وقال تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 1 ـ 5 ] ، وقال تعالى : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] .(186/173)
وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، من خالف في هذا فليس من أولياء الله ـ سبحانه ـ الذين أمر الله/ باتباعهم؛ بل إما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون مفرطًا في الجهل .
وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبى سليمان الدارانى : إنه ليقع في قلبى النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة .
وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا . أو قال : لا يقتدى به . وقال أبو عثمان النيسابورى : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [ النور : 54 ] وقال أبو عمرو بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .(186/174)
وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولى لله، ويظن أن ولى الله يقبل منه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة فيوافق ذلك الشخص له، ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء / فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين، وجنده المفلحين، وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال، وآخرًا إلى الكفر والنفاق، ويكون له نصيب من قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا } [ الفرقان : 27 ـ 29 ] ، وقوله تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [ الأحزاب : 66 ـ 68 ] ، وقوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا(186/175)
تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 165 ـ 167 ] .
وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، وفى/ المسند وصححه الترمذى عن عدى بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي صلى الله علية وسلم عنها فقال : ما عبدوهم؛ فقال النبي صلى الله علية وسلم : ( أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وكانت هذه عبادتهم إياهم ) ، ولهذا قيل في مثل هؤلاء : إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم فلا بد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم، فلا بد من الإيمان بأن محمدًا رسول صلى الله علية وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، علمائهم وعبادهم ملوكهم وسوقتهم، وإنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنًا وظاهرًا، حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ آل عمران : 81 ،82 ](186/176)
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمتى الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال/ تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } [ النساء : 60 ـ 65 ] .(186/177)
وكل من خالف شيئًا مما جاء به الرسول مقلدًا في ذلك لمن يظن أنه ولى الله فإنه بنى أمره على أنه ولى لله، وإن ولى الله لا يخالف في شىء ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك ؟ ! وتجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليًا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها / أو يمشى على الماء أحيانًا، أو يملأ إبريقًا من الهواء، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب أو أن يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شىء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولى لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله علية وسلم وموافقته لأمره ونهيه .
وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة وإن كان قد يكون صاحبها وليًا لله فقد يكون عدوًا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شىء من هذه الأمور أنه ولى لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التى دل عليها الكتاب والسنة ويعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة .(186/178)
مثال ذلك : أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ؛ ولا يصلى الصلوات المكتوبة، بل يكون/ ملابسًا للنجاسات معاشًا للكلاب، يأوى إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف، وقد قال النبي صلى الله علية وسلم : ( لا تدخل الملائكة بيتًا فيه جنب ولا كلب ) وقال عن هذه الأخلية : ( إن هذه الحشوش محتضرة ) أى يحضرها الشيطان وقال : ( من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) .
وقال : ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ) وقال : ( إن الله نظيف يحب النظافة ) وقال : ( خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور ) وفي رواية : ( الحية والعقرب ) . وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلب وقال : ( من اعتنى كلبًا لا يغنى عنه زرعا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط ) . وقال : ( لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب ) وقال : ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب ) .
وقال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الذي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 156، 157 ] .(186/179)
فإذا كان الشخص مباشرًا للنجاسات والخبائث التى يحبها الشيطان أو يأوى إلى الحمامات والحشوش التى تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير، وإذ أن الكلاب التى هي خبائث وفواسق أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التى يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوى إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوى إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغانى والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن .
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله، وقال عثمان ابن عفان ـ رضي الله عنه ـ : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل، وقال ابن مسعود : الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البَقْل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل .(186/180)
/وإن كان الرجل خبيرًا بحقائق الإيمان الباطنة فارقًا بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية، فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 28 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى :52 ] فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذى عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى الله علية وسلم قال ( اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله ) ، قال الترمذى حديث حسن .
وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخارى وغيره قال فيه : ( لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التى يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شىء أنا فاعله ترددى في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه ) .(186/181)
فإذا كان العبد من هؤلاء فرق بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الردىء، وكما يفرق من يعرف / الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبئ الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول رب العالمين وموسى والمسيح وغيرهم، وبين مسيلمة الكذاب، والأسود العنسى، وطليحة الأسدى، والحارث الدمشقى، وباباه الرومى، وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=225 - TOP#TOPفصل
و [ الحقيقة ] ، حقيقة الدين ـ دين رب العالمين ـ هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاج . فـ [ الشرعة ] هي الشريعة، قال الله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجاثية : 18، 19 ] .
و [ المنهاج ] هو الطريق، قال تعالى : { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا } [ الجن : 16، 17 ] .(186/182)
/فالشرعة بمنزلة الشريعة للنهر، والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه والغاية المقصودة هي حقيقة الدين، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي حقيقة دين الإسلام، وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين، لا يستسلم لغيره، فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، والله : { لا يّغًفٌرٍ أّن يٍشًرّكّ بٌهٌ } [ النساء : 116 ] ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .
ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، وقوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] عام في كل زمان ومكان .(186/183)
فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى عن نوح : { يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } إلى قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 71، 72 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفي لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 130 ـ 132 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] وقال السحرة : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الأعراف : 126 ] ، وقال يوسف عليه السلام : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ] ، وقالت بلقيس : { أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ] ، وقال تعالى : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ } [ المائدة : 44 ] ، وقال الحواريون : { آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران :52 ] .(186/184)
فدين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله علية وسلم قال : ( إنا معشر الأنبياء ديننا واحد ) قال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [ الشورى : 13 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 51 ـ 53 ] .
فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، وقد رتب الله عباده السعداء المنعم عليهم [ أربع مراتب ] فقال تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النساء : 69 ] .
وفي الحديث : ( ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر ) وأفضل الأمم أمة محمد صلى الله علية وسلم . قال تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [ آل عمران : 110 ] وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] ، وقال النبي صلى الله علية وسلم في الحديث الذي في المسند : ( أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله ) .
وأفضل أمة محمد صلى الله علية وسلم القرن الأول .(186/185)
وقد ثبت عن النبي صلى الله علية وسلم من غير وجه أنه قال : ( خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه ) .
وفي الصحيحين أيضًا عنه صلى الله علية وسلم أنه قال : ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) .
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة، قال تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ الحديد : 10 ] ، وقال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] والسابقون الأولون الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح صلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة، وفيه أنزل الله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 1، 2 ] ، فقالوا : يا رسول الله، أو فتح هو ؟ ! قال : ( نعم ) .
وأفضل السابقين الأولين [ الخلفاء الأربعة ] وأفضلهم أبو بكر ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها، وقد دلت على ذلك دلائل بسطناها في [ منهاج/ أهل السنة النبوية، في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية ] .(186/186)
وبالجملة، اتفقت طوائف السنة والشيعة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة، وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول صلى الله علية وسلم واتباعًا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملًا به، فهو أفضل أولياء الله إذ كانت أمة محمد صلى الله علية وسلم أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد صلى الله علية وسلم، وأفضلهم أبو بكر ـ رضي الله عنه .
وقد ظن طائفة غالطة أن [ خاتم الأولياء ] أفضل الأولياء قياسًا على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن على الحكيم الترمذى، فإنه صنف مصنفًا غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعى أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته كما يزعم ذلك ابن عربى صاحب [ كتاب الفتوحات المكية ] و [ كتاب الفصوص ] فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، كما يقال لمن قال : فخر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن .
/ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ أفضل من الأولياء فكيف الأنبياء كلهم ؟ والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتى بعدهم ويدعى أنه خاتم الأولياء ؟ ! وليس آخر الأولياء أفضلهم، كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد صلى الله علية وسلم ثبت بالنصوص الدالة على ذلك . كقوله صلى الله علية وسلم : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) ، وقوله : ( آتى باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : ( محمد ) ، فيقول : بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك ) .(186/187)
و [ ليلة المعراج ] رفع الله درجته فوق الأنبياء كلهم فكان أحقهم بقوله تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ] ، إلى غير ذلك من الدلائل، كل منهم يأتيه الوحي من الله، لا سيما محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في نبوته محتاجًا إلى غيره، فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق، بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وجاء المسيح فكملها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح؛ كالتوراة والزبور، وتمام الأربع وعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدثين، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدَّث، بل جمع له من الفضائل والمعارف/ والأعمال الصالحة ما فرقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضله الله به من الله بما أنزله إليه وأرسله إليه لا بتوسط بشر .
وهذا بخلاف [ الأولياء ] فإن كل من بلغه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون وليًا لله إلا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليًا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أرسل إليه .(186/188)
ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد، وإذا قال : أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة؛ فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا : إن محمدًا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفارًا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول : إن محمدًا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن، آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ، وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة .
/فإذا ادعى المدعي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة، فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول : أومن ببعض، وأكفر ببعض، ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين .
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن [ الولاية ] أفضل من [ النبوة ] ويلبسون على الناس فيقولون : ولايته أفضل من نبوته وينشدون :
مقام النبوة في برزخ ** فويق الرسول ودون الولي
ويقولون : نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون .
وكل رسول نبي ولي، فالرسول نبي ولي . ورسالته متضمنة لنبوته، ونبوته متضمنة لولايته، وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون ولايته لله فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليًا لله، ولا تكون مجردة عن ولايته، ولو قدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في ولايته .(186/189)
/وهؤلاء قد يقولون ـ كما يقول صاحب [ الفصوص ] ابن عربي ـ : إنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول؛ وذلك أنهم اعتقدوا [ عقيدة المتفلسفة ] ثم أخرجوها في قالب [ المكاشفة ] ، وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا : إن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبه بها، كما يقوله أرسطو وأتباعه؛ أو لها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم : كابن سينا وأمثاله، ولا يقولون : إنها لرب خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات؛ بل إما أن ينكروا علمه مطلقًا، كقول أرسطو، أو يقولوا : إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا، وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معين جزئي : الأفلاك كل معين منها جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئًا من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان .
والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في [ درء تعارض العقل والنقل ] وغيره .
فإن كفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، فإن جميع هؤلاء يقولون : إن الله خلق السموات والأرض، وأنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من المتفلسفة/ واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة والأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك، وإنما غالب علوم القوم الأمور الطبيعية، وأما الأمور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب، كثير الخطأ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يلفقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة، وركبوا مذهبًا قد يعتزى إليه متفلسفة أهل الملل؛ وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبهنا على بعضه في غير هذا الموضع .(186/190)
وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم قد بهر العالم، واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم ناموس طرق العالم، ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن . أرادوا أن يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين هم أبعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأولئك قد أثبتوا عقولًا عشرة يسمونها [ المجردات ] و [ المفارقات ] . وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن، وسموا تلك [ المفارقات ] لمفارقتها المادة وتجردها عنها، وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسًا، وأكثرهم جعلوها أعراضًا، وبعضهم جعلها جواهر .
وهذه [ المجردات ] التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمور/ موجودة في الأذهان لا في الأعيان، كما أثبت أصحاب أفلاطون [ الأمثال الأفلاطونية المجردة ] أثبتوا هيولي مجردة عن الصورة، ومدة وخلاء مجردين . وقد اعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان، فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة، وزعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من اتصف بها فهو نبي :
الأول : أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية ينال بها من العلم بلا تعلم .
الثاني : أن يكون له قوة تخيلية تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورًا أو يسمع في نفسه أصواتًا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى .
الثالث : أن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولي العالم وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة، هي قوى النفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية، دون انشقاق القمر ونحو ذلك، فإنهم ينكرون وجود هذا .(186/191)
/وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع، وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام، وإن هذا الذي جعلوه من الخصائص يحصل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء، وإن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون، كما قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وليسوا عشرة، وليسوا أعراضًا، لا سيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو [ العقل الأول ] ، وعنه صدر كل ما دونه، و [ العقل الفعال العاشر ] رب كل ما تحت فلك القمر .
وهذا كله يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل، فليس أحد من الملائكة مبدع لكل ما سوى الله . وهؤلاء يزعمون أنه العقل المذكور في حديث يروى : ( أن أول ما خلق الله العقل، فقال له : أقبل فأقبل، فقال له : أدبر، فأدبر، فقال : وعزتي ما خلقت خلقًا أكرم علي منك، فبك آخذ وبك أعطي، ولك الثواب وعليك العقاب ) . ويسمونه أيضًا [ القلم ] لما روى : ( إن أول ما خلق الله القلم ) الحديث رواه الترمذي .
والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم البستي والدارقطني وابن الجوزي وغيرهم، وليس في شيء من دواوين الحديث التي يعتمد عليها، ومع /هذا فلفظه لو كان ثابتًا حجة عليهم، فإن لفظه : ( أول ما خلق الله تعالى العقل قال له ) ويروي : ( لما خلق الله العقل قال له ) فمعنى الحديث : أنه خاطبه في أول أوقات خلقه، ليس معناه أنه أول المخلوقات و [ أول ] منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر [ لما ] وتمام الحديث : ( ما خلقت خلقًا أكرم علي منك ) فهذا يقتضي أنه خلق قبله غيره، ثم قال : ( فبك آخذ، وبك أعطي، ولك الثواب، وعليك العقاب ) فذكر أربعة أنواع من الأعراض، وعندهم أن جميع جواهر العالم العلوي والسفلي صدر عن ذلك العقل . فأين هذا من هذا ؟ !(186/192)
وسبب غلطهم أن لفظ [ العقل ] في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان، فإن [ العقل ] في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلًا، كما في القرآن : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ النحل : 12 ] ، { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [ الحج : 46 ] ويراد [ بالعقل ] الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها .
وأما أولئك فـ [ العقل ] عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقًا للغة الرسل والقرآن . وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر، وقد يسمى [ العقل ] عالم الجبروت و [ النفوس ] عالم الملكوت؛ و [ الأجسام ] /عالم الملك، ويظن من لم يعرف لغة الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا، وليس الأمر كذلك .
وهؤلاء يلبسون على المسلمين تلبيسًا كثيرًا، كإطلاقهم أن [ الفلك ] محدث : أي معلول مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقًا بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلي محدثًا، والله قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظرهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به الرسل، ولا أحكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا، ولا للأعداء كسروا، وشاركوا أولئك في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك، كما قد بسط في غير هذا الموضع .(186/193)
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون [ جبريل ] هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم [ أولياء الله ] ، وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة كابن عربي صاحب [ الفتوحات ] و [ الفصوص ] ، فقال : / إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول، و [ المعدن ] عنده هو العقل و [ الملك ] هو الخيال، و [ الخيال ] تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي ولو كان خاصة النبي ما ذكروه لم يكن هو من جنسه، فضلا عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين ؟ ! والنبوة أمر وراء ذلك، فإن ابن عربي وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة : كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهم ـ رضوان الله عليهم أجمعين .(186/194)
والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء كقوله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 26 : 29 ] ، وقال تعالى : { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] ، وقال تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 22، 23 ] ، وقال تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 19، 20 ] .
وقد أخبر أن الملائكة جاءت لإبراهيم عليه السلام في صورة البشر، وأن الملك تمثل لمريم بشرًا سويًا، وكان جبريل ـ عليه السلام ـ يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي، وفي صورة أعرابي، ويراهم الناس كذلك .(186/195)
وقد وصف الله تعالى جبريل ـ عليه السلام ـ بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رآه بالأفق المبين، ووصفه بأنه { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُنَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ النجم : 5-18 ] .
/وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه لم ير جبريل في صورته التي خلق عليها غير مرتين ) يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى، ووصف جبريل ـ عليه السلام ـ في موضع آخر بأنه الروح الأمين، وأنه روح القدس، إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه، ليس خيالا في نفس النبي كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة، والمدعون ولاية الله، وأنهم أعلم من الأنبياء .(186/196)
وغاية حقيقة هؤلاء إنكار [ أصول الإيمان ] بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق، فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وقالوا : الوجود واحد، ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، كما تشترك الأناسي في مسمى الإنسان، والحيوانات في مسمى الحيوان، ولكن هذا المشترك الكلي لا يكون مشتركًا كليًا إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفَرَس، ووجود السموات ليس هو بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته .
وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطل الصانع، فإنه لم يكن/ منكرًا هذا الوجود المشهود، لكن زعم أنه موجود بنفسه، لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك، لكن زعموا بأنه هو الله، فكانوا أضل منه وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادًا منهم، و لهذا جعلوا عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، وقالوا : ( لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف وإن جار في العرف الناموسي، كذلك قال : أنا ربكم الأعلى ـ أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منكم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم ) .
قالوا : ( ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك وقالوا : { فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [ طه : 72 ] ، قالوا : فصح قول فرعون : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] وكان فرعون عين الحق ) ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر، فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله، وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم .(186/197)
وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء؛ ولكن لما كان الكلام في [ أولياء الله ] والفرق بين [ أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ] وكان هؤلاء من أعظم الناس ادعاءً لولاية الله، وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان، نبهنا على ذلك . ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات /الشيطانية، ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات : [ باب أرض الحقيقة ] ويقولون : هي أرض الخيال . فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، ومحل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي عليه، قال تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [ الزخرف : 36 : 39 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا } إلى قوله : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } [ النساء : 116 : 120 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ(186/198)
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الأنفال : 48 ] .
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( أنه رأى جبريل يزع الملائكة ) والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته . قال تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ الأنفال : 12 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] ، وقال تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ(186/199)
اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 40 ] ، وقال تعالى : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِين بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 124، 125 ] .
وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم، وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة، كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام، وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام : المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( سيكون في ثقيف كذاب ومُبير ) وكان الكذاب : المختار بن أبي عبيد، والمبير : الحجاج بن يوسف . فقيل لابن عمر وابن عباس : إن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا : صدق، قال الله تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] . وقال الآخر : وقيل له : إن /المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال : قال الله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] .(186/200)
وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب [ الفتوحات ] أنه ألقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعًا من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية، وأعرف من هؤلاء عددًا، ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجُعْل يحصل له من الناس، أو بعطاء يعطونه إذا دلهم على سرقاتهم ونحو ذلك .
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل ـ صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ـ كما يوجد في كلام صاحب [ الفتوحات المكية ] و [ الفصوص ] وأشباه ذلك يمدح الكفار، مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، ويتنقص الأنبياء : كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين : كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبدالله التستري، ويمدح المذمومين عند المسلمين : كالحلاج ونحوه كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد ـ قدس الله روحه ـ كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد /فقال : [ التوحيد ] إفراد الحدوث عن القدم . فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وبين الخالق والمخلوق . وصاحب [ الفصوص ] أنكر هذا، وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له : يا جنيد، هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما ؟ فخطأ الجنيد في قوله : [ إفراد الحدوث عن القدم ] ، لأن قوله هو : إن وجود المحدث هو عين وجود القديم، كما قال في فصوصه : [ ومن أسمائه الحسنى [ العلي ] على من ؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا ؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته وليست إلا هو ] إلى أن قال :(186/201)
[ هو عين ما بطن وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من الأسماء المحدثات ] .
فيقال لهذا الملحد : ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالث، فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنًا وظاهرًا، وأما هؤلاء الملاحدة /فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منه ـ وهو أحدقهم في اتحادهم ـ لماقرئ عليه [ الفصوص ] فقيل له : القرآن يخالف فصوصكم، فقال : القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له : فإذا كان الوجود واحدًا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حرامًا ؟ فقال : الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام، فقلنا حرام عليكم .
وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهر، فإن الوجود إذا كان وحدًا فمن المحجوب ومن الحاجب ؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده : من قال لك : إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده : فمن هو الذي يكذب ؟ وقالوا لآخر : هذه مظاهر، فقال لهم : المظاهر غير الظاهر أم هي ؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق .(186/202)
وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر، وبينا حقيقة قول كل واحد منهم، وإن صاحب [ الفصوص ] يقول : المعدوم شيء، ووجود الحق فاض عليه، فيفرق بين الوجود والثبوت . والمعتزلة الذين قالوا : المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه، فإن أولئك قالوا : إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودًا ليس هو وجود الرب . وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليه/ فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه الصدر القونوي يفرق بين المطلق والمعين؛ لأنه كان أقرب إلى الفلسفة، فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق، وصنف [ مفتاح غيب الجمع والوجود ] .
وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الإطلاق ـ وهو الكلي العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي ـ وإن قيل : إنه موجود في الخارج فلا يوجد في الخارج إلا معينًا، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج، فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج وإما أن يكون جزءًا من وجود المخلوقات، وإما أن يكون عين وجود المخلوقات . وهل يخلق الجزء الكل أم يخلق الشيء نفسه ؟ أم العدم يخلق الوجود ؟ أو يكون بعض الشيء خالقًا لجميعه ؟ !
وهؤلاء يفرون من لفظ [ الحلول ] لأنه يقتضي حالا ومحلا، ومن لفظ [ الاتحاد ] لأنه يقتضي شىئين اتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحد . ويقولون : النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله، ولو عمموا لما كفروا .
وكذلك يقولون في عباد الأصنام : إنما أخطؤوا لما عبدوا بعض/ المظاهر دون بعض فلو عبدوا الجميع لما أخطؤوا عندهم . والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام .(186/203)
وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم ففيه ما يلزمهم دائمًا من التناقض؛ لأنه يقال لهم : فمن المخطئ ؟ لكنهم يقولون : إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق . و يقولون : إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق، ويقولون ما قاله صاحب [ الفصوص ] : [ فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية، والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفًا أو عقلا أو شرعًا، أو مذمومة عرفًا وعقلًا وشرعًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة ] .
وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض، فإنه معلوم بالحس والعقل أن هذا ليس هو ذاك، وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني : إنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل . ويقولون : من أراد التحقيق ـ يعني تحقيقهم ـ فليترك العقل والشرع .
وقد قلت لمن خاطبته منهم : ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبر غيرهم، و الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته . لا بما/ يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان، سواء كانا عقليين أوسمعيين، أو كان أحدهما عقليًا والآخر سمعيًا، فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل ؟ .
وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب، لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين .(186/204)
وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع ، كما يذكر عن ابن سبعين وغيره، ويجعلون المراتب [ ثلاثة ] يقولون : العبد يشهد أولا طاعة ومعصية، ثم طاعة بلا معصية، ثم لا طاعة ولا معصية، و [ الشهود الأول ] هو الشهود الصحيح وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي، وأما [ الشهود الثاني ] فيريدون به شهود القدر كما أن بعض هؤلاء يقول : أنا كافر برب يعصى، وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة . والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة ويقول شاعرهم :
/أصبحت منفعلا لما تختاره ** مني ففعلي كله طاعات
ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه؛ فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله كما قال تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ النساء : 13، 14 ] وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني .(186/205)
وكانت هذه [ المسألة ] قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد ـ رحمه الله ـ لهم، من اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل؛ لأنهم تكلموا في أن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته، وفي شهود هذا التوحيد، وهذا يسمونه الجمع الأول، فبين لهم الجنيد أنه لابد من شهود الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته، وخلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهي عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه وأعدائه كما قال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ القلم : 35، 36 ] ، وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 82 ] ، وقال تعالى : { مْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ } [ غافر : 58 ] .
ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة، ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم .(186/206)
وأما [ المرتبة الثالثة ] ألا يشهد طاعة ولا معصية، فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا غاية التحقيق والولاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته، وغاية العداوة لله، فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء، وقد قال تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] وقال الخليل عليه/ السلام لقومه المشركين : { أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 57-77 ] وقال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] . وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسماة بـ [ نظم السلوك ] يقول فيها :
لها صلاتي بالمقام أقيمها ** وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصلٍّ واحد ساجد إلى ** حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سوائي ولم تكن ** صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال :
وما زلت إياها وإياي لم تزل ** ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت(186/207)
إلىّ رسولا كنت مني مرسلا ** وذاتي بآياتي علىّ استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ** منادي أجابت من دعاني ولبت
إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد ويقول :
/إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ** واليوم أحسبها أضغاث أحلام
فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه، وقال الله تعالى : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحديد : 1 ] فجميع ما في السموات والأرض يسبح لله، ليس هو الله، ثم قال تعالى : { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد : 2، 3 ] .
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه : ( اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر ) . ثم قال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الحديد : 4 ] /فذكر أن السموات والأرض ـ وفي موضع آخر ـ { وَمَا بَيْنَهُمَا } مخلوق مسبح له، وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء .(186/208)
وأما قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ } فلفظ [ مع ] لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر كقوله تعالى : { اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } [ التوبة : 119 ] ، وقوله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ } [ الفتح : 29 ] ، وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ } [ الأنفال : 75 ] .
ولفظ [ مع ] جاءت في القرآن عامة وخاصة، فـ [ العامة ] في هذه الآية وفي آية المجادلة : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ المجادلة : 7 ] ، فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل : هو معهم بعلمه .
وأما [ المعية الخاصة ] ففي قوله تعالى :
{ إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، وقوله تعالى لموسى : { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 46 ] ، وقال تعالى : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، يعني النبي / صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين .(186/209)
فلو كان معنى : [ المعية ] أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك . وقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] أي : هو إله من في السموات وإله من في الأرض، كما قال الله تعالى : { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الروم : 27 ] ، وكذلك قوله تعالى : { وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ] كما فسره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره : أنه المعبود في السموات والأرض .
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال، كما قال الله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ سورة الإخلاص ] . قال ابن عباس : [ الصمد ] : العليم الذي كمل في علمه، العظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده .
/وقال ابن مسعود وغيره : هو الذي لا جوف له . و [ الأحد ] : الذي لا نظير له، فاسمه [ الصمد ] يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه، واسمه [ الأحد ] يتضمن اتصافه أنه لا مثل له، وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن .
فصل(186/210)
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ له الخلق والأمر كما قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] فهو ـ سبحانه ـ خالق كل شيء وربه ومليكه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات /التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] ، وقال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ } [ البقرة : 165 ] .(186/211)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندًا وهو خلقك ) ، قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) ، قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تزني بحليلة جارك ) فأنزل الله تصديق ذلك : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الفرقان : 68 : 70 ] .
وأمر ـ سبحانه ـ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهي عنه كما قال في سورة سبحان : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [ الإسراء : 83 ] وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق / ونهى عن التبذير، وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إلى أن قال : { كٍلٍَ ذّلٌكّ كّانّ سّيٌَئٍهٍ عٌنًدّ رّبٌَكّ مّكًرٍوهْا } وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر .
والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائمًا، قال الله تعالى : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ] .(186/212)
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده ، إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) . وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) وفي السنن عن ابن عمر قال : كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : ( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة ) أو قال : ( أكثر من مائة مرة ) .(186/213)
وقد أمر الله ـ سبحانه ـ عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثًا ويقول : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) /كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه، وقد قال تعالى : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } [ آل عمران : 17 ] ، فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار . وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المزمل : 20 ] وكذلك قال في الحج : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 198، 199 ] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهي آخر غزواته : { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [ التوبة : 117، 118 ] وهي آخر ما نزل من القرآن .(186/214)
وقد قيل : إن آخر سورة نزلت قوله تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة النصر ] ، فأمره تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار . وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه صلى الله عليه وسلم كان/ يقول في ركوعه وسجوده : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) يتأول القرآن . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت ) .
وفي الصحيحين : أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : يارسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال : ( قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) .
وفي السنن عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال : ( قل : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم . قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك ) .(186/215)
فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب؛ بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائمًا . قال الله تبارك وتعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [ الأحزاب : 72، 73 ] ، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم .
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لن يدخل الجنة أحد بعمله ) ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) وهذا لا ينافي قوله : { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ] فإن الرسول نفي باء المقابلة والمعادلة والقرآن أثبت باء السبب .
وقول من قال : إذا أحب الله عبدًا لم تضره الذنوب، معناه : أنه إذا أحب عبدًا ألهمه التوبة والاستغفار فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره .(186/216)
وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 133 : 135 ]
ومن ظن أن [ القدر ] حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ } قال الله تعالى ردًا عليهم : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأنعام : 148 : 149 ] .(186/217)
ولو كان [ القدر ] حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات، وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعًا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب فعليه أن لا يذم أحدًا ولا يعاقبه إذا اعتدى عليه، بل يستوى عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرًا وبين من يفعل معه شرًا، وهذا ممتنع طبعًا وعقلا وشرعًا، وقد قال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 35 ] ، وقال تعالى : { ًامْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] ، وقال تعالى : { أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] ، أي : مهملًا لا يؤمر ولا ينهى .
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( احتج آدم وموسى، قال موسى : يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة، فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبًا عليَّ قبل أن أخلق { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [ طه : 121 ] ، قال : بأربعين سنة، قال : فلم تلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن أخلق بأربعين سنة ؟ قال : فحج آدم موسى ) أي : غلبه بالحجة .(186/218)
وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان :
[ طائفة ] كذبت به لما ظنوا أنه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر .
و [ طائفة ] شر من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون : القدر/ حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا . ومن الناس من قال : إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل .
ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبًا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضًا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ] . والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] فأمره بالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب .
وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ التغابن : 11 ] ، قال ابن مسعود : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة، مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي فافتقر أولاده لذلك فعليهم أن يصبروا/ لما أصابهم، وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر .(186/219)
و [ الصبر ] واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، و [ الرضا ] قد قيل : إنه واجب، وقيل : هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببًا لتكفير خطاياه، ورفع درجاته وإنابته وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه دون المخلوقين، وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به .
وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها، ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي/ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه(186/220)
تبارك وتعالى أنه قال : ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي ،كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ياعبادي ،لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
/فأمر ـ سبحانه ـ بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شرًا فلا يلومن إلا نفسه .(186/221)
وكثير من الناس يتكلم بلسان [ الحقيقة ] ، ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته . ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقًا لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ [ الشريعة ] يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله؛ فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه ولا يخرج عنه إلا كافر . وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطئ . هذا إذا كان عالمًا عادلًا وإلا ففي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار، وقاض في الجنة : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضي بغيره فهو في النار ) . وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ( إنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع، فمن/ قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ) فقد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار . وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبينة والإقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر، لم يجز للمقضي له أن يأخذ ما قضى به له بالاتفاق . وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول إن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وفرق أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ بين النوعين . فلفظ [ الشرع، والشريعة ] إذا أريد به الكتاب و السنة لم يكن لأحد من أولياء الله(186/222)
ولا لغيرهم أن يخرج عنه، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقًا إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا . فلم يتابعه باطنًا وظاهرًا فهو كافر . ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخضر كان غالطًا من وجهين : أحدهما : أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولو/ أدركه من هو أفضل من الخضر : كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليًا، ولهذا قال الخضر لموسى : ( أنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه ) وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا . الثاني : أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفًا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن علم الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفًا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله . قال : ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان ـ قال له ـ : إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم . وإلا فلا تقتلهم . رواه البخاري، وأما الإحسان إلى اليتيم بلاعوض والصبر على الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيء مخالفًا شرع الله . وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالمًا وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابًا وقد يكون خطًا، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه : كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن/ سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا؛ أي ليس(186/223)
اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة كاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم . وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله ونحو ذلك، فهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يفرق بين الحقيقة الكونية والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، و بين ما يكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده .
http://mirror.al-eman.com/Islamlib/viewchp.asp?BID=252&CID=227 - TOP#TOPفصل
وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين [ الإرادة ] و [ الأمر ] و [ القضاء ] و [ الإذن ] و [ التحريم ] و [ البعث ] و [ الإرسال ] و [ الكلام ] و [ الجعل ] : بين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه؛ وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثيب أصحابه، ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم، وجعلهم من أوليائه المتقين/ وحزبه المفلحين وجنده الغالبين؛ وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن استعمله الرب ـ سبحانه وتعالى ـ فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه، ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه .(186/224)
فـ [ الإرادة الكونية ] هي مشيئته لما خلقه وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وإرادته الكونية، والإرادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه المتناولة لما أمر به وجعله شرعًا ودينًا . وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى : { فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } [ الأنعام : 125 ] ، وقال نوح عليه السلام لقومه : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [ الرعد : 11 ] ، وقال تعالى في الثانية : { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] وقال في آية الطهارة : { مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ المائدة : 6 ] ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح قال : { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا } [ النساء : 26 : 28 ] وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وما نهاهم عنه : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 ] . والمعنى أنه أمركم بما يذهب عنكم الرجس(186/225)
أهل البيت ويطهركم تطهيرًا، فمن أطاع أمره كان مطهرًا قد أذهب عنه الرجس بخلاف من عصاه .
وأما [ الأمر ] فقال في الأمر الكوني : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، وقال تعالى : { أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } [ يونس : 24 ] ، وأما الأمر الديني، فقال تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 90 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [ النساء : 58 ] .(186/226)
وأما [ الإذن ] فقال في الكوني لما ذكر السحر : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة : 102 ] ، أي بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل، وقال في الإذن الديني : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ } [ الشورى : 21 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } [ الأحزاب : 45، 46 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ } [ النساء : 64 ] ، وقال تعالى : { مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [ الحشر : 5 ] .(186/227)
وأما [ القضاء ] فقال في الكوني : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] وقال سبحانه : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] ، وقال في الديني : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ } [ الإسراء : 23 ] ، أي أمر، وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ } [ يونس : 18 ] ، وقول الخليل عليه السلام لقومه : { قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75 : 77 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ الممتحنة : 4 ] ، وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ سورة الكافرون ] ، وهذه كلمة تقتضي براءته من دينهم ولا تقتضي رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ(186/228)
أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] / ومن ظن من الملاحدة أن هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن قوله : { وَقَضَى رَبُّكَ } بمعنى قدر، وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرًا بالكتب .
وأما لفظ [ البعث ] فقال تعالى في البعث الكوني : { فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا } [ الإسراء : 5 ] وقال في البعث الديني : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } [ الجمعة : 2 ] ، و قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .
وأما لفظ [ الإرسال ] فقال في الإرسال الكوني : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم : 83 ] ،وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الفرقان : 48 ] ، وقال في الديني : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } [ الأحزاب : 45 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } [ نوح : 1 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا
عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } [ المزمل : 15 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] .(186/229)
وأما لفظ [ الجعل ] فقال في الكوني : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } [ القصص : 41 ] ، وقال في الديني : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] ، وقال تعالى : { مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } [ المائدة : 103 ] .
وأما [ لفظ التحريم ] فقال في الكوني : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } [ القصص : 12 ] ، وقال تعالى : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ } [ المائدة : 26 ] ، وقال في الديني : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } [ المائدة : 3 ] ،وقال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ } الآية [ النساء : 23 ] .
وأما لفظ [ الكلمات ] فقال في الكلمات الكونية : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } [ التحريم : 12 ] ، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : ( أعوذ بكلمات الله التامة كلها من شر ما خلق، ومن غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ماخلق لم يضره شيء حتي يرتحل من منزله ذلك ) وكان يقول : ( أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن ) .(186/230)
/و [ كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ] هي التي كون بها الكائنات فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته . وأما [ كلماته الدينية ] وهي كتبه المنزلة : وما فيها من أمره ونهيه، فأطاعها الأبرار، وعصاها الفجار .
وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية .
وأما كلماته الكونية التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، فإنه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم،فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب .
وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحظور، وصبروا على المقدور، فأحبهم وأحبوه، ورضى عنهم ورضوا عنه . وأعداؤه أولياء الشياطين، وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم، ويغضب عليهم، ويلعنهم ويعاديهم .
وبسط هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع [ الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ] وجمع الفرق بينهما / اعتبارهم بموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء، وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد ،وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد وأعدائه حزب الشيطان وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه . قال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] .(186/231)
وقال في أعدائه : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] ، وقال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [ الأنعام : 112 ] ، وقال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 221 : 227 ] ، وقال تعالى : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [ الحاقة : 38 : 52 ] ، وقال تعالى : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ(186/232)
أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } [ الطور : 29 : 34 ] .
فنزه ـ سبحانه وتعالى ـ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم عمن تقترن به الشياطين، من الكهان والشعراء والمجانين؛ وبين أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه . قال الله تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } [ الحج : 75 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 192 : 195 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة : 97 ] ، وقال تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } إلى قوله : { وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 98 : 102 ] فسماه الروح الأمين،وسماه روح القدس .(186/233)
وقال تعالى : { فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } [ التكوير : 15، 16 ] يعني : الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي : مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } [ التكوير : 17 ] أي : إذا أدبر، وأقبل الصبح { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } [ التكوير : 18 ] أي : أقبل { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ التكوير : 19 ] وهو جبريل عليه السلام { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 20، 21 ] ، أي : مطاع في السماء أمين، ثم قال : { وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ } [ التكوير : 22 ] أي : صاحبكم الذي مَنَّ الله عليكم به؛ إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 8، 9 ] . وقال تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } [ التكوير : 23 ] أي : رأى جبريل عليه السلام { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } [ التكوير : 24 ] أي : بمتهم، وفي القراءة الأخرى : { بِضَنِينٍ } أي : ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجعل، كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض، { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } [ التكوير : 25 ] فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانًا، كما نزه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرًا أو كاهنًا .(186/234)
فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين . وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك .
/ وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ،فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم : مثل انشقاق القمر، وتسبيح الحصا في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة،كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص في حديث أم سلمة المشهور، وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص، وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص وهم نحو ثلاثين ألفًا، ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفي الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة، ورده لعين أبي قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قطعتين فأكلوا منها جميعهم ثم فضل فضلة، ودَيْن عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقًا . قال جابر : فأمر صاحب الدَّين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لجابر جد له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا . ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة .(186/235)
/وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدًا، مثل ما كان [ أسيد بن حضير ] يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته ] . وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين . وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها . وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما، رواه البخاري وغيره .
وقصة [ الصديق ] في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربي من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبوبكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت، فرفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا .
و [ خبيب بن عدي ] كان أسيرًا عند المشركين بمكة ـ شرفها الله تعالى ـ وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة .
و [ عامر بن فهيرة ] قتل شهيدًا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه،/وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال : عروة : فيرون الملائكة رفعته .
وخرجت [ أم أيمن ] مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسًا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها .
و [ سفينة ] مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده .
و [ البراء بن مالك ] كان إذا أقسم على الله تعالى أبر قسمه، وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون : يا براء، أقسم على ربك، فيقول : يارب، أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم فيهزم العدو، فلماكان يوم [ القادسية ] قال : أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيدًا .(186/236)
و [ خالد بن الوليد ] حاصر حصنًا منيعًا فقالوا : لا نسلم حتى تشرب/ السم، فشربه فلم يضره . و [ سعد بن أبي وقاص ] كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق .
و [ عمر بن الخطاب ] لما أرسل جيشًا أَمَّر عليهم رجلا يسمى [ سارية ] فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر : يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فقدم رسول الجيش فسأل فقال : يا أمير المؤمنين لقينا عدوًا فهزمونا فإذا بصائح : يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله .
ولما عذبت [ الزنِّيرة ] على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها ،قال المشركون : أصاب بصرها اللات والعزى، قالت : كلا والله، فرد الله عليها بصرها .
ودعا [ سعيد بن زيد ] على أروى بنت الحكم فأعمى بصرها لما كذبت عليه فقال : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها، واقتلها في أرضها، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت .
و [ العلاء بن الحضرمي ] كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين وكان يقول في دعائه : يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم،/ فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضؤوا لما عدموا الماء والإسقاء لما بعدهم فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم؛ ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات، فلم يجدوه في اللحد .(186/237)
وجرى مثل ذلك [ لأبي مسلم الخولاني ] الذي ألقى في النار، فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال : تفقدون من متاعكم شيئًا حتى أدعو الله عز وجل فيه ؟ فقال بعضهم : فقدت مخلاة، فقال : اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة فقال له : أتشهد أني رسول الله، قال : ما أسمع، قال : أتشهد أن محمدًا رسول الله ؟ قال : نعم، فأمر بنار فألقى فيها فوجدوه قائمًا يصلي فيها وقد صارت عليه بردًا وسلامًا، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنهما ـ وقال : ( الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله ) . ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره، وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت، وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها .
وكان [ عامر بن عبد قيس ] يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه وما/ يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجىء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه وقال : إنما أنت كلب من كلاب الرحمن وإني أستحي أن أخاف شيئًا غيره، ومرت القافلة ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتي بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه .
وتغيب [ الحسن البصري ] عن الحجاج ،فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتًا .(186/238)
و [ صلة بن أشيم ] صلة بن أشيم هو : [ أبو الصهباء العدوي البصري ،زوج الصالحة معاذة العدوية لم يرو سوى حديث واحد عن ابن عباس، حدث عنه أهله معاذ والحسن وغيرهم، كان أبو الصهباء يصلى حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفًا، قتل سنة اثنتين وستين رحمه الله . [ سير أعلام النبلاء : 3/497 : 500 ] . مات فرسه وهو في الغزو، فقال : اللهم لا تجعل لمخلوق على منة ،ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال : يا بنى خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاع مرة بالأهواز، فدعا الله عز وجل واستطعمه، فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير فأكل التمر وبقى الثوب عند زوجته زمانًا . وجاء الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل فلما سلم قال له : اطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير .
وكان [ سعيد بن المسيب ] في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره .
ورجل من [ النخع ] كان له حمار فمات في الطريق فقال له أصحابه : هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم : أمهلوني هنيهة ،ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره فحمل عليه متاعه .(186/239)
ولما مات [ أويس القرني ] [ أويس القرني هو : أبو عمرو أويس بن عامر بن جزء بن مالك المرادي اليماني القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، قالوا عنه : إنه ما روى شيئًا مسندًا ولا تهيأ أن يحكم عليه بلين، وقد كان من أولياء الله المتقين ومن عباده المخلصين، ذكر الصيرفي أن مسلمًا خرج حديثه، قيل : إنه قتل يوم صفين، وقيل : مات على جبل بمكة ،وقيل : إنه مات بدمشق، ولم تذكر الكتب لا سنة مولده ولا سنة وفاته . [ سير أعلام النبلاء : 4/19 : 33، لسان الميزان : 1/527 : 531 تهذيب التهذيب 1/386 ] . وجدوا في ثيابه أكفانًا لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبرًا محفورًا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب .
وكان [ عمرو بن عقبة بن فرقد ] يصلي يومًا في شدة الحر فأظلته غمامة، وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم .
وكان [ مطرف بن عبد الله بن الشخير ] إذا دخل بيته سبحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط .
ولما مات [ الأحنف بن قيس ] وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى/ ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر .
وكان [ إبراهيم التيمي ] يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئًا وخرج يمتار لأهله طعامًا فلم يقدر عليه فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبًا متراكبًا .(186/240)
وكان [ عتبة الغلام ] [ عتبة الغلام هو : عتبة بن أبان البصري الزاهد، الخاشع الخائف . قال سلمة الفراء : كان عتبة الغلام من نساك أهل البصرة، يصوم الدهر، ويأوى السواحل والجبانة . قال أبو عمر البصري : كان رأس مال عتبة فلسًا، يشتري به خوصا، يعمله ويبيعه بثلاثة فلوس فيتصدق بفلس، ويتعشى بفلس، وفلس رأس ماله . [ سير أعلام النبلاء : 7/62 ] . سأل ربه ثلاث خصال : صوتًا حسنًا، ودمعًا غزيرًا، وطعامًا من غير تكلف . فكان إذا قرأ بكى وأبكى، ودموعه جارية دهره، وكان يأوى إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه .
وكان [ عبد الواحد بن زيد ] أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء فكانت وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده .
وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع .
وأما ما نعرفه عن أعيان ونعرفه في هذا الزمان فكثير .
/ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ويسد حاجته ويكون من هو أكمل ولاية لله منه مستغنيًا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته؛ ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدى الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة .(186/241)
وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال [ عبد الله بن صياد ] الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان قال له : النبي صلى الله عليه وسلم قد خبأت لك خبأ ) قال : الدخ الدخ . وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( اخسأ فلن تعدو قدرك ) يعني : إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الملائكة تنزل في العنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم ) .
/وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه ؟ ) قالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم،حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء،ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش : ماذا قال ربنا ؟ فيخبرونهم،ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا،وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم،فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون ) .
وفي رواية : قال معمر : قلت للزهرى : أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال : نعم ولكنها غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم .(186/242)
و [ الأسود العنسي ] الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه .
/وكذلك [ مسيلمة الكذاب ] كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور، وأمثال هؤلاء كثيرون مثل [ الحارث الدمشقي ] الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده،وكان يرى الناس رجالًا وركبانًا على خيل في الهواء ويقول : هي الملائكة، وإنما كانوا جنًا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك : إنك لم تسم الله،فسمى الله فطعنه فقتله .
وهكذا أهل [ الأحوال الشيطانية ] تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما فعل أسيرك البارحة ) فيقول : زعم أنه لا يعود، فيقول : ( كذبك وإنه سيعود ) فلما كان في المرة الثالثة . قال : دعني حتى أعلمك ما ينفعك : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي : { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [ البقرة : 255 ] إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صدقك وهو كذوب ) وأخبره أنه شيطان .(186/243)
ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها ،مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلامًا لا يعلم وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولبسه وتكلم على لسانه، فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال، ولهذا قد يضرب المصروع، وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن الضرب كان على الجني الذي لبسه .
ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجًا شرعيا، بل يذهب بثيابه،ولا يحرم إذا حاذى الميقات . ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج، ولهذا رأى بعض هؤلاء الملائكة تكتب الحجاج فقال : ألا تكتبوني ؟ فقالوا : لست من الحجاج، يعني حجًا شرعيًا .
/وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة :(186/244)
منها : أن [ كرامات الأولياء ] سببها الإيمان والتقوى، و [ الأحوال الشيطانية ] سببها ما نهى الله عنه ورسوله . وقد قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ، فالقول على الله بغير علم والشرك والظلم والفواحش قد حرمها الله تعالى ورسوله فلا تكون سببًا لكرامة الله تعالى بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية .
ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد .
ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت،سواء كان ذلك الحي مسلمًا أو نصرانيًا أو مشركًا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث/ به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين .(186/245)
ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان، ويقول له : أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته .
ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال : إذا أنا مت فلا تدع أحدًا يغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رأى خادمه شخصًا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه فلما قضى ذلك الداخل غسله ـ أي غسل الميت ـ غاب وكان ذلك شيطانًا، وكان قد أضل الميت، وقال : إنك بعد الموت تجىء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضًا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك .(186/246)
/ومنهم من يرى عرشًا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول : أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول . ومنهم من يرى أشخاصًا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر : إما الصديق ـ رضى الله عنه ـ أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وهم على مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ، فإن كان الإنسي كافرًا أو فاسقًا أو جاهلًا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونوه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة أو يقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بالنجاسة فيغورون له الماء، وينقلونه بسبب مايرضيهم به من الكفر، وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعًا ملجأ إليه .
إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها، والإيمان بها إيمان /بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام . وإن كان الرجل مطيعًا لله ورسوله باطنًا وظاهرًا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته .
ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عمار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب أقرب إلى الأحوال الشيطانية، فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .(186/247)
وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال : ( إن من أمَنًّ الناس عَلَىَّ في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلا من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، لا يبقين في المسجد خَوْخَة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) .
وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة، وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال : ( إن أولئك إذا مات فيهم/ الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيها تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة ) .
وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد ) .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ) وفي الموطأ عنه أنه قال : ( اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .
وفي السنن عنه أنه قال : ( لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما من رجل يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي ) ، قالوا : يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد/ أرمت ـ أي بليت ؟ فقال : ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء ) .(186/248)
وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } [ نوح : 23 ] قال ابن عباس وغيره من السلف : هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد ليسد باب الشرك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب . فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين، فسد هذا الباب .
والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها ـ كما يفعل أهل دعوة الكواكب ـ فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب، وهو شيطان، والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، /وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروون حديثًا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو : ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور ) وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك .(186/249)
ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين : مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد، أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه . يفعل الشيطان هذا ليضلهم، وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال : لا إله إلا الله فسقط ، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان .
وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع .
ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرًا ما تأوى إلى المغارات والجبال : مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان وجبال بالجزيرة، /وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز وجبل ماشكو عند أقشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ الجن : 6 ] .
ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني جلده يشبه جلد الماعز فيظن من لا يعرفه أنه إنسي وإنما هو جني، ويقال : بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال، كما يعرف ذلك بطرق متعددة .
وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر، الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك .
والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام :(186/250)
قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به /مجملا وكذب ما يذكر له عن كثير من الناس لكونه عنده ليس من الأولياء .
ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليًا لله وكلا الأمرين خطأ، ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين وأنهم من أولياء الله . وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة، والصواب القول الثالث، وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل كما قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ } [ المائدة : 51 ] وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضًا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بد أن يكون في أحدهم من الكذب جهلاً أو عمدًا . و من الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين . قال الله تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221، 222 ] والأفاك : الكذاب، والأثيم الفاجر .(186/251)
ومن أعظم ما يقوى الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] ، قال ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهما من السلف : [ التصدية ] التصفيق باليد، و [ المكاء ] مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على استماع غناء قط لا بكف ولا بدف، ولا تواجد ولا سقطت بردته، بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه .
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ، والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول لأبي موسى الأشعري : ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون . ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له : ( مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع لقراءتك ) فقال : لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا . أي : لحسنته لك تحسينًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لله أشد أذنًا ـ أي : استماعًا ـ إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ) .
وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود : ( اقرأ علي القرآن ) فقال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال : ( إني أحب أن أسمعه من غيري ) فقرأت عليه سورة النساء، حتى انتهيت إلى هذه / الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا } [ النساء : 41 ] قال : [ حسبك ] ، فإذا عيناه تذرفان من البكاء .(186/252)
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم، كما ذكره الله في القرآن فقال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] ، وقال في أهل المعرفة : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] . ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين فقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [ الزمر : 23 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الأنفال : 2-4 ] .(186/253)
وأما السماع المحدث، سماع الكف والدف والقصب، فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقًا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدونه من القرب والطاعات، / بل يعدونه من البدع المذمومة، حتى قال الشافعي : خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبًا وافرًا، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم .
ومن كان أبعد عن المعرفة وعن كمال ولاية الله كان نصيب الشيطان منه أكثر وهو بمنزلة الخمر، يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر؛ ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم، كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه ؟ ! وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبدًا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، و يرفع به درجته .
وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو /من جنس الغنى عن جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى .(186/254)
وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته . وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أوحسنات ماحية وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيرًا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها، كما يعزل الملك عن ملكه ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات، فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرًا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدًا خرت عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطي عبداً ملكا ومالا وتصرفًا لم يحاسبه عليه، ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورًا بها ولا منهيًا عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء، كما أن العبد /الرسول أعلى من النبي الملك .(186/255)