* وتلك مسئولية ينبغي أن تقوم بها أجهزة التربية المباشرة ، وغير المباشرة فإن ما نعيشه الآن هو صورة أسوأ مما قرأت في هذه الاعترافات ، ولو أنك اخترت مائة أسرة كعينة عشوائية وبحثت فيها لوجدت أن كل ما رويته لك في هذه الاعترافات لا يمثل إلا أقل القليل .!
{ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } .(177/24)
كيف اهتديت
إلى التوحيد والصراط المستقيم
إعداد
محمد بن جميل زينو
المدرس في دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
قام بصف الكتاب ونشره
أبو عمر الدوسري
www.frqan.com
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد فقد تلقيت رسالة من طالب تركي من بلدة ( قونية ) هذا نصها : إلى محمد بن جميل زينو المدرس في دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة . السلام عليكم ورحمة لله وبركاته .
أستاذنا الكريم : أنا طالب في كلية الشريعة ( في قونية ) , وأخذت كتابكم " العقيدة الإسلامية " " أطروحة " وترجمت كتابكم إلى اللغة التركية ولكن أحتاج إلى ترجمة حياتكم للطبع , وأنا أريد من فضلكم أن ترسل هذه المعلومات إلى العنوان الآتي شكراً لفضيلتكم من الآن والسلام على من اتبع الهدى .
" بلال بارومجي "
وقد طلب مني بعض إخواني من طلبة العلم أن أكتب قصة حياتي والمراحل التي مررت بها منذ الصغر إلى أن بلغت من العمر قريباً من 70 سنة وكيف اهتديت إلى العقيدة الإسلامية الصحيحة عقيدة السلف الصالح التي تستند على الدليل من القرآن الكريم والحديث الصحيح , وهذه نعمة كبيرة لا يعرفها إلا من ذاقها :
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً , وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ) " رواه مسلم "
ولعل القاريء يجد في هذه القصة عبرة ودروساً نافعة لمعرفة الحق من الباطل . والله أسأل أن ينفع بها المسلمين , ويجعلها خالصة لوجهه الكريم .
محمد بن جميل زينو
1/1/1415هـ
الولادة والنشأة(178/1)
ولدت في مدينة حلب في سوريا عام 1925م (1) حسب الجواز ، الموافق 1344هـ ، وعمري الآن ثلاث وسبعون سنة ، ولما بلغت من العمر عشر سنين تقريباً دخلت في مدرسة خاصة وتعلمت القراءة والكتابة .
انتسبت إلى مدرسة ( دار الحفاظ ) وبقيت فيها خمس سنوات حفظت خلالها القرآن غيباً نع التجويد.
دخلت مدرسة في حلب كانت تسمى ( الكلية الشرعية التجهيزية ) وهي الآن الثانوية الشرعية ، وهي تابعة للأوقاف الإسلامية ، وكانت المدرسة تدرس العلوم الشرعية والعصرية : فقد درست فيها التفسير ، والفقه الحنفي ، والنحو ، والصرف ، والتاريخ والحديث وعلومه ، وغيرها من العلوم الشرعية .
ومن العلوم العصرية درست فيها الفيزياء ، والكيمياء ، والرياضيات ، واللغة الفرنسية ، وغيرها من العلوم التي برع فيها المسلمون قديماً كعلم الجبر مثلاً .
أ – وأذكر أني درست علم التوحيد في كتاب اسمه ( الحصون الحميدية ) وهو يركز على توحيد الرب ، وإثبات أن لهذا العالم خالقاً ورباً ، وقد تبين لي فيما بعد أنه خطأ وقع فيه كثير من المسلمين والمؤلفين ، والجامعات ، والمدارس التي تدرس العلوم الشرعية ، لأن لمشركين الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم :
قال الله تعالى :
( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون )
" سورة الزخرف 87 "
بل الشيطان الذي ـ لعنه الله ـ كان يعترف بأن الله ربه :
قال تعالى يخبر عن قوله :
( قال ربي بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض )
" سورة الحجر 39 "
__________
(1) 1 من المؤسف أن يكون التاريخ الميلادي هو المنتشر حتى في البلاد الإسلامية إلا البلاد السعودية فإنها تعتمد التاريخ الهجري وهو الواجب لأنه تاريخ إسلامي، يرمز إلى الهجرة التي أعز الله بها الإسلام .(178/2)
ب- أما توحيد الإله الذي هو الأساس الذي ينجو به المسلم ، فلم أدرسه وكنت لا أعلم شيئاً عنه ، شأن بقية المدارس والجامعات الذين لا يدرسونه ، ولا يعلم عنه الطلاب شيئاً .
والله تعالى أمر الرسل جميعاً أن يدعو إليه ، وقد دعا إليه خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم قومه ، فامتنعوا واستكبروا كما أخبر الله عنهم :
( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون )
" سورة الصافات "
لأن العرب المشركين كانوا يعرفون معناها ، وأن من قالها لا يجوز له أن يدعو غير الله ، وباقي المسلمين يقولونها بألسنتهم، ويدعون غير الله ، فينقضونها .
ج- أما توحيد الصفات فكانت المدرسة تتأول آيات الصفات كبقية المدارس في أكثر بلاد المسلمين مع الأسف الشديد .
وأذكر أن المدرس كان يفسر قول الله تعالى :
( الرحمن على العرش استوى ) " سورة طه "
( استوى : بمعنى استولى ) ويستشهد بقول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
قال ابن الجوزي : هذا الشعر لا يعلم قائله ، وقال آخرون : نصراني ، وكلمة ( استوى ) ورد تفسيرها في البخاري عند قول الله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء ) . " سورة البقرة "
قال : مجاهد و أبو العالية : ( استوى : علا وارتفع ) .
" انظر البخاري كتاب التوحيد جـ 8/175 "
فهل يجوز لمسلم أن يترك قول التابعين في البخاري ، ويأخذ بقول شاعر مجهول ؟ وهذا التأويل الفاسد الذي ينكر علو الله على عرشه يخالف عقيدة الإمام أبي حنيفة ، ومالك وغيرهما، فقد قال الإمام أبو حنيفة الذي يدرسون مذهبه : ( من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر ، لأن الله يقول: " الرحمن على العرش استوى " . " سورة طه "
وعرشه فوق سبع سماوات ) . " انظر شرح العقيدة الطحاوية 322 "(178/3)
وقد حصلت على شهادة المدرسة عام 1948م ، ونلت الشهادة الثانوية العامة ، ونجحت في مسابقة بعثة الأزهر ، لكنني لم أذهب لأسباب صحية ، ودخلت دار المعلمين في حلب ، وعملت مدرساً لمدة 29 سنة تقريباً ، ثم تركت التدريس .
بعد استقالتي من التدريس جئت بعمرة إلى مكة عام 1399هـ ، وتعرفت على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وعرف أن عقيدتي سلفية ، فاعتمدني مدرساً في الحرم المكي وقت الحج ، ولما انتهى موسم الحج أرسلني إلى الأردن للدعوة إلى الله ، فذهبت ، ومكثت في مدينة " الرمثا " في جامع صلاح الدين ، فكنت إماماً وخطيباً ومدرساً للقرآن ، وكنت أزور المدارس الإعدادية وأوجه الطلاب إلى عقيدة التوحيد ، فكانوا يتقبلونها بقبول حسن .
وفي شهر رمضان من عام 1400هـ جئت بعمرة إلى مكة ، وبقيت إلى بعد الحج وتعرفت على طالب من طلاب دار الحديث الخيرية بمكة ، وطلب مني أن أكون مدرساً عندهم لأنهم في حاجة إلى مدرسين ، ولا سيما في مصطلح علم الحديث ، فاتصلت بمديرها فأبدى استعداده ، وطلب مني تعميداً من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، فكتب إلى المدير يطلب منه أن أكون مدرساً عندهم ، فدخلت المدرسة ، ودرست الطلاب التفسير ، والتوحيد ، والقرآن الكريم وغيرها من الدروس .
ومن فضل الله بدأت بإصدار رسائل صغيرة ، مختصرة ، وبسيطة، فكان لها قبول في جميع بلاد العالم ، وقد ترجم بعضها إلى الإنجليزية ، والفرنسية ، والبنغالية ، والأندنوسية ، والتركية ، والأوردية ، وغيرها من اللغات ، وسميتها :
( سلسلة التوجيهات الإسلامية ) وصلت إلى أكثر من عشرين رسالة طبع منها مئات الآلاف ، وأكثرها مجانية ، يجدها القاريء على ظهر غلاف الرسالة بأسمائها وأرقامها .
والله أسأل أن ينفع بها المسلمين ، ويجعلها خالصة لوجه الله تعالى.
كنت نقشبندياً(178/4)
كنت منذ الصغر أحضر الدروس في المساجد والحلقات للذكر وقد شاهدني شيخ الطريقة النقشبندية ، فأخذني إلى زاوية المسجد وبدأ يعطيني أوراد الطريقة النقشبندية ، ولكن لصغر سني لم استطع أن أقوم بما أمرني به من الأوراد إلا أنني أحضر مجالسهم مع أقاربي في الزوايا، وأسمع ما يقولون من القصائد والأناشيد ، وحينما يأتي ذكر اسم الشيخ كانوا يصيحون بصوت مرتفع ، فيزعجني هذا الصوت المفاجيء في الليل ، ويسبب لي الرعب والمرض ، وعندما تقدمت في السن بدأ قريب لي يأخذني إلى مسجد الحي لأحضر معه ما يسمونه ( الختم ) فكنا نجلس على شكل حلقة ، وأحد الشيوخ يوزع علينا الحصى ويقول : "الفاتحة الشريفة ، الإخلاص الشريف " فنقرأ بعدد الحصى سورة الفاتحة والإخلاص ، والاستغفار ، والصلاة على النبي بالصورة التي يحفظونها، وأذكر منها ( اللهم صلي على محمد عدد الدواب ) يقولونها جهراً آخر الذكر وبعدها يقول الشيخ الموكل بالختم : ( الرابطة الشريفة ) ويقصدون بها أن يتصوروا شيخهم في حال ذكرهم لأن الشيخ يربطهم بالله في زعمهم ، فكانوا يهمهمون ، ويصيحون ، ويعتريهم الخشوع حتى أن أحدهم شاهدته يقفز فوق رؤوس الحاضرين من مكان مرتفع من شدة وجده ، كأنه البهلوان فاستغرب هذا التصرف والصياح عند ذكر شيخ الطريقة ، ودخلت مرة على بيت قريبي هذا ، فسمعت نشيداً من جماعة الطريقة النقشبندية يقولون فيه :
دلوني بالله دلوني ……على شيخ النصر دلوني
اللي يبري العليل ……ويشفي المجنونا
وقفت على باب البيت ، ولم أدخل ، وقلت لصاحب البيت : هل الشيخ يبريء العليل ، ويشفي المجنون ؟ قال : نعم ، قلت له : الرسول عيسى بن مريم عليه السلام الذي أعطاه الله معجزة إحياء الموتى وشفاء الأكمه والأبرص يقول : بإذن الله ، فقال لي : وشيخنا يفعل بإذن الله ! قلت له : ولماذا لا تقولون بإذن الله ؟! علماً بأن الشافي هو الله وحده ، كما قال إبراهيم عليه السلام :(178/5)
( وإذا مرضت فهو يشفين ) " الشعراء 80 "
ملاحظة على الطريقة النقشبندية
تمتاز هذه الطريقة بأورادها السرية الخفية ، فليس فيها رقص ولا تصفيق مما عند غيرهم من الطرق المشهورة .
هذا الاجتماع على الذكر ، وتوزيع الحصى على كل واحد ، والموكل بالختم يأمرهم أن يقولوا كذا ، ووضعهم الحصى في كأس ماء ليشربوا منه ، ويستشفوا به ، هذا كله من البدع التي أنكرها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود حينما دخل المسجد ، فرأى جماعة يتحلقون ، وبأيديهم الحصى ، يقول أحدهم : سبحوا كذا ، افعلوا كذا عدد الحصى التي بأيديهم ، فقال لهم موبخاً : " ما هذا الذي أراكم تصنعون ؟ قالوا يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح قال : فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء ، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم ؟ هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر ، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد ، أو مفتحوا باب ضلالة " ؟!
" حسن رواه الدرامي والطبراني "
وهذه قضية منطقية سليمة ، فهؤلاء إما أن يكونوا أهدى من الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم وفقوا إلى عمل لم يصل إليه علم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكونوا في ضلالة ، والفرض الأول منتف حتماً ، لأنه لا أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يبق إلا الفرض الآخر .
الرابطة الشريفة : ويعنون بها أن يتصوروا صورة الشيخ أمامهم في الذكر ينظر إليهم ، ويراقبهم لذلك تراهم يخشعون ويصيحون بأصوات منكرة غير واضحة ، وهذه مرتبة الإحسان التي وردت في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) .(178/6)
ففي هذا الحديث يرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نعبد الله كأننا نراه , وإذا كنا لا نراه , فإنه يرانا , هذه مرتبة الإحسان التي هي لله وحده , قد أعطوها لشيخهم وهذا من الشرك الذي نهى الله عنه بقوله : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) . " سورة النساء 36 "
فالذكر عبادة لله لا يجوز أن نشرك به أحداً ، ولو كان من الملائكة أو الرسل والمشايخ دون رتبتهم ، فلا يجوز إشراكهم من باب أولى ! والحقيقة أن تصور الشيخ في الذكر موجود أيضاً في الطريقة الشاذلية ، وغيرها من الطرق الصوفية كما سيأتي .
4- هذا الصياح الشديد الذي يعتريهم عند ذكر الشيخ ، أو طلب المدد من غير الله كأهل البيت ، ورجال الله ، هو من المنكرات بل هو من الشرك المنهي عنه ، فإذا كان الصياح عند ذكر الله منكراً ، لأنه يتنافى مع قول الله تعالي :
( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) .
" سورة الأنفال آية 2 "
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( أيها الناس اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم ) . " متفق عليه "
فإن الصياح والخشوع والبكاء عند ذكر الأولياء أشد إنكاراً لأن هذا يدل على الاستبشار الذي حكاه الله عن المشركين حين قال :
( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون ) . " سورة الزمر 45 "
5- الغلو في شيخ الطريقة ، اعتقادهم أنه يشفي المرضى ، مع أن الله تعالى ذكر قول إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم .
( وإذا مرضت فهو يشفين ) " سورة الشعراء 80 "
( وقصة الغلام المؤمن الذي كان يدعو للمرض ، فيشفيهم الله ، حين قال له جليس الملك : لك هذا المال إن أنت شفيتني ! فقال له الغلام (أنالا أشفي أحداً إنما يشفي الله إن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك) .
" القصة رواها مسلم في صحيحة "(178/7)
الذكر عندهم باللفظ المفرد وهو ( الله ) آلاف المرات هي وردهم , مع أن هذا الذكر بلفظ ( الله ) لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته ولا التابعين , ولا عن الأئمة المجتهدين , بل من بدع الصوفية , لأن لفظ ( الله ) مبتدأ , ولم يأت بعده خبره, فأصبح الكلام ناقصاً , ولو أن إنساناً نادى اسم (عمر) عدة مرات , فنقول له : ماذا تريد من عمر ؟ فلم يرد علينا إلا باسم (عمر , عمر) لقلنا إنه معتوه , لا يدري ماذا يقول ؟ ويستشهد الصوفية على الذكر المفرد بقول الله تعالى : ( قل الله ) ولو أنهم قرأوا الكلام الذي قبله لعرفوا أن المراد قل الله أنزل الكتاب , ونص الآية : (( وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ، قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى... قل الله )) . ……… " سورة الأنعام 91 "
[ أي قل الله أنزل الكتاب ] .
كيف انتقلت إلى الطريقة الشاذلية
تعرفت على شيخ من الطريقة الشاذلية حسن الصورة والأخلاق وزارني في بيتي , وزرته في بيته , فأعجبني لين كلامه , وحديثه, وتواضعه , وكرمه , فطلبت منه أن يعطيني ورد الطريقة الشاذلية , فأعطاني أورادها الخاصة بها وكانت عنده زاوية يأوي إليها بعض الشباب , ويقيمون فيها الذكر بعد صلاة الجمعة .
زرته مرة في بيته ، فرأيت صورة شيوخ كثيرين للطريقة الشاذلية معلقة على الجدار فذكرته بالنهي الوارد عن تعليق الصور ، فلم يستجب، مع أن الحديث واضح ـ ولا يخفى عليه ـ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائمة ) . " متفق عليه "
( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك ) . " رواه الترمذي وقال حسن صحيح "(178/8)
وبعد سنة تقريباً أحببت زيارة الشيخ ، وأنا في طريقي إلى أداء العمرة ، فدعاني مع ولدي ورفيقي إلى طعام العشاء وبعد الانتهاء قال لي : هل تسمع شيئاً من الأناشيد الدينية من هؤلاء الشباب ؟ فقلت نعم ، فأمر الشباب الذين حوله ـ وكانت اللحى الجميلة تعلو وجوههم ـ أن ينشدوا فبدأوا ينشدون بصوت واحد نشيداً خلاصته : ( من كان يعبد الله طمعاً في جنته ، أو خوفاً من ناره ، فقد عبد الوثن ) فقلت لهم : ذكر الله آية في القرآن يمدح فيها الأنبياء قائلا : (( أنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين )) . " سورة الأنبياء 90 "
فقال لي الشيخ : هذه القصيدة التي ينشدونها هي : (لسيدي عبدالغني النابلسي ) ! فقلت له : وهل كلام الشيخ مقدم على كلام الله ، وهو معارض له ؟! فقال لي أحد المنشدين : سيدنا علي رضي الله يقول : "الذي يعبد الله طمعاً في جنته ، عبادة التجار " فقلت له : في أي كتاب وجدت هذا القول لسيدنا علي ، وهل هو صحيح ؟ فسكت ، فقلت له : هل يعقل أن يخالف علي رضي الله عنه القرآن وهو من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن المبشرين بالجنة ؟ ثم التفت رفيقي قائلاً لهم :
ذكر الله تعالى عن وصف المؤمنين يمدحهم قائلاً :
(( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ))
" سورة السجدة 16 "
فلم يقتنعوا ، وتركت الجدال معهم ، وانصرفت إلى المسجد للصلاة فلحقني منم شاب ، وقال لي : نحن معكم ، والحق معكم ، ولكن لا نستطيع أن نتكلم ، وأن نرد على الشيخ ! قلت له : لماذا لا تتكلمون الحق ؟ قال : سوف يخرجنا من السكن إن تكلمنا : وهذا مبدأ صوفي عام فإن شيوخ التصوف أوصوا تلاميذهم ألا يعترضوا على الشيخ مهما غلط وقالوا لهم عبارتهم المشهورة : " ما أفلح مريد قال لشيخه لم ؟ " متجاهلين قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) . " حسن أخرجه أحمد والترمذي "(178/9)
وقول مالك رضي الله عنه : " كل واحد يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم " .
مجلس الصلاة على النبي
ذهبت مع بعض المشايخ إلى أحد المساجد لحضور هذا المجلس فدخلنا حلقة الذكر ، وهم يرقصون ، ويمسكون بأيدي بعضهم ، ويتمايلون ، ويرتفعون ، وينخفضون ، ويقولون : الله ، الله ... وكل واحد من الحلقة يخرج إلى الوسط ، ويشير بيديه إلى الحاضرين لينشطوا في الحركة والتمايل .... حتى وصل الدور إلىّ لأخرج ، وأشار إليّ رئيسهم بالخروج ، لأزيد من حركتهم ورقصهم ، فاعتذر أحد المشايخ الذين معي وقال له : أتركه إنه ضعيف ، لأنه يعرف أني لا أحب مثل هذا العمل ، ورآني ساكناً لا أتحرك ، فتركني رئيسهم وأعفاني من الخروج إلى وسط الحلقة ، وكنت أسمع قصائد من أصوات جميلة ، لكنها لا تخلو من طلب المدد والعون من غير الله ! ولاحظت أن النساء يجلسن على مكان مرتفع ويتفرجن على الرجال وكانت فتاة منهن متبرجة قد ظهر شعرها وساقها ، ويداها ورقبتها ، فأنكرت ذلك في قلبي ، وقلت لرئيس المجلس في آخر الجلسة : إن فتاة فوقنا سافرة ، لو أنك ذكرتها مع النساء بالحجاب في المسجد لكان عملاً طيباً فقال لي : نحن لا نذكر النساء ، ولا نقول لهن شيئاً ! قلت له : لماذا ؟ قال لي : إذا نصحناهن فسيمتنعن عن الحضور للذكر ! فقلت في نفسي لا حول ولا قوة إلا بالله ، ما هذا الذكر الذي تظهر فيه النساء، ولا ينصحهن أحد ؟ وهل يرضى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا وهو القائل:
( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ). " رواه مسلم "
الطريقة القادرية(178/10)
دعاني أحد شيوخ الطريقة مع شيخي الذي درست عليه النحو والتفسير ، فذهبنا إليه في بيته ، وبعد تناول طعام العشاء وقف الحاضرون يذكرون ويقفزون ، ويتمايلون ، ويقولون الله ، الله ... وكنت واقفاً معهم لا أتحرك ، ثم جلست على المقعد حتى انتهى الشوط الأول ، ورأيت العرق يسيل منهم ، فجاءوا بمنشف ليمسحوا العرق عنهم ،وبما أن الوقت قارب نصف الله ، فتركتهم وذهبت إلى بيتي ، وفي اليوم الثاني قابلت أحد الجالسين معم ، وكان مدرساً معي ، وقلت له : إلى متى بقيتم على حالكم ؟ فقال لي : إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل وذهبنا إلى بيوتنا للنوم ! قلت له : وصلاة الصبح مت صليتموها ؟ فقال لي : لم نصلها في وقتها ، وفاتتنا .
قلت في نفسي ما شاء الله على الذكر الذي يضيع صلاة الفجر ، وتذكرت قول عائشة تصف الرسول صلى الله عليه وسلم :
( كان ينام أول الليل ، ويحيي آخره ) . " متفق عليه "
وهؤلاء الصوفيون بالعكس يحيون أول الليل بالبدع والرقص ، وينامون آخره ليضيعوا صلاة الفجر ، وقد قال الله تعالى :
(( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون )) .
[ أي يؤخرونها عن وقتها ] " سورة الماعون 4-5 "
وقال صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).
" رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع "
التصفيق في الذكر
كنت في مسجد ، قد أقيمت فيه حلقة ذكر بعد صلاة الجمعة فجلست انظر إليهم ، ولكي يشتد بهم الوجد والطرب جعل أحدهم يصفق بيديه ، فأشرت إليه أن هذا حرام لا يجوز ، فلم يترك التصفيق ، ولما انتهى نصحته فلم يقبل ، وقابلته بعد مدة لأذكره بأن هذا التصفيق من عمل المشركين حين قال الله عنهم :
(( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية )). "سورة الأنفال 35 "
[ المكاء : الصفير ، التصدية : التصفيق ]
فقال لي ولكن الشيخ الفلاني أباحه ! فقلت في نفسي : هؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى :(178/11)
(( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم)). " سورة التوبة 31 "
ولما سمع عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه الآية ، وكان نصرانياً قبل أن يسلم ، فقال يا رسول الله : إنا لسنا نعبدهم ! فقال له صلى الله عليه وسلم : ( أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ قال بلى ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فتلك عبادتهم ) . " حسن أخرجه الترمذي والبيهقي "
وحضرت ذكر آخر في مسجد كان المنشد يصفق أثناء الذكر ، فقلت له بعد الانتهاء : إن صوتك جميل ولكن هذا التصفيق حرام ، فقال لي : (نغم الغناء لا يتم إلا بالتصفيق ) وقد رآني شيخ أكبر منك فلم ينكر عليّ! ويلاحظ من حضر ذكرهم أنهم يلحدون في أسماء الله فيقولون : (الله – آه – هي – هو – ياهو ) وهذا التبديل والتحريف حرام يحاسبون عليه يوم القيامة .
الضرب بالشيش ( بسيخ الحديد )
هناك زاوية للصوفية قريبة من بيتنا ، ذهبت إليها لأطلع على ذكرهم ،وبعد العشاء حضر المنشدون ،وكانوا يحلقون اللحى ، وجعلوا قولون بصوت واحد :
هات كاس الراح……واسقنا الأقداح(178/12)
يرددون هذا البيت ، ويتمايلون ، ويعيد البيت رئيسهم بمفرده ثم يتبعه الآخرون أشبه بجماعة المغنين والمطربين ! ولا يخجلون من ذكر الخمر في المسجد الذي جُعل للصلاة والقرآن , لأن الراح معناها هنا الخمر , والخمر حرمها الله في كتابه , والرسول في أحاديثه . ثم بدأت الدفوف تضرب بشدة , وتقدم أحدهم وكان كبير السن فخلع قميصه , وصاح بأعلى صوته : يا جداه ! ويقصد به الاستغاثة بأحد أجداده الأموات من أبناء الطريقة الرفاعية , لأنهم مشهورون بهذا العمل ! ثم أخذ سيخاً من حديد , وأدخله في جلد خاصرته , وهو يصيح يا جداه , ثم جاء رجل يرتدي اللباس العسكري , حليق اللحية , فأخذ كأساً من زجاج وجعل يقضمه بأسنانه ! فقلت في نفسي : إن كان هذا الجندي صادقاً فلماذا لم يذهب إلى اليهود ويحاربهم بدلاً من أن يكسر الكأس بأسنانه , وكان ذلك عام 1967م حينما احتل اليهود جزءاً كبيراً من الأرض العربية واندحرت الجيوش العربية , وخسرت الحرب , وكان هذا الجندي من بينهم لم يفعل شيئاً . مع أنه كان خليق اللحية .
إن بعض الناس يظنون أن هذا العمل كرامة ، ولم يعلموا أن هذا العمل من الشياطين المجتمعين حولهم يساعدونهم على ضلالهم ، لأنهم أعرضوا عن ذكر الله وأشركوا بالله حيث استغاثوا بأجدادهم، مصداقاً لقوله تعالى :
(( ومن يعش عن ذكر الله نقيض له شيطاناً فهو له قرين ، وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون)). "سورة الزخرف 36-37"
والله تعالى يسخر لهم الشياطين ليزيدهم ضلالاً ، لقول الله تعالى :
((قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً)). " سورة مريم 75 "
ولا غرابة من مساعدة الشياطين لهم وقدرتهم على ذلك ، فقد طلب سليمان عليه السلام من جنوده أن يأتوا بعرش الملكة بلقيس :
(( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك )) .
" سورة النمل 39 "
والذين ذهبوا إلى الهند كالرحالة ابن بطوطة وغيره شاهدوا من المجوس أكثر من هذا !(178/13)
فالمسألة ليست مسألة كرامة ولا ولاية ، بل ضرب الشيش وغيره من عمل الشياطين المجتمعين حول الغناء والمعازف التي هي من مزامير الشيطان ، وأغلب الذين يقومون بهذه الأعمال يرتكبون المعاصي ، بل يشركون بالله جهراً فكيف يكونون من الأولياء وأصحاب الكرامات ؟ والله تعالى يقول :
آمنوا و(( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنزن الذين كانوا يتقون )) . " سورة يونس 62 "
فالولي هو المؤمن التقي الذي يبتعد عن الشرك والمعاصي ، ويستعين بالله وحده عند الشدائد والرخاء ، وقد تأتيه الكرامة عفواً وبدون طلب وشهرة أمام الناس .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن أفعال أمثال هؤلاء وغيرهم فقال : ولا تحصل لهم هذه الأفعال عند قراءة القرآن والصلاة ، لأن هذه عبادات شرعية إيمانية ، محمدية ، تطرد الشياطين ... وتلك عبادات بدعية شركية ، شيطانية ، فلسفية ، تستجلب الشياطين .
والغريب أن واحداً ممن تأثروا بالفكر الصوفي هو (سعيد حوي) قد انطلت عليه هذه الأباطيل ، فراح يكتب عنها ، ويدعو إلى دراسة الطريقة الرفاعية ، ويروي حادثة سمع بها يقول عنها : حدثني رجل نصراني أن رجلا ضربه في بطنه ، فخرج السيخ من ظهره ... ! ثم يقول : وقد يكون صاحب هذه الكرامة فاسقاً ، فتكون لجده !! " انظر كتاب تربيتنا الروحية 74 "
فالكتاب يأخذ الحادثة عن رجل نصراني ، وقد يكون كاذباً ، وهل تكون الكرامة لفاسق ؟ ومتى كانت بالوراثة ؟ الكرامة تكون للأولياء المتقين ، ولا تكون بالوراثة ، ولا تكون لفاسق ، وإذا حصل شيء خارق للعادة لفاسق ، فلا يسمى كرامة ، كما زعم "سعيد حوي" بل يكون استدراجاً لهم ، ليزيدهم في الضلال ، وسبق أن ذكرت أن المجوس يقومون بأعمال أشد من ضرب السيخ !(178/14)
ثم إن رجلا سلفياً كلف أحد هؤلاء المشعوذين الذين يضربون بالشيش أنفسهم ، أن يدخل دبوساً في عينه ، فامتنع وخاف ، مما يدل على أنه يدخل الشيش في جلده بسيخ خاص ، والذين كانوا يتعاطون مثل هذه الأعمال ثم تابوا تحدثوا عن الدم الذي كان يسيل منهم ، ويغسلونه بعد ذلك .
وحدثني مسلم صادق رأى بعينه جندياً يضرب نفسه بسيخ حديد له شكل خاص ، ورأى الدم يسيل من مكان الشيخ ، ولما أخذوه إلى قائده العسكري قال له : نحن نضربك على رجليك بالبارودة فإن كنت صادقاُ فاصبر وتحمل ، ولما نفذ الضرب به بدأ يبكي ويصيح ويولول ، ويستغيث ، ولم يتحمل الضربات وبدأ الجنود يضحكون عليه ويهزأون به !!
*********
الخلاصة
إن الضرب بالشيش لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ، ولا التابعون ، ولا الأئمة المجتهدون ولو كان فيه خيراً لسبقونا إليه ،ولكنه من فعل المبتدعين المتأخرين المستعينين بالشياطين ، المشركين برب العالمين وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه البدع فقال :
( إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ) . " صحيح رواه النسائي "
وعمل هؤلاء المبتدعة مردود عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم :
( من عملا عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) . " رواه مسلم "
[ أي مردود عليه ] .
وهؤلاء المبتدعة يستعينون بالأموات والشياطين ، وهو من الشرك الذي حذر الله منه بقوله : (( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار )) . " سورة المائدة 72 "
قال صلى الله عليه وسلم : ( من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار ) .
[ الند : المثل والشريك ] " رواه البخاري "
وكل من اعتقد بهم أو ناصرهم ، فهو منهم .
الطريقة المولوية(178/15)
كانت لهم زاوية خاصة في بلدي تسمى (المولوية) وهي مسجد كبير تقام فيه الصلوات ، وفيه عدد كبير من الأموات ، لها سياج قد بني فوق القبور من الأحجار المزخرفة المرتفعة ، والتي كتب عليها آيات من القرآن ، واسم صاحب القبر ، وأبيات من الشعر ، كان هؤلاء الجماعة يقيمون " حضرة " كل جمعة أو في المناسبات ويلبسون على رؤوسهم (الكلاخ) طربوش طويل من صوف رمادي ويستعملون الناي ، وبعض الآلات الموسيقية عند الذكر يسمع من بعيد ، وشاهدت أحدهم يقف وسط الحلقة ، وهو يدور حول نفسه مراراً ، ولا يتحرك من مكانه ، ويحنون رؤوسهم عند طلب المدد من شيخهم جلال الدين الرومي وغيره .
والغريب أن المساجد في كثير من بلاد المسلمين ـ وهذا المسجد منها ـ يدفنون الأموات فيها متشبهين باليهود والنصارى .
حيث قال صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ) . " رواه البخاري "
والصلاة إلى القبور منهي عنها لقوله صلى الله عليه وسلم :
( لا تجلسوا إلى القبور ، ولا تصلوا إليها ) " رواه مسلم وأحمد "
أما البناء على القبور كالشواهد ، والقباب والجدران ، والكتابة عليها ، وتدهينها فاسمع نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك :
( نهى أن يجصص القبر ، وأن يبنى عليه ) . " أخرجه مسلم "
وفي رواية : ( نهى أن يكتب على القبر شيء )
" رواه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي "
[ يجصص : يطلى بالجص والدهان ].
أما استعمال المعازف في المساجد والذكر فهو من بدع الصوفية المتأخرين ، وقد حرم الرسول صلى الله عليه وسلم الموسيقى بقوله:
( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر ، والحرير ، والخمر والمعازف ) . " رواه البخاري تعليقاً وأبوداود وصححه الألباني وغيره "
ويستثنى من المعازف الدف يوم العيد والنكاح للنساء .(178/16)
وكان هؤلاء يتنقلون في المساجد لإقامة ما يسمى ( النوبة ) وهي الذكر مع المعازف , وكانوا يسهرون في الليل ويسمع أهل الحي أصوات المعازف المنكرة !
كنت أعرف واحداً منهم كان يُلبس ولده ( البرنيطة ) التي يلبسها الكفار , فأخذتها سراً ومزقتها , فانزعج هذا الصوفي من تمزيق البرنيطة وعاتبني غاضباً , فقلت له : أخذتني الغيرة على ولدك الذي يتزيا بزي الكفار واعتذرت له , وكان يعلق لوحة في مكتبه كتب عليها : ( يا حضرة مولانا جلال الدين ) . فقلت له : كيف تنادي هذا الشيخ الذي لا يسمع ولا يستجيب ؟ فسكت . ( هذه خلاصة عن الطريقة المولوية ) .
درس عجيب من شيخ صوفي
ذهبت مرة مع أحد الشيوخ إلى درس في أحد المساجد ، وقد اجتمع إليه عدد من المدرسين والمشايخ ، وكانوا يقرأون في كتاب اسمه : (الحكم لابن عجيبة) وكان الدرس عن تربية النفس عند الصوفية ، وقرأ أحدهم في الكتاب المذكور هذه القصة العجيبة :
ـ دخل رجل صوفي الحمام للاغتسال ، ولما خرج من الحمام سرق المنشفة التي يعطيها صاحب الحمام للمغتسل ، وأبقى طرفها مكشوفاً حتى يراه الناس ويوبخونه ويسبونه ، لأجل أن يذل نقسه ويربيها على الطريقة الصوفية ،وبالفعل فقد خرج الصوفي من الحمام فلحقه صاحب الحمام ، ورأى طرف المنشفة تحت ثوبه ، فوبخه ، وأساء إليه ، والناس يستمعون إليه ويرون هذا الشيخ الصوفي الذي سرق المنشفة من الحمام ، وقد انهالوا عليه بالسب والشتم وغير ذلك مما يفعله الناس مع السارق ، وقد أخذوا صورة سيئة عن هذا الرجل الصوفي !!(178/17)
ـ رجل صوفي آخر أراد أن يربي نفسه ويذلها ، فحمل كيساً في رقبته وملأه جوزاً ، وخرج إلى السوق ، وكان كلما مر صبي قال له : أبصق على وجهي حتى أعطيك جوزة : (فاكهة يحبها الأطفال) فيبصق الصبي على وجه الشيخ فيعطيه جوزة ، وهكذا كان البصاق من أولاد الشوارع يتوارد على وجه الشيخ طمعاً في أخذ الجوزة ، والشيخ الصوفي مسرور ، وعند سماعي لهاتين القصتين كدت أتميز غيطاً ، وضاق صدري من هذه التربية الفاسدة التي يتبرأ منها الإسلام الذي كرم الإنسان بقوله تعالى :
(( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر... )). " سورة الإسراء 70 "
فقلت للشيخ الذي معي بعد خروجنا : هذه هي الطريقة الصوفية في تربية النفس ! وهل تكون تربيتها في السرقة المحرمة التي حكم الشرع بقطع يد السارق ؟ أم هل تكون بالمهانة والصغار وارتكاب أخس الأعمال ؟ إن الإسلام يأبى هذا العمل ، ويأباه العقل السليم الذي كرم الله به الإنسان ، وهل هذه من الحكم التي سمى الشيخ كتابه : ( الحكم لابن عجيبة ) !!
ومن الجدير بالذكر أن هذا الشيخ الذي يترأس الدرس له أتباع وتلاميذ كثيرون ، فمرة أعلن الشيخ أنه يريد الحج فذهب التلاميذ للاكتتاب عنده وتسجيل أسمائهم ليرافقوه إلى الحج ، حتى النساء بدأن الاكتتاب وربما احتجن إلى بيع الحلي من أجل ذلك ، حتى بلغ عدد الراغبين كثيراً ، واجتمعت الأموال لديه كثيرة جداً ، ثم أعلن عدم استطاعته الحج ، ولم يرد الأموال لأصحابها ، بل أكلها بالحرام ، وصدق عليه قول الله تعالى :
(( يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلوا أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله )) . " سورة التوبة 34 "
وسمعت أحد أتباعه وهو من الأغنياء الذين عاملوا الشيخ يقول عن الشيخ : أكبر دجال وأكبر محتال !!
الذكر في المساجد عند الصوفية(178/18)
حضرت مرة ذكراً للصوفية في مسجد الحي الذي أسكن فيه وجاء رجل منهم حسن الصوت لينشد لهم الأناشيد والقصائد أثناء الذكر في حلقة اجتمع فيها أهل الحي ، وكان مما سمعته من هذا الصوفي قصيدة أذكر منها قوله : يا رجال الغيب ساعدونا وأنقذونا أنصرونا ... إلى آخر هذه الاستغاثات ، وطلب الحاجات من الأموات الذين لا يسمعون ، ولو سمعوا ما استجابوا لهم ، ولا يملكون النفع لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ، وقد أشار القرآن إلى هؤلاء فقال :
(( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ، ولو سمعوا ما استجابوا لكم ، ويوم القيامة يكفرون بشرككم ، ولا ينبئك مثل خبير )) . " سورة فاطر 13-14 "
وبعد الخروج من الذكر وانتهائه قلت للشيخ إمام المسجد الذي شارك فيه : إن هذا الذكر لا يستحق أن يسمى ذكراً ، لأنني لم أسمع فيه ذكر الله ، ولا طلباً من الله ، ولا دعاء ، وإنما سمعت نداء ودعاء لرجال الغيب ، ومن هم رجال الغيب الذين يستطيعون نصرنا وإنقاذنا ومساعدتنا . فسكت الشيخ ، وأكبر رد على هؤلاء قوله تعالى :
((والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون)).
" سورة الأعراف 197 "(178/19)
ذهبت مرة أخرى إلى مسجد آخر فيه عدد كبير من المصلين وفي المسجد شيخ صوفي له أتباع ، وبعد الصلاة قاموا إلى الذكر فبدأوا ينطون ويرقصون في الذكر وهم يصيحون : الله ـ آه ـ هي ، واقترب المنشد من الشيخ ، وبدأ يرقص أمامه ويتمايل كأنه مغنية أو راقصة ، وهو يتغزل بشيخه ، والشيخ ينظر إليه مبتسماً راضياً وكنت أزور هذا الشيخ أحياناً مع شيخي وهو من الصوفية أيضاً ، ومرة ذهبنا إليه بعد رجوعه من الحج ، وجلسنا نستمع إليه ، فبدأ يتحدث عن ركوبه في سيارة مريحة عريضة من نوع (أمريكي) وذلك حين تنقله من مكة إلى المدينة ، فقلت في نفسي : ما الفائدة من هذا الكلام ، وكان الأولى أن يتحدث عن فوائد الحج الاجتماعية والروحية وغيرها تحقيقاً لقول الله تعالى :
(( لشهدوا منافع لهم )) . " سورة الحج 28 "
كيف يعامل الصوفية الناس
1- اشتريت من أحد تلاميذ الشيخ الصوفي المذكور حانوتاً وشرطت عليه أن يكفل المستأجر إذا تأخر عن دفع الإيجار فرضي بذلك ، وبعد فترة امتنع المستأجر عن الدفع ، فراجعت المالك السابق الذي اشتريت منه ، فرفض أن يدفع شيئاً بحجة أنه ليس لديه ما يدفعه ، وبعد أيام قليلة يذهب هذا الصوفي مع شيخه إلى الحج ، فعجبت له ، وعرفت أنه كاذب. ثم شكوت أمري لبعض تلامذة الشيخ المقربين ما فعل هذا الرجل الذي غشني وباعني الحانوت من مستأجر لا يدفع الإيجار فلم يفعل شيئاً وقال لي : ماذا نفعل معه ؟ ولو كان منصفاً لاستدعاه وطلب منه أن يؤدي حق الناس .
وكنت أتردد على مكان هذا الكفيل ، وعنده معمل للنسيج ، فرآني أحد تلامذة الشيخ الذي كان ينشد القصائد ويتمايل أمام الشيخ راقصاً ، فعرف أني أريد زميله ، وطلبت منه أن يدلني عليه ، وذكرت له عمله ـ فبدلاً من أن ينصفني انهال عليّ بالكلام الفاحش والبذيء ، فتركته فقلت في نفسي هذه أخلاق الصوفية وقد حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله :(178/20)
( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ) " متفق عليه "
كيف اهتديت إلى التوحيد ؟
كنت أقرأ على الشيخ الذي درست عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما : وهو قوله صلى الله عليه وسلم :
(إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) . "رواه الترمذي وقال حسن صحيح" فأعجبني شرح النووي حين قال : " ثم إن كانت الحاجة التي يسألها ، لم تجر العادة (1) بجريانها على أيدي خلقه ، كطلب الهداية والعلم .. وشفاء المرضى وحصول العافية سأل ربه ذلك ، أما سؤال الخلق والاعتماد عليهم فمذموم " .
فقلت للشيخ هذا الحديث وشرحه يفيد عدم جواز الاستعانة بغير الله ، فقال لي : بل تجوز !! قلت : وما دليلك ؟ فغضب الشيخ وصاح قائلاً : إن عمتي تقول يا شيخ سعد ـ وهو مدفون في مسجد تستعين به ـ فأقول لها يا عمتي وهل ينفعك الشيخ سعد ؟ فتقول : أدعوه فيتدخل على الله فيشفيني !!
قلت له : إنك رجل عالم قضيت عمرك في قراءة الكتب ، ثم تأخذ عقيدتك من عمتك الجاهلة ! فقال لي عندك أفكار وهابية ، أنت تذهب للعمرة وتأتي بكتب وهابية !!!
__________
(1) 2 لفظ العادة لم يرد في حق الله ، والذي ورد ( سنة الله ) " والآية من الأحزاب "(178/21)
وكنت لا أعرف شيئاً عن الوهابية إلا ما أسمعه من المشايخ : فيقولون عنهم: الوهابيون مخالفون للناس لا يؤمنون بالأولياء وكراماتهم, ولا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم , وغيرها من الاتهامات الكاذبة! فقلت في نفسي إن كانت الوهابية تؤمن بالاستعانة بالله وحده , وأن الشافي هو الله وحده , فيجب أن أتعرف عليها , سألت عن جماعتها فقالوا لهم مكان يجتمعون فيه مساء الخميس , لإلقاء دروس في التفسير والحديث والفقه , فذهبت إليهم مع أولادي وبعض الشباب المثقف , فدخلنا غرفة كبيرة , وجلسنا ننتظر الدرس , وبعد فترة دخل علينا شيخ كبير السن , فسلم علينا وصافحنا جميعاً مبتدئاً بيمينه ، ثم جلس على مقعد ، ولم يقم له أحد ، فقلت في نفسي هذا الشيخ متواضع لا يحب القيام.
بدأ الشيخ الدرس بقوله : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، إلى آخر الخطبة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتتح بها خطبه ودروسه ، ثم بدأ يتكلم باللغة العربية ، ويورد الأحاديث ، ويبين صحتها وراويها ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه ، وأخيراً وجهت له الأسئلة المكتوبة على الأوراق ، فكان يجيب عليها بالدليل من القرآن والسنة ، ويناقشه بعض الحاضرين فلا يرد سائلاً ، وقد قال في آخر درسه : الحمد لله على أننا مسلمون وسلفيون : ( وهم الذين يتبعون السلف الصالح : الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته )، وبعض الناس يقولون إننا وهابيون ، فذا تنابز بالألقاب ، وقد نهانا الله عن هذا بقوله : (( ولا تنابزوا بالألقاب )) " سورة الحجرات 11 "
وقديماً اتهموا الإمام الشافعي بالرفض فرد عليهم قائلاً :
إن كان رفضاً حب آل محمد…فليشهد الثقلان أني رافضي
ولما انتهى خرجنا مع بعض الشباب معجبين بعلمه وتواضعه وسمعت أحدهم يقول : هذا هو الشيخ الحقيقي !!!
معنى وهابي(178/22)
أطلق أعداء التوحيد على الموحد كلمة ( وهابي ) نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب ، ولو صدقوا لقالوا ( محمدي ) نسبة إلى اسمه ( محمد ) ، وشاء الله أن تكون " وهابي " نسبة إلى ( الوهاب ) وهو اسم من أسماء الله الحسنى . فإذا كان الصوفي ينتسب إلى جماعة يلبسون الصوف ، فإن الوهابي ينتسب إلى الوهاب ، وهو الله الذي وهب له التوحيد ، ومكنه من الدعوة إليه بتوفيق الله .
مناقشة مع شيخ صوفي
لما علم الشيخ الذي كنت أدرس عليه أنني ذهبت إلى السلفيين واستمعت إلى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني غضب غضباً شديداً لأنه يخشى أن أتركه وأتحول عنه ، وبعد فترة من الزمن جاءنا شخص من جيران المسجد ليحضر الدرس معنا في المسجد بعد المغرب ، وبدأ يقص علينا أنه سمع من درس أحد المشايخ الصوفي يقول : إن تلميذاً له تعسّر على زوجته المخاض والولادة ، فاستغاث بشيخ صغير ( ويقصد نفسه ) فولدت ، وذهب العسر عنها ، فقال له الشيخ الذي ندرس عليه : وماذا فيها ؟ فقال له : هذا شرك ، فقال له الشيخ : أسكت ، أنت لا تعرف الشرك ، أنت رجل حداد ، ونحن المشايخ عندنا علم ، ونعرف أكثر منك، ثم نهض الشيخ إلى غرفته، وجاء بكتاب " الأذكار للنووي "وبدأ يقرأ قصة ابن عمر أنه كان إذا خدرت رجله قال : يا محمد !! فهل أشرك ؟ فقال له الرجل : هذا ضعيف " أي غير صحيح " فصاح الشيخ به غاضباً : أنت لا تعرف الصحيح من الضعيف ، ونحن العلماء نعرف ذلك ، ثم التفت إليّ وقال لي : إذا حضر هذا الرجل مرة أخرى سأقتله ! وخرجنا من المسجد ، وطلب الرجل مني أن أرسل ولدي معه ليأتي بكتاب (الأذكار) بتحقيق الشيخ عبد القادر الأرناؤوط ، فجاء به وأعطاني إياه ، وإذا بالقصة يقول عنا المحقق ( ضعيف ) وفي اليوم الثاني أعطاه ولدي الكتاب فوجد أن القصة غير صحيحة ، فلم يعترف بخطئه وقال : هذه من فضائل الأعمال يؤخذ فيه بالحديث الضعيف!! أقول : إن هذه ليست من فضائل الأعمال كما يزعم الشيخ ، بل هي من(178/23)
العقيدة التي لا يحوز الأخذ فيها بالحديث الضعيف علماً بأن الإمام مسلم وغيره يرون عدم الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال . والقائلون من المتأخرين بجواز الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بشروط عديدة قلّ أن تتوفر ، وهذه القصة ليست حديثاً ، وليست من فضائل الأعمال بل هي من أساس العقيدة كما أسلفت ، وفي اليوم الثاني جئنا إلى الدرس ، وبعد تسليم الشيخ من الصلاة ، خرج من المسجد ، ولم يجلس كعادته إلى الدرس .
حاول الشيخ أن يقنعني بأن الاستعانة بغير الله جائزة كالتوسل ، فبدأ يعطيني بعض الكتب ، ومنها كتاب " محق التقول في مسألة التوسل" لمؤلفه ( زاهد الكوثري ) ، فقرأت فيه ، فإذا به يجيز الاستعانة بغير الله ، ويأتي إلى حديث : " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله " فقال عنه الكوثري : طرقه واهية ( أي ضعيف ) لذلك لم يأخذ به علماً بأن الحديث ذكره الإمام النووي في كتابه الأربعين النووية ، ورقمه التاسع عشر ، وقد روى الحديث الإمام الترمذي وقال عنه حسن صحيح واعتمده النووي وغيره من العلماء، فعجبت من الكوثري كيف رد الحديث ، لأنه خالف عقيدته، فازددت بغضاً فيه وفي عقيدته ، وازددت حباً في محبة السلفيين وعقيدتهم التي تمنع الاستعانة بغير الله للحديث المتقدم ولقول الله تعالى :
(( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين )) . " سورة يونس 106 "
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ).
" رواه الترمذي وقال حسن صحيح "
وعندما رآني شيخي لم أقتنع بالكتب التي أعطاها لي ، هجرني وأشاع عني ( وهابي احذروه ) فقلت في نفسي لقد قالوا عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : (ساحر أو مجنون ) وقالوا عن الإمام الشافعي رافضي فرد عليهم قائلاً
إن كان رفضاً حب آل محمد …فليشهد الثقلان أني رافض
واتهموا أحد الموحدين بالتوهب فرد عليهم قائلاً :(178/24)
إن كان تابع أحمد متوهباً……فأنا المقر بأنني وهابي
أنفي الشريك عن الإله فليس لي…رب سوى المتفرد الوهاب
لا قبة ترجى ، ولا وثن ولا……قبر له سبب من الأسباب
وأنني أحمد الله الذي هداني للتوحيد وعقيدة السلف الصالح ، وبدأت أدعو إلى التوحيد وأنشره بين الناس أسوة بسيد البشر الذي بدأ دعوته في مكة بالتوحيد ثلاثة عشر عاماً ، وتحمل مع أصحابه الأذى فصبر ، حتى انشر التوحيد ، وتأسست دولة التوحيد بفضل الله .
موقف المشايخ من التوحيد
أصدرت نشرة مكونة من أربع صفحات عنوانها : ( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، إياك نعبد وإياك نستعين ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ) وشرحت معناها ، واستشهدت بقول النووي في شرح الحديث ، وقول غيره من العلماء الداعين إلى التوحيد ، ولئلا يقول المشايخ عن النشرة إنها وهابية ذكرت قول الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه : " الفتح الرباني "
( سلوا الله ، ولا تسألوا غيره ، استعينوا بالله ولا تستعينوا بغيره ، ويحك بأي وجه تلقاه غداً ، وأنت تنازعه في الدنيا ، معرض عنه، مقبل على خلقه مشرك به ، تنزل حوائجك بهم ، وتتكل بالمهمات عليهم ! ارفعوا الوسائط بينكم وبين الله ، فإن وقوفكم معها هوس ، لا ملك ولا سلطان ، ولا غنى ، ولا عز إلا للحق عز وجل ، كن مع الحق ، بلا خلق ).
[ أي كن مع الحق بدعائه بلا واسطة من خلقه ].(178/25)
هذه خلاصة النشرة المكونة من أربع صفحات صغيرة ، وقد سمحت بطبعها وزارة الإعلام ، وطبعت منها ثلاثين ألف نسخة ، وقد وزع ولدي منها نسخاً قليلة ، وسمع أحد المشايخ يقول : هذه نشرة وهابية ، ووصلت إلى شيخ كبير في البلد فأنكرها ، وطلب مقابلتي فذهبت إلى بيته وكان هذا الشيخ قد درس معي في مدرسة الخسروية بحلب ، وهي الآن الثانوية الشرعية ، ولما قرعت الجرس خرجت بنت فقلت لها : " محمد زينو " ، فدخلت ثم رجعت ، فقالت لي : سيأتي للمدرسة بعد قلبل . فانتظره هناك ، فجلست عند دكان الحلاق المجاور لبيته حتى خرج ، فلحقته ، وقلت له : ماذا تريد مني ؟ فقال لي : لا أريد هذه النشرة ! قلت له: لماذا ؟ فقال : لا نريدها ، فقلت له ـ وقد وصلنا إلى باب المدرسة ـ : سأدخل معك إلى المدرسة وأقرأ الرسالة ، فقال : لا يوجد عندي وقت ! قلت له : طبعت منها ثلاثين ألف نسخة ، وكلفتنا مالاً وجهداً ، فماذا نفعل بها ، هل نحرقها ؟ فقال لي : نعم أحرقها !! قلت في نفسي سأذهب إلى الشيخ محمد السلقيني أستاذي في الفقه الحنفي ، فذهبت إليه ، وقلت له : عندي رسالة صغيرة فقال لي أحد المشايخ : أحرقها ، فقال لي : اقرأها عليّ ، فقرأتها عليه، فقال لي : هذه الرسالة فيها القرآن الكريم كلام الله ، وفيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نحرقها ؟ فقلت له : جزاك الله خيراً ، سوف أوزعها ، ولن أحرقها ، وبعد فترة وزعتها ، ووجدت قبولاً عند الشباب المثقف ، حتى إنني وجدت من طبعها ووزعها في مكتبه الوتار بالمسكية في مدينة دمشق ، فحمدت الله على أن هيأ لهذه الرسالة من يطبعها ويوزعها مجاناً ليعم نفعها ، وتذكرت قول الله عز وجل :
((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون)). " سورة التوبة 31-32 "(178/26)
ثم طبعت هذه الرسالة في كتابي ( منهاج الفرقة الناجية ) فالذي يريد الإطلاع عليها يقرأ الكتاب المذكور ، فسيجدها بنفس العناوين المذكورة آنفاً .
أهدى إليّ أحد المشايخ كتاباً فيه قصة ثعلبة المشهورة ولما أراد تجديد طبع الكتاب نصحته أن يرجع إلى أقوال العلماء ، ولا سيما في كتاب : ( الإصابة في أسماء الصحابة ) لابن حجر ، فقد نبه هو وغيره على عدم صحتها ، فلم يقبل النصيحة ، وقال لي : أنت نشيط أترك هذه المسائل ! قلت إذا تركتها فسوف أدعو إلى التوحيد الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله ابن عباس وهو غلام، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :
( يا غلام إني أعلمك كلمات ... إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ... ) إلى آخر الحديث الذي ذكره النووي وقال عنه الترمذي : ( حسن صحيح ) فقال لي : نحن نسأل غير الله !!!
رد الحديث بكل وقاحة وسوء أدب ، مخالفاً قوله تعالى :
(( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين )) . [ أي المشركين ] " سورة يونس 106 "(178/27)
ثم مضت سنوات قليلة وإذا بهذا الشيخ الذي يسأل غير الله يقتل ولده ، ويوضع ولداه في السجن ،ويترك داره ويهاجر إلى بلد آخر، فلا يلوي على شيء ، وقدر الله أن ألتقي بهذا الشيخ في الحرم المكي الشريف، والأمل على أنه عاد إلى رشده ، ورجع إلى الله يسأله الستر والحماية والنصر فسلمت عليه ، وقلت له : إن شاء الله سنعود إلى بلادنا ، ويفرج الله عنا ، فيجب علينا أن نتوجه إلى الله ونسأله العون والتأييد ،فهو القادر وحده ، فما رأيك ؟ فقال لي : المسألة فيها خلاف ! قلت له : وأي خلاف ؟ أنت إمام مسجد وتقرأ في صلاتك كل ركعة ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ويكررها المسلم في يومه عشرات مرات ، ولا سيما في صلاته ، فلم يتراجع هذا الشيخ الصوفي النقشبندي عن خطئه ، بل أصر ، ويدأ يجادل ، ويعتبر المسألة خلافية ليبرر موقفه الخاطيء ! إن المشركين الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون أولياءهم في وقت الرخاء ، ولكن إذا وقعوا في شدة أو كرب سالوا الله وحده ، كما قال الله تعالى عنهم :
(( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وطنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله مخلصين له الدين، لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين))."سورة يونس21"
وقال عن المشركين : (( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ))
" سورة النحل 53 "
دخلت مرة على شيخ كبير له طلاب وأتباع ، وهو خطيب وإمام مسجد كبير وبدأت أتكلم معه عن الدعاء وأنه عبادة لا يجوز إلا لله وحده ، وأتيت له بدليل من القرآن وهو قول الله تعالى :
(( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ، أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً)) . " سورة الإسراء 56-57 "(178/28)
فما المراد من قوله : (( أولئك الذين يدعون ..)) ؟ فقال لي : الأصنام ، قلت له : المراد الأولياء الصالحون .. فقال لي : نرجع إلى تفسير ابن كثير فمد يده إلى مكتبه ، وأخرج تفسير ابن كثير فوجد المفسر يقول أقوالاً كثيرة أصحها رواية البخاري التي تقول: " قال ناس من الجن كانوا يُعبدون فأسلموا ، وفي رواية كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم. فقال لي الشيخ : الحق معك ، ففرحت بهذا الاعتراف الذي قاله الشيخ ، وبدأت أتردد عليه وأجلس في غرفته ، وفوجئت مرة كنت عنده فقال للحاضرين : إن الوهابية نصف كفار لأنهم لا يؤمنون بالأرواح فقلت في نفسي لقد ارتد الشيخ وخاف على منصبه فافترى على الوهابية ، والإيمان بالأرواح لا ينكره الوهابية ، لأنها ثابتة في القرآن والحديث، ولكنهم ينكرون أن تكون للروح تصرفات كإغاثة الملهوف ، وعون الأحياء ، ونفعهم وضرهم ، لأن هذا من الشرك الأكبر الذي ذكره القرآن عن الأموات بقوله :
(( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ، ولو سمعوا ما استجابوا لكم ، ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير )). " سورة فاطر 14 "
فهذه الآية صريحة في أن الأموات لا يملكون شيئاً ، وأنهم لا يسمعون دعاء غيرهم ، وعلى فرض سماعهم لا يستطيعون الإجابة ، ويوم القيامة يكفرون بهذا الشرك الذي صرحت به الآية: (( ويوم القيامة يكفرون بشرككم )) " سورة فاطر 13 "
لا يعلم الغيب إلا الله
كنت مع بعض المشايخ في مسجد الحي نتدارس القرآن بعد الفجر ، وكلهم من حفظة القرآن الكريم . وقد مر معنا حين تلاوة القرآن قوله تعالى :
(( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ))
" سورة النمل 65 "(178/29)
فقلت لهم : إن هذه الآية دليل واضح على أنه لا يعلم الغيب أحد إلا الله ، فقاموا علي وقالوا : الأولياء يعلمون الغيب !! فقلت لهم , ما هو دليلكم ؟ فبدأ كل واحد يقص قصة سمعها من بعض الناس , وأن الولي الفلاني يخبر بأمور غيبية ! قلت لهم : هذه القصص قد تكون كاذبة وليست دليلاً , ولا سيما وأنها تعارض القرآن , فكيف تأخذون بها , وتتركون القرآن ؟!! ولكنهم لم يقتنعوا وبدأ بعضهم يصيح وأخذه الغضب, ولم أجد واحداً منهم أخذ بالآية , بل اتفقوا جميعاً على الباطل ودليلهم قصص خرافية تناقلوها ليس لها أصل , وخرجت من المسجد ولم أحضر معهم في اليوم الثاني , بل جلست مع أطفال أقرأ معهم القرآن , فهو خير لي من الجلوس مع حفظة للقرآن يخالفون عقيدته ولا يطبقون أحكامه , والواجب على المسلم إذا رأى أمثال هؤلاء أن لا يجالسهم امتثالاً لقوله تعالى :
(( وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ))
" سورة الأنعام 68 "
وهؤلاء ظالمون أشركوا مع الله عباداً يعلمون الأمور الغيبية في زعمهم ، والله يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يقول للناس :
(( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني من السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون )) . " سورة الأعراف 188 "
وهؤلاء الحفظة لكتاب الله سيكون القرآن حجة عليهم لا لهم كما قال صلى الله عليه وسلم : ( والقرآن حجة لك أو عليك ) . " رواه مسلم "
وقد ضرب الله مثلاً للذين لا يعلمون بالكتب المنزلة مثل التوراة فقال : (( مثل الذين حملوا التوراة ، ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، والله لا يهدي القوم الظالمين )) . " سورة الجمعة آية 4 "(178/30)
فهذه الآية وإن كانت في حق اليهود الذين علموا التوراة ولم يعملوا بها فهي تنطبق على كل من يعلم القرآن ولا يعمل به . وقد استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا العلم الذي لا ينفع فقال :
( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ) . " رواه مسلم "
[ أي لا أعمل به ، ولا أبلغه غيري ولا يبدل من أخلاقي وأقوالي وأفعالي ] " ذكره فيض القدير نقلاً عن المظهري "
وفي الحديث : ( اقرأوا القرآن واعملوا به ولا تأكلوا به .. ) .
" صحيح . أخرجه أحمد وغيره "
كنت أصلي في مسجد قريب من داري ، وكان إمامه يعرفني ، ووجد مني الدعوة إلى توحيد الله وعدم دعاء غيره ، فأعطاني كتاباً اسمه " الكافي في الرد على وهابي " ، ومؤلفه رجل صوفي فقرأت الكتاب من أوله إلى آخره بدقة ، وإذا به يقولفيه : إن هناك رجالاً يقولون للشيء كن فيكون ! فعجبت من هذا القول الكاذب ، لأن هذا من صفات الله وحده ، والبشر عاجزون عن خلق الذباب، بل عاجزون أن يستردوا ما أخذه الذباب من طعامهم ، وقد ضرب الله تعالى مثلاً للناس يبين ضعف المخلوقات فقال :
(( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب )) . " سورة الحج الآية 73 "(178/31)
فحملت الكتاب إلى صاحبه وقد حفظ القرآن معي في دار الحفاظ وقلت له : هذا الشيخ يدعي أن رجالاً يقولون للشيء كن فيكون ، فهل هذا صحيح ؟ فقال لي : نعم ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( كن ثعلبة ) فكان ثعلبة ! قلت له : هل كان ثعلبة معدوماً فأوجده الله من العدم ؟ أم كان غائباً ، وكان بانتظاره وقد تأخر ، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبحاً من بعيد تفاءل وقال : ( كن ثعلبة ) كأنه يقول أدعو الله أن يكون القادم هو ثعلبة ، حتى يسير الجيش ولا يتأخر ، فاستجاب الله دعاءه ، وكان القادم ثعلبة ، فسكت الرجل ، وغرف بطلان كلام الشيخ المؤلف ، والكتاب ما زال موجوداً عند صاحبه .
جولة مع جماعة التبليغ
جماعة التبليغ لها نشاط واسع في البلاد العربية والإسلامية ، حتى في البلاد الأجنبية كفرنسا وغيرها من البلاد .
وتمتاز هذه الجماعة بالتواضع في رحلاتها ، والإخلاص في دعوتها ، والنظام في سفرها ، ومأكلها ، وخروجها ، ومقر عملها المساجد التي تنزل فيها ، وتذهب إلى المقاهي وغيرها لتأتي بأهلها إلى المساجد لأداء الصلاة ، ويلقي أحد أفرادها بياناً على المجتمعين في المسجد ، وهذا عمل طيب .
للجماعة أمير عام هو الشيخ إنعام الحسن ، ومقره في الهند ولهم اجتماع عام ، وغالباً ما يكون في باكستان . وفي كل بلد لهم أمير يأخذون برأيه عند المشورة . ولهم كتاب يسمى ( تبليغي نصاب ) باللغة الأوردية ، وترجم بالعربي وللعلماء عليه مأخذ ، من حيث العقيدة ، وفيه أفكار صوفية وغيرها ، وأكثر ما يعتمدون عليه من الكتب هو :
رياض الصالحين : وهو كتاب جيد ، ولا سيما النسخة المحققة التي تبين الحديث الصحيح من الضعيف ، وهذا مهم جداً عند أهل العلم .
حياة الصحابة : كتاب جيد ، وفيه أحاديث ضعيفة وموضوعة ، يحتاج إلى تحقيق وتخريج ، كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء الله .
ج) ولهم صفات ستة يتمسكون بها ، ويعلمونها لأفراد جماعتهم،(178/32)
وسيأتي مناقشتها فيما بعد ، وهذه الشروط كما يلي :
تحقيق كلمة " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " .
إقامة الصلاة بالخشوع والخضوع .
العلم مع الذكر .
إكرام المسلمين .
إخلاص النية لله تعالى .
الدعوة إلى الله تعالى .
الخروج مع التبليغ للدعوة
لقد تأثرت باديء الأمر في دعوتهم ، وخرجت معهم في مختلف البلدان :
خرجت معهم في مدينة حلب التي أسكنها ، وتجولنا في المساجد، ولا سيما يوم الجمعة ، فخرجنا جماعة إلى حي من أحياء حلب يسمى (قرلق) فيه مسجد كبير ، ودخلت المسجد قبل صلاة الجمعة ، وخرجت مع ابن عمتي ـ بناء على توجيه الأمير ـ إلى السوق ، ودخلنا " مقهى كبير " فيه ناس يلعبون بالنرد والطاولة ، والأوراق التي فيها تصاوير للصبي ، وللبنت والرجل الكبير وكانت مهمتنا تنحصر في دعوة الناس إلى الصلاة ، فدعوناهم واستجابوا إلا القليل منهم وعد بأن يكمل اللعب ثم يأتي للمسجد .
ولما انتهينا من الجولة في الأسواق ، ذهبنا إلى المسجد ، وكان الأمير ينتظرنا ، ولما وصلنا أعطاني كتاب " رياض الصالحين " وطلب مني أن أقرأ " من آداب المسجد " فقرأت فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا ، وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته ) . " متفق عليه "
فشرحت للحاضرين في المسجد الحديث ، وبينت لهم أن رائحة الدخان أشد من رائحة الثوم والبصل ، فعلى المسلم أن يتجنبه لأنه يضر جسمه ، ويؤذي جاره ، ويتلف ماله ، ولا فائدة من التدخين ..
وإذا بالأمير ينظر إلى الكتاب الذي أقرأه ، وهو "رياض الصالحين " كأنه يقول لي : هذا الكلام عن التدخين غير موجود في الكتاب ، فلا تقله! وهذا خطأ ، لأن التدخين منتشر بين المسلمين ، حتى بين المصلين، فلا بد من التحذير منه ، ولا سيما عند التحذير من أكل الثوم والبصل عند دخول المسجد .(178/33)
ولاحظت عند الأحباب ( جماعة التبليغ ) بعض الأحاديث الضعيفة ، فذكرتهم بذلك فقالوا لي تعال معنا إلى الأمير العام وهو بالأردن ، فكلمه بذلك .
ذهبت مع الجماعة إلى مدينة (حماه) فكنا ندق الأبواب ، فيخرج صاحب البيت ، ويدعوه الأمير إلى الحضور إلى المسجد ليجتمع بهم ويسمع الدرس والبيان ، دخلت على أميرهم في مسجدهم ، فقال للوفود الحاضرين :
نحن سجدنا لله ، فأسجد الله لنا العالم !!
وهذا خطأ كبير ، فالسجود عبادة لا يجوز لغير الله .
قال الله تعالى : (( فاسجدوا لله واعبدوا )) . " سورة النجم آخرها "
ورأيت رجلاً يناقش الأمير قائلاً: لماذا تفصلون الدين عن السياسة؟ وتقولون : لا سياسة في الدين ، مع أن الدين فيه سياسة ، فسكت الأمير ولم يعط الجواب كما هي عادتهم ، ورأيت شاباً يدخن على باب المسجد وله لحية جميلة ، فنصحته أن يترك التدخين ، وأعطيته قلنسوة هدية ، فوضعها على رأسه ، وألقى السجارة في الأرض ، فعلم الأمير بذلك واستدعاني ، وأنكر عليّ ذلك وقال لي : أتركه يدخن في الغرفة المجاورة للمسجد حتى يتركه بنفسه ! أقول: هذا خطأ فادح ، يتركه يدخن حتى في الغرفة التي بجوار المسجد ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) . " رواه مسلم "
ومررنا في سوق بلدة (حماه) فقال أحد المرافقين : لا أريد أن أمر بهذا السوق ، لأن والدي سوف يراني ويغضب ، لأنني تركته في الدكان وحده ، وتركت زوجتي وحدها في البيت ، وهي على أهبة الولادة فقلت له : هذا لا يجوز شرعاً ، اذهب إلى والدك واعتذر منه ، أو أكتب له رسالة ، واذهب إلى زوجتك واسأل عنها ، فقد تكون مريضة أو بحاجة إلى من يرعاها هي وأولادها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول ) . " حسن رواه أحمد وغيره "(178/34)
ثم ذهبنا إلى دمشق ، ودخلنا مسجد " كفر سوسة " فألقى بعد الصلاة شاب بياناً ذكر فيه حديثاً قال فيه : ( الدنيا قرار من لا قرار له ) وبعد أن انتهى من كلمته قلت له : هل هذا حديث صحيح ؟ فقال لي: سمعته من الأحباب ، قلت له : هذا لا يكفي ، فالتفت إلى رجل عالم بجانبه وسأله عن الحديث ؟ فقال له : هذا ليس بحديث ، ثم نصحته برفق أ، يتحرى الأحاديث الصحيحة ويبتعد عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة .
ولما رآني أميرهم جاءني وقال لي : لا تعلمه ، الله يعلمه !!
علماً بأنه يخصص لهم دروساً في الفقه وغيره .
ومضت أعوام ، وجئت إلى مكة ، فرأيت الرجل يذهب إلى الحرم قبل صلاة الجمعة ، فلحقت به ، وسلمت عليه ، وقلت له: أنت أبو شاكر؟ فقال لي : نعم ، قلت له : أنت الذي كنت في دمشق وقلت لي : لا تعلم هذا الشاب ، الله يعلمه ؟ فقال : نعم ، قلت : كيف تقول ذلك ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم). " حسن انظر صحيح الجامع"
فقال لي : إنني أخطأت ، ونصحته ألا يرفض العلم والنصيحة ، علماً بأنه مدرس في الطائف ، ولا بد أنه تعلم حتى أصبح معلماً .
وذهبت في جولة معهم وكنا ثلاثة ، فدخلنا غرفة فيها شباب يلعبون بالورق ، ويسمونه ( الشدة ) وفيها تصاوير وأرقام وأعداد ، فتكلمت مع الشباب برفق ، وقلت لهم : هذا حرام يضيع أوقاتكم ، ويجر إلى لعب الميسر ، ويورث العداوة بين اللاعبين ، فاقتنعوا وبدأوا يمزقون الورق الذي كانوا يلعبون به ، وأعطوني بعضها حتى أشاركهم في تمزيقها ، فمزقت بعض الأوراق مشاركة لهم وكسباً للأجر ، ثم ذهبوا معنا إلى الصلاة في المسجد .
ولما علم بذلك أميرهم استدعاني ، وأنكر عليّ تمزيق الورق الذي كانوا يلعبون به ، قلت له : لقد طلبوا مني مشاركتي لهم في التمزيق ففعلت ، وهم الذين بدأوا بتمزيق الورق قبلي ، فلم يقبل ذلك !(178/35)
قلت في نفسي : هؤلاء يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) . " رواه مسلم "
ثم ذهبت معهم إلى الأردن ، ولهم مسجد كبير في (عمان) يجتمعون فيه ، فنزلنا في المسجد ، وصلينا فيه ، ثم ألقى أحد المسؤولين بياناً ذكر فيه أشياء غريبة ، قال يخاطب الحاضرين :
يا أحبابنا لا تأكلوا كثيراً ، حنى لا تتغوطوا كثيراُ ، فالإمام الغزالي ذهب إلى الحج مدة شهر ولم يتغوط ( أي لم يذهب للحمام ) فقال له أحد الجالسين : من أين أتيت بهذه القصة ؟ فأنكرها عليه ، لأنه لا يمكن للإنسان البقاء مدة شهر دون قضاء حاجته ، ثم قام الرجل من المسجد ، وترك الاجتماع .
ثم قال في بيانه وهو يقرأ من كتاب " حياة الصحابة " : لما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف التقى بخادم اسمه (عداس) فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن بلده ؟ فقال من بلد (نينوى) قال له : من بلدة (يونس عليه السلام) ذاك أخي في النبوة ، فسجد عداس للرسول صلى الله عليه وسلم .
لقد استغربت هذا الكلام ، كيف يرضى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسجد له (عداس) والسجود لا يجوز إلا لله .
وهذه القصة غير صحيحة ، وقد روي أن (عداس) أكب على قدمي الرسول صلى الله عليه وسلم يقبلهما ، وهذا التقبيل يختلف عن السجود تماماً ، فالكتاب " حياة الصحابة " يحتاج إلى تحقيق لمعرفة الصحيح من الضعيف والموضوع ، وقد نصحت الأخ ( محمد علي دولة ) وطلبت منه أن يحقق الكتاب لأنه هو الذي تولى طبعه ونشره ، فقال لي : الكتاب كله في الفضائل ، وليس فيه أحكام ، قلت له : هذا غير صحيح ، وأتيت له بحديث أورده مؤلف " حياة الصحابة " وهو :
( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) قال عنه المحدثون: إنه موضوع ، فسكت الأخ ( محمد علي دولة ) .(178/36)
وقد التقيت بالشيخ نايف العباسي رحمه الله تعالى في دمشق وقلت له : لقد قرأت في كتاب " حياة الصحابة " الذي حققته ما يلي :
" لما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف ، وقد دعاهم للإسلام ، فردوا عليه دعوته، وآذوه ، فجلس يقول :
( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني ، أم إلى قريب ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي .. إلى آخر الدعاء ) " .
كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم معاتباً ربه : إلى من تكلني ؟! [ أي تتركني ] ، والله تعالى يقول له :
(( ما ودعك ربك وما قلى )) " سورة الضحى 3 "
[ أي ما تركك ربك وما أبغضك ] " انظر تفسر ابن كثير "
فقال لي الشيخ نايف العباسي : والله كلامك صحيح ، رسول الله لا يقول هذا الكلام ، ولكني حققت الكتاب من الناحية التاريخية واللغوية ، وهذا الكتاب يحتاج إلى مثل الشيخ ناصر الدين الألباني ليخرج أحاديثه . قلت له : إن الشيخ ناصر حفظه الله ضعّف الحديث ، وقال : في متنه نكارة ، ولعله يشير إلى قوله :
( إلى من تكلني ؟ ) التي تخالف القرآن والواقع .
حضرت اجتماعاً لهم خطب فيه أميرهم ( سعيد الأحمد ) فقال : مر الرسول صلى الله عليه وسلم على بناء فقال لأصحابه : لمن هذا ؟ قالوا لفلان ، ولما مر صاحب البناء على الرسول صلى الله عليه وسلم ، سلمّ عليه فلم يرد عليه السلام ، وأخبره الصحابة السبب ، فذهب الصحابي وهدم البناء حتى يرد عليه السلام .
أقول هذا الحديث غير صحيح ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) . " صحيح رواه أحمد "
…
…مناقشة شروط الجماعة
1- تحقيق كلمة ( لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ) .
إن التحقيق يعني الفهم والتطبيق ، فهل فهم معنى هذه الكلمة الطيبة ـ التي هي الركن الأول من أركان الإسلام الوارد في حديث جبريل الذي رواه مسلم ـ هؤلاء الجماعة ؟(178/37)
وهل دعوا إلى تطبيقها والعمل بها ؟
الواقع أنهم لا يعلمون معناها الحقيقي ، وهو :
( لا معبود بحق إلا الله ، ومحمد مبلغ دين الله الذي ارتضاه ) .
والدليل على ذلك التعريف قول الله تعالى :
(( ذلك بأن الله هو الحق ، وأنما يدعون من دونه هو الباطل )) .
" سورة الحج 62 "
ولو عرفوا معناها لدعوا إليها قبل غيرها ، لأنها تدعو إلى توحيد الله ودعائه وحده دون سواه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( الدعاء هو العبادة ) . " رواه الترمذي وقال حسن صحيح "
فكما أن الصلاة عبادة لله ، لا تجوز لرسول ولا لولي ، فكذلك الدعاء عبادة لا يجوز طلبه م الرسول أو الأولياء .
ولم أسمع من جماعة التبليغ من دعا إلى فهمها والعمل بها ، وأن الذي يدعو غير الله وقع في الشرك الذي يحبط العمل لقول الله تعالى :
(( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين )) [ أي المشركين ] . " سورة يونس 106 "
2- إقامة الصلاة بالخشوع والخضوع :
وإقام الصلاة : يعني معرفة شروطها ، وواجباتها ، وأركانها ، وما يتعلق بها من أحكام : كسجود السهو مثلاً، طبقاً لما جاء في الحديث : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . " رواه البخاري "
فهل قام جماعة التبليغ بتعليم هذه الأمور لجماعتهم ، وهل بينوا لجماعتهم أن الخشوع في الصلاة يعني حصر الفكر في القراءة والتسبيح وعدم إكثار الحركة في الصلاة وغيرها من الأعمال المهمة؟
العلم مع الذكر :
هذا الشرط كبقية الشروط لم يحققه جماعة التبليغ ، وسبق أن ذكرت أنني نصحت أحد الشباب الذي ألقى بياناً ذكر فيه حديثاً موضوعاً، فقال لي أميرهم ، أتركه لا تعلمه ، الله يعلمه ! مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
( إنما العلم بالتعلم ) . " حسن انظر صحيح الجامع "
وزارني وفد منهم من الأردن ، وبينت لهم عقيدة التوحيد ، ومنها الاعتقاد أن الله في السماء كما أخبر عن نفسه في قوله تعالى :(178/38)
(( ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض )) . " سورة الملك 16 "
قال ابن العباس : هو الله تعالى .
وذكرت لهم حديث الجارية التي سألها الرسول صلى الله عليه وسلم: أين الله ؟ قالت في السماء ، قال : من أنا ؟ قالت أنت رسول الله ، فقال لصاحبها : أعتقها فإنها مؤمنة ) . " رواه مسلم "
فأعجب الحاضرون بهذه المعلومات ، وطلبوا مني بعض الرسائل للعلم ، علماً بأن كثيراً منهم لا يريدون قراءة كتب العلم ، وقد أهديت لاثنين منهم بعض الرسائل ليأخذوها معهم ، ويقرأوها مع جماعتهم ، فلم يأخذوها ، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل الهدية. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
( تهادوا تحابوا ) " حديث حسن انظر صحيح الجامع "
إكرام المسلمين :
الواقع أنهم يكرمون ضيوفهم ، ولا سيما عند الطعام ، ويتحدثون عن إكرام العلماء ، وليتهم أخذوا بنصيحتهم ، وقبلوا توجيهاتهم ، وقد خرجت معهم في عدد من البلدان ، فلم يسمحوا لي مرة بالتحدث إليهم ، بل يسمحون لواحد من جماعتهم ولو كان جاهلاً أن يتحدث إلى الناس ، وهذا يضر أكثر مما ينفع ، فيأتي بأحاديث مكذوبة كما مر قبل قليل . ويأتون بحديث لم يثبت عند الطعام ويقولون :
( تحدثوا عند الطعام ولو بثمن أسلحتكم ) .
إخلاص النية لله تعالى :
وهو شرط مهم ، وقد يتحقق عند بعضهم ، فيذهب بنية الدعوة ، وينفق من ماله ، والإخلاص محله القلب ، لا يعلمه إلا الله ، وكثيراً ما يتحدث أفرادهم ، ولا سيما الأمراء منهم عن دعوتهم ، وأنهم فعلوا كذا ، وكان عددهم كذا ، واستجاب لهم كثير من الأفراد ، واسأل الله أن يكونوا مخلصين في عملهم ، ولكن الإخلاص لا بد له من العلم ، حتى ينفع صاحبه ، وتنتفع به الأمة ، فقد ذكر البخاري رحمه الله تعالى في كتابه (باب العلم قبل القول والعمل) . واستدل بقول الله تعالى :
(( فاعلم أنه لا إله إلا الله )) " سورة محمد "
وسبق أن ذكرت أن الأحباب ـ هداهم الله ـ لا يهتمون بالعلم .(178/39)
الدعوة إلى الله :
هذا مبدأ طيب ، يجب على كل مسلم أن يهتم به كل حسب مقدرته ، ولكن الدعوة إلى الله لها شرط مهم بينه الله تعالى بقوله :
(( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) . " سورة يوسف آية 108 "
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم على الثقلين الجن والإنس آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله ، وطريقته ، ومسلكه ، وسنته ، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ويدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه سلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي .
( وسبحان الله ) أي وأنزه الله ، وأجله ، وأعظمه ، وأقدسه عن أن يكون له شريك ، أو نظير ، أو عديل ، أو نديد ، أو ولد ، أو والد ، أو صاحبة، أو وزير ، أو مشير ، تبارك وتقدس وتنزه عن ذلك كله علواً كبيراً ) . " انظر تفسير ابن كثير ج /495 "
……الخلاصة
إن هذه الشروط وإن كانت غير منسجمة ، لكن الجماعة ينقصهم تطبيق هذه الشروط عملياً ، ولا سيما العلم ، وتحقيق كلمة التوحيد والدعوة إليها قبل غيرها أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بقي في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس إليها ، وتحمل في سبيلها الأذى ، ولكنه صبر حتى نصره الله ، والعرب تعرف معنى التوحيد في كلمة ( لا إله إلا الله ) ولذلك لم يقبلوها ، لأنها تدعوهم إلى عبادة الله ودعائه وحده، وترك دعاء غيره ولو كانوا من الأولياء والصالحين . قال الله تعالى عن المشركين :
(( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ، بل جاء بالحق وصدق المرسلين )) .
" سورة الصافات آية 36 "
الدين النصيحة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين ، وعامتهم).(178/40)
" رواه مسلم "
وعملاً بقول هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فإني أوجه نصيحتي لجميع الجماعات الإسلامية أن يتقيدوا بما جاء في القرآن ، والأحاديث الصحيحة ، حسب فهم السلف الصالح رضوان الله عليهم ، كالصحابة والتابعين ، والأئمة المجتهدين ، ومن سار على طريقتهم :
الجماعة الصوفية
1- نصيحتي للصوفية أن يفردوا الله بالدعاء والاستعانة عملاً بقول الله تعالى : (( إياك نعبد وإياك نستعين )) " الفاتحة "
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) .
" رواه الترمذي وقال حسن صحيح "
وعليهم أن يعتقدوا أن الله في السماء لقول الله تعالى :
(( ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض )) . " سورة الملك 16 "
قال ابن عباس : هو الله . " ذكره ابن الجوزي في تفسيره "
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ألا تأمنوني ، وأنا أمين من في السماء ).
" متفق عليه "
[ ومعنى في السماء : أي على السماء ].
2- عليهم أن يتقيدوا بذكرهم بما ورد في الكتاب والسنة ، وعمل الصحابة.
3- ألا يقدموا قول مشايخهم على قول الله ورسوله ، عملاً بقول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله )) .
" سورة الحجرات 1 "
[ أي لا تقدموا قولاً أو فعلاً على قول الله ورسوله ] " ذكره ابن كثير "
4- عليهم أن يعبدوا الله ، ويدعوه خوفاً من ناره ، وطمعاً في جنته عملاً بقوله تعالى : (( وادعوه خوفاً وطمعاً )) . " سورة الأعراف آية 56 "
وقال صلى الله عليه وسلم : ( اسأل الله الجنة ، وأعوذ به من النار ).
" رواه أبو داود بسند صحيح"
على الصوفية أن يعتقدوا أن أول المخلوقات من البشر آدم عليه السلام وأن محمداً صلى الله عليه وسلم من نسل آدم ، وجميع الناس من ذريته خلقهم الله من تراب ، قال الله تعالى :
(( هو الذي خلقكم من تراب ، ثم من نطفة )). " سورة غافر آية 40 "(178/41)
وليس هناك دليل على أن الله خلق محمداً صلى الله عليه وسلم من نوره ، والمعروف أنه ولد من أبوين .
جماعة الدعوة والتبليغ
نصيحتي لهم أن يتقيدوا في دعوتهم بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة ، وأن يتعلموا القرآن والتفسير والحديث حتى تكون دعوتهم على علم لقول الله تعالى :
(( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة )). " سورة يوسف 108 "
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إنما العلم بالتعلم ).
"حسن انظر صحيح الجامع"
أن يتقيدوا بالأحاديث الصحيحة ، ويجتنبوا الأحاديث الضعيفة والموضوعة لئلا يدخلوا تحت قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ) . " رواه مسلم "
3- على الأحباب أن لا يفصلوا الأمر بالمعروف عن النهي عن المنكر، لأن الله تعالى جمع بينهما في كثير من الآيات مثل قول الله تعالى: (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )). " سورة آل عمران 104 "
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم ، ويأمر المسلمين بتغيير المنكر فيقول : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) . " رواه مسلم "
4- أن يهتموا بالدعوة إلى التوحيد ، وتقديمها على غيرها عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ). " متفق عليه "
وفي رواية ( إلى أن يوحدوا الله ). " رواه البخاري "
وتوحيد الله يعني إفراده بالعبادات ولا سيما الدعاء لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الدعاء هو العبادة ). " رواه الترمذي وقال حسن صحيح "
جماعة الإخوان المسلمين(178/42)
أن يعلموا أفراد جماعتهم التوحيد بأنواعه : توحيد الرب ، وتوحيد الإله ، وتوحيد الأسماء والصفات ، لأنها مهمة جداً يتوقف عليها سعادة الفرد والجماعات. وبدلاً من الإغراق في السياسة والواقع المزعوم ، وليس معناه جهل أحوال البلاد والعباد ولكن لا إفراط ولا تفريط .
أن يبتعدوا عن أفكار الصوفية المخالفة لعقيدة الإسلام ، فقد رأينا كثيراً منهم يذكر في كتبه عقائد صوفية باطلة :
فهذا رئيسهم في مصر عمر التلمساني له كتاب ( شهيد المحراب) فيه عقائد صوفية خطيرة بالإضافة إلى تعلم الموسيقى.
وهذا " سيد قطب " يذكر في كتاب ( الظلال ) وحدة الوجود عند الصوفية ، ذكرها في أول سورة الحديد ، وغيرها من التأويلات الباطلة وقد كلمت أخاه " محمد قطب " أن يعلق على الأخطاء العقدية باعتباره مشرفاً على طبعة (الشروق) فرفض وقال : أخي يتحمل المسؤولية ، وقد شجعني على مراجعته الشيخ عبد اللطيف بدر المشرف على مجلة التوعية بمكة .
ج _ وهذا " سعيد حوى " بذكر في كتابه (تربيتنا الروحية) عقائد الصوفية ، وقد مر ذكرها في أول الكتاب.
د ـ وهذا " الشيخ محمد الحامد " من سورية أهداني كتاباً اسمه : (ردود على أباطيل) فيه مواضيع جيدة كتحريم التدخين وغيرها ، إلا أنه ذكر فيه : أن هناك أبدالاً وأقطاباً وأغواثاً، ولكن لا يسمى الغوث غوثاً إلا حينما يلتجأ إليه !!! والالتجاء إلى الأغواث والأقطاب من الشرك الذي يحبط العمل وهي أفكار صوفية باطلة ينكرها الإسلام.
وقد طلبت من ولده عبد الرحمن أن يعلق على كلام والده فرفض ذلك.
3- أن لا يحقدوا على إخوانهم السلفيين الذين يدعون إلى التوحيد ومحاربة البدع والتحاكم إلى الكتاب والسنة ، فهم إخوانهم . قال الله تعالى : (( إنما المؤمنون إخوة )). " سورة الحجرات 10 "
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ). " متفق عليه "
السلفيون ، وأنصار السنة المحمدية(178/43)
وصيتي لهم أن يستمروا في دعوتهم إلى التوحيد والحكم بما أنزل الله ، وغيرها من الأمور المهمة.
أن يرفقوا في دعوتهم ، ويستعملوا اللين من القول مهما كان الخصم عملاً بقول الله تعالى :
(( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن )) . " سورة النحل 125 "
وقوله تعالى إلى موسى وهارون عليهما السلام :
(( اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى )) . " سورة طه 43 – 44 "
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من يحرم الرفق يحرم الخير كله ). " رواه مسلم "
3- أن يصبروا على ما يصيبهم من أذى، فإن الله معهم بنصره وتأييده، قل الله تعالى :
(( واصبر وما صبرك إلا بالله ، ولا تحزن عليهم ، ولا تك في ضيق مما يمكرون ، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)). " سورة النحل آية 177-178 "
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ، ولا يصبر على أذاهم ) " صحيح رواه أحمد وغيره "
4- ألا ينظر السلفيون إلى قول من خالفهم بأن عددهم قليل ، لأن الله تعالى يقول : (( وقليل من عبادي الشكور )) . " سورة النمل "
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( طوبى للغرباء ، قيل من هم يا رسول الله؟ قال : أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) . " صحيح رواه أحمد وابن المبارك "
حزب التحرير(178/44)
وصيتي لهم أن يطبقوا تعاليم الإسلام على أنفسهم قبل أن يطالبوا غيرهم بتطبيقه , فقد زارني في سورية منذ عشرين سنة تقريباً شابان منهم , وقد حلقوا لحاهم , وظهرت رائحة الدخان منهم , وطلبوا مني المناقشة لأنضم إليهم , فقلت لهم : أنتم تحلقون اللحي , وتشربون الدخان , وهما محرمان شرعاً , ثم تبيحون لأنفسكم مصافحة النساء , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) . " صحيح رواه الطبراني "
فقالا لي : ورد في البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصافح النساء عند البيعة !! فقلت لهما : غداً ستأتياني بالحديث ، فذهبا ولم يعودا ، فعرفت كذبهما ، وأن البخاري لم يذكر ذلك أبداً ، وإنما ذكر البيعة للنساء بدون مصافحة .
والغريب أن يبيح المصافحة للنساء بعض الإخوان المسلمين ، أمثال الشيخ محمد الغزالي ، ويوسف القرضاوي ، بناء على مناقشة جرت بيني وبينه ، واستدل بحديث الجارية التي كانت تأخذ بيد الرسول صلى الله عليه وسلم ليقضي حاجتها .
" رواه البخاري "
أقول : إن استدلاله غير صحيح ، علماً بأن الجارية حينما أخذت بيده لم تمسه ، بل لمست كم القميص الذي على يده ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت :
( لا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ، ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك ). " رواه البخاري "
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أصافح النساء ).
" رواه الترمذي وقال حسن صحيح "(178/45)
2- سمعت خطبة من شيخ ينتمي إلى حزب التحرير في الأردن يحمل على الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، ولما جئت إلى بيته شكا إلىّ والد زوجته ، وقال ، إن الشيخ ضرب زوجته على عينها فتأثرت ! فقلت له : أنت تطالب الحكام بتطبيق الشرع ، وأنت لم تطبق الشرع في بيتك ، هل أنت صحيح ضربت زوجتك على عينها، فقال : نعم ، ولكنها ضربة خفيفة بكأس الشاي ! قلت له : طبق الإسلام على نفسك أولاً ، ثم طالب غيرك بتطبيقه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم : ( سئل ما حق زوج أحدنا عليه ؟ قال أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت ) . " صحيح أخرجه الأربعة "
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا ضرب أحدكم خادمه ، فليتق الوجه ) " حسن رواه أبو داود "
جماعة الجهاد وغيرهم
نصيحتي لهم أن يرفقوا في دعوتهم وجهادهم ، ولا سيما للحكام عملاً بقول الله تعالى لموسى حينما أرسله إلى فرعون الكافر :
(( اذهب إلى فرعون إنه طغى ، فقل هل لك إلى أن تزكى )).
" سورة النازعات آية 17 – 18 "
وقوله تعالى : (( اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى )). " سورة طه آية 43-44 "
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من يحرم الرفق يحرم الخير كله ).
" رواه مسلم "
النصيحة لأئمة المسلمين والحكام : تكون بمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه ، وأمرهم به ، ونهيهم ، وتذكيرهم برفق ، وترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة .
" انظر قول الخطابي في شرح الأربعين حديثاً "
قال صاحب العقيدة الطحاوية ( أبو جعفر الطحاوي ) : ولا نرى الخروج على أئمتنا ، وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعو عليهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة .(178/46)
1- قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم )) . " سورة النساء آية 59 "
2- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني ) . " رواه البخاري ومسلم "
3- وعن أبي ذر رضي الله عنه قال :
( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف ) . " رواه مسلم "
4- وقال صلى الله عليه وسلم : (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) . " متفق عليه "
5- وعن حذيفة بن اليمان قال : ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم وفيه دخن ، قال : قلت وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ، فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها ، فقلت يا رسول الله ، صفهم لنا ، قال : نعم قوم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ، قلت : يا رسول الله ، فما ترى إذا أدركني ذلك؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، فقلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة ، حتى يدركك الموت ، وأنت على ذلك ) . " متفق عليه "
6- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر , فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات , فميتته جاهلية). " متفق عليه "(178/47)
7- وقال صلى الله عليه وسلم : ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم , ويحبونكم , وتصلون عليهم , ويصلون عليكم , وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم , ويبغضونكم , وتلعنونهم , ويلعنونكم , فقلنا : يا رسول الله , أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك , قال : لا , ما أقاموا فيكم الصلاة , ألا من ولي عليه وال ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يداً من طاعته ).
" رواه مسلم "
8- فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر ، ما لم يأمروا بمعصية ، فتأمل قول الله تعالى :
((أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)). " سورة النساء 59 "
كيف قال : ( وأطيعوا الرسول ) ، ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم ، لأن أولي الأمر ، لا يفردون بالطاعة ، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله ، وأعاد الفعل مع الرسول ، لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله ، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله ، بل هو معصوم في ذلك ، وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله ، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله .
وأما طاعتهم وإن جاروا ، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ، ومضاعفة الأجور ، فإن الله ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا ، والجزاء من جنس العمل ، فعلينا بالاستغفار والتوبة وإصلاح العمل ، قال الله تعالى :
(( وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير )).
" سورة الشورى 30 "
وقال تعالى : (( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون )) . " سورة الأنعام 129 "
فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم .
" انظر شرح العقيدة الطحاوية 380-381 "(178/48)
9- جهاد حكام المسلمين : ويكون بتقديم النصيحة لهم ولأعوانهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) . " رواه مسلم "
ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) . " حديث حسن رواه أبو داود والترمذي "
وبيان طريق الخلاص من ظلم الحكام الذين هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا هو أن يتوب المسلمون إلى ربهم ، ويصححوا عقيدتهم ، ويربوا أنفسهم وأهليهم على الإسلام الصحيح ، تحقيقاً لقول الله تعالى :
(( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )). " سورة الرعد 11 "
وإلى ذلك أشار أحد الدعاة المعاصرين بقوله :
( أقيموا دولة الإسلام في صدوركم تقم لكم على أرضكم ) وكذلك لا بد من إصلاح القاعدة لتأسيس البناء عليها ألا وهو المجتمع ) .
قال الله تعالى : (( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )).
" سورة النور 55 "
" اختصاراً من كتاب تعليقات على شرح الطحاوية للشيخ الألباني "
نصيحتي إلى جميع الجماعات
لقد بلغت من الكبر عتياً ، وعمري الآن تجاوز السبعين عاماً ، وإني أحب الخير إلى جميع الجماعات ، وعملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) . " رواه مسلم "
فإني أقدم النصائح الآتية :
أن يتمسكوا بالقرآن ، والسنة النبوية ، عملاً بقول الله تعالى :
(( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )) . " سورة آل عمران 103 "
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله ، وسنة رسوله ) .
" رواه مالك وصححة الألباني في صحيح الجامع "(178/49)
إذا اختلفت الجماعات ، فعليهم أن يرجعوا إلى القرآن والحديث وعمل الصحابة عملاً بقول الله تعالى :
((فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً )). " سورة النساء 59 "
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها ) . " صحيح رواه أحمد "
أن يهتموا بعقيدة التوحيد التي ركز عليها القرآن ، وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته إليها ، وأمر أصحابه أن يبدأوا بها .
لقد عاشرت الجماعات الإسلامية ، فرأيت أن الدعوة السلفية تلتزم الكتاب والسنة حسب فهم السلف الصالح : الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته التابعين ، وقد أشار إلى هذه الجماعة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله :
( ألا إن من قلبكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين : ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة ) .
" رواه أحمد وحسنه الحافظ "
وفي رواية : (كلهم في النار إلا واحدة : ما أنا عليه وأصحابي).
" رواه الترمذي وحسنه الألباني "
يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن اليهود والنصارى تفرقوا كثيراً ، وأن المسلمين سيفترقون أكثر منهم ، وأن هذه الفرق ستكون عرضة لدخول النار ، لانحرافها ، وبعدها عن كتاب ربها وسنة نبيها ، وأن فرقة واحدة ، تنجو من النار ، وتدخل الجنة ، وهي الجماعة المتمسكة بالكتاب والسنة وعمل الصحابة .
وتمتاز الدعوة السلفية بالدعوة إلى التوحيد ، ومحاربة الشرك، ومعرفة الأحاديث الصحيحة ، والتحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة ومعرفة الأحكام الشرعية بأدلتها وهذا مهم جداً لكل مسلم .(178/50)
وإني أنصح إخواني المسلمين أن يلتزموا بالدعوة السلفية ، لأنها هي الفرقة الناجية ، والطائفة المنصورة التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) .
" رواه مسلم "
اللهم أجعلنا من الفرقة الناجية ، والطائفة المنصورة .
الخلاصة
على الجماعات الإسلامية أن يبتعدوا عن التحزب الممقوت الذي يؤدي إلى الفرقة وأن يتعاونوا فيما بينهم فيما ينفع المسلمين ويعود عليهم بالخير والنفع لقول الله تعالى :
((وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)).
" سورة المائدة آية 2 "
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كونوا عباد الله إخواناً : المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى ههنا ، وأشار إلى صدره ، بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).
" رواه مسلم "
على الجماعات الإسلامية ألا يتحاسدوا ، ولا يتباغضوا لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ) .
" رواه مسلم "
على كل جماعة من الجماعات الإسلامية أن يقبلوا النصيحة إذا كانت موافقة للقرآن والحديث الصحيح ، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( الدين النصيحة ) " رواه مسلم "
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) . " حسن رواه أحمد وغيره "
وأختم كلمتي بالدعاء الآتي :
اللهم أصلح ذات بيننا ، وألف بين قلوبنا ، وأهدنا سبل السلام ، اللهم اجعلنا هداة مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين ، سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك ، وصلي الله على محمد وآله وسلم .
تنبيهات على ملاحظات(178/51)
لقد من الله تعالى عليّ ، وبدأت أدعو إلى توحيد الله تعالى وأصدرت أكثر من عشرين مؤلفاً طبع كل منها مرات متعددة بكميات كبيرة ، وترجم بعضها إلى اللغة الإنجليزية ، والفرنسية ، والأندونيسية ، والأوردية ، والبنغالية ، والتركية ، وغيرها ، وأكثر هذه الكتب كانت تطبع بمساعدة المحسنين ، وتوزع مجاناً ، وبعضها يباع في المكتبات التي يطبعونها على حسابهم ، وقد كتبت على كل كتاب العبارة الآتية : لكل مسلم حق الطبع والترجمة ، ومن له ملاحظة على الكتب ، فليخبر المؤلف مشكوراً .
لقد وصلني كتاب من الإمارات العربية عنوانه :
( عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير ) لمؤلفه : ( محمد عادل عزيزة ) فلما قرأته وجدته لم يلتزم الأمانة العلمية حتى في الأحاديث النبوية حيث بتر الحديث الذي ذكره ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى : (( يوم يكشف عن ساق )) " سورة القلم "
وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( يكسف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة .. ) . إلى آخر الحديث الذي رواه البخاري ومسلم .
وقال في كتابه : لقد تخبط محمد جميل زينو في كتابه ( منهاج الفرقة الناجية ) تخبطاً كثيراً في صفحة 16 وغيرها ، ويعلم الله أنني فرحت ، وقلت : لعلي أخطأت ، فأصلح خطئي .
ولما نظرت في كتابي المذكور وجدت ما يلي :
( قال الإمام أحمد ، قال الإمام الشافعي ، قال الخطيب البغدادي ) فهتفت للمؤلف وقلت له : ما هو التخبط الذي ذكرته في كتابي ؟ فقال لي : الكتاب ليس عندي ، فقلت له : لماذا حذفت الحديث الذي يفسر الآية من تفسير ابن كثير ؟ فقال لي : الحديث من المتشابهات !! فقلت له : ولماذا بترت قول ابن كثير في تفسير : (( وهو الله في السموات )) حيث اختار الوقف المفسر الطبري ، ليثبت أن الله في السماء ؟ فقال لي : حتى انظر ، ولم يعترف بخطئه ، وقد رددت على هذا المؤلف في كتاب اسمه : ( بيان وتحذير من كتاب عقيدة الإمام الحافظ ابن كثير ) .(178/52)
وقد قرأت في كتاب عنوانه ( في مدرسة النبوة ) للأخ أحمد محمد جمال قال فيه : ولقد عجبت للأخ ( محمد جميل زينو ) حين كتب في جريدة الندوة يوم 26/4/1411هـ يستنكر صيغة للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم اعتاد بعض المسلمين ترديدها ، وهي تقول : ( اللهم صل على محمد طب القلوب ودوائها وعافية الأبدان وشفائها ونور الأبصار وضيائها ) وقال : إن الشافي والمعافي للأبدان والقلوب والعيون هو الله وحده ، والرسول لا يملك النفع لنفسه ولا لغيره .. إلخ ، وأود للأخ محمد زينو أن يعلم أن لهذه الصيغة مفهومين صحيحين :
إن طب القلوب وعافية الأبدان ، ونور الأبصار صفة ، أو ثمرة للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد عرفنا من الأحاديث السابقة فضل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وبركاتها وأنها صادرة من الله عز وجل ...
وصلاة الله على العباد هي الرحمة والبركة والعافية والشفاء.
إن طب القلوب ، وعافية الأبدان ، ونور الأبصار صفة للرسول نفسه .. وهذه أيضاً لا نكران عليها ، ولا غرابة فيها فالرسول صلى الله عليه وسلم ذاته ـ كما وصفه القرآن الكريم ـ رحمة في قول الله تعالى :
(( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) . " سورة الأنبياء آية 107 "
وهو كذلك نور وضياء ، ـ كما وصفه القرآن في قوله عز وجل: (( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً )). " الأحزاب آية 45-46 "
وفي روايات متعددة يصف الرسول نفسه بأنه رحمة مهداة إلى الإنسانية ليخرجها من الظلمات إلى النور ، ويشفي قلوبها وأبصارها ، وأبدانها من الأسقام الحسية والمعنوية معاً .
يقول صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا رحمة مهداة ) .
" أخرجه ابن عساكر "
( إني رحمة بعثني الله ) . " رواه الطبراني "
( إني لم أبعث طعاناً ، وإنما بعثت رحمة ). " رواه مسلم "(178/53)
أقول : إن الصيغة السابقة التي قال عنها المؤلف اعتاد الناس ترديدها . لا تجوز لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عبادة ، والعبادة مبناها على التوقف حتى يأتي الدليل ، ولا دليل على هذه الصيغة ، ولا سيما أنها تخالف جميع الروايات التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ، والسلف الصالح ، بالإضافة إلى أن فيها غلواً وإطراء لا يرضاه الله والرسول صلى الله عليه وسلم . فهل يجوز لمسلم أن يترك الصيغة التي عملها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويأخذ بصيغة من أقوال الناس ، والتي تخالف الصيغ المشروعة ؟
لقد بتر المؤلف من كلامي شيئاً مهماً ، وهو استشهادي بقول الله تعالى : (( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله )).
" سورة يونس"
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) . " رواه البخاري "
وأما قول المؤلف : وصلاة الله على العباد هي الرحمة والبركة والعافية والشفاء ، قال ابن كثير :
الصلاة من الله تعالى على عبده ثناؤه عند الملائكة .
وقال غيره : الصلاة من الله عز وجل الرحمة " حكاه البخاري "
" تفسير ابن كثير جـ3/495 "
هذا التفسير الصحيح يبطل تفسير المؤلف ( أحمد محمد جمال ) الذي لا دليل عليه .
وأما استشهاده بقول الله تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)) " الأنبياء آية 107 "
فإني أنقل للقاريء ما قاله العلامة محمد أمين الشنقيطي في تفسيرها : وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية : من أنه ما أرسله إلا رحمة للعالمين يدل على أنه جاء بالرحمة للخلق فيما تضمنه هذا القرآن العظيم ، وهذا المعنى جاء موضحاً في مواضع من كتاب الله :
أ- كقوله تعالى : (( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون )). " العنكبوت آية 51 "(178/54)
ب- وقوله تعالى : (( وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك )) . " سورة القصص آية 86 "
ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله ، أدع على المشركين ، قال : ( إني لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة ) . " رواه مسلم "
" انظر أضواء البيان للشنقيطي 4/694 "
وأما الطبري فقال ما خلاصته : أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالم مؤمنهم وكافرهم ، فأما مؤمنهم فإن الله هداه به وأدخله ـ بالإيمان به وبما جاء من عند الله ـ الجنة ، وأما كافرهم فقد دفع عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة لرسلها من قبله .
وأما قول المؤلف : وهو ( أي الرسول ) نور وضياء كما وصفه القرآن في قوله عز وجل : (( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً )) .
" الأحزاب آية 45-46 "
فإني أنقل للقاريء ما قاله المفسرون :
قال ابن كثير في تفسيره :
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك ، ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار ، وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن .
فقوله تعالى : (( شاهداً )) أي لله بالوحدانية ، وأن لا إله غيره، وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة .
(( وجئنا بك على هؤلاء شهيداً )) " النساء "
وقوله عز وجل : (( ومبشراً ونذيراً )) أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب ، ونذيراً للكافرين من ويل العقاب .
وقوله جلت عظمته : (( وداعياً إلى الله بإذنه )) أي داعياً للخلق إلى عباده ربهم عن أمره لك بذلك .
وقوله تعال : (( وسراجاً منيراً )) أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند . " انظر تفسير ابن كثير جـ3/497 "
وقال ابن الجوزي في تفسير زاد المسير :
(( وسراجاً منيراً )) أي أنت لمن اتبعك ( سراجاً ) أي كالسراج المضيء في الظلمة يهتدى به . " جـ 6/400 "(178/55)
ج- وقال الطبري في تفسيره : (( وسراجاً منيراً )) ضياء لخلقه بالنور الذي أتيتهم به من عند الله وإنما يعني بذلك أنه يهدي به من اتبعه من أمته . " نقلاً عن الطبري باختصار "
وقال المؤلف في كتابه ( في مدرسة النبوة ) :
وفي روايات متعددة يصف الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بأنه: " رحمة مهداة " إلى الإنسانية ليخرجها من الظلمات إلى النور ، ويشفي قلوبها ، وأبصارها من الأسقام الحسية والمعنوية معاً .
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا رحمة مهداة ) .
" أخرجه ابن عساكر "
( إني رحمة بعثني الله ) . " رواه الطبراني "
( إني لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة ) . " رواه مسلم "
أقول : إن كلام المؤلف ( أحمد محمد جمال ) عليه ملاحظات :
لم يذكر المؤلف دليلاً على كلامه سوى ما أورده من حديث : ( إنما أنا رحمة مهداة ) وقد تقدم تفسير الرحمة في الآية للعلامة الشنقيطي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالرحمة للخلق فيما تضمنه هذا القرآن العظيم .
وأما قول المؤلف : ( ليخرج الإنسانية من الظلمات إلى النور .. ) فليته رجع إلى تفسير ابن كثير حيث قال فيها :
(( ليخرج الناس من الظلمات إلى النور )) . " سورة إبراهيم آية 1 "
أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد ، قال الله تعالى :
(( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور )) . " الحديد آية 9 "
فالآيات صريحة بأنه أخرج الناس من الظلمات إلى النور بالقرآن المنزل عليه .
ج- وأما قول المؤلف : ( ويشفي قلوبها وأبصارها من الأسقام الحسية والمعنوية معاً ) ويقصد النبي صلى الله عليه وسلم !
فلم يأت بدليل صريح على ذلك ، علماً بأن الشافي للأمراض هو الله وحده ، قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :
(( إذا مرضت فهو يشفين )) " الشعراء "(178/56)
أكد بالضمير المنفصل ، ليؤكد على أن الشافي هو الله وحده ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اللهم رب الناس أذهب البأس اشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً ) . " أخرجه البخاري "
وقصة الغلام والأعمى التي وردت في الحديث تدل على أن الشافي هو الله وحده : فورد فيها أن الأعمى أتى الغلام بهدايا كثيرة وقال له سأهبها لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك .
" فآمن بالله فدعا الله له فشفاه الله " . " القصة رواها مسلم 4/3005 "
فالآية السابقة والأحاديث المتقدمة تدل على أن الشافي هو الله وحده، ولم يذكر المؤلف ( أحمد محمد جمال ) مثالاً واحداً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف نفسه بأنه ( يشفي ) كما زعم ، وهذا أمر خطير جداً ، لقوله صلى الله عليه وسلم :
( من قال عليّ ما لم أقل ، فليتبوأ مقعده من النار ) . " حسن رواه أحمد "
وقد سألت سماحة الشيخ ابن باز مفتي السعودية عن كلام ( أحمد محمد جمال ) فقال : إنه شرك .
الخلاصة
إن كلام المؤلف ( أحمد محمد جمال ) ليس عليه دليل ، وفيه غلو وإطراء نهى عنهما الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً :
1- ( إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ) . " صحيح رواه أحمد "
2- ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله ) . " رواه البخاري "
ولا سيما حينما ادعى المؤلف أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف نفسه ، بأنه يشفي القلوب والأبصار من الأسقام الحسية والمعنوية معاً ! وكلمة ( يشفي ) فعل مضارع يفيد الحال والمستقبل ، وهذا لا يمكن أبداً ، ولم يحدث هذا الشفاء في الوقت الحاضر والمستقبل .
3- وما ذكرته من التنبيهات على كتاب ( في مدرسة النبوة ) هو من باب النصيحة للمسلمين عامة ، ولقراء الكتاب المذكور خاصة .(178/57)
والله أسأل أن ينفع بها المسلمين ويجعلها خالصة لله تعالى .
تنبيه هام
أقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم له معجزات كثيرة ، ولكنها كانت في حياته ، وهذه نماذج منها :
عن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع رسول الله في سفر فقل الماء ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : اطلبوا لي فضلة من ماء . الصحابة يجيئون بإناء فيه ماء قليل ، فيدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يده في الإناء . قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (حي على الطهور المبارك ، والبركة من الله). قال ابن مسعود : لقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل .
" رواه البخاري "
يلفت الرسول صلى الله عليه وسلم نظر أصحابه إلى أن الماء المبارك الذي ينبع من بين أصابعه إنما بركته من الله وحده الذي خلق هذه المعجزة ، وهذا حرص من الرسول على توجيه أمته إلى التوحيد، ولذا قال لهم : ( والبركة من الله ) .
ب- وهذا علي رضي الله عنه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشتكي عينيه ، فبصق الرسول صلى الله عليه وسلم في عينيه ، ودعا له ، فبرأ ، حتى كأن لم يكن به وجع . " رواه البخاري "
أقول : إن هذه المعجزات كانت في حياته ، وإن علياً دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن بصق في عينيه فبرأ ، لأن دعاء النبي مستجاب ، أما بعد موته صلى الله عليه وسلم فقد توقف طلب الدعاء منه وانقطعت المعجزات لقوله صلى الله عليه وسلم :
( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) . " رواه مسلم "
وهذا أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يدافع عنه ، لما حضرته الوفاة دعاه الرسول إلى الإيمان فأبى ، ومات مشركاً ، ونزلت فيه (( إنك لا تهدي من أحبت ، ولكن الله يهدي من يشاء )) . " رواه البخاري "
دعاء الليل مستجاب(178/58)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( من تعار من الليل فقال حين يستيقظ)) .. لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : اللهم اغفر لي ، أو دعا استجيب له ، فإن قام فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته )). " رواه البخاري وغيره "
[ تعارّ: استيقظ ]
قرأت هذا الدعاء من أجل شفائي من الأمراض فشفاني الله ، وقرأته من أجل تيسير بعض الأعمال المتعبة فأراحني الله ، وأنصح كل مسلم أن يقرأ هذا الدعاء لحل جميع المشاكل .
عقيدة المسلم
إن كان تابع أحمد متوهباً………فأنا المقر بأنني وهابي
أنفي الشريك عن الإله فليس لي………رب سوى المتفرد الوهاب
لا قبة ترجى ولا وثن ولا ……قبر له سبب من الأسباب
كلا ، ولا حجر ، ولا شجر ولا………عين(1) ولا نصب من الأنصاب
أيضاً ولست معلقاً لتميمة(2)………أو حلقة ، أو ودعة أو ناب
لرجاء نفع ، أو لدفع بلية………الله ينفعني ، ويدفع ما بي
والابتداع وكل أمر محدث………في الدين ينكره أولو الألباب
أرجو بأني لا أقاربه ولا………أرضاه ديناً وهو غير صواب
وأعوذ من جهمية(3) عنها عتت………بخلاف كل موول مرتاب
والاستواء(4) فإن حسبي قدوة………فيه مقال السادة الأنجاب
الشافعي ومالك وأبي حنيفة………وابن حنبل التقى الأواب
وبعصرنا من جاء معتقداً به………صاحوا عليه مجسم وهابي
جاء الحديث بغربة الإسلام………فليبك المحب لغربة الأحباب
فالله يحمينا ، ويحفظ ديننا ………من شر كل معاند سباب
ويؤيد الدين الحنيف بعصبة………متمسكين بسنة وكتاب
لا يأخذون برأيهم وقياسهم………ولهم إلى الوحيين خير مآب
__________
(1) 1 عين ماء يغتسلون بها للتبرك والشفاء
(2) 2 التميمة : الخرزة ونحوها توضع للحماية من العين
(3) 3 الجهمية : فرقة ضالة تنكر أن الله في السماء ، وتقول إن الله في كل مكان
(4) 4 الاستواء : هو العلو والارتفاع(178/59)
قد أخبر المختار عنهم أنهم………غرباء بين الأهل والأصحاب
سلكوا طريق السالكين إلى الهدى………ومشوا على منهاجهم بصواب
من أجل ذا أهل الغلو تنافروا………عنهم فقلنا ليس ذا بعجاب
نفر الذين دعاهم خير الورى………إذ لقبوه بساحر كذاب
مع علمهم بأمانة وديانة………فيه ومكرمة ، وصدق جواب
صلى عليه الله ما هب الصبا ………وعلى جميع الآل والأصحاب
الشيخ ملا عمران
محتويات الكتاب
الموضوع…………………الصفحة
المقدمة ....................................................................................…5
الولادة والنشأة ......................................................................…7
كنت نقشبندياً ........................................................................…12
كيف انتقلت إلى الطريقة الشاذلية ......................................... …17…
مجلس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ....................…19
الطريقة القادرية ....................................................................…20
التصفيق في الذكر ...............................................................…21
الضرب بالشيش ( بسيخ الحديد ) .........................................…23
الخلاصة ...........................................................................…27
الطريقة المولوية .................................................................…28
درس عجيب من شيخ صوفي ..............................................…30
الذكر في المساجد عند الصوفية ..........................................…32
كيف يعامل الصوفية الناس ...................................................…34
كيف اهتديت إلى التوحيد .....................................................…35
معنى وهابي .........................................................................…37(178/60)
مناقشة مع الشيخ الصوفي ...................................................…38
موقف المشايخ من التوحيد ..................................................…41
لا يعلم الغيب إلا الله ............................................................…47
جولة مع جماعة التبليغ .......................................................…50
الخروج مع التبليغ للدعوة ....................................................…52
مناقشة شروط الجماعة ........................................................…59
الدين النصيحة ....................................................................…65
الجماعة الصوفية ...............................................................…65
جماعة الدعوة والتبليغ .........................................................…67
جماعة الإخوان المسلمين ...................................................…68
السلفيون وأنصار السنة المحمدية .......................................…69
حزب التحرير .....................................................................…71
جماعة الجهاد وغيرهم ........................................................…73
نصيحتي إلى جميع الجماعات ..............................................…78
الخلاصة ...........................................................................…80
تنبيهات على ملاحظات .......................................................…81
تنبيه هام ...............................................................................…90
دعاء الليل مستجاب .............................................................…91
الخلاصة ...........................................................................…92(178/61)
عقيدة المسلم ........................................................................…93
محتويات الكتاب ..................................................................…95
……(178/62)
الرد الوافر
على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر
للإمام ابن ناصر الدين الدمشقي
بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن
الحمد لله الذي رضي الإسلام لمن أحب دينا وغرس الإيمان في قلوبهم فأثمرت بإخلاص طاعته فنونا وأعانهم على عبادته عناية منه فأعظم به معينا وحمى أعراضهم من الفساق الذين توعدهم بقوله تعالى يقينا : والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
فنحمد الله على جزيل نعمه بالاسلام ونشكره على جميل كرمه وجميع الإنعام ونسأله أن يقينا شر ذوي الهوى ويكفينا أذى الجهلة الطغام.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة لا ريب فيها وعقيدة سالمة لا تشبيه يفسدها ولا تعطيل يعتريها ونقر بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير تمجيدا له وتنزيها.
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي أرسله رحمة مهداة وابتعثه نعمة لمن اتبع هداه وجعله نقمة على من ابتدع بهواه فلطريقته النبوية يقتفي الأخيار وبشريعته المحمدية يقتدي الأبرار وعلى سنته المرضية يحافظ حفاظ الآثار صلى الله عليه أفضل صلواته وأشرف وحياه بأزكى تحياته وأطرف وأكرم وأنعم وأتحف وعرف ورضي الله عن آله سراة الأئمة وأصحابه هداة الأمة ما أذهبت أنوار الحق ظلمات الباطل المدلهمة وسلم تسليما.
أما بعد فإن الله عز وجل وله المنة العظمى أكمل هذا الدين تممه حكما وأشار إلى ذلك في كتابه المنزل على خير مرسل حتما يقينا : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
فلم يبق بعد الكمال غاية تراد ولا حكم يوجب ولا فريضة تزاد والدين المشار إليه ما شرعه سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وإنما شرعه بأمر الله ووحيه وكشف بإذنه عن حقيقة أوامره ونهيه يعلم ذلك مبينا مشروحا من قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.(179/1)
وخرج الإمام الزاهد الكبير أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتابه الحجة على تارك المحجة من حديث سريج بن يونس عن المعاوفي ابن عمران عن الأوزاعي عن أبي عبيد يعني حاجب سليمان بن عبد الملك عن القاسم بن مخيمرة عن ابن نضيلة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا يسألني الله عز وجل عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرني الله عز وجل بها.
ورواه أبو بكر ابن أبي علي فقال أنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد ابن إبراهيم ثنا أحمد بن هارون ثنا سليمان بن سيف ثنا أيوب بن خالد ثنا الأوزاعي حدثني أبو عبيد حاجب سليمان بن عبد الملك حدثني القاسم بن مخيمرة حدثني طلحة بن نضيلة قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم سعر لنا يا رسول الله ، فقال : لا يسألني الله عز وجل عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرني بها ، ولكن سلوا الله من فضله.
تابعهما أبو يوسف محمد بن كثير المصيصي وأبو المغيرة عبد القدوس ابن الحجاج الخولاني وعيسى بن يونس عن الأوزاعي بنحوه.
وأبو عبيد مولى سليمان بن عبد الملك من ثقات تابعي أهل الشام اختلف في اسمه فقيل : حيي ؛ سماه مسلم بن الحجاج في كتابه الكنى ، وصدر به البخاري كلامه في التاريخ الكبير وقال : سماه هكذا عبد الله بن أبي الأسود ، ثم قال : قال عبد الحميد بن جعفر : حوي.انتهى.
وابن نضيلة مختلف في صحبته فالجمهور أنه تابعي كنيته أبو معاوية كوفي.
وقال أبو بكر ابن أبي داود السجستاني ثنا علي بن خشرم وعبد الله ابن سعيد قالا ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال :
كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن يعلمه إياها كما يعلمه القرآن.
تابعهما نعيم بن حماد عن عيسى ورواه روح بن عبادة وأبو إسحاق الفزاري ومحمد بن كثير المصيصي عن الأوزاعي نحوه.
وجوب اتباع السنة(179/2)
فالواجب على كل مسلم اتباع السنة المحمدية واقتفاء الآثار النبوية الأحمدية التي منها التمسك بسنة الخلفاء الراشدين والتبرك بآثار الأئمة المهديين.
ولقد أقام الناس على ذلك بعد عصر النبوة زمانا تابعين للشريعة النبوية احتسابا وإيمانا كما أشار إليه الإمام أبو الفنح نصر بن إبراهيم المقدسي في كتاب الحجة فقال :
وقد كان الناس على ذلك زمانا بعده إذ كان فيهم العلماء وأهل المعرفة بالله من الفهماء من أراد تغيير الحق منعوه ومن ابتدع بدعة زجروه وإن زاغ عن الواجب قوموه وبينوا له رشده وفهموه فلما ذهب العلماء من الحكماء ركب كل واحد هواه فابتدع ما أحب وارتضاه وناظر أهل الحق عليه ودعاهم بجهله إليه وزخرف لهم القول بالباطل فتزين به وصار ذلك عندهم دينا يكفر من خالفه ويلعن من باينه وساعده على ذلك من لا علم له من العوام ويوقع به الظنة والإيهام ووجد على ذلك الجهال أعوانا ومن أعداء العلم أخدانا أتباع كل ناعق ومجيب كل زاعق لا يرجعون فيه إلى دين ولا يعتمدون على يقين قد تمكنت لهم به الرئاسة فزادهم ذلك في الباطل نفاسة تزينوا به للعامة ونسوا شدائد يوم الطامة.
ثم روى الشيخ نصر بإسناده إلى محمد بن عبد الله ابن أبي الثلج قال حدثنا الهيثم بن خارجة ثنا هيثم بن عمران العبسي سمعت إسماعيل بن عبيد الله المخزومي يقول : ينبغي لنا أن نحفظ ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. فهو بمنزلة القرآن.
لا يقطع بالنار لأحد من أهل التوحيد.
ثم ذكر في معناه عدة أحاديث وآثار مروية في وجوب اقتفاء السنة النبوية التي منها حكم مسألة الوعيد والقطع بالنار لأحد من أهل التوحيد هذه أول مسألة فيما قيل وقع فيها النزاع الطويل وبسببها وحدثت بدعة الاعتزال وارتكس أهلها في دركة الضلال.(179/3)
ففي زمن التابعين كالحسن البصري وابن سيرين اختلفت طائفة جلة في حكم الفاسق من أهل الملة فذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يخرج من ملة الاسلام بفسوقه عن الطاعة ، وطائفة حكمت بأنه لا مؤمن ولا كافر لكنه يخلد في النار بما ارتكب من الكبائر ، وكان هؤلاء فيما خلا من الزمن يجلسون لأخذ العلم في حلقة الحسن فاعتزلوا الحلقة لمخالفتهم أهلها بما تقدم فلقبوا بذلك معتزلة لكن عن الخير إلى المأثم ثم أطلق الاعتزال على مذهبهم شهرة وكان ذلك على رأس المائة الثانية من الهجرة ثم اتسع عليهم مجال الاعتزال مع ضيقه فتاهوا عن الحق وضلوا عن طريقه.
وذهبت الخوارج إلى أن المسلم صاحب الذنوب الكبار كافر عندهم مخلد في النار وهذا مذهب باطل أحدثه أهل المروق بتكفير من كان من أهل القبلة بالفسوق.
والحق الذي لا ريب فيه ولا خلل يعتريه أن الحكم على مسلم معين بدخول النار غير جائز على ما جزم به جمهور أهل العلم وحمال الآثار لانتفاء حكم الوعيد عنه وخروجه سالما منه إما بتوبة خالصة أو حسنة ماحية أو مصيبة مكفرة أو شفاعة مقبولة ماضية.
قال الامام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمة الله عليه في كتاب السنة الذي رواه أبو العباس أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله الفارسي الاصطخري عن الإمام أحمد قال :
هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الآثار وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها ، فذكر السنة ومنها قال : والكف عن أهل القبلة ولا نكفر أحدا منهم بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل إلا أن يكون في ذلك حديث فيروى الحديث كما جاء وكما روي ونصدقه ونقبله ونعلم أنه كما روي نحو ترك الصلاة شرب الخمر وما أشبه ذلك ، أو يبتدع بدعة بنسب صاحبها إلى الكفر والخروج من الاسلام فاتبع الأثر في ذلك ولا تجاوزه.
وذكر بقية شرح السنة.(179/4)
ومعنى هذا الاستثناء المذكور يروى عن الزهري وغيره من أئمة المأثور من أن حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ونحوه من الأحاديث يؤمن بها وتمر على ما جاءت كما أمرها من كان قبلنا ولا يخاض في معناها.
والذي عليه إجماع أهل الحق على أن الزاني ونحوه من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان إن تابوا سقطت عقوبتهم وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في مشيئة الله إن شاء عفا عنهم وأدخلهم الجنة وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة.
عدم جواز اللعن
وقال العلامة شيخ الإسلام محي الدين أبو زكريا النووي رحمة الله عليه :
واتفق العلماء على تحريم اللعن فإنه في اللغة الإبعاد والطرد ، وفي الشرع الإبعاد من رحمة الله ؛ فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية فلهذا قالوا : لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله والمصورين والظالمين والفاسقين والكافرين ولعن الله من غير منار الآرض ومن تولى غير مواليه ومن انتسب إلى غير أبيه ومن أحدث في الإسلام حدثا أو آوى محدثا وغير ذلك مما جاءت النصوص الشرعية بإطلاقة على الأوصاف لا على الأعيان والله أعلم. قاله في شرح صحيح مسلم.
فلعن المسلم المعين حرام ، وأشد منه رميه بالكفر وخروجه من الإسلام وفي ذلك أمور غير مرضية منها إشمات الأعداء بأهل هذه الملة الزكية وتمكينهم بذلك من القدح في المسلمين واستضعافهم لشرائع هذا الدين(179/5)
ومنها أنه ربما يقتدى بالرامي فيما رمى فيتضاعف وزره بعدد من تبعه مأثما وقل أن يسلم من رمى بكفر مسلما ، فقد خرج أبو حاتم محمد بن حبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أكفر رجل رجلا إلا باء بأحدهما بها فإن كان كافرا وإلا كفر بتكفيره.
وله شاهد في الصحيحين من حديث أبي ذر وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ، وفي صحيح البخاري له شاهد أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وصح عن ثابت ابن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله.
وخرج أبو بكر البزار في مسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فهو كقتله.
وروينا من حديث الثوري عن يزيد ابن أبي زياد عن عمرو بن سلمة قال سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : ما من مسلمين إلا وبينهما ستر من الله عز وجل فإن قال أحدهما لأخيه كلمة هجر خرق ستر الله الذي بينهما ، ولا قال أحدهما أنت كافر إلا كفر أحدهما.
تابعه محمد بن فضيل وأبو إسحاق الفزاري عن يزيد.
فهل بعد هذا الوعيد من مزيد في التهديد ولعل الشيطان يزين لمن اتبع هواه ورمى بالكفر والخروج من الإسلام أخاه أنه تكلم فيه بحق ورماه وأنه من باب الجرح والتعديل لا يسعه السكوت عن القليل من ذلك فكيف بالجليل هيهات هيهات إن في مجال الكلام في الرجال عقبات مرتقيها على خطر ومرتقبها هوى لا منجى له من الأثم ولا وزر فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك.
طبقات النقاد(179/6)
والكلام في الرجال ونقدهم يستدعي أمورا في تعديلهم وردهم منها أن يكون المتكلم عارفا بمراتب الرجال وأحوالهم في الانحراف والاعتدال ومراتبهم من الأقوال والأفعال وأن يكون من أهل الورع والتقوى مجانبا للعصبية والهوى خاليا من التساهل عاريا عن غرض النفس بالتحامل مع العدالة في نفسه والاتقان والمعرفة بالأسباب التي يجرح بمثلها الانسان وإلا لم يقبل قوله فيمن تكلم وكان ممن اغتاب وفاه بمحرم.
وإذا نظرنا في طبقات النقاد من كل جيل الذين قبل قولهم في الجرح والتعديل رأيناهم أئمة بما ذكر موصوفين وعلى سبيل نصيحة الأمة متكلمين كمن كان في المائة وستين من الهجرة وما قاربها من السنين في طبقة النقاد المهرة مثل شعبة بن الحجاج والأوزاعي والثوري سفيان ومالك والليث والحمادين ومحمد بن مطرف أبي غسان.
ثم طبقة من كان قبيل المائة الثانية من الائمة الذين أقوالهم ماضية كعبد الله بن المبارك وجرير بن عبد الحميد وهشيم بن بشير وسفيان بن عيينة وإسماعيل ابن علية وأبي معاوية الضرير ويحيى بن سعيد القطان وهو أول من انتدب للنقد في هذا الشأن ، وبعده عبد الرحمن بن مهدي وطبقته إلى حدود المائتين وثلاثين كأبي داود سليمان بن داود الطيالسي والامام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وآخرين.
ثم تلاهم بعد ذلك يحيى بن معين في نقد الرجال ولا يضر اختلاف الرواية في واحد بأقوال وكذلك الامام أحمد بن حنبل وخلق من هذه الطبقة يحكم بنقدهم ويعمل مثل محمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن عبد الله بن عمار وعمرو بن علي الفلاس وقتيبة ومحمد بن بشار بندار.
وبعدهم طبقة البخاري محمد بن إسماعيل وقبيل الثلاثمائة بقليل كمحمد بن يحيى الذهلي وعبد الله الدارمي وأحمد بن الفرات وأبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم وابن خالته أبي حاتم الرازيين وخلق من الأثبات.(179/7)
ثم طبقة ما بين المائتين وسبعين إلى بعيد الثلاثمائة من السنين كأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ومحمد ابن ماجه وآخرين منهم أبو يعلى الموصلي وأحمد بن نصر الخفاف وعبد الله بن أحمد بن حنبل وإبراهيم بن معقل النسفي وأسلم بن سهل بحشل.
ومن بعد عصرهم بقليل كالمصنف النبيل إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة وعبد الله بن أبي داود وأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر الامام ومحمد بن جرير ويحيى بن صاعد وغيرهم من الاعلام.
ثم طبقة بعد العشرين وثلاثمائة عام إلى بعد الأربعين من الأعوام كأبي حامد أحمد بن الشرقي وأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الامام وعبد الرحمن بن أبي حاتم وأبي جعفر العقيلي محمد بن عمرو والحسين ابن إسماعيل المحاملي وغيرهم من نقاد هذا الأمر.
ثم طبقة من كان من الناقدين إلى بعيد الثلاثمائة وسبعين كأبي الحسين عبد الباقي بن قانع وأبي أحمد محمد بن أحمد العسال وأبي حاتم محمد ابن حبان والطبراني وأبي أحمد عبد الله بن عدي وعدة من الرجال.
ثم طبقة من كان بعدهم من الأعلام إلى حدود أربعمائة عام وفيها قل الاعتناء بالآثار لما ظهر من البدع وثار لاستيلاء آل بويه على العراق وبني عبيد الباطنية على مصر وغيرها من الآفاق وكان في هذه الطبقة عدة من أئمة السنة النبل كأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني وبه ختم معرفة العلل وأبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده العبدي والحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله الضبي.
ثم من بعدهم إلى بعيد الأربعمائة وثلاثين عدة من نقاد المحدثين كعبد الغني بن سعيد وأحمد بن علي السليماني وأبي بكر أحمد بن مردويه ومحمد ابن أبي الفوارس وأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني.
ثم من كان من الأعلام إلى حدود الخمسين وأربعمائة عام كأبي عبد الله محمد بن علي الصوري والحسن بن محمد الخلال والخليل بن عبد الله الخليلي وعدة من الرجال.(179/8)
ثم من كان بعد الخمسين إلى حدود أربعمائة وثمانين كأبي بكر البيهقي الامام وعبد الله بن محمد الانصاري شيخ الاسلام وأبي بكر أحمد بن علي خطيب بغداد وأبي عمر بن عبد البر وأبي الوليد الباجي وعدة من النقاد.
ثم من كان بعدهم إلى بعد الخمسمائة بقليل كأبي نصر علي بن ماكولا والشيخ نصر المقدسي النبيل وأبي علي الحسين بن محمد الغساني وأبي علي أحمد بن محمد البرداني.
ثم من كان بعد الخمسمائة بنحو أربعين سنة مقدرة كمحيي السنة الحسين بن محمد البغوي والقاضي أبي علي الحسين بن سكرة.
ثم من كان من نقاد المحدثين بعد الخمسمائة وأربعين كأبي الفضل محمد بن ناصر والسلفي أحمد بن محمد بن أبي طاهر والقاضي عياض ويوسف بن الدباغ أبي الوليد وأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المفيد وأبي العلاء الحسن بن أحمد شيخ همذان وأبي موسى محمد بن أبي بكر المديني محدث أصفهان وأبي القاسم علي بن عساكر حافظ الشام وأبي سعد عبد الكريم بن محمد بن السمعاني الامام.
ثم من كان الى حدود الستمائة وبعيدها من نقاد الرجال كعبد الحق الاشبيلي وأبي القاسم خلف ابن بشكوال وأبي بكر محمد بن موسى الحازمي وعبد الرحمن ابن الجوزي العالم الجواد وأبي المحاسن عمر بن علي الدمشقي وعدة من النقاد كعبد الغني المقدسي وعبد القادر الرهاوي وعبد العزيز بن الأخضر ببغداد وعلي بن المفضل الاسكندراني وأبي نزار ربيعة بن الحسن اليماني.
ثم كان في المائة السابعة طائفة لمن تقدم تابعة كأبي الحسن علي بن القطان النبيل واسماعيل بن الانماطي ويوسف بن خليل والضياء محمد بن عبد الواحد وأبي الربيع سليمان بن موسى الناقد.
ثم من بعدهم جماعة من الاعلام كأبي عمرو عثمان ابن الصلاح الامام والزكي عبد العظيم المنذري وأحمد بن محمود الجوهري.(179/9)
ثم طبقة النواوي شيخ الاسلام وأبي محمد عبد المؤمن الدمياطي الامام والمحب أحمد بن عبد الله الطبري مصنف الأحكام والعلامة أبي الفتح محمد بن دقيق العيد وأحمد بن فرح الاشبيلي المفيد.
ثم من بعدهم طبقة أبي الحجاج المزي حامل راية هذا الشان يوسف بن الزكي عبد الرحمن وأبي العباس أحمد ابن تيمية علم الأعيان والقاسم بن البرزالي ناقد الرجال وأبي عبد الله محمد بن الذهبي صاحب ميزان الاعتدال ومحمد بن عبد الرحمن بن سامة ومحمود بن أبي بكر الفرضي العلامة وعبد الكريم الحلبي قطب الدين ومحمد بن محمد بن محمد ابن سيد الناس في آخرين.
ثم طبقة محمد بن عبد الهادي المفيد والمؤرخ الدهلي سعيد وأحمد بن مظفر أحد الأيقاظ وخليل العلائي فقيه الحفاظ والعلامة إسماعيل بن كثير صاحب التاريخ والتفسير والسيد الحسيني محمد بن علي بن الحسن الشامي وأبي المعالي محمد بن رافع السلامي وطائفة ناقدة محررة كشيخنا أبي بكر محمد بن المحب صاحب كتاب التذكرة.
الطعن بسبب المذهب
فإذا نظرنا في كلام من ذكر وأشير إليه رأينا كلا منهم يعتمد في الجرح والتعديل عليه ولم نر أحدا منهم عمد إلى إمام جليل ثقة نبيل رماه عن الإسلام بالتحويل ولا أفصح بكفره تصريحا ولا حكم عليه بعد موته بالكفر تجريحا حاشا أئمة هذه السنة من الميل عن سنن الهدى أو الانحراف إلى قلة الانصاف باتباع الهوى لكن بعض الأعيان تكلم في بعض الأقران مثل كلام أبي نعيم في ابن منده وابن منده فيه فلا نتخذ كلامهما في ذلك عمدة بل ولا نحكيه لأن الناقد إذا بحث عن سبب الكلام في مثل ذلك وانتقد رآه إما لعداوة أو لمذهب أو لحسد وقل أن يسلم عصر بعد تلك القرون الثلاثة من هذه المهالك ومن نظر في التاريخ الاسلامي فضلا عن غيره حقق ذلك وما وقع منه في الأغلب كان سببه المذهب.(179/10)
ولقد قال إمام الجرح والتعديل والمعتمد عليه في المدح والقدح أبو عبد الله محمد ابن الذهبي فيما وجدته بخطه : ولا ريب أن بعض علماء النظر بالغوا في النفي والرد والتحريف والتنزيه بزعمهم حتى وقعوا في بدعة أو نعت الباري بنعوت المعدوم ، كما أن جماعة من علماء الأثر بالغوا في الاثبات وقبول الضعيف والمنكر ولهجوا بالسنة والاتباع فحصل الشغب ووقعت البغضاء وبدع هذا هذا وكفر هذا هذا ، ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين وأن نكفر مسلما موحدا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم وينزه ويعظم الرب. انتهى قول الذهبي.
أقسام الجرح والتعديل وسبب تأليف الكتاب
وجمهور النقاد وأئمة أهل الاسناد كلامهم منقسم في الجرح والتعديل إلى قوي ومتوسط وكلام فيه تسهيل وفي عصرنا هذا - الذي قل فيه من يدري هذا الفن أو يرويه أو يحقق تراجم من رأى من أهل مصره فضلا عمن لم يره أو مات قبل عصره - قد نطق فيه من لا خبرة له بتراجم الرجال ولا عبرة له فيما تقلده من سوء المقال ولا فكرة له فيما تطرق به إلى تكفير خلق من الاعلام بأن قال من سمى ابن تيمية شيخ الاسلام كان كافرا لا تصح الصلاة وراءه ؛ وهذا القول الشنيع الذي نرجو من الله العظيم أن يعجل لقائله جزاه قد أبان قدر قائله في الفهم وأفصح عن مبلغه من العلم وكشف عن محله من الهوى ووصف كيف اتباعه لسبيل الهدى ولا يرد بأكثر من روايته عنه ونسبته إليه فكلام الانسان عنوان عقله يدل عليه.
أما علم هذا القائل أن لفظة شيخ الاسلام تحتمل وجوها من معاني الكلام :
معنى شيخ الاسلام
منها أنه شيخ في الاسلام قد شاب وانفرد بذلك عمن مضى من الأتراب وحصل على الوعد المبشر بالسلامة أنه من شاب شيبة في الاسلام فهي له نور يوم القيامة.
ومنها ما هو في عرف العوام أنه العدة ومفزعهم إليه في كل شدة.
ومنها أنه شيخ الاسلام بسلوكه طريقة أهله قد سلم من شر الشباب وجهله فهو على السنة في فرضه ونفله.(179/11)
ومنها شيخ الاسلام بالنسبة إلى درجة الولاية وتبرك الناس بحياته فوجوده فيهم الغاية.
ومنها أن معناه المعروف عند الجهابذة النقاد المعلوم عند أئمة الاسناد أن مشايخ الاسلام والأئمة الاعلام هم المتبعون لكتاب الله عز وجل المقتفون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تقدموا بمعرفة أحكام القرآن ووجوه قراآته وأسباب نزوله وناسخه ومنسوخه والأخذ بالآيات المحكمات والايمان بالمتشابهات قد أحكموا من لغة العرب ما أعانهم على علم ما تقدم وعلموا السنة نقلا وإسنادا وعملا بما يجب العمل به اعتمادا وإيمانا بما يلزم من ذلك اعتقادا واستنباطا للأصول والفروع من الكتاب والسنة قائمين بما فرض الله عليهم متمسكين بما ساقه الله من ذلك إليهم متواضعين لله العظيم الشان خائفين من عثرة اللسان لا يدعون العصمة ولا يفرحون بالتبجيل عالمين أن الذي أوتوا من العلم قليل فمن كان بهذه المنزلة حكم بأنه إمام واستحق أن يقال له شيخ الاسلام.
وإذا نظرنا في مشايخ الاسلام بعد طبقة الصحابة وجدنا منهم خلقا بهذه المثابة رأينا أن نذكر الآن منهم عصابة :
فبالمدينة كسعيد بن المسيب المخزومي وبقية الفقهاء السبعة وغيرهم وبمكة مثل عطاء بن أبي رباح وطاووس ومجاهد وبالعراق كالحسن البصري وابن سيرين وعامر الشعبي وبالشأم نحو جنادة ابن أبي أمية وحسان بن عطية وآخرين من الطبقة الأولى من التابعين ومن بعدهم كمالك بن أنس وابن أبي ذئب بالمدينة وابن جريج وسفيان بن عيينة بمكة والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز بالشام والليث بن سعد وعمرو بن الحارث بمصر وسفيان الثوري وحماد بن زيد بالعراق وعبد الله بن المبارك بخراسان وهلم جرا في كل عصر وأوان وطبقة من الاعلام الأعيان.(179/12)
لكن كل طبقة دون التي قبلها فيما نعلم والفضل للسابق الذي سلف وتقدم فكل مقام له مقال وكل زمان له أئمة ورجال أين طبقة شيخ الاسلام أبي زكريا النواوي من طبقة من أخذ عنه بل أين طبقة شيخ الاسلام أبي محمد عبد الرحيم بن الحسن الاسنوي من طبقة أهل عصرنا حفظ الله خيارهم بما حفظ به الأبرار وأصلح شرارهم من ارتكاب الهوى الذي يهوي بصاحبه في النار.
نعم جماعة من الشافعية والحنابلة في طبقة شيوخ شيوخنا ومن فوقهم بقليل أطلق على كل واحد منهم شيخ الاسلام طائفة من أئمة الجرح والتعديل كأبي محمد عبد الرحمن بن ابراهيم الفزاري وأبي الفتح محمد بن علي القشيري وأبي محمد عبد الله بن مروان الفارقي الشافعيين وأبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي أول قضاة الحنابلة بدمشق وأبي محمد مسعود بن أحمد الحارثي وأبي العباس أحمد بن تيمية الحنبليين فهؤلاء بعض من سمي بشيخ الاسلام من هذه الطبقة وتسميتهم بذلك مشهورة محققة.
ومع احتمال وجوه معاني لفظة شيخ الاسلام كيف يكفر من سمي بها ابن تيمية الامام كما زعمه بعض من لا يدري أو يدري لكن هواه يصده عن الحق أن يعتمد عليه.
ولقد صدق العلامة الامام قاضي قضاة الاسلام بهاء الدين ابو البقاء محمد بن عبد البر بن يحيى السبكي الشافعي رحمه الله حيث يقول لبعض من ذكر له الكلام في ابن تيمية فقال :
والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى ؛ فالجاهل لا يدري ما يقول ، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به.
انتهى.
مع أن جماعة من الأئمة فيهم كثرة ترجموه بذلك وشهروا بإمامته ومرتبته وقدره أتراهم بهذا من الكفار الذين استوجبوا خلود النار لا والذي يقول للشيء كن فيكون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
منهج الكتاب(179/13)
وها أنا بعون الله العلي الكبير ذاكر من أثنى عليه بذلك وبغيره من الجم الغفير ممن حضرني ذكره وظهر لي بل لزمني إشاعته ونشره ليعلم من حكينا عنه التكفير بذلك ما وقع فيه من المآثم والمهالك ولقد كان العلامة الإمام قاضي قضاة مصر والشام أبو عبد الله محمد ابن الصفي عثمان بن الحريري الانصاري الحنفي كان يقول : إن لم يكن ابن تيمية شيخ الاسلام فمن.
وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك في ترجمته لأني رتبت اسماء من شهد لابن تيمية من الأعلام بإمامته وأنه شيخ الاسلام على حروف المعجم المألوفة اتباعا للطريقة المعروفة.
وابتدأت من ذلك بالمحمدين تبركا باسم سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين واقتداء بأول من رتب الأسماء على الحروف من المحدثين وهو أبو عبد الله البخاري شيخ الاسلام والمسلمين.
1 - ابن سيد الناس(179/14)
فمنهم الشيخ الامام الحافظ الفقية العالم الأديب البارع فتح الدين أبو الفتح محمد بن الحافظ أبي عمر محمد بن الحافظ العلامة الخطيب أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي القاسم بن سيد الناس اليعمري الاندلسي الاشبيلي ثم المصري الشافعي مولده بالقاهرة في العشر الاول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وستمائة وتوفي يوم السبت حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة وصلي عليه من الغد ودفن عند ابن أبي حمزة وكانت جنازته مشهودة وله مصنفات مفيدة ومؤلفات حميدة منها كتاب النفح الشذي في شرح كتاب الترمذي ، قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي : قال الحافظ فتح الدين أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري المصري بعد أن ذكر ترجمة شيخنا الحافظ المزي : وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الامام شيخ الاسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظا إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته برز في كل فن على أبناء جنسه ولم تر عين من رآه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير ويردون من بحره العذب النمير ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير إلى أن دب إليه من أهل بلده داء الحسد وأكب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد فحفظوا عنه في ذلك كلاما أوسعوه بسببه ملاما وفوقوا لتبديعه سهاما وزعموا أنه خالف طريقهم وفرق فريقهم فنازعهم ونازعوه وقاطع بعضهم وقاطعوه ثم نازع طائفة أخرى ينسبون من الفقر إلى طريقة ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة فكشف تلك الطرائق وذكر لها على ما زعم بوائق فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه(179/15)
واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه فوصلوا بالأمراء أمره وأعمل كل منهم في كفره فكره فرتبوا محاضر وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر وسعوا في نقله إلى حاضرة المملكة بالديار المصرية فنقل وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل وعقدوا لاراقة دمه مجالس وحشدوا لذلك قوما من عمار الزوايا وسكان المدارس من مجامل في المنازعة مخاتل بالمخادعة ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة يسومونه ريب المنون ، وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالا من المخاتل وقد دبت إليه عقارب مكره فرد الله كيد كل في نحره ونجاه على يد من اصطفاه والله غالب على أمره.
ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة ولم ينقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله وإلى الله ترجع الأمور وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وكان يومه مشهودا ضاقت بجنازته الطريق وانتابها المسلمون من كل فج عميق يتبركون بمشهده يوم تقوم الأشهاد ويتمسكون بشرجعه حتى كسروا تلك الأعواد وذلك في ليلة العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقلعة دمشق المحروسة وكان مولده بحران في عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة رحمه الله وإيانا.
ثم روي عنه ابن سيد الناس حديثا فقال :
وقرأت على الشيخ الامام حامل راية العلوم ومدرك غاية المفهوم تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمه الله بالقاهرة قدم علينا قلت له : أخبركم الشيخ الامام زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدايم ابن نعمة المقدسي ثم ذكر سنده إلى الحسن بن عرفة فروى من جزئه حديثا.
2 - ابن عبد الدائم(179/16)
ومنهم الشيخ العالم الفاضل المحدث البارع الأصيل شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ المسند أبي عبد الله محمد بن الشيخ المسند الكبير أبي بكر بن الامام العالم أبي العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير المقدسي الصالحي.
ولد سنة ثلاث عشرة وسبعمائة وسمع من أبيه وجده أبي بكر وآخرين وطلب بنفسه وعني بالمسائل فتفقه وحرر الاسامي وتنبه وتوفي سنة خمس وسبعين وسبعمائة وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وجدت بخطه في طبقة سماع صحيح مسلم على أبيه محمد بن أبي بكر وآخرين ما صورته :
وعلى الأخوين شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية وأخيه زين الدين عبد الرحمن جميع الميعاد الخامس سوى من أوله إلى قوله حدثنا زهير بن حرب حدثنا الوليد بن مسلم حدثني الاوزاعي حدثنا حسان بن عطية حدثني محمد ابن أبي عائشة أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع ...الحديث.
وذكر بقية طبقة السماع المشار إليها وهي نقل بخط المذكور معتمد عليها.
3 - ابن عبد الهادي
ومنهم الشيخ الامام العلامة الحافظ الناقد ذو الفنون عمدة المحدثين متقن المحررين شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ عماد الدين أبي العباس حمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الصالحي الحنبلي.(179/17)
ولد في شهر رجب سنة أربع وقيل سنة خمس وقيل سنة ست وسبعمائة قرأ القرآن العظيم بالروايات وسمع ما لا يحصى من المرويات من القاضي سليمان بن حمزة وأبي بكر بن عبد الدائم وآخرين ورافق الحفاظ والمحدثين وعني بالحديث وأنواعه ومعرفة رجاله وعلله وتفقه وأفتى ودرس وجمع وألف وكتب الكثير وصنف وتصدى للافادة والاشتغال في فنون من العلوم ومن مصنفاته تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق لابن الجوزي مجلدان والمحرر في الأحكام مختصر مفيد والكلام على مختصر ابن الحاجب مؤلفان مطول ومختصر وجزء في الرد على أبي حيان فيما رده على ابن مالك وجمع التفسير المسند لكنه مات قبل إتمامه.
وكان إماما في علوم كالتفسير والقراءات والحديث والأصول والفقه واللغة والعربية وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وفي طبقات الحفاظ وأثنى عليه فيهما ثناء حميدا ، وروى عن المزي عن السروجي عن ابن عبد الهادي.
وقال الذهبي : والله ما اجتمعت به قط إلا واستفدت منه. انتهى.
توفي رحمه الله في عاشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبعمائة ودفن بسفح قاسيون وكانت جنازته حافلة ورؤيت له منامات حسنة ومن مصنفاته ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية في مجلد قال فيه:
هو الشيخ الرباني إمام الأئمة ومفتي الأمة وبحر العلوم سيد الحفاظ وفارس المعاني والألفاظ فريد العصر وحيد الدهر شيخ الاسلام بركة الانام علامة الزمان وترجمان القرآن علم الزهاد وأوحد العباد قامع المبتدعين وآخر المجتهدين تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الامام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني نزيل دمشق وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها ولا يلحق في شكلها توحيدا أو تفسيرا وإخلاصا وفقها وحديثا ولغة ونحوا وبجميع العلوم.(179/18)
كتبه طافحة بذلك. ولقد ترجمه ابن عبد الهادي بشيخ الاسلام مرارا كثيرة وذكر من مناقبه في ترجمته أشياء خطيرة وعد كثيرا من مصنفاته ونص على نفائس من مؤلفاته وذكره في كتابه طبقات الحفاظ بترجمة مختصرة جامعة محررة من وصف الأئمة للشيخ تقي الدين ومنها ما يأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة ابن الزملكاني كمال الزين.
4 – الذهبي
ومنهم الشيخ الامام الحافظ الهمام مفيد الشام ومؤرخ الاسلام ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الأصل الدمشقي ابن الذهبي الشافعي.
مولده فيما وجدته بخطه في سنة ثلاث وسبعين وستمائة وتوفي ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة ودفن من الغد بمقبرة الباب الصغير من دمشق رحمه الله تعالى ومشيخته بالسماع والاجازة نحو ألف شيخ وثلاثمائة شيخ يجمعهم معجمه الكبير وكان آية في نقد الرجال عمدة في الجرح والتعديل عالما بالتفريع والتأصيل إماما في القراءات فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأربابا المقالات قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف انشدونا عنه لنفسه :
الفقه قال الله قال رسوله إن صح والاجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة بين النبي وبين رأي فقيه
وله المؤلفات المفيدة والمختصرات الحسنة والمصنفات السديدة منها تاريخ الاسلام في عشرين مجلدا وسير النبلاء في عشرين مجلدا وميزان الاعتدال في نقد الرجال وغير ذلك ، وهو الذي قال فيه الامام العلامة الأوحد أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم ابن الموصلي الاطرابلسي الشافعي لما قدم دمشق متوجها إلى الحج سنة أربع وثلاثين وسبعمائة
ما زلت بالسمع أهواكم وما ذكرت أخباركم قط إلا ملت من طرب
ولست من عجب أن ملت نحوكم فالناس بالطبع قد مالوا إلى الذهب(179/19)
ولقد وجدت بخطه في مواضع عدة سمى فيها الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام منها في الاستجازة الكبيرة المعروفة بالألفية بخط المحدث أبي عبد الله محمد بن يحيى بن سعد المقدسي سأل فيها الاجازة من مشايخ العصر لأكثر من الف انسان مؤرخة بيوم الاحد سابع عشر شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وسبعمائة فأول من أجاز وكتب فيها خطه بذلك الشيخ تقي الدين فوجدت بخطه أول الشيوخ المجيزين ما صورته :
أجزت لهم ما سئلت إجازته بشروطه كتبه أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية.
وكتب قبالة ذلك الحافظ أبو عبد الله الذهبي المذكور ما وجدته بخطه :
هو شيخ الاسلام تقي الدين سمع ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وسمع مسند أحمد والكتب الستة وشيئا كثيرا وهو حافظ عارف بالرجال.
ووجدت بخط الذهبي أيضا على حاشية استدعاء إجازة ما صورته :
فوائد نقلها كاتبها محمد بن أحمد من إجازة شيخ الاسلام أبي العباس بن تيمية لأهل سبتة. انتهى.
وكانت هذه الاجازة سنة تسع وسبعمائة بثغر الاسكندرية وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وكتب الحافظ الذهبي أيضا طبقة سماع كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام على مؤلفه الشيخ تقي الدين والطبقة آخر الكتاب فقال :
سمع هذا الكتاب على مؤلفه شيخنا الامام العالم العلامة الأوحد شيخ الاسلام مفتي الفرق قدوة الأمة أعجوبة الزمان بحر العلوم حبر القرآن تقي الدين سيد العباد أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله تعالى عنه. وذكر بقية الطبقة.
وقال الحافظ علم الدين أبو محمد القاسم بن البرزالي : رأيت في إجازة لابن الشهرزوري الموصلي خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية قد كتب تحته الشيخ شمس الدين الذهبي :(179/20)
هذا خط شيخنا الامام شيخ الاسلام فرد الزمان بحر العلوم تقي الدين مولده عاشر ربيع الاول سنة إحدى وستين وستمائة وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهوو دون البلوغ برع في العلم والتفسير وافتى ودرس وله نحو العشرين وصنف التصانيف وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره في أيام الجمع وكان يتوقد ذكاء وسماعاته من الحديث كثيرة وشيوخه أكثر من مائتي شيخ ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلا عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيرا ويدري جملة صالحة من اللغة وعربيته قوية جدا ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت وهو أحد الاجواد الاسخياء الذين يضرب بهم المثل وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس. انتهى.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي مرة أخرى في ترجمة الشيخ تقي الدين بن تيمية :(179/21)
وله باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة وصنف فيها واحتج لها بالكتاب السنة ولما كان معتقلا بالاسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له مروياته وينص على أسماء جملة منها فكتب في عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدث يكون وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين بل بما قام الدليل عليه عنده ولقد نصر السنة المحضة والطريقة السلفية واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه وبدعوه وناظروه وكاتبوه وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر منه من الورع وكمال الفكر وسعة الإدراك والخوف من الله العظيم والتعظيم لحرمات الله فجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله تعالى فإنه دائم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التوكل ثابت الجأش له أوراد وأذكار يدبجها بكيفية وجمعية وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء ومن الجند والأمراء ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم ليلا ونهارا بلسانه وقلمه ، وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال وببعضها يتشبه أكابر الأبطال فلقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه وقام وقعد وطلع وخرج واجتمع بالملك مرتين وبخطلو شاه وببولاي وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت إني ما رأيت بعيني مثله ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم.
وقال الذهي أيضا :(179/22)
جمعت مصنفات شيخ الاسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه فوجدته ألف مصنف ثم رأيت له أيضا مصنفات أخر.
وترجمة أبي عبد الله الذهبي للشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام اشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر من ذلك في قصيدته التي رثاه بها بعد موته وهي ما أنبأنا شيخنا الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن الإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد السعدي قال أنشدنا الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن الذهبي لنفسه يرثي شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه:
يا موت خذ من أردت أو فدع محوت رسم العلوم والورع
أخذت شيخ الإسلام وانفصمت عرى التقى واشتفى منه أولو البدع
غيبت بحرا مفسرا جبلا حبرا تقيا مجانب الشيع
فإن يحدث فمسلم ثقة وإن يناظر فصاحب اللمع
وإن يخض نحو سيبويه يفه بكل معنى من الفن مخترع
وصار عالي الإسناد حافظه كشعبة أو سعيد الضبعي
والفقه فيه فكان مجتهدا وذا جهاد عار من الجزع
وجوده الحاتمي مشتهر وزهده القادري في الطمع
أسكنه الله في الجنان ولا زال عليا في أجمل الخلع
مع مالك الإمام وأحمد والنعمان والشافعي والخلعي
مضى ابن تيمية وموعده مع خصمه يوم نفخة الفزع
5 - ابن الواني المؤذن(179/23)
ومنهم الشيخ الامام المحدث العالم المفيد أمين الدين جمال المحدثين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ المسند أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد ابن أحمد ابن الواني المؤذن توفي سنة خمس وثلاثين وسبعمائة بعد وفاة أبيه ببضع وأربعين يوما وكانت وفاة أبيه يوم الخميس سادس صفر من السنة وبعد موت أمين الدين بقليل رؤي في المنام وذلك فيما قال الفقيه المحدث تقي الدين أبو عبد الله محمد ابن الخطيب جلال الدين محمد بن محمد البخاري وفي يوم الاربعاء بعد العصر خامس جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وسبعمائة أخبرني الشيخ علم الدين البرزالي أن شمس الدين السراج أخبره أنه رأى في منامه أمين الدين الواني المؤذن رحمه الله أنه قاعد على باب حانوت وعليه ثياب حسنة فقلت له ايش حسك قال بخير قال وان هناك خيمة في الحانوت فتعجبت من ذلك وقلت خيمة تكون في حانوت فقلت لأمين الدين الواني أخبرني عن فخر الدين البعلبكي قال لا أعرف فقلت له لأي شيء ما تعرف وهو مات قبلك فقال تعالى الى عندي قال فجئت إليه فقال لي في اذني قليلا قليلا فخر الدين في السماء التي فيها ابن تيمية والسراج المذكور هو أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن تمام بن يحيى السراج الحراني وفخر الدين البعلبكي هو الامام عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن البعلبكي رحمه الله تعالى وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى(179/24)
خرج المحدث أمين الدين الواني المذكور للشيخ تقي الدين ابن تيمية جزءا عن كبار مشايخه الذين سمع منهم وحدث به الشيخ تقي الدين فسمعه منه جماعة منهم ما قال المخرج فيما وجدته بخطه وسمع صاحبه الأمير الأجل الأفضل علاء الدين أبو الحسن علي بن قيران السكري على الشيخ الامام العلامة الأوحد الحبر البحر القدوة الكامل الراسخ تقي الدين شيخ الاسلام علامة الاعلام قدوة الائمة مفيد الأمة قامع البدعة ناصر السنة بقية المجتهدين إمام السالكين فريد عصره ووحيد دهره أبي العباس أحمد ابن الشيخ الامام العلامة شهاب الدين أبي محمد عبد الحليم ابن شيخ الاسلام العلامة مجد الدين أبي محمد عبد السلام بن عبد الله بن محمد ابن تيمية فسح الله في مدته وأعاد من بركته جزءا فيه أربعون حديثا عن أكابر شيوخه وعواليهم الذين سمع منهم انتقاه له مثبت هذا السماع محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد الواني بقراءة الامام محب الدين عبد الله ابن المحب المقدسي في يوم ثامن عشر من ربيع الآخر سنة سبع عشرة وسبعمائة بمشهد عثمان من جامع دمشق وأجاز له الحمد لله رب العالمين .(179/25)
[ وقال مخرج الأربعين أيضا فيما وجدته بخطه على جزء بالاربعين : سمع جميع هذا الجزء على المخرج له سيدنا وشيخنا الشيخ السند الامام العلامة البارع الأوحد القدوة الحافظ الناقد الحجة العمدة الكامل الراسخ الحبر البحر تقي الدين شيخ مشايخ الاسلام وأوحد العلماء الأعلام إمام الطوائف كنز المستفيدين بحر العلوم آخر المجتهدين أبي العباس أحمد ابن الشيخ الامام العلامة شهاب الدين عبد الحليم ابن العلامة الأوحد المجتهد مجد الدين عبد السلام ابن عبد الله بن محمد ابن تيمية الحراني فسح الله في مدته بسماعه من شيوخه فيه بقراءة أبي عبد الله محمد بن محمد بن إسماعيل بن نصر الله ابن النحاس وقال ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد الواني وهذا خطه ثم قال وثبت في يوم الاحد ثاني عشر جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة بدار الحديث السكرية بدمشق وأجاد وقد وجدت أيضا بخط الأمين ابن الواني المذكور طبقة سماع لجزء الحسن بن عرفة صورتها سمع جميع هذا الجزء وهو حديث الحسن بن عرفة العبدي على المشايخ الاثنين والعشرين الامام العلامة الحجة الحافظ القدوة الزاهد الورع شيخ الاسلام قدوة الأنام
مفتي الشام أوحد العصر فريد الدهر بركة الوقت تقي الدين أبي العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني.
وذكر بقية طبقة السماع وذكر السامعين ثم قال وكاتب هذه الطبقة محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الواني وحضر أخوه أحمد في السنة الرابعة وذكر بقية ذلك.
6 - ابن المهندس(179/26)
ومنهم الشيخ الامام العالم البارع الأوحد المحدث الفقيه شمس الدين جمال الفقهاء مفيد المحدثين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن غنائم بن وافد بن سعيد الصالحي الحنفي ابن المهندس كتب الكثير ورحل ودأب وسمع وسمع وطبق وكتب وعني بهذا الشأن وأخذ عن خلق وجماعة من الأعيان نسخ تهذيب الكمال تأليف المزي مرتين ونسخ كتاب الاطراف للمزي أيضا بخطه الواضح الحسن وكان دينا متواضعا ولد سنة خمس وستين وستمائة وتوفي يوم الثلاثاء عاشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة بدمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى ترجم الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام مرارا منها ما وجدته بخطه على جزء الحسن بن عرفة سمع جميع هذا الجزء وهو جزء الحسن بن عرفة المشايخ الاثنين والعشرين شيخنا الامام العلامة الحجة الحافظ القدوة الزاهد الورع شيخ الاسلام قدوة الأنام مفتي الشام أوحد العصر فريد الدهر تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم ابن محمد ابن تيمية الحراني وسيدنا قاضي القضاة نجم الدين ضياء الإسلام شرف الأنام رئيس الاصحاب صدر الشآم سيد العلماء والحكام أبي العباس أحمد ابن محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي وذكر بقية المشايخ وطرقهم إلى الحسن بن عرفة ثم قال بقراءة الامام العالم المحدث المتقن علم الدين أبي محمد القاسم ابن محمد بن يوسف بن البرزالي ابنه محمد وذكر طائفة من السامعين ثم قال وآخرون على نسخة القارئ منهم كاتب السماع بن ابراهيم بن غنائم ابن المهندس وابنه عبد الله جبره الله وصح ذلك وثبت يوم الجمعة
ثالث ربيع أول سنة اثنتين وسبعمائة بجامع دمشق بالكلاسة واجاز المشايخ للجماعة مالهم روايته والحمد لله وحده.
7 - الخزرجي البياني(179/27)
ومنهم الشيخ الصالح العالم المسند الكبير شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن يعقوب بن الياس الأنصاري الخزرجي ابن امام الصخرة البياني الدمشقي المقدسي من أصحاب الفخر ابن البخاري وزينب ابنة مكي وابن المجاور وحدث مرارا
قال اخبرنا شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس احمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني رحمة الله عليه بجميع كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان مناولة فذكره قرأه عليه بهذا الاسناد الامام العلامة ذو الفنون أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري رحمة الله عليه.
8 - ابن بردس
ومنهم الشيخ الصالح الامام العلامة مفتي المسلمين مفيد الطالبين بقية المسندين تاج الدين أبو عبد الله محمد ابن الحافظ عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن محمد بن بردس بن نصر بن بردس بن رسلان البعلبكي الحنبلي مولده فيما حدثني به يوم السبت الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة ببعلبك أسمعه والده الكثير وقرأ هو بنفسه وطلب واجتهد في تحصيل العلم ودأب وروى كثيرا من مسموعاته وانتفع كثير بفقهه ومروياته ولم يزل على خير فيما نعلم إلى أن جاءه الأمر المحكم وجدت بخطه رحمه الله تعالى على فتاوى فقهية سئل عنها الشيخ تقي الدين ابن تيمية ما صورته
سئل الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام مفتي الأنام بقية السلف الكرام العالم الرباني والحبر النوراني مظهر آثار المرسلين وكاشف حقائق الدين تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ثم ذكر المسائل وجواب الشيخ تقي الدين عنها.
9 - ابن النقيب القرماني(179/28)
ومنهم الإمام العالم المحدث المفيد شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن حسن بن أحمد بن إسرائيل الخبري ابن النقيب نقيب القرماني ولد سنة نيف وسبعمائة أكثر عن الحافظين المزي والذهبي وسمع من أصحاب ابن عبد الدائم وغيره وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال وعلى ذهنه متون ومسائل وعلق كثيرا وقراءته جيدة بينة وسمع من ابن الشحنة انتهى ترجم الشيخ تقي الدين ابن تيمية بشيخ الاسلام ووجدت بخطه نقل طبقة سماع على كتاب الجمعة للقاضي أبي بكر احمد بن علي المروزي صورته سمع جميع هذا الجزء على الشيخ الجليل فخر الدين أبي المكارم خطاب بن محمد ابن أبي الكرم بن كنانة الموصلي قال أخبرنا أبو محمد عبد الوهاب ابن ظافر ابن رواج قراءة علي وأنا أسمع قال قرئ على الامام الحافظ أبي طاهر احمد بن محمد السلفي وساق ابن النقيب المذكور بقية الإسناد إلى المؤلف وقال بقراءة الامام العلامة شيخ الاسلام بقية السلف تقي الدين أبي العباس احمد بن تيمية رحمة الله عليه الشيخ الامام الحافظ علم الدين أبو محمد القاسم بن محمد ابن يوسف البرزالي أحسن الله إليه وصح ذلك وثبت في يوم الجمعة منتصف رمضان سنة إحدى وثمانين وستمائة وذكر ابن النقيب أنه نقله من خط البرزالي.
10 - ابن المنصفي الحريري
ومنهم الشيخ الصالح الزاهد العابد العالم الفقيه الحافظ المفيد شمس الدين مفتي المسلمين أبو عبد الله محمد بن خليل بن محمد بن طوغان بن عبد الله التركي المنصفي الحنبلي الحريري مولده تقريبا سنة ست وأربعين وسبعمائة انتقى على بعض الشيوخ وخرج وأكثر عن شيخنا الحافظ ابي بكر بن المحب وبه تخرج وسمع من خلق كثير منهم عثمان بن يوسف ابن غدير وحرر في هذا الشأن أيما تحرير توفي بقلعة دمشق عقيب فتنة التتار من محنة حصلت له فيها وحريق بالنار وذلك في سنة ثلاث وثمانمائة وكان معظما للشيخ تقي الدين محبا له بكثرة وترجمه بشيخ الإسلام غير ما مرة.
11 - ابن رافع(179/29)
ومنهم الشيخ الامام العلامة الزاهد الورع الحافظ الفقيه الناقد المفيد عمدة المحدثين تقي الدين أبو المعالي محمد ابن الشيخ المحدث الزاهد جمال الدين أبي محمد رافع ابن أبي محمد هجرس بن محمد بن شافع ابن محمد بن نعمة بن فتيان بن منير بن سعد الصميدي السلامي ثم المصري ثم الدمشقي الشافعي ولد بالقاهرة سنة أربع وسبعمائة في ليلة الأربعاء تاسع ذي القعدة وتوفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة سمع من الحسن سبط زيادة وابن القيم وجماعة حضورا وارتحل به والده سنة
أربع عشرة فأسمعه من القاضي سليمان بن حمزة وأبي بكر بن عبد الدائم وطائفة وسمع جميع تهذيب الكمال من الحافظ أبي الحجاج ثم توفي والده فحبب إليه هذا الشأن.
وحج وقدم علينا سنة ثلاث وعشرين وقد صار ذا معرفة فسمع الكثير ثم رجع ثم قدم من العام القابل فازداد واستفاد ثم قدم سنة تسع وعشرين وذهب إلى حماه وحلب روى لنا عن ابي حيان قصيدة وتحول إلى دمشق سنة تسع وثلاثين فاستوطنها وحصل له وظائف قاله الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين خرج ابن رافع لنفسه معجما حافلا وخرج له الحافظ الذهبي جزءا من العوالي عن طائفة من مشايخه سمعه منه جماعة من العلماء في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة.(179/30)
ووجدت بخطه طبقة السماع في بيت بني المحب صورتها وسمع صاحبه الولد السعيد أبو الفتح أحمد وأخوه محمد على الشيخ الامام العالم الأوحد الحبر الكبير شيخ العلماء بركة الأنام كنز المستفيدين القدوة العمدة الحافظ تقي الدين ابي العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم ابن تيمية الحراني جزءا فيه أربعون حديثا من مروياته خرجها له الامام امين الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الواني عن كبار مشايخه الذين سمع منهم وذكر بقية السماع وانه كان بدار الحديث السكرية بالقصاعين من دمشق واحال على القراءة والتاريخ المذكورين قبل هذه الطبقة فالسماع بقراءة والد أبي الفتح أحمد واخيه ولدي الإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله المقدسي والتاريخ في يوم الجمعة بعد الصلاة رابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وسبعمائة ثم كتب ابن رافع آخر الطبقة المشار إليها ما صورته واجاز كاتبه محمد بن رافع ابن أبي محمد وسمع معهما انتهى ما وجدته.
12 - ابن نجيح
ومنهم الشيخ العالم الفقية العابد الناسك شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ سعد الدين أبي محمد سعد الله بن عبد الأحد بن سعد الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن عمر الحراني بن نجيح سمع من أبي الحسن علي ابن البخاري وآخرين وتفقه بجماعة منهم الشيخ تقي الدين وأذن له في الإفتاء فأفتى.
وكان من خيار المسلمين توفي بوادي بني سالم بين الحرمين بعد فراغه من الحج فحمل إلى المدينة الشريفة ودفن بالبقيع في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة وكان للشيخ تقي الدين من جملة ملازميه والخدام وكان يترجمه فيما ننقله عنه ويحكيه بشيخ الاسلام.
13 - ابن الصيرفي(179/31)
ومنهم الشيخ العالم الفاضل المحدث المفيد المخرج المجيد الرحال جمال المحصلين ناصر الدين أبو المعالي محمد بن طغريل بن عبد الله الخوارزمي ابن الصيرفي المتصوف ولد سنة ثلاث وتسعين وستمائة ورحل إلى عدة من الأقطار وأخذ عن خلائق من رواة الآثار ومنهم أبو بكر بن عبد الدائم وعيسى المطعم والحجار وجد في الطلب وأجاد وخرج لجماعة من الشيوخ وأفاد مات بحماه في شهر ربيع الأول سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
وجدت بخطه تقييد سماع لجزء أبي مسعود احمد بن الفرات الرازي على أربعة وأربعين شيخا ذكره منهم الشيخ تقي الدين فقال فيما وجدته بخطه: وسيدنا الشيخ الإمام العلامة الصدر الكبير الكامل القدوة الحافظ الزاهد العابد الورع شيخ الاسلام مفتي الفرق حجة المذهب مقتدى الطوائف لسان الشريعة مجتهد العصر وحيد الدهر إمام الائمة تقي الدين أبي العباس أحمد بن الشيخ الامام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني أعاد الله علينا من بركته وشيخنا الإمام العالم الزاهد الورع المحدث العمدة الحجة الحافظ الكبير محدث العصر جمال الدين أبي الحجاج يوسف ابن الزكي عبد الرحمن بن يوسف المزي وذكر بقية المشايخ واسانيدهم والقارئ وبعض السامعين.
ثم قال وصح ذلك وثبت في يوم الجمعة بعد الصلاة الثاني عشر من شهر رمضان المبارك سنة سبع عشرة وسبعمائة بمشهد عثمان بجامع دمشق وسمع معه جماعة منهم مثبتة ضابط أسماء السامعين خادم الحديث النبوي محمد بن طغريل بن عبد الله المعروف بابن الصيرفي عفا الله عنه ولطف به وسامحه وعدة السامعين الذين كمل لهم سماع الجزء ثلاثمائة وخمسة عشر وعدة الذين سمعوا له يفرق تسعة وعشرين نفسا.
14 - ابن طولوبغا(179/32)
ومنهم الشيخ العالم المحدث المفيد ناصر الدين ابو نصر محمد ابن الأمير السيفي طولوبغا ابن عبد الله التركي الدمشقي ولد سنة ثلاث عشرة وسبعمائة وسمع من الحجار وخلق من ذوي الاسناد وكتب كثيرا واستفاد وأفاد وجدت بخطه في مواضع كثيرة ترجم فيها الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام ترجمته المشهورة ونقل من كلامه جملا مفيدة
منها ما وجدته بخطه فيما يتعلق بالعقيدة انه قال ومذهب السلف والأئمة كالأربعة وغيرهم إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل وليس لأحد أن يضع عقيدة ولا عبادة من عند نفسه بل عليه أن يتبع ولا يبتدع ويقتدي ولا يبتدي.
15 - ابن المحب الصامت(179/33)
ومنهم الشيخ الإمام الزاهد العابد العلامة النبيل المحدث الأصيل الحافظ الكبير المسند الكثير عمدة الحفاظ شيخ المحدثين شمس الدين أبو بكر محمد بن الشيخ العالم الحافظ القدوة محب الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد ابن المحب عبد الله بن احمد بن محمد بن ابراهيم بن احمد بن عبد الرحمن بن اسماعيل بن منصور بن عبد الرحمن السعدي المقدسي ثم الصالحي الحنبلي الشهير بالصامت لقب بذلك لكثرة سكوته عن فضول الكلام وكان يكره أن يدعى بهذا اللقب بين الأنام ولد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وتوفي سنة ثمان وثمانين بصالحية دمشق الكبرى وبها دفن رتب مسند الإمام أحمد على الابواب فاتقن وأجاد وصنف كتاب التذكرة في الضعفاء فأفاد ولقد وجدت بخطه في مواضع كثيرة وأماكن متباينة بخطه مسطوره ترجمة الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام وهو أجل شيوخه من الأئمة الأعلام ومدحه بقصائد من النظام ( وجدت بخطه طبقة سماع على عوالي مسند الحارث بن أبي أسامة أولها وسمعتها على شيخنا الامام الرباني شيخ الإسلام إمام الأئمة الأعلام بحر العلوم والمعارف أبي العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية اثابه الله الجنة بسماعه من احمد ابن أبي الخير بسنده ومن والده واحمد بن عبد الرحمن ابن العنيقة الحراني واحمد بن محمد الطاهر ابن المحدث بسماعهم من يوسف بن خليل بقراءة والدي أبي محمد عبد الله بن احمد بن المحب ابن محمد وهذا خطه وذكر بقية السامعين وأن السماع كان يوم الاثنين سادس عشر جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة وسبعمائة بقرية المزة وقال وأجاز لهم مروياته ومؤلفاته.(179/34)
قال شيخنا ابن المحب المشار إليه في كتابه تكملة المختارة التي ألفها ضياء الدين المقدسي فيما وجدته بخطه أخبرنا شيخ الاسلام أبو العباس احمد بن عبد الحليم ابن تيمية وحافظ عصره أبو الحجاج المزي قالا اخبرنا احمد ابن أبي الخير انبأنا خليل ابن أبي الرجا زاد ابو العباس فقال وأخبرنا والدي ابو المحاسن واحمد بن العنيقة واحمد ابن الظاهري واخبرنا ابراهيم بن صالح بن هاشم قالوا أخبرنا يوسف ابن خليل قال أخبرنا خليل الداراني فذكر حديثا وقال شيخنا أيضا فيما ذكره من أوهام يسيرة وقعت للشيخ تقي الدين قال فيما وجدته بخطه.
وحسب شيخنا مع اتساعه في كل العلوم إلى الغاية والنهاية سمعا وعقلا نقلا وبحثا ان يكون نادر الغلط كما كان أخوه أبو محمد ابن تيمية فيما بلغني عنه يقول أخي نادر الغلط وكان أبو محمد من الناقدين حديثا وفقها وعربية انتهى.
16 - ابن سوار السبكي(179/35)
ومنهم الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة بهاء الدين علم المناظرين أحد المتبحرين أبو البقاء محمد بن عبد البر بن يحيى [ بن علي ] ابن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن تميم بن حامد بن يحيى بن عمر ابن عثمان بن علي بن مسوار بن سوار بن سليم الأنصاري الخزرجي السبكي الشافعي مولده في شهر ربيع الأول سنة سبع وسبعمائة وتوفي يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وسبعمائة بدمشق سمع الحديث من خلق منهم أحمد بن الشحنة ووزيرة بنت عمر بن المنجي وأبو الحسن الواني ويونس الدبوسي وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين فقال إمام متبحر مناظر بصير بالعلم محكم للعربية وغيرها وقال وناب في الحكم لابن عمهم مع الدين والتقوى والتصون انتهى نيابته للحكم المشار اليها كانت عن الإمام تقي الدين السبكي ثم ولي القضاء استقلالا سنة ثمان وخمسين وسبعمائة فمكث فيه مدة يسيرة ثم ولي قضاء الديار المصرية سنة ست وستين ثم صرف عنه سنة اثنتين وسبعين ثم ولي قضاء دمشق ثانيا وبها توفي رحمة الله تعالى عليه في التاريخ المتقدم حكى بعض من لقيته من الشيوخ العلماء أنه حضر مرة مع قاضي القضاة أبي البقاء شيخ الشافعية درسا ألقاه بالمدرسة الرواحية وهي داخل باب الفراديس من دمشق فجاءه جماعة من طائفة القلندرية يسألونه فأمر لهم بشيء وكان إذ ذاك حاكما بدمشق على القضاء بها ثم جاءه طائفة أخرى من الحيدرية وهو يتوضأ على بركة المدرسة المذكورة فسألوه فأمر لهم بشيء ثم جاء فصلى ركعتين ثم قال رحم الله ابن تيمية كان يكره هؤلاء الطوائف على بدعهم قال فلما قال ذلك ذكرت له كلام الناس في ابن تيمية فقال لي وكان ثم جماعة حاضرون قد تخلفوا بعد الدرس يشتغلون عليه والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى فالجاهل لا يدري ما يقول وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به قال فاعجبني ذلك منه وقبلت يده وقلت له جزاك الله خيرا انتهى.(179/36)
هذا حال راوي هذه الحكاية فكيف لو سمع ما صحت به الرواية عن الشيخ تقي الدين السبكي شيخ الإسلام في مدحه الشيخ تقي الدين ابن تيمية الإمام لطار فرحا من السرور وقضى عجبا من وقوع ذلك لما علم ما حصل من الشرور ولا نشد متمثلا بذلك البيت المشهور
ومليحة شهدت لها ضراتها % والفضل ما شهدت به الأعداء
كتب الحافظ أبو عبد الله الذهبي فيما اشتهر إلى الشيخ تقي الدين السبكي يعاتبه على ما صدر فكتب الجواب يعتذر عن تلك الحادثات ومن بعضه ما أشار إليه الشيخ زين الدين بن رجب في كتابه الطبقات فقال ومما وجد في كتاب كتبه العلامة قاضي القضاة أبو الحسن السبكي إلى الحافظ أبي عبد الله الذهبي في أمر الشيخ تقي الدين أما قول سيدي في الشيخ فالمملوك يتحقق كبر قدره وزخارة بحره وتوسعه في العلوم الشرعية والعقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي لا يتجاوز الوصف والمملوك يقول ذلك دائما وقدره في نفسي أعظم من ذلك وأجل مع ما جمع الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجريه على سنن السلف وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان بل من أزمان انتهى.
17 - ابن جيش الرقي المؤذن
ومنهم الشيخ الصالح المقرئ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان ابن جيش بن علي الدمشقي المؤذن حضر على القاضي سليمان وسمع من أبي بكر بن احمد بن عبد الدائم وعيسى المطعم وهذه الطبقة أجاز له في سنة ثلاث عشرة وسبعمائة جماعة من شيوخ دمشق ومصر ذكره الإمام أبو العباس بن حجي في معجم شيوخه ترجم الشيخ تقي الدين بشيخ الإسلام فيما سمعه منه النور علي بن محمد بن أيدغدي فيما وجدته بخطه.
18 - ابن الحريري
ومنهم الشيخ الإمام قاضي قضاة مصر والشام وأحد أعيان الاعلام شمس الدين مفتي المسلمين مفيد الطالبين ابو عبد الله محمد ابن الشيخ صفي الدين ابي عمرو عثمان بن أبي الحسن بن عبد الوهاب الأنصاري الحنفي ابن الحريري.(179/37)
ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة وتوفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة كان يقول إن لم يكن ابن تيمية
شيخ الإسلام فمن وقال مرة لبعض أصحابه أتحب الشيخ تقي الدين قال نعم قال والله لقد أحببت شيئا مليحا حكى ذلك عن قاضي القضاة ابن الحريري المذكور الحافظ العلامة أبو الفداء إسماعيل بن كثير في تاريخه فيمن توفي سنة ثمان وعشرين من الأعيان.
19 - ابن شكر
ومنهم الشيخ الإمام العالم الفقيه الفاضل المحدث المفيد شمس الدين ابو عبد الله محمد بن عثمان بن عبد الله بن شكر النبحاني نزيل دمشق الحنبلي ذو التصانيف الجمة التي منها كتاب نصيحة الأمة في عقائد الأئمة في مجلدين سمع من محمد بن اسماعيل بن الخباز وخلق من المتأخرين حتى من اقرانه من المحدثين ومن دونهم من المسندين ذكره الامام ابو العباس احمد بن حجي في معجم شيوخه مولده فيما وجدته بخطه سنة خمس وعشرين وسبعمائة وكان يترجم الشيخ تقي الدين ابن تيمية بشيخ الإسلام ويعظمه كثيرا .
20 - ابن اليونانية البعلبكي
ومنهم الشيخ الإمام العلامة الصالح البركة أقضى القضاة شمس الدين مفتي المسلمين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي الحسن علي بن احمد بن اليونانية البعلبكي الحنبلي قاضي بعلبك حدث عن أحمد بن أبي طالب الحجار وكان من القضاة الأخيار والعلماء الأعلام وترجم الشيخ تقي الدين غير ما مرة بشيخ الإسلام.
21 - ابن حمزة الحسيني(179/38)
ومنهم السيد الشريف الإمام العالم العفيف الحافظ الناقد ذو النصانيف شمس الدين جمال المحدثين أبو المحاسن محمد بن علي بن الحسن ابن حمزة بن أبي المحاسن [ محمد ابن ناصر بن علي بن الحسين بن اسماعيل بن الحسين بن محمد بن اسماعيل بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ] الحسيني الدمشقي الشافعي ولد سنة خمس عشرة وسبعمائة في شعبان وسمع من خلق منهم احمد بن علي الجزري وابو الفتح الميدومي وزينب ابنة الكمال وغيرهم من الاعيان وخرج لنفسه معجما يشتمل على خلق كثير وكان اماما حافظا مؤرخا له قدر كبير ومن مصنفاته الفاخرة كتاب الذرية الطاهرة سماه العرف الذكي في النسب الزكي وكتاب الاكتفا في الضعفا وكتاب أسامي رجال الائمة الستة ومسند احمد بن حنبل وكتاب التاريخ وغير ذلك من مختصر ومطول ومنه كتاب الإلمام في آداب دخول الحمام وكان حسن الخلق رضي النفس من الثقات الاثبات وجدت بخطه في غير ما موضع من مؤلفاته سمي فيها ابن تيمية شيخ الاسلام توفي رحمة الله في شهر رمضان سنة خمس وستين وسبعمائة.
22 - الزملكاني
ومنهم الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة كمال الدين جمال المناظرين أبو المعالي محمد بن أبي الحسن [ بن ] علي بن عبد الواحد بن خطيب زملكا أبي محمد عبد الكريم بن خلف [ ابن سلطان ابن خليل بن حسن ابن سعد بن ] نبهان الانصاري الشافعي ابن الزملكاني مولده في ليلة الاثنين ثامن شوال سنة ست وقيل سنة سبع وستين وستمائة وتوفي ليلة السبت السادس عشر من شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبعمائة بمدينة بلبيس وحمل إلى القاهرة فدفن بها تولى مناظرة شيخ الاسلام ابن تيمية غير ما مرة ومع ذلك فكان يعترف بإمامته ولا ينكر فضله ولا بره قال مرة عن الشيخ تقي الدين كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع انه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن احدا لا يعرف مثله.(179/39)
وقال الشيخ زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب في طبقاته وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني انه سئل عن الشيخ يعني ابن تيمية فقال لم ير من خمسمائة سنة أو قال أربعمائة سنة والشك من الناقل وغالب ظنه انه قال من خمسمائة سنة احفظ منه انتهى .
وقد روى واشتهر وذكر وانتشر ما كتبه الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني على كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل تأليف ابن تيمية وهو ما نصه
من مصنفات [ سيدنا ] وشيخنا وقدوتنا الشيخ الإمام العالم العلامة الاوحد البارع الحافظ الزاهد الورع القدوة الكامل العارف تقي الدين شيخ الإسلام سيد العلماء قدوة الأئمة الفضلاء ناصر السنة قامع البدعة حجة الله على العباد راد أهل الزيغ والعناد أوحد العلماء العاملين آخر المجتهدين أبي العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني حفظ الله على المسلمين طول حياته وأعاد عليهم من بركاته إنه على كل شيء قدير وكتب الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أيضا بخطه على كتاب رفع الملام عن الائمة الأعلام ما نصه
تأليف الشيخ الامام العالم العلامة الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة إمام الائمة قدوة الأمة علامة العلماء وارث الانبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين بركة الاسلام حجة الاعلام برهان المتكلمين قامع المبتدعين محي السنة ومن عظمت به لله علينا المنة وقامت به على أعدائه الحجة واستبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين أبو العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني أعلى الله مناره وشيد به من الدين أركانه ثم ذكر أبياتا منها
هو حجة لله باهرة % هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة % أنوارها أربت على الفجر(179/40)
وقال الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أيضا عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها وله اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين حكاه عن ابن الزملكاني الحافظ علم الدين أبو محمد القاسم بن البرزالي وحكاه أيضا الحافظ ابو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي فقال في كتابه طبقات الحفاظ في ترجمة الشيخ تقي الدين وهي خاتمة تراجم الطبقات .
وقال العلامة كمال الدين ابن الزملكاني كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع انه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم ان احدا لا يعرف مثله وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوبين اليه.
وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين.
وقال ابن عبد الهادي ايضا في ترجمة الشيخ تقي الدين المفردة وقد سئل عنه الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني فقال هو بارع في فنون عديدة من الفقه والنحو والاصول ملازم لانواع الخير وتعليم العلم حسن العبارة قوي في دينه صحيح الذهن قوي الفهم.
23 - ابن دقيق العيد
ومنهم الشيخ العلامة الامام أحد شيوخ الاسلام قاضي قضاة المسلمين تقي الدين عمدة الفقهاء والمحدثين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب ابن مطيع ابن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي المالكي الشافعي ابن دقيق العيد
المتوفي سنة اثنتين وسبعمائة روى عن ابن المقير وابن الجميزي وابن رواج وآخرين وعنه المزي والقطب الحلبي وغيرهما من المحدثين .(179/41)
وكان إماما حافظا فقيها ذا تحرير مالكيا شافعيا ليس له نظير وكان يفتي بالمذهبين ويدرس فيهما بمدرسة الفاضل على الشرطين وله اليد الطولى في معرفة الأصلين ومن مؤلفاته كتاب الإلمام في الأحكام وكتاب الأربعين في الرواية عن رب العالمين.
لما قدم التتار خذلهم الله تعالى سنة سبعمائة إلى أطراف البلاد الشامية وكانت العساكر المصرية قد خرجت لقتالهم ثم قوي عليهم المطر وشدة البرد فرجعوا متوجهين إلى مصر فبلغ [ ذلك ] الشيخ تقي الدين ابن تيمية فركب على البريد من دمشق وساق ليلحق السلطان قبل دخوله إلى مصر فسبقه الجيش ودخل إلى القاهرة فدخلها الشيخ تقي الدين ابن تيمية في اليوم الثامن من خروجه من دمشق وكان دخوله مع دخول بعض العساكر إلى القاهرة يوم الاثنين حادي عشر جمادى الاولى سنة سبعمائة فاجتمع بالشيخ اعيان البلد ومنهم تقي الدين ابن دقيق العيد فسمع كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية وقال له بعد سماع كلامه ما كنت أظن أن الله تعالى بقي يخلق مثلك وسئل الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد بعد انقضاء ذلك المجلس عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية فقال هو رجل حفظة فقيل له فهلا تكلمت معه فقال هذا رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد أيضا لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد.
24 - ابن المنجا التنوخي(179/42)
ومنهم الشيخ الامام الفقيه الصالح مفتي المسلمين علم المدرسين شرف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي البركات المنجا ابن العز أبي عمرو عثمان بن وجيه الدين أبي المعالي أسعد بن المنجا بن بركات بن المؤمل التنوخي المعري الأصل ثم الدمشقي ولد سنة خمس وسبعين وستمائة وسمع بإفادة والده الكثير من المسلم بن علان وطبقته وتفقه وأفتى ودرس وكان ذا صيانة وتقوى وديانة من خواص أصحاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية وملازميه حضرا وسفرا توفي رحمه الله في رابع شوال سنة أربع وعشرين وسبعمائة ودفن بسفح قاسيون من دمشق.
24 - اليونيني
ومنهم الشيخ العالم الفقيه المؤرخ تقي الدين أبو عبد الله محمد بن الامام قطب الدين أبي الفتح موسى بن الحافظ الفقيه تقي الدين أبي عبد الله ابن أبي الحسين احمد بن عبد الله بن عيسى بن احمد بن علي بن محمد بن محمد بن احمد بن محمد بن الحسين بن اسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن ابي طالب الهاشمي العلوي الحسيني اليونيني توفي يوم الاحد ثالث ذي الحجة سنة خمس وستين وسبعمائة وكان رضي النفس حسن الخلق كثير الأدب قليل الكلام يحمل حاجته من السوق في ذيله وهو أحد الأعلام الذين سموا ابن تيمية شيخ الاسلام.
25 - ابن السند
ومنهم الشيخ الامام العالم الحافظ الناقد المفيد شمس الدين عمدة المحدثين أبو عبد الله محمد بن موسى بن محمد بن سند بن تميم اللخمي الدمشقي الشافعي جد في طلب هذا الشأن واجتهد وحرر رجاله واسماءهم وانتقى وانتقد وخرج لنفسه ولغيره فأتقن وكتب بخطه كثيرا فأجاد وأحسن سمع من الذهبي واحمد بن المظفر النابلسي ومحمد بن الخباز وآخرين وكان حافظا عالما من المتقنين توفي سنة إحدى وتسعين وستمائة وكان يسمي ابن تيمية شيخ الاسلام كغيره من المعدلين.
26 - ابن سعد(179/43)
ومنهم العالم الفاضل المحدث البارع المؤرخ المفيد شمس الدين جمال المخرجين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ المسند الكبير أبي زكريا يحيى ويقال له أسعد ابن الشيخ الفقيه الفاضل الاديب البارع الكاتب الوزير الصالح ابي عبد الله محمد بن سعد بن عبد الله بن سعد بن مفلح ابن هبة الله بن نمير الانصاري المقدسي الاصل ثم الدمشقي الصالحي الشهير بابن سعد سمع الكثير بواسطة أبيه وطلب بنفسه فأكثر ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين فقال المحدث الفاضل المفيد شمس الدين ولد سنة ثلاث وسبعمائة وبكر به والده فسمع كثيرا وهو حاضر وسمع من القاضي ومن والده وابن عبد الدائم والمطعم وخلق كثير وطلب بنفسه سنة إحدى وعشرين وسبعمائة وكتب ورحل وخرج للشيوخ وتميز واصحابنا يثنون عليه انتهى كتب للشيخ تقي الدين ابن تيمية شيخ الاسلام غير ما مرة منها ما وجدته بخطه في طبقة سماع لجزء الحسن بن عرفة صورتها سمع جميع هذا الجزء وهو جزء ابن عرفة علي المشايخ الاربعة والعشرين الشيخ الامام العالم العلامة الاوحد البارع الحجة الحافظ الزاهد العابد الورع شيخ مشايخ الاسلام بقية الائمة الاعلام امام الائمة قدوة الامة علامة الزمان فريد الدهر والأوان بحر العلوم تقي الدين أبي العباس احمد بن الشيخ الامام العلامة شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الامام شيخ الاسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية وأخيه الصدر العدل زين الدين أبي محمد عبد الرحمن وذكر باقي المشايخ وطرقهم الى ابن كليب راوي الجزء ثم قال بقراءة الشيخ الامام العالم العلامة الحافظ الناقد البارع مؤرخ الشام علم الدين أبي محمد القاسم بن محمد ابن يوسف بن محمد بن البرزالي حرسه الله تعالى صاحب الجزء الشيخ الامام العالم المحدث الفاضل المتقن المفيد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن ابراهيم بن غنائم ابن المهندس وذكر جماعة كثيرين ثم قال وكاتب السماع محمد ابن(179/44)
يحيى بن محمد بن سعد بن عبد الله بن سعد المقدسي عفا الله عنه وآخرون تفوق عدتهم ثمانية نفر مذكورين على نسخة صلاح الدين العلائي وصح ذلك وثبت في يوم الجمعة بعد الصلاة الخامس عشر من شهر رمضان سنة إحدى وعشرين وسبعمائة بجامع دمشق وأجاز الشيوخ كلهم ما لهم روايته.
27 - ابو حيان الأندلسي
ومنهم الشيخ الامام العلامة علم القراء استاذ النحاة والأدباء جمال المفسرين أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن
حيان النفزي الأندلسي الجياني ثم الغرناطي ثم المصري الظاهري .
ولد بمطخشارش من غرناطة قاعدة بلاد الأندلس في العشر الاخير من شوال سنة أربع وخمسين وستمائة ارتحل في أول سنة تسع وسبعين وحج فيها ولقي الشيوخ وأجاز له خلق منهم الخطيب يوسف بن ابراهيم ابن أبي ريحانة الاندلسي وهو أقدم من أجاز له ومنهم أبو الحسن علي بن البخاري وتوفي في الثاني والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة بعد أن أضر في آخر عمره.
قال القاضي أبو العباس أحمد بن أبي المفضل يحيى بن فضل الله العمري ولما سافر ابن تيمية على البريد إلى مصر سنة سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين رحمه الله وحض أهل مصر على الجهاد في سبيل الله وأغلظ في القول للسلطان والامراء ثم رتب له في مدة مقامه بالقاهرة في كل يوم دينار ومخفية وجاءته بقجة قماش فلم يقبل من ذلك شيئا قال
وحضر عنده شيخنا أبو حيان وكان علامة وقته في النحو فقال ما رأت عيناي مثل ابن تيمية ثم مدحه على البديهة في المجلس
لما اتينا تقي الدين لاح لنا % داع إلى الله فرد ماله وزر
على محياه من سيما الألى صحبوا % خير البرية نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حبرا % بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا % مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فاظهر الحق إذ آثاره درست % وأخمد الشر إذ طارت له شرر
كنا نحدث عن حبر يجيء فها % أنت الامام الذي قد كان ينتظر .(179/45)
قال ثم دار بينهما كلام فيه ذكر سيبويه فقال ابن تيمية فيه كلاما نافره عليه ابو حيان وقطعه بسببه ثم عاد من اكثر الناس ذما له واتخذه له ذنبا لا يغفر انتهى .
وهذه الابيات كتبها الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي بخطه ونقلها من خطه المحدث أبو نصر محمد بن طولوبغا وبخطه وجدتها ووجدتها أيضا بخط الحافظ أبي عبد الله الذهبي لكن البيت الخامس منها
فاظهر الحق إذ آثاره درس % وأخمد الشر إذ طارت به الشرر
وباقي الابيات سواء قال الشيخ زين الدين ابن رجب في كتابه الطبقات عن هذه الابيات قال ويقال إن أبا حيان لم يقل أبياتا خيرا منها ولا أفحل. انتهى .
ووجدتها أيضا بخط شيخنا الحافظ أبي بكر محمد بن المحب وقرأها على أبي حيان عرضا فإن شيخنا لما حج في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة إجتمع بأبي حيان بمكة زادها الله شرفا وسمع من لفظه جزءا من فوائده في أوله اناشيد غزلية من نظمه أخر ابو حيان قراءتها أولا ثم قرأها آخر الجزء واعتذر عن قراءتها فيما قاله شيخنا في تلك البقعة الشريفة مما لا عذر له فيه إلا من جنس عذره لنظمه لذلك .
وقرأ شيخنا أيضا على ابي حيان أحاديث عدة من مروياته في يوم الأحد سادس ذي الحجة من السنة.
وأوقف أبا حيان على هذه الأبيات التي مدح بها الشيخ تقي الدين عرضها عليد فقال قد كشطتها من ديواني ولا أثني عليه بخير وقال ناظرته فذكرت له كلام سيبويه فقال يفشر سيبويه قال يعني ابا حيان وهذا لا يستحق الخطاب انتهى .
وهذه القصة ذكرها الحافظ العلامة أبو الفداء اسماعيل بن كثير في تاريخه وهي أن أبا حيان تكلم مع الشيخ تقي الدين في مسألة في النحو فقطعه ابن تيمية فيها وألزمه الحجة فذكر ابو حيان كلام سيبويه فقال ابن تيمية يفشر سيبويه أسيبويه نبي النحو أرسله الله به حتى يكون معصوما سيبويه أخطأ في القرآن في ثمانين موضعا لا تفهمها أنت ولا هو هذا الكلام أو نحوه على ما سمعته من جماعة أخبروا به عن هذه الواقعة(179/46)
وقد كان ابن تيمية لا تأخذه في الحق لومة لائم وليس عنده مداهنة وكان مادحه وذامه عنده في الحق سواء انتهى.
لكن بعد موت الشيخ تقي الدين رحمة الله عليه رثاه بعض المصريين بقصيدة وعرضها على أبي حيان فسمعها منه وأقره عليها قال ابن عبد الهادي في ترجمة الشيخ تقي الدين المفردة حين ذكر مراثيه قال ومنها قصيدة لرجل جندي من أهل مصر أرسلها وذكر أنه عرضها على الامام أبي حيان النحوي وهي هذه
خطب دنا فبكى له الاسلام % وبكت لعظم بكائه الايام
وذكر القصيدة ومنها
بحر العلوم وكنز كل فصيلة % في الدهر فرد في الزمان إمام
ومنها
والسنة البيضاء أحيا ميتها % فغدت عليها حرمة وزمام
وأمات من بدع الضلال عوائدا % لا يستطيع لدفعها الصمصام
فلئن تأخر في القرون لثامن % فلقد تقدم في العلوم أمام.
قلت وناظم هذه القصيدة يقال له بدر الدين ابن عز الدين المغيثي رحمه الله تعالى وأراه محمد بن عبد العزيز بن كمال الدين عبد الرحيم المارديني الصفار وكان والده عز الدين من خواص أصحاب الشيخ تقي الدين وكتب ابنه بدر الدين المذكور مصنف الشيخ في الرد على الرافضي في ست مجلدات هي عندي بخطه يترجم الشيخ في أوائل كل جزء بترجمة بليغة من ذلك قوله في حاشية الجزء الاول فيما وجدته بخطه تأليف شيخ
الاسلام والمسلمين القائم ببيان الحق ونصر الدين الداعي الى الله ورسوله المجاهد في سبيله الذي اضحك الله به من الدين ما كان عابسا وأحيا من السنة ما كان دارسا والنور الذي أطلعه الله في ليل الشبهات فكشف به غياهب الظلمات وفتح به من القلوب مقفلها وأزاح به عن النفوس عللها فقمع به زيغ الزائغين وشك الشاكين وانتحال المبطلين وصدقت به بشارة رسول رب العالمين بقوله صلى الله عليه وسلم إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها وبقوله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين.(179/47)
وهو الشيخ الامام العلامة الزاهد العابد الخاشع الناسك الحافظ المتبع تقي الدين ابو العباس احمد ابن الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام أبي المحاسن عبد الحليم ابن شيخ الاسلام مفتي الفرق علامة الدنيا مجد الدين عبد السلام ابن الشيخ الامام العلامة الكبير شيخ الاسلام فخر الدين عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه ثم كتب ابن عز الدين المذكور مقابل الترجمة نقلت هذه الترجمة من خط محمد ابن قيم الجوزية انتهى.
28 - ابن قيم الجوزية
ومنهم الشيخ الامام العلامة شمس الدين أحد المحققين علم المصنفين نادرة المفسرين أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الاصل ثم الدمشقي ابن قيم الجوزية وتلميذ الشيخ تقي الدين ابن تيمية له التصانيف الانيقة والتآليف التي في علوم الشريعة والحقيقة مولده سنة إحدى وتسعين وستمائة سمع من القاضي سليمان بن حمزة وعيسى المطعم وطبقتهما ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية وأخذ عنه علما جما وكان ذا فنون من العلوم وخاصة التفسير والاصول من المنطوق والمفهوم ومن مصنفاته زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم في أربع مجلدات وكتاب سفر الهجرتين وباب السعادتين مجلد .(179/48)
حدث عنه الشيخ زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب وغيره توفي ليلة الخميس ثالث عشر شهر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ودفن بمقبرة الباب الصغير من دمشق عند والديه رحمهما الله وكانت جنازته مشهورة [ قال شيخنا الحافظ أبو بكر محمد بن المحب فيما وجدته بخطه قلت إمام شيخنا المزي ابن القيم في درجة ابن خزيمة فقال هو في هذا الزمان كابن خزيمة في زمانه ] ترجم شيخه غير ما مرة بشيخ الاسلام منها ما تقدم قريبا ومنها قوله وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول ان في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة قال وكان اذا صلى الفجر يجلس مكانه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار جدا وكان اذا سئل عن ذلك يقول هذه غدوتي ولو لم اتغد هذه الغدوة سقطت قواي وكان يقول لما خلق الله حملة العرش قالوا ربنا لم خلقتنا قال خلقتكم لتحملوا عرشي قالوا ربنا ومن يطيق حمل عرشك وعليه عظمتك قال قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله وكان يكثر ان يقول انا المكدي وابن المكدي وهكذا كان ابي وجدي وكان يقول بالصبر واليقين تنال الامامة في الدين وكان يقول لا بد للسالك الى الله من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه وقال العارف يسير الى الله عز وجل بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس وكان يتمثل كثيرا
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى % وصوت إنسان فكدت أطير
وكان يتمثل أيضا
وأخرج من بين البيوت لعلني % أحدث عنك النفس في السر خاليا.
29 - تاج الدين الحميري
ومنهم الشيخ المسند الكبير الامام العالم المؤرخ المفيد تاج الدين ابو العباس أحمد ابن الشيخ نجم الدين أبي عبد الله محمد بن بهاء الدين أبي محمد عبد الله بن الحسن بن الحسين بن اسماعيل بن أبي الطاهر وهب بن محبوب(179/49)
الحميري المعري الأصل البعلي ثم الدمشقي الشافعي مولده فيما وجدته بخطه ثامن عشر شعبان سنة إحدى وسبعمائة أسند الكثير وسمع منه جم غفير منهم أبو الفضل عبد الرحيم بن العراقي وعلي بن أبي بكر الهيثمي وعلي بن البناء ومحمد بن سند وغير واحد من العلماء لقي الشيخ تقي الدين وسمع منه وروى غير مرة عنه من ذلك ما قال انشدنا شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى فذكر بيتين.
30 - البقاعي الشافعي
ومنهم الشيخ العالم الفقيه المحدث شهاب الدين أبو العباس احمد بن ابراهيم بن محمود بن ابراهيم بن مكارم الزهري المقدسي الأصل البقاعي ثم الدمشقي الشافعي سمع كثيرا وخاصة مع الامام أبي محمد عبد الله بن أحمد بن المحب وذكره الذهبي في شيوخه في معجمه المختص بالمحدثين وذكر أن مولده سنة بضع وسبعمائة وجدت بخطه في مواضع كثيرة ترجم فيها ابن تيمية بشيخ الإسلام منها عنوان كتاب هذا نصه الجواب الباهر في زيارة المقابر اجاب به شيخ الاسلام مفتي الأنام أحد الأئمة الأعلام فريد دهره ومجتهد عصره بقية السلف وقدوة الخلف أبو العباس احمد بن الإمام عبد الحليم بن الإمام عبد السلام ابن تيمية جوابا لسؤال ولاة الامور عما افتى به في زيارة القبور سطره زمن حبسه بالقلعة المحروسة حين امتحن بها وسجن بسببها فذكر في هذا الجواب السنة ورد على من نسب اليه منع الزيارة مطلقا وبينه قدس الله روحه ونور ضريحه.
31 - ابن شيخ الحزاميين الواسطي(179/50)
ومنهم الشيخ الامام القدوة العارف المسلك العالم الرباني عماد الدين بقية السلف الصالحين أبو العباس احمد بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن مسعود ابن عمر الواسطي الحزامي ابن شيخ الحزاميين ولد في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة بشرقي واسط وقرأ ببلده شيئا من الفقه على مذهب الامام الشافعي ثم رحل الى بغداد وأخذ عن طائفة ثم حج وأقام بالقاهرة ثم انتقل الى دمشق فصحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية فأمره بمطالعة السيرة النبوية فلزمها وأدمن مطالعتها اختصر سيرة ابن اسحاق تهذيب ابن هشام واقتفى الآثار النبوية وتمسك بالهدي المحمدي وانتقل الى مذهب أحمد بن حنبل وألف فيه مؤلفا سماه البلغة وهو مختصر الكافي وله مؤلفات كثيرة غالبها في اقتفاء السنة وطريق التصوف على السنة والرد على طوائف من المبتدعة كالاتحادية وغيرهم وكان زاهدا عابدا داعية الى الله معمور الاوقات بالاوراد والعبادات والذكر والفكر والمطالعة والتصنيف والإفادة توفي رحمه الله تعالى في آخر يوم السبت السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبعمائة بالمارستان الصغير داخل دمشق ودفن من الغد بسفح قاسيون قبالة زاوية السيوفي وكان الحافظ الذهبي يعظمه ويثني عليه وقال في كتابه المشتبه شيخنا القدوة عماد الدين الحزامي الواسطي. انتهى.(179/51)
ومن رسائله رسالة كتبها الى جماعة من أصحابه وأصحاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية قال فيها السيد امام الأمة الهمام محي السنة وقامع البدعة ناصر الحديث مفتي الفرق الفائق عن الحقائق وموصلها بالاصول الشرعية للطالب الذائق الجامع بين الظاهر والباطن فهو يقضي بالحق ظاهرا وقلبه في العلا قاطن أنموذج الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين غابت عن القلوب سيرهم ونسيت الامة حذوهم وسبلهم فذكرهم بها الشيخ فكان في دارس نهجهم سالكا ولموات حذوهم محييا ولأعنة قواعدهم مالكا الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية أعاد الله بركته ورفع الى مدارج العلا درجته وذكر تمام الرسالة.
32 - الحسباني
ومنهم الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة جمال الحفاظ شهاب الدين علم المفسرين مفيد المحدثين عمدة المؤرخين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام مفتي الشام عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن خليفة بن عبد العالي الدمشقي بن الحسباني الشافعي سمع بدمشق ومصر وبعلبك وغيرها من البلاد.
وكان أحد العلماء الفقهاء الحفاظ النقاد كتب الكثير وتكلم على الرجال بالتحرير واجتهد في التأليف وخاصة في التفسير ولقد ذكر الشيخ تقي الدين فأحسن الثناء عليه وترجمه بشيخ الاسلام لما خبره من حال الشيخ ونقل إليه.
33 - أبو العباس ابن حجي(179/52)
ومنهم الشيخ الإمام العلامة حافظ الشام ومؤرخ الإسلام أقضى القضاة شهاب الدين علم النقاد المتقنين فقيه الحفاظ مفيد المحدثين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الامام العلامة شيخ الشافعية علاء الدين حجي بن موسى ابن احمد بن سعد بن غشم بن غزوان بن علي بن مشرف بن تركي السعدي الحساني الشافعي قيل إنه من ولد عطية السعدي أبي محمد الصحابي المشهور من بني سعد بن بكر نزل الشام وكان له أولاد بالبلقاء وقد انتسب إليه الإمام أبو العباس بن حجي المذكور فقال فيما وجدته بخطه في معجمه في ترجمة والده بعد ان ذكر نسبه الى تركي قال من ولد عطية السعدي ظنا. انتهى.(179/53)
أخذ ( أبو العباس ) عن والده وغيره من الائمة وحصل فنونا من العلوم جمة وسمع عن عثمان بن يوسف بن غدير وعمر بن اميلة وخلق كثير وحدث عن عبد الله بن قيم الضيائية وغيره بالاجازة وكان أحد حفاظ هذا الشأن ممن اتقنه وحازه وتفرد باتقان مذهبه مع فتاويه المحررة المهذبة ومعرفته الجيدة بتراجم الرجال والوقائع والدول وتقلب الاحوال ومذهبه في الشيخ تقي الدين مذهب أقرانه ومشايخه من المحدثين وحكة في معجم شيوخه المجرد فيما وجدته بخطه المجود قال علي بن عبد الكريم ابن الشيخ سراج الدين البغدادي الاصل البطايحي المزي أخبرني بشيء غريب قال كنت شابا وكانت لي بنت حصل لها رمد وكان لنا اعتقاد في ابن تيمية وكان صاحب والدي ويأتي الينا ويزور والدي فقلت في نفسي لآخذن من تراب قبر ابن تيمية فلأكحلها به فانه طال رمدها ولم يفد فيها الكحل فجئت الى القبر فوجدت بغداديا قد جمع من التراب صررا فقلت ما تصنع بهذا قال أخذته لوجع الرمد أكحل به أولادا لي فقلت وهل ينفع ذلك فقال نعم وذكر أنه جربه فازددت يقينا فيما كنت قصدته فأخذت منه فكحلتها وهي نائمة فبرأت قال وحكيت ذلك لابن قاضي الجبل يعني الامام شرف الدين أبا العباس أحمد ابن الحسن بن عبد الله بن شيخ الاسلام أبي عمر المقدسي قال وكان يأتي الينا فأعجبه ذلك وكان يسألني ذلك بحضرة الناس فأحكيه ويعجبه ذلك.
وقال الامام أبو العباس بن حجي أنشدنا الشيخ الامام العالم البارع الحافظ الاديب الاوحد بقية السلف شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن محمد بن عبد الكريم الطرابلسي ابن الموصلي الشافعي من لفظه لنفسه
ان كان إثبات الصفات جميعها % من غير كيف موجبا اومي
وأصبر تيميا بذلك عندكم % فالمسلمو جميعهم تيمي
وقال أيضا كتب ابن المطهر الرافضي الى الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه
لو كنت تعلم كم ما علم الورى % طرا لصرت صديق كل العالم
لكن جهلت فقلت ان جميع من % يهوى خلاف هواك ليس بعالم(179/54)
قال فاجابه شيخنا شمس الدين الموصلي وسمعته من لفظه في يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة سنة سبعين وسبعمائة بقاعة دار الحديث الاشرفية قال
يا من يموه في السؤال مسفسطا % إن الذي ألزمت ليس بلازم
هذا رسول الله يعلم كل ما % علموا وقد عاداه جل العالم.
34 - ابن قدامة المقدسي
ومنهم الشيخ الامام العلامة ذو الفنون قاضي القضاة شرف الدين مفتي المسلمين مفيد الطالبين أبو العباس احمد بن قاضي القضاة شرف الدين أبي الفضل الحسن بن الخطيب شرف الدين أبي بكر بن عبد الله بن شيخ الاسلام أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي الحنبلي قاضي الجبل وابن قاضيه مولده في تاسع شعبان سنة ثلاث وتسعين وستمائة وتوفي رحمه الله تعالى ثالث عشر رجب سنة احدى وسبعين وسبعمائة بالجبل ودفن في جوار جده أبي عمر رحمهما الله تعالى ولي القضاء سنة سبع وستين وسبعمائة ومن مصنفاته كتاب الفائق في المذهب ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال صاحب فنون وذهن سيال وتودد سمع معي من التقي ابن مؤمن وطلب الحديث وقتا .انتهى.
صحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية وسمع منه وتفقه به وأخذ عنه وكان يسميه شيخ الاسلام كما سماه غيره من الاعلام .
وقد أنشدني أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن موسى بن رسلان بن موسى ابن ادريس بن موسى بن موهوب السلمي الدمشقي قال أنشدنا الشيخ برهان الدين أبو اسحاق ابراهيم بن العجل المقدسي المرداوي أنشدنا الشيخ شرف الدين أبو العباس أحمد بن الحسن بن قاضي الجبل من لفظه لنفسه
نبيي أحمد وكذا إمامي % وشيخي أحمد كالبحر طامي
واسمي أحمد أرجو بهذا % شفاعة سيد الرسل الكرام
35 - ابن طرخان الملكاوي(179/55)
ومنهم الشيخ الامام العلامة اقضى القضاة شهاب الدين مفتي المسلمين مفيد الطالبين ابو العباس احمد بن راشد بن طرخان الملكاوي الشافعي سمع الكثير من المسندين ورافق في السماع عدة من المحدثين ذكره الشيخ شهاب الدين ( ابو العباس ) بن حجي في معجمه وعلم على اسمه علامة سماعه منه ورأيت بعض الحفاظ الأعلام ترجمه قبل الفتنة بفقيه الشام وكان ممن يعظم الشيخ تقي الدين ابن تيمية الامام ويترجمه كأقرانه بشيخ الاسلام توفي رحمه الله تعالى بعد الفتنة وقد حصل له نصيب من تلك المحنة عوضه الله منها الجنة [ حدثنا الامام العلامة قاضي القضاة ابو حفص عمر بن موسى بن الحسين بن محمد بن عيسى المخزومي الشافعي بثغر بلناس من ساحل بحر الشام قال كنت حاضرا عند الشيخ شهاب الدين الملكاوي فأتى اليه شهاب الدين احمد الحلبي الساكن بدار الحديث الاشرفية بدمشق فقال ذكر بعض الناس اليوم شيئا وشق علي فقال الشيخ شهاب الدين الملكاوي باع نسخة شرح صحيح مسلم للنووي واشترى كتاب الرد على النصارى للشيخ تقي الدين ابن تيمية فقال في جواب ذلك إن عندي من شرح مسلم نسختين بعت إحداهما واشترين كتاب الرد ولو لم يكن عندي من شرح مسلم نسخة لم يكن بعيب لأن ما في شرح مسلم أعرفه وما في كتاب الرد على النصارى أنا محتاج إليه ] ومع ذلك فوالله ان الشيخ تقي الدين ابن تيمية شيخ الاسلام ولو دروا ما يقول لرجعوا الى محبته وولائه وكما قال كل صاحب بدعة ومن ينتصر له لو ظهروا لا بد من خمودهم وتلاشي أمرهم وهذا الشيخ تقي الدين ابن تيمية كلما تقدمت أيامه تظهر كرامته ويكثر محبوه وأصحابه أو كما قال.
36 - ابن رجب الوالد(179/56)
ومنهم الشيخ الامام العالم الصالح المقرئ المجود المحدث المفيد شهاب الدين أبو العباس احمد بن رجب بن عبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود البغدادي المقرئ والد العلامة الحافظ زين الدين بن رجب مولد أبي العباس هذا في صبيحة يوم السبت خامس عشر ربيع الأول سنة ست وسبعمائة قرأ القرآن بالروايات وأخذ عن جماعة من الشيوخ كثيرا من المرويات وخرج لنفسه مشيخة مفيدة بتراجم ملخصة فريدة وذكر ابن تيمية بشيخ الاسلام واثنى عليه وكان يحبه ويميل بالمودة إليه.
37 - ابن كرامة
ومنهم الشيخ الامام العلامة قاضي قضاة المسلمين شهاب الدين مفيد الطالبين بقية السلف الصالحين ابو العباس احمد بن صالح بن احمد ابن خطاب بن رزين [ ابن كرامة بن حامد ] الزهري الشافعي قدم دمشق وله من العمر نحو عشرين سنة مع بعض اقاربه في سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة ثم وجدت بخط قاضي القضاة ابي زرعة احمد بن العراقي ان مولده سنة احدى وعشرين وسبعمائة سمع من عبد الله بن أبي التائب والحافظ أبي الحجاج المزي وابي محمد القاسم بن البرزالي وآخرين وتوفي في ثامن المحرم سنة خمس وتسعين ودفن بمقبرة الصوفية خارج باب النصر من دمشق رحمة الله تعالى عليه.
38 - ابن بكار النابلسي(179/57)
ومنهم الشيخ الامام الصالح الورع الحافظ المفيد الحجة شهاب الدين أبو العباس احمد بن مظفر بن أبي محمد بن مظفر بن بدر بن الحسن بن مفرج ابن بكار بن النابلسي سبط زين الدين خالد الشافعي حدث عنه الحافظ الذهبي مع تقدمه وذكره في معجمه المختص بالمحدثين فقال المحدث الحافظ العالم شهاب الدين ابو العباس ابن النابلسي الدمشقي سبط الحافظ زين الدين خالد مولده سنة خمس وسبعين وستمائة وسمع من زينب بنت مكي وابن بلبان وتقي الدين بن الواسطي وابن القواس والتاج عبد الخالق وخلق كثير وأكب على الطلب زمانا وترافقنا مدة وكتب وخرج وفي خلقه زعارة وفي طباعه نفور عن المحدثين وغيرهم انتهى وله مصنف في ذكر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ومصنف في ترجمة الحافظ أبي القاسم بن عساكر وكتب كثيرا وعلق وألف وخرج وطبق توفي سنة ثمان وخمسين وسبعمائة وجدت بخطه في كتاب مجابي الدعوة تأليف ابي بكر عبد الله بن ابي الدنيا ما نصه : سمع هذا الكتاب على الشيخ الامام العالم العامل العلامة الأوحد الصدر الكبير الزاهد الورع شيخ الاسلام جمال الأئمة مفتي الفرق زين الدين أبي محمد عبد الله بن الشيخ بدر الدين مروان أبي عبد الله الفارقي الشافعي نفع الله به بسماعه قرأه نقلا عن شيخ الشيوخ ابن حمويه بسنده بقراءة سيدنا وشيخنا الشيخ السيد الامام العالم العلامة الحافظ القدوة الزاهد الورع جمال العلماء قدوة المسلمين بركة الأنام شيخ الاسلام امام العصر تقي الدين أبي العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الحنبلي فسح الله في مدته وأعاد من بركته ثم ذكر السامعين ثم قال وآخرون على نسخة وقف الخلويني بدار الحديث النورية ونسخة ملك نجم الدين بن هلال منهم كاتب هذا السماع احمد بن مظفر بن أبي محمد بن مظفر النابلسي عفا الله عنه وصح ذلك وثبت في يوم السبت شهر رجب ثلاث وتسعين وستمائة بالمدرسة العذراوية بدمشق والحمد لله [ وحده ].(179/58)
39 - ابن فضل الله العمري
ومنهم القاضي الفاضل مجموع الفضائل البارع النبيل العالم الاصيل شهاب الدين ابو العباس احمد بن القاضي الامام يمين مملكة الاسلام محيي الدين ابي الفضل يحيى بن جمال الدين فضل الله بن مجلي ابن أبي الرجال دعجان بن خلف بن نصر بن منصور العدوي العمري الشافعي ولد سنة سبع وتسعين وستمائة وتوفي يوم عرفة سنة تسع واربعين وسبعمائة ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال صاحب النظم والنثر والمآثر ولد سنة سبع وتسعين وستمائة وسمع الحديث وقرأ على الشيوخ سمع مني ومعي من ست القضاة بنت الشيرازي وله تصانيف كثيرة .انتهى.
خرجت له مشيخه كثيرة حدث بها ورويت عنه عمل للشيخ تقي الدين ابن تيمية ترجمة أنيقة مرضية نثرا ونظما اوسعها فوائد وعلما وذلك في كتابه مسالك الابصار في ممالك الامصار فمنه قوله في الشيخ تقي الدين هو نادرة العصر
هو البحر من أي النواحي جئته % والبدر من أي الضواحي رأيته
وقال رضع ثدي العلم منذ فطم وطلع فجر الصباح ليحاكيه فلطم وقطع الليل والنهار دائبين واتخذ العلم والعمل صاحبين الى أن آس السلف بهداه ونأى الخلف عن بلوغ مداه
وثقف الله أمرا بات يكلؤه % يمضي حساماه فيه السيف والقلم
بهمة في الثريا إثر أخمصها % وعزمة ليس من عاداتها السأم(179/59)
على أنه من بيت نشأ منه علماء في سالف الدهور ونشأت منه عظماء على المشاهير الشهور فأحيا معالم بيته القديم إذ درس وجنى من فننه الرطيب ما غرس واصبح في فضله آية الا انه آية الحرس عرضت له الكدى فزحزحها وعارضته البحار فضحضحها ثم كان أمة وحده وفردا حتى نزل لحده واخمل من القرناء كل عظيم واخمد من اهل البدع كل حديث وقديم ولم يكن منهم إلا من يجفل عنه إجفال الظليم ويتضاءل لديه تضاؤل الغريم قد كان بعض الناس لكن الحصباء من بعضها الياقوتة الحمراء جاء في عصر مأهول بالعلماء مشحون بنجوم السماء تموج في جوانبه بحور خضارم وتطير بين خافقيه نسور قشاعم وتشرق في انديته بدور دجنة وتبرق في ألويته صدور أسنة وتثأر جنود رعيل وتزأر اسود غيل الا ان شمسه طمست تلك النجوم وبحره غرق تلك العلوم ثم عبيت له الكتائب فحطم صفوفها وخطم أنوفها وابتلع غديره المطمئن جداولها واقتلع طوده المرجحن جنادلها وأخمدت أنفاسهم ريحه واكمدت شرارتهم مصابيحه
تقدم راكبا فيهم إماما % ولولاه لما ركبوا وراءه
وقال أيضا ترد اليه الفتاوي فلا يردها وتفد عليه من كل وجه فيجيب عنها بأجوبة كأنه كان قاعدا لها يعدها
أبدا على طرف اللسان جوابه % فكأنما هي دفعة من صيب
يغدو مساجله بغرة طامع % ويروح معترفا بذلة مذنب
وقال أيضا
وكان ابن تيمية في مدد ما يؤخذ عليه في مقاله وينبذ في حفرة اعتقاله لا تبرد له غلة بالجمع بينه وبين خصمائه في المناظرة والبحث حيث العيون ناظرة بل يبدر حاكم فيحكم باعتقاله او يمنعه من الفتوى أو شيء من انواع هذه البلوى لا بعد اقامة بينة ولا تقدم دعوى ولا ظهور حجة بالدليل ولا وضوح محجة للتأميل وكان يجد لهذا ما لا يزاح به ضرر شكوى ولا يطفي به ضرم عدوى وكل امرئ حاز المكارم محسود
كضرائر الحسناء قلن لوجهها % حسدا وبغضا إنه لدميم(179/60)
كل هذا لتبريزه في الفضل حيث قصرت النظراء وتجليه كالمصباح أو نور الصباح حيث إذا أظلمت الآراء وقيامه في الله وفي نصر دينه واقبال الخلق عليه وعلى أفانينه وقال أيضا هذا مع ما له من جهاد في الله لم تفزعه فيه ظلل الوشيج ولم تجزعه فيه ارتفاع النشيج مواقف حروب باشرها وطرائف ضروب عاشرها وبوارق صفاح كاشرها ومضايق رماح حاشرها وأصناف خصوم لد اقتحم معها الغمرات وواكلها مختلف الثمرات فقطع جدالها قوي لسانه وجلادها سنا سنانه قام بها وصابرها وبلي باصاغرها وقاسى أكابرها وأهل بدع قام بدفاعها وجهد في حط يفاعها ومخالفة ملل بين لها خطأ التأويل وسقم التعليل واسكت طنين الذباب في خياشيم رؤسهم بالاضاليل حتى ناموا في مراقد الخضوع وقاموا وأرجلهم تتساقط للوقوع بأدلة أقطع من السيوف واجمع من السجوف واجلى من فلق الصباح وأصلب من فلق الرماح
اذا وثبت في وجه خطب تمزقت % على كتفيه الدرع وانتشر السرد
وقال والا فلقد اجتمع عليه عصب الفقهاء والقضاة بمصر والشام وحشدوا عليه بخيلهم ورجلهم فقطع الجميع وألزمهم بالحجج الواضحات أي إلزام فلما أفلسوا اخذوه بالجاه والحكام وقد مضى ومضوا الى الملك العلام ( ليجزي الله الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ).
40 - الزرعي
ومنهم الشيخ الفقيه العالم البارع النبيه برهان الدين سليل العلماء والصالحين ابو إسحاق ابراهيم بن الامام العلامة ذي الفنون أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الاصل ثم الدمشقي الجوزي وتقدم ذكر أبيه مولده في سنة بضع عشرة وسبعمائة تخرج بوالده وأسمعه من طائفة وسمع بنفسه من آخرين واجتهد في الطلب ودأب وحصل وعلق وكتب وكان يترجمه بشيخ الاسلام ابن تيمية العلم كما ترجمه ابوه ومن يشابه أباه فما ظلم.
41 - ابن المحب السعدي(179/61)
ومنهم المحدث الفقيه العالم النبيه برهان الدين سليل العلماء والمحدثين ابو اسحاق ابراهيم بن الشيخ أبي العباس احمد بن المحب عبد الله بن احمد بن محمد بن ابراهيم بن احمد بن عبد الرحمن بن اسماعيل بن منصور بن عبد الرحمن السعدي المقدسي أخو الامام المحب عبد الله بن المحب ولد قريبا من سنة اثنتين وسبعمائة وتوفي سنة تسع واربعين وسبعمائة وكان شديد الاعتناء بكلام الشيخ تقي الدين وكتابته بخطه المليح وترجمه بشيخ الاسلام غير ما مرة وبعض ذلك وجدته بخطه ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال سمع من ابن الموازيني والقاضي وابي عبد الله ابن مشرف وجماعة من أصحاب ابن الزبيدي باعتناء أخيه ثم سمع بنفسه وطلب قليلا ونسخ كثيرا لنفسه وللناس وقال أيضا ولديه فضيلة سمع مني وذهنه جيد وكتابته سريعة حلوة والله يصلحه ويوفقه وقرأ للعامة بعد أخيه واشتهر.
42 - ابن القلانسي
ومنهم الشيخ الصالح المقرئ الفقيه العالم مجد الدين ابو اسحاق ابراهيم ابن مؤيد الدين أبي المعالي بن المعز أبي غالب المظفر ابن الوزير مؤيد الدين أبي المعالي اسعد ابن أبي يعلى حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي بن القلانسي الدمشقي الشافعي توفي يوم الثلاثاء مستهل المحرم سنة خمس وستين وسبعمائة ملازما لتلاوة القرآن كثير البر والاحسان قال ابو الحسن علي بن محمد بن سليمان اليونيني فيما وجدته بخطه في مشيخته قال شيخنا مجد الدين يعني ابن القلانسي المذكور رحمه الله تعالى سمعت شيخ الاسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه تعالى عنه يقول
من لي بمثل سيرك المدلل % نمشي رويدا وتجي في الأول
43 - تاج الدين الفزاري(179/62)
ومنهم الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام علم الأعلام برهان الدين مفتي المسلمين مفيد الطالبين ابو اسحاق ابراهيم ابن الامام شيخ الاسلام تاج الدين ابي محمد عبد الرحمن ابن الشيخ المقري ابي اسحاق ابراهيم بن سباع ابن ضيا الفزاري البدري الشافعي ولد في شهر ربيع الاول سنة ستين وستمائة وتوفي يوم الجمعة سابع جمادى الاولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة وكانت جنازته مشهودة وحمل على رؤوس الاصابع الى أن دفن بمقبرة الباب الصغير رحمة الله تعالى ولما توفي الشيخ تقي الدين ابن تيمية تردد الشيخ برهان الدين المذكور إلى قبره ثلاثة أيام متوالية مع جماعة من علماء الشافعية وكان يعظم الشيخ تقي الدين كما كان يحبه ويعظمه والده الشيخ تاج الدين قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي وكان الشيخ تاج الدين الفزاري يبالغ في تعظيم الشيخ تقي الدين بحيث أنه علق بخطه درسه بالسكرية. انتهى.
وهذا الدرس كان بعد موت والد الشيخ تقي الدين في يوم الاثنين ثاني المحرم من سنة ثلاث وثمانين وستمائة بدار الحديث السكرية التي بالقصاعين داخل دمشق وبها كان سكن الشيخ تقي الدين ووالده من قبل.
وحضر هذا الدرس قاضي القضاة بهاء الدين يوسف ابن القاضي محيي الدين أبي الفضل يحيى بن الذكي وشيخ الاسلام تاج الدين أبو محمد عبد الرحمن بن ابراهيم الفزاري المذكور والشيخ زين الدين أبو حفص عمر ابن مكي عبد الصمد بن المرجل وكيل بيت المال والد صدر الدين ابن الوكيل الشافعيون وشيخ الحنابلة العلامة زين الدين أبو البركات ابن المنجا
التنوخي وآخرون.
وكان درسا حافلا كتبه الشيخ تاج الددين الفزاري بخطه كما ذكره الذهبي وغيره لكثرة فوائده واطنب الحاضرون في شكره وكان اذ ذاك عمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية نحو احدى وعشرين سنة .(179/63)
ووجدت بخط الامام أبي محمد عبد الله بن أحمد ابن المحب المقدسي ما صورته قال الامام بدر الدين محمد بن علاء الدين بن غانم ومن خطه نقلت اجتمعت بالشيخ برهان الدين رحمه الله تعالى يوم وفاة الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى على مصطبة باب المدرسة البادرائية وعزيته فيه فوجدته متأسفا عليه كثير الالم لموته واذا بشخص من الطلبة قد حضر فقال له يا سيدي لا تحضر الدرس اليوم حتى نحضر في خدمتك فغضب غضبا شديدا وانزعج انزعاجا كثيرا وقام لوقته ودخل بيته وانصرف ذلك الرجل وانا جالس موضعي على المصطبة متألما لانزعاجه وإذا به قد علم برواح ذلك الرجل وجلوسي مكاني بعده فطلبني فدخلت فوجدته على حاله في الانزعاج وقال لي ما تبصر هذا الحال يموت أقل من يكون من الفقهاء فتبطل الدروس لاجله ويموت مثل هذا الرجل العظيم ولا تبطل الدروس لاجله والله عنده من الفضائل ما لا عند أحمد بن حنبل هذا كان صاحبي من الصغر ويجتمع بوالدي وكان والدي يحب والده واهله ويتردد الى والده وعندما درس ولده بعد وفاة والده حضر والدي عنده الدرس وكتب درسه واثنى على درسه وعلى فضائله من ذلك الزمان هذا صورة ما حكاه لي الشيخ برهان الدين رحمه الله تعالى ذلك اليوم انتهى ما وجدته بخط الامام ابي محمد بن المحب رحمه الله تعالى وابن غانم المذكور هو الامام العلامة أبو عبد الله محمد ابن أبي الحسن علي بن محمد بن سليمان بن غانم الدمشقي الشافعي ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين فقال الامام البارع الفقيه ذو الفضائل وقال ولد سنة ثمان وسبعين يعني وستمائة وسمع من ابن الواسطي حضورا ومن جماعة وطلب بنفسه وقتا وقرأ وله عناية بتحصيل العلم والكتب مع التصون والنزاهة والفضيلة وصحة الذهن تعلل أشهرا وتوفي في جمادى الاولى سنة اربعين وسبعمائة ووصى بثلثه في البر سمع منه جماعه. انتهى.
44 - ابن جماعة(179/64)
ومنهم الشيخ الامام العلامة المحدث المفيد الخطيب البليغ النبيل الاصيل قاضي القضاة برهان الدين سليل العلماء والصالحين أبو اسحاق ابراهيم بن العلامة الخطيب أبي محمد عبد الرحيم ابن الشيخ الامام مفتي الأنام قاضي القضاة بدر الدين أبي عبد الله محمد بن ابراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي ابن حازم بن صخر الكناني الشافعي ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال سمع جده ويحيى بن المصرى وعلي بن عمر الواني وبدمشق من ابن تمام والمزي وقرأ علي كثيرا مولده سنة خمس وعشرين وسبعمائة انتهى توفي رحمه الله يوم الخميس سابع عشر شعبان سنة تسعين وسبعمائة بالمزة ودفن بها من الغد يوم الجمعة.
45 - ابن يونس البعلبكي
ومنهم العالم الفقيه المحدث الرحال جمال الدين ابو اسحاق ابراهيم بن يونس بن موسى بن يونس البعلبكي إمام الصالحية بدمشق مولده سنة تسع وتسعين وستمائة وتوفي في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وأثنى عليه في دينه وفضله وكتب عنه أيضا الحافظ علم الدين أبو محمد القاسم بن البرزالي وحدث عنه ولقد ترجم ابن تيمية بشيخ الاسلام كالذي قبله من الاعلام.
46 - ابن ألمي التركي
ومنهم الشيخ المحدث العالم الفقيه الاديب النبيه نجم الدين ابو الفضل اسحاق بن أبي بكر بن ألمي بن أطسز التركي ولد سنة سبعين وستمائة سمع بمصر من الابرقوهي وبالاسكندرية من القوافي وبدمشق من اسماعيل بن الفرا وغيره وبحلب من سنقر الزيني وأخذ عن آخرين وعن الذهبي وغيره ودخل العراق وأذربيجان واستوطنها وبقي الى بعد العشرين وسبعمائة وانقطع خبره وله قصيدة مدح بها مذهب الامام أحمد وذكر فيها الشيخ تقي الدين ابن تيمية في قوله
وقد علم الرحمن أن زماننا % تشعب فيه الرأي أي تشعب
فجاء بحبره عالم من سراتهم % لسبع مئين بعد هجرة يثرب
يقيم قناة الدين بعد اعوجاجها % وينقذها من قبضة المتعصب(179/65)
فذاك فتى تيمية خير سيد % نجيب أتانا من سلالة منجب
عليم بأدواء النفوس يسوسها % بحكمته فعل الطبيب المجرب
بعيد عن الفحشاء والبغي والأذى % قريب الى أهل التقى ذو تحبب
يغيب ولكن عن مساو وغيبة % وعن مشهد الاحسان لم يتغيب
حليم كريم مشفق بيد انه % إذا لم يطع في الله لله يغضب
يرى نصرة الاسلام اكرم مغنم % واظهار دين الله أربح مكسب
في أبيات كثيرة منها
وليس له في العلم والزهد مشبه % سوى الحسن البصري وابن المسيب
47 - ابن بردس
ومنهم الشيخ الامام العالم المقرئ الحافظ المفيد الصالح الزاهد البركة القدوة عماد الدين ابو الفداء اسماعيل بن محمد بن بردس بن نصر بن بردس ابن رسلان البعلبكي الحنبلي مولده سنة عشرين وسبعمائة وتوفي سنة ست وثمانين وسبعمائة وله مؤلفات معلومة منثورة ومنظومة وجدت بخطه ترجمة الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام ورثاه بقصيدة من النظام أولها
عج بالكثيب إذا ما أنت جزت به % وحي عني عريبا نازلين به
48 - ابن كثير(179/66)
ومنهم الشيخ الامام العلامة الحافظ عماد الدين ثقة المحدثين عمدة المؤرخين علم المفسرين ابو الفداء اسماعيل ابن الشيخ العالم الخطيب أبي حفص عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن ذرع القرشي البصري ثم الدمشقي الشافعي ولد في سنة إحدى وسبعمائة بمجيدل القرية من عمل بصرى اذ كان أبوه خطيبا بها وتوفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة وكانت جنازته حافلة مشهودة ودفن بوصية منه في تربة شيخ الاسلام ابن تيمية بمقبرة للصوفية خارج باب النصر من دمشق له عدة مصنفات منها تفسير القرآن العظيم وكتاب التاريخ الكبير المسمى بالبداية والنهاية وله جامع المسانيد وغير ذلك من الفوائد ولقد ترجم الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام مرارا لا تحصى منها قوله في التاريخ ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة في ذي القعدة منها كانت وفاة شيخ الاسلام أبي العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه وقال وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكورة يعني العشرين من ذي القعدة قال فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة وتكلم بها الحراس على الأبرجة فما أصبح الناس الا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والامر الجسيم فبادر الناس على الفور الى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه حتى من الغوطة والمرج ولم يطبخ أهل الاسواق شيئا ولا فتحوا كثيرا من الدكاكين التي من شأنها أن تفتح أوائل النهار على العادة وكان نائب السلطنة تنكز قد ذهب يتصيد في بعض الامكنة فحارت الدولة ماذا يصنعون وجاء الصاحب شمس الدين غبريال إلى نائب القلعة فعزاه فيه وجلس عنده وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والاصحاب والاحباب فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من اخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية فجلسوا حوله يبكون ويثنون
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه(179/67)
وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله تعالى وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت اليه وقبلته وعلى رأسه عمامة بعذبة مغروزة وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه وأخبر الحاضرين أخوه زين الدين عبد الرحمن انه قرأ هو والشيخ منذ دخلا القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين فانتهيا فيها الى آخر اقتربت الساعة و إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران عبد الله بن المحب وعبد الله الزرعي الضرير وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما فابتدآ من أول سورة الرحمن حتى ختما القرآن وأنا حاضر اسمع وأرى ثم شرعوا في غسل الشيخ وخرجت الى مسجد هناك ولم يدعوا عند الشيخ إلا من ساعد في غسله منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الصالحين الاخيار أهل العلم والايمان فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم ثم ساروا به الى الجامع فسلكوا طريق العمادية على العادلية الكبيرة ثم عطفوا على باب الناطفانيين وذلك أن سويقة باب البريد كانت هدمت لتصلح ودخلوا بالجنازة الى الجامع الأموي والخلائق فيه وبين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصي عدتهم الا الله تعالى فصرخ صارخ هكذا تكون جنائز أهل السنة فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف بل مرصوصين رصا لا يتمكن أحد من السجود الا بكلفة يعني داخل الجامع وخارجه الى الازقة والاسواق وذلك قبل آذان الظهر بقليل وجاء الناس من كل مكان ونوى خلق الصيام لانهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا شرب وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف فلما فرغ من آذان الظهر أقيمت الصلاة عقبه على السدة بخلاف العادة فلما فرغوا من الصلاة خرج نائب الخطيب لغيبة الخطيب بمصر فصلى عليه إماما وهو الشيخ علاء الدين الخراط ثم خرج الناس(179/68)
من كل مكان من سائر أبواب الجامع والبلد كما ذكرنا واجتمعوا بسوق الخيل ومن الناس من تعجل بعد ان صلى في الجامع الى مقابر الصوفية والناس في بكاء وتهليل في مخافته كل واحد في نفسه وفي ثناء وتأسف والنساء فوق الاسطحة من هناك الى المقبرة يبكين ويدعين ويقلن هذا العالم وبالجملة كان يوما مشهودا لم يعهد مثله الا أن يكون في زمن بني أمية حين كان الناس بها كثيرين وكانت دار الخلافة ثم دفن رحمه الله تعالى عند أخيه قريبا من أذان العصر على التحديد ولا يمكن أحدا حصر من حضر الجنازة وتقريب ذلك أنه عبارة عمن أمكنه الحضور من اهل البلد وحواضره ولم يتخلف من الناس الا القليل من الضعفاء والمخدرات وما علمت أحدا من أهل العلم الا النفر اليسير تخلف عن الحضور في جنازته وهم ثلاثة أنفس ابن جملة والصدر والقحفازي وهؤلاء كانوا قد اشتهروا بمعاداته فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم بحيث علموا أنهم متى خرجوا قتلوا وأهلكهم الناس وتردد شيخنا الامام العالم العلامة برهان الدين الفزاري الى قبره في الايام الثلاثة وكذلك جماعة من علماء الشافعية وكان برهان الدين الفزاري يأتي راكبا على حماره وعليه الجلالة والوقار رحمه الله تعالى وعملت له ختمات كثيرة ورؤيت له منامات صالحة عجيبة ورثي باشعار كثيرة وقصائد مطولة جدا وقد أفردت له تراجم كبيرة وصنف في ذلك جماعة من الفضلاء وقال ابن كثير ايضا وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب ولكن خطأه بالنسبة الى صوابه كنقطة في بحر لجي وخطؤه أيضا مغفور له كما صح في البخاري اذا اجتهد الحاكم فاصاب فله أجران واذا اجتهد فأخطأ فله أجر فهو مأجور وقال الامام مالك بن أنس كل أحد يؤخذ من قوله ويترك الا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى أعلم.
48 - الحسن بن حبيب(179/69)
ومنهم الشيخ العالم الفاضل المحدث المؤرخ المفيد الاديب المنشئ البارع بدر الدين أبو محمد الحسن بن الشيخ الامام الحافظ ابي القاسم عمر بن الحسن ابن عمر بن حبيب بن عمر الدمشقي الحلبي سمع الحديث من ذوي الاسناد وسلك جادة الادب فاجاد وجمع فاوعى وسمع وروى ونفع وافاد وله مؤلفات عدة ومقطعات نظم فردة منها قوله لما توفي والده الحافظ زين الدين ابو القاسم رحمه الله تعالى
لوالدي قد قلت حين ولى % مفارقا نفسه العفيفة
ابشر من المصطفى بخير % يا خادم السنة الشريفة
ومن مؤلفاته العزيزة الادراك درة الاسلاك في دولة الاتراك قال فيه في ترجمة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وفيها توفي شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي بحر زاخر في النقليات وحبر ماهر في حفظ عقائل العقليات وإمام في معرفة الكتاب والسنة وهمام لا يميل الى حلاوة من المنة كان ذا ورع زائد وزهد فرعه في روض الرضى مائد وسخاء وشجاعة وعزلة وقناعة وتصانيف مشهورة وفتاوى اعلامها منشورة يصدع بالحق ويتكلم فيما جل ودق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويثابر على اقامة الحدود ان شكر وان لم يشكر كتب قاضي القضاة أبو المعالي محمد بن الزملكاني على بعض مصنفاته
ماذا يقول الواصفون له % وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة % هو بيننا أعجوبة العصر
هو آية للخلق ظاهرة % أنوارها أربت على الفجر
وكانت وفاته بقلعة دمشق معتقلا عن سبع وستين سنة تغمده الله برحمته.
49 - ابن شيخ السلامية(179/70)
ومنهم الشيخ الامام العلامة عز الدين ابو يعلى حمزة بن قطب الدين موسى ابن الصدر الرئيس ضياء الدين أبي العباس أحمد بن الحسين ابن شيخ السلامية مدرس مدرسة شرف الاسلام ابن الحنبلي كتب على المنتقى في الاحكام عدة أسفار وجمع بخطه فوائد كثيرة ومعاني آثار وتوفي بدمشق سنة تسع وستين وسبعمائة وقد جاوز الستين سمع من أبي الحجاج المزي وأبي محمد البرزالي وآخرين وجدت بخطه في عدة مواضع قال شيخ الاسلام ابن تيمية [ ومنها على حاشية مسألة الجد هل هو مسقط للاخوة أم لا وترجيح قول الصديق رضي الله عنه قال تصنيف شيخ الاسلام علم الزهاد قطب فلك الانام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني قدس الله روحه ].
50 - المجاور
ومنهم الشيخ الصالح الزاهد الخير العابد الشيخ خالد المجاور لدار الطعم بدمشق كان يقصد للتبرك بدعواته ويزار اغتناما لمشاهداته وكانت له احوال صالحة وكلمات موقظة ناصحة وكشف عن بعض أمور وكلمته نافذة في المأمور يأمر بالمعروف فيطاع وينهى عن المنكر فيقابل بالاستماع وكان أحد أصحاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية الامام ويعظمه كغيره من الاعلام ويترجمه بشيخ الاسلام.
51 - العلائي(179/71)
ومنهم الشيخ الامام العلامة الحافظ الكبير حجة الحفاظ عمدة العلماء الأيقاظ محدث الفقهاء وفقيه المحدثين أوحد المتقنين والخرجين صلاح الدين أبو سعيد خليل بن الامير سيف الدين كيكلدي ابن عبد الله العلائي مولاهم الدمشقي الشافعي نزيل القدس الشريف صاحب كتاب القواعد وكتاب المراسيل وغير ذلك من مصنف مختصر وطويل مولده سنة أربع وتسعين وستمائة تفقه بالشيخ كمال الدين ابن الزملكاني ودرس وافتى وناظر وخرج وصنف وجمع وألف وسكن بيت المقدس حين ولي تدريس المدرسة الصلاحية وتوفي في يوم الاثنين ثالث شهر الله المحرم سنة إحدى وستين وسبعمائة ببيت المقدس ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال وطلب وقرأ وافاد وانتقى ونظر في الرجال والعلل وتقدم في هذا الشأن مع صحة الذهن وسرعة الفهم .انتهى .
روى الشيخ صلاح الدين العلائي المذكور في الشيخ تقي الدين فقال أخبرنا شيخنا وسيدنا شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس احمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام ابن تيمية وأخوه لأمه الامام بدر الدين أبو القاسم محمد بن قاسم الحراني ونسيبهما عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد اللطيف بن عبد العزيز ابن تيمية والعلامة كمال الدين احمد بن محمد بن أبي بكر الشريشي ذكر غيرهم ثم قال قالوا كلهم خلا الشريشي أخبرنا أبو العباس احمد ابن عبد الدائم بن نعمة المقدسي وذكر أحاديث انتقاها الحافظ صلاح الدين العلائي المذكور من جزء ابن عرفة.
52 - الدهلي(179/72)
ومنهم الشيخ العالم الحافظ المؤرخ المفيد نجم الدين ناقد المحدثين أبو الخير سعيد بن عبد الله الدهلي ثم البغدادي الحريري مولاهم هو مولى الصدر صلاح الدين عبد الرحمن بن عمر الحريري مولده تقريبا سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وتوفي سنة تسع واربعين وسبعمائة سمع ببغداد والشام وغيرهما من بلاد الاسلام وفضل وتقدم ونقد الرجال وترجم جمع تراجم لعدة من أعيان بغداد وخرج كثيرا من المرويات بالاسناد وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين فقال عنه المحدث المؤرخ مفيد الجماعة نجم الدين ابو الخير الحنبلي نزيل دمشق مولده سنة اثنتي عشرة وسبعمائة أنشدنا لغير واحد وسمع المزي من السروجي عنه وله رحلة الى مصر والثغر وعمل جيد وهمة في التاريخ وتكثير المشايخ والاجزاء ومعرفة الرجال انتهى
وقد ترجم الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام غير ما مرة ووجدت بخط المحدث المفيد ابي نصر محمد بن طولوبغا السيفي انشدنا الشيخ نجم الدين ابو الخير سعيد ابن عبد الله الدهلي الحنبلي في سنة سبع وثلاثين وسبعمائة بدمشق قال انشدنا الشيخ الامام العالم امام المحققين وقدرة المحدثين تقي الدين ابو الثناء محمود بن علي بن محمود بن مقبل بن سليمان بن داود الدقوفي رحمة الله تعالى عليه لنفسه يرثى شيخ الاسلام أبا العباس احمد ابن تيمية قدس الله روحه في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ببغداد حرسها الله تعالى
قف بالربوع الهامدات وعده % واذر الدموع الجامدات وبدد
وذكر القصيدة التي منها
مات الذي جمع العلوم الى التقى % والفضل والورع الصحيح الجيد
شيخ الانام تقي الدين محمد % وجمال مذهب ذي الفضائل أحمد.
53 - القابوني(179/73)
ومنهم الشيخ العالم المحدث الفقيه الفاضل الاديب البارع أبو محمد سلمان ابن عبد الحميد بن محمد بن المبارك البغدادي ثم القابوني الحنبلي الصوفي ذكره الشيخ شهاب الدين ابن حجي في معجم شيوخه الاعلام وترجم ابن تيمية بشيخ الاسلام وكان لطيف المحاضرة وله شعر جيد وحسن مذاكرة وهو أحد من أخذنا عنه وسمعنا الحديث منه.
54 - الياسوفي
ومنهم الشيخ الإمام العلامة الفقيه الحافظ الناقد الثقة صدر الدين جمال الفقهاء والمحدثين ابو الربيع ويقال ابو الفضل سليمان بن يوسف بن مفلح ابن أبي الوفا المقدسي الياسوفي ثم الدمشقي الشافعي عين الفقهاء والمتقنين وعلم الحفاظ المفيدين عني بهذا الشأن وبرز فيه على الاقران جمع وخرج وأفاد وتكلم على الرجال فأجاد سجن بقلعة دمشق أيام الامتحان بسبب فتوى ابي هاشم أحمد بن اسماعيل الظاهري على السلطان وتوفي في الثالث والعشرين من شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة وكان أحد محبي الشيخ تقي الدين ابن تيمية الامام وترجمه غير ما مرة بشيخ الاسلام ودفن بقرب تربته الزكية بمقابر الصوفية.
55 - عبد الله بن المحب(179/74)
ومنهم الشيخ الامام العالم المحدث المفيد الزاهد العابد محب الدين ابو محمد عبد الله ابن المسند العالم أبي العباس احمد بن الشيخ محب الدين أبي محمد عبد الله بن احمد بن أبي بكر محمد بن ابراهيم بن احمد بن عبد الرحمن بن اسماعيل بن منصور المقدسي الصالحي ولد يوم الاحد ثاني عشر المحرم سنة اثنين وثمانين وستمائة بصالحية دمشق وسمع بإفادة أبيه من ابن البخاري وزينب ابنة مكي وخلق وطلب هو لنفسه فأكثر ومشيخته نحو ألف شيخ وأفاد كثيرا واستفاد وخرج لنفسه ولغيره من ذوي الاسناد وحدث كثيرا وسمع منه جم غفير وتوفي في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الاول سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ودفن بالقرب من الشيخ موفق الدين بسفح قاسيون وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال انتقيت له جزءا وهو شيخ الحديث بالضيائية حدث بالكثير انتهى كان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يحبه ويحب قراءته وجدت بخطه في مواضع ترجمة الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام منها في اثبات سماع اولاده من ذلك ما صورته وحضر ولدي محمد جبره الله في السنة الثالثة بقراءتي يوم ختم الصحيح على المشايخ السبعة سيدنا وشيخنا الامام العلامة الحافظ القدوة الحجة العمدة الزاهد الورع بقية الأئمة الاعلام وشيخ مشايخ الاسلام مفتي فرق المسلمين حجة المذاهب فريد العصر وأوحد الدهر علم الهدى ناصر السنن قامع البدع تقي الدين ابي العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية وذكر بقية السماع وانه كان يوم الاثنين الثالث من ذي الحجة سنة اربع عشرة وسبعمائة بالمدرسة الحنبلية داخل دمشق ووجدت أيضا بخط الشيخ محب الدين المذكور ما نصه وسمع إبناي محمد(179/75)
واحمد وفقهما الله تعالى بقراءتي على المشايخ الاثنين والعشرين شيخنا وسيدنا الامام العلامة الحافظ القدوة العمدة الحجة شيخ الاسلام مجتهد العصر لسان الشريعة حجة المذاهب امام الطوائف تقي الدين ابي العباس احمد بن عبد الحليم ابن الشيخ العلامة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني وذكر بقية الشيوخ وفيهم الحافظ جمال الدين أبو الحجاج المزي وذكر السماع وما يتعلق به ووجدت أيضا بخط الشيخ محب الدين المذكور على منتقى من جزء أيوب السختياني انتقاء الضياء سمع جميع هذا الجزء من لفظ شيخ مشايخ الاسلام فريد العصر والاوان مفتي الفرق بركة المسلمين تقي الدين أبي العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية رضي الله تعالى عنه بسماعه من ابن عبد الدائم الشيخ الحافظ علم الدين القاسم بن محمد بن يوسف البرزالي وعبد الله بن احمد بن المحب المقدسي وذا خطه وذلك في يوم الثلاثاء رابع عشر صفر سنة تسع وتسعين وستمائة بدار الحديث السكرية بالقصاعين بدمشق.
56 - الجزري
ومنهم الشيخ الصالح العابد الناسك أبو محمد عبد الله بن موسى بن احمد الجزري نزيل دمشق المقيم بمشهد أبي بكر من جامع دمشق توفي يوم الاثنين السادس والعشرين من صفر سنة خمس وعشرين وسبعمائة وكانت جنازته مشهودة ودفن بمقبرة الباب الصغير بدمشق قال العلامة أبو الفدا اسماعيل ابن كثير كان من الصالحين الكبار مباركا خيرا عليه سكينة ووقار وكانت له مطالعة كثيرة وله فهم جيد وعقل صحيح وكان من الملازمين لمجالس الشيخ تقي الدين ابن تيمية وكان ينقل من كلامه اشياء كثيرة ويفهمها يعجز عنها كبار الفقهاء. انتهى.
57 - الاسكندري(179/76)
ومنهم الشيخ المحدث العالم جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يعقوب ابن سيدهم بن اردبين الاسكندري نزيل دمشق من سنة سبع وسبعمائة وسمع من ابن مشرف وابن الموازيني والدمياطي وآخرين وقرأ الكثير وبالغ في الطلب ونسخ وحصل ودأب سمع منه بعض شيوخنا في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال أوذي من أجل ابن تيمية وقطع رزقه وبالغوا في التحرير عليه ثم انصلح حاله انتهى وقد ترجم الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام فيما وجدته بخطه في غير ما موضع من كتبه بضبطه منها على الجواب الباهر في زيارة المقابر قال أجاب به شيخ الاسلام أبو العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية ثم قال : علقه لنفسه عبد الله بن يعقوب الاسكندري عفا الله عنه.
58 - ابن طولوبغا السيفي
ومنهم الشيخ المسند المكثر العالم أسد الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ العالم المحدث المفيد أبي نصر محمد بن طولوبغا بن عبد الله السيفي سمع الكثير بإفادة أبيه من طائفة من المسندين واحضره عند الحافظ الذهبي وآخرين.
وكتب بخطه فوائد واشياء مما يرويه وكان يترجم ابن تيمية بشيخ الاسلام كأبيه.
59 - ابن الفخر(179/77)
ومنهم الشيخ الامام العالم الحافظ فخر الدين سليل العلماء والصالحين أبو بكر عبد الرحمن بن الامام العلامة أبي عبد الله محمد بن الامام العلامة القدوة بركة المسلمين فخر الدين أبي محمد عبد الرحمن بن يوسف بن محمد ابن نصر ابن أبي القاسم البعلبكي ابن الفخر الدمشقي ولد يوم الخميس الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع من ابن البخاري في الخامسة من عمره ومن التقي الواسطي وخلق وكتب الكثير وعلق وأفاد الشيوخ وطبق وخرج لجماعة من الأعيان وفسر بعض القرآن وكان يقص على الناس في عدة مواعيد مع العفة والصلاح الشديد توفي يوم الخميس تاسع عشر ذي القعدة سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة ودفن بمقبرة الصوفية ولم يعقب فيما قاله ابن رجب خرج للشيخ تقي الدين ابن تيمية جزءا من مروياته العلية وكان يترجمه بشيخ الاسلام أسوة أمثاله من الاعلام فيما وجدته بخطه وتقييده الحسن وضبطه.
60 - ابن رجب(179/78)
ومنهم الشيخ الامام العلامة الزاهد القدوة البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة واعظ المسلمين مفيد المحدثين زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن الشيخ الامام المقرئ المحدث شهاب الدين أبي العباس احمد بن رجب وعبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود البغدادي الدمشقي الحنبلي أحد الأئمة الزهاد والعلماء العباد سمع من محمد بن الخباز وابراهيم بن داود العطار والميدومي وأبي الحزم بن القلانسي وخلق من رواة الآثار له مصنفات مفيدة ومؤلفات عديدة منها شرح جامع الترمذي أبي عيسى وشرح من أول صحيح البخاري الى الجنائز شرحا نفيسا وله كتاب طبقات أصحاب مذهبه جعله ذيلا على من بدأ به وهو القاضي أبو الحسين محمد ابن القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين ابن الفراء قال فيه أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني ثم الدمشقي الامام الفقيه المجتهد المحدث الحافظ المفسر الاصولي الزاهد تقي الدين أبو العباس شيخ الاسلام وعلم الاعلام وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره والاسهاب في أمره ثم ذكر ابن رجب ترجمة الشيخ تقي الدين وفيها ذكر موته ودفنه ثم قال وصلى عليه صلاة الغائب في غالب بلاد الاسلام القريبة والبعيدة حتى في اليمن والصين وأخبر المسافرون أنه نودي بأقصى الصين للصلاة عليه يوم الجمعة الصلاة على ترجمان القرآن.(179/79)
توفي الشيخ زين الدين بن رجب في شهر رجب سنة خمس وتسعين وسبعمائة ودفن بمقبرة الباب الصغير جوار قبر الشيخ الفقيه الزاهد أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي ثم المقدسي الدمشقي المتوفي في ذي الحجة سنة ثمانين وأربعمائة وهو الذي نشر مذهب الامام أحمد بن حنبل ببيت المقدس ثم بدمشق رحمه الله تعالى لقد حدثني من حفر لحد ابن رجب ان الشيخ زين الدين بن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام قال فقال لي احفر لي هنا لحدا وأشار الى البقعة التي دفن فيها قال فحفرت له فلما فرغ نزل في القبر واضطجع فيه فأعجبه وقال هذا جيد ثم خرج
قال فوالله ما شعرت به بعد ايام إلا وقد أتي به ميتا محمولا في نعشه فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه.
61 - الحافظ العراقي(179/80)
ومنهم الشيخ الامام العلامة الأوحد شيخ العصر حافظ الوقت زين الدين شيخ المحدثين علم الناقدين عمدة المخرجين أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين ابن عبد الرحمن بن أبي بكر بن ابراهيم بن العراقي المصري الشافعي مولده في جمادى الاولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة سمع من خلق من المسندين مثل محمد بن اسماعيل بن الخباز والميدومي وآخرين ومنهم عدة من أصحاب علي بن البخاري فخر الدين وحدث وأملى وأفاد وتكلم على العلل والاسناد ومعاني المتون وفقهها فأجاد صنف التصانيف التي اشتهرت وخرج تخاريج رويت وانتشرت ولقد قال فيما أملاه من لفظه في يوم عاشوراء من محرم سنة خمس وتسعين وسبعمائة بالمدرسة الظاهرية القديمة بعد ان روى من طريق الامام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي قال انبأنا أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي قال حدثنا الحسن بن علي الأهوازي حدثنا معمر بن سهل قال حدثنا حجاج بن نصير قال حدثنا محمد بن ذكوان عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أوسع على عياله وأهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته هذا حديث في إسناده لين وحجاج بن نصير ومحمد بن ذكوان الطاحي وسليمان بن أبي عبد الله مضعفون لكن ابن حبان ذكرهم في الثقاة وباقيهم ثقاة فهو حديث حسن على رأي ابن حبان ولحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه طريق آخر صححه الحافظ أبو الفضل بن ناصر وفيه زيادات منكرة وقد روي حديث التوسعة يوم عاشوراء من حديث جابر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وابن عمر رضي الله تعالى عنهم وأصحها حديث جابر قاله أبو الفضل ابن العراقي المشار إليه وقال أيضا ورواه البيهقي في الشعب من قول ابراهيم بن محمد بن المنتشر واما قول الشيخ الامام تقي الدين ابن تيمية انه ما روى احد من أئمة الحديث ما فيه توسيع النفقة يوم عاشوراء وان اعلى ما بلغه فيه قول ابراهيم بن محمد المنتشر فهو عجيب [(179/81)
منه ] فهو كما ذكرته في عدة من كتب أئمة الحديث وقد جمعت طرقه في جزء والله تعالى أعلم.
62 - ابن عبد الحق البغدادي
ومنهم الشيخ الامام العلامة صفي الدين مفتي المسلمين أبو الفضائل عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله بن علي بن مسعود البغدادي الحنبلي مولده في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وستمائة وله مصنفات في فنون من العلم كالفقه والاصول واللغة والتاريخ والطب والحساب قال المحدث أبو الخير سعيد الدهلي واختصر الكتاب الذي ألفه شيخ الاسلام تقي الدين ابن تيمية في الرد على ابن المطهر ورسمه بكتاب المطالب العوال لتقرير منهاج الاستقامة والاعتدال وكتاب مراصد الاطلاع على [ اسماء ] الامكنة والبقاع انتهى وهذا هو مختصر معجم البلدان لياقوت توفي الشيخ صفي الدين رحمه الله في صفر سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ودفن بمقبرة الامام احمد رحمه الله تعالى عليه وقد وجدت بخط المحدث ابي نصر محمد بن طولوبغا السيفي نقلت من خط الامام المحدث الفاضل الأديب البارع صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي يقول قال العبد الفقير عبد المؤمن بن عبد الحق حين بلغه وفاة الشيخ الامام العالم بقية العلماء المجتهدين تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني رحمه الله تعالى ورضي عنه
طبت مثوى يا خاتم العلماء % في مقام الزلفى مع الاتقياء
وذكر باقي القصيدة
63 - ابن السلار(179/82)
ومنهم الشيخ الامام العالم شيخ القراء عمدة أهل الأداء أمين الدين علم المجودين بقية السلف الصالحين أبو محمد عبد الوهاب بن يوسف ابن ابراهيم بن السلار بن بيرم بن السلار بن محمود بن بهرام بن السلار بن بختيار الدمشقي الشافعي زوج شيختنا زينب ابنة الامام شرف الدين عبد الله ابن تيمية أخي تقي الدين رحمهم الله وكان الشيخ أمين الدين المشار أليه يعظم الشيخ تقي الدين ويثني عليه ويذكره بشيخ الاسلام في ترجمته وأوصى أن يدفن عنده فدفن في تربته ورثاه بقصيدة دالية سمعت منه ورويت عنه أولها كل حي له الممات ورود ومنها
كان شيخ الاسلام نقلا وعقلا % باب ذي البدع عنده مردود
وقال الشيخ أمين الدين بن السلار وأنشدني الشيخ الامام مسند الشام بهاء الدين القاسم بن مظفر بن محمود ابن عساكر لنفسه في شيخ الاسلام ابن تيمية هذين البيتين يوم الاربعاء سابع رجب عام عشرين وسبعمائة بمنزلة بدمشق
تقي الدين أضحى بحر علم % يجيب السائلين بلا قنوط
أحاط بكل علم فيه نفع % فقل ما شئت في البحر المحيط
64 - اليونيني
ومنهم الشيخ الإمام العالم المحدث الفقيه نور الدين أبو الحسن علي بن محمد ابن سليمان بن أيدغدي بن علي بن سليمان اليونيني الحنبلي الملقب بحنبل أخذ عن خلق من الشيوخ من أصحاب ابن البخاري وغيرهم وكتب بخطه كثيرا وخرج لنفسه تخاريج ووجدت بخطه في غير ما موضع ترجم الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام من ذلك على الجزء الذي فيه مائة حديث انتقاها الشيخ تقي الدين من صحيح البخاري مشتملة على الثلاثيات الإسناد وموافقات وأبدال وعوالي فقال فيما وجدته بخطه انتقاء الشيخ الإمام شيخ الإسلام حسنة الزمان بقية السلف عمدة الخلف مفتي الفرق تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رحمه الله عليهم أجمعين.
65 - ابن اللخام البعلي(179/83)
ومنهم الشيخ الإمام العالم أقضى القضاة مفتي المسلمين علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي نزيل دمشق الحنبلي كان للشيخ تقي الدين من المعظمين وبشيخ الاسلام له من المترجمين وجمع في مصنف اختيارته من مسائل الفروع ورتبها على أبواب الفقه مع زيادة من فوائده على المجموع .
وقد وجدت بخطه قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ المجتهد الزاهد العابد القدوة إمام الأئمة قدوة الأمة علامة العلماء وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين بركة الإسلام حجة الاعلام برهان المتكلمين قامع المبتدعين ذو العلوم الرفيعة والفنون البديعة محيي السنة ومن عظمت به لله علينا المنة وقامت به على أعدائه الحجة واستبانت ببركته وهديه المحجة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني قدس الله روحه واثابه الجنة برحمته ثم ذكر بعض كلام الشيخ تقي الدين في تصنيف له.
66 - الزبيدي
ومنهم الشيخ العالم الفاضل الصالح أبو زيد علي بن زيد بن علوان بن صبرة ابن مهدي بن حريز الزبيدي اليمني الشافعي نزيل حلب سمع من أصحاب الحجار وطبقتهم ورحل في هذا الشأن وطلب وقرأ بنفسه وطبق وكتب وجدت بخطه على المائة حديث المنتقاة من صحيح البخاري التي انتقاها الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمة الله تعالى على الشيخ الإمام العلامة مفتي المسلمين ورحلة الطالبين أبي عبد الله محمد بن علي بن احمد الحنبلي الشهير بابن اليونانية وذكر بقية طبقة السماع وكتب في آخرها ما نصه وكتب علي بن زيد بن علوان بن صبرة بن مهدي الزبيدي اليمني.
67 - الكندي(179/84)
ومنهم الشيخ الإمام المقرئ المحدث الأديب البارع علاء الدين أبو الحسن علي بن المظفر بن ابراهيم بن عمر بن زيد بن هبة الله الكندي الإسكندراني ثم الدمشقي سمع من عبد الله بن الخشوعي واحمد بن عبد الدائم وآخرين يبلغون نحوا من مائتي شيخ وهو صاحب كتاب التذكرة الكندية في خمسين مجلدا كانت وقفا قبل الفتنة بخانقاه الرئيس أبي القاسم علي بن محمد بن يحيى السلمي الحبيشي السميساطي بدمشق وكانت علومه جمة وكتابته حسنة وشعره رائقا فائقا وكان شيخ دار الحديث النفيسية بدمشق مدة عشر سنين الى أن توفي ببستانه عند قبة المسجد ليلة الاربعاء سابع عشر شهر رجب سنة ست عشرة وسبعمائة ودفن من الغد بالمزة عن ست وسبعين سنة وكان كثير الملازمة للشيخ تقي الدين ومن خواص أصحابه المشهورين كثير التعظيم له والاحترام وترجمه بشيخ الاسلام.
68 - شيخ الحديث بحلب عمر ابن حبيب
ومنهم الشيخ الامام العالم الفقيه الفاضل المحدث الرحال الصدر الكبير المسند المكثر زين الدين جمال المحدثين ابو القاسم عمر بن الحسن بن عمر ابن حبيب بن عمر الدمشقي الشافعي شيخ الحديث بحلب وناظر الحسبة بها سمع من ابن البخاري ومحمد بن الكمال عبد الرحيم والتقي ابراهيم الواسطي وأحمد بن شيبان وزينب ابنة مكي وخلق يزيدون على خمسمائة انسان منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية سمع منه جزء ابن عرفة في سنة عشر وسبعمائة وخرج له الحافظ ابو عبد الله الذهبي معجما عن شيوخه توفي ببلد مراغة سنة ست وعشرين وسبعمائة عن ثلاث وستين سنة.
69 - أبي رسلان البلقيني(179/85)
ومنها شيخنا الامام شيخ الاسلام مجتهد العصر نادره الوقت فقيه الدنيا سراج الدين خاتمة المجتهدين أبو حفص عمر بن رسلان بن أبي المظفر نصير بن أبي التقى صالح وهو أول من سكن بلقين بن حمد بن محمدا ابن عبد الحق بن مسافر الكناني البلقيني امام الأئمة وعالم الامة ولد في شعبان أربع وعشرين وسبعمائة وتوفي سنة خمس وثمانمائة حدث عن طائفة من الشيوخ سماعا وعن آخرين إجازة منهم ما قال في أربعين حديثا خرجت له فحدث بها قال انبانا الشيخ الإمام المسند الثقة أبو الفرج عبد الرحمن بن الامام شهاب الدين عبد الحليم ابن شيخ الإسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم ابن تيمية الحراني إجازة من دمشق وأجاز لي آخرون قالوا انبأنا احمد بن عبد الدائم ثم حول المسند ووصله وما قبله الى الحسن بن عرفة فروى من جزئه حديثا وقال عقيبة شيخنا هذا ولد بحران سنة ثلاث وستين وستمائة وسمع من ابن عبد الدائم ومن ابن أبي اليسر وابن أبي عمر والفخر علي وجماعة يزيدون على المائة وكان عالما فاضلا دينا ثقة وتفرد وعلا سنده وعمر وحدث بالكثير توفي ليلة الخميس ثالث ذي القعدة سنة سبع وأربعين وسبعمائة وهو أخو الشيخ تقي الدين الإمام رحمهما الله تعالى انتهى ولما قدم شيخنا شيخ الإسلام البلقيني رحمة الله عليه دمشق مع السلطان الملك الظاهر أبي سعيد والقى الدروس بمحراب الحنفية من جامع دمشق ذكر في بعض دروسه مسألة لم يرها لغيره فاستطرد وحكى فيما ذكره لي بعض من كان حاضرا من الأئمة قال سمعته يقول كان شيخ الإسلام ابن تيمية مرة يلقي درسا فذكر مسألة قال عنها هذه مسألة ليست في كتاب فقال بعض من كان يناوئه ولم يسمه هذه في الف كتاب فكان شيخ الاسلام ابن تيمية اذا عرضت تلك المسأله في دروسه يقول هذه ليست في كتاب ثم يقول وقال الكذاب هذه في الف كتاب.
70 - ابن نجيح(179/86)
ومنهم الشيخ الامام العالم القاضي المحدث المتقن أبو حفص عمر بن سعد الله بن عبد الأحد بن سعد الله بن حفص عبد القاهر بن عبد الواحد بن عمر الحراني الشهير بابن نجيح ولد سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع من ابن البخاري حضورا ومن يوسف الغسولي وآخرين وخرج له عن شيوخه جزءا حدث به وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين فقال عالم ذكي خير وقور متواضع بصير بالفقه والعربية سمع الكثير وولي مشيخة الضيائية فألقى دروسا محررة تخرج بابن تيمية وغيره وناب في الحكم فحمد .انتهى.
توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة مطعونا شهيدا رحمه الله تعالى وكان أحد خواص الشيخ تقي الدين ومحبيه ويترجمه بشيخ الإسلام كأبي عبد الله أخيه.
71 - ابن شقير
ومنهم الشيخ العالم الفاضل الصالح الخير تقي الدين أبو حفص عمر ابن عبد الله بن عبد الأحد بن عبد الله بن سلامة بن خليفة بن شقير الحراني الحنبلي مولده فيما وجدته بخطه ليلة عيد الفطر من سنة ست وستين وستمائة ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال شيخ فاضل متدين مشهور سمع الكثير بنفسه ودار على المشايخ وسمع من القاسم الأربلي والفخر علي وزينب وابن شيبان وخلق وقال توفي في جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وسبعمائة عن ثمان وسبعين. انتهى.
72 - القباني(179/87)
ومنهم الشيخ الإمام العالم القدوة الزاهد العابد المفتي سراج الدين أبو حفص عمر بن الشيخ الإمام الفقيه الزاهد العابد القدوة نجم الدين أبي عمر عبد الرحمن بن حسين بن يحيى بن عمر بن عبد المحسن اللخمي القباني ثم الحموي الحنبلي نزيل القدس الشريف لازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية واشتغل عليه وانتفع بما حصله مما لديه فبرز على أقرانه وفضل وكان جامعا بين العلم والعمل ذكره ابن رجب في طبقاته وذكر فضله وقال لم أر على طريقه في الصلاح مثله انتهى حدث في سلخ رمضان سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة بقية موسى من المسجد الأقصى فقال واخبرنا المشايخ الثمانية والأربعون الإمام العلامة شيخ الإسلام ( تقي الدين ) أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية وأخوه أبو محمد عبد الرحمن وذكر بقية الشيوخ وساق الإسناد الى الحسن بن عرفة فذكر من جزئه حديثا.
73 - البزار(179/88)
ومنهم الشيخ العالم الفقيه الفاضل المحدث سراج الدين أبو حفص عمر ابن علي بن موسى بن الخليل البغدادي الازجي البزار ولد سنة ثمان وثمانين وستمائة تقريبا سمع ببغداد من عبد الله بن عبد المؤمن الواسطي وتلا عليه القرآن بحرف أبي عمرو بن العلاء وسمع من أسماعيل بن الطبال ومحمد بن عبد المحسن بن عبد الغفار ابن الدواليبي وعلي بن أبي القاسم عبد الله بن عمر ابن أبي القاسم وغيرهم ورحل الى دمشق فقرأ على الحجار صحيح البخاري بمدرسة شرف الإسلام ابن الحنبلي بدمشق وحضره خلق منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية وصحبه وأخذ عنه وكان بدمشق مقيما بالضيائية من سفح قاسيون وله مصنفات في الحديث والفقه والرقائق وكان ذا عبادة وتهجد رجع في آخر عمره الى بغداد ثم توجه منها الى الحج في سنة تسع وأربعين وسبعمائة فلما وصل الى حاجر توفي بها صبيحة يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة تسع المذكورة بالطاعون ومات معه كذلك نحو من خمسين رجلا فدفن الجميع بحاجر رحمهم الله تعالى كان سراج الدين المذكور للشيخ تقي الدين معظما وبشيخ الاسلام له مترجما وجمع له ترجمة مفردة سماها الأعلام العلية في مناقب الإمام ابن تيمية ومما ذكره فيها قال حدثني غير واحد من العلماء الفضلاء من أصحاب الأئمة النبلاء الذين خاضوا في اقوال المتكلمين ليسترجعوا منها الصواب ويميزوا بين القشر واللباب ان كلا منهم لم يزل حائرا في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم وانه لم يستقر في قلبه منها قول ولم يبن له من مضمونها حق بل رآها كلها موقعة في الحيرة والتضليل وانه كان خائفا على نفسه من الوقوع بسببها في التشكيك والتعطيل حتى من الله تعالى عليه بمطالعة مؤلفات هذا الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام وما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام فما هو إلا ان وقف عليها وفهمها فرآها موافقة للعقل السليم فانجلى عنه ما كان قد غشيه من أقوال المتكلمين.
74 - الملحي(179/89)
ومنهم الشيخ الإمام العلامة المحدث الفقيه زين الدين قاضي المسلمين مفتي الطالبين ابو حفص عمر بن مسلم بن سعيد بن عمر بن بدر بن مسلم القرشي الملحي من قرية ملح من أعمال صرخد ثم الدمشقي الشافعي قاضي أهل دمشق في عصره وواعظ اهل مصر توفي في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ودفن بالتربة التي بجوار مسجد الشيخ تقي الدين ابن تيمية من القبيبات بدمشق رحمه الله تعالى حكى لي بعض الأصحاب عنه انه سئل عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية فقال هو شيخ الاسلام على الإطلاق وذكر لي غيره أنه سمع زين الدين القرشي المذكور اثنى على الشيخ تقي الدين ابن تيمية حديثا حسنا بحضرة جماعة كثيرة من الأعيان وترجم الشيخ العلامة بشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه فهو مشهور ولم يزل أعيان علماء الإسلام ممن عاصره ومن جاء من بعده يعظمونه ويعترفون له بعلو الشأن في العلم والورع والزهد ولقد أخبرني الشيخ الصالح العالم أمين الدين أبو عبد الله محمد بن المرحوم الشيخ جمال الدين الصائغ الأنصاري الشافعي أدام الله بركته عن شيخه العلامة رمال القرشي أحد مشايخ الشام توفي سنة اثنين وتسعين وسبعمائة انه قال بلغني ممن اثق به ان ابن الفركاح قال عن الشيخ تقي الدين المشار إليه والله لقد حوى علوما لم يحوها امامه هذا كلام ابن الفركاح مع عداوته له والذي يقوله ان من تكلم في المذكور بما لا يليق ورماه فيما لا يجوز فهو غير موفق أعاذنا الله من ذلك وجمع بيننا وبين المذكور وبقية علماء الدين في دار الكرامة .
75 - ابن يونس المراغي(179/90)
ومنهم الشيخ الصالح العالم العابد الزاهد كمال الدين أبو حفص عمر بن الياس بن يونس المراغي قدم دمشق في جمادى الاولى سنة تسع وعشرين وسبعمائة وكان عمره اذ ذاك نيفا وثمانين سنة فنزل بدار الحديث الأشرفية داخل دمشق بعد ان كان مجاورا بالقدس الشريف ثلاثين سنة واقام بمصر خمس عشرة سنة فيما ذكره العلامة الحافظ أبو الفدا اسماعيل بن كثير قال وهو شيخ حسن المنظر ظاهر الوضاءة عليه سيماء العبادة ولديه علم وتحقيق وذكر أنه سأله عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية فقال هو عندي رجل كبير القدر عالم مجتهد شجاع صاحب حق كثير الرد على هؤلاء الحلولية والإتحادية والإنية واجتمعت به مرارا وشكرته على ذلك وكان أهل هذا المذهب الخبيث يخافون منه كثيرا وكان يقول لي ألا تكون مثلي فأقول له لا استطيع.
76 - البرزالي
ومنهم الشيخ الإمام الحافظ الثقة الحجة مؤرخ الشام وأحد محدثي الإسلام علم الدين مفيد المحدثين أبو محمد القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف ابن محمد بن أبي يداس البرزالي الإشبيلي الأصل الدمشقي صاحب التاريخ الخطير والمعجم الكبير كان بأسماء الرجال بصيرا وناقلا لأحوالهم تحريرا مولده فيما وجدته بخطه في ليلة عاشر جمادى الأولى سنة خمس وستين وستمائة بدمشق ومات بخليص محرما في ثالث ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة ولقد حكى بعض مشايخنا عنه أنه كان اذا قرأ الحديث ومر به حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات الحديث وفيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا فكان إذا قرأه يبكي ويرق قلبه فمات محرما بخليص كما تقدم وسمعت بعض مشايخنا يذكر أن الحفاظ الثلاثة المزي والذهبي والبرزالي اقتسموا معرفة الرجال فالمزي احكم الطبقة الأولى والذهبي الوسطى والبرزالي الأخيرة يعني كمشايخ عصره ومن فوقهم بقليل ومن بعدهم ومن اطلع على معجم البرزالي حقق ذلك وفيه يقول الذهبي فيما أنبؤنا عنه(179/91)
ان رمت تفتيش الخزائن كلها % وظهور أجزاء حوت وعوالي
ونعوت أشياخ الوجود وما رووا % طالع أو اسمع معجم البرزالي
وهو الذي مدحه الشيخ العالم الأوحد أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم بن الموصلي الطرابلسي الشافعي لما قدم حاجا في سنة اربع وثلاثين وسبعمائة
ما زلت اسمع عنكم كل عارفة % لمثلها وإليها ينتهي الكرم
وكنت بالسمع أهواكم فكيف وقد % رأيتكم وبدا لي في الهوى علم
وجدت على جزء فيه ثمانية أحاديث منتقاة من جزء الحسن بن عرفة طبقة سماع بخط الحافظ أبي محمد ابن البرزالي المذكور وهي قرأ هذه الاحاديث الثمانية شيخنا وسيدنا الامام العلامة الاوحد القدوة الزاهد العابد الورع الحافظ تقي الدين شيخ الإسلام والمسلمين سيد العلماء في العالمين حبر الامة مقتدي الأئمة حجة المذاهب مفتي الفرق أبو العباس احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية ادام الله بركته ورفع درجته بسماعه من ابن عبد الدائم بسنده اعلاه فسمعها القاسم بن محمد بن يوسف بن البرزالي وهذا خطه وحضر ولده أبو الفضل محمد وهو في الشهر السابع من عمره تبركا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصدا للبداءة بشيخ جليل القدر تعود عليه بركته وينتفع بدعائه وصح ذلك وثبت في يوم السبت التاسع والعشرين من رجب سنة خمس وتسعين وستمائة بسفح جبل قاسيون(179/92)
هذا آخر هذه الطبقة التي وجدتها بخط الحافظ علم الدين أبي محمد بن البرزالي وقد ذكر في معجم شيوخه الشيخ تقي الدين فقال احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الشيخ تقي الدين أبو العباس الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه قرأ القرآن وبرع فيه والعربية والاصول ومهر في علمي التفسير والحديث وكان إماما لا يلحق غباره في كل شيء وبلغ رتبة الاجتهاد واجتمعت فيه شروط المجتهدين وكان اذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظه وحسن ابراده واعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والابطال وخوضه في كل علم كان الحاضرون يقضون منه العجب هذا مع انقطاعه الى الزهد والعبادة والاشتغال بالله تعالى والتجرد من أسباب الدنيا ودعاء الخلق الى الله تعالى .(179/93)
وكان يجلس في صبيحة كل جمعة على الناس يفسر القرآن العظيم فانتفع بمجلسه وبركة دعائه وطهارة أنفاسه وصدق نيته وصفاء ظاهره وباطنه وموافقة قوله لعمله وأناب الى الله تعالى خلق كثير وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر والتقلل من الدنيا ورد ما يفتح به عليه وقال الحافظ أبو محمد البرزالي أيضا في تاريخه : وفي ليلة الاثنين من ذي القعدة من سنة ثمان وعشرين وسبعمائة توفي الشيخ الامام العلامة الفقية الحافظ الزاهد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين ابو العباس أحمد ابن شيخنا الامام المفتي شهاب الدين ابي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الامام شيخ الاسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني ثم الدمشقي بقلعة دمشق في القاعة التي كان محبوسا فيها وحضر جمع كثير الى القلعة فاذن لهم في الدخول وجلس جماعة عنده قبل الغسل وقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله ثم انصرفوا وحضر جماعة من النساء ففعلن مثل ذلك ثم انصرفن واقتصر على من يغسله ويعين على غسله فلما فرغ من ذلك وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق الى جامع دمشق وامتلأ الجامع وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات الى اللبادين الى الفوارة.(179/94)
وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك ووضعت في الجامع والجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام وصلى عليه أولا بالقلعة تقدم في الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام ثم صلى عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الظهر وحمل من باب البريد واشتد الزحام وذكر بقية ذلك وصفة دفنه وجماعة سمع منهم الحديث ثم قال وخلق كثير سمع منهم الحديث وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث وكتب الطباق والاثبات ولازم السماع بنفسه مدة سنين وقل ان سمع شيئا إلا حفظه ثم اشتغل بالعلوم وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار اماما في التفسير وما يتعلق به عارفا بالفقه فيقال إنه كان اعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره وكان عالما باختلاف العلماء عالما بالاصول والفروع والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من فنون العلم الا ظن ان ذلك الفن فنه ورآه عارفا به متقنا له واما الحديث فكان حامل رايته حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه عارفا برجاله متضلعا من ذلك وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الاصول والفروع كمل منها جملة وبيضت وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها وجملة كثيرة لم يكملها وجملة كملها ولم تبيض الى الآن واثنى عليه وعلى فضائله وعلومه جماعة من علماء عصره مثل القاضي الجويني وابن دقيق العيد وابن النحاس والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم.(179/95)
وقال قبل ذلك وكان دفنه وقت العصر أو قبلها بيسير وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل البساتين واهل الغوطة واهل القرى وغيرهم وغلق الناس حوانيتهم ولم يتخلف عن الحضور الا من هو عاجز عن الحضور مع الترحم والدعاء له وانه لو قدر ما تخلف وحضر نساء كثيرة بحيث حزرن بخمسة عشر الف امرأة غير اللاتي كن على الاسطحة وغيرهن الجميع يترحمن عليه ويبكين عليه فيما قيل واما الرجال فحرزوا ستين ألفا الى مائة ألف الى أكثر من ذلك الى مائتي ألف
ولما اشار الحافظ أبو محمد ابن البرزالي الى عظم جنازة الامام احمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه قال ولا شك ان جنازة أحمد بن حنبل كانت هائلة عظيمة بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك وتعظيمهم له وان الدولة كانت تحبه والشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله توفي ببلدة دمشق وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حينئذ كثرة ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعا لو جمعهم سلطان قاهر وديوان حاصر لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته وانتهوا اليها هذا مع ان الرجل مات بالقلعة محبوسا من جهة السلطان.
وكثير من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس اشياء كثيرة مما ينفر منها أهل الاديان فضلا عن أهل الاسلام وهذه كانت جنازته رحمة الله عليه.
77 - قرأ سنقر(179/96)
ومنهم الأمير الكبير شمس الدين قرأ سنقر بن عبد الله المنصوري الذي ولاه السلطان الملك الناصر محمد ابن المنصور قلاوون نيابته بدمشق في العشرين من شوال سنة تسع وسبعمائة وكان نائبا بحلب ثم خشي من السلطان أن يمسكه فهرب وتوفي بمراغة في السنة التي توفي فيها الشيخ تقي الدين كتب الى الشيخ تقي الدين ابن تيمية كتابا يتشوق فيه اليه قال الحافظ ابو محمد القاسم ابن البرزالي فيما وجدته بخطه من كتاب الامير شمس الدين قرأ سنقر المنصوري الى الشيخ تقي الدين ضاعف الله بركات الجناب العالي السيدي الامامي العالمي العاملي العلامي الشيخ القدوي الزاهدي العابدي الخاشعي العارفي الحافظي التقوي شيخ الاسلام قطب الانام سيد العلماء أوحد الصلحاء حجة الائمة قدوة الأمة مفتي المسلمين شيخ المذاهب إمام الفرق ناصر السنة آخر المجتهدين مذكر الملوك والسلاطين ورفع درجته في عليين واناله منازل الابرار والمتقين ونفع ببركته ودعواته الاسلام والمسلمين المملوك يخدم بسلام أرق من النسيم ويبث شوقا عنده منه المقعد المقيم ويتأسف على مشاهدة ذلك المحيا الوسيم ومفاكهته التي هي [ من ] الفوز العظيم وينهى انه لم يزل في سائر أوقاته متطلعا الى اخباره مترقبا ما يرد من سوانحه وأوطاره راجيا من الله تعالى أن لا يخليه من دعواته وأن يمده بيمنه وبركاته ويمتعه والاسلام كافة بطول بقائه وحياته وغير ذلك فان المملوك كلما بلغه بلاغة الجناب العالي وزواجره ونواهيه في طاعة الله وأوامره وقيامه في مصالح الاسلام واجتهاده وجهاده في الله حق جهاده رفع يده بالادعية المباركة بطول بقائه وان يمده بمعونته وألطافه في صباحه ومسائه فانه ضاعف الله بركاته قد أحيا سنن هذه الملة وكان ممن وصف في قوله تعالى الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وهذا بعض الكتاب المشار إليه فيما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم.
78 - ابن السراج القونوي(179/97)
ومنهم الشيخ الإمام العلامة قاضي قضاة المسلمين جمال الدين مفيد الطالبين أبو الثناء محمود بن الشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن مسعود الشهير بابن السراج القونوي الحنفي له دروس تشهد بتقدمه وفهمه ومؤلفات تفصح عن تحقيقه وعلمه توفي سنة سبعين وسبعمائة بدمشق عن ست وسبعين سنة كتب بخطه خطبة من خطب الشيخ تقي الدين ثم كتب ابن السراج بعد فراغه منها هذه الخطبة خطب بها شيخ الإسلام تقي الدين ابو العباس ابن تيمية حين خرج من حبس الاسكندرية بالمدرسة الكاملية في القاهرة في جمع كثير من العلماء والأمراء وغيرهم انتهى ما كتبه.
79 - المنبجي
ومنهم الشيخ الامام العالم المحدث المتقن المفيد الرحال المسند المكثر شمس الدين أبو الثناء محمود بن خليفة بن محمد بن خلف بن محمد بن عقيل المنبجي ثم الدمشقي مولده سنة ست وثمانين وستمائة وتوفي يوم الاثنين سادس عشر ذي الحجة سنة سبع وستين وسبعمائة وصلي عليه صبيحة يوم الثلاثاء بجامع دمشق ودفن بمقبرة الباب الصغير وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال ونسخ وحصل الاصول وحرر الفروع مع الدين والصدق والامانة كتبت عنه احاديث انتهى قال ابو الثناء المنبجي المذكور وانشدنا لنفسه جميع هذه القصائد الثلاثة الشيخ الامام سعد الدين ابو محمد سعد الله بن نجيح الحراني في مدح الشيخ شيخ الاسلام تقي الدين احمد
ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه آمين ثم ذكر القصائد الثلاث أول الأولى
أيها الماجد الذي فاق فخرا % وسما رفعة على الأقران
يا إماما أقامه الله للعالم % هاديا للدين والاحسان
80 - ابن داود الدقوقي(179/98)
ومنهم الشيخ الامام العالم الحافظ محدث بغداد وقاص تلك البلاد تقي الدين فخر المحدثين أبو الثناء محمود بن علي بن محمود بن مقبل بن سليمان بن داود الدقوقي البغدادي شيخ الحديث بالمدرسة المستنصرية ببغداد ولد بكرة يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الاولى سنة ثلاث وستين وستمائة وسمع ما لا يوصف كثرة بإفادة والده ثم بنفسه وكان اذا قرأ الحديث على الناس يجتمع عنده خلق يبلغون الوفا وكان فردا في زمانه مقدما على اقرانه وله مؤلفات وتخريجات وخطب ويد طولى في النظم والنثر والمواعظ والادب توفي يوم الاثنين العشرين من المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ببغداد ودفن بتربة الامام احمد بن حنبل وشهد جنازته خلق كثير وحملت على الرؤوس ولم يخلف ولا درهما واحدا ترجم ابن تيمية بشيخ الاسلام ورثاه بقصائد لما اصابه الحمام منها قوله
مضى عالم الدنيا الذي عز فقده % واضرم نارا في الجوانح بعده
ومن هذه القصيدة
مضى الزاهد الندب ابن تيمية الذي % اقر له بالعلم والفضل ضده
ومنها قوله من قصيدة تقدم أولها في ترجمة سعيد الدهلي
مات الذي جمع العلوم الى التقى % والفضل والورع الصحيح الجيد
شيخ الأنام تقي الدين محمد % وجمال مذهب ذي الفضائل أحمد
81 - أبو الحجاج المزي(179/99)
ومنهم الشيخ الامام حافظ الاسلام محدث الاعلام الحبر النبيل استاذ أئمة الجرح والتعديل شيخ المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الملك بن يوسف بن علي بن أبي الزهر القضاعي ثم الكلبي الحلبي الدمشقي ثم المزي الشافعي ولد بظاهر حلب سنة أربع وخمسين وستمائة ونشأ بالمزة وسمع الكثير من الكتب الطوال والقصار والاجزاء الكبار وغير الكبار ورحل الى عدة من الامصار والف كتاب التهذيب وصنف كتاب الاطراف وخرج لغير واحد التخاريج المطولة واللطاف وكان غزير العلم ثقة حجة حسن الاخلاق صادق اللهجة ترافق هو وابن تيمية شيخ الاسلام في السماع والنظر في علوم مع عدة من الاعلام وله عمل كثير في المعقول لكن مع خشية وسلامة عقيدة وحسن اسلام توفي رحمه الله في يوم السبت قبل وقت العصر ثاني عشر صفر سنة اثنتين واربعين وسبعمائة وصلي عليه بكرة يوم الاحد ودفن بمقبرة الصوفية جوار قبر الشيخ تقي الدين ابن تيمية وكانت جنازته مشهودة وهو الذي قال فيه الامام العالم أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الكريم بن موصلي الطرابلسي الشافعي لما قدم الحج سنة أربع وثلاثين وسبعمائة
ما زلت أسمع عن إحسانكم خبرا % الفضل يسنده عنكم ويرفعه
حتى التقينا فشاهدت الذي سمعت % أذني وأضعف ما قد كنت أسمعه
وصنف فيه الحافظ العلامة أبو سعيد العلائي مصنفا سماه سلوان التعزي بالحافظ أبي الحجاج المزي حدثنا عنه غير واحد من الشيوخ فانبؤنا عنه أنه قال عن شيخ الاسلام أبي العباس ابن تيمية ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل
نفسه وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه .(179/100)
وأخبرنا أبو حفص عمر بن الامام أبي عبد الله محمد بن احمد بن عبد الهادي مشافهة عن أبيه قال قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج فذكره وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي نحوه كما تقدم في ترجمة الذهبي وقال المزي أيضا عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية لم ير مثله منذ أربعمائة سنة ولقد كتب الحافظ أبو الحجاج المزي على كتاب ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية تأليف ابن عبد الهادي ما صورته كتاب مختصر في ذكر حال الشيخ الامام شيخ الاسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني وذكر بعض مناقبه ومصنفاته رضي الله تعالى عنه جمع الشيخ الإمام الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن احمد بن عبد الهادي المقدسي أدام الله النفع بفوائده ووجدت بخط الحافظ المزي في عدة من طبقات سماعه مع الشيخ تقي الدين ابن تيمية كتب له فيها الامام تقي الدين منها على جزء أبي السكن زكريا ابن يحيى الطائي وهي بخط الشيخ تقي الدين ما صورته. : قرأت هذا الجزء على الشيخ الجليل المسند المعمر بدر الدين أبي العباس أحمد بن شيبان بن تغلب الشيباني بسماعه من ابن طبرزد وبإجازته من ابن سنيف عن الغزال فسمعه صاحبه وكاتبه الامام الأوحد أبو العباس احمد بن شيخنا المرحوم شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني وأخوه شرف الدين عبد الله وشمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن سامة وابن عمه عبد الرحمن بن احمد وعلم الدين القاسم بن محمد بن البرزالي وذكر بقية السامعين ثم قال يوم السبت تاسع عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وستمائة بسفح جبل قاسيون ظاهر دمشق المحروسة وأجاز لهم الشيخ وكتب يوسف بن الزكي عبد الرحمن المزي عفا الله عنه ووجدت بخط المزي أيضا طبقة سماع على الجزء الثاني من حديث الحسن بن علي الجوهري عن أبي حفص عمر بن محمد بن علي الزيات عن شيوخه ما صورته سمع هذا الجزء على المشايخ الثلاثة الامام العلامة شيخ الاسلام تقي الدين(179/101)
أبي العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني والامام علم الدين أبي محمد القاسم ابن محمد بن البرزالي بقراءته من لفظه وكاتب السماع يوسف بن الزكي عبد الرحمن ابن يوسف المزي بسماعهم من أحمد بن شيبان وبسماع الاول أيضا من اسماعيل بن العسقلاني وذكر المزي بقية الطبقة وقال فيما وجدته بخطه وصح ذلك في يوم السبت الحادي والعشرين من رجب سنة اثنين وعشرين وسبعمائة بظاهر دمشق بقرب المنيبع وأجازوا للجماعة وحدث المزي في محرم سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة بمنتقى من أحاديث أبي طالب محمد بن محمد بن ابراهيم بن غيلان فقال فيما وجدته بخط منتقي الجزء أبي نصر محمد بن طولوبغا أخبرنا الشيخان أبو العباس أحمد بن شيبان بن تغلب الشيباني وأبو يحيى اسماعيل بن أبي عبد الله بن حماد العسقلاني قرأه عليهما ونحن نسمع وذلك بقراءة شيخ الاسلام أبي العباس أحمد ابن تيمية الحراني تغمده الله برحمته في جمادى الاولى سنة إحدى وثمانين وستمائة بالجامع المظفر بسفح قاسيون وذكر بقية الاسناد.
82 - السرمري
ومنهم الشيخ الامام العلامة الحافظ البركة القدوة ذو الفنون البديعة والمصنفات النافعة جمال الدين عمدة المحققين أبو المظفر يوسف بن محمد ابن مسعود بن محمد بن علي بن ابراهيم العبادي ثم العقيلي السرمري نزيل دمشق الحنبلي مولده فيما وجدته بخطه في سابع عشر رجب من سنة ست وتسعين وستمائة بسر من رأى وتوفي يوم السبت الحادي والعشرين من جمادى الاولى سنة ست وسبعين وسبعمائة بدمشق ودفن بمقبرة الصوفية
جوار تربة الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمهما الله وكان إماما ثقة عمده زاهدا عابدا محسنا جهده صنف في أنواع كثيرة نثرا ونظما وخرج وأفاد وأملى رواية وعلما [ ومن مؤلفاته النظامية كتاب الحمية الاسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية
معارضا فرقة قد قال أمثلهم % إن الروافض قوم لا خلاق لهم(179/102)
وقد احسن في هذا الرد المقبول وهدم تلك الابيات بنظام المنقول وجلال المعقول ] وكان عمدة في نقد رجال الحديث وضبطه.
وترجم الشيخ تقي الدين بشيخ الإسلام فيما كتبه بخطه [ وجمع في شمائله اللطيفة ترجمة مونقة منيفة إعلاما بقدره وتنبيها ] قال فيما وجدته بخطه فيها حدثني غير واحد من العلماء الفضلاء والأئمة النبلاء الممعنين في الخوض في أقاويل المتكلمين لإصابة الصواب وتمييز القشر من اللباب أن كلا منهم لم يزل حائرا في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم وانه لم يستقر في قلبه منها قول ولم يبن له من مضمونها حق بل رآها كلها موقعة في الحيرة والتضليل وجلها [ ممعن يتكلف ] الادلة والتعليل وأنه كان خائفا على نفسه من الوقوع بسببها في التشكيك والتعطيل حتى من الله سبحانه وتعالى عليه بمطالعة مؤلفات هذا الامام ابن تيمية شيخ الاسلام مما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام فما هو الا ان وقف عليها وفهمها فرآها موافقة للعقل السليم وعلمها حتى انجلى ما كان قد غشيه في أقوال المتكلمين من الظلام وزال عنه ما خاف أن يقع فيه من الشك وظفر بالمرام.
ومن أراد اختبار صحة ما قلته فليقف بعين الانصاف العرية عن الحسد والانحراف ان شاء على مختصراته في هذا الشأن كشرح العقيدة الاصبهانية ونحوها وان شاء على مطولاته كتخليص التلبيس من تأسيس التقديس والموافقة بين العقل والنقل ومنهاج الاستقامة والاعتدال فإنه والله يظفر بالحق والبيان ويستمسك بأوضح برهان ويزن حينئذ في ذلك بأصح ميزان.
وجدت بخطه في بعض تعاليقه على غاشيته فيه ستة منامات رؤيت لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله تعالى عنه ووجدت في الاصل بخط الشيخ جمال الدين المذكور ما صورته الحمد لله حق حمده.(179/103)
قال الفقير يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد السرمري وجدت بخط المحدث الفاضل العالم نجم الدين إسحاق ابن أبي بكر بن ألمي التركي قال أخبرنا فقير يعرف بعبد الله وذهب عني اسم والده ورأيت جماعة من أصحابنا يثنون على دينه ويذكرونه بالصلاح والخير قال رأيت بدمشق في النوم ليلة الجمعة في رجب سنة خمس وسبعمائة وكأنني خرجت [ من بيتي ] لبعض حاجة وكأن قائلا يقول لي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فأتيت اليه فرأيته جالسا على دكان خباز فسلمت عليه وذهبت لأتكلم فلم أطق الكلام فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا عبد الله قل ما عندك فقلت يا رسول الله ما تنظر ما الناس فيه من الاختلاف وكثرة الاهواء والفتن قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي يا عبد الله الحق مع أحمد ابن تيمية وهو سالك على طريقي وعلى قدمي وما جئت الا لأفصل بينهم ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وتكلم بكلام لم أفهمه الا أنني فهمت في آخره وهو يقول أيقدرون أن ينكروا معراجي فوالذي نفسي بيده لقد أسري بي من سماء إلى سماء ومن سماء إلى سماء ورأيت ربي ووضع صلى الله عليه وسلم أصبعه اليمنى تحت عينه اليمنى أو كما قال.
[ وقال الامام ابو المظفر السرمري في المجلس السابع والستين من أماليه في الذكر والحفظ ومن عجائب ما وقع في الحفظ في أهل زماننا شيخ الاسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية فإنه كان يمر بالكتاب فيطالعه مرة فينتقش في ذهنه فيذاكر به وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه ومن أعجب ما سمعته عنه ما حدثني به بعض أصحابه أنه لما كان صبيا في بداية أمره أراد والده أن يخرج بأولاده يوما الى البستان على سبيل التنزه فقال له يا أحمد تخرج مع إخوتك تستريح فاعتل عليه فألح عليه والده فامتنع أشد الامتناع.(179/104)
فقال اشتهي أن تعفيني من الخروج فتركه وخرج بإخوته فظلوا يومهم في البستان ورجعوا آخر النهار فقال يا أحمد أوحشت إخوتك اليوم وتكدر عليهم بسبب غيبتك عنهم فما هذا فقال يا سيدي إنني اليوم حفظت هذا الكتاب لكتاب معه فقال حفظته كالمنكر المتعجب من قوله فقال له استعرضه علي فاستعرضه فاذا به قد حفظه جميعه فأخذه وقبله بين عينيه وقال يا بني لا تخبر أحدا بما قد فعلت خوفا عليه من العين أو كما قال ].
83 - ابن السراج
ومنهم الشيخ العالم المحدث الفاضل عماد الدين جمال المحدثين أبو بكر بن احمد ابن أبي الفتح ابن ادريس بن سامة الدمشقي الشافعي الصوفي ابن السراج قارئ الحديث بجامع دمشق الأعظم وهو الذي اتقن نسخة صحيح البخاري وقف الجامع وأحكم حتى صارت عمدة يعتمد عليها في القراءة والسماع والنقل يرجع اليها كان من خواص أصحاب المزي البارعين وذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال دين عاقل عالم له محفوظات واشتغال نسخ جماعة كتب وطلب وقرأ وهو في ازدياد من العلم وله سنة خمس وسبعمائة وسمع من الحجار وطبقته واخذ عني والله يسلم [ توفي ابن السراج في شوال سنة اثنين وثمانين وسبعمائة ] انتهى.
84 - أبو بكر بن عمار الصالحي
ومنهم الشيخ الصالح العابد العالم الواعظ أبو بكر ابن شرف بن محسن بن معن بن عمار الصالحي ولد سنة ثلاث وخمسين وستمائة.
سمع الكثير مع الشيخ تقي الدين ابن تيمية والشيخ جمال الدين المزي على شيوخهما ومنهم أبو العباس أحمد بن عبد الدائم وله تعاليق ومؤلفات في الأصول وغيرها وكان يتكلم على الناس من بعد صلاة الجمعة إلى العصر من حفظه وله ميل إلى التصوف واعمال القلوب وكان يكثر ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية أقام في آخر عمره بحمص وبها توفي في الثاني والعشرين من صفر سنة وفاة الشيخ تقي الدين رحمهما الله تعالى.
85 - ابن ترجم الكناني الرحبي(179/105)
ومنهم الشيخ العالم المحدث المفيد زين الدين أبو بكر ابن الشيخ زكي الدين قاسم ابن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن ترجم بن علي بن عمر بن عيد الكناني الرحبي نزيل مصر ولد سنة ست وستين وستمائة وسمع من أبي الحسن علي ابن البخاري وآخرين وكتب وعلق وسمع وطبق وخرج وجمع واستفاد وأفاد ونفع ذكره الذهبي في معجمه المختص بالمحدثين وقال وكان دينا خيرا حسن المحاضرة .انتهى.
كتب بخطه فيما وجدته غير ما مرة ترجمة الشيخ تقي الدين بشيخ الاسلام ولقد صدق فما أبره
الخاتمة
وهذا آخر من ذكرنا من الأعلام ممن سمى الشيخ تقي الدين ابن تيمية بشيخ الاسلام ولقد تركنا جما غفيرا وأناسي كثيرا ممن نص على إمامته وما كان عليه من زهده وورعه وديانته.
وكذلك تركنا ذكر خلق ممن مدحه نظما في حياته أو رثاه بشعر بعد مماته
لكن نذكر قصيدة واحدة من مراثيه وهي أول ما قيل بديها يوم دفنه على الضريح فيه لتكون ختاما لما ذكرنا وشجى في الحلق أو رجوعا إلى الحق ممن بهذا الرد قصدناه.
فأنبأنا غير واحد من الشيوخ منهم أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن الذهبي عن الحافظ أبي محمد القاسم بن محمد ابن البرزالي قال انشدنا أبو الحسن علي بن محمد بن سلمان بن غانم المقدسي لنفسه فيما قرأته عليه في ذي القعدة سنة تسع وعشرين وسبعمائة فيما رثي به الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه وهي أول ما قيل بديها على الضريح
أي حبر مضى وأي إمام % فجعت فيه ملة الاسلام
ابن تيمية التقي وحيد الده % ر من كان شامة في الشام
بحر علم قد غاض من بعد ما % فاض نداه وعم بالإنعام
زاهد عابد تنوه في دنياه % عن كل ما بها من حطام
كان كنزا لكل طالب علم % ولمن خاف أن يرى في حرام
ولعاف قد جاء يشكو من ال % فقر لديه فنال كل مرام
حاز علما فما له من مساو % فيه من عالم ولا من مسامي
لم يكن في الدنا له من نظير % في البرايا في الفضل والإحكام(179/106)
كان في علمه وحيدا فريدا % لم ينالوا ما نال في الأحلام
عالم في زمانه فاق بال % علم جميع الائمة الاعلام
كل من في دمشق ناح عليه % ببكا من شدة الآلام
فجع الناس فيه في الغرب والشر % ق وأضحوا بالحزن كالأيتام
لو يفيد الفدا فادوه بالارواح % منهم من الردى والحمام
أوحد فيه قد أصيب البرايا % فتعزى فيه جميع الانام
أعظم الله أجرهم فيه إذ صا % ر على الرغم في الثرى والرغام
ما يرى مثل يومه عندما سا % ر على النعش نحو دار السلام
حملوه على الرقاب إلى القبر وكا % دوا أن يهلكوا في الزحام
فهو الآن جار رب السموا % ت الرحيم المهيمن العلام
قدس الله روحه وسقى قب % را حواه بهاطلات الغمام
فلقد كان نادرا في بني الده % ر وحسنا في أوجه الايام
آخر الرد الوافر
ترجمة للمؤلف من كتاب الضوء اللامع للحافظ السخاوي
215 محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن مجاهد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن علي الشمس أبو عبد الله بن أبي بكر القيسي الحموي الأصل الدمشقي الشافعي ويعرف بابن ناصر الدين.
ولد في العشر الأول من المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة بدمشق ونشأ بها فحفظ القرآن وعدة مختصرات واشتغل قليلاً وحصل وفضل وتفقه واعتنى بهذا الشأن وتخرج فيه بابن الشرائحي ولازمه مدة وكذا انتفع في الطلب بمرافقة الصلاح الأقفهسي وحمل عن شيوخ بلده والقادمين إليها بقراءته وقراءة غيره الكثير وكتب الطباق وارتحل لبعلبك وغيرها، وسافر بأخرة صحبة تلميذه النجم بن فهد المكي إلى حلب وقرأ على حافظها البرهان بعض الأجزاء وكذا سمع من ابن خطيب الناصرية؛ وحج قبل ذلك وسمع بمكة من الجمال بن ظهيرة وغيرها بها وكذا بالمدينة النبوية وما تيسرت له الرحلة إلى الديار المصرية؛ وأتقن هذا الفن حتى صار المشار إليه فيه ببلده وما حولها وخرج وأفاد ودرس وأعاد وأفتى وانتقى وتصدى لنشر الحديث فانتفع به الناس، وحدث بالكثير في بلده وحلب وغيرها من(179/107)
البلاد بل حدث هو وشيخنا معاً في دمشق بقراءته بجزء أبي الجهم وامتنع
شيخنا من ذلك إلا إن أخبر الجماعة بسنده فما أمكنته المخالفة ولكنه اقتصر على الأخبار ببعض شيوخه فيه دون استيفائهم أدباً وأخذ عنه الأماثل وربما تدرب به في الطلب وشارك في العلوم وأملى. ومن شيوخه أبو هريرة بن الذهبي ومحمد بن محمد بن عبد الله بن عمر بن عوض ورسلان الذهبي وأبو الفرج بن ناظر الصاحبة وعبد الرحمن بن أحمد بن المقداد القيسي ومحيي الدين الرحبي والشهاب أحمد بن علي الحسيني والبدر بن قوام وابن أبي المجد وابن صديق وعمر البالسي وأبو اليسر بن الصائغ وابن منيع ومن يطول إيراده كالبلقيني والصدر المناوي وغيرهما ممن قدم دمشق لا ابن الملقن بل كان يذكر أنه سمع وهو بالمكتب من المحب الصامت، وأجاز له التنوخي وأبو الخير بن العلائي ومريم ابنة الأذرعي ومعين المصري. ومن تصانيفه طبقات شيوخه وجعلهم ثمان طبقات وجامع الآثار في مولد المختار ثلاثة أسفار ومورد الصادي في مولد الهادي في كراسة واللفظ الرائق في مولد خير الخلائق أخصر من الذي قبله ومنهاج الأصول في معراج الرسول وإطفاء حرقة الحوبة بالباس خرقة التوبة واللفظ المحرم بفضل عاشوراء المحرم ومجلس في فضل يوم عرفة وافتتاح القاري لصحيح البخاري ومجلس في ختمه وآخر في ختم مسلم وآخر في ختم الشفا وبرد الأكباد عن فقد الأولاد وقال فيه: يا باكياً ميته في الحي يندبهقد عمه وجده من فقد الأولاد إن كنت ذا كبد حرى اصطبر برضىفالصبر خير
وفيه برد الأكباد وتنوير الفكرة في حديث بهز بن حكيم في حسن العشرة(179/108)
ومسند تميم الداري وترجمة حجر بن عدي الكندي والإملاء الأنفس في ترجمة عسعس واتحاف السالك برواة الموطأ عن ملك وتوضيح المشتبه في أسماء الرجال وغيرها في ثلاثة أسفار كبار والأعلام بما وقع في مشتبه الذهبي من الأوهام وأرجوزة سماها عقود الدرر في علوم الأثر وشرحها في مطول ومختصر وأخرى في الحفاظ وشرحها أيضاً وبديعة البيان عن موت الأعيان نظم أيضاً في ألف بيت وشرحها وسماه التبيان لبديعة البيان وعرف العنبر في وصف المنبر وبواعث الفكرة في حوادث الهجرة نظم أيضاً ومنهاج السلامة في ميزان يوم القيامة وريع الفرع في شرح حديث أم زرع في كراريس وزوال البوسى عمن أشكل عليه حديث تحاج آدم وموسى والصلبة اللطيفة لحديث البضعة الشريفة عليها السلام والتلخيص لحديث ربو القميص ونفحات الأخيار من مسلسلات الأخبار في مجلد وأحاديث ستة في معان ستة من طريق رواة ستة عن حفاظ ستة من مشايخ الأئمة الستة بين مخرجها ورواتها ستة، والانتصار لسماع الحجار ورفع الدسيسة بوضع حديث الهريسة وكتاب الأربعين المتباينات المتون والإسناد ومعجم شيوخه وخطب في مجلد وغير ذلك كالرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام كافر قرضه له الأئمة كشيخنا وهو أحسنهم والعلم البلقيني والتقهني والعيني والبساطي والمحب بن نصر الله وخلق وحدث به غير مرة، وقام عليه العلاء البخاري لكون التصنيف في الحقيقة رد به عليه فإنه لما سكن دمشق كان يسأل عن مقالات ابن تيمية التي انفرد بها فيجيب بما يظهر من الخطأ فيها وينفر عنه قلبه إلى أن استحكم أمره عنه وصرح بتبديعه ثم بتكفيره ثم صثار يصرح في مجلسه بأن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام يكفر بهذا الإطلاق واشتهر ذلك فجمع صاحب الترجمة في كتابه المشار إليه كلام من أطلق عليه ذلك من الأئمة الأعلام من أهل عصره من جميع المذاهب سوى الحنابلة بحيث اجتمع له شيء كثير وحينئذ كتب العلاء إلى السلطان كتاباً بالغ(179/109)
فيه في الحط ولكنه لم يصل بحمد الله إلى تمام غرضه وساس القضية الشهاب ابن المحمرة قاضي الشام حينئذ مع كونه ممن أنكر عليه في فتياه تصنيفه المذكور وتبعه التقي بن قاضي شهبة حتى أن البلاطنسي رجع عن الأخذ عنه بل والرواية عنه بعد أن كان ممن تتلمذ له كل ذلك عناداً ومكابرة وكانت حادثة شنيعة في سنة خمس وثلاثين وهلم جراً، ولكن لما كان شيخنا بدمشق حدث بتقريضه للمصنف المشار إليه ولم يلتفت إلى المتعصبين. وقد ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية؛ وبالجملة فكان إماماً علامة حافظاً كثير الحياء سليم الصدر حسن الأخلاق دائم الفكر متواضعاً محبباً إلى الناس حسن البشر والود لطيف المحاضرة والمحادثة بحيث لا تمل مجالسته كثير المداراة شديد الاحتمال قل أن يواجه أحداً بمكروه ولو آذاه، جود الخط على طريقة الذهبي حتى صار يحاكي شطه غالباً بحيث بيع بعض الكتب التي بخطه ورغب المشتري فيه لظنه أنه خط الذهبي ثم بان الأمر، وكتب به الكثير راغباً في إفادة الطلبة شيوخ بلده بل ويمشي هو معهم إلى السماع عليهم مع كونه هو المرجع في هذا الشأن وربما قرأ لهم هو. وقد سئل شيخنا عنه وعن البرهان الحلبي فقال ذلك نظره قاصر على كتبه وأما هذا فيحوش وأثنى عليه في غير موضع فقرأت بخطه: كتب إلى الشيخ الإمام العالم الحافظ مفيد الشام فذكر شيئاً، وفي موضع آخر: الشيخ الإمام المحدث حافظ الشام بل كتب له بالثناء على مصنفه شرح عقود الدرر كما أثبته في الجواهر واعتذر عن الحواشي التي أفادها حسبما جردتها بطريقة زائدة في الأدب. وذكره في معجمه فقال: وسمع من شيوخنا وممن مات قبل أن أدخل من الدمشقيين وأكثر ثم لما خلت الديار من المحدثين صار هو محدث تلك البلاد أجاز لنا غير مرة، قال وشارك في العلوم ونظر في الأدب حتى نظم الشعر الوسط، ولكنه أغفل إيراده في أنبائه. وكذا أثنى عليه البرهان الحلبي بقوله:(179/110)
الشيخ الإمام المحدث الفاضل الحافظ خرج الأربعين المتباينة وله أعمال غير ذلك ورد على مشتبه الذهبي وكتابه فيه فوائد وقد اجتمعت به فوجدته رجلاً كيساً متواضعاً من أهل العلم وهو الآن محدث دمشق وحافظها نفع الله به المسلمين؛ وابن خطيب الناصرية فقال: رأيته إنساناً حسناً محدثاً فاضلاً وهو محدث دمشق وحافظها والمقريزي فقال:
طلب الحديث فصار حافظ بلاد الشام بغير منازع وصنف عدة مصنفات ولم يخلف في الشام بعده مثله. والمحب بن نصر الله فقال فيما قرأته بخطه: ولم يكن بالشام في علم الحديث آخر مثله ولا قريب منه؛ وممن أخذ عنه التقي بن قندس وتلميذه العلاء المرداوي.
وقال الإمام الحافظ الناقد الجهبذ المتقن المفنن حافظ عصره وراوية زمانه
وعلامته له التصانيف الحسنة والنظم المتوسط.
وكذا ذكره التقي بن فهد في ذيل طبقات الحفاظ له وآخرون واتفقوا على توثيقه وديانته، وشذ البقاعي جرياً على عادته فقال:
وكان محدثاً مشهوراً بالحديث.
ووصفه شيخنا بالحفظ وهو عند كثير من الناس مشهور بدين، واطلعت أنا له على تزوير وكشط وتغيير في حق مالي كبير في غير ما مكتوب انتهى. والله حسيبه وقد أوردت في معجمي من نظمه أشياء ومنه:
وعشرة خير صحب بالجنان أتى وعد النبي لهم سرداً بلا خلل
عتيق عثمان عامر طلحة عمر الزبير سعد سعيد وابن عوف على
وهو في عقود المقريزي باختصار وأنه كتب الخط الجيد وصار حافظ بلاد الشام بغير منازع ولم يخلف هناك مثله. مات في ربيع الثاني على المعتمد سنة اثنتين وأربعين بدمشق مسموماً فإنه خرج مع جماعة لقسم قرية من قرى دمشق فسمهم أهلها وحصلت له الشهادة؛ ودفن بمقابر العقيبة عند والده ولم يخلف في هذا الشأن بالشام بعده مثله بل سد الباب هناك رحمه الله وإيانا.
ترجمة المردود عليه من كتاب الضوء اللامع للحافظ السخاوي(179/111)
751 – محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد العلاء أبو عبد الله البخاري العجمي الحنفي وسماه بعضهم علياً وهو غلط. ولد سنة تسع وسبعين - وسبعمائة - ونقل عن ابن قاضي شهبة أنه فيما قاله له في حدود سنة سبعين - ببلاد العجم ونشأ بها فأخذ عن أبيه وخاله العلاء عبد الرحمن والسعد التفتازاني في آخرين وارتحل في شبيبته إلى الأقطار
في طلب العلم إلى أن تقدم في الفقه والأًصلين والعربية واللغة والمنطق(179/112)
والجدل والمعاني والبيان والبديع وغيرها من المعقولات والمنقولات وترقى في التصوف والتسليك ومهر في الأدبيات، وتوجه إلى بلاد الهند فقطن كلبرجا منها ونشر بها العلم والتصوف وكان ممن قرأ عليه ملكها وترقى عنده إلى الغاية لما وقر عنده من علمه وزهده وورعه، ثم قدم مكة فجاور بها وانتفع به فيها غالب أعيانها ثم قدم القاهرة فأقام بها سنين وانثال عليه الفضلاء من كل مذهب وعظمه الأكابر فمن دونهم بحيث كان إذا اجتمع معه القضاة يكونون عن يمينه وعن يساره كالسلطان وإذا حضر عنده أعيان الدولة بالغ في وعظهم والإغلاظ عليهم بل ويراسل السلطان معهم بما هو أشد في الإغلاظ ويحضه عن إزالة أشياء من المظالم مع كونه لا يحضر مجلسه وهو مع هذا لا يزداد إلا إجلالاً ورفعة ومهابة في القلوب وكان من ذلك سؤاله في أثناء سنة إحدى وثلاثين في إبطال إدارة المحمل حسماً لمادة الفساد الذي جرت العادة بوقوعه عند إرادته فأمر بعقد مجلس عند العلاء في ذلك فكان من قول شيخنا ينبغي أن ينظر في سبب إدارته فيعمل بما فيه المصلحة منها ويزال ما فيه المفسدة وذلك أن الأصل فيها إعلام أهل الآفاق بأن طريق الحجاز من مصر آمنة ليتأهب للحج منه من يريده لا يتأخر لخشية خوف انقطاع طريقه كما هو الغالب في طريقه من العراق فالإدارة لعلها لا بأس بها لهذا المعنى وما يترتب عليها من المفاسد إزالته ممكنة واتفق في هذا المجلس إجراء ذكر ابن عربي وكان ممن يقبحه ويكفره وكل من يقول بمقاله وينهى عن النظر في كتبه فشرع العلاء في إبراز ذلك ووافقه أكثر من حضر إلا البساطي ويقال أنه إنما أراد إظهار قوته في المناظرة والمباحثة له وقال إنما ينكر الناس عليه ظاهر الألفاظ التي يقولها وإلا فليس في كلامه ما ينكر إذا حمل لفظه على معنى صحيح بضرب من التأويل وانتشر الكلام بين الحاضرين في ذلك قال شيخنا وكنت مائلاً مع العلاء وأن من أظهر لنا كلاماً يقتضي الكفر لا نقره عليه؛ وكان من جملة(179/113)
كلام العلاء الإنكار على من يعتقد الوحدة المطلقة ومن جملة كلام المالكي أنتم ما تعرفون الوحدة المطلقة، فبمجرد سماع ذلك استشاط غضباً وصاح بأعلى صوته أنت معزول ولو لم يعزلك السلطان يعني لتضمن ذلك كفره عنده بل قيل أنه قال له صريحاً كفرت كيف يعذر من يقول بالوحدة المطلقة وهي كفر شنيع واستمر يصيح وأقسم بالله أن السلطان إن لم يعزله من القضاء ليخرجن من مصر فأشير على البساطي بمفارقة المجلس إخماداً للفتنة وبلغ السلطان ذلك فأمر فإحضار القضاة عنه فحضروا فسئلوا عن مجلس العلاء فقصه كاتب السر وهو ممن حضر المجلس الأول بحضرهم ودار بين شيخنا والبساطي في ذلك بعض كلام فتبرأ البساطي من مقالة ابن عربي وكفر من يعتقدها وصوب شيخنا قوله فسأل السلطان شيخنا حينئذ ماذا يجب عليه وهل تكفير العلاء له مقبول وماذا يستحق العزل أو التعزير فقال شيخنا لا يجب عليه شيء بعد اعترافه بما وقع وهذا القدر كاف منه وانفصل المجلس وأرسل السلطان يترضى العلاء ويسأله في ترك السفر فأبى فسلم له حاله وقال يفعل ما أراد ويقال أنه قال للسلطان أنا لا أقيم في هذه الممالك إلا بشروط ثلاث عزل البساطي ونفي خليفة يعني نزيل بيت المقدس وإبطال مكس قطيا. وبلغنا أنه خرج من القاهرة غضباً إما في هذه الواقعة أو غيرها لدمياط ليسافر منها فبرز البرهان الأبناسي والقاياتي والونائي وكلهم ممن أخذ عنه إليها حتى رجعوا به وكان قبل بيسير في السنة بعينها وصل إليه بإشارته من صاحب كلبرجا المشار إليها ثلاثة آلاف شاش أو أكثر ففرق منها ألفاً على الطلبة الملازمين له من جملتها مائة للصدر بن العجمي ليوفي بها دينه وتعفف بعضهم كالمحلي عن الأخذ بل فرق ما عينه العلاء له منها وهو ثلاثون شاشاً على الفقراء وامتنع العلاء من إعطاء بعض طلبته كالسفطي مع طلبه منه بنفسه ولم يدخر لنفسه منها شيئاً وعمل وليمة للطلبة في بستان ابن عنان صرف عليها ستين ديناراً، ثم بعد ذلك سنة أربع(179/114)
وثلاثين أو قبلها تحول إلى دمشق فقطنها وصنف رسالته فاضحة الملحدين بين فيها زيف ابن عربي وقرأها عليه شيخنا العلاء القلقشندي هناك في شعبان سنة أربع وثلاثين ثم البلاطنسي وآخرون وكذا اتفقت له حوادث بدمشق منها أنه كان يسأل عن مقالات التقي بن تيمية التي انفرد بها فيجيب بما يظهر له من الخطأ فيها وينفر عنه قلبه إلى أن استحكم أمره عنده فصرح بتبديعه ثم تكفيره ثم صار يصرح في مجلسه بأن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام فهو بهذا الإطلاق كافر واشتهر ذلك فانتدب حافظ الشام الشمس بن ناصر الدين لجمع كتاب سماه الرد الوافر على من زعم أن من أطلق على ابن تيمية أنه شيخ الإسلام كافر جمع فيه كلام من أطلق عليه ذلك من الأئمة الأعلام من أهل عصره من جميع أهل المذاهب سوى الحنابلة وذلك شيء كثير وضمنه الكثير من ترجمة ابن تيمية وأرسل منه نسخة إلى القاهرة فقرظه من أئمتها شيخنا والعلم البلقيني والتفهني والعيني والبساطي بما هو عندي في موضع آخر فكان مما كتبه البساطي وهو رمي معذور ونفث مصدور هذه مقالة تقشعر منها الجلود وتذوب لسماعها القلوب ويضحك إبليس اللعين عجباً بها ويشمت وينشرح لها أباده المخالفين ونسبت ثم قال له لو فرضنا أنك اطلعت على ما يقتضي هذا من حقه فما مستندك في الكلام الثاني وكيف تصلح لك هذه الكلية المتناولة لمن سبقك ولمن هو آت بعدك إلى يوم القيامة وهل يمكنك أن تدعي أن الكل اطلعوا على ما اطلعت أنت عليه وهل هذا إلا استخفاف بالحكام وعدم مبالاة ببنى الأنام والواجب أن يطلب هذا القائل ويقال له لم قلت وما وجه ذلك فإن أتى بوجه يخرج به شرعاً من العهدة كان والأبرح به تبريحاً يرد أمثاله عن الإقدام على أعراض المسلمين انتهى. وكتب العلاء مطالعة إلى السلطان يغريه بالمصنف وبالحنابلة وفيه ألفاظ مهملة هو عندي مع كتاب قاضي الشام الشافعي الشهاب بن محمرة؛ وفي شرح القصة طول وبلغنا عن أبي بكر بن أبي الوفا أن جنية كانت(179/115)
تابعة العلاء وكانت تأتيه في شكل حسن وتارة في شكل قبيح فتتزيا له من بعيد وهو مع الناس وأنه التمس منه كتابة تحصين ونحوه لمنعها فكتب له أشياء ولازمها فاستفاد منها أكثر مما كتب له غيره قال ولم أنزل عندك ولا أكلت طعامك إلا لأنه بلغني عنك الحجب قال ولم أعلم بذلك أحداً سواك واستكتمنيه فلم أذكره لأحد حتى مات وكان العلاء يكون مع الناس فتتراءى له فيغمض عينيه ويقرأ ذاك التحصين سراً ويغيب عن الناس فيظن أنه خشوع وتلاوة وذكر ثم لم يتفق حجبها بالكلية إلا على يد إبرهيم الأدكاوي كما أسلفته في ترجمته وقد تكرر اجتماع العز القدسي معه ببيت المقدس وبحث معه في أشياء أولها في كفر ابن عربي أهو مطابقة والتزام واتفقا على الثاني بعد أن كان العلاء على الأول وأنكر العز عليه تحفيه في حرم الأقصى محتجاً بأن كعب الأحبار دخله يمشي حبواً فانحل عن المداومة على ذلك.
ومن محاسن كلامه قوله لابن الهمام لما دخل عليه مرة وعنده جماعة من مريديه وجلس في حشي الحلقة قم فاجلس هنا يعني بجانبه فإن هذا ليس بتواضع لكونك في نفسك تعلم أن كل واحد من هؤلاء يجلك ويرفعك إنما التواضع أن تجلس تحت ابن عبيد الله بمجلس السلطان أو نحو هذا. وكان شديد النفرة ممن يلي القضاء ونحوه ولكن لما ولي منهم الكمال بن البارزي قضاء الشام وكان العلاء حينئذ بها سر وقال الآن أمن الناس على أموالهم
وأنفسهم ولما اجتمع به ابن رسلان في بيت المقدس عظمه جداً في حكاية
أسلفتها في ترجمته. وقد ذكره شيخنا في أنبائه فقال كان من أهل الدين والورع وله قبول عند الدولة وأقام بمصر مدة طويلة وتلمذ له جماعة وانتفعوا به، وكان يتقن فن المعاني والبيان ويذكر أنه أخذه عن التفتازاني ويقرر الفقه على المذهبين ثم تحول إلى دمشق فاغتبطوا به وكان كثير الأمر بالمعروف. ومات بها كما قرأته بخط السيد التاج عبد الوهاب الدمشقي في صبيحة يوم الخميس ثالث عشرى رمضان سنة إحدى وأربعين(179/116)
بالمزة ودفن بسطحها وأرخه العيني في ثاني الشهر وقال أنه كان في الزهد على جانب عظيم وفي العلم كذلك وبعضهم في خامسه وقال أنه لم يخلف بعده مثله في تفننه وورعه وزهده وعبادته وقيامه في إظهار الحق والسنة وإخماده للبدع ورده لأهل الظلم والجور قال بعضهم أنه حج ورجع مع الركب الشامي سنة اثنتين وثلاثين إلى دمشق فانقطع بها ولازمه الشهاب بن عرب شاه حتى مات، وقال المقريزي في عقوده: كان يسلك طريقاً من الورع فيسمج في أشياء يحمله عليها بعده عن معرفة السنن والآثار وانحرافه عن الحديث وأهله بحيث كان ينهى عن النظر في كلام النووي ويقول هو ظاهر ويحض على كتب الغزالي وأغلق أبواب المسجد الحرام بمكة مدة حجه فكانت لا تفتح إلا أوقات الصلوات الخمس ومنع من نصب
الخيام وإقامة الناس فيه أيام الموسم وأغلق أبواب مقصورة الحجرة النبوية
ومنع كافة الناس من الدخول إليها وكان يقول: ابن تيمية كافر وابن عربي كافر فرد فقهاء الشام ومصر قوله في ابن تيمية وجمع في ذلك المحدث ابن ناصر الدين مصنفاً انتهى. رحمه الله وإيانا.(179/117)
لقاء في سلطنة عُمان
الدكتور محمد جميل غازي
القرآن نزل لحل مشاكل الإنسان ..!
مخاطبة العقول والقلوب بالقرآن ..!
كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة ..!
انتهزت مجلة "العقيدة" العمانية.. فرصة لقاء الدكتور محمد جميل غازي.. في "عمان" لإلقاء بعض المحاضرات في التوعية الإسلامية، فكلفت محررها الزميل "إسماعيل السالمي" بإجراء لقاء معه.. ورغم أن الحوار كان بمناسبة بداية القرن الهجري الجديد.. إلا أن الدكتور كعادته طارد الصوفية والصوفيين، وقال ما تمكنت المجلة من نشره..
وإليك نص الحديث:
الهجرة.. هي البداية:
الأمة الإسلامية تمر الآن بذكرى مرور أربع عشر قرناً على الهجرة النبوية.. فكيف نجسد هذه الذكرى لإحياء مجد الأمة الإسلامية ؟(180/1)
التاريخ الهجري تاريخ أجمع عليها الصحابة.. حينما جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاختيار تاريخ يسجلون به أحداثهم ووقائعهم.. ولقد فكروا أي تاريخ يختارون، واتفقوا فيما بينهم على أن أعظم حدث فعلاً هو حدث الهجرة.. واتفقوا على اختيار الهجرة لتكون تاريخاً للمسلمين يرجعون إليه.. يسجلون به أحداثهم.. فالهجرة النبوية وهي الموعد الذي اختاره الصحابة بالإجماع لتكون تاريخاً لحياتهم.. والهجرة النبوية كانت انتقالاً من الفترة المكية إلى الفترة المدنية، والفترة المدنية هي الفترة التوطينية للإسلام، ولانطلاق الإسلام.. ففي المدينة قام الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع النظم الكفيلة بضمان مسيرة الإسلام.. ولم يضعها الرسول صلى الله عليه وسلم من عند نفسه.. وإنما وضعها بتشريع من عند الله سبحانه وتعالى، وبوحي من الله.. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.. هذه الشرائع التي وضعت في المدينة هي الشرائع الكفيلة والقادرة على هداية الأمة الإسلامية أو على هداية الإنسانية جمعاء.. وبدونها لن تسعد الأمة الإسلامية ولن تسعد البشرية.. كذلك فإن الفترة المدنية هي الفترة التي قامت فيها حروب الإسلام.. والتي أذن للرسول صلى الله عليه وسلم فيها أن يقاتل الذين يقاتلونه، والذين يقفون في سبيل الدعوة الإسلامية.. كما قال الله تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } [الحج: 39].(180/2)
فالهجرة الإسلامية تعتبر علامة ليست في التاريخ الإسلامي وحده، وإنما في التاريخ الإنساني عامة.. فالمسلمون مطالبون فعلاً، وقد مر أربعة عشر قرناً على الهجرة النبوية أن يحتفوا بهذا الحدث، وأسلوب الاحتفاء بهذا الحدث لا نقول بالمهرجانات الموسيقية والمهرجانات الغنائية أو بالتهريج، وإنما بالمؤتمرات العلمية التي تقدم فيها قضايا الإسلام، والتي يدرس فيها ماضي الإسلام، ونصحح كثيراً من الأخطاء الموجودة في التاريخ الإسلامي.. ثم في الوقت نفسه دراسة حاضر المسلمين ونقط الضعف في هذا الحاضر، والسلبيات الموجودة.. وفي الوقت ذاته وضع الخطط الجادة الغير الهازلة التي لا توضع للاستهلاك فقط، إنما توضع موضع التنفيذ للنهوض بمستقبل المسلمين، وكيف يكون هذا المستقبل أكرم وأشرف مما سبق. وننتظر أن تتحرك البلاد الإسلامية نحو هذه الذكرى وأن يؤمنوا أنهم شهود نهاية القرن الرابع عشر الهجري وهم شهود ميلاد القرن الخامس عشر الهجري.. إننا نعيش هذه الفترة الحاسمة في التاريخ البشري.. فالعالم من حولنا يعيش صراعات رهيبة.. سواء أكانت صراعات فكرية أو صراعات أيديولوجية.. أو صراعات استراتيجية أو صراعات في المذاهب..
هذه الصراعات موجودة في العالم اليوم.. وكل أمة في العالم تحاول أن تتسع أو أن توسع مناطق نفوذها في مقدرات الدول الفكري أو النفوذ العسكري أو النفوذ في الأرض أو النفوذ في مقدرات الدول أو النفوذ في الأسواق، والمسلمون منكمشون لا يستطيعون النفوذ أو متابعة العالم باهتمام، أو أن يشاركوا في الحياة النشيطة التي تدور في الخارج.
مطلوب من المسلمين وهم يحتفلون باستقبال القرن الخامس عشر الهجري أن يتصوروا هذا كله ويتدبروه.. وكل المسلمين ينبغي أن يدرسوا كيف يوصلون كلمة الله إلى الناس جميعاً، لأن حل مشاكل الناس في أيدي المسلمين والعالم يبحث عن أسلوب لحل مشاكله.(180/3)
المجتمع الرأسمالي يبحث عن أسلوب.. والمجتمع الشيوعي يبحث عن أسلوب.. والمجتمعات التي تسمي نفسها الاشتراكية تبحث عن أسلوب.. وتختلف على نفسها، وكلها اجتهادات بشرية تخطئ أكثر مما تصيب.
القرآن.. والإنسان:
ليس هناك أمة تحمل كلمة الله بصدق إلا الأمة الإسلامية، فليس هناك كتاب يمثل كلمة الله إلا القرآن الكريم، لأن الكتب كلها ضاعت.. التوراة ضاعت، والإنجيل والزبور كلها ضاعت، ولم يبق كتاب سوى القرآن الكريم هو الذي يمثل كلمة الله حتى وإن كانت هذه الكتب باقية فإنها بنزول القرآن انتهت رسالتها وانتهت أهدافها.. والقرآن الكريم أصبح مهيمناً على هذه الكتب.. وأصبح مسؤولاً عن كلمة الله الصحيحة.. القرآن حل مشاكل الإنسان.. وعلى المسلمين أن يبلغوا هذا الحل للناس جميعاً، إن لم يقم المسلمون بتبليغ كلمة الله يكونوا قد قصروا في حق البشرية كلها ويكونوا قد قصروا في حق أنفسهم أيضاً.(180/4)
وألاحظ على المسلمين ملاحظة عجيبة، أنهم في وسط هذا المعترك القائم بين الثقافات، وبني الحضارات لا نجد المسلمين يدخلون المعترك بما معهم من ثقافة، وما معهم من حضارة.. ينزوون ويخجلون ويتقوقعون بل يتشبهون بالآخرين.. فنجد في بلاد المسلمين من يعتنق الشيوعية، ونجد من يعتنق الوجودية، ونجد من يمارس التبشير.. هل هناك جدب في الثقافة الإسلامية حتى أخذوا يتسولون من هنا وهناك ويستوردون.. لو أن ثقافة القرآن قليلة أو ضحلة لقلنا أن المسلمين يستوردون ثقافات أخرى لملء الفراغ الذي يعانون منه.. لكن ثقافة القرآن لا نظير لها، وليس هناك في الدنيا على الإطلاق لا في الماضي، ولن يكون في المستقبل أبداً كتاب قامت عليه ثقافة كما قامت ثقافة على القرآن الكريم.. علوم انبثقت من القرآن الكريم.. ملايين الملايين من الكتب خرجت من القرآن الكريم، وهو كتاب يدعو أتباعه إلى الانفتاح العقلي، والانفتاح الفكري.. فهو ليس كتاباً مغلقاً، وليس كتاباً يطلب من أتباعه أن يكونوا مغلقي الذهن.. إنه كتاب ينهى عن الجمود، ينهى عن التقليد.. يدعو إلى العقل والحضارة والتدبر.. كل ذلك موجود فيه.. مطلوب من المسلمين وهم الشاهدون لنهاية القرن الرابع عشر، أن يخرجوا القرآن للناس.. أنا أعلم أن القرآن يطبع عشرات المئات وآلاف الطبعات في كل بلاد المسلمين، وأعلم أن هناك تسجيلات كثيرة للقرآن الكريم.. وأعلم أن هناك محطات لإذاعة القرآن الكريم.. وهناك مجلات دينية تنشر القرآن الكريم.. لكن ليس هذا هو المطلوب فقط، إنما المطلوب هو كيف نغزو المؤتمرات العالمية بالقرآن الكريم.. كيف نغزو بلاد العالم مبشرين بالقرآن الكريم.
القرآن يخاطب القلوب العقول:(180/5)
وأقولها صريحة بأن بلاد العالم ممهدة جداً لاستقبال القرآن.. هي تبحث عنه.. نحن نعلم أن في أمريكا مسلمين كثيرين، ويسلم الكثير فلو وضعنا مقارنة بسيطة بين ما يبذله التبشير لدخول بلاد المسلمين.. فالتبشير يدخل بالمال والوعظ من أجل أن يجعل مسلماً واحداً يترك دينه فلا يستطيع.. العكس هو الذي يحدث... أمريكا هي التي يدخلها الإسلام هل معنى هذا أن عندنا أموالاً نصرفها على الأمريكيين لكي يسلموا...ومن الذي يستطيع أن يشتري أمريكا وهي تملك كل شيء؟ يدخلون الإسلام بدون تبشير منا وبدون ضغوط، وبدون إغراء، هم يبحثون لأن المدنية الأوروبية تعيش الآن مرحلة تفسخ، تعيش مرحلة النهاية، وهذا كلام علمائهم.. فأكبر فيلسوف غربي، وأكبر مؤرخ غربي ألف كتابه أفول الغرب... الذي ترجم ترجمتين إحداهما بعنوان "أفول الغرب" والأخرى بعنوان "انهيار الحضارة الأوروبية" إذ هذا رأيه، كذلك نجد أن الكتاب من قديم يبشرون بالإسلام "جورج برناردشو" يقول في كتابه "نداء العمل" فإذا كانت لنبوءات كبار الرجال أثر فإني أتنبأ بأن دين محمد قد أصبح مقبولاً لدى أوروبا اليوم، وسيكون مقبولاً لديها أكثر غداً، وسيكون دين الإنسان جميعاً قبل الصيحة الأخيرة. إذ أوروبا مهيأة تبحث عن كتاب عالمي، ودين عالمي.(180/6)
الآن ومنذ عشرات السنين يبحثون عن دين عالمي، وقد أوجدوا أو ألفوا أو اختاروا ديناً جديداً سموه الديانة الطبيعية.. كذلك يريدون أن يضعوا لساناً عالمياً، فوضعوا ما سموه "الأسبانتو"... فلو نظرنا إلى الديانة الطبيعية التي قالوا بها نجدها قريبة الشبه بالإسلام.. لكنها ليس فيها الدقة ولا الحكمة الموجودة في الإسلام.. فهم يريدون ديانة تتفق مع الطبيعة وما يقولونه عن الطبيعة هو ما قيل عن الإسلام "دين الفطرة" الدين الذي يتفق مع عقل الإنسان وإحساسه، كذلك هم يطالبون بلسان الاسبرانتو أو اللسان العالمي.. والإسلام أيضاً معه اللسان العالمي.. فاللغة العربية – نحن بانزوائنا جعلناها اللغة السادسة بين لغات العالم... هذه كارثة – مع أن اللغة العربية لا أقولها بأنها الأولى فقط... ولكن لا ينبغي أن توضع من اللغات في مقارنة فهي أعلى.. ولا نقول هذا الكلام جزافاً، ولكن نقوله من الواقع الحي.. فإذا جئنا بأكبر قاموس لغة من اللغات ولتكن اللغة الإنجليزية لأنها أوسع اللغات.. ثم حذفنا مفردات الحضارة منه ثم أبقينا الجزء الباقي بعيداً عن ألفاظ الحضارة المستحدثة مثل "راديو.. تلفزيون" وأتينا بلسان العرب بأجزائه العشرين فإننا نجد ما يتبقى من اللغة الإنجليزية لا يعادل نصف مجلد من مجلدات لسان العرب.. إذاً فهي لغة واسعة لها أدبها، ولغة لها كيانها.. ولها مفرداتها الثرية الغنية واشتقاقاتها.
القرآن.. والتطور:
فالمسلمون عندهم الكثير من العلم والكثير من الحضارة.. ولكن كل هذا ضاع.. في الوقت الذي نجد فيه المكتبة الإسلامية مليئة نجد المسلمين يتسولون فتات موائد الآخرين.
كل هذه الأمور لابد أن توضع على الموائد أمام الذين يجتمعون ليدرسوا مرور أربعة عشر قرناً من الزمان على نزول القرآن الكريم.(180/7)
القرآن هو المعجزة الخالدة.. والأمة الإسلامية تسير في اتجاهات باسم التطور الحديث.. فهل عجز القرآن عن مسايرة الأحداث والقوانين المعاصرة في الوضع الاجتماعي والسياسي والمالي؟
للقرآن الكريم موقفه من التطور، وللتطور موقفه من القرآن.. فالقرآن يرحب بالتطور.. ولكن أن يخضع له.. فلا.. لأن ما نسميه تطوراً قد يكون في بعض الأحيان تهوراً، وليس بتطور.. وما نسميه مدنية قد يكون همجية.. وما نسميه بالتحرر قد يكون تحللاً.. من الذي يحدد الفرق بين ما هو تطور وما هو تهور؟ وما هي تجديد، وهو في الحقيقة تبديد.. وما هو تحرر وما هو تحلل؟ هل الحرية هي أن تفسق.. أن تشرب الخمر؟ أن تجعل من المرأة قطعة ديكور؟ أن تشارك المرأة في تجميل شوارع المدينة؟ إن هذا ليس تحرراً وإنما هو تحلل.. من الذي يسمي الأشياء بأسمائها؟ إنه القرآن الكريم.. فإذا أخضعنا القرآن للتطور فمعناه أن يفرض التطور تهوره على القرآن.. فيقول له: إن خروج المرأة نصف بغي ونصف عارية هذا تحرر.. لو أخضعنا القرآن لهذا فمعناه عكس للأوضاع.. فالقرآن هو المسيطر على الفكر والمسيطر على سلوك الإنسان.. أما أن يكون الإنسان هو المسيطر على كلام الله فقد انعكس الموضوع وعاد القرآن لا شيء.. ويعود الإنسان مرة ثانية ليفكر لنفسه.. والله تعالى قد وفر على الإنسان جهوداً مضنية، ما كان ليستطيع أن يصل إلى القرآن، فالله وفر عليه ليحميه من المتاعب الفكرية.. فالبشرية مثلاً في مجال الشيوعية.. ماركس وضع نظرية.. لا أقل إنه أول من وضعها وإنما هو واحد في حلقة طويلة من الذين وضعوا الشيوعية.. وأن تاريخ الشيوعية أقدم من ماركس بمئات السنين.. فلنقل أن ماركس وضع نظرية.. هل ماركس نفسه مقتنع بالنظرية.. إن النظرية نفسها تحمل عوامل سقوطها.. لأن ماركس الذي يقول بالتطور وبالصراع المستمر سألوه.. وماذا بعد الشيوعية؟ أجاب مزيد من الشيوعية.. معنى هذه الإجابة أنه هو شخصياً غير مقتنع بأن نظريته(180/8)
صالحة للتطور، وإلا لكان المبدأ الذي بنى عليه النظرية وهو الصراع يستمر.. ويكنه يرى أن هذا المبدأ ينتهي.
نجد أن الشيوعية تحمل تناقضات، تقول إنه إذا ظهر طغيان رأس المال قامت حركة البلوريتاريا، وحدث الصراع بين طغيان رأس المال وبينهم.. مع أننا نجد مجتمعات طافحة بالمال، ومع ذلك لم يحدث فيها صدام.. كالمجتمع الأمريكي مثلاً، ثم قامت الاشتراكيات بعضها يعدل البعض.. هذه اشتراكية "فابية" وهذه اشتراكية إصلاحية.. كل هذه النظريات تتصارع.. القرآن الكريم وفر على الإنسان كل هذه المتاعب ووضع حلوله لكل المشكلات.
نعود إلى الجزء الخاص بالتشريع والسياسة والاقتصاد.. نقول إن القرآن الكريم حكم العالم في فترة طويلة وأنه قدر أن يضع للعالم تشريعات منصفة عادلة لم ير العالم مثلها، وأنه ونضع نظماً سياسية وإدارية لم يشهد لها العالم مثيلاً.. كل ذلك معروف لمن يدرس الحضارة الإسلامية.. والقرآن ليس معجزاً في لفظه فقط وإنما هو معجز في تشريعه أيضاً وفي سياسته وفي أسلوبه التنظيمي وأسلوبه الاقتصادي.. فهو معجز في كافة النواحي التي عرضها وتطرق إليها.. فالله عندما أنزل القرآن للإنسان لم ينزله من أجل أن يرضى عقل الإنسان، أو يرضي مشاعره وإحساساته فقط.. أو يرضيه في أسرته أو مجتمعاته فقط.. فهو ليس ديناً فردياً كالوجودية.. وليس ديناً يلغي الفرد كالشيوعية.. إنما راعى الإنسان في نفسه ومشاعره ووجدانه، وراعاه في أسرته ومجتمعه.. وضع نظاماً يكفي لهذا كله.. إننا لو درسنا الخط الحضاري في منطقة الشرق.. ودرسنا الخط الحضاري في منطقة الغرب لوجدنا أن الكل في المنطقتين ترك الأديان ثم أخذ يتصرف عشوائياً.
تركنا القرآن.. فضعنا :(180/9)
لكننا لو نظرنا إلى الماضي.. حينما كان الشرق متمسكاً بدينه والغرب متمسكاً بدينه، فإننا نجد أن منطقة الشرق الإسلامي حينما كانت متمسكة بدينها كانت هي صاحبة السيادة والتفوق الحضاري والعمراني الذي لا نظير له.. مما جعل ملك إنجلترا "جورج" يرسل خطاباً إلى هشام ملك الأندلس يقول له: "إنني أرسل بعثة من رجال البلاط والأشراف وبينهم ابنة أخي الأميرة "دوبانت" ليتعلموا العلم في مدارسكم ويعودوا إلينا فينشروا النور في بلادنا التي عمها الظلام من كل الجوانب".
ونرجع إلى منطقة الغرب لما كانت متمسكة بدينها كانت متخلفة جداً، وتاريخ أوروبا في القرون الوسطى يندى له الجبين.. محاكم تفتيش.. قتل للمفكرين.. إذاً فالمعادلة متعاكسة.. فلما ارتد الاثنان عن دينهم حدث العكس.. فالمسلمون تخلفوا.. وأوروبا تقدمت معنى هذا أن الدين الإسلامي يعطي حضارة.. والتمسك بغيره والردة عنه يعطي التخلف.. والردة عن غير الإسلام تعطي التقدم.
خاض القرآن الكريم معارك بعضها جدلي وبعضها حربي.. وخرج من هذه المعارك كلها منتصراً مع احتفاظه بنصه وروحه.. فلم تمسه يد التحريف.. فهل تشرح للقارئ جانباً من صمود القرآن ؟(180/10)
هذه المعجزة أيضاً من معجزات القرآن الكريم، فالمعارك التي دارت حول القرآن الكريم لم تدر حول كتاب على الإطلاق.. في الوقت الذي تنزل فيه كل آية من آياته كان الصراع دائراً ومستمراً.. معارك كلامية وجدلية، ووفود تأتي للنقاش، وأفراد يناقشون النبي، ويناقشون المسلمين.. في الوقت نفسه كانت دور معارك حربية أيضاً مع الأعداء التقليديين.. الصليبية العالمية والصهيونية العالمية والشيوعية العالمية أو الوثنية العالمية بأي صورة من صورها.. تدور مناقشة في شتى المجالات ففي سورة آل عمران مثلاً.. عندما جاء وفد نصارى نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليناقشه في حقيقة المسيح وحقيقة القرآن الكريم.. واستمر النقاش إلى ذروته.. ونزل قول الله تعالى: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61].
والمباهلة هي أن يقف الفريقان ثم يبتهلان إلى الله أن يلعن الكاذب منهما إلى آخر ما جرى.. فامتنع النصارى عن المباهلة.. وقالوا: لو كان نبياً فباهلناه لن نفلح ولن يفلح أولادنا من بعدها.. والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ”والله لو باهلوني لأحجج الله عليهم الوادي ناراً“.(180/11)
ونفس المواجهة حصلت مع اليهود.. والله سبحانه وتعالى يواجه اليهود بادعائهم المعروف وهو أن لهم الدار الآخرة، وأن الناس لن يدخلوا الجنة.. فالله يقول: { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ } [البقرة: 94].. والرسول صلى الله عليه وسلم قال: والله لو تمنوا الموت لماتوا جميعاً، ولكنهم حريصون على الحياة كما قال الله تعالى في بقية الآيات: { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ، وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } [البقرة: 95، 96].
القرآن فوق الصراعات :
هذا بالنسبة للجدل الكلامي، أما بالنسبة للمعارك العسكرية فلقد خاض الرسول صلى الله عليه وسلم معاركاً كثيرة تحدث القرآن عنها.
فمثلاً سورة الأنفال تعرض غزوة بدر، سورة آل عمران تعرض غزوة أحد، سورة الأحزاب تعرض غزوة الأحزاب "الخندق"، وغزوة بني قريظة.. نجد أن كثيراً من الغزوات مذكورة في القرآن الكريم وهناك الكثير من السرايا.
القرآن الكريم يخوض هذه المعارك سواء أكانت معارك كلامية أو عسكرية وسواء سجلها القرآن أم لم يسجلها.. المهم أنه كان يمر في خضم هائل من المناقشات والمعارك.. ومع ذلك فإن القرآن الكريم ظل منتصراً ولم ينهزم أبداً.. كذلك الجنود الذين يدخلون المعارك في ظلال القرآن ينتصرون، أما إذا ابتعدوا خطوة واحدة فإنهم ينهزمون.(180/12)
القرآن انتصر في معاركه كلها، وأعظم انتصار حققه القرآن الانتصار في النص، فالنص الذي كان يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم هو النص الذي كان يتلوه الصحابة، هو النص الذي نقرأه، لا المعارك أثرت فيه يحذف حرف واحد ولا بزيادة حرف واحد.. وإنما ظل هكذا.. وأيضاً المعارك الداخلية فلقد كان بين المسلمين أنفسهم معارك.. وقامت فرق إسلامية ومذاهب بعضها سياسي وبعضها ديني وبعضها لأغراض شخصية، هذه المذاهب كانت تستبيح لأنفسها أحياناً أن تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لم يستطع واحد من المتصارعين في هذه الفرق أن يضع آية في القرآن الكريم أو أن يحذف أو يضيف حرفاً.. وهذا علامة على حفظ الله للقرآن كما قال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]، { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16، 19]. فالله سبحانه وتعالى وعد بالنسبة للقرآن بعدة وعود.. وهي جمع القرآن لأنه كان ينزل منجماً.. وقرآنه وهو أسلوب قراءة القرآن.. كذلك بيان القرآن.. ومن قبل ومن بعد حفظ القرآن من التحريف.
ترجموا معاني القرآن:
هناك شبهات يثيرها أعداء الإسلام حول القرآن فما هي هذه الشبهات؟ وكيف ندافع عنها؟(180/13)
الشبهات أو النحل الفاسدة التي يثيرها أعداء الإسلام، شبهات مضحكة.. فهم مثلاً يشيعون أو يقولون بأن القرآن انتشر بالسيف ويقولون أن القرآن أباح تعدد الزوجات، وأن القرآن أباح الطلاق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عدد زوجاته.. وأن القرآن أباح الرق.. إن هذه القضايا التي أثيرت وتثار هي قضايا لا أساس لها.. وهي معقولة ومفهومة حتى لدى الذين يثيرونها.. فالذين يتكلمون عن تعدد الزوجات هم يعددون الخليلات ويعددون الزوجات ويقولون إن أنبياءهم عددوا الزوجات بمائة وأكثر من مائة.. فعندهم داود تزوج مائة، وسيلمان تزوج مئات.. والذي أريد أن أقوله شيء هام.. هو هل على الدعاة المسلمين أن يفترضوا أن القرآن موضوع في قفص الاتهام وأنهم هم المدافعون عنه؟ لا أبداً.. إن القرآن قادر على الدفاع عن نفسه في كل القضايا التي تثار حوله.
القرآن يدافع عن نفسه، ومهمة الدعاة هي إن يقرأوه على الناس، أن تترجموا معانيه إلى لغات العالم.. وأن يغزوا به العالم، وإن كان هناك ضيق يد في الدول الإسلامية فإن شبابنا المسلم الذي يسافر إلى الخارج يجب أن يحمل معه القرآن وتعاليمه.. وينفذ شعائر الإسلام.. إن مجرد سماع الناس للقرآن فإنه سيؤثر فيهم وسيهز مشاعرهم.. فلقد كان المشركون يوصون أصحابهم فقط بعدم سماع القرآن.
كلمة التوحيد .. وتوحيد الكلمة :
ما هي العقبات التي تقوم في طريق المسيرة الإسلامية.. وكيف يمكننا التغلب عليها؟(180/14)
هناك عقبات كثيرة.. بعضها خارجية وبعضها داخلية.. والعقبات الداخلية أهم من الخارجية لأن العقبات الخارجية مهما قويت لن تكون أقوى منها في أيام نزول القرآن.. لأن القرآن نزل على رجل يعاديه حتى أقرب أقربائه – عمه – كذلك فهو في بيئة محاطة، ومع ذلك استطاع أن يخرج من هذه العزلة في الأهل والحصار الاقتصادي ومع ذلك خرج منتصراً، ولقد أوتي الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الفتح.. وفي حياته حقق فتح الجزيرة العربية كلها، وبعد وفاته وفي خلال خمسين عاماً كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين شرقاً وغرباً.. المسلمون كانوا يفهمون الإسلام حقاً.. لم يكونوا فرقاً وشيعاً وأحزاباً.. ولم يكونوا مما يعادي بعضها بعضاً، وإنما كانوا أمة واحدة.. ولكن المسلمين أصبحوا اليوم فرقاً وشيعاً.. وينبغي أن نتذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة كان أول شيء فعله بناء المسجد للوحدة ثم قيام الإخوة للوحدة.. فلو تمسك المسلمون بمبدأين هما توحيد الكلمة وكلمة التوحيد لتغير حالهم عما هم عليه.. وأصبحوا بحق خير أمة أخرجت للناس.. وهناك أمر هام هو أن يعود المسلمون بأفكارهم إلى القرآن الكريم وألا يبتعدوا عنه.. فالذي حدث هو أن المسلمين أخذوا يتسولون أفكاراً ونظماً.. فعيب علينا وبيننا القرآن أن نأتي بأفكار مستوردة من عند الوثنيين وعباد البقر والشيوعية الحمراء وغيرها من القوانين الموضوعة.
مطلوب دعاة على مستوى الدعوة :
تصل إلى الآذان كثير من الدعوات نحو تطوير سبل الدعوة والإرشاد.. فما رأيك في أفضل السبل ؟(180/15)
الإسلام دين عرف كيف يستغل أساليب الإعلام.. وليس هناك على الإطلاق مبدأ أو دين صنع ما صنعه الإسلام.. في وقت لم يكن الإعلام معروفاً ولا العلاقات العامة معروفة، ومع ذلك وجدنا أ، الإسلام دين إعلامي من طراز لا يعرفه البشر.. ويكفي في الصلوات الخمس إذ يقف المؤذن فيبلغ مبادئ الإسلام في جمل مختصرة.. والمسجد مكان للتجمع خمس مرات في اليوم مع إمام واحد وصف واحد.. وخطبة الجمعة وصلاة العيدين.. يخرج الناس إليها صغيرهم وكبيرهم.. نساؤهم ورجالهم.. هذه كلها أساليب إعلامية قوية بدأ بها الإسلام.. فالداعية المسلم علمه الله كيف يستغل الأساليب الإعلامية المتاحة.. واليوم هناك أساليب إعلامية حديثة.. كالجريدة.. والإذاعة والتليفزيون.. يمكن تسخيرها للدعوة إلى الإسلام.. والرحلات والمؤتمرات، والسفر والهجرة، ولقاءات الشباب.. كل هذه الأساليب ينبغي أن تستغل.. يؤسفني جداً أن أقول أن الإعلام الإسلامي متخلف.. فمثلاً حينما تقرأ المقال الإسلامي تجده قد أخرج إخراجاً رديئاً.. وكذلك إخراج الكتاب الإسلامي بطريقة يسأمها الكثير فلماذا لا نستغل أرقى أساليب الطباعة.. وأرقى أساليب العرض.(180/16)
وعلينا أن ندرك أن الدعوة إلى الإسلام ليست خطباً فقط.. فالخطب والمحاضرات قد تكون أحياناً مملة.. ثم إنها لمن؟ يذهب الخطيب إلى المسجد ليدعو الناس إلى الصلاة.. والذين يذهبون إلى المسجد إنما جاءوا ليصلوا ولكن المشكلة هي أن توجه الدعوة للذين يذهبون إلى المنتزهات والمقاهي والسينمات والملاهي بأن يتوجهوا للصلاة.. ولكن كيف أوصل ندائي إلى هؤلاء الناس.. يجب أن أستغل كل الطاقات من أول الجريدة وحتى الملصقات على الحوائط.. وهذه الملصقات تدعو إلى العبادة.. ولابد أن تصمم بأسلوب مثير.. والداعية حين يوجه نداءه يجب أن يعرف أنه لا ينادي المثقفين فقط.. وإنما الأميين وأنصاف المتعلمين أيضاً.. والخطيب عندما يقف في المسجد عليه أن يدرك أن أمامه مثقفين لابد أن يستفيدوا، وأميين لابد أن يستفيدوا.. وعليه أن يجمع بين الاثنين.
وعلى الداعية أن يختار الموضوع بحيث يكون قادراً على حل المشاكل اليومية للمتسمع.. كذلك المناقشة يجب أن تكون مفتوحة فربما كان المستمع يستمع إلى خطبة ولكنه غير موافق على هذا الكلام.. وليس من الضروري أن تكون على رؤوس الأشهاد فمن الممكن أن تكون مناقشات فردية.. ولتستمر المناقشة أسبوعاً.. شهراً.. تتبادل خلالها الكتب والمعلومات حتى يستطيع أن يقنعه لأنه ربما يكون فكره مشوشاً.
الذين يفترون على الله ورسوله :
أعرف رأيك في الصوفية والصوفيين، لكن ما هو تأثيرهم في الإسلام؟
الصوفيون لا تأثير لهم ولا وزن لهم في الإسلام، أو على الإسلام. لكن خطرهم الداهم.. هو على المسلمين.. أنهم يستغلون جهل البعض وبكل أسف.. وأقولها، وأنا حزين القلب والنفس.. أن أكثرية المسلمين هم الجهلة، مع أن العلم والتعليم جزء من الدين لا يتجزأ.. والرسول عليه الصلاة والسلام ما ترك فرصة إلا حض فيها على التعليم.. وقَبِلَ أن يكون فداء الأسير أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين.. في أول غزوة.(180/17)
ثم أعود فأقول: "هؤلاء الذين يدعون الإسلام، ويحسبهم الناس على المسلمين، ويدعون أنهم من المتصوفين، وتأخذهم العزة بالإثم.. فيفترون على الله. ويقولون: إن الإسلام هو التصوف، وأن التصوف هو الإسلام، وإذا كان الإسلام هو التصوف.. فلماذا سمانا الله بالمسلمين، ولم يقل رسول الله أبداً، ولا روى صحابته أنه قال تصوفوا.. ولم يقلها أحد من صحابته، ولا أحد من التابعين.. إن هي إلا بقايا من الأديان البائدة، والباقية.. بعضها مجوسي، وبعضها بوذي، وبعضها وثني، وبعضها مسيحي أو يهودي.. تسلل بها حاملوها إلى قلوب المسلمين ليضربوا العقيدة في قلبها، وفي أصلها.. في العمود الذي يقوم عليه التوحيد".
فأول خطوات الصوفية.. أن تسلم أمرك إلى غير الله.. أن تعطي كل قلبك للشيخ.. وهذه هي البداية.. فإذا نجحوا في ذلك أسلم المريد إلى بقية الخرافات.. حتى يشرك دون أن يدري.. وأي شرك بعد أن يقول الصوفي: أن كون الله في أيدي بعض الأقطاب.. وهم من البشر الموتى.. كالسيد البدوي، والدسوقي، وغرهما.. يفعلون به ما يريدون، والغريب أنهم يلفقون هذه السماء، ولا يقربون الأنبياء.. مع أن الأنبياء صفوة مختارة كرمهم الله بالاصطفاء.. لأن "الولي" الصوفي عندهم أكبر من أي نبي ويكفي أن تعرف أنهم يزهون بأنهم لا يعملون بما تركه لنا النبي صلى الله عليه وسلم ويعملون بما يقول به شيوخهم.. لأنهم يعتقدون أنهم يأخذون علمهم من الله الحي، وإنما بقية المسلمين يأخذون العلم عن أموات..
ألم يخدموا الإسلام في فترات معينة ويدافعوا عنه:(180/18)
هذه فرية من مفترياتهم، وتلفيقة من تلفيقاتهم.. التي نشروها في الأدب الشعبي.. من أن السيد البدوي جاء بالأسرى وكيف يجيء أو يحارب وهو يسير على خط "ابن عربي" الذي يقول: إن الله إذا سلط ظالماً على قوم فلا يجب أن يقاوموه لأنه عقاب لهم من الله.. ومن قال إن هؤلاء الذين يعيشون بصفة دائمة في شبه غيبوبة عقلية يصلحون للحرب أو التدبير أو القتال؟.. إنهم يعيشون على فلسفة البلادة، وتخلف الفهم، وبطء الحركة.. فكيف يصارعون أو يحاربون؟
إذا كان بعضهم يعتبر السعي على الرزق.. عدم ثقة في أن الله قادر على أن يرزقه، وينام في بيته أو ضريحه إلى أن يأتيه أتباعه بالطعام والشراب، فكيف يصدق أن هؤلاء كانوا رجال حرب وطعان؟
إن مثل هؤلاء المتصوفة كمثل الدبة التي قتلت صاحبها بالحجر لأن الذبابة وقفت على وجهه وهو نائم.. فلكي تطرد الذبابة قذفت وجه صاحبها بحجر كبير فهشمته وقضت عليه.. ومع ذلك فالدبة خير منهم لأنها فعلت ما فعلته بحسن نية، ولأنها حيوان لا عقل له.. أما هؤلاء فيلغون عقولهم وعقول أتباعهم بقصد الانتفاع من غفلة الناس.
لكنهم يدعون أنهم "انجذبوا" في حب الله ورسوله.. فما قولكم؟
الإسلام من شروطه أن يحب المسلم الله ورسوله.. ولكن أي حب؟ الحب الذي يجعل المسلم يخشى عصيان الله ورسوله، فينتهي عما نهاه الله عنه، ويحرص على هذا الحب فينفذ ما أمر الله به أن ينفذ.. أما أن يتنطع فيقول: أنه يعشق الله، ويعشق الرسول، وأنه عبد ذليل أمام أهل البيت، والعبودية لله وحده، ولا ذلة إلا له.. وكلمة "عشق" كلمة فاحشة.. لا يجب أن تكون بين العبد وربه.. ثم من قال: إن حب المسلم لرسول الله تجعله يفتري عليه.. إن أحدهم يقول إنه ذهب يزور قبر رسول الله.. وأمام القبر قال: ها أنذا جئت يا رسول الله لأسلم عليك فمد رسول الله يده من قبره وسلم عليه!!(180/19)
هل هذا حب؟ وهل هذا أدب؟ هل هذا كلام يستقر في العقل أو القلب.. إنه جنون.. أو أحلام يقظة.. أو كذب، وكل ذلك لا دخل له بالإسلام.. دين السماحة، والبساطة، والاعتداء..
وفي النهاية لا يسع مجلة "العقيدة العمانية" إلا أن تشكر للدكتور استجابته وسعة صدره.(180/20)
ماذا تعرف عن قصيدة البردة
نقلاً من كتاب"معلومات مهمة عن الدين"
للشيخ محمد جميل زينوا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد:
هذه القصيدة للشاعر البوصيري مشهورة بين الناس ولا سيما بين الصوفيين.
ولو تدبرنا معناها لرأينا فيها مخالفات للقرآن الكريم وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - !
يقول في قصيدته:
1- يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
يستغيث الشاعر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقول له: لا أجد من ألتجئ إليه عند نزول الشدائد العامة إلا أنت، وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخلد صاحبه في النار إن لم يتب منه، لقوله تعالى:
{ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } ]يونس:
106[.(أي المشركين) لأن الشرك ظلم عظيم.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:(من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) رواه البخاري.
(الند:المثيل).
2- فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا تكذيب للقرآن الذي يقول الله فيه: { وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى } ]الليل:13[ فالدنيا والآخرة هي من الله ومن خلْقِهِ، وليست من جود الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلقه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم ما في اللوح المحفوظ، إذ لا يعلم ما فيه إلا الله وحده،وهذا إطراء ومبالغة في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول وأنه يعلم الغيب الذي في اللوح المحفوظ بل إن
ما في اللوح من علمه وقد نهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الإطراء فقال:(لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
3- ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به إلا ونلت جواراً منه لم يُضَم(181/1)
يقول: ما أصابني مرض أو همٌّ وطلبت منه الشفاء أو تفريج الهم إلا شفاني وفرَّج همي.
والقرآن يحكي عن إبراهيم عليه السلام قوله عن الله عز وجل: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } ]الشعراء:80[.
والله تعالى يقول: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } ]الأنعام:17[.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:(إذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
4- فإن لي منه ذمة بتسميتي محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
يقول الشاعر: إن لي عهداً عند الرسول أن يدخلني الجنة، لأن اسمي محمداً، ومن أين له هذا العهد؟
ونحن نعلم أن كثيراً من الفاسقين والشيوعيين من المسلمين اسمه محمد، فهل التسمية بمحمد مُبرر لدخولهم الجنة ؟ والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لبنته فاطمة رضي الله عنها:(سليني من مالي
ما شِئْتِ، لا أُغني عنك من الله شيئاً) رواه البخاري.
5- لعل رحمة ربي حين يقسمها تأتي على حسب العصيان في القسم
وهذا غير صحيح، فلو كانت الرحمة تأتي قسمتها على قدر المعاصي كما قال الشاعر لكان على المسلم أن يزيد في المعاصي حتى يأخذ من الرحمة أكثر، وهذا لا يقوله مسلم
ولا عاقل ولأنه مخالف قول الله تعالى: { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } ]الأعراف:
56[.
والله تعالى يقول: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُون } ]الأعراف:156[.
6- وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
الشاعر يقول لولا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما خُلقت الدنيا، والله يكذبه ويقول: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ]الذاريات:56[.(181/2)
وحتى محمد- صلى الله عليه وسلم - خُلق للعبادة وللدعوة إليها يقول الله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين } ]الحجر:99[.
7- أقسمت بالقمر المنشق إن له من قلبه نسبة مبرورة القسم
الشاعر يقسم ويحلف بالقمر والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول:(من حلف بغير الله فقد أشرك) حديث صحيح رواه أحمد.
ثم يقول الشاعر يخاطب الرسول قائلاً:
8- لو ناسبتْ قدرَه آياتُه عِظَماَ أحيا اسمه حين يُدعى دَارِسَ الرِمَمِ
ومعناه: لو ناسبتْ معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدره في العِظَم، لكان الميت الذي أصبح بالياً يحيا وينهض بذكر اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبما أنه لم يحدث هذا فالله لم يُعط الرسول - صلى الله عليه وسلم - حقه من المعجزات، فكأنه اعتراض على الله حيث لم يعط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقه!!
وهذا كذب وافتراء على الله، فالله تعالى أعطى كل نبي المعجزات المناسبة له، فمثلاً
أعطى عيسى عليه السلام معجزة إبراء الأعمى والأبرص وإحياء الموت، وأعطى لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة القرآن الكريم، وتكثير الماء والطعام وانشِقاق القمر وغيرها.
ومن العجيب أن بعض الناس يقولون: إن هذه القصيدة تسمى بالبردة وبالبُرأة، لأن صاحبها كما يزعمون مرض فرأى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأعطاه جبته فلبسها فبرىء من مرضه
- وهذا كذب وافتراء- حتى يرفعوا من شأن هذه القصيدة، إذ كيف يرضى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الكلام المخالف للقرآن ولهديه - صلى الله عليه وسلم - وفيه شرك صريح.
علماً بأن رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ما شاء الله وشِئْتَ، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(أجعلتني لله نداً ؟ قل ما شاء الله وحده) رواه النسائي بسند جيد.
والند:المثل والشريك.(181/3)
فاحذر يا أخي المسلم من قراءة هذه القصيدة وأمثالها المخالفة للقرآن، وهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، والعجيب أن في بعض بلاد المسلمين من يُشَيع بها موتاهم إلى القبور، فيضمون إلى هذه الضلالات بدعة أخرى حيث أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصمت عند تشييع
الجنائز ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(181/4)
مُجَانَبَة ُ أَهْل ِ الثُّبُوْر ، المُصَلِّيْنَ في المَشَاهِدِ وَعِنْدَ القُبُوْر
الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ بْن ِ فَيْصَل الرّاجِحِيّ
http://www.saaid.net/
تقدِيْمُ مَعَالِي الشَّيْخِ
العَلامَةِ الدّكتورِ صَالِحِ بن ِفوْزَان بن ِعَبْدِ اللهِ الفوْزَان
عُضْوِ هَيْئةِ كِبَارِ العُلمَاءِ ، وَعُضْوِ اللجْنةِ الدّائِمَةِ للإفتَاء
الحمْدُ للهِ ، وَالصَّلاة ُوَالسَّلامُ عَلى رَسُوْل ِ اللهِ نبينا محمَّدٍ ، وَعَلى آلِهِ وَصَحْبهِ وَمَنْ وَالاه ، وَتَمَسَّك َ بسنتهِ وَاتبعَ هُدَاه ، أَمّا بَعْدُ :
فقدِ اطلعْتُ عَلى رِسَالةٍ لِلأَخِ الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيزِ بن ِ فيْصَل الرّاجِحِيّ ، بعنوَان ِ«مُجَانبة ُ أَهْل ِ الثبوْر ، المصَليْنَ في المشاهِدِ وَعِنْدَ القبوْر».
وَهِيَ رَدٌّ عَلى مَنْ أَجَازَ الصَّلاة َ في المقابرِ وَعِندَ القبوْر.
وَلمّا تأَملتها : وَجَدْتها رِسَالة ًجَيِّدَة ً في مَوْضُوْعِهَا ، تدْحَضُ شبهَاتِ القبوْرِيِّيْنَ ، وَتسُدُّ وَسِيْلة ً مِنْ وَسَائِل ِ الشِّرْكِ المشِيْن .
فجزَاهُ الله ُ خيْرَ الجزَاءِ ، وَنفعَ بهَذِهِ الرِّسَالةِ وَغيْرِهَا مِنَ الكتبِ المفِيْدَةِ ، وَالأَجْوِبةِ السَّدِيدَةِ،
وَصَلى الله ُ وَسَلمَ عَلى نبينا محمَّدٍ ، وَآلِهِ وَصَحْبه ،،،
كتبهُ
صَالح بن فوْزان بن عَبْدِ الله الفوْزان
عُضْو هَيْئَةِ كِبارِ العُلمَاء
(التَّوقيع)
في 25/3/1424ه
الحمْدُ للهِ رَبِّ العالمِيْنَ ، وَالصَّلاة ُوَالسَّلامُ عَلى إمَامِ وَخَاتَمِ الأَنبيَاءِ وَالمرْسَلِيْنَ ، نبيِّنا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِيْنَ ، وَبعْدُ :
فقدْ قبضَ الله ُسُبْحَانهُ نبيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلم يَتْرُك ْ خَيْرًا إلا َّ دَلَّ الأُمَّة َعَليْهِ ، وَحَثهَا إليْهِ ، وَلا شرًّا إلا َّحَذّرَهَا مِنْهُ ، وَأَبعَدَهَا عَنْه .(182/1)
بَلْ وَمَا مِنْ سَبيْل ٍ وَلا ذرِيْعَةٍ إلىَ شَرٍّ إلا َّ وَقدْ حَذَّرَ مِنْهَا ، مَخافة َ أَنْ يَنْتَهيَ الحالُ بسَالِكِهَا إلىَ مَغبَّةٍ لا يَحْمَدُ عُقبَاهَا .
خاصّة ً مَا كانَ خَطرُهُ عَلى مَعاقِدِ الإيْمَان ِ، وَمَعَاصِمِ الإسْلامِ ، كالشرْكِ باِللهِ تَعَالىَ ، وَذرَائِعِهِ وَوَسَائِلِه .
بَلْ حَذَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُشَابَهَةِ المشْرِكِيْنَ ، وَمُحَاكاةِ الكافِرِيْنَ ، وَلوْ كانَ ذلك فِي اللبْس ِ وَالهيْئَةِ ، فكيْفَ باِلعِبَادَةِ وَالطاعَة؟!
فأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَغْييرِ الشَّيْبِ ، وَحَفِّ الشَّوَارِبِ ، وَإيْفاءِ اللحَى ، مُخالفة ً لِلكافِرِيْن .
وقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«فصْلُ مَا بيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْل ِ الكِتابِ: أَكلة ُ السَّحَر» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِه»(1096) عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاص ِ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ بَعْدَهُ في«اقتِضَاءِ الصِّرَاطِ المسْتَقِيْمِ»(1/186-187):(وَهَذَا يَدُلُّ عَلى أَنَّ الفصْلَ بَيْنَ العِبَادَتيْن ِ: أَمْرٌ مَقصُوْدٌ لِلشّارِعِ ، وَقدْ صَرَّحَ بذَلِك َ فِيْمَا رَوَاهُ أَبو دَاوُوْدَ (2353) عَنْ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لا يَزَالُ الدِّينُ ظاهِرًا ، مَا عَجَّلَ الناسُ الفِطرَ ، لأَنَّ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُوْن».
وَهَذا نصٌّ في أَنَّ ظهُوْرَ الدِّين ِ، الحاصِلَ بتَعْجِيْل ِ الفِطرِ ، لأَجْل ِ مُخالفةِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى .
وَإذا كانَ مُخالفتهُمْ سَبَبًا لِظهُوْرِ الدِّين ِ، فإنمَا المقصُوْدُ بإرْسَال ِالرُّسُل ِ: أَنْ يَظهرَ دِيْنُ اللهِ عَلى الدِّين ِ كلهِ ، فيَكوْنُ نفسُ مُخالفتهمْ ، مِنْ أَكبَرِ مَقاصِدِ البعْثة)اه.(182/2)
وَكانَ مِنْ أَشَدِّ مَا خَشِيَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى أُمَّتِهِ : الشِّرْك ُ باِللهِ ، وَمَا يُفضِي إليْه .
وَلمّا مَرِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَضَ مَوْتهِ ، وَكانَ وَعْكهُ شَدِيْدًا : لمْ يَشْغلهُ مَرَضُهُ الشَّدِيْدُ ، وَلا مَا كانَ فِيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَحْذِيْرِ أُمَّتِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَوَسَائِلِهِ قبْلَ قبْض ِ رُوْحِهِ الطاهِرَةِ بخمْس ِ ليَال ٍ، فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ كذَلِك َ-:«أَلا وَإِنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ ، كانوْا يَتَّخِذُوْنَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، أَلا فلا تتَّخِذُوْا القبوْرَ مَسَاجدَ ، فإني أَنهَاكمْ عَنْ ذلك) رَوَاهُ مُسْلِمٌ في «صَحِيْحِهِ»(532) عَنْ جُنْدُبِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
فصل
وَقدْ رَأَيْتُ كاتِبا قبْلَ أَيامٍ ، أُعْجِمَ قلبُهُ عَنْ هَذَا ، فلمْ يُدْرِكِ المُرَادَ ، فرَجَّحَ مَا ليْسَ عَليْهِ اعْتِمَادٌ ، وَلا لهُ عِمَادٌ ، وَكتبَ مَقالا ً يَعِيْبُ فِيْهِ عَلى الناس ِ في بلادِنا وفي بلادٍ أُخْرَى ، مَا رَآهُمْ فِيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَنِعْمَةٍ ، وَ بُعْدٍ عَنْ مَوَاطِن ِ الشرِّ وَالنِّقمَةِ ، فقالَ:(يتلقى أَكثرُ النّاس ِحُكمَ حُرْمَةِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَةِ باِلتَّسْلِيْمِ ، وَكأَنهُ مِنَ المتفق ِ عَليْهِ ، أَوْ كأَنَّ نصًّا مُحْكمًا وَرَدَ فِيْه!).
ثمَّ زَادَ فقالَ:(وَالحقِيْقة ُ أَنَّ المسْأَلة َخِلافُ ذلِك َ، وَمَذْهَبَ السَّلفِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ: الجوَازُ ، إلا َّ مَا كانَ مِنَ الإمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ الله .
فالصَّلاة ُ فِي المقبَرَةِ إذنْ جَائِزَة ٌ لِلأَدِلةِ التالِيَةِ :(182/3)
قوْلُ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجدًا وَطهُوْرًا» ، وَهَذَا يعُمُّ الأَرْضَ كلهَا .
بنَاءُ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ فِي مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكِيْنَ ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُوْرٌ ، وَهُوَ فِي«الصَّحِيْحَيْن».
صَلاة ُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى المِسْكِيْنَةِ ، التي كانتْ تقمُّ المسْجِدَ فِي المقبَرَةِ مَعَ أَصْحَابهِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ .
صَلاة ُ الصَّحَابَةِ فِي المقبَرَةِ مِنْ غيْرِ نكِيْر .
عَدَمُ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍصَحِيْحٍ صَرِيْحٍ فِي النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَة .
هَذَهِ بَعْضُ الأَدِلةِ عَلى جَوَازِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَةِ عَلى وَجْهِ الاخْتِصَار) اه كلامُ المعْتَرِض .
ثمَّ أَحَالَ عَلى رِسَالةِ «الجوْهَرَة ، فِي جَوَازِ الصَّلاةِ فِي المقبرَة» ، وَليْسَ فِيْهَا شَيْءٌ يُحْتَجُّ بهِ ، غيْرُ مَا ذكرَ هُوَ ، وَسَيَأْتِي(ص109-125) إبْطالهُ بمَشِيْئَةِ الله( - بَعْدَ إتْمَامِي كِتَابي هَذَا بزِيادَاتِهِ الملحَقةِ : رَأَيتُ كِتَابًا طبعَ حَدِيثا باِسْمِ «كشْفِ السُّتُوْرِ ، عَمّا أَشْكلَ مِنْ أَحْكامِ القبوْر» لِمَحْمُوْدِ بن ِ سَعِيْدِ بن ِ مَمْدُوْحٍ ، نشَرَتهُ دَارُ الفقِيْهِ عَامَ (1423ه) ، في(361) صَفحَة .
قرَّرَ فِيْهِ أُمُوْرًا فاسِدَة ً كثِيرَة ً، مِنْ جَوَازِ البنَاءِ عَلى القبوْرِ ، وَالصَّلاةِ في المقابرِ ، وَالسَّفرِ إلىَ زِيارَتِهَا ، وَاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا ، وَجَوَازِ النَّذْرِ لِلأَمْوَاتِ ! وَعِنْدَ القبوْرِ ! وَالذَّبحِ لها ! وَالتَّبرُّكِ بهَا ! وَغيرِ ذلِك َ مِمّا سَيَأْتِي تفصِيْلُ بطلانِه .(182/4)
وَطعَنَ في شَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ، لِحُكمِهِ بخِلافِ مَا قرَّرَهُ هَذَا المبْطِلُ ! وَرَمَاهُ بأُمُوْرٍ باطِلةٍ كثِيرَةٍ قدْ رُدَّتْ عَليْهِ ! وَانصَرَفتْ إليْهِ !
وَنالَ مِنَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بن ِ عَبْدِ الوَهّابِ رَحِمَهُ الله ُ، وَذكرَ جَهَالاتٍ كثِيرَة ً سُقوْطهَا يغْني عَنْ إسْقاطِهَا . وَمَا كانَ مِنْ جَهَالاتِهِ قدْ يرُوْجُ عَلى بَعْض ِ العَامَّةِ وَمَنْ في حُكمِهمْ : فقدْ بَيَّنْتُ حَالهُ في هَذَا الرَّدِّ في مَوْضِعِه . أَمّا المسَائِلُ الأُخْرَى التي تَعَرَّضَ لها وَلمْ أَتعَرَّضْ لها في كِتَابي هَذَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا : فهيَ قلِيْلة ٌ، وَليْسَ هَذَا مَوْضِعَ الرَّدِّ عَليْهَا ، مَعَ أَنَّ أَهَمِّيَتَهَا أَقلُّ مِنْ سَابقاتِهَا ، وَوُضُوْحَهَا لِلنّاس ِ أَكثرُ ، وَالحمْدُ لله .) .
فصل
في تَحْرِيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ في هَذِهِ المسْأَلةِ ، وَبيان ِ مَا أَجْمَعَ العُلمَاءُ عَلى تَحْرِيْمِهِ فِيْهَا ، وَمَا فِيْهِ خِلافٌ بَيْنَهُمْ
قبْلَ الجوَابِ عَمّا أَوْرَدَهُ المعْترِضُ ، أُبيِّنُ مَسْأَلتَيْن ِ:
إحْدَاهُمَا :
أَنَّ بنَاءَ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، بدْعة ٌ مُحَرَّمَة ٌ باِتفاق ِ الأَئِمَّة .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ كمَا فِي«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»(27/488):(فإنَّ بناءَ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، ليْسَ مِنْ دِيْن ِ المسْلِمِيْن .
بَلْ هُوَ مَنْهيٌّ عَنْهُ باِلنُّصُوْص ِالثابتَةِ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاتفاق ِ أَئِمَّةِ الدِّين .
بَلْ لا يَجُوْزُ اتِّخاذ ُ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ ببناءِ المسْجدِ عَليْهَا ، أَوْ بقصْدِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا . بَلْ أَئِمَّة ُ الدِّين ِ مُتَّفِقوْنَ عَلى النَّهْيِّ عَنْ ذلك).(182/5)
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ(27/488):(بلْ ليْسَ لأَحَدٍ أَنْ يُصَليَ فِي المسَاجِدِ التي بُنِيَتْ عَلى القبوْرِ ، وَلوْ لم يَقصِدِ الصَّلاة َ عِنْدَهَا ، فلا يُقبَلُ ذلِك َ، لا اتفاقا ، وَلا ابْتغاءًا ، لِمَا فِي ذلِك َ مِنَ التَّشَبُّهِ باِلمشْرِكِيْنَ ، وَالذَّرِيْعَةِ إلىَ الشِّرْك).
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ(27/489):(وَأَمّا المسَاجِدُ المبْنِيَّة ُ عَلى القبوْرِ : فقدْ نهَوْا عَنْهُ ، مُعَللِيْنَ بخوْفِ الفِتْنَةِ بتَعْظِيْمِ المخْلوْق ِ، كمَا ذكرَ ذلِك َ الشّافِعِيُّ وَغيْرُهُ مِنْ سَائِرِ أَئِمَّةِ المسْلِمِيْن).
وَقالَ رَحِمَهُ الله ُفِي مَوْضِعٍ آخَرَ(24/318):(وَأَمّا بنَاءُ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، وَتسَمَّى «مَشَاهِدَ» : فهَذَا غيْرُ سَائِغٍ ، بَلْ جَمِيْعُ الأُمَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ ذلك) ، ثمَّ ذكرَ رَحِمَهُ الله ُ بَعْضَ الأَدِلة .
المسْأَلة ُ الثانية ُ:
أَنَّ مَنْ ظنَّ أَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَ أَيِّ قبَرٍ كانَ ، لهَا فضِيْلة ٌ تخصُّهَا ، أَوْ أَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَهُ مُسْتَحَبَّة ٌ: فهُوَ ضَالّ .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ(27/488):(بَلْ أَئِمَّة ُ الدِّين ِ مُتَّفقوْنَ عَلى النَّهْيِّ عَنْ ذلِك َ، وَأَنهُ ليْسَ لأَحَدٍ أَنْ يقصِدَ الصَّلاة َ عِنْدَ قبْرِ أَحَدٍ ، لا نبيٍّ وَلا غيْرِ نبيّ .
وَكلُّ مَنْ قالَ :«إنَّ قصْدَ الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرِ أَحَدٍ ، أَوْ عِنْدَ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى قبْرٍ أَوْ مَشْهَدٍ أَوْ غيْرِ ذلِك َ: أَمْرٌ مَشْرُوْعٌ» ، بحيْثُ يَسْتَحِبُّ ذلِك َ، وَيَكوْنُ أَفضَلَ مِنَ الصَّلاةِ فِي المسْجِدِ الذِي لا قبَرَ فِيْهِ : فقدْ مَرَقَ مِنَ الدِّين ِ، وَخَالفَ إجْمَاعَ المسْلِمِيْنَ ، وَالوَاجِبُ أَنْ يُسْتتَابَ قائِلُ هَذَا وَمُعْتَقِدُهُ ، فإنْ تابَ وَإلا َّ قتِل) .(182/6)
وَقالَ رَحِمَهُ الله ُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (24/318):(فمَن ِ اعْتقدَ أَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَهَا ، فِيْهَا فضْلٌ عَلى الصَّلاةِ عَلى غيْرِهَا ، أَوْ أَنها أَفضَلُ
مِنَ الصَّلاةِ فِي بَعْض ِالمسَاجِدِ : فقدْ فارَقَ جَمَاعَة َ المسْلِمِيْنَ ، وَمَرَقَ مِنَ الدِّين . بَلْ الذِي عَليْهِ الأُمَّة ُ: أَنَّ الصَّلاة َ فِيْهَا ، مَنْهيٌّ عَنْهَا نهْيَ تَحْرِيْم) اه .
وَقدْ قدَّمْتُ هَاتيْن ِ المسْأَلتيْن ِ، لِيظهَرَ مَحَلُّ النِّزَاعِ ، وَأَنهُمَا ليْسَتَا دَاخِلتَيْن ِ فِيْهِ ، وَأَنَّ حُرْمَتَهُمَا بإجْمَاعٍ لا نِزَاعَ فِيْه .
وَالمعْتَرِضُ لا يُنَازِعُ كذَلِك َ فِي تَحْرِيْمِهمَا .
أَمّا مَحَلُّ النزَاعِ ، وَمَا فِيْهِ خِلافٌ بَيْنَ أَهْل ِ العِلمِ : فهُوَ حُكمُ الصَّلاةِ ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ فِي المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، مِنْ غيْرِ قصْدٍ لِلصَّلاةِ فِيْهَا ، وَلا تَعْظِيْمِ مَقبوْر .
وَهَذِهِ المسْأَلة ُ، هِيَ التي أَجَازَهَا المعْتَرِضُ ، وَرَجَّحَهَا ، وَضَعَّفَ قوْلَ مُحَرِّمِيْهَا !
وَهَذِهِ المسْأَلة ُ- أَعْنِي حُكمَ الصَّلاةِ ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ فِي المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، مِنْ غيْرِ قصْدِ قبْرٍ ، وَلا تَعْظِيْمِ مَقبوْرٍ : فِيهَا خِلافٌ بيْنَ أَهْل ِالعِلمِ :
* فحَرَّمَهَا جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ : عُمَرُ بْنُ الخطابِ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاس ٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعَطاءُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَابْنُ المنذِر .
وَإليْهِ ذهَبَ الإمَامُ أَحْمَدُ ، وَإسْحَاقُ ، وَأَبوْ ثوْر .
* وَأَباحَ الصَّلاة َ في المقبرَةِ ، أَوْ كرِهَهَا مِنْ غيْرِ تَحْرِيْمٍ : آخَرُوْن .(182/7)
قالَ البَغوِيُّ في«شَرْحِ السُّنَّةِ»(2/411):(اِخْتَلفَ أَهْلُ العِلمِ في الصَّلاةِ في المقبرَةِ وَالحمّامِ : فرُوِيَتِ الكرَاهِيَة ُ فِيْهمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلف . وَإليْهِ ذهَبَ أَحْمَدُ ، وَإسْحَاقُ ، وَأَبوْ ثوْرٍ ، لِظاهِرِ الحدِيْثِ ، وَإنْ كانتِ الترْبة ُ طاهِرَة ً، وَالمكانُ نظِيْفا . وَقالوْا : قدْ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«اِجْعَلوْا فِي بُيُوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ ، وَلا تَتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» . فدَلَّ عَلى أَنَّ مَحَلَّ القبْرِ ليْسَ بمَحَلٍّ لِلصَّلاة .
وَمِنْهُمْ : مَنْ ذهَبَ إلىَ أَنَّ الصَّلاة َ فِيْهمَا جَائِزَة ٌ، إذا صَلى في مَوْضِعٍ نظِيْفٍ مِنْه .
وَرُوِيَ : أَنَّ عُمَرَ رَأَى أَنسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلي عِنْدَ قبْرٍ فقالَ : «القبْرَ القبْرَ»( - صَحِيْحٌ ، عَلقهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1/437) ، وَرَوَاهُ مَوْصُوْلا ً: أَبوْ بَكرٍ ابْنُ أَبي شيبة َ في «مُصَنَّفِهِ»(2/379)، وَعَبْدُ الرَّزّاق ِفي «مُصَنَّفِهِ» أَيْضًا(1/404-405)، وَأَبوْ بَكرٍ ابْنُ المنذِرِ في«الأَوْسَطِ»(2/186) وَالبَيْهَقِيُّ في«سُننِهِ الكبرَى»(2/435).
وَسَيَأْتِي الكلامُ عَليْهِ - بمشِيْئَةِ اللهِ - في «فصْل ِ نقض ِ دَلِيْل ِ المعْترِض ِ الرّابعِ ، وَهُوَ زَعْمُهُ صَلاة َ الصَّحَابَةِ في المقبرَةِ مِنْ غيرِ نكير»(ص121-122).) ، وَلمْ يَأْمُرْهُ باِلإعادَة .
وَحُكِيَ عَن ِالحسَن ِ: أَنهُ صَلى في المقابر .
وَعَنْ مَالِكٍ:«لا بَأْسَ باِلصَّلاةِ في المقابر»)اه .
قلتُ : وَقوْلُ البَغوِيِّ:(وَعَنْ مَالِكٍ :«لا بَأْسَ باِلصَّلاةِ في المقابر»): غيْرُ مُسَلمٍ ، فقدِ اخْتَلفتِ الرِّوَايَة ُ عَنْ مَالِكٍ في ذلك .(182/8)
قالَ أَبوْ بكرٍ ابْنُ المنْذِرِ في «الأَوْسَطِ»(2/185):(وَاخْتُلِفَ في هَذِهِ المسْأَلةِ عَنْ مَالِكٍ : فحَكى ابْنُ القاسِمِ عَنْهُ أَنهُ قالَ:«لا بَأْسَ باِلصَّلاةِ في المقابر».
وَحُكِيَ عَنْ أَبي مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنهُ قالَ:«لا أُحِبُّ الصَّلاة َ في المقابر»)اه.
قلتُ : وَالذِي يَظهَرُ لِي : أَنْ لا نِزَاعَ وَلا اخْتِلافَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْن ِ، فالأُوْلىَ : يُرِيْدُ بهَا الصَّلاة َ في المقابرِ عَلى الجنائِزِ ، وَالأُخْرَى : أَرَادَ بهَا الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُود .
وَقدْ أَطلقَ جَمَاعَة ٌ مِنَ الأَئِمَّةِ ، جَوَازَ الصَّلاةِ في المقابرِ ، أَوْ كرَاهَتَهَا ، وَهُمْ يَعْنُوْنَ صَلاة َ الجنازَةِ فِيْهَا ، لا الصَّلاة َ المعْهُوْدَة َ، ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْد .
وَمَنْ مَنَعَ مِنْ هَؤُلاءِ الصَّلاة َ عَلى الجنازَةِ في المقبَرَةِ : فهُوَ يَمْنَعُ الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ فِيْهَا مِنْ بابِ أَوْلىَ .
أَمّا مَنْ أَجَازَ مِنْهُمْ صَلاة َ الجنازَةِ بهَا : فلا يَلزَمُ مِنْ ذلِك َ تَجْوِيْزُهُ الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُودِ بهَا . بَلْ إنَّ جَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلفِ ، قدْ أَجَازُوْا الصَّلاة َ عَلى الجنازَةِ في المقبَرَةِ ، وَحَرَّمُوْا غيْرَهَا مِنَ الصَّلوَاتِ ، وَقدْ جَاءَتْ بذَلِك َ السُّنَّة .(182/9)
وَالذِي عَليْهِ المحَققوْنَ مِنْ أَهْل ِالعِلمِ : أَنَّ الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ ، مُحَرَّمَة ٌ بلا شَكٍّ وَلا رَيْبٍ ، لِكثْرَةِ الأَحَادِيْثِ النّاهِيَةِ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا ، وَاتخاذِهَا مَسَاجِدَ ، وَلعْن ِ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِليهُوْدِ وَالنَّصَارَى لاتخاذِهِمْ إياهَا مَسَاجِدَ يُصَلوْنَ فِيْهَا ، وَتَغْلِيْظِهِ فِي التَّحْذِيْرِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذلِك َ، حَتَّى قبيْلَ وَفاتِهِ بليَال ٍ، وَسَيَأْتِي ذِكرُ طرَفٍ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيْث .
إلا َّ أَنهُمْ اخْتَلفوْا في صِحَّةِ صَلاةِ المصَلي فِيْهَا ، فقالَ جَمَاعَة ٌ مِنْهُمْ : هِيَ بَاطِلة ٌ، لأَنَّ النَّهْيَ يَقتضِي التَّحْرِيْمَ وَالفسَاد . وَقالَ آخَرُوْنَ : هُوَ آثِمٌ عَاص ٍ، إلا َّ أَنَّ صَلاتهُ صَحِيْحَة ٌمَعَ إثمِهِ ، وَسَيَأْتِي تفصِيْلهُ(ص45-65) بمشِيْئَةِ الله .
قالَ ابنُ المنذِرِ في«الأَوْسَطِ»(2/185):(وَالذِي عَليْهِ الأَكثرُ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ : كرَاهِيَة ُ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ ، لحدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَكذَلِك َ نقوْل)اه.
قلتُ : مُرَادُ ابْن ِ المنذِرِ رَحِمَهُ الله ُ باِلكرَاهَةِ هُنَا : كرَاهَة َ التَّحْرِيْمِ ، لِذَا قالَ قبْلَ ذلِك َ(2/183) عَلى حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا«اِجْعَلوْا في بُيُوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ ، وَلا تَتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» قالَ:(ففِي قوْلِهِ:«وَلا تَتَّخِذُوْهَا قبوْرًا»: دَلِيْلٌ عَلى أَنَّ المقبَرَة َ ليْسَتْ بمَوْضِعِ صَلاةٍ ، لأَنَّ في قوْلِهِ «اِجْعَلوْا في بُيُوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ»: حَثا عَلى الصَّلوَاتِ في البيوْت .
وَقوْلِهِ «وَلا تَجْعَلوْهَا قبوْرًا»: يدُلُّ عَلى أَنَّ الصَّلاة َ غيْرُ جَائِزَةٍ في المقبَرَة).(182/10)
وَقالَ ابنُ المنْذِرِ في مَوْضِعٍ آخَرَ(5/417-418):(وَفي حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ:«اِجْعَلوْا في بُيوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ ، وَلا تتخِذُوْهَا قبوْرًا»: أَبيَنُ البيان ِ عَلى أَنَّ الصَّلاة َ في المقبَرَةِ غيْرُ جَائِزَة)اه.
وَقدْ أَطلقَ ابْنُ المنْذِرِ هُنَا الكرَاهَة َ، وَأَرَادَ بهَا التَّحْرِيْمَ ، كإطلاق ِ جَمَاعَاتٍ مِنَ الأَئِمَّةِ ذلِك َ، وَهُمْ لا يُرِيْدُوْنَ بهِ إلا َّ ذلك .
وَوَهِمَ مَنْ ظنَّهُمْ أَرَادُوْا كرَاهَة َ التَّنْزِيْهِ التي اصْطلحَ عَليْهَا الأُصُوْلِيُّوْنَ بَعْدَهُمْ ! وَسَيَأْتِي تقرِيْرُ هَذَا في فصْل ٍ قادِمٍ (ص179-191) بمشِيْئَةِ الله .
فصل
فِي الأَحَادِيْثِ النبَوِيَّةِ الناهِيَةِ عَن ِالصَّلاةِ فِي المقابرِ ، وَعِنْدَ القبور
أَمّا الأَحَادِيْثُ النَّبَوِيَّة ُ التِي نهَتْ عَنْ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ وَحَرَّمَتْهَا : فكثِيْرَة ٌ، ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ طرَفا مِنْهَا - كمَا فِي«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»- فقالَ (27/157 159): (وَالأَحَادِيْثُ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّهْيِّ عَن ِ اتِّخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، وَالصَّلاةِ فِي المقبَرَةِ ، كثِيْرَة ٌجدًّا ، مِثلُ :
(1) مَا فِي«الصَّحِيْحَيْن»وَ«السُّنَن» عَنْ أَبي هُرَيْرَة َ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«قاتلَ الله ُ اليَهُوْدَ ، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد»( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِهِ»(2/284،285،366،396،453-454،518) وَالبُخَارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» (437) وَمُسْلِمٌ(530) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِهِ»(3227) وَالنَّسَائِيّ(2047)).(182/11)
(2) وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِمَسْعُوْدٍ قالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقوْلُ:«إنّ مِنْ شِرَارِ الناس ِ، مَنْ تدْرِكهُمُ السّاعَة ُ وَهُمْ أَحْياءٌ ، وَمَنْ يَتَّخِذُ القبوْرَ مَسَاجِد» رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي«المسْنَدِ»(1/405،435،454)، وَأَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ فِي«صَحِيْحِه»(2325).
(3) وَعَن ِابْن ِعَباس ٍ قالَ:«لعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُوّارَاتِ القبوْرِ، وَالمتَّخِذِينَ عَليْهَا المسَاجِدَ وَالسُّرُج» رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي«المسْندِ» .
(1/229،287،324)، وَأَهْلُ السُّنَن ِ الأَرْبَعَةِ( - أَبوْدَاوُوْدَ(3236) وَالتِّرْمِذِيُّ(320) وَالنَّسَائِيُّ(2043) وَابْنُ مَاجَهْ(1575).)، وَأَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ فِي«صَحِيْحِه»(3179)،(3180).
(4) وَرَوَى أَيْضًا في«صَحِيْحِهِ»(2327) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قالَ:«لعَنَ الله ُ مَن ِ اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد».
(5) وَفِي«الصَّحِيْحَيْن» عَن ِ ابْن ِعُمَرَ قالَ:قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «اِجْعَلوْا مِنْ صَلاتِكمْ فِي بُيوْتِكمْ ، وَلا تتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» [خ(432)،(1187) م(777)] .
(6) وَفِي«صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»(972) عَنْ أَبي مَرْثدٍ الغنوِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«لا تصَلوْا إلىَ القبوْرِ ، وَلاَ تجْلِسُوْا عَليْهَا».
(7) وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِعَمْرٍو رَضِيَ الله ُعَنْهُمَا قالَ:«نهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ فِي المقبرَة» رَوَاهُ أَبوْ حَاتِمٍ فِي«صَحِيْحِه»(2319).(182/12)
(8) وَرَوَىأَيْضًا(1698)،(2315)،(2318)،(2322)،(2323) عَنْ أَنس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ:«أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهَى أَنْ يُصَلى بَيْنَ القبوْر».
(9) وَعَنْ أَبي سَعِيْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام»( - تَكلمَ في هَذَا الحدِيْثِ بَعْضُ أَهْل ِ العِلمِ ، وَرَمَوْهُ باِلاضْطِرَابِ لإرْسَال ِ الثوْرِيِّ لهُ ، وَوَصْل ِ غيرِهِ لهُ ، وَسَوْفَ أُفصِّلُ – بمَشِيْئَةِ اللهِ – حَالهُ في فصْل ٍ قادِمٍ(ص163-172)، وَأُبيِّنُ أَنهُ حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ بلا رَيبٍ ، وَأَذكرُ جُمْلة ً مِنْ كلامِ أَهْل ِ العِلمِ فِيْه.) رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ (3/83،96)، وَأَهْلُ الكتبِ الأَرْبَعَةِ ( - أَبوْ دَاوُوْدَ(492) وَالتِّرْمِذِيُّ(317) وَابْنُ مَاجَهْ(745).)، وَابْنُ حِبّانَ فِي«صَحِيْحِه»(1699) ، (2316)،(2321).
وَقالَ التِّرْمِذِيُّ:«فِيْهِ اضْطِرَابٌ» لأَنَّ سُفيانَ الثوْرِيَّ أَرْسَله . لكِنَّ غيْرَ التِّرْمِذِيِّ جَزَمَ بصِحَّتِهِ ، لأَنَّ غيْرَهُ مِنَ الثقاتِ أَسْنَدُوْهُ ، وَقدْ صَحَّحَهُ ابنُ حَزْمٍ أَيضًا .
(10) وَفِي«سُنَن ِأَبي دَاوُوْدَ»(490) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: «إنَّ خَلِيْلِي نهَانِي أَنْ أُصَليَ فِي المقبَرَةِ ، وَنهَانِي أَنْ أُصَليَ فِي أَرْض ِ بابل». وَالآثارُ في ذلِك َكثِيْرَة ٌ جدًّا) اه كلامُهُ رَحِمَهُ الله .
وَمِنَ الأَحَادِيثِ في ذلِك َ أَيضا :(182/13)
(12) مَا رَوَاهُ البُخارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ»(435)،(1330) ، (1390) ، (3453)،(4441)،(5815) ، ومُسْلِمٌ (531) عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُعَنْهَا قالتْ:(لمّا نزِلَ برَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طفِقَ يَطرَحُ خَمِيْصَة ً لهُ عَلى وَجْههِ ، فإذا اغتمَّ بهَا كشفهَا عَنْ وَجْههِ فقالَ وَهُوَ كذَلِك َ:«لعْنَة ُ اللهِ عَلى الْيَهُوْدِ وَالنَّصَارَى ، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنعُوْا ، لوْلا ذلِك َ أُبرِزَ قبْرُهُ ، غيْرَ أَنهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخذَ مَسْجِدًا).
(13) وَعَنْ جُنْدُبِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ رَضِيَ الله ُعَنْهُ قالَ : سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبْلَ أَنْ يَمُوْتَ بخمْس ٍ وَهُوَ يقوْلُ:«إني أَبرَأُ إلى اللهِ أَنْ يَكوْنَ لِي مِنْكمْ خَلِيْلٌ ، فإنَّ الله َ تَعَالىَ قدِ اتخذَني خَلِيْلا ً، كمَا اتخذَ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلا ً، وَلوْ كنتُ مُتخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيْلا ً، لاتخذْتُ أَبا بَكرٍ خَلِيْلا ً. أَلا وَإنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ كانوْا يتخذُوْنَ قبوْرَ أَنْبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، أَلا فلا تتخِذُوْا الْقبُوْرَ مَسَاجِدَ ، إني أَنهَاكمْ عَنْ ذلك» رَوَاهُ مُسْلِمٌ( - وَرَوَاهُ ابْنُ أَبي شَيْبَة َفي«مُصَنَّفِهِ»(2/376) مِنْ طرِيْق ِ عَبْدِ اللهِ بْن ِ الحارِثِ النَّجْرَانِيِّ قالَ:(حَدَّثني جُنْدُبٌ) فذَكرَه .
وَعَن ِ ابْن ِ أَبي شَيْبَة َ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(532) مِنْ طرِيْقِه .
غيْرَ أَنهُ قدْ تَصَحَّفَ إسْنَادُهُ في المطبُوْعِ مِنَ«المصَنَّفِ»: مِنْ (عَبْدِ اللهِ بْن ِ الحارِثِ النَّجْرَانِيّ حَدَّثني جُنْدُبٌ) إلىَ (عَبْدِ اللهِ بْن ِ الحارِثِ النَّجْرَانِيّ حَدَّثني جَدِّي) !(182/14)
وَقدْ أَوْقعَ هَذَا التَّصْحِيْفُ الشَّيْخَ الأَلبَانِيَّ –رَحِمَهُ الله ُ- في خَطإٍ ، حَيْثُ ظنَّ هَذَا الحدِيْثَ حَدِيْثين ِ اثنين ِ، لا حَدِيْثًا وَاحِدًا ! فسَاقَ في كِتَابهِ النّافِعِ «تَحْذِيْرِ السّاجِدِ»(ص20-22) حَدِيْثَ جُنْدُبِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ ، ثمَّ أَتبعَهُ بحدِيْثِ (الحارِثِ النَّجْرَانِيّ قالَ : سَمِعْتُ النَّبيَّ × قبْلَ أَنْ يَمُوْتَ بخمْس ٍ...) الحدِيْثَ ! ثمَّ صَحَّحَهُ فقالَ:(إسْنَادُهُ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِم) ! وَهَذَا خَطأٌ ظاهِر .)في«صَحِيْحِه»(532).
(14) وَعَنْ أَبي عُبيْدَة َ عَامِرِ بْن ِ الجرّاحِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ:(كانَ آخِرَ مَا تَكلمَ بهِ نبيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ أَخْرِجُوْا يَهُوْدَ الحِجَازِ مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ ، وَاعْلمُوْا أَنَّ شِرَارَ النّاس ِ الذِيْنَ يَتَّخِذُوْنَ الْقبوْرَ مَسَاجِد) رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي«مُسْنَدِهِ»(1/195)، وَرَوَاهُ الدّارِمِيُّ (2498) بشَطرِهِ الأَوَّل ِدُوْنَ الأَخِيْر .
(15) وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ فِي«مُسْنَدِهِ»(2/246) عَنْ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قبْرِي وَثنَا ، لعنَ الله ُ قوْمًا اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد».
(16) وَعَنْهُ رَضِيَ الله ُعَنْهُ قالَ : قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لا تَجْعَلوْا بُيوْتكمْ قبوْرًا ، وَلا تَجْعَلوْا قبْرِي عِيْدًا ، وَصَلوْا عَليَّ فإنَّ صَلاتَكمْ تبْلغُنِي حَيْثُ كنْتُمْ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي«مُسْنَدِهِ»(2/367) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِهِ»(2042)، وَحَسَّنهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ، وَالحافِظ ُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَوَافقهُمَا الشَّيْخُ محمّدُ بنُ عَبْدِ الوَهّابِ ، وَغيْرُهُمْ .(182/15)
(17) وَعَنْ زَيدِ بْن ِثابتٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُ : أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : «لعَنَ الله ُ اليَهُوْدَ ، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِه»(5/184،186).
(18) وَعَنْ عَلِيِّ بْن ِأَبي طالِبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَنْ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«لا تتخِذُوْا قبْرِي عِيْدًا ، وَلا بيوْتكمْ قبوْرًا ، وَصَلوْا عَليَّ فإنَّ تَسْلِيْمَكمْ يَبْلغنُِي أَينَ كنْتُمْ» رَوَاهُ ابْنُ أَبي شَيْبَة َ في«مُصَنَّفِهِ»(2/375)، وَإسْحَاقُ القاضِي في«فضْل ِالصَّلاةِ عَلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »(20)، وَأَبوْ يَعْلى الموْصِليُّ في«مُسْنَدِهِ»(1/361-362)(469)، وَالبُخارِيُّ في«التّارِيْخِ الكبيْرِ»(2/186) لكنْ بجزْئهِ الأَوَّل ِ دُوْنَ بَاقِيْهِ ، وَالضِّيَاءُ المقدِسِيُّ فِي«الأَحَادِيْثِ المخْتَارَة».
وَسَمِعْتُ شَيْخنا ابنَ بازٍ رَحِمَهُ الله ُ يَقوْلُ عَقِبَهُ:(لا بَأْسَ به).
وَالأَحَادِيْثُ في البابِ وَالآثارُ كثيْرَة ٌ، ترَكتُ مِنْهَا طرَفا ، اكتفاءًا بما سَلف .
فصل
في تَحْقِيْق ِ العِلةِ الكبْرَى للنَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْر
اخْتَلفَ أَهْلُ العِلمِ مِنَ المحَرِّمِيْنَ لِلصَّلاةِ في المقابرِ في عِلةِ ذلِك َ وَسَبَبهِ :
فقالَ جَمَاعَة ٌمِنْهُمْ :«عِلة ُ ذلِك َ وَسَبَبُهُ : نجَاسَة ُ ترَابِ المقبَرَةِ ، أَوْ مَظِنَّة ُ ذلِك َ، لاخْتِلاطِهِ بلحُوْمِ الموْتى ، وَمَا فضُلَ عَنْهُمْ مِنْ نجَاسَات».
لهِذَا فرَّقَ هَؤُلاءِ بَيْنَ الصَّلاةِ في مَقبَرَةٍ عَتيْقةٍ ، وَبينَ الصَّلاةِ في مَقبَرَةٍ جَدِيْدَةٍ ، فحَرَّمُوْا الصَّلاة َ في الأُوْلىَ وَأَجَازُوْهَا في الثّانِيَة .(182/16)
وَفرَّقوْا بيْنَ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ عَلى بُسُطٍ وَفرُش ٍ ، تَحُوْلُ دُوْنَ أَرْضِهَا وَبينَ الصَّلاةِ عَليْهَا دُوْنَ حَائِل ٍ، فأَجَازُوْا الأُوْلىَ ، وَحَرَّمُوْا الأُخْرَى . وَفي حَالاتٍ أُخْرَى جَرَى عِنْدَهُمْ فِيْهَا التَّفرِيْقُ ، مُرَاعَاة ً لِلعِلةِ التِي ظنُّوْهَا .
وَقالَ جَمَاعَة ٌ آخَرُوْنَ – وَهُوَ قوْلُ المحَققِيْنَ ، وَعَليْهِ الأَدِلة ُ- : إنَّ عِلة َ ذلِك َ وَسَبَبَهُ أَمْرَان ِ:
أَحَدُهُمَا : كوْنهَا ذرِيْعَة ً إلىَ الشِّرْكِ بعِبَادَةِ أَصْحَابهَا ، بصَرْفِ شَيْءٍ مِنْ أَنوَاعِ العِبَادَةِ لهمْ ، أَوْ ظنِّ فضْل ِ الصَّلاةِ في تِلك َ البقاعِ عَلى غيْرِهَا لأَجْل ِ ذلِك َ القبْرِ ، وَنحْوِ ذلِك َ مِنَ الأُمُوْرِ الفاسِدَة .
وَالآخَرُ: مُشَابَهَة ُ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى المتخِذِيْنَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، وَقدْ نهيْنَا عَنْ مُشَابَهَتِهمْ في دَقِيْق ِ الأُمُوْرِ ، فكيْفَ بعَظِيْمِهَا؟!
وَقدِ اسْتَدَلَّ هَؤُلاءِ المحَققوْنَ عَلى صِحَّةِ عِلتِهمْ تِلك َ، بأَدِلةٍ كثِيْرَةٍ قوِيةٍ ، وَرَدُّوْا قوْلَ السّابقِيْنَ وَضَعَّفوْه .
وَلا شَك َّ وَلا رَيْبَ : أَنَّ العِلة َ الحقِيْقيَّة َ الكبْرَى لِلنَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ : هِيَ مَا ذكرَهُ هَؤُلاءِ المحَققوْنَ مِنْ كوْنِهَا ذرِيْعَة ً إلىَ الشِّرْكِ ، وَفتْحَ بَابٍ لهُ ، وَمُشَابَهَة ً لأَهْل ِ الكِتَاب .
أَمّا قوْلُ المعَللِيْنَ بنجَاسَةِ التُّرَابِ : فهُوَ قوْلٌ ضَعِيْفٌ مُطرَحٌ ، يُبَيِّنُ ذلِك َ أُمُوْرٌ عِدَّة ٌ، سَاقهَا شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ فقالَ :(182/17)
(وَأَبلغُ مِنْ هَذَا : أَنهُ نهَى عَن ِ الصَّلاةِ إلىَ القبْرِ ، فلا يَكوْنُ القبْرُ بَيْنَ المصَلي وبَيْنَ القِبْلةِ ، فرَوَى مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(972) عَنْ أَبي مَرْثدٍ الغنوِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «لا تَجْلِسُوْا عَلى القبوْرِ، وَلا تُصَلوْا إليْهَا».
وَفِي هَذَا إبْطالُ قوْل ِمَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّهْيَ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا : لأَجْل ِ النَّجَاسَةِ ، فهَذَا أَبعَدُ شَيْءٍ عَنْ مَقاصِدِ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ :
1- مِنْهَا : أَنَّ الأَحَادِيْثَ كلهَا ، ليْسَ فِيْهَا فرْقٌ بَيْنَ المقبَرَةِ الحدِيْثةِ وَالمنْبُوْشَةِ ، كمَا يَقوْلُ المعَللوْنَ باِلنَّجَاسَة .
2- وَمِنْهَا : أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَنَ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى عَلى اتخاذِ قبوْرِ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ . وَمَعْلوْمٌ قطعًا أَنَّ هَذَا ليْسَ لأَجْل ِ النَّجَاسَةِ ، فإنَّ ذلِك َ لا يَخْتَصُّ بقبوْرِ الأَنبيَاءِ ، وَلأَنَّ قبوْرَ الأَنبيَاءِ مِنْ أَطهَرِ البقاعِ ، وَليْسَ لِلنَّجَاسَةِ عَليْهَا طرِيْقٌ البتة َ، فإنَّ الله َ حَرَّمَ عَلى الأَرْض ِ أَنْ تأْكلَ أَجْسَادَهُمْ ، فهُمْ في قبوْرِهِمْ طرِيوْن .
3- وَمِنْهَا : أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهَى عَن ِ الصَّلاةِ إليْهَا .
4- وَمِنْهَا : أَنهُ أَخْبَرَ أَنَّ «الأَرْضَ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام». وَلوْ كانَ ذلِك َ لأَجْل ِ النَّجَاسَةِ ، لكانَ ذِكرُ الحشوْش ِ وَالمجَازِرِ وَنحْوِهَا أَوْلىَ مِنْ ذِكرِ القبوْر .(182/18)
5- وَمِنْهَا : أَنَّ مَوْضِعَ مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كانَ مَقبَرَة ً لِلمُشْرِكِيْنَ ، فنبشَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبوْرَهُمْ وَسَوّاهَا ، وَاتخذَهُ مَسْجِدًا . وَلمْ يَنْقلْ ذلِك َ التُّرَابَ ، بَلْ سَوَّى الأَرْضَ وَمَهَّدَهَا ، وَصَلى فِيْهِ ، كمَا ثبتَ في «الصَّحِيْحَيْن» عَنْ أَنس ِ بْن ِمَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه).
ثمَّ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ :
(6- وَمِنْهَا :أَنَّ فِتْنَة َ الشِّرْكِ باِلصَّلاةِ فِي القبوْرِ، وَمُشَابَهَةِ عُبّادِ الأَوْثان ِ، أَعْظمُ بكثِيْرٍ مِنْ مَفسَدَةِ الصَّلاةِ بَعْدَ العَصْرِ وَالفجْر . فإذا نهى عَنْ ذلِك َ سَدًّا لِذَرِيْعَةِ التَّشَبُّهِ التِي لا تَكادُ تَخْطرُ ببال ِ المصَلي ، فكيْفَ بهَذِهِ الذّرِيْعَةِ القرِيْبَةِ ، التِي كثِيْرًا مَا تدْعُوْ صَاحِبَهَا إلىَ الشِّرْكِ ، وَدُعَاءِ الموْتى وَاسْتغاثتِهمْ ، وَطلبِ الحوَائِجِ مِنْهُمْ ، وَاعْتِقادِ أَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَ قبوْرِهِمْ أَفضَلُ مِنْهَا فِي المسَاجِدِ ، وَغيْرِ ذلِك َ مِمّا هُوَ مُحَادَّة ٌ ظاهِرَة ٌ للهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فأَينَ التَّعْلِيْلُ بنَجَاسَةِ البُقعَةِ مِنْ هَذِهِ المفسَدَة ؟!
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصَدَ مَنْعَ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الفِتْنَةِ باِلقبوْرِ ، كمَا افتتَنَ بهَا قوْمُ نوْحٍ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
7- وَمِنْهَا : أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَنَ المتَّخِذِيْنَ عَليْهَا مَسَاجِدَ ، وَلوْ كانَ ذلِك َ لأَجْل ِالنَّجَاسَةِ ، لأَمْكنَ أَنْ يُتَّخَذَ عَليْهَا المسْجِدُ مَعَ تَطييْنِهَا بطيْن ٍ طاهِرٍ ، فتَزُوْلُ اللعْنَة ُ! وَهُوَ بَاطِلٌ قطعًا .(182/19)
8- وَمِنْهَا : أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرَنَ في اللعْن ِ بَيْنَ مُتَّخِذِي المسَاجِدِ عَليْهَا ، وَمُوْقِدِي السُّرُجِ عَليْهَا ، فهُمَا في اللعْنَةِ قرِيْنَان ِ، وَفي ارْتِكابِ الكبيْرَةِ صِنْوَان ِ، فإنَّ كلَّ مَا لعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهُوَ مِنَ الكبائِر .
وَمَعْلوْمٌ أَنَّ إيْقادَ السُّرُجِ عَليْهَا ، إنمَا لعِنَ فاعِلهُ ، لِكوْنِهِ وَسِيْلة ً إلىَ تَعْظِيْمِهَا ، وَجَعْلِهَا نصُبًا يُوْفضُ إليْهِ المشْرِكوْنَ ، كمَا هُوَ الوَاقِعُ ، فهَكذَا اتخاذُ المسَاجِدِ عَليْهَا .
وَلِهَذَا قرَنَ بَيْنَهُمَا ، فإنَّ اتخاذَ المسَاجِدِ عَليْهَا تَعْظِيْمٌ لهَا ، وَتَعْرِيْضٌ لِلفِتْنةِ بهَا ، وَلِهَذَا حَكى الله ُ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ عَن ِ المتغَلبيْنَ عَلى أَمْرِ أَصْحَابِ الكهْفِ أَنهُمْ قالوْا " لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ". [ الكَهْفُ : 21 ] .
9- وَمِنْهَا : أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :«اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قبْرِي وَثنا يُعْبَدُ ، اشْتَدَّ غضَبُ اللهِ عَلى قوْمٍ اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد».
فذِكرُهُ عَقِيبَ قوْلِهِ«اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قبْرِي وَثنا يُعْبَدُ»: تَنْبيْهٌ مِنْهُ عَلى سَبَبِ لحُوْق ِ اللعْن ِ لهمْ ، وَهُوَ تَوَصُّلهُمْ بذَلك َ إلىَ أَنْ تَصِيْرَ أَوْثانا تعْبَد .(182/20)
وَبالجمْلةِ : فمَنْ لهُ مَعْرِفة ٌ باِلشِّرْكِ وَأَسْبَابهِ وَذرَائِعِهِ ، وَفهمَ عَن ِالرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقاصِدَهُ : جَزَمَ جَزْمًا لا يَحْتَمِلُ النَّقِيْضَ ، أَنَّ هَذِهِ المبالغة َ مِنْهُ باِللعْن ِ، وَالنَّهْيِّ بصِيْغتيْهِ : صِيْغةِ«لا تفعَلوْا» ، وَصِيْغةِ«إني أَنهَاكمْ» ، ليْسَ لأَجْل ِ النَّجَاسَةِ ، بَلْ هُوَ لأَجْل ِ نَجَاسَةِ الشِّرْكِ اللاحِقةِ بمَنْ عَصَاهُ ، وَارْتكبَ مَا عَنْهُ نهَاهُ ، وَاتبعَ هَوَاهُ ، وَلمْ يَخْشَ رَبهُ وَمَوْلاهُ ، وَقلَّ نَصِيْبُهُ ، أَوْ عَدِمُ تَحْقِيْقَ شَهَادَةِ أَنْ لا إلهَ إلا َّ الله .
فإنَّ هَذَا وَأَمْثالهُ مِنَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَانة ٌلِحِمَى التَّوْحِيْدِ أَنْ يَلحَقهُ الشِّرْك ُ وَيَغْشَاهُ ، وَتَجْرِيْدٌ لهُ وَغضَبٌ لِرَبهِ أَنْ يُعْدَلَ بهِ سِوَاه .
فأَبى المشْرِكوْنَ إلا َّ مَعْصِيَة ً لأَمْرِهِ ، وَارْتِكابًا لِنَهْيهِ ، وَغرَّهُمُ الشَّيْطانُ فقالَ:«بَلْ هَذَا تَعْظِيْمٌ لِقبوْرِ المشَايخِ وَالصّالِحِيْنَ ، وَكلمَا كنْتُمْ أَشَدَّ لهَا تَعْظِيْمًا ، وَأَشَدَّ فِيْهمْ غلوًّا ، كنْتُمْ بقرْبهمْ أَسْعَدَ ، وَمِنْ عِدَائِهمْ أَبعَد».
وَلعَمْرُ اللهِ مِنْ هَذَا البابِ بعَيْنِهِ دَخَلَ عَلى عُبّادِ يَغُوْثَ وَيَعُوْقَ وَنسْرٍ . وَمِنْهُ دَخَلَ عَلى عُبّادِ الأَصْنَامِ مُنْذُ كانوْا إلىَ يَوْمِ القِيَامَة . فجَمَعَ المشْرِكوْنَ بَيْنَ الغلوِّ فِيْهمْ ، وَالطعْن ِ في طرِيْقتِهمْ .
وَهَدَى الله ُ أَهْلَ التَّوْحِيْدِ لِسُلوْكِ طرِيْقتِهمْ ، وَإنزَالِهمْ مَنَازِلهُمُ التِي أَنزَلهُمُ الله ُ إياهَا ، مِنَ العُبُوْدِيةِ وَسَلبِ خَصَائِص ِ الإلهِيَّةِ عَنْهُمْ ،
وَهَذَا غاية ُ تَعْظِيْمِهمْ وَطاعَتِهمْ .(182/21)
فأَمّا المشْرِكوْنَ : فعَصَوْا أَمْرَهُمْ ، وَتنقصُوْهُمْ في صُوْرَةِ التَّعْظِيْمِ لهمْ ، قالَ الشّافِعِيُّ:«أَكرَهُ أَنْ يُعَظمَ مَخْلوْقٌ ، حَتَّى يُجْعَلَ قبْرُهُ مَسْجِدًا ، مَخَافة َ الفِتْنَةِ عَليْهِ ، وَعَلى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ النّاس»)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلامِ ، نقلهُ عَنْهُ العَلامَة ُ ابنُ القيِّمِ في«إغاثةِ اللهْفان»(1/187-189).
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ أَيْضًا :
(وَهَذِهِ العِلة ُ- التِي لأَجْلِهَا نهَى الشّارِعُ عَن ِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ -: هِيَ التي أَوْقعَتْ كثِيْرًا مِنَ الأُمَمِ إمّا في الشِّرْكِ الأَكبَرِ، أَوْ فِيْمَا دُوْنهُ مِنَ الشِّرْك.
فإنَّ النُّفوْسَ قدْ أَشْرَكتْ بتَمَاثِيْل ِ القوْمِ الصّالِحِيْنَ ، وَتَمَاثِيْلَ يَزْعُمُوْنَ أَنهَا طلاسِمُ لِلكوَاكِبِ ، وَنحْو ذلك .
فإنَّ الشِّرْك َ بقبْرِ الرَّجُل ِ الذِي يُعْتَقدُ صَلاحُهُ ، أَقرَبُ إلىَ النُّفوْس ِ مِنَ الشِّرْكِ بخشبةٍ أَوْ حَجَر .
وَلهِذَا نجدُ أَهْلَ الشِّرْكِ كثِيْرًا يَتَضَرَّعُوْنَ عِنْدَهَا ، وَيَخْشَعُوْنَ وَيَخْضَعُوْنَ وَيَعْبُدُوْنهُمْ بقلوْبهمْ عِبَادَة ً لا يَفعَلوْنهَا في بُيُوْتِ اللهِ ، وَلا وَقتَ السَّحَرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ لها ! وَأَكثرُهُمْ يَرْجُوْنَ مِنْ بَرَكةِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءِ ، مَا لا يرْجُوْنهُ في المسَاجِد !
فلأَجْل ِ هَذِهِ المفسَدَةِ : حَسَمَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّتهَا ، حَتَّى نهَى عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ مُطلقا ، وَإنْ لمْ يقصِدِ المصَلي برَكة َ البقعَةِ
بصَلاتهِ ، كمَا يقصِدُ بصَلاتهِ برَكة َ المسَاجِد .(182/22)
كمَا نهَى عَن ِ الصَّلاةِ وَقتَ طلوْعِ الشَّمْس ِ وَغرُوْبهَا ، لأَنهَا أَوْقاتٌ يَقصِدُ المشْرِكوْنَ الصَّلاة َفِيْهَا لِلشَّمْس ِ، فنَهَى أُمَّتَهُ عَن ِ الصَّلاةِ حِيْنَئِذٍ ، وَإنْ لمْ يَقصِدِ المصَلي مَا قصَدَهُ المشْرِكوْنَ ، سَدًّا لِلذَّرِيْعَة .
وَأَمّا إذا قصَدَ الرَّجُلُ الصَّلاة َعِنْدَ القبوْرِ ، مُتَبَرِّكا باِلصَّلاةِ في تِلك َ البُقعَةِ : فهَذَا عَيْنُ المحَادَّةِ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالمخالفةِ لِدِينِهِ ، وَابْتِدَاعُ دِيْن ٍ لمْ يَأْذنْ بهِ الله ُ تَعَالىَ)اه نقلهُ عَنْهُ ابنُ القيِّمِ في «إغاثةِ اللهْفان»(1/184-185).
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ في«شَرْحِ العُمْدَة»(2/448-449): (فإنمَا نهَى عَنْ ذلِك َ لأَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَهَا ، وَاتخاذهَا مَسَاجِدَ ، ضَرْبٌ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثان ِ، وَسَبَبٌ إليْهِ ، لأَنَّ عُبّادَ الأَوْثان ِ مَا كانوْا يَقوْلوْنَ «إنَّ تِلك َ الحِجَارَة َ وَالخشَبَ خَلقتْهُمْ» ، وَإنمَا كانوْا يَقوْلوْنَ«إنهَا تَمَاثِيْلُ أَشْخاص ٍ مُعَظمِيْنَ مِنَ الملائِكةِ ، أَوِ النُّجُوْمِ ، أَوِ البَشرِ، وَإنهُمْ بعِبَادَتِهمْ يتوَسَّلوْنَ إلىَ الله».
فإذا توَسَّلَ العَبْدُ بالقبْرِ إلىَ اللهِ : فهُوَ عَابدُ وَثن ٍ، حَتَّى يَعْبُدَ الله َ مُخْلِصًا لهُ الدِّينَ ، مِنْ غيْرِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شُفعَاءَ وَشُرَكاءَ ، كمَا أَمَرَ الله ُ تَعَالىَ بذَلِك َ في كِتَابهِ ، وَيَعْلمَ أَنهُ ليْسَ مِنْ دُوْن ِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيْعٌ كمَا أَخْبَرَ تَعَالىَ .(182/23)
وَلِهَذَا جَمَعَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَحْق ِالتَّمَاثِيْل ِ، وَتَسْوِيةِ القبوْرِ المشْرِفةِ ، إذْ كانَ بكليْهمَا يتوَسَّلُ بعِبَادَةِ البَشَرِ إلىَ اللهِ ، قالَ أَبوْ الهيّاجِ الأَسَدِيُّ : قالَ لِي عَلِيٌّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ :«أَلا أَبْعَثُك َ عَلى مَا بَعَثنِي عَليْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَلا َّ تدَعَ تِمْثالا ً إلا َّ طمَسْتهُ ، وَلا قبْرًا مُشْرِفا إلا َّ سَوَّيته»، رَوَاهُ الجمَاعَة ُ إلا َّ البُخارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ [حم(1/129،89) م(969) د(3218) ت(1049) ن(2031)])اه.
وَقالَ أَيْضًا رَحِمَهُ الله ُفي«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/450-451):(وَأَمّا مَنْ يُصَلي عِنْدَ القبْرِ اتفاقا مِنْ غيْرِ أَنْ يَقصِدَهُ : فلا يَجُوْزُ أَيضًا ، كمَا لا يَجُوْزُ السُّجُوْدُ بَيْنَ يَدَيْ الصَّنَمِ وَالنارِ وَغيْرِ ذلِك َ مِمّا يُعْبَدُ مِنْ دُوْن ِ اللهِ ، لِمَا فِيْهِ مِنَ التَّشبهِ بعُبّادِ الأَوْثان ِ، وَفتْحِ بَابِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا ، وَاتهَامِ مَنْ يَرَاهُ أَنهُ قصَدَ الصَّلاة َ عِنْدَهَا .
وَلأَنَّ ذلِك َ مَظِنَّة ُ تِلك َ المفسَدَةِ ، فعُلقَ الحكمُ بهَا ، لأَنَّ الحِكمَة َ قدْ لا تَنْضَبط ُ، وَلأَنَّ في ذلِك َ حَسْمًا لِهَذِهِ المادَّةِ ، وَتَحْقِيْقَ الإخْلاص ِ وَالتَّوْحِيْدِ ، وَزَجْرًا لِلنُّفوْس ِ أَنْ تتعَرَّضَ لها بعِبَادَةٍ ، وَتَقبيْحًا لِحَال ِ مَنْ يَفعَلُ ذلِك َ، وَلِهَذَا نهَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ طلوْعِ الشَّمْس ِ، لأَنَّ الكفارَ يسْجُدُوْنَ لِلشَّمْس ِحِيْنَئِذٍ).(182/24)
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ(2/452-453):(فهَذِهِ هِيَ العِلة ُ المقصُوْدَة ُ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ في النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ ، وَاتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، لِمَنْ تَأَمَّلَ الأَحَادِيْثَ وَنظرَ فِيْهَا ، وَقدْ نصَّ الشّارِعُ عَلى هَذِهِ العِلةِ كمَا تقدَّم .
فأَمّا الترَابُ إنْ كانَ نجسا : فهَذِهِ عِلة ٌ أُخْرَى ، قدْ تُجَامِعُ الأُوْلىَ ، لكِنَّ المفسَدَة َ النّاشِئَة َ مِنَ اتخاذِهَا أَوْثانا ، أَعْظمُ مِنْ مَفسَدَةِ نجاسَةِ الترَاب .
فإنَّ تِلك َ تقدَحُ في نفس ِ التَّوْحِيْدِ وَالإخْلاص ِ، الذِي هُوَ أَصْلُ الدِّين ِ، وَجِمَاعُهُ وَرَأْسُهُ ، وَالذِي بُعِثَتْ بهِ جَمِيْعُ المرْسَلِيْنَ ... وَقدْ تفارِقُ الأُوْلىَ إذا كانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الترَابِ حَائِلٌ مِنَ البسَاطِ وَنحْوِهِ ، أَوْ كانتِ المقبَرَة ُ جَدِيْدَة ً، لا سِيَّمَا المسْجدُ المبْنِيُّ عَلى قبْرِ نبيٍّ أَوْ رَجُل ٍ صَالِحٍ ، فإنَّ ترْبتهُ لمْ يُدْفنْ فِيْهَا غيْرُهُ ، فلا نجَاسَة َ هُنَاك َ البَتَّة َ، مَعَ مَا فِيْهِ مِنْ نهْي الشّارِع).
ثمَّ قالَ (2/458-459):(وَقدْ بَينا أَنهُ لا يَجُوْزُ أَنْ يُرَادَ بتِلك َ الأَحَادِيْثِ ، المقبَرَة َ العَتِيْقة َالمنْبُوْشة َ فقط ، لأَنهُ نهَى عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ ، وَنهَى عَن ِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، وَنهَى عَن ِ اتخاذِ قبْرِ النَّبيِّ أَوِ الرَّجُل ِ الصّالِحِ مَسْجِدًا .
وَمَعْلوْمٌ أَنَّ قبوْرَ الأَنبيَاءِ لا تنبش .(182/25)
وَلأَنَّ عَامَّة َ مَقابرِ المسْلِمِيْنَ في وَقتِهِ كانتْ جَدِيْدَة ً، وَلا يَجُوْزُ أَنْ يُطلقَ اسْمُ المقبَرَةِ ، وَيرِيْدُ بهَا مَقابرَ المشْرِكِيْنَ العُتَّق ِ، مَعَ أَنَّ المفهُوْمَ عِنْدَهُمْ مَقابرُهُمْ ، وَلا يَجُوْزُ أَنْ يُرِيْدَ بهَا مَا يتجدَّدُ مِنَ القبوْرِ العُتَّق ِ ، دُوْنَ المقابرِ الموْجُوْدَةِ في زَمَانِهِ وَبَلدِهِ ، فإنَّ مَا يَعْرِفهُ المتكلمُ مِنْ أَفرَادِ العَامِّ ، هُوَ أَوْلىَ باِلدُّخُوْل ِ في كلامِه .
ثمَّ إنهُ لوْ أَرَادَ القبوْرَ المنْبُوْشة َ وَحْدَهَا : لوَجَبَ أَنْ يَقرِنَ بذَلِك َ قرِينة ً تدُلُّ عَليْهِ ، وَإلا َّ فلا دَلِيْلَ يَدُلُّ عَلى أَنَّ المرَادَ هُوَ هَذَا .
وَمِنَ المحَال ِ أَنْ يُحْمَلَ الكلامُ عَلى خِلافِ الظاهِرِ المفهُوْمِ مِنْهُ ، مِنْ غيْرِ أَنْ يُنْصَبَ دَلِيْلٌ عَلى ذلك .
ثمَّ إنهُ نهَانا عَمّا كانَ يَفعَلهُ أَهْلُ الكِتَابيْن ِ ، مِنَ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِد . وَأَكثرُ مَا اتخذُوْهُ مِنَ المسَاجدِ مقبَرَة ً جَدِيدَة ً، بَلْ لا يَكوْنُ إلا َّ كذَلِك .
ثمَّ هُمْ يَفرُشوْنَ في تِلك َ الأَرْض ِ مَفارِشَ تَحُوْلُ بيْنَهُمْ وَبيْنَ ترْبتهَا ، فعلمَ أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهانا عَنْ ذلك .
وَباِلجمْلةِ : فمَنْ جَعَلَ النَّهْيَ عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ لأَجْل ِ نَجَاسَةِ الموْتى فقط : فهُوَ بَعِيْدٌ عَنْ مَقصُوْدِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كمَا تَقدَّم).(182/26)
ثمَّ قالَ (2/480-481):(وَمِنْهُمْ : مَنْ لمْ يَكرَهْ ذلِك َ إلا َّ في القبْرِ خَاصَّة ً، لأَنَّ النَّهْيَ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنمَا صَحَّ في الصَّلاةِ إلىَ القبوْرِ كمَا تقدَّم . وَلأَنهَا هِيَ التِي يُخافُ أَنْ تُتَّخذَ أَوْثانا ، فالصَّلاة ُ إليْهَا شَبيْهَة ٌ باِلصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْ الصَّنَمِ ، وَذلِك َ أَعْظمُ مِنَ الصَّلاةِ بَيْنَهَا .
وَلِهَذَا يَكرَهُوْنَ مِنَ الصَّلاةِ إلىَ القبْرِ ، مَا لا يَكرَهُوْنهُ مِنَ الصَّلاةِ إلىَ المقبَرَة .
وَهَذِهِ حُجَّة ُ مَنْ رَأَى التَّحْرِيْمَ وَالإبطالَ ، مُخْتَصًّا باِلصَّلاةِ إلىَ القبْرِ ، وَإنْ كرِهَ الصَّلاة َ إلىَ تِلك َ الأَشْيَاءِ ، وَهُوَ قوْلٌ قوِيٌّ جِدًّا ، وَقدْ
قالهُ كثِيْرٌ مِنْ أَصْحَابنا .
وَوَجْهُ الكرَاهَةِ في الجمِيْعِ : مَا تقدَّمَ عَن ِ الصَّحَابةِ وَالتابعِيْنَ مِنْ غيْرِ خِلافٍ عَلِمْنَاهُ بَيْنَهُمْ ، وَلأَنَّ القبوْرَ قدِ اتخِذَتْ أَوْثانا وَعُبدَتْ ، وَالصَّلاة ُ إليْهَا يُشبهُ الصَّلاة َ إلىَ الأَوْثان ِ، وَذلِك َ حَرَامٌ ، وَإنْ لمْ يقصِدْهُ المرْءُ ، وَلِهَذَا لوْ سَجَدَ إلىَ صَنَمٍ بَيْنَ يدَيهِ لمْ يَجُزْ ذلك) .
وَقالَ رَحِمَهُ الله فِي مَوْضِعٍ آخَرَ(21/321):(وَكذلك تَعْلِيْلُ النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَةِ بنَجَاسَةِ التُّرَابِ ، وَهُوَ ضَعِيْفٌ ، فإنَّ النَّهْيَ عَن ِ المقبَرَةِ مُطلقا ، وَعَن ِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ وَنَحْو ذلِك َ، مِمّا يُبيِّنُ أَنَّ النَّهْيَ لِمَا فِيْهِ مِنْ مَظِنَّةِ الشِّرْكِ ، وَمُشَابهَةِ المشْرِكِيْن) اه .(182/27)
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ(27/159):(وَقدْ ظنَّ طائِفة ٌمِنْ أَهْل ِالعِلمِ : أَنَّ الصَّلاة َ فِي المقبرَةِ ، نهيَ عَنْهَا مِنْ أَجْل ِ النَّجَاسةِ ... وَالتَّعْلِيْلُ بهذَا ليْسَ مَذْكوْرًا فِي الحدِيْثِ ، وَلم يدُلَّ عَليْهِ الحدِيْثُ ، لا نصًّا وَلا ظاهِرًا ، وَإنمَا هِيَ عِلة ٌ ظنوْهَا .
وَالعِلة ُالصَّحِيْحَة ُعِنْدَ غيْرِهِمْ : مَا ذكرَهُ غيْرُ وَاحِدٍ مِنَ العُلمَاءِ مِنَ السَّلفِ وَالخلفِ ، فِي زَمَن ِمَالِكٍ وَالشّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغيْرِهِمْ : إنما هُوَ مَا فِي ذلِك َ مِنَ التَّشَبُّهِ بالمشْرِكِيْنَ ، وَأَنْ تَصِيْرَ ذرِيْعَة ً إلىَ الشِّرْك .
وَلهِذَا نهَى عَن ِ اتِّخاذِ قبوْرِ الأَنْبيَاءِ مَسَاجِدَ ، وَقالَ:«إنَّ أُوْلئِكَِ إذا مَاتَ فِيْهمُ الرَّجُلُ الصّالِحُ ، بنوْا عَلى قبْرِهِ مَسْجدًا ، وَصَوَّرُوْا فِيْهِ تِلك َ التَّصَاوِيْر» [خ(427)،(1341)،(3873) م(528)] .
وَقالَ:«إنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ ، كانوْا يَتَّخِذُوْنَ القبُوْرَ مَسَاجِدَ ، أَلاَ فلا تَتَّخِذُوْا القبوْرَ مَسَاجِد»[م(532)] ، وَنهَى عَن ِ الصَّلاةِ إليْهَا).
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ(27/160):(بَلْ قدْ ذكرَ الشّافِعِيُّ وَغيْرُهُ النَّهْيَ عَن ِ اتِّخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، وَعَللَ ذلِك َ بخشْيَةِ التَّشَبُّهِ بذَلِك .
وَقدْ نصَّ عَلى النَّهْيِّ عَنْ بنَاءِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ: غيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلمَاءِ المذَاهِبِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، وَمِنْ فقهَاءِ الكوْفةِ أَيْضًا ، وَصَرَّحَ غيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بتَحْرِيْمِ ذلك .
وَهَذَا لا رَيْبَ فِيْهِ ، بَعْدَ لعْن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُبالغتِهِ فِي النَّهْيِّ عَنْ ذلك).(182/28)
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ :(وَمِمَّنْ عَللَ باِلشِّرْكِ وَمُشَابَهَةِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى : الأَثرَمُ فِي«كِتَابِ ناسِخِ الحدِيْثِ وَمَنْسُوْخِهِ» فقالَ بَعْدَ أَنْ ذكرَ حَدِيْثَ أَبي سَعِيْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّامَ»، وَحَدِيْثَ زَيْدِ بْن ِ جُبَيْرٍ عَنْ دَاوُوْدِ بْن ِ الحصَيْن ِ عَنْ نافِعٍ عَنْ ابْن ِعُمَرَ : أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهَى عَن ِ الصَّلاةِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ، وَذكرَ مِنْهَا المقبَرَة َ، قالَ الأَثرَمُ :«إنمَا كرِهَتِ الصَّلاة ُ فِي المقبَرَةِ ، لِلتَّشَبُّهِ بأَهْل ِ الكِتَابِ ، لأَنهُمْ يَتَّخِذُوْنَ قبوْرَ أَنْبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِد)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلامِ ، نقلهُ عَنْهُ ابْنُ القيِّمِ في«إغاثةِ اللهْفان»(1/189).
وَقالَ العَلامة ُ أَبوْ عَبْدِ اللهِ ابْنُ قيِّمِ الجوْزِيةِ رَحِمَهُ الله ُ في«إغاثةِ اللهْفان»(1/182183):(وَمِنْ أَعْظمِ مَكايدِهِ التِي كادَ بهَا أَكثرَ النّاس ِ، وَمَا نجَا مِنْهَا إلا َّ مَنْ لمْ يُرِدِ الله ُ تَعَالىَ فِتْنَتهُ : مَا أَوْحَاهُ قدِيْمًا وَحَدِيْثا إلىَ حِزْبهِ وَأَوْلِيَائِهِ ، مِنَ الفِتْنَةِ باِلقبوْرِ ، حَتَّى آلَ الأَمْرُ فِيْهَا إلىَ أَنْ عُبدَ أَرْبابهَا مِنْ دُوْن ِ اللهِ ، وَعُبدَتْ قبوْرُهُمْ ، وَاتخِذَتْ أَوْثانا ، وَبُنيَتْ عَليْهَا الهيَاكِلُ ، وَصُوِّرَتْ صُوَرُ أَرْبَابهَا فِيْهَا ، ثمَّ جُعِلتْ تِلك َ الصُّوَرُ أَجْسَادًا لها ظِلٌّ ، ثمَّ جُعِلتْ أَصْنَامًا وَعُبدَتْ مَعَ اللهِ تَعَالىَ .(182/29)
وَكانَ أَوَّلُ هَذَا الدّاءِ العَظِيْمِ ، فِي قوْمِ نوْحٍ كمَا أَخْبَرَ سُبْحانهُ عَنْهُمْ في كِتَابهِ حَيْثُ يَقوْلُ : " قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا " ) . [ نُوحٌ : 21 – 32 ]
ثمَّ قالَ:(وَقالَ البُخارِيُّ (4920): حَدَّثنَا إبْرَاهِيْمُ بنُ مُوْسَى حَدَّثنَا هِشَامٌ عَن ِابن ِجُرَيْجٍ قالَ : وقالَ عَطاءٌ عَن ِابن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا :«صَارَتِ الأَوْثانُ التي كانتْ في قوْمِ نوْحٍ في العَرَبِ بَعْدُ : أَمّا وَدٌّ فكانتْ لِكلبٍ بدُوْمَةِ الجنْدَل ِ، وَأَمّا سُوَاعٌ فكانتْ لِهُذَيْل ٍ، وَأَمّا يَغوْثُ فكانتْ لِمُرَادٍ ، ثمَّ لِبَني غطيْفٍ بالجرْفِ عِنْدَ سَبَإٍ ، وَأَمّا يَعُوْقُ فكانتْ لِهَمْدَانَ ، وَأَمّا نسْرٌ فكانتْ لِحِمْيَرَ ، لآل ِ ذِي الكلاع .
أَسْمَاءُ رِجَال ٍ صَالِحِيْنَ مِنْ قوْمِ نوْحٍ ، فلمّا هَلكوْا أَوْحَى الشَّيْطانُ إلىَ قوْمِهمْ : أَن ِ انْصبوْا إلىَ مَجَالِسِهمُ التي كانوْا يَجْلِسُوْنَ أَنصَابًا ، وَسَمُّوْهُمْ بأَسْمَائِهمْ ففعَلوْا ، فلمْ تعْبَدْ ، حَتَّى إذا هَلك َ أُوْلئِك َ، وَنسِيَ العِلمُ عُبدَتْ».
وَقالَ غيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلفِ :«كانَ هَؤُلاءِ قوْمًا صَالِحِيْنَ فِي قوْمِ نوْحٍ عَليْهِ السَّلامُ ، فلمّا مَاتوْا : عَكفوْا عَلى قبورِهِمْ ، ثمَّ صَوَّرُوْا تمَاثِيْلهُمْ ، ثمَّ طالَ عَليْهمُ الأَمدُ فعَبَدُوْهُمْ».(182/30)
فهَؤُلاءِ جَمَعُوْا بَيْنَ الفِتْنَتَيْن ِ: فِتْنَةِ القبوْرِ، وَفِتْنَةِ التَّمَاثِيْل ِ، وَهُمَا الفِتْنَتَان ِ اللتان ِأَشارَ إليْهمَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحدِيْثِ المتَّفق ِ عَلى صِحَّتِهِ عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا : أَنَّ أُمَّ سَلمَة َ رَضِيَ الله ُعَنْهَا ذكرَتْ لِرَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنِيْسَة ً رَأَتهَا بأَرْض ِ الحبشةِ يُقالُ لها «مَارِيََةَ» ، فذَكرَتْ لهُ مَا رَأَتْ فِيْهَا مِنَ الصُّوَر.
فقالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أُوْلئِكَِ قوْمٌ إذا مَاتَ فِيْهمُ العَبْدُ الصّالِحُ ، أَوِ الرَّجُلُ الصّالِحُ : بنوْا عَلى قبْرِهِ مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوْا فِيْهِ تِلك َ الصُّوَرَ ، أُوْلئِكَِ شِرَارُ الخلق ِ عِنْدَ اللهِ تعَالىَ».
وَفِي لفظٍ آخَرَ فِي«الصَّحِيْحَيْن»:«أَنَّ أُمَّ حَبيْبَة َ وَأُمَّ سَلمَة َ ذكرَتا كنيْسَة ً رَأَينهَا».
فجَمَعَ فِي هَذَا الحدِيْثِ ، بَيْنَ التَّمَاثِيل ِ وَالقبوْرِ ، وَهَذَا كانَ سَبَبَ عِبَادَةِ اللاتِ ... فقدْ رَأَيْتَ أَنَّ سَبَبَ عِبَادَةِ وَدٍّ وَيَغوْثَ وَيَعُوْقَ وَنسْرٍ وَاللاتِ ، إنمَا كانتْ مِنْ تَعْظِيْمِ قبوْرِهِمْ ، ثمَّ اتخذُوْا لهَا التَّمَاثِيْلَ وَعَبَدُوْهَا ، كمَا أَشَارَ إليْهِ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )اه.
وَقالَ العَلامَة ُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ القادِرِ الأَقحِصَارِيُّ الحنَفِيُّ ، المعْرُوْفُ باِلرُّوْمِيِّ(ت1041ه) في كِتَابهِ الكبيْرِ«مَجَالِس ِالأَبْرَار،
وَمَسَالِكِ الأَخْيَار»( - كِتَابٌ مُفِيْدٌ ، انتَقى مُؤَلفهُ مِئَة َ حَدِيْثٍ مِنْ أَحَادِيْثِ «مَصَابيْحِ السُّنَّةِ» لِلبَغوِيِّ ، ثمَّ شَرَحَهَا فِيْهِ ، في مِئَةِ مَجْلِس ٍ، وَأَطالَ في شَرْحِهَا .(182/31)
لهُ نسَخٌ خَطية ٌ كثِيْرَة ٌ في العَالمِ ، مِنْهَا اثنتَا عَشْرَة َ نسْخة ً خَطية ً أَصْلِيَّة ً في «مَرْكزِ الملِكِ فيْصَل لِلبحُوْثِ وَالدِّرَاسَاتِ الإسْلامِيَّةِ» باِلرِّياض ِ، مَحْفوْظة ً باِلأَرْقامِ:(00408)،(02278)،(03325) ،(04245) ، (06542)،(07993)،(08009)، (08798)،(09001)، (09442)،(09770)،(11559). وَنسْخة ٌ مُصَوَّرَة ٌ عَن ِ«المتْحَفِ البرِيْطانِيّ» ، مَحْفوْظة ٌ بالمرْكزِ أَيْضًا برَقمِ:(ب9164-9169)، وَلا أَعْلمُ أَنهُ مَطبوْع .
وَقدْ طبعَتْ رِسَالة ٌ فِيْهَا:أَرْبَعَة ُ مَجَالِسَ مِنْهُ فقط ، وَسُمِّيَتْ «المجَالِسُ الأَرْبَعَة ُ مِنْ مَجَالِس ِ الأَبْرَارِ»، كانَ المجْلِسُ الأَوَّلُ مِنْهَا «في بَيَان ِ عَدَمِ جَوَازِ الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْرِ ، وَالاسْتِمْدَادِ مِنْ أَهْلِهَا ، وَاتِّخَاذِ السُّرُوْجِ وَالشُّمُوْعِ عَليْهَا» ، وَهَذَا هُوَ المجْلِسُ السَّابعَ عَشَرَ في الأَصْل ِ، وَفِيْهِ شَرْحُ حَدِيْثِ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا السّابق.) في«المجْلِس ِ السّابعَ عَشَرَ» في شَرْحِهِ حَدِيْثَ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا مَرْفوْعًا «لعْنة ُ اللهِ عَلى اليهُوْدِ وَالنَّصَارَى ، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ»قالَ:(هَذَا الحدِيْثُ مِنْ صِحَاحِ «المصَابيْحِ» ، رَوَتهُ أَمُّ المؤْمِنِيْنَ عَائِشَة ُ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا .
وَسَببُ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى اليهُوْدِ وَالنَّصَارَى باِللعْنَةِ : أَنهُمْ كانوْا يُصَلوْنَ في الموَاضِعِ التِي دُفِنَ فِيْهَا أَنبيَاؤُهُمْ :
إمّا نظرًا مِنْهُمْ ، بأَنَّ السُّجُوْدَ لِقبوْرِهِمْ تعْظِيْمٌ لها ، وَهَذَا شِرْك ٌ جَلِيٌّ ، وَلهِذَا قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قبْرِي وَثنا يُعْبَد».(182/32)
أَوْ ظنًّا مِنْهُمْ ، بأَنَّ التَّوَجُّهَ إلىَ قبوْرِهِمْ باِلصَّلاةِ أَعْظمُ وَقعًا عِنْدَ اللهِ تعَالىَ - لاشْتِمَالِهِ عَلى أَمْرَيْن ِ: عِبَادَةِ اللهِ تعَالىَ ، وَتَعْظِيْمِ أَنبيَائِهِ –وَهَذَا شِرْك ٌ خَفِيّ .
وَلهِذَا نهَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتهُ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ احْتِرَازًا عَنْ مُشابهَتِهمْ بهمْ ، وَإنْ كانَ القصْدَان ِ مُخْتَلِفيْن .
وَقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَلا َإنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ ، كانوْا يتَّخِذُوْنَ القبوْرَ مَسَاجِدَ ، أَلا َفلا تتَّخِذُوْا القبوْرَ مَسَاجِدَ ، إني أَنهَاكمْ عَنْ ذلك»)اه.
وَقالَ العَلامَة ُ الشَّرِيْفُ الحسَنُ بْنُ خَالِدٍ الحازِمِيُّ الحسَنِيُّ (ت1234ه) في كِتَابهِ «قوْتُ القلوْب ، في تَوْحِيْدِ عَلاّمِ الغيوْب» (ص130) بَعْدَ أَنْ ذكرَ سَببَ شِرْكِ قوْمِ نوْحٍ عَليْهِ السَّلامُ:(فقدْ رَأَيْتَ أَنَّ سَببَ عِبَادَةِ وَدٍّ وَيَغُوْثَ وَيَعُوْقَ وَنسْرٍ وَاللاتِ : كانَ مِنْ تَعْظِيْمِهمُ المخْلوْقَ ، بمَا لمْ يَأْذنْ بهِ الله ُ، حَتَّى عَظمُوْا قبوْرَهُمْ ، وَجَعَلوْا لها تَمَاثِيْل . وَلهِذَا نهَى الشّارِعُ الحكِيْمُ عَن ِ اتِّخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، وَلعَنَ عَلى ذلك).
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ(ص131):(فاتخاذُ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ تَعْظِيْمٌ لها ، وَلِذَا حَكى الله ُ عَن ِ الذِيْنَ غلبوْا عَلى أَمْرِ أَصْحَابِ الكهْفِ أَنهُمْ قالوْا " لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ". [ الكَهْفُ : 21 ] .
قدْ صَارَ هَذَا التَّعْظِيْمُ لها : وَسِيْلة ً إلىَ الفِتْنَةِ بهَا ، وَلهِذَا نهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ آخِرَ حَيَاتِهِ ، وَلعَنَ – وَهُوَ في السِّيَاق ِ– فاعِلَ ذلك .(182/33)
لأَنَّ هَذِهِ العِلة َ، هِيَ التي أَوْقعَتْ كثِيْرًا مِنَ الأُمَمِ في الشِّرْكِ الأَكبَرِ وَالأَصْغر. وَلِذَا تَجِدُ أَقوَامًا يَتَضَرَّعُوْنَ عِنْدَهَا ، وَيَخْشَوْنَ بعِبَادَةٍ لا يَفعَلوْنهَا في مَوَاضِعِ العِبَادَاتِ ، وَلا أَوْقاتِ الإجَابةِ ، وَيَرْجُوْنَ مِنْ بَرَكةِ ذلِك َ مَا لا يَرْجُوْنَ في المسَاجِدِ الثلاثةِ التي تشدُّ إليْهَا الرِّحَال).
ثمَّ قالَ (ص132):(وَلأَجْل ِهَذِهِ المفسَدَةِ النّاشِئَةِ مِنْ تَعْظِيْمِ المخْلوْق ِ بمَا لا يَسْتَحِقهُ : حَسَمَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّتهَا ، حَتَّى نهَى عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ مُطلقا ، وَقالَ:«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ(1699)،(2316)،(2321) وَالحاكِمُ(1/251)، وَإليْهِ مَالَ ابْنُ دَقِيْق ِالعِيْدِ في«الإمَام» .
وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا : أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهَى عَن ِ الصَّلاةِ إلىَ القبْرِ ، فرَوَى مُسْلِمٌ في«الصَّحِيْحِ»(972) عَنْ أَبي مَرْثدٍ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «لا تَجْلِسُوْا عَلى القبوْرِ، وَلا تصَلوْا إليْهَا» ، وَإنْ لمْ يَقصِدِ المصَلي بَرَكة َ البقعَةِ ، فذَاك َ في لعْنَةِ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )اه كلامُ الحازِمِيّ.
فصل
في اخْتِلافِ الأَئِمَّةِ في صِحَّةِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ ، مَعْ قوْلِهمْ بتَحْرِيْمِهَا
قدِ اخْتَلفَ الأَئِمَّة ُ مِنَ المحَرِّمِيْنَ للصَّلاةِ في المقابرِ في صِحَّتِهَا فِيْهَا ، مَعَ اتفاقِهمْ عَلى إثمِ فاعِلِهَا .
فعَن ِ الإمَامِ أَحْمَدَ رِوَايتان ِ فِيْهَا :
إحْدَاهُمَا : أَنهَا مُحَرَّمَة ٌ وَلا تَصِحُّ ، وَهِيَ ظاهِرُ المذْهَب .
وَالثانِيَة ُ: أَنهَا تُكرَهُ ، وَتُسْتَحَبُّ الإعَادَة .(182/34)
وَمِنْ أَصْحَابنَا مَنْ يَحْكِي هَذِهِ الرِّوَاية َ باِلتَّحْرِيْمِ مَعَ الصِّحَّة . وَلفظ ُ أَحْمَدَ فِيْهَا هُوَ الكرَاهَة ُ ، وَقدْ يُرِيْدُ بهَا تارَة ً التَّحْرِيْمَ ، وَتارَة ً التَّنْزِيه .
وَلِذَلِك َ اخْتَلفوْا في كرَاهِيتهِ المطلقةِ عَلى وَجْهَيْن ِ مَشْهُوْرَيْن ِ، قالهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْميةَ في«شَرْحِ العُمْدَة»(2/434-435).
ثمَّ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ بَعْدَ ذلك(2/435-436):(وَالأَوَّلُ أَصَحُّ ، لأَنَّ قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام»: إخْرَاجٌ لها عَنْ أَنْ تَكوْنَ مَسْجِدًا، وَالصَّلاة ُ لا تَصِحُّ إلا َّ في مَسْجِدٍ ، أَعْنِي فِيْمَا جَعَلهُ الله ُ لنا مَسْجِدًا .
وَهَذَا خِطابُ وَضْعٍ وَإخْبَارٌ ، فِيْهِ أَنَّ المقبَرَة َ وَالحمّامَ ، لمْ يُجْعَلا مَحَلا ًّ للسُّجُوْدِ ، كمَا بيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ السُّجُوْدِ ، هُوَ الأَرْضُ الطيبة .
فإذا لمْ تَكنْ مَسْجِدًا : كانَ السُّجُوْدُ وَاقِعًا فِيْهَا فِي غيْرِ مَوْضِعِهِ ،
فلا يَكوْنُ مُعْتَدًّا بهِ ، كمَا لوْ وَقعَ في غيْرِ وَقتهِ ، أَوْ إلىَ غيْرِ جِهَتِهِ ، أَوْ فِي أَرْض ٍ خَبيْثة .
وَهَذَا الكلامُ مِنْ أَبلغِ مَا يدُلُّ عَلى الاشْتِرَاطِ ، فإنهُ قدْ يتوَهَّمُ أَنَّ العِبَادَة َ تَصِحُّ مَعَ التَّحْرِيْمِ ، إذا كانَ الخِطابُ خِطابَ أَمْرٍ وَتَكلِيْف .
أَمّا إذا وَقعَتْ في المكان ِ أَوِ الزَّمَان ِ الذِي بينَ أَنهُ ليْسَ مَحِلا ًّ لها وَلا ظرْفا : فإنهَا لا تَصِحُّ إجْمَاعًا .
وَأَيضًا ، فإنَّ نهْيَهُ عَنْ صَلاةِ المقبَرَةِ ، وَأَعْطان ِ الإبل ِ، وَالحمّامِ ، مَرَّة ً بَعْدَ مَرَّة : أَوْكدُ شَيْءٍ في التَّحْرِيْمِ وَالفسَادِ ، لا سِيَّمَا وَهُوَ نهْيٌ يَخْتَصُّ الصَّلاة َ بمعْنى فِي مَكانِهَا .(182/35)
فإنَّ الرَّجُلَ إذا صَلى في مَكان ٍ نهَاهُ الله ُ وَرَسُوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَليَ فِيْهِ ، نهْيًا يَخْتَصُّ الصَّلاة َ: لمْ يَفعَلْ مَا أَمَرَهُ الله ُ بهِ ، فيبْقى فِي عُهْدَةِ الأَمْرِ ، بلْ قدْ عَصَى الله َ وَرَسُوْلهُ ، وَتعَدَّى حُدُوْدَه .
وَأَيضًا ، لعْنتهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يتخِذُ القبوْرَ مَسَاجِدَ ، وَوَصِيَّتُهُ بذَلِك َ في آخِرِ عُمْرِهِ وَهُوَ يُعَالِجُ سَكرَاتِ الموْتِ ، بَعْدَ أَنْ نهَى عَنْ ذلِك َ قبْلَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمْس . وَبيانهُ أَنَّ فاعِلِي ذلِك َ شِرَارُ الخلق ِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ، وَمِنَ الأُمَمِ قبْلهَا : بيانٌ عَظِيْمٌ لِقبْحِ هَذَا العَمَل ِ، وَدَلالة ٌ عَلى أَنهُ مِنَ الكبائِرِ ، وَأَنهُ مُقارِبٌ لِلكفرِ ، بَلْ رُبمَا كانَ كفرًا صَرِيْحًا .
وَأَيضًا ، فإنَّ قوْلهُ «لا تَجُوْزُ الصَّلاة ُ فِيْهَا»: صَرِيْحٌ فِي التَّحْرِيْمِ ، وَالتَّحْرِيْمُ يَقتَضِي الفسَادَ ، خُصُوْصًا هُنَا ، وَلِذَلِك َ لا يَصِحُّ أَنْ يُقالَ هُنَا باِلتَّحْرِيْمِ مَعَ الصِّحَّة).
ثمَّ قالَ (2/437):(وَأَيْضًا ، فإنَّ الصَّلاة َ فِي المكان ِ النَّجِس ِ فاسِدَة ٌ، مَعَ أَنهُ لمْ يَنْطقْ كِتَابٌ وَلا سُنَّة ٌ بأَنهَا فاسِدَة ٌ، وَلا أَنهَا غيْرُ مُجْزِئة . وَإنمَا فهمَ المسْلِمُوْنَ ذلِك َ مِنْ نهْي الشّارِعِ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا ، وَتَخْصِيْصُ الإباحَةِ باِلأَرْض ِ الطيبة .
فهذِهِ الموَاضِعُ التِي سُلِبَتِ اسْمَ المسْجِدِ ، وَترَادَفتْ أَقاوِيْلُ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باِلنَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِ فِيْهَا : أَوْلىَ أَنْ لا تُجْزِئَ الصَّلاة ُ فِيْهَا)اه.
فصل
في بَيان ِ بُطلان ِ الصَّلاةِ في كلِّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى قبْرٍ ،
أَوْ كانَ فِيْهِ قبْر(182/36)
وَلا تَجُوْزُ الصَّلاة ُ في كلِّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى قبْرٍ كمَا تَقدَّمَ ، وَلا تَصِحُّ الصَّلاة ُ فِيْهِ بحَال ٍ، لأَنَّ أَرْضَهُ جُزْءٌ مِنَ المقبَرَةِ ، إلا َّ أَنْ يُنْبَش .
سَوَاءٌ صَلى خَلفَ القبْرِ أَوْ أَمَامَهُ ، بغيْرِ خِلافٍ في المذْهَبِ ، لأَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«إنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ ، كانوْا يَتَّخِذُوْنَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، أَلا فلا تتَّخِذُوْا القبوْرَ مَسَاجِدَ ، فإني أَنهَاكمْ عَنْ ذلك» ، وَغيْرَ ذلِك َ مِنَ الأَحَادِيْثِ المتقدِّمةِ في النَّهْيِّ عَنْ ذلك .
وَسَوَاءٌ كانَ لِذَلِك َ المسْجِدِ حِيْطانُ تحْجزُ بيْنَهُ وَبينَ القبوْرِ ، أَمْ كانَ مَكشُوْفا .
فإنْ كانَ المسْجِدُ خَارِجَ المقبَرَةِ ، مُنْفصِلا ً عَنْهَا ، إلا َّ أَنَّ المقبَرَة َخلفهُ ، أَوْ عَنْ يَمِيْنِهِ ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ : جَازَتِ الصَّلاة ُ فِيْه .
إلا َّ أَنْ يَكوْنَ المسْجدُ قدْ بُنِيَ لأَجْل ِ مُجَاوَرَتِهِ المقبرَة َ، أَوْ لأَحَدٍ فِيْهَا : فالصَّلاة ُ فِيْهِ حِيْنَئِذٍ مُحَرَّمَة ٌ فاسِدَة ٌ ، غيْرُ صَحِيْحَةٍ وَلا مُجْزِئة .
وَهَذَا هُوَ بعَيْنِهِ مَا نهَى عَنْهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإنْ كانَ المسْجِدُ مُنْفصِلا ً عَن ِ المقبَرَةِ . ذكرَ ذلِك َ كلهُ وَقرَّرَهُ ، شَيْخُ الإسْلامِ في«شَرْحِ العُمْدَة»(2/459و461).
كمَا أَنهُ لا فرْقَ فِي ذلِك َ، بَينَ الصَّلاةِ فِي مَسْجِدٍ بنِيَ عَلى قبرٍ ، وَبَينَ الصَّلاةِ فِي مَسْجِدٍ أُحْدِثَ دَاخِلهُ قبرٌ ، لِتَحَقق ِ عِلةِ النَّهْيِّ والتَّحْرِيْمِ فِي المسْجِدَيْن ِ وَالحالين ِ، وَالصَّلاة ُفِيْهمَا مُحَرَّمَة ٌ باطِلة .(182/37)
غيرَ أَنَّ القبرَ إنْ كانَ طارِئا عَلى المسْجِدِ : وَجَبَ نبشهُ وَإخْرَاجُهُ مِنْهُ . وَإنْ كانَ المسْجِدُ هُوَ الطارِئَ عَلى القبرِ : وَجَبَ هَدْمُهُ وَإزَالته .
* * *
فصل
في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ غيْرَ عَالمٍ باِلنَّهْيّ
أَمّا مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ ، أَوْ فِي مَقبَرَةٍ جَاهِلا ً باِلحكمِ ، غيْرَ عَالِمٍ باِلنَّهْيِّ : فقدِ اخْتَلفَ العُلمَاءُ فِي صِحَّةِ صَلاتِهِ تلِك َ: أَتصِحُّ أَمْ تجِبُ عَليْهِ إعَادَتهَا ؟
فعَن ِالإمَامِ أَحْمَدَ رِوَايتان ِ في ذلِك َ، وَكثيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابنَا يَنْصُرُوْنَ البُطلانَ مُطلقا ، لِلعُمُوْمَاتِ لفظا وَمَعْنَى .
وَالذِي ذكرَهُ الخلالُ : أَنْ لا إعَادَة َ عَليْهِ ، وَهَذِهِ أَشْبَهُ ، لا سِيَّمَا عَلى قوْل ِ مَنْ يَخْتَارُ مِنْهُمْ أَنَّ مَنْ نسِيَ النَّجَاسَة َ أَوْ جَهلهَا ، لا إعَادَة َ عَليْهِ .
فيَكوْنُ الجهْلُ باِلحكمِ ، كالجهْل ِ بوُجُوْدِ النَّجَاسَةِ ، إذا كانَ مِمَّنْ يُعْذَر . وَلأَنَّ النَّهْيَ لا يَثْبُتُ حُكمُهُ فِي حَقِّ المنْهيِّ حَتَّى يَعْلمَ ، فمَنْ لمْ يَعْلمْ : فهُوَ كالنّاسِي وَأَوْلىَ .
وَلأَنهُ لوْ صَلى صَلاة ً فاسِدَة ً ، لِنَوْعِ تأْوِيْل ٍ، ثمَّ تبينَ لهُ رُجْحَانُ مَا اخْتَارَهُ حِيْنَ صَلى تِلك َ الصَّلاة َ: لمْ تَجِبْ عَليْهِ الإعَادَة ُ مَعَ سَمَاعِهِ لِلحُجَّةِ ، وَبُلوْغِهَا إياه .
فالذِي لمْ يَسْمَعِ الحجَّة َ: يَجِبُ أَنْ يُعْذَرَ لِذَلِك َ، إذْ لافرْقَ بَيْنَ أَنْ يتجَدَّدَ لهُ فهْمٌ لِمَعْنًى لمْ يَكنْ قبْلَ ذلِك َ، أَوْ سَمَاعٍ لِعِلمٍ لمْ يَكنْ قبْلَ ذلِك َ إذا كانَ مَعْذُوْرًا بذَلِك َ، بخلافِ مَنْ جَهلَ بُطلانَ الصَّلاةِ فِي الموْضِعِ النَّجِس ِ، فإنَّ هَذَا مَشْهُوْرٌ ، قالهُ شَيْخُ الإسْلامِ في«شَرْحِ العُمْدَة»(2/441) وَرَجَّحَه .
* * *
فصل(182/38)
في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ ، غيْرَ عَالِمٍ به
أَمّا لوْ صَلى فِي مَوْضِعٍ لمْ يَعْلمْ أَنهُ مقبَرَة ٌ، أَوْ أَنَّ فِيْهِ قبْرًا ، ثمَّ عَلِمَ بهِ ، مَعَ عِلمِهِ بتَحْرِيْمِ الصَّلاةِ : فحُكمُ صَلاتِهِ ، كحُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى فِي مَوْضِعٍ نجس ٍ، لمْ يَعْلمْ بنجَاسَتِهِ ، ثمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذلك .
وَقدْ تقدَّمَ قوْلُ عُمَرَ لأَنس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا مُنبهًا لهُ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ لمْ يَعْلمْ بهِ:«القبْرَ القبْرَ» وَلمْ يَأْمُرْهُ باِلإعَادَةِ ، لأَنهُ لمْ يَكنْ يَعْلمُ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ قبْرًا ، ذكرَ هَذَا شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ في«شَرْحِ العُمْدَة»(2/441).
وَيُحْتَجُّ لهِذَا وَمَا قبْلهُ أَيْضًا ، بحدِيْثِ أبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلى فخلعَ نعْليْهِ ، فخلعَ النّاسُ نِعَالهمْ ، فلمّا انْصَرَفَ قالَ:«لِمَ خَلعْتُمْ نِعَالكمْ؟!».
فقالوْا : يَارَسُوْلَ اللهِ ، رَأَينَاك َ خَلعْتَ فخلعْنَا .
قالَ:«إنَّ جِبْرِيْلَ أَتانِي فأَخْبَرَنِي أَنَّ بهمَا خبثا ، فإذا جَاءَ أَحَدُكمُ المسْجِدَ ، فليقلِبْ نعْلهُ ، فلينْظرْ فِيْهمَا ، فإنْ رَأَى بهَا خبثا ، فليَمْسَحْهُ باِلأَرْض ِ، ثمَّ لِيصَلِّ فِيْهمَا».
رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(3/20) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِهِ»(650) وَابنُ أَبي شيبة َفي«مُصَنفِهِ»(2/417) وَالبَيْهَقِيُّ في«سُننِهِ الكبْرَى» (2/402-403)، وَصَحَّحَهُ ابنُ خُزَيْمَة َ(1/384)،(2/107)، وَالحاكِمُ في«مُسْتَدْرَكِهِ»(1/260)، وَقالَ:(حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَلمْ يُخْرِجَاه) ، وَهُوَ كمَا قال .
* * *
فصل
في بُطلان ِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ اتفاقا مِنْ غيْرِ قصْدٍ له(182/39)
أَمّا مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ اتفاقا مِنْ غيْرِ قصْدٍ لهُ ، وَهُوَ عَالِمٌ بهِ وَباِلحكمِ : فلا تجُوْزُ صَلاتهُ أَيضًا وَلا تصِحُّ ، كمَا لا يَجُوْزُ السُّجُوْدُ للهِ سُبْحَانهُ بيْنَ يَدَيْ صَنَمٍ أَوْ نارٍ، أَوْ غيْرِ ذلِك َ مِمّا يُعْبَدُ مِنْ دُوْن ِ اللهِ عَزَّ وَجَلّ .
لِمَا في ذلِك َ مِنَ التَّشَبُّهِ بعُبّادِ الأَوْثان ِ، وَفتْحِ بَابٍ لِلصَّلاةِ عِنْدَهَا ، وَاتهَامِ مَنْ يَرَاهُ أَنهُ قصَدَ الصَّلاة َ عِنْدَهَا ، أَوْ أَنْ يَقتَدِيَ بَعْضُ الجهّالُ بهِ إنْ كانَ مَتْبُوْعًا .
وَلأَنَّ ذلِك َ مَظِنة ُ تِلك َ المفسَدَةِ ، فيعلقُ الحكمُ بهَا ، لأَنَّ الحِكمَة َ قدْ لا تنْضَبط ُ، وَلأَنَّ في ذلِك َ حَسْمًا لِهَذِهِ المادَّةِ ، وَتَحْقِيْقَ الإخْلاص ِ وَالتَّوْحِيْدِ ، وَزَجْرًا لِلنفوْس ِ أَنْ تتعَرَّضَ لِلقبوْرِ بعِبَادَةٍ ، وَتقبيْحًا لِحَال ِ مَنْ يَفعَلُ ذلك .
وَلِهَذَا نهَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ طلوْعِ الشَّمْس ِ، لأَنَّ الكفارَ يَسْجِدُوْنَ لِلشَّمْس ِحِيْنَئِذٍ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(832) إبْعَادًا لِلمُؤْمِنِيْنَ عَنْ مُشابَهَةِ المشْرِكِيْنَ ، وَحَذَرًا مِنْ سُلوْكِ طرِيْقِهمْ المهيْن .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ في«شَرْحِ العُمْدَةِ» بَعْدَ أَنْ ذكرَ مَا سَبقَ (2/461):(وَكذَلِك َ قصْدُهُ – أَي القبْرَ – لِلصَّلاةِ فِيْهِ ، وَإنْ كانَ أَغلظ َ، لكِنْ هَذَا البَابُ سَوَّى في النَّهْيِّ فِيْهِ بَيْنَ القاصِدِ وَغيْرِ القاصِدِ ، سَدًّا لِبَابِ الفسَاد).(182/40)
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ في مَوْضِعٍ آخَرَ - كمَا في «مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»(27/489)-:(وَقدْ نهَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ طلوْعِ الشَّمْس ِ وَعِنْدَ غرُوْبهَا ، وَعِنْدَ وُجُوْدِهَا فِي كبدِ السَّمَاءِ ، وَقالَ:«إنهُ حِيْنَئِذٍ يَسْجُدُ لهَا الكفار»[م(832)] فنَهَى عَنْ ذلِك َ، لِمَا فيْهِ مِنَ المشابهَةِ لهمْ ، وَإنْ لمْ يَقصِدِ المصَلي السُّجُوْدَ إلا َّ لِلوَاحِدِ المعْبُوْد)اه .
فصل
في اسْتِوَاءِ الحكمِ في الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكثرَ ،
وَأَنهَا صَلاة ٌ بَاطِلة ٌ عَلى كلِّ حَال
قدْ فرَّقَ بَعْضُ أَهْل ِ العِلمِ ، المحَرِّمِيْنَ لِلصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، بَيْنَ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ وَاحِدٍ أَوْ قبْرَيْن ِ، وَبَيْنَ مَنْ صَلى عِنْدَ أَكثرَ مِنْ ذلِك َ، فخصُّوْا التَّحْرِيْمَ بثلاثةٍ فصَاعِدًا !
وَهَذَا قوْلٌ مُطرَحٌ ، وَالصَّوَابُ خِلافهُ ، وَأَنهُ لا فرْقَ بَيْنَ الصَّلاةِ في مَوْضِعٍ فِيْهِ قبْرٌ أَوْ قبْرَان ِ، وَبَيْنَ أَكثرَ مِنْ ذلك .
وَعِلة ُ النَّهْيِّ وَالتَّحْرِيْمِ - كمَا عَلِمْتَ - مُتَحَققة ٌ وَمُعَلقة ٌ بوُجُوْدِ القبْرِ، وَلا تعَلقَ لهَا باِلعَدَد .
وَليْسَ في الأَحَادِيْثِ النبَوِيةِ النّاهِيَةِ عَنْ ذلِك َ، هَذَا الفرْقُ ، وَالأَصْلُ بَقاءُ عُمُوْمِهَا مَا لمْ يأْتِ مُقيِّدٌ أَوْ مُخصِّص . وَمَنْ قيَّدَهَا أَوْ خَصَّصَهَا دُوْنَ ذلِك َ: لزِمَهُ الدَّلِيْلُ ، وَقدْ عَلِمْتَ أَنْ لا دَلِيْل .
كمَا أَنهُ ليْسَ في كلامِ الإمَامِ أَحْمَدَ وَعَامَّةِ أَصْحَابهِ : هَذَا الفرْقُ . بَلْ عُمُوْمُ كلامِهمْ وَتَعْلِيْلِهمْ وَاسْتِدْلالِهمْ : يُوْجِبُ مَنْعَ الصَّلاةِ عِنْدَ كلِّ قبْرٍ ، وَاحِدًا كانَ أَوْ أَكثر .(182/41)
وَالمفسَدَة ُ المخوْفة ُ في الصَّلاةِ عِنْدَ قبوْرٍ كثِيْرَةٍ : مُتَحَققة ٌ في الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ فرْدٍ مُنْفرِد . بَلْ رُبمَا كانتْ فِيْهِ أَعْظمَ وَأَشَدَّ ، لِشُبْهَةِ اخْتِصَاص ِ ذلِك َ القبْرِ بمَزِيدِ فضْل ٍ وَنفعٍ ، ليْسَ في عَامَّةِ القبوْرِ غيْرِه .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ في«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/461):(فمَنْ صَلى عِنْدَ شَيْءٍ مِنَ القبوْرِ ، فقدِ اتخذَ ذلك القبْرَ مَسْجِدًا ، إذِ المسْجدُ في هَذَا البابِ المرَادُ بهِ : مَوْضِعُ السُّجُوْدِ مُطلقا .
لا سِيَّمَا وَمُقابلة ُ الجمْعِ باِلجمْعِ ، يَقتضِي توْزِيْعَ الأَفرَادِ عَلى الأَفرَادِ ، فيكوْنُ المقصُوْدُ : لا يُتخذُ قبْرٌ مِنَ القبوْرِ مَسْجِدًا مِنَ المسَاجِدِ ، وَلأَنهُ لوِ اتخِذَ قبْرُ نبيٍّ ، أَوْ قبْرُ رَجُل ٍ صَالِحٍ مَسْجِدًا : لكانَ حَرَامًا باِلاتفاق ِ، كمَا نهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فعُلِمَ أَنَّ العَدَدَ لا أَثرَ له)اه.
فصل
في حُكمِ الصَّلاةِ في عُلوِّ المقبَرَةِ ، وَبيان ِ أَنهَا باطِلة ٌ، لِتَحَقق ِ العِلةِ وَعُمُوْمِ الأَدِلة
أَمّا الصَّلاة ُ في عُلوِّ المقبَرَةِ ، وَعُلوِّ بقِيَّةِ الموَاضِعِ المنْهيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا : فقدِ اخْتَلفَ مُحَرِّمُو الصَّلاةِ فِيْهَا في ذلك :
فقالَ مُحَققوْهُمْ : لا فرْقَ بَيْنَ سُفلِهَا وَعُلوِّهَا ، لأَنَّ الاسْمَ يتناوَلُ الجمِيْعَ ، وَالحكمُ مُعَلقٌ باِلاسْم .
وَقالوْا : وَيَدْخُلُ في كلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا ، مَا يَدْخُلُ فِيْهِ مُطلقُ البَيْعِ وَالهِبَةِ مِنْ حُقوْق ٍ، مِنْ سُفلِهِ وَعُلوِّهِ ، اعْتِبَارًا بمَا يقعُ عَليْهِ الاسْمُ عِنْدَ الإطلاق ِ، فمَنْ باعَ دَارًا : دَخَلَ في ذلِك َ سُفلهَا وَعُلوُّهَا ، لِوُقوْعِ الاسْمِ عَلى الجمِيْعِ عِنْدَ الإطلاق ِ، وَلأَنَّ الحكمَ تَعَبُّدٌ ، فيناط ُ بمَا يَدْخُلُ في الاسْم .(182/42)
ثمَّ قالَ المحَرِّمُوْنَ لِلصَّلاةِ في عُلوِّ المقابرِ: إنْ كانَ قدْ بُنِيَ عَلى المقابرِ :
بناءٌ مَنْهيٌّ عَنْهُ كمَسْجِدٍ ،
أَوْ بناءٌ في مَقبَرَةٍ مُسَبَّلةٍ :
كانتِ الصَّلاة ُ في عُلوِّ هَذَيْن ِ المبْنَيَيْن ِ : صَلاة ً مُحَرَّمَة ً غيْرَ صَحِيْحَةٍ ، لأَنهُمَا مَوْضِعَان ِ مُحَرَّمَان .
أَمّا الأَوَّلُ : فلأَنهُ صَلى في مَسْجِدٍ في القبوْرِ ، وَاتخاذ ٌ لِلقبوْرِ مَسَاجِدَ ، وَدُخُوْلٌ في لعْن ِالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الكِتَابِ عَليْهِ . فإنهُمْ لمّا اتخذُوْا الأَبنِيَة َ عَلى قبوْرِ أَنْبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ : لعِنوْا عَلى ذلِك َ، سَوَاءٌ صَلوْا في قرَارِ المبْنَى أَوْ عُلوِّه .
أَمّا الثانِي: فلأَنَّ الصَّلاة َ فِيْهِ صَلاة ٌعَلى مَكان ٍ مَغْصُوْبٍ ، وَالخِلافُ في صِحَّةِ الصَّلاةِ في المكان ِ المغْصُوْبِ مَعْلوْمٌ مَشْهُوْرٌ ، مَعَ تَحَقق ِ العِلةِ الأُوْلىَ فِيْهِ كذَلِك .
أَمّا إنْ كانَ الميِّتُ مَدْفوْنا في دَارٍ ، أَعْلاهَا باق ٍ عَلى الإعْدَادِ لِلسُّكنَى : فذَكرَ بَعْضُ الأَصْحَابِ جَوَازَ الصَّلاةِ فِيْه .
وَالذِي عَليْهِ المحَققوْنَ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ ، حَنَابلة ً وَغيْرَهُمْ ، وَالذِي يَدُلُّ عَليْهِ كلامُ الإمَامِ أَحْمَدَ ، وَأَكثرِ أَصْحَابهِ : أَنهُ لا يُصَلى فِيْهِ ، لأَنَّ هَذَا البناءَ مَنْهيٌّ عَنْهُ ، وَهُوَ تابعٌ لِلقرَارِ في الاسْم .
وَلأَنَّ الصَّلاة َ في عُلوِّ هَذَا المكان ِ باِلنِّسْبةِ إلىَ الميِّتِ ، كالصَّلاةِ في أَسْفلِه .
وَلأَنَّ حِكمَة َ النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ القبْرِ : هُوَ مَا فِيْهِ مِنَ فتْحِ ذرِيْعَةٍ لِلشِّرْكِ ، وَمُشابهَةِ أَهْل ِ الكِتَابِ ، باِلتَّعْظِيْمِ المفضِي إلىَ اتخاذِ القبوْرِ أَوْثانا .(182/43)
وَهَذِهِ الحِكمَة ُ مَوْجُوْدَة ٌ باِلصَّلاةِ في قرَارِ الأَبنِيَةِ وَعُلوِّهَا ، سَوَاءٌ قصَدَ المصَلي ذلِك َ، أَوْ تشَبَّهَ بمَنْ يَقصِدُ ذلِك َ، وَخِيْفَ أَنْ يَكوْنَ
ذرِيْعَة ً إلىَ ذلك .
وَقدْ ذكرَ ذلِك َ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ في«شَرْحِ العُمْدَةِ» ، وَرَجَّحَهُ بمَا سَبَقَ (2/471-475).
وَكذَلِك َ الحالُ في كلِّ مَا دَخَلَ في اسْمِ المقبَرَةِ ، مِمّا حَوْلَ القبوْرِ : لا يُصَلى فِيْه .
فعَلى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكوْنَ المنْعُ مُتَنَاوِلا ً لِحَرِيْمِ القبْرِ المفرَدِ ، وَفِنَائِهِ المضافِ إليْهِ ، قالهُ الأَصْحَابُ ، وَذكرَهُ وَرَجَّحَهُ شَيْخُ الإسْلامِ في «شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/461).
وَهُوَ الذِي تَدُلُّ عَليْهِ الأَدِلة ُ كمَا سَبَقَ ، وَإخْرَاجُ هَذِهِ الموَاضِعِ مِنْ عُمُوْمِ الأَدِلةِ ، تَحَكمٌ غيْرُ مَقبوْل .
فصل
في حُكمِ الصَّلاةِ إلىَ القبوْر
أَمّا الصَّلاة ُ إلىَ القبْرِ : فصَلاة ٌ مُحَرَّمَة ٌ غيْرُ صَحِيْحَةٍ كذَلِك َ، لِحَدِيْثِ أَبي مَرْثدٍ الغنوِيِّ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :«لا تُصَلوْا إلىَ القبوْرِ ، وَلا تَجْلِسُوْا عَليْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِه»(972).
وَبهَذَا قالَ كثِيْرٌ مِنَ الأَصْحَابِ ، مِنْهُمُ الآمِدِيُّ ، وَأَبوْ عَبْدِ اللهِ ابنُ حَامِدٍ ، وَأَبوْ محمَّدٍ ابنُ قدَامَة َ، وَشَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُمُ الله .(182/44)
وَذكرَ القاضِي أَبُوْ يَعْلى مُحَمَّدُ بْنُ الحسَين ِ ابْنُ الفرّاءِ البَغدَادِيُّ (ت458ه):أنَّ حُكمَهُ حُكمُ المصَلي فِيْهَا ، لأَنَّ الهوَاءَ تابعٌ لِلقرَارِ ، فيَثبتُ فِيْهِ حُكمُهُ ، وَلِذَلِك َ لوْ حَلفَ لا يدْخُلُ دَارًا ، فدَخَلَ سَطحَهَا : حَنِثَ . وَلوْ خَرَجَ المعْتكِفُ إلىَ سَطحِ المسْجِدِ : كانَ لهُ ذلِك َ، لأَنَّ حُكمَهُ حُكمُ المسْجِد)( - «المغْني» لابْن ِ قدَامَة (1/474).).
وَجَوَّزَ بَعْضُ أَهْل ِ العِلمِ الصَّلاة َ في عُلوِّ الموَاضِعِ المنْهيِّ عَنْهَا ، وَقالوْا:(الصَّحِيْحُ قصْرُ النَّهْيِّ عَلى مَا تناوَلهُ ، وَأَنهُ لا يُعَدَّى إلىَ غيْرِهِ ، لأَنَّ الحكمَ إنْ كانَ تَعَبُّدِيًّا : فالقِيَاسُ فِيْهِ مُمْتَنِعٌ ، وَإنْ عُللَ : فإنمَا يُعَللُ بكوْنهِ لِلنجَاسَةِ ، وَلا يتخيلُ هَذَا في سَطحِهَا).
وَكلامُهُمْ هَذَا مَرْدُوْدٌ إنْ أُطلِقَ ، فإنهُ لا يَصِحُّ إطلاقهُ إلا َّ عَلى الموَاضِعِ التِي عِلة ُ النَّهْيِّ فِيْهَا النَّجاسَة ُ، مَعَ مَنْعِ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ إطلاقهُ فِيْهَا ، وإنْ كانتِ العِلة ُ النَّجَاسَة ُ كمَا تقدَّمَ في كلامِ القاضِي وَكلامِ غيْرِه .
إلا َّ أَنهُ لا يَصِحُّ إدْخَالُ عُلوِّ المقبَرَةِ في ذلِك َ البتة َ، لاخْتِلافِ العِلةِ ، وَتَحَقق ِ عِلةِ النَّهْيِّ الحقِيْقِيَّةِ عَن ِالصَّلاةِ في المقبَرَةِ في العُلوِّ وَفي السُّفل . وَقدْ قرَّرْنا في فصْل ٍ تقدَّمَ(ص27-43): أَنَّ عِلة َ النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَهَا ، هُوَ مَا في ذلك مِنْ فتْحِ بَابٍ لِلشِّرْكِ وَذرِيْعَةٍ إليْهِ ، وَمَا فِيْهِ مِنْ مُشَابَهَةِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى المتخِذِيْنَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد .(182/45)
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َفي«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/480-481): (وَذهَبَتْ طائِفة ٌ مِنْ أَصْحَابنا إلىَ جَوَازِ الصَّلاةِ إلىَ هَذِهِ الموَاضِعِ مُطلقا – أَي الموَاضِعَ المنْهيَّ عَن ِالصَّلاةِ فِيْهَا- مِنْ غيْرِ كرَاهَةٍ ! وَهُوَ قوْلٌ ضَعِيْفٌ ، لا يَلِيْقُ باِلمذْهَب .
وَمِنْهُمْ : مَنْ لمْ يَكرَهْ ذلِك َ إلا َّ في القبْرِ خَاصَّة ً، لأَنَّ النَّهْيَ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنمَا صَحَّ في الصَّلاةِ إلىَ القبوْرِ كمَا تقدَّم .
وَلأَنهَا هِيَ التِي يُخافُ أَنْ تُتَّخذَ أَوْثانا ، فالصَّلاة ُ إليْهَا شَبيْهَة ٌ باِلصَّلاةِ بيْنَ يَدَيْ الصَّنَمِ ، وَذلِك َ أَعْظمُ مِنَ الصَّلاةِ بَيْنَهَا .
وَلِهَذَا يَكرَهُوْنَ مِنَ الصَّلاةِ إلىَ القبْرِ ، مَا لا يَكرَهُوْنهُ مِنَ الصَّلاةِ إلىَ المقبَرَة .
وَهَذِهِ حُجَّة ُ مَنْ رَأَى التَّحْرِيْمَ وَالإبطالَ ، مُخْتَصًّا باِلصَّلاةِ إلىَ القبْرِ ، وَإنْ كرِهَ الصَّلاة َ إلىَ تِلك َ الأَشْيَاءِ ، وَهُوَ قوْلٌ قوِيٌّ جِدًّا ، وَقدْ قالهُ كثِيْرٌ مِنْ أَصْحَابنا .
وَوَجْهُ الكرَاهَةِ في الجمِيْعِ : مَا تقدَّمَ عَن ِ الصَّحَابةِ وَالتابعِيْنَ مِنْ غيْرِ خِلافٍ عَلِمْنَاهُ بَيْنَهُمْ ، وَلأَنَّ القبوْرَ قدِ اتخِذَتْ أَوْثانا وَعُبدَتْ ، وَالصَّلاة ُ إليْهَا يُشبهُ الصَّلاة َ إلىَ الأَوْثان ِ، وَذلِك َ حَرَامٌ ، وَإنْ لمْ يقصِدْهُ المرْءُ ، وَلِهَذَا لوْ سَجَدَ إلىَ صَنَمٍ بَيْنَ يدَيهِ لمْ يَجُزْ ذلك)اه.(182/46)
وَقالَ الشَّيْخُ العَلامَة ُ عَبْدُ الرَّحْمَن ِ بْنُ حَسَن ِ بْن ِ مُحَمَّدِ بْن ِ عَبْدِ الوَهّابِ آل الشَّيْخِ رَحِمَهُمُ الله ُ في«فتْحِ المجِيْدِ»(ص207): (قوْلهُ:«وَالذِيْنَ يَتَّخِذُوْنَ القبوْرَ مَسَاجِدَ» أَي : وَإنَّ مِنْ شِرَارِ النّاس ِ الذِيْنَ يَتَّخِذُوْنَ القبوْرَ مََسَاجِدَ ، أَي باِلصَّلاةِ عِنْدَهَا وَإليْهَا ، وَبناءِ المسَاجِدِ عَليْهَا، وَتقدَّمَ في الأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ أَنَّ هَذَا مِنْ عَمَل ِاليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى) اه.
فصل
في فسَادِ ظنِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الفِتْنَة َ قدْ أُمِنَتْ مِنْ تَعْظِيْمِ أَصْحَابِ القبوْرِ ، وَتَصْوِيْرِ التَّمَاثِيْل ِ، وَبيان ِأَنهَا فِتْنَة ٌ عَمْيَاءُ خَطِيْرَة ٌ لا تؤْمَن
قدْ ظنَّ بَعْضُ مَنْ لمْ يَعْرِفْ مَلة َ إبْرَاهِيْمَ الحنِيْفِيَّة َ حَقَّ المعْرِفةِ( - كأَحْمَدِ بْن ِمُحَمَّدِ بْن ِ الصِّدِّيْق ِالغمَارِيِّ المغرِبيّ(ت1380ه) في كِتَابهِ «إحْيَاءِ المقبوْر، مِنْ أَدِلةِ اسْتِحْبَابِ بناءِ المسَاجِدِ وَالقِبَابِ عَلى القبوْر».
وَقدْ بيَّنَ الشَّيْخُ الأَلبَانِيُّ رَحِمَهُ الله ُ في كِتَابهِ «تَحْذِيْرِ السّاجِد ، مِنَ اتِّخاذِ القبوْرِ مَسَاجِد»: فسَادَ ذلِك َ الكِتَابِ وَضَعْفهُ وَتنَاقضَ مُؤَلفِه .
وَمِنْ ذلِك َ: أَنَّ الغمَارِيَّ زَعَمَ فِيْهِ(ص18-19): أَنَّ الأَئِمَّة َ اتفقوْا عَلى تَعْلِيْل ِ النَّهْيِّ عَن ِ اتِّخَاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ بعِلتَيْن ِ، قالَ:
(إحْدَاهُمَا : أَنْ يُؤَدِّيَ إلىَ تَنْجِيْس ِ المسْجِد .
وَثانِيْهمَا – وَهُوَ قوْلُ الأَكثرِيْنَ ، بَل ِ الجمِيْعِ حَتَّى مَنْ نصَّ عَلى العِلةِ السّابقةِ-: أَنَّ ذلِك َ قدْ يُؤَدِّي إلىَ الضَّلال ِ وَالفِتنةِ باِلقبْر).(182/47)
ثمَّ زَعَمَ الغمَارِيُّ (ص20-21): أَنَّ هَذِهِ العِلة َ الأَخِيْرَة َ، قدِ انتفتْ برُسُوْخِ الإيْمَان ِ في نفوْس ِ المؤْمِنِيْنَ ، وَنشأَتِهمْ عَلى التَّوْحِيْدِ الخالِص ِ، وَاعْتِقادِهِمْ نفيَ الشَّرِيْكِ مَعَ اللهِ تَعَالىَ ، وَأَنهُ سُبْحَانهُ المنْفرِدُ باِلخلق ِ وَالإيْجَادِ وَالتَّصْرِيْف .
ثمَّ قالَ:(وَباِنتِفاءِ العِلةِ ، يَنْتفِي الحكمُ المترَتبُ عَليْهَا : وَهُوَ كرَاهَة ُ اتخاذِ المسَاجِدِ وَالقِبَابِ عَلى قبوْرِ الأَوْلِيَاءِ وَالصّالحِين).
وَقدْ رَدَّ عَليْهِ الشَّيْخُ الأَلبانِيُّ في كِتَابهِ السّابق ِ(ص112-134) ، وَبيَّنَ بُطلانَ زَعْمِهِ هَذَا، وَأَنَّ اعْتِقادَ الرَّجُل ِ انفِرَادَ اللهِ باِلخلق ِ وَالإيْجَادِ وَالتَّصْرِيْفِ ، دُوْنَ إفرَادِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانهُ باِلعِبَادَةِ : لا يَنْفعُهُ ، كمَا أَنَّ إيْمَانَ مُشْرِكِي العَرَبِ المتقدِّمِيْنَ بذَلِك َ لمْ يَنْفعْهُمْ ، لِصَرْفِهمْ شَيْئًا مِنَ العِبَادَةِ لِغيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قالَ سُبْحَانهُ:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }.
وَقالَ سُبْحَانهُ: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ }.(182/48)
فإنَّ كفرَهُمْ لمْ يَأْتِهمْ مِنْ إخْلالهِمْ بتوْحِيْدِ الرُّبوْبيَّةِ ، وَإنمَا جَاءَهُمْ مِنْ إشْرَاكِهمْ في تَوْحِيْدِ العِبَادَة .
ثمَّ بيَّنَ الشَّيْخُ الأَلبَانِيُّ(ص115) تنَاقضَ الغمَارِيِّ ، وَأَنهُ مَعَ زَعْمِهِ رُسُوْخَ الإيْمَان ِ في نفوْس ِ النّاس ِ، وَنشْأَتِهمْ عَلى التَّوْحِيْدِ الخالِص ِ: ناقضَ نفسَهُ بَعْدَ زَعْمِهِ ذلِك َ بصَفحَاتٍ ، فذَكرَ أَنَّ كثِيْرًا مِنَ العَامَّةِ باِلمغرِبِ ، يَعْتقِدُوْنَ وَينْطقوْنَ في حَقِّ جُمْلةٍ مِنَ الصّالحِيْنَ بمَا هُوَ كفرٌ صَرِيْحٌ مُخْرِجٌ مِنَ المِلة !
وَمِنْ ذلِك َ: قوْلُ الغمَارِيِّ(ص22):(فإنَّ عِنْدَنا باِلمغرِبِ مَنْ يَقوْلُ عَن ِ القطبِ الأَكبَرِ مَوْلانا عَبْدِ السَّلامِ بْن ِمشّيْش رَضِيَ الله ُ عَنْهُ:«إنهُ الذِي خَلقَ الدِّيْنَ وَالدُّنيَا».
وَمِنْهُمْ : مَنْ قالَ وَالمطرُ نازِلٌ بشِدَّةٍ:«يَا مَوْلانا عَبْدَ السَّلامِ أُلطفْ بعِبَادِك»!: فهَذَا كفرٌ)اه كلامُه.
فمَعَ وُقوْفِ الغمَارِيِّ عَلى مَا تقدَّمَ ، وَسَمَاعِهِ لهُ: زَعَمَ مَا زَعَمَ! وَادَّعَى مَا ادَّعَى! فأَينَ توْحِيْدُ أُوْلئِك َ الخالِصُ ، وَشِرْكهُمْ باِللهِ ظاهِر؟!
بَلْ إنَّ شِرْكهُمْ أَعْظمُ مِنْ شِرْكِ مُشْرِكِي العَرَبِ القدَامَى ، فالمشْرِكوْنَ القدَامَى سَالمِوْنَ في تَوْحِيْدِ الرُّبوْبيَّةِ كمَا تقدَّمَ ، وَإشْرَاكهُمْ إنمَا هُوَ في تَوْحِيْدِ العِبَادَة . أَمّا إذا اضْطرُّوْا وَضَاقتْ عَليْهمُ السُّبُلُ : فيُخْلِصُوْنَ التَّوْحِيْدَ وَالعِبَادَة َللهِ ، كمَا قالَ عَنْهُمْ سُبْحَانهُ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } .(182/49)
أَمّا مُشْرِكو زَمَانِنَا : فشِرْكهُمْ مُطرِدٌ مَعَهُمْ في أَحْوَالهِمْ كلهَا ! بَلْ إنهُمْ يُخْلِصُوْنَ الشِّرْك َ باِللهِ في شَدَائِدِهِمْ ، فإنهُمْ رُبَّمَا دَعَوا الله َوَمَعَهُ غيْرَهُ في الرَّخَاءِ ، فإذا اشْتَدَّ بهمُ الكرْبُ ، وَبعُدَ عَنْ ظنِّهمُ الفرَجُ : أَخْلصُوْا الدُّعَاءَ لِشُرَكائِهمْ مِنْ دُوْن ِ اللهِ ، وَلمْ يَدْعُوْهُ سُبْحَانه .
بَلْ إنَّ كثِيْرًا مِنْهُمْ : قدْ فسَدَ عِنْدَهُ تَوْحِيْدُ الرُّبوْبيَّةِ أَيضًا – فصَارَ شِرْكهُ وَكفرُهُ أَعْظمَ مِنْ كفرِ المتقدِّمِيْنَ مِنْ غيْرِ وَجْهٍ –: فيزْعُمُ أَنَّ فلانا لهُ تَصَرُّفٌ في الكوْن ِ! أَوْ خَلقُ الدُّنيا وَالدِّين ِ! كمَا في قوْل ِ ذلِك َ المشْرِكِ الذِي حَكى قوْلهُ الغمَارِيّ.)، عَليْهِ وَعَلى نبيِّنَا أَفضَلُ الصَّلاةِ وَالتَّسْلِيْمِ : أَنَّ مَا خَشِيَه ُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى أُمَّتِهِ مِنْ تَعْظِيْمِ القبوْرِ وَآثارِ الصّالِحِيْنَ ، وَتَصْوِيْرِ تمَاثِيْلِهمُ المفضِي إلىَ عِبَادَتِهَا وَعِبَادَتِهمْ : إنمَا كانَ ذلِك َ في أَوَّل ِ الأَمْرِ ، لِقرْبِ العَهْدِ بعِبَادَةِ الأَوْثان . أَمّا اليوْمَ : فلا ، فقدْ أُمنَتْ هَذِهِ الفِتْنَة !
وَهَذَا باطِلٌ ، بَلْ إنْ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدْ خَشِيَ تِلك َ الفِتْنة َ عَلى أُمَّتِهِ وَصَحَابتهِ ، وَهُوَ فِيْهمْ بيْنَ أَظهُرِهِمْ ، وَفِيْهمْ أَصْحَابهُ ، وَهُمْ حَدِيثو عَهْدٍ باِلوَحْيِّ ، وَقدْ ظهرَ التَّوْحِيْدُ وَاسْتَقرَّ ، وَزَهَقَ الباطِلُ وَالشِّرْك ُ وَاندَحَرَ : فمَا يُخْشَى عَلى مَنْ بَعْدَهُمْ – بَعْدَ وَفاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذهَابِ أَصْحَابهِ ، وَتصَرُّمِ القرُوْن ِ المفضَّلةِ ، وَتخرُّمِ أَئِمَّةِ الإسْلامِ فِيْهَا – لهُوَ أَكثرُ وَأَكبر .(182/50)
لِهَذَا لمّا حَذَّرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنْ فِتْنَةِ المسِيْحِ الدَّجّال ِ، وَبالغَ في التَّحْذِيْرِ حَتَّى قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَا بَعَثَ الله ُمِنْ نبيٍّ إلا َّ أَنذَرَ أُمَّتَهُ ، أَنذَرَهُ نوْحٌ وَالنَّبيُّوْنَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَإنهُ يَخْرُجُ فِيْكمْ فمَا خَفِيَ عَليْكمْ مِنْ شَأْنِهِ ، فليْسَ يَخْفى عَليْكمْ أَنَّ رَبَّكمْ ليْسَ عَلى مَا يَخْفى عَليْكمْ (ثلاثا).
إنَّ رَبَّكمْ ليْسَ بأِعْوَرَ ، وَإنهُ أَعْوَرُ عَيْن ِ اليمْنَى ، كأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَة ٌ طافِيَة» رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(4403)،(3057) ، (3337) وَمُسْلِمٌ (169) مِنْ حَدِيْثِ ابن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا .
فلمّا حَذَّرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ ، وَخَشِيَ أَصْحَابهُ عَلى أَنفسِهمْ فِتْنَتهُ وَشَرَّهُ : قالَ لهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطمْئِنًا:«غيْرُ الدَّجّال ِ أَخْوَفنِي عَليْكمْ ، فإنْ يخْرُجْ وَأَنا فِيْكمْ فأَنا حَجِيْجُهُ دُوْنكمْ . وَإنْ يَخْرُجْ وَلسْتُ فِيْكمْ ، فامْرُؤٌ حَجِيْجُ نفسِهِ ، وَالله ُ خَلِيْفتِي عَلى كلِّ مُسْلم .
إنهُ شَابٌّ جَعْدٌ قطط ٌ، عَيْنُهُ طافِيَة ٌ، وَإنهُ يَخْرُجُ مِنْ خلةٍ بينَ الشّامِ وَالعِرَاق ِ، فعاثٍ يَمِيْنًا وَشِمَالا ً، يَا عِبَادَ اللهِ اثبتوْا» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(4/181) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(2937) وَالتِّرْمِذِيُّ(2240) وَأَبوْ دَاوُوْدَ(4321) وَابنُ مَاجَهْ(4075) مِنْ حَدِيْثِ النوّاس ِ بْن ِسَمْعَانَ رَضِيَ الله ُ عَنْه .(182/51)
فخشْيَة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العُظمَى كانتْ عَلى أُمَّتِهِ بَعْدَ وَفاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا في حَيَاتِه . مَعَ أَنَّ الدَّجّالَ يدَّعِي الإلهِيَّة َ! وَدَعْوَاهُ ظاهِرَة ُ البطلان ِ عِنْدَ المؤْمِنِينَ لا رَيْبَ فِي فسَادِهَا عِنْدَهُمْ وَلا شَك ّ.
فإذا كانتْ فِتْنتهُ عَظِيْمَة ً مَعَ ظهُوْرِ فسَادِهَا ، فكيْفَ بمَثيْلتِهَا شَرًّا وَخُبْثا ، مَعَ خفائِهَا عَلى كثِيرٍ مِنَ المسْلِمِينَ ، وَرَوَاجِهَا عِنْدَ طوَائِفَ مِنْهُمْ ؟!
وَقدْ خَشِيَ فِتْنَة َ الشِّرْكِ أَنبيَاءُ اللهِ وَرُسُلهُ – صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ- عَلى أَنفسِهمْ ، فكيْفَ بمَنْ دُوْنهُمْ؟! قالَ خَلِيْلُ الرَّحْمَن ِ إبْرَاهِيْمُ:{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ }.
لِهَذَا كانَ يَقوْلُ إبْرَاهِيْمُ التَّيْمِيُّ رَحِمَهُ الله ُ:«مَنْ يَأْمَنُ مِنَ البَلاءِ بَعْدَ خَلِيْل ِاللهِ إبْرَاهِيْمَ حِيْنَ يَقوْلُ: رَبِّ { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ } » رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيْرٍ الطبَرِيُّ في«تفسِيْرِه» عِنْدَهَا .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ في«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/452):(وَلعَلَّ بَعْضُ النّاس ِ يُخيَّلُ إليْهِ : أَنَّ ذلِك َ كانَ أَوَّلَ الأَمْرِ ، لِقرْبِ العَهْدِ بعِبَادَةِ الأَوْثان ِ، وَأَنَّ هَذِهِ المفسَدَة َ قدْ أُمِنَتِ اليَوْمَ ! وَليْسَ الأَمْرُ كمَا تخيَّله .
فإنَّ الشِّرْك َ وَتعَلقَ القلوْبِ بغيرِ اللهِ عِبَادَة ً وَاسْتغاثة ً، غالِبٌ عَلى قلوْبِ النّاس ِ في كلِّ وَقتٍ ، إلا َّ مَنْ عَصَمَ الله .
وَالشَّيْطانُ سَرِيْعٌ إلىَ دُعَاءِ النّاس ِ إلىَ ذلِك َ، وَقدْ قالَ الحكِيْمُ الخبيْرُ:{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ }.(182/52)
وَقالَ إمَامُ الحنفاءِ : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } ... وَسَيَعُوْدُ الدِّينُ غرِيبا كمَا بدَأَ ، وَيَصِيْرُ الصَّغِيْرُ كبيْرًا ، فكيْفَ تؤْمَنُ الفِتْنَة؟! بَلْ هِيَ وَاقِعة ٌ كثِيْرَة .
فهَذِهِ هِيَ العِلة ُ المقصُوْدَة ُ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ في النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ ، وَاتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ لِمَنْ تأَمَّلَ الأَحَادِيْثَ وَنظرَ فِيْهَا ،
وَقدْ نصَّ الشّارِعُ عَلى هَذِهِ العِلةِ كمَا تقدَّم)اه كلامُهُ رَحِمَهُ الله .
وَكمَا أَبطلتِ الأَدِلة ُ ظنَّ أُوْلئِك َ الظانيْنَ –لِجَهْلِهمْ- أَمْنَ الفِتْنَةِ : فقدْ أَبطلَ ظنَّهُمْ أَيضًا ، حَالُ المسْلِمِيْنَ بَعْدَ وَفاةِ نبيِّهمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتأَخُّرِ سِنِيِّهمْ .
فوَقعَ كثِيْرٌ مِنْهُمْ فِيْمَا حَذَّرَ مِنْهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَشِيَهُ ، حَتَّى عَمَّ ذلِك َ كثِيْرًا مِنْ بلادِ المسْلِمِيْنَ ، فبُنِيَتِ المشاهِدُ عَلى القبوْرِ ، وَعُظمَ مَنْ فِيْهَا مِنْ مَقبُوْرٍ ، وَصُرِفتْ لهُ أَنوَاعٌ مِنَ العِبَادَاتِ ، فهُمْ يَدْعُوْنهُ ! وَيَسْتَغِيْثوْنَ وَيَسْتَشْفِعُوْنَ ، وَيتوَسَّلوْنَ إلىَ اللهِ بهِ ! وَيطوْفوْنَ حَوْلهُ ! وَيَذْبَحُوْنَ وَينْذُرُوْنَ لهُ ! وَيَحْلِفوْنَ بهِ ! يَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ وَيَخافوْنَ عِقابهُ ! حَتَّى أَصْبَحَ الرَّجُلُ لا يكادُ يجدُ في بلادٍ كثِيْرَةٍ مِنْ بلادِ المسْلِمِيْنَ ، مَسْجِدًا خالِيًا مِنْ قبْر .
بَلْ بَلغَ الحالُ بكثِيْرٍ مِنْ أَصْحَابهَا : أَنْ حَجُّوْا إليْهَا ، وَعَظمُوْا تُرْبتهَا ، وَتبرَّكوْا بجَنَبَاتِهَا ، وَفضلوْا الصَّلاة َ فِيْهَا عَلى كثِيْرٍ مِنْ بيوْتِ اللهِ الخالِيَةِ مِنْ ذلك .(182/53)
بَلْ إنَّ حَالَ جَمَاعَاتٍ مِنْهُمْ ، يَقتضِي تفضِيْلهَا عَلى المسَاجِدِ الثلاثةِ التِي لا تشَدُّ الرِّحَالُ إلا َّ إليْهَا ، فمِنْهُمْ مَنْ يَحُجُّ إليْهَا كلَّ عَامٍ ، وَلمْ يَحُجَّ حَجَّة َ الإسْلامِ ! أَوْ حَجَّ مَرَّة ً وَكفته . أَمّا مَشَاهِدُ المشْرِكِيْنَ وَمَعَابدُهُمْ حَوْلَ القبوْرِ وَفِيْهَا : فلا تكفِيْهِ فِيْهَا مَرَّة ٌ، عِيَاذاً باِللهِ مِنَ الخذْلان .
وَمِمّا زَادَ مِنْ ضَلال ِهَؤُلاءِ وَإغوَائِهمْ ، وَتحَكمِ أَدْوَائِهمْ
بأِبدَانِهمْ : عُلمَاءُ السُّوْءِ ، وَشُيُوْخُ الضَّلالةِ ، نوّابُ إبْلِيْسَ ، وَأَئِمَّة ُ كلِّ مُفلِس ٍ بَئِيْس ٍ، الذِيْنَ زَينوْا لهمْ سُوْءَ أَعْمَالِهمْ ، وَقبيْحَ أَفعَالِهمْ .
إمّا تعَبُّدًا مِنْهُمْ للهِ تَعَالىَ بهَذِهِ الأَعْمَال ِ الشِّرْكِيَّةِ ، مِنْ جِنْس ِ تعَبُّدِ مُشْرِكِي الجاهِلِيَّة .
وَإمّا تكسُّبًا ، وَأَكلا ً لأَمْوَال ِ النّاس ِ باِلبَاطِل ِ، حِيْنَ يبْذُلوْنهَا لِتِلك َ الأَجْدَاثِ ، فإذا انصَرَفوْا – مُفلِسِيْنَ مِنْ دِيْنِهمْ وَمِنْ كرَائِمِ أَمْوَالهِمْ – خلصَ أُوْلئِكَ اللصُوْصُ المبْطِلوْنَ إليْهَا ، فأَخذُوْهَا وَاسْتَأْثرُوْا بهَا .
* * *
فصل
في بيان ِ وَاجِبِ المسْلِمِيْنَ تِجَاهَ المشاهِدِ المبْنِيَّةِ عَلى القبور
إذا تقرَّرَ مَا سَبَقَ بدَلِيْلِهِ ، وَعَلِمْتَ أَنَّ سَببَ شِرْكِ قوْمِ نوْحٍ وَكثِيْرٍ مِنَ الأُمَمِ بَعْدَهُمْ : هُوَ غلوُّهُمْ في الصّالِحِيْنَ ، باِتخاذِهِمْ قبُوْرَهُمْ مَسَاجِدَ ، يُصَلوْنَ فِيْهَا وَإليْهَا ، أَوْ تَصْوِيْرِ تمَاثِيْلِهمْ مِمّا تقدَّمَ تَفصِيْلهُ ، حَتَّى بَالغَ وَشَدَّدَ الشّارِعُ في النَّهْيِّ عَنْ ذلِك َ، وَلعَنَ فاعِلهُ ، وَأَغلظ َ في الوَعِيْدِ ، وَزَادَ في التَّهْدِيد .(182/54)
بَلْ بَلغتْ شِدَّة ُ خَطرِهِ إلىَ أَنْ حَذّرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنْ ذلِك َ، قبيْلَ وَفاتِهِ بخمْس ِ ليال ٍ وَهُوَ في السِّيَاق ِ، مَعَ مَا كانَ يُعَانِيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تِلك َ الحال ِ، وَكانَ يُوْعَك ُ كمَا يُوْعَك ُ الرَّجُلان ِ مِنْ أُمتِهِ ، قالتْ أُمُّ المؤْمِنِيْنَ عَائِشَة ُ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا:(لمّا نزِلَ برَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طفِقَ يَطرَحُ خَمِيْصَة ً لهُ عَلى وَجْههِ ، فإذا اغتمَّ بهَا كشفهَا عَنْ وَجْههِ ، فقالَ وَهُوَ كذَلِك َ:«لعْنَة ُ اللهِ عَلى الْيَهُوْدِ وَالنَّصَارَى، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد» يحَذِّرُ مَا صَنعُوْا، وَلوْلا ذلِك َ أُبرِزَ قبْرُهُ ، غيْرَ أَنهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخذَ مَسْجِدًا) رَوَاهُ البُخارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ»(435) ، (1330)، (1390)،(3453)،(4441)،(5815) ومُسْلِم(531).
وَعَنْ جُنْدُبِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ البجَلِيِّ رَضِيَ الله ُعَنْهُ قالَ : سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبْلَ أَنْ يَمُوْتَ بخمْس ٍ وَهُوَ يَقوْلُ : «إني أَبرَأُ إلى اللهِ أَنْ يَكوْنَ لِي مِنْكمْ خَلِيْلٌ ، فإنَّ الله َ تَعَالىَ قدِ اتخذَني خَلِيْلا ً، كمَا اتخذَ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلا ً، وَلوْ كنتُ مُتخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيْلا ً، لاتخذْتُ أَبا بَكرٍ خَلِيْلا ً، أَلا وَإنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ كانوْا يتخذُوْنَ قبوْرَ أَنْبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، أَلا فلا تتخِذُوا الْقبُوْرَ مَسَاجِدَ ، إني أَنهَاكمْ عَنْ ذلك» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِه»(532).(182/55)
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ في«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/448-449): (فإنمَا نهَى عَنْ ذلِك َ، لأَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَهَا ، وَاتخاذهَا مَسَاجِدَ ، ضَرْبٌ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثان ِ، وَسَبَبٌ إليْهِ ، لأَنَّ عُبّادَ الأَوْثان ِ مَا كانوْا يقوْلوْنَ : إنَّ تِلك َ الحِجَارَة َ وَالخشَبَ خَلقتْهُمْ ! وَإنمَا كانوْا يقوْلوْنَ إنهَا تمَاثِيْلُ أَشْخاص ٍ مُعَظمِيْنَ مِنَ الملائِكةِ أَوِ النُّجُوْمِ أَوِ البشرِ ، وَإنهُمْ بعِبادَتِهمْ ، يتوَسَّلوْنَ إلىَ الله .
فإذا توَسَّلَ العَبْدُ باِلقبْرِ إلىَ اللهِ : فهُوَ عَابدُ وَثن ٍ، حَتَّى يَعْبُدَ الله َ مُخْلِصًا لهُ الدِّينَ ، مِنْ غيْرِ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شُفعَاءَ وَشُرَكاءَ ، كمَا أَمَرَ الله ُ تَعَالىَ بذَلِك َ في كِتَابهِ ، وَيَعْلمَ أَنهُ ليْسَ مِنْ دُوْن ِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيْعٌ كمَا أَخْبَرَ تعَالىَ .
وَلهذَا جَمَعَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيْنَ مَحْق ِ التَّمَاثِيْل ِ، وَتسْوِيةِ القبوْرِ المشْرِفةِ ، إذْ كانَ بكليْهمَا يتوَسَّلُ بعِبَادَةِ البَشَرِ إلىَ الله .
قالَ أَبوْ الهيّاجِ الأَسَدِيُّ : قالَ لِي عَلِيٌّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ :«أَلا أَبعَثك َ عَلى مَا بعَثنِي عَليْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَلا َّ تدَعَ تِمْثالا ً إلا َّ طمَسْتهُ ،
وَلا قبْرًا مُشْرِفا إلا َّ سَوَّيته» رَوَاهُ الجمَاعَة ُ إلا َّ البخارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ ( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(1/89و129) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(969) وَأَبوْ دَاوُوْدَ(3218) وَالتِّرْمِذِيُّ(1049) وَالنَّسَائِيّ(2031).))اه.(182/56)
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ أَبوْ العَبّاس ِ ابْنُ تَيْمية َ في«اخْتِيَارَاتِهِ»(ص133): (وَيَحْرُمُ الإسْرَاجُ عَلى القبوْرِ ، وَاتّخاذُ المسَاجِدِ عَليْهَا ، وَبَيْنَهَا ، وَيتعَينُ إزَالتهَا ، وَلا أَعْلمُ فِيْهِ خِلافا بَيْنَ العُلمَاءِ المعْرُوْفِين)اه.
وَقالَ أَيضًا رَحِمَهُ الله ُ- كمَا في«مَجْمُوْعِ فتاوَاهُ»(17/454)-: (كذَلِك َ قالَ العُلمَاءُ : يَحْرُمُ بناءُ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، وَيَجِبُ هَدْمُ كلِّ مَسْجِدٍ بُنيَ عَلى قبر).
وَقالَ العَلامَة ُ أَبوْ عَبْدِ اللهِ ابْنُ قيِّمِ الجوْزِيةِ رَحِمَهُ الله ُ في«إغاثةِ اللهْفان»(1/209-210):(فمِنَ الأَنْصَابِ: مَا قدْ نصَبهُ الشَّيْطانُ لِلمُشْرِكِيْنَ ، مِنْ شَجَرَةٍ ، أَوْ عَمُوْدٍ ، أَوْ وَثن ٍ، أَوْ قبْرٍ ، أَوْ خَشَبَةٍ ، أَوْ عَيْن ٍ وَنحْوِ ذلك .
وَالوَاجِبُ : هَدْمُ ذلِك َ كلهِ ، وَمَحْوُ أَثرِهِ ، كمَا أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا رَضِيَ الله ُ عَنْهُ بهَدْمِ القبوْرِ المشْرِفةِ وَتَسْوِيَتِهَا باِلأَرْض ِ، كمَا رَوَى مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(969) عَنْ أَبي الهيّاجِ الأَسَدِيِّ قالَ:قالَ لِي عَلِيٌّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ:«أَلا أَبعَثك َعَلى مَا بَعَثنِي عَليْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ لا أَدَعَ تِمْثالا ً إلا َّ طمَسْتهُ ، وَلا قبْرًا مُشْرِفا إلا َّ سَوَّيته».
وَعَمَّى الصَّحَابة ُبأَمْرِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قبْرَ دَانيالَ وَأَخْفوْهُ عَن ِالنّاس .
وَلما بَلغهُ أَنَّ النّاسَ يَنْتَابوْنَ الشَّجَرَة َ التي بَايَعَ تَحْتَهَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابهُ : أَرْسَلَ فقطعَهَا .(182/57)
رَوَاهُ ابْنُ وَضّاحٍ في كِتَابهِ فقالَ:سَمِعْتُ عِيْسَى بْنَ يُوْنسَ يَقوْلُ:«أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الخطابِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ بقطعِ الشَّجَرَةِ التي بوْيعَ تَحْتَهَا النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقطعَهَا ، لأَنَّ النّاسَ كانوْا يَذْهَبُوْنَ فيصَلوْنَ تَحْتَهَا ، فخافَ عَليْهمُ الفِتْنة».
قالَ عِيْسَى بْنُ يُوْنسَ:«وَهُوَ عِنْدَنا مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ عَوْن ٍ عَنْ نافِعٍ : أَنَّ النّاسَ كانوْا يَأْتوْنَ الشَّجَرَة َ، فقطعَهَا عُمَرُ رَضِيَ الله ُعَنْه» ( - «مَا جَاءَ في البدَعِ»(ص91) لابْن ِ وَضّاحٍ القرْطبيِّ رَحِمَهُ الله(ت287ه).
وَقالَ ابْنُ وَضّاحٍ بَعْدَهُ (ص91-92):(وَكانَ مَالِك ُ بْنُ أَنس ٍ وَغيْرُهُ مِنْ عُلمَاءِ المدِيْنَةِ : يَكرَهُوْنَ إتيانَ تِلك َ المسَاجِدِ ، وَتِلك َ الآثارِ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَا عَدَا قباءً وَاحِدًا .
وَسَمِعْتُهُمْ يَذْكرُوْنَ : أَنَّ سُفيَانَ الثوْرِيَّ دَخَلَ مَسْجِدَ بَيْتِ المقدِس ِ فصَلى فِيْهِ ، وَلمْ يَتبعْ تِلك َ الآثارَ ، وَلا الصَّلاة َ فِيْهَا . وَكذَلِك َ فعَلَ غيْرُهُ مِمَّنْ يُقتدَى به . وَقدِمَ وَكِيْعٌ أَيْضًا مَسْجِدَ بَيْتِ المقدِس ِ، فلمْ يَعْدُ فِعْلَ سُفيَان .
فعَليْكمْ باِلاتباعِ لأَئِمَّةِ الهدَى المعْرُوْفِيْنَ ، فقدْ قالَ بَعْضُ مَنْ مَضَى:«كمْ مِنْ أَمْرٍ هُوَ اليوْمَ مَعْرُوْفٌ عِنْدَ كثِيْرٍ مِنَ النّاس ِ: كانَ مُنْكرًا عِنْدَ مَنْ مَضَى ، وَمُتَحَبَّبٍ إليْهِ بمَا يُبْغِضُهُ عَليْهِ ، وُمُتقرَّبٍ إليْهِ بمَا يُبْعِدُهُ مِنْه» ، وَكلُّ بدْعةٍ عَليْهَا زِينة ٌ وَبَهْجَة)اه كلامُهُ رَحِمَهُ الله .(182/58)
فإذا كانَ هَذَا حَالُ أَئِمَّةِ السَّلفِ ، وَأَئِمَّةِ الإسْلامِ أَئِمَّةِ الهدَى رَحِمَهُمُ الله ُ مَعَ آثارِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآثارِ الأَنبيَاءِ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ : فكيْفَ بحَال ِ أُوْلئِك َ المبْطِلِينَ مَعَ آثارِ أَصَاغِرِهِمْ وَضُلاّلهِمْ؟!).
فإذا كانَ هَذَا فِعْلُ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ باِلشَّجَرَةِ التي ذكرَهَا الله ُ تَعَالىَ في القرْآن ِ، وَبايعَ تَحْتَهَا الصَّحَابة ُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فمَاذا حُكمُهُ فِيْمَا عَدَاهَا مِنْ هَذِهِ الأَنْصَابِ وَالأَوْثان ِ، التي قدْ عَظمَتِ الفِتنة ُ بهَا ، وَاشْتَدَّتِ البَلِيَّة ُ بهَا.
وَأَبلغُ مِنْ ذلِك َ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَمَ مَسْجِدَ الضِّرَارِ ، ففِي هَذَا دَلِيْلٌ عَلى هَدْمِ مَا هُوَ أَعْظمُ فسَادًا مِنْهُ ، كالمسَاجِدِ المبْنِيَّةِ عَلى القبوْر .
فإنَّ حُكمَ الإسْلامِ فِيْهَا : أَنْ تهْدَمَ كلهَا حَتَّى تُسَوَّى باِلأَرْض ِ، وَهِيَ أَوْلىَ باِلهدْمِ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَار.
وَكذَلِك َ القِبَابُ التي عَلى القبوْرِ : يَجِبُ هَدْمُهَا كلهَا ، لأَنهَا أُسِّسَتْ عَلى مَعْصِيَةِ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لأَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدْ نهَى عَن ِ البنَاءِ عَلى القبوْرِ كمَا تقدَّم .
فبنَاءٌ أُسِّسَ عَلى مَعْصِيَتِهِ وَمُخالفتِهِ : بناءٌ غيْرُ مُحْتَرَمٍ ، وَهُوَ أَوْلىَ باِلهدْمِ مِنْ بناءِ الغاصِبِ قطعًا .
وَقدْ أَمَرَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهَدْمِ القبوْرِ المشْرِفةِ كمَا تقدَّم .(182/59)
فهَدْمُ القِبَابِ وَالبناءِ وَالمسَاجِدِ التي بُنِيَتْ عَليْهَا أَوْلىَ وَأَحْرَى ، لأَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَنَ مُتَّخِذِي المسَاجِدِ عَليْهَا ، وَنهَى عَن ِ البناءِ عَليْهَا .
فيَجِبُ المبادَرَة ُ وَالمسَاعَدَة ُ إلىَ هَدْمِ مَا لعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعِلهُ ، وَنهَى عَنْه.
وَالله ُ عَزَّ وَجَلَّ يُقِيْمُ لِدِينِهِ وَسُنةِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَنْصُرُهُمَا ، وَيَذُبُّ عَنْهُمَا ، فهُوَ أَشدُّ غيْرَة ً ، وَأَسْرَعُ تَغْييْرًا .
وَكذَلِك َ يَجِبُ إزَالة ُ كلِّ قِنْدِيْل ٍ، أَوْ سِرَاجٍ عَلى قبْرٍ وَطفيه . فإنَّ فاعِلَ ذلِك َ مَلعُوْنٌ بلعْنَةِ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا يَصِحُّ هَذَا الوَقفُ ، وَلا يَحِلُّ إثباتهُ وَتنْفِيْذُه).
وَقالَ ابْنُ القيِّمِ رَحِمَهُ الله ُ أَيْضًا في«زَادِ المعَادِ» عِنْدَ ذِكرِهِ وَتعْدَادِهِ فوَائِدَ غزْوَةِ تبوْكٍ وَشَيْئًا مِنْ فِقههَا(3/571-572) قالَ: (وَمِنْهَا: تَحْرِيْقُ أَمْكِنَةِ المعْصِيَةِ التي يُعْصَى الله ُ وَرَسُوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْهَا وَهَدْمُهَا ، كمَا حَرَقَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ الضِّرَارِ ، وَأَمَرَ بهَدْمِهِ . وَهُوَ مَسْجِدٌ يُصَلى فِيْهِ ، وَيُذْكرُ اسْمُ اللهِ فِيْهِ ، لمّا كانَ بناؤُهُ ضِرَارًا ، وَتفرِيْقا بَيْنَ المؤْمِنِيْنَ ، وَمَأْوَىً لِلمُنَافِقِيْن .
وَكلُّ مَكان ٍ هَذَا شَأْنهُ : فوَاجِبٌ عَلى الإمَامِ تعْطِيْلهُ :
إمّا بهَدْمٍ وَتَحْرِيْق ٍ ،
وَإمّا بتغْييْرِ صُوْرَتِهِ ، وَإخْرَاجِهِ عَمّا وُضِعَ له .(182/60)
وَإذا كانَ هَذَا شَأْنُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ : فمَشَاهِدُ الشِّرْكِ التي تدْعُوْ سَدَنتُهَا إلىَ اتخاذِ مَنْ فِيْهَا أَندَادًا مِنْ دُوْن ِ اللهِ : أَحَقُّ باِلهدْمِ ، وَأَوْجَب)اه كلامُه .
إذا عَلِمْتَ ذلِك َ كلهُ : فوَاجِبُ المسْلِمِيْنَ تِجَاهَ هَذِهِ المسَاجِدِ المبنِيَّةِ عَلى قبوْرِ الأَنْبيَاءِ وَالعُلمَاءِ وَالشُّيُوْخِ وَالملوْكِ وَغيْرِهِمْ : أَنْ لا تتخذَ مَسَاجِدَ ، بَلْ يُقطعُ ذلِك َ عَنْهَا ، إمّا بهَدْمِهَا ، أَوْ سَدِّهَا ، أَوْ نحْوِ ذلك مِمّا يَمْنَعُ أَنْ تتخذَ مَسْجِدًا .
فصل
في بيان ِ تَحْرِيْمِ الوَقفِ لِلمَشاهِدِ وَالنذْرِ لها وَإسْرَاجِهَا
وَكمَا لا تَصِحُّ الصَّلاة ُ مُطلقا في شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ المسَاجِدِ المبْنِيَّةِ عَلى القبوْرِ، أَوْ فِيْهَا شَيْءٌ مِنْهَا : فلا يجُوْزُ الوَقفُ عَليْهَا ، وَلا يَصِحُّ ، فإنْ أَوْقفَ : لمْ يُعْمَلْ بهِ ، وَكانَ الوَاقِفُ آثِمًا .
وَلا يجُوْزُ إسْرَاجُ ضَوْءٍ فِيْهَا ، لأَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَنَ مَنْ يتَّخِذُ القبوْرَ مَسَاجِدَ ، وَلعَنَ مَنْ يتَّخِذُ عَليْهَا السُّرُج .
وَقدْ عَدَّ ابنُ حَجَرٍ الهيْتَمِيُّ في«الزَّوَاجِرِ ، عَن ِ اقتِرَافِ الكبَائِر»(1/320): إيْقادَ السُّرُجِ عَلى القبوْرِ مِنَ الكبَائِرِ العِظامِ ، وَجَعَلهَا كبيْرَة ً في مَوْضِعَيْن ِ مِنْ كِتَابهِ ، فجَعَلهَا الكبيْرَة َ الرَّابعَة َ وَالتِّسْعِيْنَ ، ثمَّ أَعَادَهَا(1/361) وَجَعَلهَا الكبيْرَة َ الثّانِيَة َ وَالعِشْرِيْنَ بَعْدَ المِئَة .(182/61)
وَلا يَصِحُّ النذْرُ لها ، بَلْ هُوَ نذْرُ مَعْصِيَةٍ ، تجبُ فِيْهِ التوْبة ُ وَالكفارَة ُ، وَكفارَتهُ كفارَة ُ يَمِيْن ٍ، كمَا ثبتَ فِي «صَحِيْحِ البُخارِيِّ»(6696) عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«مَنْ نذَرَ أَنْ يُطِيْعَ الله َ فليطِعْهُ ، وَمَنْ نذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله َ فلا يَعْصِه».
وَذكرَ هَذَا شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ في«شَرْحِ العُمْدَةِ» وَرَجَّحَهُ ، وَلا يَسَعُ أَحَدًا خِلافه (2/450).
وَقالَ العَلامَة ُ أَبوْ عَبْدِ اللهِ ابْنُ قيِّمِ الجوْزِيةِ في كِتَابهِ«زَادِ المعادِ»(3/572) في ذِكرِ فوَائِدِ غزْوَةِ تبوْكٍ:(وَمِنْهَا: أَنَّ الوَقفَ لا يَصِحُّ عَلى غيْرِ برٍّ وَلا قرْبةٍ ، كمَا لمْ يَصِحَّ وَقفُ هَذَا المسْجِدِ [يَعْني مَسْجِدَ الضِّرَار] .
وَعَلى هَذَا : فيُهْدَمُ المسْجِدُ إذا بُني عَلى قبْرٍ ، كمَا يُنْبَشُ الميِّتُ إذا دُفِنَ في المسْجِدِ ، نصَّ عَلى ذلِك َ الإمَامُ أَحْمَدُ وَغيْرُه .
فلا يَجْتَمِعُ في دِيْن ِالإسْلامِ مَسْجِدٌ وَقبْرٌ ، بَلْ أَيهُمَا طرَأَ عَلى الآخَرِ : مُنِعَ مِنْهُ ، وَكانَ الحكمُ لِلسّابق .
وَلوْ وُضِعَا مَعًا : لمْ يَجُزْ .
وَلا يَصِحُّ هَذَا الوَقفُ وَلا يَجُوْز .
وَلا تَصِحُّ الصَّلاة ُ في هَذَا المسْجِدِ ، لِنَهْيِّ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذلِك َ، وَلعْنِهِ مَن ِ اتخذَ القبْرَ مَسْجِدًا ، أَوْ أَوْقدَ عَليْهِ سِرَاجًا .
فهَذَا دِيْنُ الإسْلامِ الذِي بعَثَ الله ُ بهِ رَسُوْلهُ وَنبيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَغرْبتهُ بيْنَ النّاس ِ كمَا ترَى).(182/62)
وَقالَ رَحِمَهُ الله ُ أَيْضًا في«إغاثةِ اللهْفان»(1/210):(وَكذَلِك َ يجبُ إزَالة ُ كلِّ قِنْدِيْل ٍ، أَوْ سِرَاجٍ عَلى قبْرٍ وَطفيه . فإنَّ فاعِلَ ذلِك َ مَلعُوْنٌ بلعْنَةِ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا يَصِحُّ هَذَا الوَقفُ ، وَلا يحِلُّ إثباتهُ وَتنْفِيْذُه)اه.
وَقالَ الحافِظ ُ العِرَاقِيُّ رَحِمَهُ الله ُ:(وَالظاهِرُ أَنهُ لا فرْقَ ( - أَي لا فرْقَ بَيْنَ اتّخَاذِ المسْجِدِ عَلى القبْرِ بَعْدَ الدَّفن ِ، وَبَيْنَ بنَاءِ مَسْجِدٍ ثمَّ إدْخَالُ قبْرٍ فِيْه .): فلوْ بَنى مَسْجِدًا يَقصِدُ أَنْ يُدْفنَ في بَعْضِهِ : دَخَلَ في اللعْنَةِ ، بَلْ يَحْرُمُ الدَّفنُ في المسْجِد .
وَإنْ شَرَط َ أَنْ يُدْفنَ فِيْهِ : لمْ يَصِحَّ الشَّرْط ُ، لِمُخالفتِهِ وَقفهُ مَسْجِدًا)اه نقلهُ عَنْهُ المنَاوِيُّ في«فيْض ِ القدِيْر»(5/274).
فصل
في بيان ِ ضَلال ِ مَنْ شَدَّ رَحْلهُ إلىَ مَشْهَدٍ أَوْ قبْرٍ ، وَتَحْرِيْمِ شَدِّ الرِّحَال ِ إلىَ كلِّ مَسْجِدٍ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثةِ ، وَالتَّنْبيْهِ عَلى عِلةِ النَّهْيِّ التي غابَتْ عَنْ كثِيْرٍ مِنْ قاصِرِي العِلمِ وَالمعْرِفة
رَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِه»(2/234)،(3/34) وَالبُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1189)،(1864)،(1996) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ» أَيْضًا (397)، (827) وَجَمَاعَة ٌ، مِنْ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ وَأَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«لا تشَدُّ الرِّحَالُ إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِدَ : المسْجِدِ الحرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُوْل ِ، وَالمسْجِدِ الأَقصَى».(182/63)
وَفي هَذَا الحدِيْثِ : تَحْرِيْمُ شَدِّ الرِّحَال ِ إلىَ كلِّ مَسْجِدٍ أَوْ بُقعَةٍ يُظنُّ فضْلهَا بعَيْنِهَا ، سِوَى هَذِهِ المسَاجِدِ الثلاثةِ ، سَوَاءٌ كانتْ تِلك َ البقاعُ مَذْكوْرَة ً بفضْل ٍ أَوْ بَرَكةٍ كالطوْرِ ، أَوْ لمْ تذْكرْ ، وَسَوَاءٌ كانتْ قبْرَ نبيٍّ مِنَ الأَنبيَاءِ ، أَوْ أَثرًا مِنْ آثارِهِ ، وَلوْ كانَ قبْرَ نبيِّنَا محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلا شَك َّ أَنَّ زِيَارَة َ القبوْرِ الزِّيارَة َ الشَّرْعِيَّة َ، خَاصة ً قبْرَ نبيِّنَا محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قرْبة ٌ مِنَ القرَبِ ، وَطاعَة ٌمِنَ الطاعَات .
إلا َّ أَنَّ ذلِك َ مَشْرُوْط ٌ بعَدَمِ شَدِّ رَحْل ٍ، وَلا إعْمَال ِ مُطِيٍّ، لِلحدِيْثِ السّابق.
فمَنْ شَدَّ رِحَالهُ قاصِدًا المسْجِدَ النَّبَوِيَّ لِلصَّلاةِ فِيْهِ : شُرِعَ لهُ بَعْدَ وُصُوْلِهِ وَسُنَّ ، زِيَارَة ُ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالسَّلامُ عَليْهِ ، وَعَلى صَاحِبَيْهِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا .
أَمّا إنْ كانَ شَدُّهُ لِرَحْلِهِ قاصِدًا القبْرَ الشَّرِيْفَ : فهَذَا آثِمٌ ، مُخالِفٌ لِقوْل ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مُرْتكِبًا لِنَهْيه .
وَمِنَ المعْلوْمِ : أَنَّ كلَّ مَنْ زَارَ المسْجِدَ النَّبَوِيَّ : زَارَ قبْرَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سَوَاءٌ كانَ بَاعِثهُ عَلى السَّفرِ المسْجِدُ أَوِ القبْرُ ، إلا َّ أَنَّ الأَوَّلَ مُثابٌ لِمُوَافقتِهِ السُّنَّة َ، وَامْتِثالِهِ أَمْرَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالآخرَ آثِمٌ لِمُخالفتِهَا .(182/64)
وَقدْ سُئِلَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ عَمَّنْ شَدَّ رَحْلهُ لِزِيَارَةِ شَيْءٍ مِنْ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالِحِيْنَ ، أَيَجُوْزُ لهُ ذلك؟ وَهَلْ لهُ التَّرَخُّصُ برُخص ِ المسَافِرِيْنَ أَوْ لا؟ وَمَاصِحَّة ُ مَا جَاءَ في ذلِك َ مِنْ أَحَادِيْثَ بالمنْعِ أَوِ الإبَاحَة؟
فأَجَابَ رَحِمَهُ الله ُ جَوَابًا وَافِيًا شَافِيًا ، هَذَا نصُّهُ :
(الحمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ، أَمّا مَنْ سَافرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالِحِينَ ، فهَلْ يجُوْزُ لهُ قصْرُ الصَّلاةِ؟ عَلى قوْليْن ِ مَعْرُوْفيْن ِ:
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قوْلُ مُتَقدِّمِي العُلمَاءِ الذِيْنَ لا يُجَوِّزُوْنَ القصْرَ فِي سَفرِ المعْصِيَةِ ، كأَبي عَبْدِ اللهِ ابْن ِ بَطة َ، وَأَبي الوَفاءِ ابْن ِ عَقِيْل ٍ، وَطوَائِفَ كثِيْرَةٍ مِنَ العُلمَاءِ المتقدِّمِيْنَ-: أَنهُ لا يَجُوْزُ القصْرُ فِي مِثْل ِ هَذَا السَّفرِ ، لأَنهُ سَفرٌ مَنْهيٌّ عَنْه .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ : أَنَّ السَّفرَ المنْهيَّ عَنْهُ فِي الشَّرِيْعَةِ لا يُقصَرُ فِيْه .
وَالقوْلُ الثانِي : أَنهُ يَقصِرُ ، وَهَذَا يَقوْلهُ مَنْ يُجَوِّزُ القصْرَ فِي السَّفرِ المحَرَّمِ ، كأَبي حَنِيْفة .
وَيقوْلهُ بَعْضُ المتأَخِّرِيْنَ مِنْ أَصْحَابِ الشّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ، مِمَّنْ يُجَوِّزُ السَّفرَ لِزِيَارَةِ قبوْرِ الأَنبياءِ وَالصّالِحِيْنَ ، كأَبي حَامِدٍ الغزّالِيِّ ، وَأَبي الحسَن ِ ابْن ِعَبْدُوْس ٍ الحرّانِيِّ ، وَأَبي مُحَمَّدٍ ابْن ِ قدَامة َالمقدِسِيّ .
وَهَؤُلاءِ يَقوْلوْنَ : إنَّ هَذَا السَّفرَ ليْسَ بمُحَرَّمٍ ، لِعُمُوْمِ قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«زُوْرُوْا القبوْر»( - رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(976) مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه.).(182/65)
وَقدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لا يَعْرِفُ الحدِيْثَ باِلأَحَادِيْثِ المرْوِيةِ فِي زِيارَةِ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كقوْلِهِ«مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي : فكأَنمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي» رَوَاهُ الدّارَقطنِيّ(2/278).
وَأَمّا مَا ذكرَهُ بَعْضُ النّاس ِ مِنْ قوْلِهِ:«مَنْ حَجَّ وَلمْ يَزُرْنِي : فقدْ جَفانِي»: فهَذَا لمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِن العُلمَاء .
وَهُوَ مِثْلُ قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبي إبْرَاهِيْمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ : ضَمِنْتُ لهُ عَلى اللهِ الجنة».
فإنَّ هَذَا أَيضًا باتفاق ِ العُلمَاءِ : لمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ ، وَلمْ يَحْتَجَّ بهِ أَحَدٌ ، وَإنمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بحدِيْثِ الدّارَقطنِيِّ وَنَحْوِه .
وَقدِ احْتَجَّ أَبوْ مُحَمَّدٍ المقدِسِيُّ ( - «المغني» لابْن ِ قدَامَة (3/117-118).) عَلى جَوَازِ السَّفرِ لِزِيارَةِ القبورِ ، بأَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَزُوْرُ مَسْجِدَ قباء( - رَوَاهُ البُخَارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1192)،(1193)،(1194) وَمُسْلِمٌ(1399) مِنْ حَدِيْثِ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ:«كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قباءَ كلَّ سَبْتٍ ، مَاشِيًا وَرَاكِبا»، قالَ نافِعٌ :«وَكانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَفعَله».(182/66)
قلتُ : وَلا وَجْهَ لاسْتِدْلال ِأَبي محمَّدٍ بهِ ، فإنَّ زِيَارَة َمَسْجِدِ قباءَ لأَهْل ِ المدِيْنةِ ، خَالِيَة ٌ مِنْ شَدِّ الرِّحَال ِ لِقرْبه . وَهِيَ مُسْتَحَبَّة ٌ مَسْنُوْنة ٌ لهمْ ، اقتِدَاءًا بفِعْل ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقدْ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيْهِ –لِقرْبهِ- مَاشِيًا وَرَاكِبًا . بَلْ قالَ أَنسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ:«كنّا نصَلي العَصْرَ، ثمَّ يَذْهَبُ الذّاهِبُ مِنّا إلىَ قباءَ ، فيَأْتِيْهمْ وَالشَّمْسُ مُرْتفِعَة ٌ» رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(551) وَمُسْلِمٌ(621)، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ في شَدِّ الرَّحْل ِ لِزِيَارَةِ مَسْجِدٍ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثة .
أَمّا جَوَابُ أَبي مُحَمَّدٍ ابْن ِ قدَامَة َ عَلى حَدِيْثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِدَ»، عَلى نفي اسْتِحْبَابِ شَدِّها لِغيْرِهَا ، ثمَّ تَجْوِيْزُهُ شَدَّ الرِّحَال ِ لِلمَسَاجِدِ عَامَّة ً غيرَ المسَاجِدِ الثلاثةِ ، بزِيَارَةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمِسَجْدِ قباء : غيْرُ مُسَلمٍ ، وَفِيْهِ تعَارُضٌ وَتنَاقض :(182/67)
* فإنهُ إمّا أَنْ يَنْفِيَ اسْتِحْبَابَ زِيَارَةِ مَسْجِدِ قباءَ ، لِيَسْتَقِيْمَ تَأْوِيْلهُ لِحَدِيْثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ»: فيُخالِفَ بذَلِك َ السُّنَّة َ الصَّحِيْحَة َ الصَّرِيْحَة . بَلْ يُخالِفُ مَا وَرَدَ مِنْ عَظِيْمِ فضْل ِ زِيَارَتِهِ ، كقوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحدِيْثِ الصَّحِيْحِ:«مَنْ تطهَّرَ فِي بَيْتهِ ، ثمَّ أَتى مَسْجِدَ قباءَ ، لا يُرِيْدُ إلا َّ الصَّلاة َ فِيْهِ : كانَ كعُمْرَة» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(3/487) وَالنَّسَائِيُّ (699) وَابنُ مَاجَهْ (1412) مِنْ حَدِيْثِ سَهْل ِ بْن ِ حُنَيْفٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه . وَأَقطعُ بعَدَمِ قوْل ِ ابن ِ قدَامَة َ بذَلِك َ، لِعِلمِهِ بمَا وَرَدَ في سُنِّيَّةِ ذلِك َ، وَبنَاءًا عَلى أُصُوْلِه .
* وَإمّا أَنْ يَسْتَحِبَّ زِيَارَة َ مَسْجِدِ قباءَ ، كمَا جَاءَتْ بهِ السُّنَّة ُ: فيَسْقط ُ تأْوِيْلهُ لحدِيْثِ«لا تُشَدُّ الرِّحَال».
وَعَلى كلا الحاليْن ِ، فكلامُ أَبي محمَّدٍ غيْرُ مَقبُوْل . وَمَعْنَى الحدِيْثِ الذِي لا رَيْبَ فِيْهِ : هُوَ مَا قرَّرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ كمَا سَبَق .).
وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ» بأَنَّ ذلك مَحْمُوْلٌ عَلى نفي الاسْتِحْبَاب .
وَأَمّا الأَوَّلوْنَ فإنهُمْ يَحْتَجُّوْنَ بمَا فِي«الصَّحِيحَيْن»ِ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ:«لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِدَ : المسْجدِ الحرَامِ ، وَمَسْجِدِي هَذَا ، وَالمسْجدِ الأَقصَى».
وَهَذَا الحدِيْثُ مِمَّا اتفقَ الأَئِمَّة ُ عَلى صِحَّتِهِ وَالعَمَل ِ به .(182/68)
فلوْ نذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَشُدَّ الرَّحْلَ ، لِيُصَليَ بمَسْجدٍ ، أَوْ مَشْهَدٍ ، أَوْ يَعْتَكِفَ فِيْهِ ، أَوْ يُسَافِرَ إليْهِ غيْرَ هَذِهِ الثلاثةِ : لمْ يَجِبْ عَليْهِ ذلِك َ باتفاق ِ الأَئِمَّة .
وَلوْ نذَرَ أَنْ يُسَافِرَ وَيَأْتِيَ المسْجدَ الحرَامَ ، لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ : وَجَبَ عَليْهِ ذلِك َ باتفاق ِ العُلمَاء .
وَلوْ نذَرَ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ المسْجِدَ الأَقصَى ، لِصَلاةٍ أَوِ اعْتِكافٍ : وَجَبَ عَليْهِ الوَفاءُ بهَذَا النَّذْرِ عِنْد مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قوْليْهِ وَأَحْمَدَ . وَلمْ يَجِبْ عَليْهِ عِنْدَ أَبي حَنِيْفة َ، لأَنهُ لا يَجِبُ عِنْدَهُ بالنَّذْرِ إلا َّ مَا كانَ جِنْسُهُ وَاجِبًا باِلشَّرْع .
أَمّا الجمْهُورُ فيوجِبُوْنَ الوَفاءَ بكلِّ طاعَةٍ ، كمَا ثبتَ فِي «صَحِيْحِ البُخارِيِّ»(6696) عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«مَنْ نذَرَ أَنْ يُطِيْعَ الله َ فليطِعْهُ ، وَمَنْ نذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله َ فلا يَعْصِه». وَالسَّفرُ إلىَ المسْجِدَيْن ِ طاعَة ٌ : فلِهَذَا وَجَبَ الوَفاءُ به .
وَأَمّا السَّفرُ إلىَ بُقعَةٍ غيْرَ المسَاجِدِ الثلاثةِ : فلمْ يُوْجِبْ أَحَدٌ مِنَ العُلمَاءِ السَّفرَ إليْهِ إذا نذَرَهُ ، حَتَّى نصَّ العُلمَاءُ عَلى أَنهُ لا يُسَافرُ إلىَ مَسْجِدِ
قباءَ ، لأَنهُ ليْسَ مِنَ المسَاجِدِ الثلاثةِ .(182/69)
مَعَ أَنّ مَسْجِدَ قباءَ يُسْتحَبُّ زِيارَتهُ لِمَنْ كانَ فِي المدِيْنَةِ ; لأَنَّ ذلِك َ ليْسَ بشَدِّ رَحْل ٍ كمَا فِي الحدِيْثِ الصَّحِيْحِ:«مَنْ تطهَّرَ فِي بَيْتهِ ، ثمَّ أَتى مَسْجِدَ قباءَ ، لا يرِيدُ إلا َّ الصَّلاة َ فِيْهِ ، كانَ كعُمْرَة»( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(3/487) وَالنَّسَائِيُّ(699) وَابْنُ مَاجَهْ(1412) مِنْ حَدِيْثِ سَهْل ِ بْن ِ حُنَيْف.).
قالوْا : وَلأَنَّ السَّفرَ إلىَ زِيَارَةِ قبوْرِ الأَنبياءِ وَالصّالِحِيْنَ بدْعَة ٌ ، لمْ يَفعَلهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابةِ وَلا التّابعِيْنَ ، وَلا أَمَرَ بهَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا اسْتَحَبَّ ذلِك َ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ المسْلِمِيْن .
فمَن ِ اعْتَقدَ ذلِك َ عِبَادَة ً وَفعَلهُ : فهُوَ مُخالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلإجْمَاعِ الأَئِمَّة .
وَهَذَا مِمَّا ذكرَهُ أَبوْ عَبْدِ اللهِ ابْنُ بَطة َ فِي«الإبانةِ الصُّغْرَى»(ص89) مِنَ البدَعِ المخالِفةِ لِلسُّنَّةِ وَالإجْمَاع .
وَبهَذَا يَظهَرُ بُطلانُ حُجَّةِ أَبي مُحَمَّدٍ المقدِسِيِّ ، لأَنَّ زِيَارَة َ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِ قباءَ ، لمْ تَكنْ بشَدِّ رَحْل ٍ، وَهُوَ يُسَلمُ لهُمْ أَنَّ السَّفرَ إليْهِ لا يَجِبُ بالنذْر .
وَقوْلهُ بأَنَّ الحدِيْثَ الذِي مَضْمُونهُ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ» ، مَحْمُوْلٌ عَلى نفي الاسْتِحْبَابِ : يجَابُ عَنْهُ بوَجْهَيْن ِ:
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا تَسْلِيْمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفرَ ليْسَ بعَمَل ٍ صَالِحٍ ، وَلا قرْبةٍ ، وَلا طاعَةٍ ، وَلا هُوَ مِنَ الحسَنات .
فإذنْ مَن ِ اعْتَقدَ أَنَّ السَّفرَ لِزِيَارَةِ قبوْرِ الأَنبياءِ وَالصّالِحِينَ قرْبة ٌ ، وَعِبَادَة ٌ ، وَطاعَة ٌ : فقدْ خَالفَ الإجْمَاع .(182/70)
وَإِذا سَافرَ لاعْتِقادِ أَنَّ ذلِك َ طاعَة ٌ: كانَ ذلك مُحَرَّمًا بإجْمَاعِ المسْلِمِين .
فصَارَ التَّحْرِيْمُ مِنْ جهةِ اتخاذِهِ قرْبة ً ، وَمَعْلومٌ أَنَّ أَحَدًا لا يُسَافِرُ إليْهَا إلا َّ لِذَلِك .
وَأَمّا إذا نذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ إليْهَا لِغرَض ٍ مُبَاحٍ : فهَذَا جَائِزٌ ، وَليْسَ مِنْ هَذَا الباب .
الوَجْهُ الثانِي: أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ يَقتضِي النَّهْيَ ، وَالنَّهْيُ يَقتضِي التَّحْرِيْم .
وَمَا ذكرُوْهُ مِنَ الأَحَادِيْثِ فِي زِيارَةِ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فكلهَا ضَعِيْفة ٌ، باِتفاق ِ أَهْل ِ العِلمِ باِلأَحَادِيْث .
بَلْ هِيَ مَوْضُوْعَة ٌ، لمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْ أَهْل ِ السُّنَن ِ المعْتَمَدَةِ شَيْئًا مِنْهَا ، وَلمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ بشَيْءٍ مِنْهَا .
بَلْ مَالِك ٌ- إمَامُ أَهْل ِ المدِيْنَةِ النبَوِيةِ ، الذِيْنَ هُمْ أَعْلمُ النّاس ِ بحُكمِ هَذِهِ المسْأَلةِ -: كرِهَ أَنْ يَقوْلَ الرَّجُلُ :«زُرْتُ قبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » .
وَلوْ كانَ هَذَا اللفظ ُ مَعْرُوْفا عِنْدَهُمْ ، أَوْ مَشْرُوْعًا ، أَوْ مَأْثوْرًا عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لمْ يَكرَهْهُ عَالِمُ أَهْل ِ المدِينة .
وَالإمَامُ أَحْمَدُ أَعْلمُ النّاس ِ فِي زَمَانِهِ باِلسُّنَّةِ : لمَّا سُئِلَ عَنْ ذلِك َ، لمْ يَكنْ عِنْدَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَليْهِ فِي ذلِك َ مِنَ الأَحَادِيْثِ إلا َّ حَدِيْثُ أَبي هُرَيرَة َ
رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :«مَا مِنْ رَجُل ٍ يُسَلمُ عَليَّ إلا َّ رَدَّ الله ُ عَليَّ رُوْحِي حَتَّى أَرُدَّ عَليْهِ السَّلام»، وَعَلى هَذَا اعْتَمَدَ أَبوْ دَاوُوْدَ في«سُنَنِه»(2041).(182/71)
وَكذَلِك َ مَالِك ٌ فِي«الموَطإ»: رَوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا: أَنهُ كانَ إذا دَخَلَ المسْجِدَ قالَ:«السَّلامُ عَليْك َ يَا رَسُوْلَ اللهِ ، السَّلامُ عَليْك َ يَا أَبا بَكرٍ، السَّلامُ عَليْك َ يا أَبةِ» ثمَّ يَنْصَرِف .
وَفي«سُنَن ِ أَبي دَاوُوْدَ»(2041) عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ:«لا تتخِذُوْا قبْرِي عِيْدًا ، وَصَلوْا عَليَّ فإنَّ صَلاتكمْ تبْلغنِي حَيْثمَا كنتمْ».
وَفِي«سُنَن ِسَعِيْدِ بْن ِ مَنْصُوْرٍ»: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ حَسَن ِ بْن ِ حَسَن ِ بْن ِ عَلِيِّ بْن ِ أَبي طالِبٍ رَأَى رَجُلا ً يَخْتَلِفُ إلىَ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدْعُوْ عِنْدَهُ فقالَ:(يَا هَذَا ! إنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«لا تَتَّخِذُوْا قبْرِي عِيْدًا ، وَصَلوْا عَليَّ، فإنَّ صَلاتَكمْ حَيْثمَا كنتمْ تبْلغنِي» فمَا أَنتَ وَرَجُلٌ باِلأَندَلس ِ مِنْهُ إلا َّ سَوَاء).
وَفِي«الصَّحِيْحَيْنِ» عَنْ عَائِشَة َرَضِيَ الله ُ عَنْهَا : عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ فِي مَرَض ِ مَوْتِهِ:«لعَنَ الله ُ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى ، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيائِهمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا فعَلوْا ، وَلوْلا ذلِك َ لأُبرِزَ قبْرُهُ ، وَلكِنْ كرِهَ أَنْ يُتَّخذَ مَسْجِدًا [خ(435) م(531)].
وَهُمْ دَفنوْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا خِلافَ مَا اعْتَادُوْهُ مِنَ الدَّفن ِ فِي الصَّحْرَاءِ ، لِئَلا ّ يصَليَ أَحَدٌ عِنْدَ قبْرِهِ وَيتخِذَهُ مَسْجِدًا ، فيتخذَ قبْرُهُ وَثنًا .(182/72)
وَكانَ الصَّحَابة ُ وَالتّابعُوْنَ – لمّا كانتِ الحجْرَة ُ النَّبَوِيَّة ُ مُنْفصِلة ً عَن ِ المسْجِدِ إلىَ زَمَن ِ الوَلِيْدِ بْن ِعَبْدِ الملِكِ (ت96ه) -: لا يَدْخُلُ أَحَدٌ إليْهِ ، لا لِصَلاةٍ هُنَاك َ، وَلا تمَسُّحٍ باِلقبرِ ، وَلا دُعَاءٍ هُنَاك َ، بَلْ هَذَا جَمِيْعُهُ إنمَا كانوْا يَفعَلوْنهُ فِي المسْجد .
وَكانَ السَّلفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتّابعِينَ إذا سَلمُوْا عَلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَرَادُوْا الدُّعَاءَ:دَعَوْا مُسْتَقبلِي القِبْلةِ ، وَلمْ يَسْتَقبلوْا القبْر .
وَأَمّا الوُقوْفُ لِلسَّلامِ عَليْهِ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهِ وَسَلامُهُ : فقالَ أَبوْ حَنِيْفة َ: «يَسْتَقبلُ القِبْلة َ أَيضًا ، وَلا يَسْتَقبلُ القبرَ».
وَقالَ أَكثرُ الأَئِمَّةِ:«بَلْ يَسْتَقبلُ القبْرَ عِنْدَ السَّلامِ خَاصَّة».
وَلمْ يَقلْ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ :«إنهُ يَسْتَقبلُ القبْرَ عِنْدَ الدُّعَاء».
وَليْسَ فِي ذلِك َ إلا َّ حِكاية ٌ مَكذُوبة ٌ، ترْوَى عَنْ مَالِكٍ ، وَمَذْهَبُهُ بخِلافِهَا .
وَاتفقَ الأَئِمَّة ُ عَلى أَنهُ لا يَتَمَسَّحُ بقبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا يُقبله .
وَهَذَا كلهُ مُحَافظة ٌ عَلى التَّوْحِيْدِ ، فإنَّ مِنْ أُصُوْل ِ الشِّرْكِ باِللهِ : اتخاذَ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، كمَا قالَ طائِفة ٌ مِنَ السَّلفِ فِي قوْلِهِ تَعَالىَ:{ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً }.
قالوْا :«هَؤُلاءِ كانوْا قوْمًا صَالِحِينَ فِي قوْمِ نوْحٍ ، فلمّا مَاتوْا عَكفوْا عَلى قبوْرِهِمْ ، ثمَّ صَوَّرُوْا عَلى صُوَرِهِمْ تمَاثِيْلَ ، ثمَّ طالَ عَليْهمُ الأَمَدُ فعَبَدُوْهَا».
وَقدْ ذكرَ البُخارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ»(4920) هَذَا المعْنَى عَن ِ ابْن ِ عَبّاس .(182/73)
وَذكرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبَرِيُّ وَغيْرُهُ فِي«التَّفسِيرِ» عَنْ غيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلف .
وَذكرَهُ وَثِيْمَة ُ وَغيْرُهُ فِي«قصَص ِ الأَنبياءِ» مِنْ عِدَّةِ طرُق .
وَقدْ بَسَطتُ الكلامَ عَلى أُصُوْل ِ هَذِهِ المسَائِل ِ فِي غيْرِ هَذَا الموْضِع .
وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الأَحَادِيْثَ فِي السَّفرِ لِزِيَارَةِ المشَاهِدِ التي عَلى القبوْرِ : أَهْلُ البدَعِ مِنَ الرّافِضَةِ وَنحْوِهِمْ ، الذِيْنَ يُعَطلوْنَ المسَاجِدَ ، وَيُعَظمُوْنَ المشَاهِدَ ، يَدَعُوْنَ بيوْتَ اللهِ التي أَمَرَ أَنْ يُذْكرَ فِيْهَا اسْمُهُ ، وَيُعْبَدَ وَحْدَهُ لا شَرِيْك َ لهُ ، وَيُعَظمُوْنَ المشَاهِدَ التي يُشْرَك ُ فِيْهَا ، وَيُكذَبُ ، وَيُبْتَدَعُ فِيْهَا دِيْنٌ لمْ يُنَزِّل ِ الله ُ بهِ سُلطانا .
فإنَّ الكِتَابَ وَالسُّنَّة َ، إنمَا فِيْهمَا ذِكرُ المسَاجِدِ دُوْنَ المشَاهِدِ ، كمَا قالَ تَعَالىَ:{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }.
وَقالَ تَعَالىَ:{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }.
وَقالَ تَعَالىَ: { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }.
وَقالَ تَعَالىَ:{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً }.
وَقالَ تَعَالىَ: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا }.
وَقدْ ثبتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في«الصَّحِيْحِ»:أَنهُ كانَ يَقوْلُ :«إنَّ مَنْ كانَ قبْلكمْ ، كانوْا يَتَّخِذُوْنَ القبوْرَ مَسَاجِدَ ، أَلا فلا تَتَّخِذُوْا القبوْرَ مَسَاجِدَ ، فإني أَنهَاكمْ عَنْ ذلك» ، وَالله ُ أَعْلم)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله .
فصل(182/74)
وَكانتْ فتْوَاهُ هَذِهِ نَحْوَ سَنَةِ(709ه) وَبَعْدَ سِنِينَ : أَنكرَ فتيَاهُ هَذِهِ جَمَاعَة ٌ مِنْ أَهْل ِ البدَعِ سَنَة َ(726ه) ، وَحَصَلَ لهُ رَحِمَهُ الله ُ بسَببهَا ، مِحَنٌ عَظِيْمَة ٌ، وَضَجَّ المبطِلوْنَ مِنْهَا ، وَشَرِقوْا بهَا ، وَلمْ يَسْتَطِيْعُوْا دَفعَهَا ، فكذَبوْا عَليْهِ ، وَحَرَّفوْا مُرَادَهُ ، لِينفرُوْا النّاسَ مِنْهُ ، وَيَحْمِلوْا بذَلِك َ عَليْهِ ، وَزَعَمُوْا أَنهُ يُحَرِّمُ زِيَارَة َ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطلقا ، وَمَزَاعِمَ أُخْرَى كاذِبة ً، وَكتبُوْا إلىَ السُّلطان ِ بذَلِك َ، فحَبسَهُ سُلطانُ مِصْرَ بقلعَةِ دِمَشْقَ ، بكتَابٍ وَرَدَ مِنْهُ في شَهْرِ شَعْبَانَ سنة (726ه).
قالَ الحافِظُ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدِ بْن ِعَبْدِ الهادِي المقدِسِيُّ(ت744ه) في«العُقوْدِ الدُّرِّيةِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذِهِ الفتْيَا كامِلة ً(ص330-341): (هَذَا آخِرُ مَا أَجَابَ بهِ شَيْخُ الإسْلامِ ، وَالله ُ سُبْحَانهُ وَتعَالىَ أَعْلم .
وَلهُ مِنَ الكلامِ في مِثْل ِ هَذَا كثِيرٌ كمَا أَشَارَ إليْهِ في الجوَاب .
وَلمّا ظفِرُوْا في دِمَشْقَ بهَذَا الجوَابِ : كتبوْهُ وَبعَثوْا بهِ إلىَ الدِّيارِ المِصْرِيةِ ، وَكتبَ عَليْهِ قاضِي الشّافِعِيَّةِ :«قابلتُ الجوَابَ عَنْ
هَذَا السُّؤَال ِ المكتوْبِ عَلى خَط ِّ ابْن ِ تَيْمية َ فصَحَّ».
إلىَ أَنْ قالَ :«وَإنمَا المخزِي جَعْلهُ : زِيَارَة َ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقبوْرِ الأَنْبيَاءِ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالىَ عَليْهمْ أَجْمَعِيْنَ مَعْصِيَة ً باِلإجْمَاعِ، مَقطوْعًا بهَا» هَذَا كلامُه .(182/75)
فانْظرْ إلىَ هَذَا التَّحْرِيْفِ عَلى شَيْخِ الإسْلامِ ، وَالجوَابُ ليْسَ فِيْهِ المنْعُ مِنْ زِيَارَةِ قبوْرِ الأَنْبيَاءِ وَالصّالِحِينَ ، وَإنمَا ذكرَ فِيْهِ قوْليْن ِ: في شَدِّ الرَّحْل ِ، وَالسَّفرِ إلىَ مُجَرَّدِ زِيَارَةِ القبُوْر .
وَزِيَارَة ُ القبُوْرِ مِنْ غيْرِ شَدِّ رَحْل ٍ إليْهَا مَسْأَلة ٌ، وَشَدُّ الرَّحْل ِ لِمُجَرَّدِ الزِّيارَةِ مَسْأَلة ٌ أُخْرَى .
وَالشَّيْخُ لا يَمْنَعُ الزِّيارَة َ الخالِية َ عَنْ شَدِّ رَحْل ٍ، بَلْ يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إليْهَا . وَكتبُهُ وَمَنَاسِكهُ تَشْهَدُ بذَلِك َ، وَلمْ يَتَعَرَّض ِ الشَّيْخُ إلىَ هَذِهِ الزِّيارَةِ فِي الفتْيَا ، وَلا قالَ:«إنهَا مَعْصِيَة ٌ» ، وَلا حَكى الإجْمَاعَ عَلى المنْعِ مِنْهَا ، وَالله ُسُبْحَانهُ وَتعَالىَ لا تَخْفى عَليْهِ خَافِيَة .
وَلمّا وَصَلَ خَط ُّ القاضِي المذْكوْرِ إلىَ الدِّيارِ المِصْرِيَّةِ : كثرَ الكلامُ ، وَعَظمَتِ الفِتْنَة ُ، وَطلِبَ القضَاة ُ بهَا ، فاجْتَمَعُوْا وَتكلمُوْا ، وَأَشارَ بَعْضُهُمْ بحَبْس ِ الشَّيْخِ ، فرَسَمَ السُّلطانُ بهِ ، وَجَرَى مَا تقدَّمَ ذِكرُه .
ثمَّ جَرَى بَعْدَ ذلِك َ أُمُوْرٌ عَلى القائِمِيْنَ في هَذِهِ القضِيَّةِ ، لا يُمْكِنُ ذِكرُهَا في هَذَا الموْضِع .
وَقدْ وَصَلَ مَا أَجَابَ بهِ الشَّيْخُ فِي هَذِهِ المسْأَلةِ إلىَ عُلمَاءِ بَغْدَادَ ، فقامُوْا في الانْتِصَارِ لهُ ، وَكتبُوْا بمُوَافقتِهِ ، وَرَأَيتُ خُطوْطهُمْ بذَلِك َ، وَهَذَا صُوْرَة ُ مَا كتبوْا) ثمَّ أَوْرَدَهَا ابنُ عَبْدِ الهادِي رَحِمَهُ الله ُ ، وَرَحِمَهُمْ .(182/76)
وَذكرَ الحافِظ ُ عَلمُ الدِّيْن ِ أَبوْ مُحَمَّدٍ القاسِمُ بنُ مُحَمَّدِ بن ِ يُوْسُفَ البرْزَالِيُّ(ت739 ه) في«تارِيْخِهِ»: أَنَّ شَيْخَ الإسْلامِ اعْتقِلَ بقلعَةِ دِمَشْقَ ، عَصْرَ الاثنيْن ِ سَادِسَ عَشْرَ شَعْبَانَ سَنَة َ (726ه).
ثمَّ قالَ:(وَفي يَوْمِ الجمْعَةِ عَاشِرِ الشَّهْرِ المذْكوْرِ: قرِئَ بجَامِعِ دِمَشْقَ الكِتَابُ السُّلطانِيُّ ، الوَارِدُ باِعْتِقالِهِ وَمَنْعِهِ مِنَ الفتيا .
وَهَذِهِ الوَاقِعَة ُ سَببهَا : فتيا وُجِدَتْ بخطهِ في السَّفرِ وَإعْمَال ِ المطِيِّ إلىَ زِيارَةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ عَليْهمُ الصَّلاة ُ وَالسَّلامُ ، وَقبوْرِ الصّالحِيْن)اه مِنَ«البدَايَةِ وَالنِّهَايَة»(14/107).
وَقالَ الحافِظ ُ العِمَادُ ابْنُ كثِيْرٍ في«البدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ»(14/108) في حَوَادِثِ سَنَةِ (726ه):(ثمَّ يَوْمَ الخمِيْس ِ[11/11/726ه] دَخَلَ القاضِي جَمَالُ الدِّين ِابنُ جملة َ، وَناصِرُ الدِّين ِ مَشَدُّ الأَوْقافِ ، وَسَأَلاهُ عَنْ مَضْمُوْن ِ قوْلِهِ في مَسْأَلةِ الزِّيارَة . فكتَبَ ذلِك َ في دَرْجٍ ، وَكتبَ تَحْتَهُ قاضِي الشّافِعِيَّةِ بدِمَشْقَ:«قابَلتُ الجوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَال ِ المكتوْبِ عَلى خَطِّ ابْن ِ تَيْمية َ» إلىَ أَنْ قالَ:«وَإنمَا المخزِي جَعْلهُ زِيارَة َ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقبوْرِ الأَنبيَاءِ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ مَعْصِيَة ً باِلإجْمَاعِ ، مَقطوْعًا بهَا».(182/77)
قالَ ابْنُ كثِيْرٍ بَعْدَهُ :(فانظرْ الآنَ هَذَا التَّحْرِيْفَ عَلى شَيْخِ الإسْلامِ ، فإنَّ جَوَابهُ عَلى هَذِهِ المسْأَلةِ ، ليْسَ فِيْهِ مَنْعُ زِيَارَةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ ، وَإنمَا فِيْهِ ذِكرُ قوْليْن ِ في شَدِّ الرَّحْل ِ، وَالسَّفرِ إلىَ مُجَرَّدِ زِيارَةِ القبوْر . وَزِيارَة ُ القبوْرِ مِنْ غيْرِ شَدِّ رَحْل ٍ إليْهَا مَسْأَلة ٌ، وَشَدُّ الرَّحْل ِ لِمُجَرَّدِ الزِّيارَةِ ، مَسْأَلة ٌ أُخْرَى .
وَالشَّيْخُ لمْ يَمْنَعِ الزِّيارَة َ الخالِيَة َ عَنْ شَدِّ رَحْل ٍ، بَلْ يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إليْهَا ، وَكتبهُ وَمَنَاسِكهُ تَشْهَدُ بذَلِك َ، وَلمْ يتعَرَّضْ إلىَ هَذِهِ الزِّيارَةِ في هَذَا الوَجْهِ مِنَ الفتْيَا ، وَلا قالَ «إنهَا مَعْصِيَة ٌ»، وَلا حَكى الإجْمَاعَ عَلى المنْعِ مِنْهَا ، وَلا هُوَ جَاهِلٌ قوْلَ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «زُوْرُوْا القبوْرَ فإنهَا تذَكرُكمُ الآخِرَة» ، وَالله ُ سُبْحَانهُ لا يَخْفى عَليْهِ شَيْءٌ ، وَلا يَخْفى عَليْهِ خَافِيَة ٌ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ })اه.
فصل
وَقدِ انْتَصَرَ لِشَيْخِ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ، وَذبَّ عَنْهُ ، وَبَيَّنَ مُرَادَهُ ، وَرَجَّحَهُ وَأَظهَرَهُ : جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ مِنْ أَرْبابِ المذَاهِبِ كافة ً، وَعَلى رَأْسِهمْ عُلمَاءُ بَغْدَاد .(182/78)
وَضَلَّ آخَرُوْنَ عَنْ عِلةِ نهْيِّ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَابطِهِ في شَدِّ الرِّحَال ِ إلىَ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثةِ : فعَارَضُوْهُ – مَعَ أَنهُ في«الصَّحِيْحَيْن»- بإجْمَاعِ العُلمَاءِ عَلى جَوَازِ شَدِّ الرِّحَال ِ إلىَ الثغوْرِ ، وَطلبِ العِلمِ ، وَالتِّجارَةِ ، وَزِيارَةِ الأَرْحَامِ ، وَغيْرِ ذلِك َ مِمّا هُوَ مَشْرُوْعٌ ، أَوْ صَرَفوْا مَعْنَاهُ عَنْ حَقِيْقتِهِ بصَوَارِفَ غيْرَ صَحِيْحَةٍ ، وَعَمُوْا عَنْ سَببِ الحكمِ وَعِلتِه .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ مُبَيِّنًا العِلة َ الصَّحِيْحَة َ المعْتَبرَة َ في ذلِك َ، وَرَادًّا عَلى أُوْلئِك َ المتوَهِّمِيْنَ - كمَا في«مَجْمُوْعِ الفتاوَى»-(27/249-250):(فالمسَافِرُ إلىَ الثغوْرِ، أَوْ طلبِ العِلمِ ، أَوِ التجَارَةِ ، أَوْ زِيَارَةِ قرِيبهِ : ليْسَ مَقصُوْدُهُ مَكانا مُعَيَّنًا إلا َّ باِلعَرَض ِ، إذا عَرَفَ أَنَّ مَقصُوْدَهُ فِيْهِ ، وَلوْ كانَ مَقصُوْدُهُ في غيْرِهِ لذَهَبَ إليْه .
فالسَّفرُ إلىَ مِثْل ِ هَذَا ، لمْ يَدْخُلْ في الحدِيْثِ باِتفاق ِ العُلمَاءِ ، وَإنمَا دَخَلَ فِيْهِ مَنْ يُسَافِرُ لِمَكان ٍ مُعَيَّن ٍ، لِفضِيْلةِ ذلِك َ بعَيْنِهِ ، كالذِي يُسَافِرُ إلىَ المسَاجِدِ وَآثارِ الأَنْبيَاءِ ، كالطوْرِ الذِي كلمَ الله ُ عَليْهِ مُوْسَى ، وَغارِ حِرَاءَ ... وَمَا هُوَ دُوْنَ ذلِك َ مِنَ الغارَاتِ وَالجِبَال)اه كلامُهُ رَحِمَهُ الله .
وَقالَ آخَرُوْنَ :(قوْلُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِدَ»: اسْتثناءٌ مُفرَّغٌ ، وَالتَّقدِيْرُ فِيْهِ:«إلىَ مَسْجِدٍ» أَي : لا تشدُّ الرِّحَالُ إلىَ مَسْجِدٍ إلا َّ إلىَ المسَاجِدِ الثلاثة .(182/79)
فأَجَازُوْا كلَّ سَفرٍ - وَإنْ كانَ سَفرًا لِبُقعَةٍ فاضِلةٍ ، أَوْ يُزْعَمُ فضْلهَا ، أَوْ قبْرٍ وَغيْرِهِ – وَلمْ يَمْنَعُوْا إلا َّ مَنْ سَافرَ لِمَسْجِدٍ غيْرَ هَذِهِ الثلاثةِ ، وَجَعَلوْا ذلِك َ هُوَ الضّابط َ! وَهَذَا غيْرُ صَحِيْح .
وَلوْ سَلمْنَا لهمْ ذلِك َ، وَجَعَلنَا التَّقدِيْرَ في ذلِك َ الاسْتِثْنَاءِ المفرَّغِ:«إلىَ مَسْجِدٍ»: لكانَ النَّهْيُ عَن ِ السَّفرِ إلىَ مَسْجِدٍ غيْرِ الثلاثةِ باِللفظِ ، وَعَنْ سَائِرِ البقاعِ وَالأَمَاكِن ِ التي يعْتقدُ فضْلهَا باِلتَّنْبيْه وَالفحْوَى ، وَطرِيْق ِ الأَوْلىَ .
فإنَّ المسَاجِدَ وَالعِبَادَة َ فِيْهَا ، أَحَبُّ إلىَ اللهِ مِنَ العِبَادَةِ في تِلك َ البقاعِ باِلنَّصِّ وَالإجْمَاع .
فإذا كانَ السَّفرُ إلىَ البقاعِ الفاضِلة - باِلنَّصِّ وَالإجْمَاعِ-: قدْ نهيَ عَنْهُ : فالسَّفرُ إلىَ المفضُوْلةِ أَوْلىَ باِلتَّحْرِيْمِ وَأَحْرَى .
وَالصَّوَابُ : أَنَّ التَّقدِيْرَ في هَذَا الاسْتِثْنَاءِ هُوَ:«إلىَ بُقعَةٍ وَمَكان ٍ يُظنُّ فضْلهُ» أَي : لا تشدُّ الرِّحَالُ إلىَ بُقعَةٍ يُظنُّ فضْلهَا ، إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِد .
وَعَلى كِلا التقدِيْرَيْن ِ في هَذَا الاسْتِثْنَاءِ : يَحْرُمُ شَدُّ الرِّحَال ِ، إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِد .
إذا تقرَّرَ هَذَا الحكمُ وَاسْتقرَّ : عَلِمْتَ أَنَّ شَدَّ الرِّحَال ِ إلىَ قبوْرِ الأَوْلِيَاءِ وَالصّالِحِيْنَ : مُنْكرٌ عَظِيْمٌ ، وَإثمٌ جَسِيْمٌ ، وَضَلالة ٌ عَمْيَاءُ ، وَجَهَالة ٌ جَهْلاء .
وَأَنَّ ذلِك َ المسَافرَ قدْ سَافرَ مَأْزُوْرًا في سَفرِ مَعْصِيَةٍ ، لا يَجُوْزُ لهُ فِيْهِ الجمْعُ وَلا القصْرُ ، وَلا التَّرَخُّصُ برُخص ِ المسَافِرِيْن .
فإنْ كانَ صَائِمًا : لمْ يَجُزْ لهُ الإفطارُ ، وَإنْ كانَ مُصَليًا : لمْ تصِحَّ صَلاتهُ إلا َّ باِلإتمَام .(182/80)
ثمَّ إذا عَلِمْتَ أَنَّ كلَّ شَادِّ رَحْل ٍ وَمُسَافِرٍ إلىَ تِلك َ المشَاهِدِ وَالقبوْرِ : لمْ يُسَافرْ لها ، إلا َّ لأَجْل ِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا ، رَجَاءَ بَرَكةِ بقعَتِهَا : عَلِمْتَ أَنَّ أُوْلئِك َ المسَافِرِيْنَ ، قدْ بَلغوْا في الضَّلال ِ مَبْلغا عَظِيْمًا .
بَلْ لا يَخْلو أُوْلئِك َ المسَافِرُوْنَ المرْتحِلوْنَ إلىَ القبوْرِ ، مِنْ دُعَاءِ أُوْلئِك َ المقبُوْرِيْنَ ، وَالاسْتِغاثةِ بهمْ ، وَرَجَاءِ نفعِهمْ ، وَغيْرِ ذلِك َ مِمّا هُوَ شِرْك ٌ وَكفرٌ باِللهِ مُخْرِجٌ مِنَ المِلةِ ، لا يَقبَلُ الله ُ مِنْ فاعِلهِ عَدْلا ً وَلا صَرْفا .
فهَذَا البابُ الذِي خَشِيَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى أُمَّتِهِ مِنْهُ قدْ فتِحَ ، وَهَذَا نهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ اتخاذِهَا مَسَاجِدَ قدْ أُوْتِيَ : فكانَ ذرِيْعَة ً إلىَ إشْرَاكِهمْ باِللهِ وَكفرِهِمْ ، كمَا كانَ ذرِيْعَة ً لِشِرْكِ الأُمَمِ قبْلهُمْ .
فصل
في بيان ِحَال ِالأَحَادِيْثِ المرْوِيَّةِ في فضْل ِ زِيَارَةِ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنهَا مَوْضُوْعَة ٌ، مَعَ كوْن ِ زِيَارَةِ قبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرْبَة ً مِنَ القرَبِ ، وَطاعَة ً مِنَ الطاعَاتِ ، بشَرْطِ أَنْ لا يَكوْنَ ذلِك َ بشَدِّ رَحْل ٍ إليْه
أَمّا مَا يَحْتَجُّ بهِ بَعْضُ المبْطِليْنَ ، مِمّا يُرْوَى في هَذَا البابِ مِنْ أَحَادِيْثَ ، كحَدِيْثِ «مَنْ حَجَّ وَلمْ يَزُرْنِي: فقدْ جَفانِي» ، وَحَدِيْثِ «مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبي فِي عَامٍ وَاحِدٍ : ضَمِنْتُ لهُ عَلى اللهِ الجنة»: فليْسَ لهمْ حُجَّة ٌ في شَيْءٍ مِنْهُ ، وَكلُّ مَا في هَذَا البابِ ، مَوْضُوْعٌ لا يَصِحُّ ، ولا يُحْتَجُّ بمِثلِه .(182/81)
وَقدْ جَمَعَهَا الحافِظ ُ محمَّدُ بْنُ أَحْمَدِ بْن ِعَبْدِ الهادِي المقدِسِيُّ رَحِمَهُ الله ُ في كِتَابهِ«الصّارِمِ المنْكِي ، في الرَّدِّ عَلى السُّبْكِيّ» ، وَتكلمَ فِيْهِ عَلى كلِّ حَدِيْثٍ بمَا يَشْفِي وَيَكفِي ، وَبَيَّنَ أَنهَا جَمِيْعًا بَاطِلة ٌ لا تَصِحّ .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ(27/216) :
(وَقدْ يَحْتَجُّ بَعْضُ مَنْ لا يَعْرِفُ الحدِيْثَ ، باِلأَحَادِيْثِ المرْوِيَّةِ في زِيَارَةِ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقوْلِهِ:«مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي : فكأَنما زَارَنِي فِي حَيَاتِي» رَوَاهُ الدَّارَقطنيّ (2/278).
وَأَمّا مَا ذكرَهُ بَعْضُ النّاس ِ مِنْ قوْلِهِ:«مَنْ حَجَّ وَلمْ يَزُرْنِي: فقدْ جَفانِي»: فهَذَا لمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ العُلمَاء .
وَهُوَ مِثْلُ قوْلِهِ:«مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبي فِي عَامٍ وَاحِدٍ : ضَمِنْتُ لهُ عَلى اللهِ الجنة».
فإنَّ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ باِتفاق ِ العُلمَاءِ ، وَلمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ ، وَلمْ يَحْتَجَّ بهِ أَحَدٌ ، وَإنمَا يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بحدِيثِ الدَّارَقطنيّ.
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ(27/216-219) :
(وَلكِنَّ هَذَا وَإنْ كانَ لمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنَ العُلمَاءِ فِي كتبِ الفِقهِ وَالحدِيْثِ ، لا مُحْتَجًّا وَلا مُعْتَضِدًا بهِ ، وَإنْ ذكرَهُ بَعْضُ المتأَخِّرِيْنَ : فقدْ رَوَاهُ أَبوْ أَحْمَدَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي«كِتَابِ الضُّعَفاءِ»(8/248) لِيبيِّنَ ضَعْفَ رِوَايتِه .
فذَكرَهُ بحدِيْثِ النُّعْمَان ِ بْن ِشِبْل ٍ البَاهِلِيِّ البَصْرِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«مَنْ حَجَّ وَلمْ يَزُرْنِي: فقدْ جَفانِي» قالَ ابْنُ عَدِيٍّ(8/249):«لمْ يَرْوِهِ عَنْ مَالِكٍ غيْرُ هَذَا !».(182/82)
يَعْنِي : وَقدْ عُلِمَ أَنهُ ليْسَ مِنْ حَدِيْثِ مَالِكٍ ، فعُلِمَ أَنَّ الآفة َ مِنْ جِهَتِه .
قالَ يُوْنسُ بْنُ هَارُوْنَ:«كانَ النُّعْمَانُ هَذَا مُتَّهَمًا».
وَقالَ أَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ:«يأْتِي مِنَ الثقاتِ باِلطامّات».
وَقدْ ذكرَ أَبوْ الفرَجِ ابْنُ الجوْزِيُّ هَذَا الحدِيْثَ في «الموْضُوْعَاتِ»(2/217) ، وَرَوَاهُ مِنْ طرِيْق ِ أَبي حَاتِمٍ ابْن ِ حِبّانَ: «حَدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ عُبيْدٍ حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن ِ النُّعْمَان ِ بْن ِ شِبْل ٍ حَدَّثنا جَدِّي عَنْ مَالِك».
ثمَّ قالَ أَبو الفرَجِ(2/217):«قالَ أَبوْ حَاتِمٍ : النُّعْمَانُ يَأْتِي عَن ِ الثقاتِ باِلطامّات . وَقالَ الدَّارَقطنيُّ : الطعْنُ في هَذَا الحدِيْثِ مِنْ مُحَمَّدِ بْن ِ مُحَمَّدٍ ، لا مِنْ نُعْمَان»اه .
وَأَمّا الحدِيْثُ الآخَرُ:«مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبي في عَامٍ وَاحِدٍ : ضَمِنْتُ لهُ عَلى اللهِ الجنَّة»: فهَذَا ليْسَ في شَيْءٍ مِن الكتبِ ، لا بإسْنَادٍ مَوْضُوْعٍ ، وَلا غيْرِ مَوْضُوْع .
وَقدْ قِيْلَ : إنَّ هَذَا لمْ يُسْمَعْ في الإسْلامِ ، حَتَّى فتحَ المسْلِمُوْنَ بَيْتَ المقدِس ِ، فِي زَمَن ِ صَلاحِ الدِّين(ت589ه).
فلِهَذَا لمْ يَذْكرْ أَحَدٌ مِنَ العُلمَاءِ لا هَذَا وَلا هَذَا ، لا عَلى سَبيْل ِ الاعْتِضَادِ ، وَلا عَلى سَبيْل ِ الاعْتِمَاد .(182/83)
بخِلافِ الحدِيْثِ الذِي قدْ تقدَّمَ : فإنهُ قدْ ذكرَهُ جَمَاعَة ٌ وَرَوَوْهُ ، وَهُوَ مَعْرُوْفٌ مِنْ حَدِيْثِ حَفص ِ بْن ِ سُليْمَانَ الغاضِرِيِّ - صَاحِبِ عَاصِمٍ - عَنْ ليْثِ بْن ِ أَبي سُليْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ قالَ : قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ حَجَّ فزَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي : كانَ كمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي»( - رَوَاهُ الطبَرَانِيُّ في«المعْجَمِ الكبير»(12/406) وَ«الأَوْسَطِ»(1/201) وَابْنُ عَدِيٍّ في«الكامِل» (3/272) وَالدّارَقطنيُّ في«سُننِه»(2/278) وَالبَيْهَقِيُّ في«شُعَبِ الإيْمَان»(3/489).).
وَقدِ اتفقَ أَهْلُ العِلمِ باِلحدِيْثِ عَلى الطعْن ِ في حَدِيْثِ حَفص ٍ هَذَا دُوْنَ قِرَاءَتِه .
قالَ البَيْهَقِيُّ فِي«شُعَبِ الإيْمَان»(3/489):«رَوَى حَفصُ بْنُ أَبي دَاوُوْدَ - وَهُوَ ضَعِيْفٌ - عَنْ ليْثِ بْن ِ أَبي سُليْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ حَجَّ فزَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي : كانَ كمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي».
قالَ يَحْيَى بْنُ مَعِيْن ٍ عَنْ حَفص ٍ هَذَا :«ليْسَ بثقةٍ ، وَهُوَ أَصَحُّ قِرَاءَة ً مِنْ أَبي بَكرٍ ابْن ِ عَيّاش ٍ ، وَأَبوْ بَكرٍ أَوْثقُ مِنْه».
وَفي رِوَايةٍ عَنْهُ:«كانَ حَفصٌ أَقرَأَ مِنْ أَبي بَكرٍ ، وَكانَ أَبوْ بَكرٍ صَدُوْقا ، وَكانَ حَفصٌ كذّابا».
وَقالَ البُخارِيُّ :«ترَكوْه».
وَقالَ مُسْلِمُ بْنُ الحجّاجِ :«مترُوْك».
وَقالَ عَلِيُّ بْنُ المدِيْنِيِّ :«ضَعِيْفُ الحدِيْثِ ، ترَكتهُ عَلى عَمْد».
وَقالَ النَّسَائِيُّ :«ليْسَ بثقةٍ ، وَلا يُكتَبُ حَدِيْثه» وَقالَ مَرَّة ً: «مَتْرُوْك».
وَقالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ البَغدَادِيُّ :«لا يُكتَبُ حَدِيْثهُ ، وَأَحَادِيْثهُ كلهَا مَنَاكِيْر».(182/84)
وَقالَ أَبوْ زُرْعَة َ:«ضَعِيْفُ الحدِيْث».
وَقالَ أَبوْ حَاتِمٍ الرّازِيُّ:«لا يُكتَبُ حَدِيْثهُ ، وَهُوَ ضَعِيْفُ الحدِيْثِ لا يَصْدُقُ ، مترُوْك ُ الحدِيْث».
وَقالَ عَبْدُ الرَّحْمَن ِ ابْنُ خِرَاش ٍ:«هُوَ كذّابٌ مترُوْك ٌ يَضَعُ الحدِيْث».
وَقالَ الحاكِمُ أَبوْ أَحْمَدَ :«ذاهِبُ الحدِيْث».
وَقالَ ابْنُ عَدِيٍّ(3/276):«عَامَّة ُ أَحَادِيْثِهِ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ ، غيْرُ مَحْفوْظة».
وَفي البَابِ حَدِيثٌ آخَرُ رَوَاهُ البزّارُ وَالدّارَقطنيُّ(2/278) وَغيْرُهُمَا ، مِنْ حَدِيْثِ مُوْسَى بْن ِ هِلال ٍ: حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ زَارَ قبْرِي : وَجَبَتْ لهُ شَفاعَتِي»( - رَوَاهُ الدُّوْلابيُّ في«الكنَى وَالأَسْمَاءِ»(2/64) وَالبَيْهَقِيُّ في«شُعَبِ الإيْمَان»(3/490) وَالعُقيْلِيُّ في«الضُّعفاء»(4/170).).
قالَ البَيْهَقِيُّ (3/490) - وَقدْ رَوَى هَذَا الحدِيْثَ ، ثمَّ قالَ-: «وَقدْ قِيْلَ:«عَنْ مُوْسَى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ» وَسَوَاءٌ «عَبْدُ اللهِ» أَوْ«عُبَيْدُ اللهِ» فهُوَ مُنْكرٌ عَنْ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ ، لمْ يَأْتِ بهِ غيْرُه»اه.
وَقالَ العُقيْلِيُّ(4/170) في مُوْسَى بْن ِ هِلال ٍ هَذَا:«لا يتابعُ عَلى حَدِيثِه».
وَقالَ أَبوْ حَاتِمٍ الرّازِيُّ :«هُوَ مَجْهُوْل».(182/85)
وَقالَ أَبوْ زَكرِيّا النَّوَاوِيُّ في«شَرْحِ المهَذِّبِ»(8/252) لمّا ذكرَ قوْلَ أَبي إسْحَاقَ «وَتسْتَحَبُّ زِيَارَة ُ قبْرِ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِمَا رُوِيَ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ:«مَنْ زَارَ قبْرِي : وَجَبتْ لهُ شفاعَتِي»» قالَ النَّوَاوِيُّ:«أَمّا حَدِيْثُ ابْن ِ عُمَرَ : فرَوَاهُ أَبوْ بَكرٍ الرّازِيُّ وَالدّارَقطنيُّ وَالبَيْهَقِيُّ بإسْنَادَيْن ِ ضَعِيْفيْن ِ جِدًّا»اه)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله .
وَخُلاصَة ُ أَحَادِيْثِ البابِ : مَا قالهُ شَيْخُ الإسْلامِ في مَوْضِعٍ آخرَ-كمَا في«مَجْمُوْعِ فتَاوَاهُ»(1/356):(وَالأَحَادِيْثُ المرْوِية ُ في زِيارَةِ قبرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كلهَا ضَعِيْفة ٌ، بلْ كذِبٌ)اه.
* * *
فصل
فِي نقض ِشُبُهَاتِ المعْتَرِض ِعَلى تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ مُطلقا في المقابرِ وَعِنْدَ القبور
أَمّا مَا ظنهُ هَذَا المعْتَرِضُ حُجَّة ً وَدَلِيْلا ً فِي مَقالِهِ فاسْتَدَلَّ بهِ ، فليْسَ كذلك .
وَقدْ ذكرَ خَمْسَة َ أَدِلةٍ أَجَازَ بهَا الصَّلاة َ فِي المقبرَةِ بزَعْمِهِ وَليْسَ فِي شَيْءٍ مِمّا ذكرَهُ حُجَّة ٌ، وَهَذَا بيانُ رَدِّهَا :
أَمّا دَلِيْلهُ الأَوَّلُ :
فقوْلهُ:(قوْلُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» [خ(335)، (438) م(521)] ، وَهَذَا يَعُمُّ الأَرْضَ كلهَا) انتهَى كلامُه .
وَهَذَا بَاطِلٌ ، فإنَّ الأُمَّة َ مُجْمِعَة ٌ عَلى تَخْصِيْص ِ هَذَا العُمُوْمِ ، وَأَنَّ مِنَ الأَرْض ِمَا ليْسَ بطهُوْرٍ ، وَلا مَسْجِدٍ تَصِحُّ فِيْهِ الصَّلاة .(182/86)
ثمَّ اخْتَلفوْا في مُخَصِّصَاتِ ذلِك َ العُمُوْمِ ، مَعَ إجْمَاعِهمْ عَلى بَعْضِهَا . وَمِنْ ذلِك َ: إجْمَاعُهُمْ عَلى تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ عَلى الأَرْض ِ النَّجِسَةِ وَبطلانِهَا لِغيْرِ المضْطرِّ ، وَاخْتَلفوْا في المضْطرّ .
وَهُوَ عُمُوْمٌ مُقيَّدٌ أَيْضًا بأَحَادِيْثِ النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِي المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، وَقدْ تقدَّمَ طرَفٌ مِنْهَا . وَمُقيَّدٌ بأَحَادِيْثَ أُخْرَى عَنْ مَوَاضِعَ أُخْرَى كذَلك .
قالَ القاضِي أَبوْ بكرٍ ابنُ العَرَبيِّ فِي«عَارِضَةِ الأَحْوَذِيِّ»(2/114-115) بَعْدَ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َوَالحمّامَ» قالَ:(الحدِيْثُ الصَّحِيْحُ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا».
وَهِيَ خَصِيْصَة ٌفضِّلتْ بهَا هَذِهِ الأُمَّة ُ عَلى سَائِرِ الأُمَمِ ، في حُرْمَةِ سَيِّدِ البَشرِ ، لا يُسْتَثْنى مِنْهَا إلا َّ البقاعُ النَّجسَة ُ وَالمغْصُوْبة ُ، التي يَتَعَلقُ بهَا حَقُّ الغير .
وَكلُّ حَدِيْثٍ سِوَى هَذَا : ضَعِيْفٌ ، حَتَّى حَدِيث السَّبْعَةِ مَوَاطِنَ ، التي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا : لا يَصِحُّ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقدْ ذكرَهُ التِّرْمِذِيّ (346) .
وَالموَاضِعُ التِي لا يُصَلى بهَا ، ثلاثة َ عَشرَ مَوْضِعًا : الأَوَّلُ المزْبَلة ُ، وَالمجْزَرَة ُ، وَالمقبرَة ُ، وَالحمّامُ ، وَالطرِيْقُ ، وَأَعْطانُ الإبل ِ، وَظهْرُ الكعْبَةِ ، وَأَمَامَك َ جدَارُ مِرْحَاض ٍ عَليْهِ نَجَاسَة ٌ، وَالكنِيْسَة ُ، وَالبيْعَة ُ، وَفي قِبْلتِك َ تمَاثِيلُ ، وَفي دَارِ العَذَاب)اه.
وَقدْ ذكرَ ابْنُ العَرَبيِّ هُنَا اثنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا ، وَلمْ يَذْكرِ الثالِثَ عَشَرَ ! وَلعَلهُ الحشُّ ، أَوِ الأَرْضُ المغْصُوْبة .(182/87)
أَمّا الحنابلة ُ: فقدْ ذكرُوْا عَشَرَة َ مَوَاضِعَ ، هِيَ : المقبَرَة ُ، وَالمجْزَرَة ُ، وَالمزْبلة ُ، وَالحشُّ ، وَالحمّامُ ، وَقارِعَة ُالطرِيْق ِ، وَأَعْطانُ الإبل ِ، وَظهْرُ الكعْبَةِ ، وَالموْضِعُ المغْصُوْبُ ، وَالموْضِعُ النَّجِس .
وَقدْ ذكرَهَا شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ في«شَرْحِ العُمْدَةِ» (2/425) ، ثمَّ قالَ:(وَأَمّا ثلاثة ٌمِنْهَا : فقدْ تَوَاطأَتِ الأَحَادِيْثُ وَاسْتَفاضَتْ باِلنَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِ فِيْهَا ، وَهِيَ : المقبرَة ُ، وَأَعْطانُ الإبل ِ، وَالحمّامُ . وَسَائِرُهَا جَاءَ فِيْهَا مِنَ الحدِيْثِ مَا هُوَ دُوْنَ ذلك)اه. وَالمسْأَلة ُمَبْسُوْطة ٌ فِي كتبِ الفِقهِ ، وَلا تخْفى .
وَلمّا ذكرَ أَبوْ محمَّدٍ ابْنُ قدَامَة َ فِي«المغنِي»(2/468-469) قوْلَ مَن ِاسْتَدَلَّ بعُمُوْمِ قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» وَنَحْوِهِ : خَصَّصَهُ أَبوْ محمَّدٍ بقوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ الحمّامَ وَالمقبَرَة».
ثمَّ قالَ:(وَهَذَا خَاصٌّ مُقدَّمٌ عَلى عُمُوْمِ مَا رَوَوْه).
وَقالَ (2/480) فِي الحدِيْثِ الأَوَّل ِ- أَي حَدِيْثَ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا»-:(وَهُوَ صَحِيْحٌ مُتَّفقٌ عَليْهِ ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْهُ المقبَرَة ُ، وَالحمّامُ ، وَمَعَاطِنُ الإبل ِ بأَحَادِيْثَ صَحِيْحَةٍ خَاصَّةٍ ، ففِيْمَا عَدَا ذلِك َ يبقى عَلى العُمُوْم).(182/88)
وَكذَلِك َ أَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ في«صَحِيْحِهِ» لمّا رَوَى(4/595) (1697): حَدِيثَ حُذيفة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «فضِّلنَا عَلى النّاس ِ بثلاثٍ : جُعِلتِ الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَ تُرْبتهَا لنا طهُوْرًا ، وَجُعِلتْ صُفوْفنَا كصُفوْفِ الملائِكة» وَهُوَ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي«مُسْندِهِ»(5/383) ومُسْلِمٍ فِي«صَحِيْحِه»(522): خَصَّصَ ابنُ حِبّانَ هَذَا العُمُوْمَ وَالإطلاقَ بثلاثةِ أَبوَابٍ :
أَوَّلها (4/596):«ذِكرُ وَصْفِ التَّخْصِيْص ِالأَوَّل ِالذِي يَخصُّ عُمُوْمَ تِلك َ اللفظةِ التِي تقدَّمَ ذِكرُنا لهَا».
وَالثّانِي (4/598):«ذِكرُ التَّخْصِيْص ِالثّانِي الذِي يَخُصُّ عُمُوْمَ اللفظةِ التِي ذكرْناهُ قبْلُ».
وَالثّالِثُ (4/599):«ذِكرُ التَّخْصِيْص ِ الثّالِثِ الذِي يَخُصُّ عُمُوْمَ قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدًا».
وَأَوْرَدَ تحْتهَا ثلاثة َأَحَادِيْثَ :
أَوَّلها(1698): حَدِيْثُ أَنس ِ بْن ِمَالِكٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهَى أَنْ يُصَلى بَيْنَ القبوْرِ . وَهَذَا صَحَّحَهُ الضِّيَاءُ المقدِسِيُّ فِي «الأَحَادِيْثِ المخْتَارَة».
وَالثّانِي(1699):حَدِيْثُ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ مَرْفوْعًا:«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ الحمّامَ وَالمقبَرَة».
وَالثّالِثُ(1700):حَدِيْثُ أَبي هُرَيْرَة َرَضِيَ الله ُ عَنْهُ مَرْفوْعًا:«إذا لمْ تَجِدُوْا إلا َّ مَرَابضَ الغنمِ ، وَمَعَاطِنَ الإبل ِ: فصَلوْا فِي مَرَابض ِ الغنمِ ، وَلا تصَلوْا فِي أَعْطان ِ الإبل» وَهُوَ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي «مُسْنَدِهِ»(2/491) وَابْن ِمَاجَهْ(768).(182/89)
وَبوَّبَ ابْنُ حِبّانَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ(6/88) عَلى حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ هَذا السّابق ِ:(ذِكرُ الخبَرِ المصَرِّحِ بأَنَّ قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ طهُوْرًا وَمَسْجِدًا» أَرَادَ بهِ بَعْضَ الأَرْض ِلا الكلّ).
وَبوَّبَ قبْلهُ(6/87):(ذِكرُ خَبَرٍ قدْ يُوْهِمُ غيْرَ المتَبَحِّرِ فِي صِناعَةِ العِلمِ أَنَّ الأَرْضَ كلهَا طاهِرَة ٌ، يَجُوْزُ لِلمَرْءِ الصَّلاة ُ عَليْهَا).
ثمَّ سَاقَ حَدِيْثَ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُعَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«فضِّلتُ عَلى الأَنبيَاءِ بسِتٍّ : أُعْطِيْتُ جَوَامِعَ الكلِمِ ، وَنصِرْتُ بالرُّعْبِ ، وَأُحِلتْ لِيَ الغنائِمُ ، وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ طهُوْرًا وَمَسْجِدًا ، وَأُرْسِلتُ إلىَ الخلق ِ كافة ً، وَخُتِمَ بيَ النبيوْن».
وَهَذَا الحدِيْثُ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي«مُسْنَدِهِ»(2/411-412) وَمُسْلِمٍ في«صَحِيْحِه»(523).
وَبوَّبَ ابْنُ حِبّانَ بَعْدَهُ أَبوَابا عِدَّة ً، أَوْرَدَ تَحْتَهَا جُمْلة َ أَحَادِيْثَ فِي الأَمَاكِن ِ المخْصُوْصَةِ وَالمسْتثناةِ مِنْ ذلِك َ العُمُوْمِ ، كالمقبَرَةِ ، وَالحمّامِ ، وَأَعْطان ِ الإبل ِ، وَقدْ تقدَّمَ ذِكرُهَا .
وَكذَلِك َ الحافِظ ُ أَبوْ بكرٍ ابنُ المنذِرِ في«الأَوْسَطِ»(2/180-182): ذكرَ في«جِمَاعِ أَبوَابِ الموَاضِعِ التِي تَجُوْزُ الصَّلاة ُ عَليْهَا ، وَالموَاضِعِ المنْهيِّ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا»: أَرْبعَة َ أَبوَابٍ :
أَوَّلها : ذِكرُ الأَخْبَارِ التِي يدُلُّ ظاهِرُهَا ، عَلى أَنَّ الأَرْضَ كلهَا مَسْجِدٌ وَطهُوْر .
وَالثاني : ذِكرُ الخبرِ الدّالِّ عَلى أَنَّ المرَادَ مِنْ قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلتِ الأَرْضُ لِي مَسْجِدًا» كلُّ أَرْض ٍ طيِّبَةٍ دُوْنَ النَّجِس ِ مِنْهَا .(182/90)
وَالثالِثُ : ذِكرُ النَّهْيِّ عَن ِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِد .
وَالرّابعُ : ذِكرُ النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ وَالحمّام .
قالَ البَغوِيُّ فِي«شَرْحِ السُّنَّةِ»:(أَرَادَ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ لمْ تُبَحْ لهمُ الصَّلاة ُ إلا َّ فِي بيعِهمْ وَكنَائِسِهمْ ، فأَباحَ الله ُ لهِذِهِ الأُمَّةِ ، الصَّلاة َ حَيْثُ كانوْا ، تَخْفِيْفا عَليْهمْ وَتيْسِيرًا ، ثمَّ خَصَّ مِنْ جَمِيْعِ الموَاضِعِ : الحمّامَ ، وَالمقبرَة َ، وَالمكانَ النَّجِس) نقلهُ عَنْهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَن ِ بْنُ حَسَن ِ بْن ِ محمَّدِ بْن ِ عَبْدِ الوَهّابِ آل الشَّيْخِ رَحِمَهُمُ الله ُ في«فتحِ المجيْد»(ص206).
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ في«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/439-440):(وَأَمّا الأَحَادِيْثُ المشْهُوْرَة ُ في جَعْل ِ الأَرْض ِ مَسْجِدًا : فهيَ عَامَّة ٌ، وَهَذِهِ الأَحَادِيْثُ خَاصَّة ٌ، وَهِيَ تفسِّرُ تِلك َ الأَحَادِيْثَ ، وَتبينُ أَنَّ هَذِهِ الأَمْكِنَةِ ، لمْ تقصَدْ بذَلِك َ القوْل ِ العَامِّ ، وَيُوَضِّحُ ذلك أَرْبعة ُ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا : أَنَّ الخاصَّ يَقضِي عَلى العَامِّ ، وَالمقيدُ يُفسِّرُ المطلقَ ، إذا كانَ الحكمُ وَالسَّبَبُ وَاحِدًا ، وَالأَمْرُ هُنَا كذَلك .
الثاني: أَنَّ قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا»: بيانٌ لِكوْن ِ جِنْس ِ الأَرْض ِ مَسْجِدًا لهُ ، وَأَنَّ السُّجُوْدَ عَليْهَا لا يَخْتَصُّ بأَنْ تكوْنَ عَلى صِفةٍ مَخْصُوْصَةٍ ، كمَا كانَ فِي شَرْعِ مَنْ قبْلنَا . لكِنَّ ذلِك َ لا يَمْنَعُ أَنْ تَعْرِضَ للأَرْض ِ صِفة ٌ تَمْنَعُ السُّجُوْدَ عَليْهَا .(182/91)
فالأَرْضُ التِي هِيَ عَطنٌ ، أَوْ مَقبَرَة ٌ، أَوْ حَمّامٌ ، هِيَ مَسْجِدٌ ، لكِنَّ اتخاذهَا لمّا وُجِدَ لهُ مَانِعٌ عَرَضَ لها : أَخْرَجَهَا عَنْ حُكمِهَا . وَلوْ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تكوْنَ حَمّامًا ، أَوْ مَقبَرَة ً : لكانتْ عَلى حَالِهَا.
وَذلِك َ أَنَّ اللفظ َ العَامَّ ، لا يُقصَدُ بهِ بيانُ تفاصِيْل ِ الموَانِعِ ، كقوْلِهِ تعَالىَ:{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ }.
وَقدْ عُلِمَ أَنَّ العَقدَ لا بُدَّ فِيْهِ مِنْ عَدَمِ الإحْرَامِ ، وَعَدَمِ العِدَّةِ ، وَلا بُدَّ لهُ مِنْ شُرُوْطٍ وَأَرْكان .
الثالِثُ : أَنَّ هَذَا اللفظ َ العَامَّ ، قدْ خُصَّ مِنْهُ الموْضِعُ النَّجِسُ ، اعْتِمَادًا عَلى تَقييْدِهِ باِلطهَارَةِ ، فِي قوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كلُّ أَرْض ٍ طيِّبَةٍ» ، وَتَخْصِيْصُهُ باِلاسْتِثْنَاءِ المحَقق ِ، وَالنَّهْيِّ الصَّرِيْحِ أَوْلىَ وَأَحْرَى .
الرّابعُ : أَنَّ تِلك َ الأَحَادِيْثَ إنمَا قصِدَ بهَا بيانُ اخْتِصَاص ِ نبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ باِلتَّوْسِعَةِ عَليْهمْ فِي الصَّلاةِ دُوْنَ مَنْ قبْلنا مِنَ الأَنبيَاءِ وَأُمَمِهمْ ، حَيْثُ حُظِرَتْ عَليْهمُ الصَّلاة ُ إلا َّ في المسَاجدِ المبْنِيَّةِ للصَّلاة . فذَكرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلَ الخصِيْصَةِ وَالمزِيةِ ، وَلمْ يَقصِدْ تفصِيْلَ الحكم .
وَاعْتَضَدَ ذلِك َ بأَنَّ هَذِهِ الأَمَاكِنَ قلِيْلة ٌ باِلنِّسْبَةِ إلىَ سَائِرِ الأَرْض ِ، فلمّا اتفقَ قِلتهَا ، وَأَنهُ لمْ يَتَمَحَّض ِ المقصُوْدُ لِبيان ِ أَعْيَان ِ أَمَاكِن ِ الصَّلاةِ ، ترَك َ اسْتِثْنَاءَهَا .
أَمّا أَحَادِيْثُ النَّهْيِّ : فقصِدَ بهَا بيانُ حُكمِ الصَّلاةِ في أَعْيَان ِ هَذِهِ الأَمَاكِن ِ، وَهَذَا بيِّنٌ لِمَنْ تأَمله .(182/92)
وَهَذَا المعْتَرِضُ مُتناقِضٌ ، فإنهُ لا يُنَازِعُ فِي حُرْمَةِ اتخاذِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ مَسَاجِدَ ، وَالصَّلاةِ فِيْهَا ، فلمَ لمْ يَسْتَثْنهَا مِنَ العُمُوْمِ فِي الحدِيْثِ السّابق ِ؟! أَمْ يَرَاهَا دَاخِلة ً فِيْه؟!
* * *
فصل
فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الثانِي ، وَهُوَ بنَاءُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ في مَقبَرَةٍ للمُشْرِكِيْن
أَمّا دَلِيْلهُ الثانِي: فقالَ:(بناءُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ فِي مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكِيْنَ ، وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُوْرٌ وَهُوَ فِي«الصَّحِيْحَيْن ِ»( - رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» (3932) وَمُسْلِم(524).)) انتهَى كلامُه .
وَهَذَا فِيْهِ تَلبيْسٌ وَتَدْلِيْسٌ ، فإنَّ بناءَ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَسْجِدِهِ فِي مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكِيْنَ ، كانَ بَعْدَ نبْش ِ قبوْرِهِمْ وَإزَالتِها . وَهذَا ليْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ ، وَإنمَا النِّزَاعُ فِي جَوَازِ الصَّلاةِ فِي المقبرَةِ قبْلَ النَّبْش .
لِهَذَا لمْ يَذْكرِ المعْتَرِضُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الصَّحَابة َ بنَبْش ِ قبوْرِ المشْرِكِيْنَ وَإزَالتِهَا ، لِيسْلمَ لهُ اعْتِرَاضُه !
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ-كمَا فِي«مَجْمُوْعِ الفتاوَى»(21/321)-:(ومَسْجِدُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدْ كانَ مَقبَرَة ً لِلمُشْرِكِيْنَ ، وَفِيْهِ نخلٌ وَخِرَبٌ ، فأَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باِلنَّخل ِ فقطِعَتْ ، وجُعِلتْ قِبلة َ المسْجدِ ، وَأَمَرَ باِلخِرَبِ فسُوِّيتْ ، وأَمَرَ باِلقبوْرِ فنبشتْ ، فهَذِهِ مَقبَرَة ٌ مَنْبُوْشَة ٌ، كانَ فِيْهَا المشْرِكوْن) انتهَى ، وَهَذَا فِي«الصَّحِيْحَيْن»(1) وَتقدَّم .(182/93)
كمَا أَنَّ دَلِيْلَ المعْترِض ِ هَذَا : دَلِيْلٌ عَليْهِ لا لهُ ، وَبَيَانهُ : أَنهُ لوْ كانتِ الصَّلاة ُفِي المقبَرَةِ جَائِزَة ً تصحُّ ، لمَا نبشَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبوْرَ المشْرِكِيْنَ وَأَخْرَجَهَا ، وَلصَلوْا عَليْهَا دُوْنَ نبْش .
وَلكِنْ لمّا أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنَبْشِهَا : دَلَّ ذلِك َ عَلى حُرْمَةِ الصَّلاةِ فِيْهَا قبْلَ النَّبش ِ، وَعَدَمِ صِحَّتِهَا .
يُضَافُ إلىَ ذلك :
أَنَّ اخْتِيَارَ تِلك َ الأَرْض ِ لِتَكوْنَ مَسْجِدًا للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالمسْلِمِيْنَ ، كانَ بوَحْيٍ مِنَ اللهِ سُبْحَانهُ ، كمَا فِي قِصَّةِ ناقةِ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وبرُوْكِهَا فِي ذلِك َ المكان .
فوَجَبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لهَا : إصْلاحُهَا وتهْيئَتُهَا للمُصَلينَ ، وَإزَالة ُ مَا يُفسِدُ ذلك .
فلا يجُوْزُ لِغيْرِهِمْ مِنَ المسْلِمِيْنَ أَنْ يَعْمَدُوْا إلىَ مَقبَرَةِ مُشْرِكِيْنَ أَوْ مُسْلِمِيْنَ ، فينبشُوْهَا دُوْنَ حَاجَةٍ ، لِيصَلوْا فِيْهَا لِما سَبَق .
فصل
فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الثالِثِ ، وَهُوَ صَلاة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابهِ ، عَلى قبْرِ امْرَأَةٍ كانتْ تقمُّ المسْجد
أَمّا دَلِيْلُ المعْتَرِض ِالثالِثِ : فقوْلهُ:(صَلاة ُ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى المِسْكِيْنَةِ التِي كانتْ تقمُّ المسْجدَ ، فِي المقبَرَةِ مَعَ أَصْحَابهِ رَضِيَ الله ُعَنْهُمْ) انتهَى كلامُه .
وَهَذَا فِيْهِ خَلط ٌوخَبْط ٌ، فإنَّ نِزَاعَ أَهْل ِالعِلمِ فِي جَوَازِ الصَّلاةِ المطلقةِ ، ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ ، لا فِي صَلاةِ الجنازَة !
وَقِياسُ صَلاةِ الجنازَةِ باِلصَّلاةِ المطلقةِ : قِياسٌ مَعَ الفارِق ِ، وَهُوَ فاسِد .(182/94)
فإنْ كانتِ الصَّلاة ُ المطلقة ُوَصَلاة ُ الجنازَةِ ، اتفقتا فِي اسْمِ الصَّلاةِ : فقدِ اخْتَلفتا فِي الشُّرُوْطِ وَالصِّفة .
وَصَلاة ُالجنازَةِ فِيْهَا إظهَارُ ضَعْفِ الميِّتِ وَعَجْزِهِ ، وَحَاجَتِهِ هُوَ إلىَ إخْوَانِهِ الأَحْيَاءِ مِنَ المسْلِمِيْنَ لِيدْعُوْا الله َ لهُ ، وَيصَلوْا عَليْهِ ، عَلَّ الله ُ أَنْ يَرْحَمَهُ ويَنفعَهُ بدُعَائِهمْ . وَليْسَ فِي هَذَا مَظِنة ٌ لِشرْكٍ ، وَلا ذرِيْعَة ٌ لهُ وَلا فتْحٌ لِبابه .
بخلافِ الصَّلاةِ المطلقةِ ، ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ ، وَهِيَ التِي خَصَّهَا الشّارِعُ باِلتَّحْرِيْمِ باِلأَحَادِيْثِ السّابقةِ جَمِيْعًا ، وَلعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى ، لاتخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ ، يصَلوْنَ فِيْهَا الصَّلاة َ المطلقة َ، لا صَلاة َ الجنازَة !
فاسْتِدْلالهُ بهَذَا الدَّلِيْل ِ: اسْتِدْلالٌ في غيْرِ مَحَلهِ ، في مَسْأَلةٍ نقوْلُ بهَا ، وَلا ننازِعُ فِيْهَا ، وَلا تعَلقَ لهِذَا الدَّلِيْل ِ بمَسْأَلةِ النِّزَاع .
وَباعِثهُ عَلى الاسْتِدْلال ِ بهِ أَحَدُ أَمْرَيْن ِ: إمّا جَهْلهُ باِلفرْق ِ بَيْنَ الأَمْرَين ِ، أَوْ إرَادُتهُ التَّلبيْس . وَعَلى كِلا الحاليْن ِ: لا يُعْتَدُّ بصَاحِبِ هَذَيْن .
فصل
فِي نقض ِدَلِيْلِهِ الرّابعِ ، وَهُوَ زَعْمُهُ صَلاة َ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ في المقبَرَةِ مِنْ غيْرِ نكِيْر
أَمّا دَلِيْلهُ الرّابعُ : فقوْلهُ :(صَلاة ُ الصَّحَابةِ فِي المقبَرَةِ مِنْ غيْرِ نكِيْرٍ) انتهَى كلامُه .
وَهَذَا إنْ قصَدَ بهِ : صَلاتهُمْ صَلاة َ الجنازَةِ : فتقدَّمَ جَوَابه .(182/95)
وَإنْ كانَ قصْدُهُ الصَّلاة َ المطلقة َ: فعَليْهِ البيَانُ وَالدَّلِيْلُ ، وَعَدَمُ الإجْمَال . وَحَدِيْثُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّة ٌ عَلى مَنْ خَالف .
كمَا أَنَّ المعْلوْمَ مِنْ حَالهِمْ رَضِيَ الله ُعَنْهُمْ ، خِلافُ مَا ذكرَ : فقدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الخطابِ أَنسَ بْنَ مالكٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُما يُصَلي عِنْدَ قبرٍ فقالَ عُمَرُ منبهًا لهُ وَمُحَذِّرًا إياهُ:«القبْرَ القبْرَ!» وَهَذَا فِي «صَحِيْحِ البخارِيِّ» مُعَلقا(1/437) ، وَوَصَلهُ ابْنُ أَبي شَيْبَة َ في«مُصَنَّفِهِ»(2/379) مِنْ طرِيْقيْن ِ:
أَحَدِهِمَا : حَدَّثنا حَفصٌ عَنْ حُجَيَّة َ عَنْ أَنس ٍ،
وَالآخَرِ : حَدَّثنا وَكِيْعٌ حَدَّثنا سُفيَانُ حَدَّثنا حُمَيْدٌ عَنْ أَنس ٍ ، بنَحْوِه .
وَرَوَاهُ مَوْصُوْلا ً أَيْضًا :
عَبْدُ الرَّزّاق ِالصَّنْعَانِيُّ في«مُصَنَّفِهِ»(1/404-405):(عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثابتٍ البُنَانِيِّ عَنْ أَنس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه).
وَمِنْ طرِيقِهِ : أَبو بكرٍ ابْنُ المنذِرِ في«الأَوْسَطِ» (2/186) : (حَدَّثنا إسْحَاقُ عَنْ عَبْدِ الرَّزّاق).
وَالبَيْهَقِيُّ في«سُننِهِ الكبْرَى»(2/435):(أَخْبَرَنا محمَّدُ بْنُ مُوْسَى بْن ِ الفضْل ِحَدَّثنا أَبوْ العَبّاس ِ محمَّدُ بْنُ يَعْقوْبَ حَدَّثنا محمَّدُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثنا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَة َ حَدَّثنا حُمَيْدٌ عَنْ أَنس) بنَحْوِه .
وَقدْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ حَدِيْثَ عُمَرَ هَذَا ، وَقالَ عَقِبَهُ:(وَهَذَا يَدُلُّ عَلى أَنهُ كانَ مِنَ المسْتقِرِّ عِنْدَ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ : مَا نهَاهُمْ عَنْهُ نبيهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْر .(182/96)
وَفِعْلُ أَنس ٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُ : لا يدُلُّ عَلى اعْتِقادِهِ جَوَازَهُ ، فإنهُ لعَلهُ لمْ يرَهُ ، أَوْ لمْ يَعْلمْ أَنهُ قبْرٌ ، أَوْ ذهَلَ عَنْهُ ، فلمّا نبَّهَهُ عُمَرُ رَضِيَ الله ُ تعَالىَ عَنْهُ تنبه)اه، نقلهُ عَنْهُ ابْنُ القيمِ في«إغاثةِ اللهْفان»(1/186).
بَلْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ فِي«شَرْحِ العُمْدَةِ»(2/437): نوْعَ إجْمَاعٍ لِلصَّحَابةِ فِي تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ فِي المقابرِ، فقالَ:(وَأَصْرَحُ مِنَ النَّهْيِّ الصَّرِيْحِ ، وَالاسْتِثْنَاءِ القاطِعِ ، مَعَ كوْنهِ أَصَحَّ وَأَشْهَرَ ، وَهُوَ عَن ِ السَّلفِ أَظهَرُ وَأَكثرُ ، وَأَوْلىَ أَنْ يُعْتَمَدَ عَليْهِ ، فإنَّ هَذَا كالإجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابة).
ثمَّ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ أَثرَ عُمَرِ بْن ِ الخطابِ في تنْبيْههِ وَنهْيهِ أَنسًا عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ ، وَأَثرَ عَلِيِّ بْن ِ أَبي طالِبٍ في النَّهْيِّ عَنْ ذلِك َ وَغيْرِهِمْ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ .
ثمَّ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ(2/438) بَعْدَ ذِكرِهِ جَمَاعَة ً مِنَ الصَّحَابةِ : (وَكذَلِك َ رُوِيَ عَن ِ ابن ِعُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا ، ذكرَ ذلِك َ ابنُ حَامِدٍ ، وَعَن ِ ابْن ِ عُمَرَ وَابْن ِ عَبّاس ٍ كرَاهَة َ الصَّلاةِ في المقبَرَة .
وَهَذَا أَوْلىَ أَنْ يَكوْنَ صَحِيْحًا ، مِمّا ذكرَهُ الخطابيُّ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ «أَنهُ رَخَّصَ في الصَّلاةِ فِي المقابر» ، فلعلَّ ذلِك َ– إنْ صَحَّ – أَرَادَ بهِ صَلاة َ الجنازَة).
ثمَّ قالَ شَيْخُ الإسْلامِ(2/439):(وَهَذِهِ مَقالاتٌ انتشرَتْ ، وَلمْ يُعْرَفْ لها مُخالِفٌ ، إلا َّ مَا رُوِيَ عَنْ يَزِيْدِ بْن ِ أَبي مَالِكٍ قالَ:«كانَ وَاثِلة ُ بْنُ الأَسْقعِ يُصَلي بنا صَلاة َ الفرِيْضَةِ فِي المقبَرَةِ ، غيْرَ أَنهُ لا يَسْتَتِرُ بقبْر» رَوَاهُ سَعِيْد .(182/97)
وَهَذَا مَحْمُوْلٌ عَلى أَنهُ تنحَّى عَنْهَا بَعْضَ التَّنَحِّي ، وَلِذَلِك َ قالَ:«لا يَسْتَتِرُ بقبْرٍ» . أَوْ لمْ يَبْلغْهُ نهْيُ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا ، فلمّا سَمِعَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَن ِ الصَّلاةِ إليْهَا ، تنَحَّى عَنْهَا ، لأَنهُ هُوَ رَاوِي هَذَا الحدِيْثِ ، وَلمْ يَبْلغْهُ النَّهْيُ عَن ِ الصَّلاةِ فِيْهَا ، عَمِلَ بمَا بَلغهُ
دُوْنَ مَا لمْ يَبْلغْه)( - وَهَذَا عَلى التَّسْلِيْمِ بصِحَّةِ أَثرِ وَاثِلة َرَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَإلا َّ فالأَصْلُ عَدَمُ صِحَّتِهِ ، لِمُخالفتِهِ أَمْرَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإتيانِهِ نهْيَهُ ، وَمُخالفتِهِ المعْلوْمَ مِنْ حَال ِ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ كمَا تقدَّم . فإنْ صَحَّ : حُمِلَ عَلى مَا ذكرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ آنفا .)اه.
وَقالَ العَلامَة ُ الشَّرِيْفُ الحسَنُ بْنُ خَالِدٍ الحازِمِيُّ الحسَنيُّ رَحِمَهُ الله ُ(ت1234ه) في«قوْتِ القلوْبِ ، في تَوْحِيْدِ عَلامِ الغيوْب»(ص131-132):(وَاعْلمْ أَنَّ المنْعَ مِنَ الصَّلاةِ عِنْدَ القبْرِ: هُوَ مِمّا اسْتقرَّ عِنْدَ الصَّحَابةِ ، سَوَاءٌ كانَ مِنْ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ أَوْ غيْرِهِمْ ، وَعَلِمُوْهُ مِنْ نهْيِّ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْر)اه.
وَذكرَ أَبوْ محمَّدٍ ابْنُ قدَامَة َ فِي«المغني»(2/468): أَنَّ مِمَّنْ كرِهَ الصَّلاة َفِي المقبَرَةِ : عَلِيُّ بنُ أَبي طالِبٍ ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عَبّاس ٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ . وَهَؤُلاءِ كلهُمْ صَحَابَة ٌ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ ، وَزَادَ مِنْ غيْرِهِمْ : عَطاءًا وَالنَّخعِيَّ وَابْنَ المنْذِرِ رَحِمَهُمُ الله .
فصل(182/98)
فِي نقض ِ دَلِيْلِهِ الخامِس ِ، وَهُوَ زَعْمُهُ عَدَمَ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍ صَحِيْحٍ صَرِيْحٍ في النَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِ في المقبَرَة
أَمّا دَلِيْلهُ الخامِسُ: فقوْلهُ :(عَدَمُ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍصَحِيْحٍ صَرِيْحٍ فِي النَّهْيِّ عَن ِالصَّلاةِ فِي المقبَرَة) انتهَى كلامُه .
وَجَوَابُ هَذَا تقدَّمَ بحمْدِ اللهِ ،
وَ ليْسَ يصِحُّ فِي الأَذهَان ِ شَيْءٌ إذا احْتَاجَ النَّهَارُ إلىَ دَلِيل ِ
* * *
فصل
في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ عُبّادِ القبوْرِ عَلى جَوَازِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ بقوْلِهِ تَعَالىَ { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } وَنقضِهِ وَبيان ِ بُطلانِه
قدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُبّادِ القبوْرِ مِنْ مُشْرِكِي زَمَانِنَا وَغيْرِهِمْ ، عَلى جَوَازِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، بقوْلِهِ تَعَالىَ { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }.
بَلْ ذهَبَ بَعْضُ هَؤُلاءِ المرَدَةِ إلىَ القوْل ِ باِستِحْبَابِ اتخاذِهَا عَلى القبوْر.
وَالجوَابُ مِنْ وُجُوْهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ أُوْلئِك َ القائِلِيْنَ كانوْا كفارًا ، وَليْسُوْا بمُؤْمِنِينَ ، قدْ لعنهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى أَفعَالهِمْ تِلك َ، وَحَذَّرَ أُمتهُ مِنْ سُلوْكِ مَسَالِكِهمُ المرْدِية ِفقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لعَنَ الله ُ اليهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتَّخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ» وَفي رِوَايةٍ «وَصَالحِيْهمْ».(182/99)
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َفي«رَدِّهِ عَلى البكرِيِّ»(2/567-568): (فبيوْتُ الأَوْثان ِ، وَبيوْتُ النيرَان ِ، وَبيوْتُ الكوَاكِبِ ، وَبيوْتُ المقابرِ: لمْ يَمْدَحِ الله ُ شيْئًا مِنْهَا ، وَلمْ يَذْكرْ ذلِك َ إلا َّ في قِصَّةِ مَنْ لعنهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قالَ تَعَالىَ:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } .
فهَؤُلاءِ الذِيْنَ اتخذُوْا عَلى أَهْل ِ الكهْفِ مَسْجِدًا : كانوْا مِنَ النَّصَارَى الذِينَ لعنهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَيْثُ قالَ:«لعَنَ الله ُ اليهُوْدَ وَالنَّصَارَى اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ» وَفي رِوَايةٍ «وَالصّالحِين»).
وَمِمّا يَدُلُّ عَلى ذلِك َ: مُخالفتهُ لِمَا توَاترَ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لعْنِهِ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى ، لاتخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد .
وَقدْ حَكى ابْنُ جَرِيْرٍ في«تَفسِيْرِهِ» عَن ِ المفسِّرِيْنَ في أُوْلئِك َ المتغلبيْنَ قوْليْن ِ: أَحَدَهُمَا : أَنهُمْ مُسْلِمُوْنَ . وَالثانِي : أَنهُمْ مُشْرِكوْن .
وَبمَا تقدَّمَ مِنْ بيان ِ لعْن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفاعِلِي ذلِك َ، وَتوَاترِ تَحْذِيْرِهِ، وَعَظِيْمِ وَعِيْدِهِ : لا يَصِحُّ حَمْلهُمْ إلا َّ عَلى أَنهُمْ كانوْا مُشْرِكِيْن .
الوَجْهُ الثانِي : إنْ سَلمْنَا أَنهُمْ كانوْا مُسْلِمِيْنَ : فكانوْا ضَاليْنَ مُنْحَرِفِيْنَ بفِعْلِهمْ ذلِك َ، قدِ اسْتَحَقوْا لعْنَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسَببهِ ، وَهُمْ مِنْ جُمْلةِ الجهّال ِ وَالعَامَّة .(182/100)
الوَجْهُ الثالِثُ : أَنَّ الله َ عَزَّ وَجَلَّ لمْ يَصِفْ أُوْلئِك َ المتغلبيْنَ ، بوَصْفٍ يُمْدَحُوْنَ لأَجْلِهِ ، وَإنمَا وَصَفهُمْ باِلغلبةِ ! وَإطلاقهَا دُوْنَ قرْنِهَا بعَدْل ٍ أَوْ حَقّ : يدُلُّ عَلى التَّسَلطِ وَالهوَى وَالظلمِ ، وَلا يدُلُّ عَلى عِلمٍ وَلا هُدَى ، وَلا صَلاحٍ وَلا فلاح .
قالَ الحافِظ ُ ابْنُ رَجَبٍ(795ه) في شَرْحِهِ عَلى صَحِيْحِ البُخارِي(2/397) عَلى حَدِيْثِ «لعَنَ الله ُ اليَهُوْدَ ، اتخذُوْا قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِد»:(وَقدْ دَلَّ القرْآنُ عَلى مِثْل ِ مَا دَلَّ عَليْهِ هَذَا الحدِيْثُ ، وَهُوَ قوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في قِصَّةِ أَصْحَابِ الكهْفِ:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }.
فجَعَلَ اتخاذَ القبوْرِ عَلى المسَاجِدِ ، مِنْ فِعْل ِ أَهْل ِ الغلبةِ عَلى الأُمُوْرِ ، وَذلِك َ يشْعِرُ بأَنَّ مُسْتندَهُ : القهْرُ وَالغلبة ُ وَاتباعُ الهوَى ، وَأَنهُ ليْسَ مِنْ فِعْل ِ أَهْل ِ العِلمِ وَالفضْل ِ ، المتبعِينَ لِمَا أَنزَلَ الله ُ عَلى رُسُلِهِ مِنَ الهدَى)اه.
الوَجْهُ الرّابعُ : أَنَّ اسْتِدْلالَ هَؤُلاءِ القبوْرِيِّيْنَ بهَذِهِ الآيةِ عَلى هَذَا الوَجْهِ - مَعَ مُخالفتِهِ لِلأَحَادِيْثِ المتوَاتِرَةِ الناهِيَةِ عَنْ ذلِك َ- مُخالِفٌ لإجْمَاعِ عُلمَاءِ المسْلِمِيْنَ ، عَلى تَحْرِيْمِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْر.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ(27/488):(فإنَّ بناءَ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، ليْسَ مِنْ دِيْن ِ المسْلِمِيْن .
بَلْ هُوَ مَنْهيٌّ عَنْهُ باِلنُّصُوْص ِالثابتَةِ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاتفاق ِ أَئِمَّةِ الدِّين .(182/101)
بَلْ لا يَجُوْزُ اتِّخاذ ُ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ ببناءِ المسْجدِ عَليْهَا ، أَوْ بقصْدِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا . بَلْ أَئِمَّة ُ الدِّين ِ مُتَّفِقوْنَ عَلى النَّهْيِّ عَنْ ذلك) ، وَقدْ قدَّمْنَا الكلامَ عَنْ هَذَا مُفصَّلا ً.
الوَجْهُ الخامِسُ : أَنَّ هَذِهِ الآية َ ليْسَتْ مُخالفة ً- وَلا تَصْلحْ أَنْ تَكوْنَ مُخالِفة ً– لِلأَحَادِيْثِ المتوَاتِرَةِ النّاهِيَةِ عَنْ ذلِك َ، وَإنمَا هِيَ مُوَافِقة ٌ لهَا ، مُصَدِّقة ٌ بهَا . فقدْ أَخْبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باِتخاذِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، وَقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إنَّ أُوْلئِكَِ إذا مَاتَ فِيْهمُ الرَّجُلُ الصّالِحُ ، بنوْا عَلى قبْرِهِ مَسْجدًا ، وَصَوَّرُوْا فِيْهِ تِلك َ التَّصَاوِيْر» رَوَاهُ البخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» (427)، (1341)،(3873) وَمُسْلِم(528).
وَالله ُ أَخْبَرَ كذَلِك َ في كِتَابهِ بذَلِك َ، فقالَ سُبْحَانهُ:{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } . فالآية ُ مُصَدِّقة ٌ لِلأَحَادِيْثِ لا مُخالِفة .
تنبيه
قدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ الأَلبانِيُّ - رَحِمَهُ الله ُ ، وَغفرَ لهُ - هَذِهِ الشُّبْهَة َ في كِتَابهِ القيِّمِ «تَحْذِيْرِ السّاجِدِ ، مِنَ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِد»(ص65-78) وَرَدَّهَا مِنْ وُجُوْهٍ عِدَّةٍ فأَحْسَنَ ، عَدَا أَنَّ وَجْهَيْهِ الأَوَّليْن ِ في رَدِّهَا لا يسَلمَان ِ لهُ ، بَلْ هُمَا مَرْدُوْدَان .
* فإنهُ ذكرَ الوَجْهَ الأَوَّلَ فقالَ:(إنَّ الصَّحِيْحَ المتقرِّرَ في عِلمِ الأُصُوْل ِ: أَنَّ شَرِيْعَة َ مَنْ قبْلنا ليْسَتْ شَرِيْعَة ً لنا ، لأَدِلةٍ كثِيْرَة).(182/102)
* ثمَّ ذكرَ الوَجْهَ الثّانِي فقالَ:(هَبْ أَنَّ الصَّوَابَ قوْلُ مَنْ قالَ : «شَرِيْعَة ُ مَنْ قبْلنا شَرِيْعَة ٌ لنا»: فذَلِك َ مَشْرُوْط ٌ عِنْدَهُمْ ، بمَا إذا لمْ يرِدْ في شَرْعِنَا مَا يُخالِفه).
وَهَذَان ِ وَجْهَان ِ باطِلان ِ، فإنَّ اتخاذَ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ مَسَاجِدَ ، ليْسَ مِنْ شَرْعِ اللهِ قط ، لا في أُمَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا في الأُمَمِ قبْلهَا .
وَلوْ كانَ ذلِك َ شَرْعًا مِنْ شَرْعِ اللهِ لِمَنْ كانَ قبْلنا : لمْ يسْتَحِقوْا لعْنَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشَيْءٍ فعَلوْهُ قدْ أَتى بهِ شَرْعُهُمُ الذِي بُعِثَتْ بهِ أَنبيَاؤُهُمْ .
لكِنَّ لعْنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهمْ ، وَتغْلِيْظهُ عَليْهمْ : دَلِيْلٌ عَلى كبيْرِ ظلمِهمْ ، وَعَظِيْمِ إثمِهمْ ، وَمُخالفتهمْ لأَنبيَائِهمْ ، وَعَدَمِ مَجْيْئِهمْ به ، صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ .
فصل
في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ القبوْرِيِّيْنَ عَلى صِحَّةِ صَلاتِهمْ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، بحدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا مَرْفوْعًا «في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نَبيًّا» ، وَقدْ صَلى فِيْهِ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام ! وَبيَان ِ بُطلانِهِ وَأَنهُ مُنْكرٌ ، وَرَدِّهِ عَليْهمْ(182/103)
قدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ القبوْرِيِّيْنَ عَلى جَوَازِ صَلاتِهمْ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، بَلْ وَجَوَازِ اتخاذِهَا مَسَاجِدَ ، وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ ذلِك َ مُسْتَحَبًّا : بمَا رَوَاهُ أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ عَنْ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ طهْمَانَ عَنْ مَنْصُوْرِ بْن ِ المعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ : قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا».
قالوْا :(وَمَسْجِدُ الخيْفِ ، هُوَ مَسْجِدُ مِنَى ، وَصَلاة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْهِ ، وَصَلاة ُ أَصْحَابهِ : ثابتة ٌ مَعْرُوْفة ٌ صَحِيْحَة ٌ لا رَيْبَ فِيْهَا وَلا مِرْية ٌ: فدَلتْ صَلاة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلِك َ المسْجِدِ مَعَ مَا فِيْهِ مِنْ قبوْرِ أَنبيَاءٍ ، عَلى جَوَازِ الصَّلاةِ في المسَاجِدِ المبْنِيَّةِ عَلى القبوْرِ، وَفي المقابرِ مِنْ بَابِ أَوْلىَ ! وَقدْ تتابعَ أَئِمَّة ُ الإسْلامِ مِنْ صَدْرِ الإسْلامِ حَتَّى اليوْم ، عَلى الصَّلاةِ فِيْهِ دُوْنَ إنكار)!
وَقدْ رَوَى هَذَا الحدِيْثَ :
- أَبوْ يَعْلى الموْصِلِيُّ( - كمَا في«المطالِبِ العَالِيَةِ» لِلحَافِظِ ابْن ِ حَجَرٍ(3/370)(1425) «كِتَابُ الحجّ»،«بَابُ فضْل ِ مَسْجِدِ الخيْف».) قالَ: أَخْبَرَنا الرَّمَادِيُّ أَبوْ بَكرٍ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به .
- وَالفاكِهيُّ في«أَخْبَارِ مَكة»(4/266)(2594) قالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به .
- وَالطبَرَانِيُّ في«مُعْجَمِهِ الكبيْرِ»(12/414)(13525) قالَ: حَدَّثنَا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثنَا عِيْسَى بْنُ شاذانَ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به .
وَالجوَابُ :(182/104)
أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ الذِي اسْتَدَلوْا بهِ ، عَلى وُجُوْدِ سَبْعِيْنَ قبْرِ نبيٍّ في مَسْجِدِ الخيْفِ : حَدِيْثٌ باطِلٌ مُنْكرٌ، وَإنْ كانَ ظاهِرُ إسْنَادِهِ الصِّحَّة !
وَهُوَ حَدِيْثٌ لمْ يُصَحِّحْهُ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ ، بَلْ وَلمْ يَسْتَدِلَّ بهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ المعْتبرِيْنَ المتقدِّمِيْنَ عَلى شَيْءٍ مِنْ مَسَائِل ِ الصَّلاةِ في المقابرِ ، لاطرَاحِهِ وَظهُوْرِ نكارَتِهِ . وَبيانُ ذلِك َ مِنْ وُجُوْهٍ :
أَحَدُهَا : أَنهُ مُخالِفٌ لِلأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ بَلْ وَالمتوَاتِرَةِ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لعْنِهِ لِليهُوْدِ وَالنَّصَارَى ، المتخِذِيْنَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ ، بَلْ لعْنهُ المتخِذِيْنَ القبوْرَ مَسَاجِدَ مُطلقا .
بَلْ مُخالِفٌ لأَحَادِيْثَ صَحِيْحَةٍ كثِيْرَةٍ أُخْرَى ، فِيْهَا تَحْرِيْمُ الصَّلاةِ إلىَ القبوْرِ ، وَتَحْرِيْمُ وَطئِهَا وَالمشْيُ عَليْهَا ، وَإيْقادُ السُّرُجِ فِيْهَا .
فكيْفَ يتخِذُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ الخيْفِ مَسْجِدًا؟! وَيُصَلي فِيْهِ؟! وَيَدَعُ المسْلِمِيْنَ يُصَلوْنَ فِيْهِ؟! ثمَّ يحْذَرُ عَليْهمْ مِنَ اتخاذِ قبْرِهِ مَسْجِدًا وَعِيْدًا ، وَلا يَحْذَرُ عَليْهمُ اتخاذَ قبْرِ سَبْعِيْنَ نبيًّا مَسْجِدًا وَعِيْدًا ؟! { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }.
فلا شَك َّ أَنَّ حَدِيْثَ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا هَذَا : حَدِيْثٌ بَاطِلٌ مُنْكر.
الثانِي: أَنهُ مُخالِفٌ لِلإجْمَاعِ ، وَقدْ قدَّمْنَاهُ في «فصْل ِ تَحْرِيْرِ مَحَلِّ النزَاعِ» أَوَّلَ الكِتَابِ (ص13-19) ، وَذكرْنا هُنَاك َ إجْمَاعَ أَهْل ِ العِلمِ كافة ً ، عَلى حُرْمَةِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، وَالمسَاجِدِ عَلى القبوْر .(182/105)
الثالِثُ : أَنهُ مُخالِفٌ لإجْمَاعٍ آخَرَ أَيضا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ إجْمَاعُ العُلمَاءِ عَلى جَهَالةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ ، وَعَدَمِ قطعِهمْ بقبْرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، سِوَى قبْرِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُوْنَ غيْرِه .
أَمّا بَقِيَّة ُ قبوْرِهِمْ ففِيْهَا خِلافٌ كبيْرٌ ، وَالرّاجِحُ المقطوْعُ بهِ : بُطلانُ نِسْبتِهَا إليْهمْ ، سِوَى قبْرِ إبْرَاهِيْمَ عَليْهِ السَّلامُ ، ففِي قبْرِهِ نِزَاعٌ ، وَالجمْهُوْرُ عَلى ثبوْته .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ- كمَا في«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»(27/141)-:(وَلِهَذَا كانَ العُلمَاءُ الصّالِحُوْنَ مِنَ المسْلِمِيْنَ لا يُصَلوْنَ في ذلِك َ المكان . هَذَا إذا كانَ القبْرُ صَحِيْحًا فكيْفَ وَعَامَّة ُ القبوْرِ المنْسُوْبةِ إلىَ الأَنبيَاءِ كذِبٌ ، مِثْلُ القبْرِ الذِي يُقالُ : إنهُ «قبْرُ نوْحٍ» فإنهُ كذِبٌ لا رَيْبَ فِيْهِ ، وَإنمَا أَظهَرَهُ الجهّالُ مِنْ مُدَّةٍ قرِيْبَةٍ وَكذَلِك َ قبْرُ غيْرِه).
الرّابعُ : أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ لوْ كانَ صَحِيْحًا : لحَرُمَ وَطئُ قبوْرِهِمْ ، وَالجلوْسُ عَليْهَا ، وَالصَّلاة ُ فِيْهَا وَإليْهَا ، وَلوَجَبَ عَلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَانُ ذلِك َ لأُمَّتِهِ ، فلمَّا لمْ يَكنْ ذلِك َ: ظهَرَ بُطلانهُ ، وَخُلوُّ المسْجِدِ مِنَ القبوْر .
الخامِسُ : أَنهُ مُخالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيْحَةِ في بابهِ ، التي فِيْهَا : أَنَّ مَسْجِدَ الخيْفِ صَلى فِيْهِ سَبْعُوْنَ نبيًّا ، وَقدْ رَوَاهُ جَمَاعَة ٌ مِنَ الأَئِمَّةِ مَوْقوْفا وَمَرْفوْعًا ، لا قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا ! فصَوَابهُ «صَلى» لا «قبْر».(182/106)
فالرِّوَاية ُ المرْفوْعَة ُ: رَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ عَنْ عَطاءِ بْن ِ السّائِبِ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ جُبيْرٍ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ : قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا ، مِنْهُمْ مُوْسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كأَني أَنظرُ إليْهِ وَعَليْهِ عَبَاءَتان ِ قِطرَانِيَّتَان ِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلى بَعِيْرٍ مِنْ إبْل ِ شَنُوْءَةٍ ، مَخْطوْمٍ بخِطامٍ مِنْ لِيْفٍ لهُ ضَفِيْرَتان».
أَخْرَجَهُ :
- الفاكِهيُّ في«أَخْبَارِ مَكة»(4/266)(2593) قالَ: حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ المنذِرِ الكوْفيُّ ، وَعَبْدَة ُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيْمِ قالا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ به .
- وَالطبَرَانِيُّ في مُعْجَمَيْهِ:«الكبيْرِ»(11/452-453)(12283) وَ«الأَوْسَطِ» (6/193-194)(5403) قالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدِ بْن ِ أَبي خَيْثمَة َ
حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الطوْسِيُّ حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ به .
ثمَّ قالَ الطبَرَانِيُّ بَعْدَهُ في«الأَوْسَطِ»(6/194):
(لمْ يَرْوِ هَذَا الحدِيْثَ عَنْ عَطاءِ بْن ِ السّائِبِ إلا َّ مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل . تفرَّدَ بهِ : عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الطوْسِيّ).
وَهَذَا إسْنَادٌ رِجَالهُ حُفاظ ٌ ثِقاتٌ ، احْتَجَّ بهمْ أَصْحَابُ الصَّحِيْح .
وَتفرُّدُ مُحَمَّدِ بْن ِ فضَيْل ٍ بهِ عَنْ عَطاءٍ - الذِي ذكرَهُ الطبَرَانِيُّ - لا يَضُرُّهُ ، فإنَّ مُحَمَّدًا ثِقة ٌ حُجَّة ٌ، احْتَجَّ بهِ الشَّيْخان .(182/107)
أَمّا زَعْمُ الطبَرَانِيِّ رَحِمَهُ الله ُ: تفرُّدَ عَبْدِ اللهِ بْن ِ هَاشِمٍ الطوْسِيِّ بهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِ فضَيْل ٍ: فغيْرُ مُسَلمٍ وَلا صَحِيْحٍ ، بَلْ قدْ شَارَكهُ في رِوَايتِهِ لهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِفضَيْل ٍ: رَاوِيان ِ ثِقتان ِ، هُمَا عَلِيُّ بْنُ المنذِرِ ، وَعَبْدَة ُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيْمِ ، كمَا تقدَّم .
أَمّا الرِّوَاية ُ الموْقوْفة ُ: فجَاءَتْ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ أَيْضًا مِنْ طرِيْقيْن ِ، وَعَنْ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا .
فإحْدَى طرِيقيْ ابْن ِ عَبّاس ٍ: رَوَاهَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَة َ عَنْ أَشْعَثِ بْن ِ سَوّارٍ عَنْ عِكرِمَة َ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ:«صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا ، كلهُمْ مُخَطمِيْنَ باِلليْف» قالَ مَرْوَانُ :(يَعْنِي رَوَاحِلهُمْ).
أَخْرَجَهُ مِنْ هَذِهِ الطرِيْق ِ:
- الفاكِهيُّ في«أَخْبَارِ مَكة َ»(4/269)(2603) قالَ: حَدَّثنَا ابْنُ أَبي عُمَرَ حَدَّثنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِية َ به .
- وَالأَزْرَقِيُّ في«أَخْبَارِ مَكة»(2/174) أَيْضًا قالَ: حَدَّثنِي جَدِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبي عُمَرَ العَدَنِيُّ قالا: حَدَّثنَا مَرْوَانُ به .
وَهَذَا إسْنَادٌ رِجَالهُ رِجَالُ الصَّحِيْح .
وَأَشْعَثُ بْنُ سَوّارٍ : رَوَى لهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»في المتابعَاتِ ، وَتكلمَ فِيْهِ جَمَاعَة ٌ مِنَ الأَئِمَّةِ وَضَعَّفوْهُ ، وَلعَلَّ الطرِيْقَ الأُخْرَى عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ تَعْضُدُهُ ، وَقدْ :(182/108)
رَوَاهَا الحاكِمُ في«مُسْتَدْرَكِهِ»(2/598): عَنْ أَبي العَبّاس ِ مُحَمَّدِ بْن ِ يَعْقوْبَ عَنْ أَحْمَدِ بْن ِ عَبْدِ الجبّارِ عَنْ يُوْنس ِ بْن ِ بُكيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِ إسْحَاقَ عَن ِ الحسَن ِ بْن ِ مُسْلِمٍ عَنْ مِقسَمٍ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ:«لقدْ سَلك َ فجَّ الرَّوْحَاءِ سَبْعُوْنَ نبيًّا حُجّاجًا ، عَليْهمْ ثِيَابُ الصُّوْفِ ، وَلقدْ صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا».
وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ في«سُنَنِهِ الكبْرَى»(5/177)مِنْ طرِيْق ِ أَبي عَبْدِ اللهِ الحاكِمِ عَنْه.
وَهَذَا إسْنَادٌ رِجَالهُ مُحْتَجٌّ بهمْ في الصَّحِيْحِ ، غيْرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إسْحَاقَ : مُدَلسٌ وَقدْ عَنْعَن .
أَمّا حَدِيْثُ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ :
فرَوَاهُ مُسَدَّدٌ ( - كمَا في «المطالِبِ العَالِيَةِ» لِلحَافِظِ ابْن ِ حَجَرٍ(3/370)(1425)«كِتَابُ الحجّ»،«بَابُ فضْل ِ مَسْجِدِ الخيْف».) عَنْ يَحْيَى بْن ِ سَعِيْدٍ القطان ِ عَنْ عَبْدِ الملِكِ بْن ِ أَبي سُليْمَانَ عَنْ عَطاءٍ عَنْ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ:«صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا ، وَبَيْنَ حِرَاءَ وَثبيْرٍ سَبْعُوْنَ نبيًّا».
وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِم .
وَرِوَايتا ابْن ِ عَبّاس ٍ وَأَبي هُرَيْرَة َ الموْقوْفتان ِ عَليْهمَا : لهمَا حُكمُ الرَّفعِ ، لأَنَّ مِثلهُمَا لا يُقالُ باِلرَّأْيِّ ، وَيَشْهَدُ لِرَفعِهَا - ضِمْنًا - حَدِيْثُ ابْن ِ عَبّاس ٍ المرْفوْعُ وَقدْ تقدَّم .
وَفي هَذَا البابِ أَيْضًا : مُرْسَلٌ لِسَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّبِ قالَ: (مَرَّ مُوْسَى عَليْهِ السَّلامُ بفجِّ الرَّوْحَاءِ ، وَعَليْهِ عَبَاءََتان ِ قطوَانِيَّتَان ِ، تجَاوِبهُ صِفاحُ الرَّوْحَاءِ ، وَهُوَ يقوْلُ:«لبَّيْك َ عَبْدُك َ، وَابْنُ عَبْدَيْك».(182/109)
وَمَرَّ عِيْسَى بْنُ مَرْيَمَ عَليْهمَا السَّلامُ يلبِّي ، وَهُوَ يقوْلُ: «لبَّيْك َ عَبْدُك َ، وَابْنُ أَمَتِك َ بنْتِ عَبْدَيْك».
وَمِنْ قبْلُ أَوْ مِنْ بَعْدُ سَبْعُوْنَ نبيًّا ، خَاطِمِي رَوَاحِلهُمْ بحِبَال ِ الليْفِ ، حَتَّى صَلوْا في مَسْجِدِ الخيْف).
رَوَاهُ :
- الفاكِهيُّ في«أَخْبَارِ مَكة»(4/268-269)(2601) قالَ: حَدَّثنَا ابْنُ أَبي عُمَرَ حَدَّثنَا سُفيَانُ – هُوَ ابنُ عُيَيْنَة َ- عَن ِ ابْن ِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّبِ به .
وَرَوَاهُ :
- الإمَامُ أَحْمَدُ في«الزُّهْدِ» قالَ: حَدَّثنَا سُفيَانُ عَن ِ ابن ِ جُدْعَانَ وَأَسْنَدَهُ ، فذَكرَهُ دُوْنَ أَوَّلهِ الذِي فِيْهِ ذِكرُ مُوْسَى عَليْهِ السَّلام .
الوَجْهُ السّادِسُ : أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ – أَعْني حَدِيْثَ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا المنتقدَ - : قدْ رَوَاهُ عَنْهُ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ التّابعِيُّ الثقة ُ رَحِمَهُ الله .
وَقدْ ثبتَ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا يخالِفهُ ، وَيوَافِقُ الرِّوَاياتِ الصَّحِيْحَة َ المتقدِّمة َ فِيْه .
فرَوَى البَيْهَقِيُّ في«سُننِهِ الكبْرَى»(2/420): عَنْ أَبي عَبْدِ اللهِ الحاكِمِ وَأَبي سَعِيْدٍ مُحَمَّدِ بن ِ مُوْسَى ابن ِ أَبي عَمْرٍو الصَّيرَفيِّ كِلاهُمَا عَنْ أَبي العَبّاس ِ الأَصَمِّ عَنْ يَحْيَى بْن ِ أَبي طالِبٍ عَنْ عَبْدِ الوَهّابِ بن ِ عَطاءٍ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ أَبي عَرُوْبة َ: أَنهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقوْلُ:«صَلى في هَذَا المسْجِدِ - مَسْجِدِ الخيْفِ ، يَعْني مَسْجِدَ مِنَى- سَبْعوْنَ نبيًّا ، لِبَاسُهُمُ الصُّوْفُ ، وَنعَالهمُ الخوْص».
وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيْح .
وَرَوَى الفاكِهيُّ أَيْضًا في«أَخْبَارِ مَكة»(4/18)(2313):(182/110)
عَنْ عَلِيِّ بْن ِ المنذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِ فضَيْل ٍ عَنْ يَزِيْدِ بْن ِ أَبي زِيادٍ قالَ:(خَرَجْنَا مَعَ مُجَاهِدٍ نسِيْرُ حَتَّى خَرَجْنَا مِنَ الحرَمِ نَحْوَ عَرَفاتٍ ، فقالَ مُجَاهِدٌ:«هَلْ لكمْ في مَسْجِدٍ كانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا يَسْتَحِبُّ أَنْ يُصَليَ فِيْه».
قالَ : قلنا : نعَم ، فصَليْنَا فِيْه .
ثمَّ قالَ:«لقدْ صَلى فِيْهِ سَبْعُوْنَ نبيًّا ، كلهُمْ يَؤُمُّ الخيْف».
وَرَوَى الفاكِهيُّ في«أَخْبَارِ مَكة» أَيْضًا (4/268)(2599) قالَ: حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عِمْرَانَ المخْزُوْمِيُّ حَدَّثنَا سَعِيْدُ بْنُ سَالِمٍ حَدَّثنَا عُثْمَانُ بْنُ سَاجٍ أَخْبَرَنِي خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن ِعَنْ مُجَاهِدٍ قالَ:(حَجَّ خَمْسَة ٌوَسَبْعُوْنَ نَبيًّا ، كلهُمْ قدْ طافَ بهذَا البيْتِ ، وَصَلى في مَسْجِدِ مِنَى ، فإن ِ اسْتَطعْتَ لا تَفوْتك َ صَلاة ٌ في مَسْجِدِ مِنَى فافعَلْ).
وَرَوَاهُ الأَزْرَقِيُّ في«أَخْبَارِ مَكة»(2/174): حَدَّثنِي جَدِّي عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ سَالِمٍ به .
الوَجْهُ السّابعُ: أَنَّ في إسْنَادِهِ إبْرَاهِيْمَ بْنَ طهْمَانَ ، وَهُوَ مَرَدُّ وَسَبَبُ مُخالفةِ هَذَا الحدِيْثِ لِلأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ وَنكارَتِهِ ، كمَا تقدَّم .
وَهُوَ وَإنْ كانَ ثِقة ً احْتَجَّ بهِ أَصْحَابُ الصَّحِيْحِ ، إلا َّ أَنهُ قدْ تفرَّدَ بأَشْيَاءَ خَالفَ فِيْهَا ، فلمْ يُوَافقْ عَليْهَا وَلمْ يُتَابعْ ، حَتَّى قالَ فِيْهِ – لأَجْلِهَا – الحافِظ ُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ابْنُ عَمّارٍ:(إبْرَاهِيْمُ بْنُ طهْمَانَ : ضَعِيْفٌ مُضْطرِبُ الحدِيْث).(182/111)
وَقالَ ابْنُ حِبّانَ فِيْهِ في «الثقاتِ»(6/27):(أَمْرُهُ مُشْتَبهٌ ، لهُ مَدْخَلٌ في الثقاتِ ، وَمَدْخَلٌ في الضُّعَفاءِ ، قدْ رَوَى أَحَادِيْثَ مُسْتَقِيْمَة ً تُشْبهُ أَحَادِيْثَ الأَثباتِ . وَقدْ تفرَّدَ عَن ِ الثقاتِ بأَشْيَاءَ مُعْضِلات)اه.
قلتُ : إنْ لمْ يَكنْ هَذَا الحدِيْثُ مِنْ مُعْضِلاتِهِ : فليْسَ لهُ مُعْضِلاتٌ ، وَإنْ لمْ يَكنْ هَذَا مِنْ غرَائِبهِ ، فمَا غرَائبُه؟!
وَلا رَيْبَ أَنَّ مُخالفتهُ وتفرُّدَهُ بتِلك َ اللفظةِ المنكرَةِ «قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا» مَكانَ «صَلى سَبْعُوْنَ نبيًّا»: رَأْسُ مُعْضِلاته .
قالَ الذَّهَبيُّ في تَرْجَمَتِهِ في«سِيَرِ أَعْلامِ النُّبَلاءِ»(7/383):(لهُ مَا يَنْفرِدُ بهِ ، وَلا يَنْحَط ُّ حَدِيثهُ عَنْ دَرَجَةِ الحسَن).
وَقالَ الحافِظ ُ ابْنُ حَجَرٍ فِيْهِ في«تقرِيْبِ التَّهْذِيْبِ»(1/36): (ثِقة ٌ يُغرِب).
الوَجْهُ الثامِنُ : أَنَّ سِيَاقَ هَذَا الحدِيْثِ - حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ«في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا»: سِيَاقُ مَدْحٍ وَتفضِيْل .
وَهَذَا لا يَسْتقِيْمُ وَلا يَصِحُّ ، أَنْ يَكوْنَ مَرَدُّ فضْل ِ مَسْجِدِ الخيْفِ : وُجُوْدَ تِلك َ القبوْرِ السَّبْعِيْن !
بَلْ إنَّ وُجُوْدَهَا فِيْهِ ، تَجْعَلُ الصَّلاة َ فِيْهِ مُحَرَّمَة ً مُنْكرَة ً لا تَصِحُّ – لوْ قِيْلَ بصِحَّةِ حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ ، وَلا يَصِحُّ - لِمَا قدَّمْنَا ، وَمُخالفتِهِ الأَحَادِيْثَ الصَّحِيْحَة .
وَإنمَا مَرَدُّ الفضْل ِ في ذلِك َ وَسَبَبُهُ : مَا جَاءَ في الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى الصَّحِيْحَةِ ، وَهُوَ : صَلاة ُ الأَنبيَاءِ فِيْهِ ، حَتَّى كانتِ الصَّلاة ُ فِيْهِ سُنَّة َ أَنبيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهمْ وَسَلامُهُ ، وَسَنَّة َ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(182/112)
وَقدْ دَلتْ عَلى هَذَا : الأَحَادِيْثُ وَالآثارُ الأُخْرَى التي قدَّمْنَاهَا في الوَجْهَيْن ِ الخامِس ِ وَالسّادِس .
الوَجْهُ التّاسِعُ : أَنهُ لا يَسْتقِيْمُ تتابعُ دَفن ِ هَؤُلاءِ الأَنبيَاءِ السَّبْعِيْنَ - مَعَ كثرَتِهمْ – وَاتفاقهُ في مَسْجِدِ الخيْفِ ، إلا َّ أَنْ يَكوْنَ أَصْلُ أَرْضِهِ مَقبَرَة ً، يُقبرُ فِيْهَا الصّالحوْنَ وَالمشْرِكوْن .
فإنْ كانَ هَذَا : فلا مَزِية َ لها ، فكمَا أَنَّ فِيْهَا قبوْرَ أَنبيَاءٍ ، ففِيْهَا قبوْرُ مُشْرِكِيْنَ وَكفار !
وَهَذَا مُخَالِفٌ أَيْضًا ، لِمَا صَحَّ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نبشِهِ قبوْرَ المشْرِكِيْنَ في مَوْضِعِ مَسْجِدِهِ في المدِيْنةِ ، وَنقل ِ رُفاتِهمْ : فلوْ كانَ ذلِك َ صَحِيْحًا : لوَجَبَ نبْشُ قبوْرِ المشْرِكِيْنَ ، وَنقلُ رُفاتِهمْ كمَا فعَلهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وََأَمَرَ بهِ في مَسْجِدِه .
الوَجْهُ العَاشِرُ : أَنهُ يَلزَمُ مِنْ دَفن ِ هَؤُلاءِ الأَنبيَاءِ السَّبْعِيْنَ في مَسْجِدِ الخيْفِ : أَنهُمْ بقوْا في مَكة َ بَعْدَ حَجهمْ مُدَّة ً ، حَتَّى وَافتْهُمْ مَنَاياهُمْ !
وَالعَادَة ُ تُحِيْلُ ذلِك َ، وَأَنْ تكوْنَ مَنَايَاهُمْ وَافتْهُمْ جَمِيْعًا بمَكة َ قبْلَ إمْكانِهمْ مِنَ القفوْل ِ إلىَ أَهْلِهمْ .
وَيَلزَمُ مِنْ هَذَا أَمْرَان ِ:
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكوْنَ بَقِيَ في مَكة َ أَنبيَاءٌ قبْلَ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيْرَ إبْرَاهِيْمَ وَابنِهِ عَليْهمَا السَّلام .(182/113)
وَهَذَا أَمْرٌ غيْرُ صَحِيْحٍ وَلا مَعْرُوْفٍ ، وَقدْ رَوَى البخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ»(7) مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا في قِصَّةِ سُؤَال ِ هِرَقلَ لِرَهْطِ قرَيْش ٍ، وَفِيْهمْ أَبوْ سُفيَانَ ، وَهُوَ حَدِيْثٌ طوِيْلٌ كانَ فِيْهِ قوْلُ هِرَقلَ لأَبي سُفيَانَ:«وَسَأَلتُك َ: هَلْ قالَ هَذَا القوْلَ - أَي النُّبُوَّة َ- أَحَدٌ قط قبْله؟ فأَجَبْتَ أَنْ لا ، فقلتُ : لوْ كانَ أَحَدٌ مِنْكمْ قالَ هَذَا القوْلَ قبْلهُ ، قلتُ : رَجُلٌ يأْتمُّ بقوْل ٍ قِيْلَ قبْله».
الأَمْرُ الثانِي : أَنهُمْ - صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ- بقوْا في مَكة َ عِنْدَ قوْمٍ لمْ يُؤْمَرُوْا بإبلاغِهمْ شَيْئًا ! وَترَكوْا أَقوَامَهُمْ وَقدْ كلفوْا بإبْلاغِهمْ رِسَالاتِ رَبِّهمْ !
وَقدْ كانتِ الأَنبيَاءُ تبْعَثُ في أَقوَامِهَا خَاصَّة ً دُوْنَ غيْرِهِمْ ، عَدَا نبيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فبعِثَ لِلنّاس ِ عَامَّة ً، كمَا عِنْدَ أَحْمَدَ في«مُسْنَدِهِ»(3/304) وَالبخارِيِّ في«صَحِيْحِهِ»(335)، وَمُسْلِمٍ(521) كلهُمْ مِنْ حَدِيْثِ جَابرِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«أُعْطِيْتُ خَمْسًا لمْ يُعْطهُنَّ أَحَدٌ قبْلِي: نصِرْتُ باِلرُّعْبِ مَسِيْرَة َ شَهْرٍ، وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا ، فأَيمَا رَجُل ٍ مِنْ أُمَّتي أَدْرَكتْهُ الصَّلاة ُ فليصَلِّ ، وَأُحِلتْ لِيَ الغنائِمُ ، وَلمْ تحِلَّ لأَحَدٍ قبْلِي ، وَأُعْطِيْتُ الشَّفاعَة َ، وَكانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلىَ قوْمِهِ خَاصَّة ً، وَبُعِثْتُ إلىَ النّاس ِ عَامَّة».(182/114)
الوَجْهُ الحادِي عَشَرَ: أَنَّ صُوَرَ هَذِهِ القبوْرِ- لوْ سَلمْنَا بوُجُوْدِهَا وَلا نسَلمُ – غيرُ ظاهِرَةٍ وَلا بَارِزَةٍ ، وَالشِّرْك ُ إنما يَحْصُلُ إذا ظهَرَتْ صُوَرُهَا .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تيْميَّة َرَحِمَه ُ الله ُ– كمَا في«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»(17/463)-:(كذَلِك َ قالَ العُلمَاءُ :«يَحْرُمُ بناءُ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ، وَيَجِبُ هَدْمُ كلِّ مَسْجِدٍ بُنيَ عَلى قبْر».
وَإنْ كانَ الميِّتُ قدْ قبرَ في مَسْجِدٍ وَقدْ طالَ مُكثهُ : سُوِّيَ القبْرُ حَتَّى لا تَظهَرَ صُوْرَتهُ ، فإنَّ الشِّرْك َ إنما يَحْصُلُ إذا ظهَرَتْ صُوْرَته)اه.
هَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا ، كلُّ وَجْهٍ مِنْهَا حُجَّة ٌ يُبْطِلُ ذلِك َ الحدِيْثَ وَيسْقِطهُ ، فكيْفَ بهَا مُجْتَمِعَة ؟!
وَلمْ أَسُقهَا كلهَا لأَجْل ِ قوَّةِ ذلِك َ الحدِيْثِ ، أَوْ ظهُوْرِ صِحَّتِهِ ! وَقدْ عَلِمْتَ إعْرَاضَ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ عَنْهُ ، وَعَدَمَ تَصْحِيْحِهمْ لهُ ، مَعَ تَسَاهُل ِ بَعْضِهمْ .
وَإنمَا سُقتهَا مُتتابعَة ً، زِيَادَة ً في إرْغامِ المعارِض ِ، وَإظهَارًا لِضَعْفِ حُجتِهِ ، وَسُقوْطِ أَدِلتِهِ ، وَبُعْدِ مَنَالهِ عَنْ يَدَيه .
فصل
في بيان ِحَال ِ مَا جَاءَ في دَفن ِ آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ في مَسْجِدِ الخيْفِ وَبُطلانِه
قدْ وَجَدْتُ لأُوْلئِك َ المبْطِلِيْنَ أَثرًا آخَرَ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا ، رُبَّمَا اسْتَدَلوْا بهِ : أَنَّ قبْرَ آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ في مَسْجِدِ الخيْف .(182/115)
وَهَذَا قدْ رَوَاهُ الدّارَقطنيُّ رَحِمَهُ الله ُ في«سُننِهِ»(2/70-71)- مَجْمَعِ الغرَائِبِ ، كمَا أَرَادَهُ – فقالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلدٍ حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن ِ سُليْمَانَ العَلافُ حَدَّثنَا صَبَاحُ بْنُ مَرْوَانَ حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّحْمَن ِ بْنُ مَالِكِ بْن ِ مِغْوَل ٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِ مُسْلِمِ بْن ِ هُرْمُزَ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ جُبَيْرٍ وَعُرْوَة َ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ :«صَلى جِبْرِيْلُ عَليْهِ السَّلامُ عَلى آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ : كبَّرَ عَليْهِ أَرْبعًا ، وَصَلى جِبْرِيْلُ باِلملائِكةِ يَوْمَئِذٍ ، وَدُفِنَ في مَسْجِدِ الخيْفِ ، وَأُخِذَ مِنْ قِبَل ِ القِبْلةِ ، وَلحِدَ لهُ ، وَسُنِّمَ قبْرُه».
وَهَذَا الحدِيْثُ بَاطِلٌ ، وَمِمَّنْ أَعَلهُ : رَاوِيْهِ الدّارَقطنيُّ ، فإنهُ قالَ رَحِمَهُ الله ُ بَعْدَ رِوَايتِهِ لهُ:(عَبْدُ الرَّحْمَن ِ بْنُ مَالِكِ بْن ِ مِغْوَل ٍ: مَتْرُوْك ٌ، وَرَوَاهُ أَبوْ إسْمَاعِيْلَ المؤَدِّبُ عَن ِ ابْن ِ هُرْمُزَ عَنْ أَبي حَزْرَة َ عَنْ عُرْوَة َ ، قوْلهُ بَعْضَ هَذَا الكلام).
وَلهُ عِلة ٌ أُخْرَى غيْرَ عَبْدِ الرَّحْمَن ِ هَذَا : وَهِيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْن ِ هُرْمُزَ ، ضَعِيْفٌ ، ضَعَّفهُ أَئِمَّة ُ الحدِيْثِ ، كالإمَامِ أَحْمَدَ وَيَحْيَى بْن ِ مَعِيْن ٍ، وَأَبي دَاوُوْدَ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبي عَمْرٍو الفلاس ِ، وَأَبي حَاتِمٍ الرّازِيِّ وَغيْرِهِمْ .(182/116)
وَقدْ جَاءَ حَدِيْثُ ابْن ِ عَبّاس ٍ هَذَا مِنْ طرِيْق ِ أُخْرَى : فرَوَاهُ الفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة»(4/268)(2600) قالَ: حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَنْصُوْرٍ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ سَالِمٍ عَن ِ ابْن ِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءٍ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ:(قبْرُ آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ بمَكة َ، أَوْ في مَسْجِدِ الخيْفِ ، وَقبْرُ حَوّاءَ بجُدَّة).
وَهَذَا وَإنْ لمْ يَكنْ حُجَّة ً وَلوْ صَحَّ ، لالترَدُّدِ وَالشَّك ِّ في مَوْضِعِ القبْرِ بَيْنَ مَسْجِدِ الخيْفِ وَبَيْنَ مَكة َ: إلا َّ أَنهُ كذَلِك َ ضَعِيْفٌ ، وَفي سَنَدِهِ عِلتان ِ:
إحْدَاهُمَا : عَنْعَنَة ُ ابْن ِجُرَيْجٍ ، وَهُوَ ثِقة ٌ غيْرَ أَنهُ مُدَلسٌ مُكثِرٌ مِنْهُ ، وَقدْ عَنْعَن .
وَالثّانِيَة ُ: سَعِيْدُ بْنُ سَالِمٍ ، لهُ أَوْهَام .
وَهَذِهِ العِللُ مِنْ حَيْثُ الإسْنَادُ ، وَإلا َّ فإنَّ مَتْنَهُ مُنْكرٌ ، يُظهرُ نكارَتهُ الوَجْهُ الأَوَّلُ ، وَالثّانِي ، وَالثالِثُ ، وَالرّابعُ المتقدِّمة ُ في الفصْل ِ السّابق(ص134-136).
يُضَافُ لها وَجْهَان ِ آخَرَان ِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ في لفظِهِ في مَتنِهِ الثّانِي ترَدُّدًا وَعَدَمَ جَزْمٍ بَيْنَ مَكة َ وَمَسْجِدِ الخيْفِ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلى اضْطِرَابٍ وَعَدَمِ ضَبْطٍ ، فيسْقط ُ الاحْتِجَاجُ به .
الثانِي: أَنَّ هَذَا أَمْرٌ غيْرُ مَشْهُوْرٍ عِنْدَ أَهْل ِ العِلمِ ، فإنهُمْ- مَعَ تَسَاهُل ِ بَعْضِهمْ – لمْ يَذْكرُوْا أَنَّ آدَمَ - عَليْهِ السَّلامُ - دُفِنَ في مَسْجِدِ الخيْفِ ، وَإنْ لمْ يَشْتَرِطوْا الصِّحَة َ فِيْمَا يَرْوُوْنهُ وَيُوْرِدُوْنهُ ، فقدْ ذكرَ ابْنُ جَرِيْرٍ في«تارِيْخِهِ»(1/161) وَتبعَهُ ابْنُ كثِيْرٍ في«البدَايةِ وَالنِّهَايةِ»(1/108) أَقوَالا ً عِدَّة ً في مَوْضِعِ دَفن ِ آدَمَ ، لمْ يَكنْ هَذَا مِنْهَا .(182/117)
قالَ الحافِظ ُ ابْنُ كثِيْرٍ في«البدَايةِ وَالنِّهَايَةِ»(1/108):(وَاخْتَلفوْا في مَوْضِعِ دَفنِهِ : فالمشْهُوْرُ : أَنهُ دُفِنَ عِنْدَ الجبَل ِالذِي أُهبط َ مِنْهُ في الهِنْد.
وَقِيْلَ: بجبَل ِأبي قبَيْس ٍ بمَكة.
وَيُقالُ: إنَّ نُوْحًا عَليْهِ السَّلامُ لمّا كانَ زَمَنُ الطوْفان ِ، حَمَلهُ هُوَ وَحَوَّاءَ في تَابوْتٍ ، فدَفنَهُمَا ببَيْتِ المقدِس . حَكى ذلِك َ ابْنُ جَرِيْر .
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِهمْ أَنهُ قالَ:«رَأْسُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ إبْرَاهِيْمَ ، وَرِجْلاهُ عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ المقدِس»)اه.
قلتُ :
رِوَاية ُ ابْن ِعَسَاكِرَ هَذِهِ عَنْ بَعْضِهمْ : مُخَالِفة ٌ لِمَا ثبَتَ في«الصَّحِيْحَيْن» مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «خَلقَ الله ُ آدَمَ وَطوْلهُ سِتُّوْنَ ذِرَاعًا»[خ(3326)،(6227) م(2841)] .
وَمَعَ اطرَاحِهَا : حَكاهَا ابْنُ كثِيْرٍ ، وَلمْ يَذْكرْ هُوَ ، وَلا ابْنُ جَرِيْرٍ : أَنَّ آدَمَ - عَليْهِ السَّلامُ – مَدْفوْنٌ بمَسْجِدِ الخيْف .
وَفي البابِ ثلاثة ُ مَرَاسِيْلَ أُخْرَى سَاقِطة ٌ:
أَحَدُهَا : رَوَاهُ أَبوْ الشَّيْخِ الأَصْبَهَانِيُّ في«العَظمَةِ»(5/1592) (1056) قالَ: حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْن ِ سَابوْرٍ الدَّقاقُ حَدَّثنَا أَبوْ نعَيْمٍ الحلبيُّ حَدَّثنَا سُليْمٌ الخشّابُ المكيُّ عَنْ رَجَاءِ بْن ِ أَبي عَطاءٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قالَ:(قبْرُ آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ بمِنَى في مَسْجِدِ الخيْفِ ، وَقبْرُ حَوّاءَ بجُدَّة).
وَهَذَا مَعَ إرْسَالِهِ ، ضَعِيْفٌ فإنَّ فِيْهِ ثلاثَ عِلل ٍ غيْرَ إرْسَالِهِ :(182/118)
سُليْمُ بْنُ مُسْلِمٍ الخشّابُ : قالَ فِيْهِ الإمَامُ أَحْمَدُ:«لا يُسَاوِي حَدِيْثهُ شَيْئًا» وَقالَ ابْنُ مَعِيْن ٍ:«جَهْمِيٌّ خَبيْثٌ» وَقالَ النَّسَائِيُّ:«مَتْرُوْك ُ الحدِيْث» كمَا في«مِيْزَان ِالاعْتِدَال» لِلذَّهَبيّ(2/232).
وَرَجَاءُ بْنُ أَبي عَطاءٍ المِصْرِيُّ : قالَ فِيْهِ الحاكِمُ:«مِصْرِيٌّ صَاحِبُ مَوْضُوْعَات» وَقالَ أَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ:«يَرْوِي الموْضُوْعَات»، نَقلهَا عَنْهُمُ الذَّهَبيُّ في «مِيْزَان ِالاعْتِدَال»(2/46).
وَأَبوْ نعَيْمٍ عُبَيْدُ بْنُ هِشَامٍ الحلبيُّ : ثِقة ٌ، رَوَى لهُ أَبوْ دَاوُوْدَ في «سُننِهِ» إلا َّ أَنهُ تغيَّرَ آخِرَ أَمْرِهِ ، قالَ أَبوْ دَاوُوْدَ فِيْهِ:(ثِقة ٌ، إلا َّ أَنهُ تغيَّرَ في آخِرِ أَمْرِهِ ، لقنَ أَحَادِيْثَ ليْسَ لها أَصْل).
وَالمرْسَلان ِ الثانِي وَالثالِثُ كحَال ِ سَابقتِهَا: رَوَاهُمَا الفاكِهيُّ في«أَخْبَارِ مَكة»(4/271)(2608) قالَ: حَدَّثنَا ابْنُ أَبي مَسَرَّة َ وَابْنُ أَبي سَلمَة َ- يَزِيْدُ أَحَدُهُمَا عَلى صَاحِبهِ- قالا : حَدَّثنَا يَحْيى بْنُ عَبْدِ اللهِ بن أبي قزعة قالَ : حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوْسَى قالَ : حَدَّثني زَيدُ بْنُ أَسْلم .
قالَ ابْنُ أَبي سَلمَة َ في حَدِيْثِهِ : عَنْ أَبي:(إنَّ آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ لحِدَ لهُ في مَسْجِدِ الخيْفِ ، ودُفِنَ في وِترٍ مِنَ الثيَاب).
فصل
فِي رَدِّ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلى بَعْض ِ أَدِلةِ المحَرِّمِين
وَقدْ رَدَّ هَذَا المعْتَرِضُ بَعْضَ أَدِلةِ مُحَرِّمِي الصَّلاةِ مُطلقا في المقابرِ ، وَعِنْدَ القبوْرِ السّابقةِ ، دُوْنَ بَيِّنةٍ وَلا بُرْهَان .(182/119)
وَقيدَ عُمُوْمَهَا بغيْرِ قيْدٍ ، وَخَصَّصَ إطلاقهَا بغيْرِ مُخصِّص ٍ، فجَعَلَ تِلك الأَحَادِيْثَ كلهَا ، في تَحْرِيْمِ اتخاذِ قبورِ الأَنبيَاءِ مَسَاجدَ ، وَقصْدِ الصَّلاةِ عِنْدَ أَصْحَابِ القبوْرِ المعَظمَةِ فقالَ:(وَنحْنُ نقوْلُ بهَذَا ، يَحْرُمُ قصْدُ قبرٍ مُعَظمٍ بصَلاةٍ ، وَلكِنْ هَذِهِ ليْسَتْ كتِلك َالتِي نحْنُ بصَدَدِ مُنَاقشَتِهَا !
أَيْنَ تَجِدُ تَحْرِيْمَ الصَّلاةِ فِي المقبرَةِ مُطلقا ، ورَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ وَجْهَ النَّهْيِّ بأَمْرَين ِ:
(1) أَنْ يَكوْنَ القبْرُ مُعَظمًا ، (2) وَأَنْ يَبْنِيَ عَليْهِ مَسْجدًا) انتهَى كلامُه .
وَكلامُهُ هَذَا مَرْدُوْدٌ ، فإنَّ نهْيَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ : نهْيٌ عَامٌّ مُطلقٌ ، لمْ يُقيِّدْهُ قيْدٌ ، أَوْ يُخصَّ بمُخصِّص ٍ، وَمِنْ ذلِك َ:
* قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لا تصَلوْا إلىَ القبوْرِ، وَلاَ تجْلِسُوْا عَليْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي«صَحِيْحِهِ»(972) مِنْ حَدِيْثِ أَبي مَرْثدٍ الغنوِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
* وَقوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«اِجْعَلوْا مِنْ صَلاتِكمْ فِي بُيوْتِكمْ ، وَلا تتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(432)، (1187) ومُسْلِمٌ (777) ، مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا .
* وَقوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إنَّ مِنْ شِرَارِ الناس ِ، مَنْ تدْرِكهُمُ السّاعَة ُ وَهُمْ أَحْياءٌ ، وَمَنْ يتخِذُ القبوْرَ مَسَاجِدَ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي «المسْنَدِ»(1/405،435،454) ، وَأَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ فِي«صَحِيْحِهِ» (2325) مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بن ِ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه .(182/120)
* وَقوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ (3/83،96) وَأَبوْ دَاوُوْدَ(492) وَالتِّرْمِذِيُّ(317) وَابْنُ مَاجَهْ (745) وَابنُ حِبّانَ فِي«صَحِيْحِهِ» (1699)،(2316)،(2321) مِنْ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
* وَقوْلُ ابْن ِعَباس ٍقالَ:«لعَنَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زُوّارَاتِ القبوْرِ، وَالمتَّخِذِينَ عَليْهَا المسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي «المسْندِ» (1/229،287،324) وَأَبوْ دَاوُوْدَ (3236) وَالتِّرْمِذِيُّ (320) وَالنَّسَائِيُّ (2043) وَابْنُ مَاجَهْ (1575) وَابْنُ حِبّانَ فِي«صَحِيْحِه»(3179)،(3180).
* وَقوْلُ عَبْدِ اللهِ بْن ِعَمْرٍو رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ:«نهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ فِي المقبرَة» رَوَاهُ أَبوْ حَاتِمٍ ابْنُ حِبّانَ فِي«صَحِيْحِه»(2319).
* وَقوْلُ أَنس ِ بْن ِ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ :«إنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهَى أَنْ يُصَلى بَيْنَ القبوْر» رَوَاهُ ابنُ حِبّانَ في«صَحِيْحِه»(1698)،(2315)،
(2318)، (2322)،(2323).
* وَأَمْرُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنبْش ِ مَقبَرَةِ المشْرِكِيْنَ ، وَإخْرَاجِ رُفاتِهمْ ، لما أَرَادَ اتخاذهَا مَسْجِدًا ، وَلمْ يُصَلِّ فِيْهَا إلا َّ بَعْدَ ذلِك َ، رَوَاهُ الشَّيْخَان ِ مِنْ حَدِيْثِ أَنس ِ بْن ِ مَالِك رَضِيَ الله ُ عَنْه .(182/121)
وَهَذَا مَا فهمَهُ الصَّحَابة ُ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ ، فإنَّ نهْيَهُمْ وَتَحْرِيْمَهُمْ لِلصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ عَامٌّ غيْرُ مُخَصَّص ٍ وَلا مُقيَّد . وَعُمَرُ لما رَأَى أَنسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلي عِنْدَ قبْرٍ لمْ يَشْعُرْ بهِ : نبَّهَهُ وَنهَاهُ ، وَليْسَ ذاك القبْرُ بقبْرِ نبيٍّ ، وَقدْ تقدَّمَ ذِكرُ هَذَا الأَثرِ وَمَنْ رَوَاه(121-122).
وَإنْ كانَ لعْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى ، لاتخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ في جُمْلةٍ مِنَ الأَحَادِيْثِ : إلا َّ أَنَّ ذلِك َ لا يَصِحُّ وَلا يَصْلحُ أَنْ يَكوْنَ مُخَصِّصًا لِلقبوْرِ المنْهيِّ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا ، فلا يَصِحُّ أَنْ نقوْلَ : تَحْرُمُ الصَّلاة ُ عِنْدَ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِيْنَ وَقبوْرِ المعظمِيْنَ دُوْنَ غيْرِهِمْ . لِعُمُوْمِ الأَدِلةِ السّابقةِ ، وَلِتَحقق ِ عِلةِ النَّهْيِّ في الصَّلاةِ عِنْدَ القبوْرِ أَيا كانَ ذلِك َ المقبوْر.
وَقدْ قدَّمْنَا عِلة َ نهْيِّ الشّارِعِ وَحَققناهَا في فصْل ٍ تقدَّمَ(ص27-43) ، وَأَنَّ العِلة َ في ذلِك َ رَاجِعَة ٌ إلىَ أَمْرَيْن ِ، هُمَا :
* مَخافة ُ أَنْ يَكوْنَ ذلِك َ ذرِيْعَة ً لِلشِّرْكِ باِللهِ بعِبَادَةِ صَاحِبِ القبْرِ ، أَوْ صَرْفِ شَيْءٍ مِنْ خَصَائِص ِ اللهِ جَلَّ وَعَلا لهُ ، كمَا حَدَثَ فيْمَنْ سَبقنا مِنَ الأُمَمِ ، كقوْمِ نوْحٍ وَغيْرِهِمْ .
* وَلِمَا في ذلِك َ مِنَ التَّشَبُّهِ باِليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى ، وَقدْ نهيْنَا عَنْ مُشَابَهَتِهمْ في دَقِيْق ِ الأُمُوْرِ فكيْفَ بعَظِيْمِهَا؟!
وَمِنْ أَهْل ِ العِلمِ : مَنْ أَضَافَ عِلة ً ثالِثة ً، وَهِيَ : نجاسَة ُ القبوْرِ أَوْ مَظِنَّة ُ ذلك .(182/122)
وَهَذِهِ العِلة ُ وَإنْ كانتْ تُضَمُّ لِمَا سَبَقَ مِنَ العِلل ِ، إلا َّ أَنهَا ليْسَتْ العِلة َ الكبْرَى في الحكمِ كمَا قدْ بينا ذلك في فصْل ٍ تقدَّمَ(ص27-43) ، وَأَنهَا رُبَّمَا جَامَعَتِ العِللَ الكبْرَى وَرُبَّمَا تخلفتْ عَنْهَا .
إلا َّ أَنهُ عَلى قوْل ِ هَؤُلاءِ : تكوْنُ حُرْمَة ُ الصَّلاةِ في عَامَّةِ القبوْرِ أَشَدَّ وَأَكبَرَ مِنْ حُرْمَتِهَا عِنْدَ قبوْرِ الأَنبيَاءِ ، لِمَظِنَّةِ نجَاسَةِ ترْبةِ عَامَّةِ المقابرِ، وَطهَارَةِ ترْبةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ قطعًا .
ثمَّ إنَّ الضّابط َ الذِي وَضَعَهُ – مَعَ بُطلانِهِ – غيْرُ مُنْضَبطٍ : فمَالضّابط ُ في القبوْرِ المعَظمَةِ ؟
فكمْ مِنْ قبْرٍ مُعَظمٍ عِنْدَ قوْمٍ ، مُهَان ٍ مَلعُوْن ٍ عِنْدَ غيْرِهِمْ ، وَهَذَا قبْرُ ابْن ِ عَرَبيٍّ الصُّوْفيِّ بدِمَشْقَ ، كانَ مَزْبَلة ً يُلقى فِيْهَا النتَنُ ، بَلْ ذكرَ الشَّعْرَانِيُّ في«طبَقاتِهِ»(1/163): أَنهُ كانَ يبالُ عَلى قبرِه !
وَبَقِيَ عَلى ذلِك َ حَتَّى دَخَلَ السُّلطانُ العُثْمَانِيُّ سَلِيْمُ الأَوَّلُ(ت926ه) دِمَشْقَ في القرْن ِ العَاشِرِ ، فبنى عَليْهِ مَشْهَدًا ! وَعَمَرَ قبتهُ ! وَعَظمَهُ ! وَعَمِلَ عَليْهِ أَوْقافا ! وَجَعَلَ لِلفقرَاءِ المتعَلقِينَ باِبْن ِ عَرَبيٍّ مَطبَخًا ! وَجَعَلَ لِلأَوْقافِ ناظِرًا يَجْمَعُ غلتهَا ! وَهَذَا لمْ يُعْهَدْ لِغيرِهِ مِنْ مُلوْكِ الجرَاكِسَةِ ، وَلا مِمَّنْ كانَ قبْلهُمْ ، كمَا ذكرَ هذَا كلهُ : مُؤَرِّخُ العُثْمَانِيِّينَ ، مُحَمَّدُ بْنُ أَبي السُّرُوْرِ البكرِيُّ في كِتَابهِ «المِنَحِ الرَّحْمَانِيَّةِ ، في الدَّوْلةِ العُثْمَانِيَّة»(ص83-84) وَغيرُه .(182/123)
وَإنْ كانَ الضّابط ُ أَنْ يَكوْنَ قبْرَ نبيٍّ : فلمْ يثبُتْ قبْرُ نبيٍّ عَلى وَجْهِ القطعِ ، إلا َّ قبْرُ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمّا غيْرُهُ مِنَ الأَنبيَاءِ : فلا ، وَإنمَا النّاسُ يُصَلوْنَ عِنْدَ قبوْرٍ يَزْعُمُوْنَ كذِبًا أَنهَا لأَنبيَاءٍ وَليْسَتْ كذَلِك . فهَلْ يُنْهَوْنَ عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَهَا ، أَوْ لا؟
فإنْ نهُوْا : نهوْا عَن ِ الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ ليْسَ بقبْرِ نبيٍّ في الحقِيْقة .
وَإنْ ترِكوْا : ترِكوْا يُصَلوْنَ عِنْدَ قبْرٍ يَعْتَقِدُوْنَ فِيْهِ ذلك .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ– كمَا في«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (27/141)-:(وَلِهَذَا كانَ العُلمَاءُ الصّالِحُوْنَ مِنَ المسْلِمِيْنَ لا يُصَلوْنَ في ذلِك َ المكان . هَذَا إذا كانَ القبْرُ صَحِيْحًا ، فكيْفَ وَعَامَّة ُ القبوْرِ المنْسُوْبَةِ إلىَ الأَنبيَاءِ كذِبٌ ، مِثْلُ القبْرِ الذِي يُقالُ :«إنهُ قبْرُ نوْحٍ» فإنهُ كذِبٌ لا رَيْبَ فِيْهِ ، وَإنمَا أَظهَرَهُ الجهّالُ مِنْ مُدَّةٍ قرِيْبَةٍ وَكذَلِك َ قبْرُ غيْرِه).
وَقالَ رَحِمَهُ الله ُ (27/444):(وَأَمّا قبوْرُ الأَنبيَاءِ : فالذِي اتفقَ عَليْهِ العُلمَاءُ هُوَ «قبْرُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » فإنَّ قبْرَهُ مَنْقوْلٌ باِلتوَاترِ ، وَكذَلِك َ في صَاحِبَيْهِ .
وَأَمّا «قبْرُ الخلِيْل ِ»: فأَكثرُ النّاس ِ عَلى أَنَّ هَذَا المكانَ المعْرُوْفَ ، هُوَ قبْرُهُ . وَأَنكرَ ذلِك َ طائِفة ٌ، وَحُكِيَ الإنكارُ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَنهُ قالَ :«ليْسَ في الدُّنيا قبْرُ نبيٍّ يُعْرَفُ إلا َّ قبْرُ نبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ».
لكِنْ جُمْهُوْرُ النّاس ِ عَلى أَنَّ هَذَا قبْرُهُ ، وَدَلائِلُ ذلِك َ كثِيْرَة ٌ ، وَكذَلِك َ هُوَ عِنْدَ أَهْل ِ الكِتَاب)اه كلامُه .(182/124)
وَالمعْتَرِضُ ليْسَ لهُ سَلفٌ في تَخْصِيْصِهِ وَتقييْدِهِ ، وَإنمَا مُرَادُهُ : إبْطالُ الآثارِ، وَرَدُّ الأَدِلةِ في تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَهَا ، دُوْنَ مُرَاعَاةٍ لِصَوَابِ اعْتِرَاضِهِ ، لِهَوَىً في نفسِهِ وَمَرَض .
أَمّا شَرْطاهُ اللذَان ِ شَرَطهُمَا : فمَرْدُوْدَان ِ، وَقدْ تقدَّمَ الجوَابُ عَن ِالأَوَّل ِ، وَهُوَ كوْنُ القبْرِ مُعَظمًا .
وَأَمّا الشَّرْط ُالثانِي: وَهُوَ(أَنْ يُبْنى عَليهِ مَسْجِدٌ) : فجَوَابهُ : أَنَّ هَذَا شَرْط ٌفاسِدٌ ، وَمَنْ قصَدَ الصَّلاة َ عِنْدَ قبرِ نبيٍّ أَوْ صَالِحٍ ، وَلوْ لمْ يبن ِ بناءًا عَليْهِ : دَخَلَ بلا شَك ّ فِي حَدِيْثِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكانَ ذلِك َ المصَلي مُتَّخِذًا ذلِك َ القبْرَ مَسْجِدًا ، فإنَّ لفظ َ «المسَاجِدِ» يَدْخُلُ فِيْهِ أَمْرَان ِ:
دُوْرُ العِبَادَةِ المقامَةِ ،
وَالأَرْضُ التِي يُصَلى عَليْهَا ، أَوْ كانتْ صَالِحَة ً لِلصَّلاة .
أَمّا الأَوَّلُ : فمَعْرُوْفٌ مَشْهُوْر .
وَأَمّا الثّانِي : فمِنْهُ : قوْلُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«وَجُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا) وَهُوَ فِي«الصَّحِيْحَيْن ِ»[خ(335)،(438) م(521)] .
وَالمقصُوْدُ أَنهَا كلهَا صَالِحَة ٌ للعِبَادَةِ ، وَليْسَتْ كلهَا قدْ أَصْبَحَتْ دَارًا مَبْنِيَّة ً للعِبَادَة !
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ(27/160):(وَاتخاذهَا مَسَاجِدَ يتناوَلُ شَيْئَيْن ِ:
أَنْ يَبْنِيَ عَليْهَا مَسْجدًا ،
أَوْ يُصَليَ عِنْدَهَا مِنْ غيْرِ بناءٍ ، وَهُوَ الذِي خافهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَخَافتهُ الصَّحَابة ُإذا دَفنُوْهُ بارِزًا ، خَافوْا أَنْ يُصَلى عِنْدَهُ فيتخذَ قبْرُهُ مَسْجِدًا) انتهَى .(182/125)
قالَ الإمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الوَهّابِ رَحِمَهُ الله ُ فِي«كِتَابِ التَّوْحِيْد»:(وَالصَّلاة ُعِنْدَهَا أَي عِنْدَ القبوْرِ مِنْ ذلِك َ، وَإنْ لمْ يبْنَ مَسْجِدٌ ، وَهُوَ مَعْنَى قوْلهِا أَي عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا «خَشِيَ أَنْ يتخذَ مَسْجِدًا». فإنَّ الصَّحَابة َلمْ يَكوْنوْا لِيبنوْا حَوْلَ قبرِهِ مَسْجِدًا .
وَكلُّ مَوْضِعٍ قصِدَ الصَّلاة ُفِيْهِ : فقدِ اتخِذَ مَسْجِدًا ، بلْ كلُّ مَوْضِعٍ يصَلى فِيْهِ يُسَمَّى مَسْجِدًا ، كمَا قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» [خ(335)،(438) م(521)]) انتهَى .
فصل
في رَدِّ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلى حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا ّ المقبَرَة َ وَالحمّام»
وَلمّا اسْتُدِلَّ عَلى هَذا المعْتَرِض ِ، بقوْل ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّامَ» ، وَهُوَ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي«مُسْنَدِهِ» (3/83،96) وَالتِّرْمِذِيِّ فِي«جَامِعِهِ»(317) وَغيْرِهِمَا مِنْ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبّانَ وَالحاكِمُ وَابْنُ حَزْمٍ وَغيْرُهُمْ ، وَجَوَّدَ إسْنَادَهُ شَيْخنا ابنُ بازٍ رَحِمَهُم الله ُجَمِيْعًا .
قالَ المعْترِضُ رَادًّا لهُ:(إنَّ حَدِيْثَ الاسْتِثْنَاءِ «إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّامَ» لا يَكفِي لِتحْرِيْمِ الصَّلاةِ فِي المقبَرَةِ ، وَذلِك َ لِلأَسْبَابِ التّالِيةِ :
أَوّلا ً : تنَازُعُ العُلمَاءِ فِي ثبوْته .
ثانيًا : الخلافُ فِي مَعْنى«المقبَرَةِ» ، هَلْ يَعْنِي المكانَ الذِي يُدْفنُ فِيْهِ الميِّتُ ، أَوِ المكانَ المعَدَّ لِذَلِك؟ الرّاجِحُ الثّانِي ، وَلِبيان ِذلِك َ يحْتاجُ إلىَ كلامٍ طوِيْل ٍ، رَاجِعْ رِسَالة َ«الجوْهَرَة».(182/126)
ثالِثا: وَهَذَا هُوَ الذِي يُعَوَّلُ عَليْهِ : أَنَّ الحدِيْثَ مَنْسُوْخٌ بحدِيثِ : «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ كلها مَسْجِدًا وَطهُوْرًا»،
وَهذَا مَذْهَبُ أَكثرِ الفقهَاءِ، وَعُلمَاءِ الحدِيْثِ كالبخارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغيْرِهِمَا .
وَيرَجِّحُ هَذَا المذْهبَ : صَلاة ُ الصَّحَابةِ فِي المقابرِ بَعْدَ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غيْرِ اسْتنْكارٍ ، مَا خلا اسْتِقبَالَ القبْرِ باِلصَّلاة .
وَمِمّا هُوَ مَعْلوْمٌ لدَى طلبةِ العِلمِ : أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ : بَطلَ بهِ الاسْتِدلال) انتهَى كلامُ المعْترِض .
وَكلامُهُ هَذَا لا قِيْمَة َ لهُ ، فإنَّ تنازُعَ العُلمَاءِ فِي ثبوْتِ حََدِيْثٍ ، لا يُسْقِط ُ الاحْتِجَاجَ به . بَلْ هُوَ حُجَّة ٌ عِنْدَ مَنْ قبلهُ وَصَحَّ عِنْدَهُ ، يَلزَمُهُ المصِيْرُ إليْهِ ، وَالاعْتِمَادُ عَليْهِ ، وَإنْ لمْ يفعَلْ كانَ آثِمًا عَاصِيًا .
وَهَذَا مَحَلُّ اتفاق ٍ وَإجْمَاعٍ ، فإنهُمْ لمْ يَلتزِمُوْا ، أَوْ يَشْتَرِطوْا خلوَّ أَدِلتِهمْ وَحُجَجِهمْ مِنَ التنَازُعِ ، سَوَاءٌ في الصِّحَّةِ أَوِ الدَّلالةِ ، لِذَا ترَاهُمْ يسْتدِلوْنَ بأَدِلةٍ كثِيْرَةٍ ، قدْ تنوْزِعَ فِيْهَا : إمّا فِي صِحَّتِهَا ، أَوْ فِي دَلالتِهَا .
أَمّا مَنْ رَدَّ حَدِيْثَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
* فإنْ رَدَّهُ بسَبَبٍ يُقبَلُ مِثْلهُ فِي رَدِّ الأَحَادِيْثِ ، وَلهُ فِيْهِ سَلفٌ : كانَ بَيْنَ الأَجْرِ وَالأَجْرَيْن ِ، كوُجُوْدِ ناسِخٍ ، أَوْ مُخَصِّص ٍ، أَوْ مُقيِّدٍ ، أَوْ ضَعْفٍ لا يَصْلحُ مَعَهُ احْتِجَاجٌ باِلحدِيْثِ ، وَنحْوِ ذلك .(182/127)
* وَإنْ رَدَّهُ بسَبَبٍ لا يُقبلُ مِثْلهُ ، أَوْ ليْسَ لهُ فِيْهِ سَلفٌ وَلا حُجة ٌ، أَوْ بحجَّةٍ وَسَبَبٍ رُدَّتْ عَليْهِ ، وَبينَ لهُ ضَعْفهَا : فهُوَ آثِمٌ عَاص ٍ، كمَنْ رَدَّ شيْئًا مِنْ أَحَادِيْثِ «الصَّحِيْحَيْن ِ»- أَوْ مَا صَحَّ في غيْرِهِمَا - فِي الاعْتِقادِ ، لأَجْل ِ كوْنِهَا آحَادًا ، ونحْوِ ذلك .
* * *
فصل
في بيان ِصِحَّةِ حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» ، وَذِكرِ طرُقهِ ، وَالكلامِ عَليْه
أَمّا حَدِيْثُ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّامَ»:
فرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ عُمَارةِ بْن ِأَبي حَسَن ٍ الأَنصَارِيُّ المازِنيُّ المدَنِيُّ (ع) ، وَهُوَ إمَامٌ تابعِيٌّ ثقة ٌ، احْتَجَّ بهِ الشَّيْخان ِ في«صَحِيْحَيْهمَا» ، غيرَ أَنهُ اخْتُلِفَ عَليْهِ فِيْهِ ، فرُوِيَ عَنْهُ مَوْصُوْلا ً وَمُرْسَلا ً.
أَمّا الرِّوَاية ُ الموْصُوْلة ُ: فرَوَاها عَنْهُ :
ابنهُ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى(ع)، وَسَمِعَهَا مِنْ عَمْرٍو جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ :
1 عَبْدُ العَزِيْزِ بْنُ محمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ (ع) ، أَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ :
* الدّارِمِيُّ في«سُننِهِ»(1390): أَخْبرَنا سَعِيْدُ بْنُ مَنْصُوْرٍ حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيْز.
* وَالتِّرْمِذِيُّ في«جَامِعِهِ»(317): حَدَّثنا ابْنُ أَبي عُمَرَ، وَأَبوْ عَمّارٍ الحسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ المرْوَزِيُّ قالا:حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيْز.
* وَابنُ خُزَيْمَة َ في«صَحِيْحِهِ»(791): أَخْبَرَنا الحسَيْنُ بْنُ حُرَيثٍ حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيْز.
* وَالحاكِمُ في«مُسْتَدْرَكِهِ»(1/251) ،
* وَالبَيْهَقِيُّ في«سُنَنِهِ الكبْرَى»(2/435) مِنْ طرِيْق ِالحاكِمِ عَنْه.
2 وَسُفيَانُ بْنُ عُيَيْنَة َ(ع) ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ :
* الشّافِعِيُّ في«السُّنن ِ المأْثوْرَةِ»(186) عَنْه .(182/128)
3 وَسُفيَانُ الثوْرِيُّ (ع) ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيقِهِ :
* أَبوْ يَعْلى الموْصِلِيُّ في«مُسْنَدِهِ»(2/503)(1350): حَدَّثنا أَبوْ خَيْثَمَة َ حَدَّثنَا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ أَخْبرَنا سُفيَانُ الثوْرِيُّ عَنْ عَمْرٍو به .
4 وَعَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ (ع) ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيقِهِ :
* الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(3/96): حَدَّثنَا أَبوْ مُعَاوِيَة َ الغِلابيُّ حَدَّثنَا عَبْدُ الوَاحِد .
* وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُنَنِهِ»(492): حَدَّثنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثنَا عَبْدُ الوَاحِد .
* وَابْنُ خُزَيْمَة َفي«صَحِيْحِهِ»(792): حَدَّثنَا بشرُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثنَا عَبْدُ الوَاحِد .
* وَابْنُ المنْذِرِ في«الأَوْسَطِ»(2/182)،(5/417).
* وَابْنُ حِبّانَ في«صَحِيْحِهِ»(1699)،(2316)،(2321) :
- أَخْبَرَنا محمَّدُ بنُ إسْحَاق ِ بن ِخُزَيْمَةَ حَدَّثنَا بشْرُ بْنُ مُعَاذٍ العقدِيُّ حَدَّثنا عَبْدُ الوَاحِد (ح) .
- وَأَخْبرَنا عِمْرَانُ بْنُ مُوْسَى السِّخْتِيَانِيُّ حَدَّثنَا أَبوْ كامِل ٍ الجحْدَرِيُّ حَدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ به .
5 وَحَمّادُ بْنُ سَلمَة َ (خت م4) ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ:
* الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(3/83): حَدَّثنَا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ أَخْبَرَنا حَمّاد .
* وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِهِ»(492): حَدَّثنَا مُوْسَى بْنُ إسْمَاعِيْلَ حَدَّثنَا حَمّاد .
* وَابْنُ مَاجَهْ في«سُنَنِهِ»(745): حَدَّثنَا محمَّدُ بْنُ يَحْيى ، هُوَ الذُّهْلِيُّ حَدَّثنا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ حَدَّثنا حَمّاد .
* وَالبَيْهَقِيُّ في«سُنَنِهِ الكبْرَى»(2/434) .
6 وَمحمَّدُ بْنُ إسْحَاق ِ بْن ِ يَسَارٍ (خت م4) ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ :(182/129)
* الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(3/83): حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الملِكِ حَدَّثنَا محمَّدُ بْنُ سَلمَة َ عَنْ محمَّدِ بْن ِ إسْحَاقَ ، بلفظِ «كلُّ الأَرْض» الحدِيْث .
وَرَوَاهَا أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْن ِ عُمَارَة َ(ع) :
عُمَارَة ُ بْنُ غزِيةِ بْن ِ الحارِثِ الأَنصَارِيُّ المازِنِيُّ المدَنِيُّ (خت م4) ، وَسَمِعَهَا مِنْهُ جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ :
بشرُ بْنُ المفضَّل ِ بْن ِلاحِق ٍ الرَّقاشِيُّ (ع) ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ :
* ابْنُ خُزَيْمَة َفي«صَحِيْحِهِ»(792): حَدَّثنا بشْرُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثنا بشْرُ بْنُ المفضَّل .
* وَالحاكِمُ في«مُسْتَدْرَكِهِ»(1/251): حَدَّثنَا أَبوْ بكرٍ بنُ إسْحَاقَ أَخْبَرَنا أَبو المثنَّى حَدَّثنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثنَا بشْرُ بْنُ المفضَّل .
* وَالبَيْهَقِيُّ في«سُننِهِ الكبرَى»(2/435) مِنْ طرِيْق ِالحاكِمِ عَنْه .
أَمّا الرِّوَايَة ُ المرْسَلة ُ: فرَوَاهَا عَنْ يَحْيَى بْن ِعُمَارَة َ مُرْسَلة ً:
ابْنُهُ عَمْرٌو(ع) أَيْضًا ، وَسَمِعَهَا مِنْ عَمْرٍو جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ رَاوِيَان ِ ثِقتان ِ، هُمَا :
1 سُفيَانُ الثوْرِيُّ (ع) ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ :
* عَبْدُ الرَّزّاق ِ في«مُصَنَّفِهِ»(1582)(2/405): عَنْهُ بهَا .
* وَالإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(3/83): حَدَّثنَا يَزِيْدُ هُوَ ابْنُ هَارُوْنَ أَخْبَرَنا سُفيَانُ الثوْرِيّ .
* وَابْنُ أَبي شَيْبَة َفي«مُصَنَّفِهِ»(2/379): حَدَّثنَا وَكِيْعٌ حَدَّثنَا سُفيَان .
* وَابْنُ مَاجَهْ في«سُنَنِهِ»(745): حَدَّثنَا محمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثنَا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ حَدَّثنَا سُفيَان .
* وَأَبوْ يَعْلى الموْصِلِيُّ في«مُسْنَدِهِ»(2/503)(1350): حَدَّثنا أَبوْ خَيْثَمَة َ حَدَّثنا يَزِيْدُ بْنُ هَارُوْنَ أَخْبَرَنا سُفيَانُ الثوْرِيّ .(182/130)
* وَالبَيْهَقِيُّ في«سُننِهِ الكبْرَى»(2/434-435).
2 وَسُفيَانُ بْنُ عُيَيْنَة َ(ع) ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ طرِيْقِهِ :
* الشّافِعِيُّ في«مُسْنَدِهِ»(ص20): أَخْبَرَنا سُفيَانُ بْنُ عُيَيْنَة َ عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيى به .
* وَالبَيْهَقِيُّ في«مَعْرِفةِ السُّنن ِ وَالآثارِ»(2/255)(1285) مِنْ طرِيْق ِ الشّافِعِيِّ بهَا .
قالَ الشّافِعِيُّ بَعْدَهُ في«مُسْنَدِهِ»(ص20):(وَجَدْتُ هَذَا الحدِيْثَ في كِتَابي ، فِي مَوْضِعَيْن ِ:
أَحَدُهُمَا : مُنْقطِعٌ . وَالآخَرُ : عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) اه.
وَنقلَ البَيْهَقِيُّ هَذَا في«مَعْرِفةِ السُّنن ِ وَالآثارِ» عَن ِ الشّافِعِيِّ ، ثمَّ نقلَ عَنْهُ تَصْحِيْحَهُ لِمَعْنى الحدِيْثِ ، وَمَا تضَمَّنهُ مِنْ أَحْكام .
فصل
في اخْتِلافِ أَقوَال ِ الأَئِمَّةِ في هَذَا الحدِيْث
قدِ اخْتَلفَ الحفاظ ُ في هَذَا الحدِيْثِ ، أَيكوْنُ مُضْطرِبا لِرِوَايةِ الثوْرِيِّ لهُ مُرْسَلا ً، وَرِوَايةِ غيْرِهِ لهُ مَوْصُوْلا ً أَمْ لا ؟ وَهَل ِ المحْفوْظ ُ مِنْ رِوَايةِ الثوْرِيِّ لهُ : الرِّوَاية ُ الموْصُوْلة ُ أَوِ المرْسَلة؟
فقالَ الدّارِمِيُّ بَعْدَهُ في«سُننِهِ»(1390):(الحدِيْثُ أَكثرُهُمْ أَرْسَلوْه)اه.
وَسُئِلَ الحافِظ ُ أَبو الحسَن ِ الدّارَقطنيُّ عَنْهُ فقالَ :
(يَرْوِيْهِ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْن ِ عُمَارَة َ، وَاخْتُلفَ عَنْهُ :
فرَوَاهُ عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ ، وَمحمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ : عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى عَنْ أَبيْهِ عَنْ أَبي سَعِيْدٍ مُتصِلا ً.
وَكذَا رَوَاهُ أَبوْ نعَيْمٍ : عَن ِ الثوْرِيِّ عَنْ عَمْرٍو.
وَتابعَهُ : سَعِيْدُ بْنُ سَالمٍ القدّاحُ ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ عَن ِ الثوْرِيِّ ، فوَصَلوْه !(182/131)
وَرَوَاهُ جَمَاعَة ٌ ( - أَي رَوَاهُ جَمَاعَة ٌ عَنْ سُفيَانَ الثوْرِيِّ عَنْ عَمْرٍو مُرْسَلا ً، فخَالفوْا مَنْ قبْلهُمْ مِمَّنْ رَوَوْهُ عَنْ سُفيَانَ مَوْصُوْلا ً، وَالمرْسَلُ مِنْ حَدِيْثِ الثوْرِيِّ ، هُوَ المحْفوْظ .): عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى عَنْ أَبيْهِ مُرْسَلا ً، وَالمرْسَلُ هُوَ المحْفوْظ .
حَدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ العَبّاس ِ البَغوِيُّ ، وَإسْمَاعِيْلُ الصَّفارُ قالا : حَدَّثنا أَبوْ قلابة َ حَدَّثنَا أَبوْ نعَيْمٍ حَدَّثنَا سُفيَانُ عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى عَنْ أَبيْهِ عَنْ أَبي سَعِيْدٍ قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ الحمّامَ وَالمقبرَة».
حَدَّثنا جَعْفرُ بْنُ أَحْمَدِ بْن ِمحمَّدٍ المؤَذِّنُ ثِقة ٌ قالَ : حَدَّثنا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى حَدَّثنا أَبوْ نعَيْمٍ وَقبيْصة ُ قالا : حَدَّثنَا سُفيَانُ عَنْ عَمْرِو بْن ِيَحْيَى عَنْ أَبيْهِ قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ الحمّامَ وَالمقبَرَة)اه مِنَ«العِلل» لهُ رَحِمَهُ الله(11/319-321).
قالَ البَيْهَقِيُّ بَعْدَهُ في«سُننِهِ الكبْرَى»(2/435):
(حَدِيْثُ الثوْرِيِّ مُرْسَلٌ ، وَقدْ رُوِيَ مَوْصُوْلا ً وَليْسَ بشَيْءٍ .
وَحَدِيْثُ حَمّادِ بْن ِسَلمَة َ مَوْصُوْلٌ ، وَقدْ تابعَهُ عَلى وَصْلِهِ : عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ ، وَالدَّرَاوَرْدِيّ)اه.
وَقوْلُ الدّارَقطنِيِّ (وَالمرْسَلُ هُوَ المحْفوْظ ُ): يُرِيْدُ بهِ المرْسَلَ مِنْ حَدِيْثِ سُفيَانَ الثوْرِيِّ ، هُوَ المحْفوْظ ُ عَنْهُ ، بخلافِ الموْصُوْل ِ مِنْ طرِيْقِهِ فلمْ يُحْفظ ْ عَنْه .(182/132)
وَلا يُرِيْدُ الدّارَقطنيُّ أَصْلَ الحدِيْثِ ، أَنَّ المحْفوْظ َ مِنْهُ المرْسَلُ دُوْنَ الموْصُوْل ِ، لِهَذَا لمّا قالَ الدّارَقطنيُّ (وَالمرْسَلُ هُوَ المحْفوْظ) سَاقَ بسَنَدِهِ حَدِيْثَ سُفيَانَ الثوْريِّ مِنْ طرِيْقيْهِ المرْسَل ِ المحْفوْظ ِ، وَالموْصُوْل ِ غيْرِ المحْفوْظ .
وَكذَلِك َ مُرَادُ البَيْهَقِيِّ مِنْ قوْلِهِ:(وَقدْ رُوِيَ مَوْصُوْلا ً، وَليْسَ بشَيْءٍ): أَي قدْ رُوِيَ حَدِيْثُ الثوْرِيِّ مَوْصُوْلا ً وَليْسَ بشَيْءٍ ، لأَنَّ الرّاجِحَ عِنْدَهُ : أَنَّ حَدِيْثَ الثوْرِيِّ مُرْسَل .
أَمّا التِّرْمِذِيُّ فقالَ بَعْدَ رِوَايتِهِ لهُ مِنْ طرِيْق ِ الدَّرَاوَرْدِيِّ مَوْصُوْلا ً في«عِللِهِ الكبيرِ»(113):(تابعَهُ حَمّادُ بْنُ سَلمَة َ . ثمَّ قالَ التِّرْمِذِيُّ : كانَ الدَّرَاوَرْدِيُّ أَحْيَانا يَذْكرُ فِيْهِ «عَنْ أَبي سَعِيْدٍ»، وَرُبمَا لمْ يَذْكرْ فِيْهِ . وَالصَّحِيْحُ : رِوَاية ُ الثوْرِيِّ وَغيْرِهِ عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى عَنْ أَبيْهِ مُرْسَل) اه.
وَقالَ ابْنُ المنذِرِ في«الأَوْسَطِ»(2/182):
(رَوَى هذَا الحدِيْثَ حَمّادُ بْنُ سَلمَة َ، وَالدَّرَاوَرْدِيُّ ، وَعَبّادُ بْنُ كثِيْرٍ ، كرِوَايةِ عَبْدِ الوَاحِدِ مُتصِلا ً عَنْ أَبي سَعِيْدٍ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . إذا رَوَى الحدِيْثَ ثقة ٌ، أَوْ ثِقاتٌ مَرْفوْعًا مُتَّصِلا ً، وَأَرْسَلهُ بَعْضُهُمْ ، يثْبُتُ الحدِيْثُ برِوَايةِ مَنْ رَوَى مَوْصُوْلا ً عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلمْ يُوَهِّن ِالحدِيْثَ تخلفُ مَنْ تخلفَ عَنْ إيْصَالِه .(182/133)
وَهَذَا السَّبيْلُ في الزِّيادَاتِ في الأَسَانِيْدِ ، وَالزِّيادَاتِ في الأَخْبَارِ ، وَكثِيرٍ مِنَ الشّهَادَاتِ ، وَمِمّا يَزِيْدُ ذلِك َ تأْكيْدًا وَوُضُوْحا : الثابتُ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ عَن ِالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ :«اِجْعَلوْا فِي بيوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ»)اه.
وَقالَ الحاكِمُ في«مُسْتَدْرَكِهِ» بَعْدَ رِوَايتِهِ لهُ مِنْ طرِيْق ِعَبْدِ الوَاحِدِ بن ِ زِيادٍ مَوْصُوْلا ً(1/251):(تابعهُ عَبْدُ العَزِيْزِ بْنُ محمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْن ِ يَحْيَى).
ثمَّ سَاقَ هَذِهِ المتابعة َ بسَنَدِهِ(1/251) ، وَمَعَهَا مُتَابعة ُ عُمَارَةِ بْن ِ غزِية َ كذَلِك َ، وَكلاهُمَا مُتَّصِلة .
ثمَّ قالَ الحاكِمُ:(هَذِهِ الأَسَانِيْدُ كلهَا صَحِيْحَة ٌ، عَلى شَرْطِ البُخارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، وَلمْ يخرِّجَاه)اه.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ، بَعْدَهُ كمَا في«مَجْمُوْعِ الفتاوَى»(27/159):(رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَهْلُ الكتبِ الأَرْبعَةِ ، وَابْنُ حِبّانَ في«صَحِيْحِهِ». وَقالَ الترْمِذِيُّ:«فِيْهِ اضْطِرَابٌ» ، لأَنَّ سُفيَانَ الثوْرِيَّ أَرْسَله .
لكِنَّ غيْرَ الترْمِذِيِّ جَزَمَ بصِحَّتِهِ ، لأَنَّ غيْرَهُ مِنَ الثقاتِ أَسْنَدُوْهُ ، وَقدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا).(182/134)
وَقالَ رَحِمَهُ الله ُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (21/320) عَلى حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبرَة َ وَالحمّام»:(كمَا فِي حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الذِي فِي«سُنَن ِأَبي دَاوُوْدَ»(492) وَغيْرِه ، وَقدْ صَحَّحَهُ مَنْ صَحَّحَهُ مِنَ الحفاظِِ ، وبَينُوْا أَنَّ رِوَاية َ مَنْ أَرْسَلهُ ، لا تنَافِي الرِّوَاية َ المسْندَة َ الثّابتة َ، أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام») انتهَى كلامُهُ رَحِمَهُ الله .
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ أَيْضًا في«اقتِضَاءِ الصِّرَاطِ المسْتقِيْم»(2/677) بَعْدَهُ:(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبوْ دَاوُوْدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالبزّارُ وَغيْرُهُمْ ، بأَسانِيْدَ جَيِّدَةٍ ، وَمَنْ تكلمَ فِيْهِ فمَا اسْتوْفى طرُقه)اه.
وَقالَ الحافِظ ُ ابْنُ حَجَرٍ في«التَّلْخِيْص ِ الحبيْرِ»(1/277) بَعْدَهُ:(قالَ النَّوَوِيُّ في«الخلاصَةِ»:«هُوَ ضَعِيْفٌ»، وَقالَ صَاحِبُ «الإمَامِ»:«حَاصِلُ مَا عللَ بهِ الإرْسَالُ ، وَإذا كانَ الوَاصِلُ لهُ ثِقة ً: فهوَ مَقبوْل».
وَأَفحَشَ ابْنُ دِحْيَة َ الكلبيُّ فقالَ في«كِتَابِ التنْوِيْرِ» لهُ:«هَذَا لا يَصِحُّ مِنْ طرِيْق ٍ مِنَ الطرُق ِ» ! كذَا قالَ ، فلمْ يُصِبْ .
قلتُ : وَلهُ شَوَاهِدُ ، مِنْهَا :
* حَدِيْثُ عَبْدِ اللهِ بْن ِعَمْرٍو مَرْفوْعًا:«نهَى عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَة» أَخْرَجَهُ ابنُ حِبّان(2319).
* وَمِنْهَا حَدِيْثُ عَلِيٍّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ:«إنَّ حِبِّي نهَانِي أَنْ أُصَليَ في المقبَرَةِ» أَخْرَجَهُ أَبو دَاوُوْدَ (490)) اه.
وَقالَ الحافِظ ُ أَيْضًا في«الفتْحِ»(1/696) بَعْدَهُ :(رِجَالهُ ثِقاتٌ ، لكِن ِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإرْسَالِهِ ، وَحَكمَ مَعَ ذلِك َ بصِحَّتِهِ : الحاكِمُ وَابْنُ حِبان)اه .(182/135)
وَقدْ سَمِعْتُ شَيْخنا العَلاّمَة َ عَبْدَ العَزِيْزِ بْنَ عَبْدِ اللهِ ابْنَ بازٍ رَحِمَهُ الله ُ يَقوْلُ فِي حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ السّابق ِ:(إسْنَادُهُ جَيِّد) .
وَالخلاصَة ُ: أَنَّ حَدِيْثَ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ هَذَا ، حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ بلا شَك ّ، وَقدْ قدَّمْتُ طرُقهُ وَرِوَاياتِهِ ، وَكانَ مِنْهَا أَسَانِيْدُ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْن ِ، لِذَا صَحَّحَهُ الحاكِمُ عَلى شَرْطِهمَا ، وَوَافقهُ الذّهَبيُّ ، وَصَحَّحَهُ مِنَ الأَئِمَّةِ وَالعُلمَاءِ : ابْنُ المنذِرِ ، وَابْنُ حِبّانَ ، وَابْنُ حَزْمٍ ، وَالحاكِمُ ، وَابْنُ دَقِيْق ِ العِيْدِ ، وَشَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ، وَابْنُ بازٍ ، وَغيْرُهُمْ .
فصل
أَمّا مَعْنَى«المقبَرَةِ»: فهيَ أَرْضٌ فِيْهَا قبوْرٌ ، سَوَاءٌ أُعِدَّتْ لِذَلِك َ وَهَذَا الغالِبُ أَوْ لمْ تعدَّ ، كأَنْ يَحْصُلَ قتْلى كثِيْرٌ فِي مَكان ٍ مَا ، لِحرْبٍ أَوْ مَرَض ٍ أَوْ غيْرِهِ ، فيدْفنوْنَ فِيْهَا ، وإنْ لمْ تكنْ قبْلَ ذلِك َ مُعَدَّة ً لِقبْرِ الموْتى .
وَعَلى جَمِيْعِ الأَحْوَال ِ، هِيَ أَرْضٌ فِيْهَا قبوْرٌ ، وَليْسَتْ أَرْضًا مُعَدَّة ً فقط دُوْنَ دَفن ِ أَحَدٍ فِيْهَا !
وَعِلة ُ النَّهْيِّ ، وَمَناط ُ التَّحْرِيْمِ : وُجُوْدُ القبوْرِ ، لا مُجَرَّدُ التَّسْمِيَة .
وَهَذَا مَحَلُّ اتفاق ٍ بَيْنَ أَهْل ِ العِلمِ مِنَ المحَرِّمِيْنَ وَالمجيْزِيْن .
لكِنْ مِنَ المحَرِّمِيْنَ : مَنْ جَعَلَ سَبَبَ ذلك : مُشَابهَة َ المشْرِكِيْنَ ، وَكوْنهُ ذرِيْعَة ً إلىَ الشِّرْكِ ، وَفتْحَ بابٍ له .
وَمِنْهُمْ : مَنْ جَعَلَ سَببَ ذلِك َ: نجَاسَة َ ترْبةِ المقبَرَةِ ، بصَدِيْدِ الموْتى ، وَنَحْوِه .
وَمَعْلوْمٌ : أَنَّ هَذِهِ العِللَ وَالأَسْبَابَ ، مُنْتَفِيَة ٌ مَعَ عَدَمِ وُجُوْدِ القبوْر .(182/136)
كذَلِك َ المجيْزُوْنَ : اعْتبرُوْا بمَا مَنعَ بهِ المحَرِّمُوْنَ ، وَأَجَابوْا عَليْهِ ، وَإنْ كانتْ إجَاباتهُمْ خَفِيْفة ً، وَاخْتِيَارَاتهُمْ ضَعِيْفة ً، لِمُخالفتِهَا الأَحَادِيْثَ الصَّحِيْحَة َ الصَّرِيْحَة َ المنيْفة .
إلا َّ أَنَّ اعْتِبَارَهُمْ بهَا ، عَلى هَذَا الوَجْهِ ، يَجْعَلهَا مَحَلَّ اتفاق ٍ عِنْدَ الجمِيْعِ : أَنهَا أَي وُجُوْدَ القبوْرِ علة ً مُرَاعاة ً، وَلا عِلة َ في التَّحْرِيْمِ وَالمنعِ سِوَاهَا .
* * *
فصل
في رَدِّ زَعْمِ المعْتَرِض ِ أَنَّ حَدِيْثَ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ السّابق ِ مَنْسُوْخ
أَمّا زَعْمُ هَذَا المعْتَرِض ِ: أَنَّ حَدِيْثَ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ السّابق ِ مَنْسُوْخٌ : فباطِلٌ ، وَقدْ تقدَّمَ ذِكرُ بَعْض ِالأَحَادِيْثِ فِي النَّهْيِّ عَن ِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، وَكانتْ قبْلَ وَفاةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمْس ِ ليال ٍ فحسْب .
وَحَدِيْثُ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام»: هُوَ حَدِيْثُ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» ، لهِذَا قالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ رِوَايتِهِ لِلحَدِيْثِ الأَوَّل ِ(317):(وَفِي البابِ : عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللهِ بن ِعَمْرٍو ، وَأَبي هُرَيْرَة َ، وَجَابرٍ ، وَابن ِعَبّاس ٍ، وَحُذَيْفة َ، وَأَنس ٍ، وَأَبي أُمامَة َ، وَأَبي ذرّ قالوْا : إنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :«جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا»)اه .
غيرَ أَنَّ الحدِيْثَ الأَوَّلَ مُقيِّدٌ لِلثانِي ومُخصِّصٌ لهُ ، لا ناسِخٌ ! كمَا قيَّدَتهُ الأَحَادِيْثُ الأُخْرَى فِي تَحْرِيْمِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، أَوِ التِي نهتْ عَن ِ الصَّلاةِ فِي القبوْرِ مُطلقا .
فصل(182/137)
في رَدِّ زَعْمِهِ أَنَّ أَكثرَ الفقهَاءِ وَعُلمَاءِ الحدِيْثِ ، يجيْزُوْنَ الصَّلاة َ في المقابرِ ، وَتكذِيْبه
أَمّا زَعْمُ المعْتَرِض ِ: أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ أَكثرِ الفقهَاءِ وَعُلمَاءِ الحدِيْثِ ، كالبُخارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغيْرِهِمَا : فإنْ كانَ مَقصِدُهُ بمَذْهَبهمُ : القوْلَ بنَسْخِ حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبرَة َ وَالحمّامَ» : فكذِبٌ .
وَإنْ كانَ مَقصِدُهُ بمذْهَبهمُ : القوْلَ بجوَازِ الصَّلاةِ المطلقةِ فِي المقابرِ عامة ً: فكذِبٌ مِثلهُ ، وَالصَّوَابُ خلافه .
قالَ الحافِظ ُ ابْنُ حَجَرٍ فِي«الفتْحِ» فِي شَرْحِ حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ مَرْفوْعًا:«اِجْعَلوْا فِي بُيوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ ، وَلا تتخِذُوْهَا قبوْرًا»[خ(432)] : (وَقدْ نقلَ ابنُ المنذِرِ عَنْ أَكثرِ أَهْل ِالعِلمِ : أَنهُمُ اسْتَدَلوْا بهَذَا الحدِيْثِ عَلى أَنَّ المقبَرَة َ، ليْسَتْ بمَوْضِعٍ لِلصَّلاةِ ، وَكذَا قالَ البَغوِيُّ فِي«شَرْحِ السُّنَّةِ» وَالخطابيّ)اه كلامُه.
وَليْسَ مَا زَعَمَهُ المعترِضُ مَذْهبًا للبُخارِيِّ وَلا النَّسَائِيِّ رَحِمَهُمَا الله ُ. بلْ قدْ صَرَّحَ البُخارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ» بتَحْرِيْمِهِ لا القوْل ِ بهِ ، وَبوَّبَ عَلى ذلِك َ بابيْن ِ:
أَوَّلهمَا : فِي«كِتابِ الصَّلاةِ»:«بابُ كرَاهِيَةِ الصَّلاةِ فِي المقابر».
وَالآخرُ : فِي«كِتَابِ الجنائِزِ»:«بابُ مَا يُكرَهُ مِنَ اتخاذِ المسَاجدِ عَلى القبوْر».
وَمُرَادُهُ رَحِمَهُ الله ُ باِلكرَاهِيَةِ هُنَا : التَّحْرِيْمُ ، وَيدُلُّ عَليْهِ قوْلهُ :«بَابُ مَا يُكرَهُ مِنَ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْر».
وَاتخاذُ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ مُحَرَّمٌ باِلإجْمَاعِ كمَا تقدَّمَ - وَهُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ المعْتَرِض ِكذَلِك َ- فلا يَصِحُّ أَنْ تُحْمَلَ الكرَاهَة ُ هُنَا عَلى شَيْءٍ غيْرِه .(182/138)
وَسَيَأْتِي في الفصْل ِ القادِمِ بيانُ مُرَادِ الأَئِمَّةِ بلفظِ «الكرَاهَةِ» ، وَأَنهُمْ يعْنُوْنَ بهَا التَّحْرِيْمَ تارَة ً، وَالتَّنْزِيهَ أُخْرَى .
فصل
في بيان ِ مُرَادِ أَهْل ِ العِلمِ المتقدِّمِيْنَ بلفظِ «الكرَاهَةِ»، وَأَنهُمْ أَرَادُوْا إطلاقهُ اللغوِيَّ الشَّرْعِيَّ ، لا الاصْطِلاحِيَّ الأُصُوْلِيَّ ، وَبيان ِ غلطِ مَنْ زَعَمَ أَنهُمْ أَرَادُوْا المعْنَى الاصْطِلاحِيِّ عِنْدَ المتأَخِّرِيْن
وَالكرَاهَة ُ الاصْطِلاحِيَّة ُعِنْدَ الأُصُوْلِيِّيْنَ : لمْ يَسْتقِرَّ مَعْنَاهَا في تِلك َ الفتْرَةِ ، وَإنمَا اسْتقرَّتْ بَعْدَ ذلك .
أَمّا عِنْدَ المحَدِّثِيْنَ في ذلِك َ العَصْرِ : فكانوْا يُطلِقوْنهَا بمَعْنَاهَا اللغوِيِّ العَامِّ ، الذِي يَدْخُلُ تَحْتَهُ كلُّ مَا كرِهَهُ الشّارِعُ فنهَى عَنْهُ ، مِنْ كفرٍ ، وَشِرْكٍ ، وَكبائِرَ ، وَصَغائِرَ ، وَمَا دُوْنَ ذلك .
لهِذَا تجِدُ الأَئِمَّة َ يُطلِقوْنَ الكرَاهَة َ عَلى كبَائِرَ وَمَعَاص ٍ ، مُسْتقِرٌّ تَحْرِيْمُهَا عِنْدَهُمْ ، كقوْل ِ الإمَامِ مَالِكٍ في«الموَطإِ»:«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ إصَابةِ الأُخْتَيْن ِ بمِلكِ اليَمِيْن ِ، وَالمرْأَةِ وَابْنتِهَا».
ثمَّ قالَ مَالِك ٌ بَعْدَهُ في«الموَطإِ» في الأَمَةِ تَكوْنُ عِنْدَ الرَّجُل ِ، فيُصِيْبُهَا ، ثمَّ يُرِيْدُ أَنْ يُصِيْبَ أُخْتَهَا :(إنهَا لا تَحِلُّ لهُ ، حَتَّى يُحَرِّمَ عَليْهِ فرْجَ أُخْتِهَا بنِكاحٍ ، أَوْ عِتَاقةٍ ، أَوْ كِتَابةٍ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذلِك َ، يُزَوِّجُهَا عَبْدَهُ أَوْ غيرَ عَبْدِه).(182/139)
وَقالَ مَالِك ٌ أَيْضًا :(لا بَأْسَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بمِلكِ اليَمِين ِ، فمَنْ وَطِئَ مِنْهُمَا الأُمَّ وُالابنة َ: فقدْ حَرُمَتْ عَليْهِ بذَلِك َ الأُخْرَى أَبدًا) نقلهُ عَنْهُ العَلامَة ُ أَبوْ الوَلِيْدِ الباجِيُّ(ت494ه) في شَرْحِهِ عَلى«الموَطإِ» ، ثمَّ قالَ أَبوْ الوَلِيْدِ بَعْدَهُ (3/325):(وَوَجْهُ ذلِك َ: أَنهُ قدْ يَمْلِك ُ عَلى هَذَا الوَجْهِ ، مَنْ لا يَجُوْزُ لهُ وَطؤُهَا ، كالخالةِ وَالعَمَّة . فلِذَلِك َ جَازَ لهُ : أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا في مِلكِ اليَمِين ِ، وَإنْ لمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا باِلوَطْءِ ، فالجمْعُ بَيْنَهُمَا في ذلِك َ مُحَرَّمٌ ، كالجمْعِ بَيْنَهُمَا بعقدِ النِّكاح)اه كلامُه .
وَقوْل ِ البُخارِيِّ في«صَحِيْحِهِ»في«كِتَابِ الحدُوْدِ»:
«بَابُ كرَاهِيَةِ الشفاعَةِ في الحدِّ إذا رُفِعَ إلىَ السُّلطان».
وَقوْل ِ أَبي دَاوُوْدَ في«سُننِهِ»:
«بَابٌ في كرَاهِيَةِ الرّشْوَةِ».
وَقوْل ِ التِّرْمِذِيِّ في«جَامِعِهِ»:
«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ إتيَان ِ الحائِض»،
وَ«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ بيعِ الغرَر»،
وَ«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ النَّجَش ِ في البيوْع»،
و«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ الغِشِّ في البيوْع»،
وَ«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ الحلِفِ بغيْرِ الله»،
وَ«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ الحلِفِ بغيْرِ مِلةِ الإسْلام»،
وَ«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ خَاتمِ الذَّهَب» أَي لِلرِّجَال ِ،
وَ«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ الشُّرْبِ في آنيةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّة».
وَقوْل ِالنَّسَائِيِّ في«سُننِهِ»:
«كرَاهِيَة ُ الاسْتِمْطارِ باِلكوْكب»،
وَ«كرَاهِيَة ُ تزْوِيْجِ الزُّناة».
وَقوْل ِابْن ِ مَاجَهْ في«سُننِهِ»:
«بَابُ كرَاهِيَةِ لِبْس ِ الحرِيْر»، أي لِلرِّجَال .(182/140)
وَلا يُرِيْدُوْنَ باِلكرَاهَةِ في ذلِك َ كلهِ إلا َّ التَّحْرِيْمَ كمَا ترَى .
وَقالَ ابنُ المنذِرِ في«الأَوْسَطِ»(2/185):(وَالذِي عَليْهِ الأَكثرُ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ : كرَاهِيَة ُ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ ، لحدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَكذَلِك َ نقوْل)اه.
وَمُرَادُ ابْن ِ المنذِرِ رَحِمَهُ الله ُ باِلكرَاهَةِ هُنَا : كرَاهَة َ التَّحْرِيْمِ ، لِذَا قالَ قبْلَ ذلِك َ(2/183) عَلى حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا «اِجْعَلوْا في بُيُوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ ، وَلا تتَّخِذُوْهَا قبوْرًا» قالَ: (ففِي قوْلِهِ:«وَلا تَتَّخِذُوْهَا قبوْرًا»: دَلِيْلٌ عَلى أَنَّ المقبَرَة َ ليْسَتْ بمَوْضِعِ صَلاةٍ ، لأَنَّ في قوْلِهِ «اِجْعَلوْا في بُيُوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ»: حَثا عَلى الصَّلوَاتِ في البيوْت .
وَقوْلِهِ «وَلا تجْعَلوْهَا قبوْرًا»: يدُلُّ عَلى أَنَّ الصَّلاة َ غيْرُ جَائِزَةٍ في المقبَرَة).
وَقالَ ابْنُ المنْذِرِ في مَوْضِعٍ آخَرَ(5/417-418):(وَفي حَدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ:«اِجْعَلوْا في بُيوْتِكمْ مِنْ صَلاتِكمْ ، وَلا تتخِذُوْهَا قبوْرًا»: أَبيَنُ البيان ِ عَلى أَنَّ الصَّلاة َ في المقبرَةِ غيْرُ جَائِزَة)اه.
قالَ العَلامَة ُ أَبوْ عَبْدِ اللهِ ابْنُ قيِّمِ الجوْزِيةِ في«إعْلامِ الموَقعِيْنَ»(1/39-40):(وَقدْ غلِط َ كثِيْرٌ مِنَ المتأَخِّرِيْنَ ، مِنْ أَتباعِ الأَئِمَّةِ عَلى أَئِمَّتِهمْ بسَبَبِ ذلِك َ، حَيْثُ توَرَّعَ ( - هَذَا مَخْصُوْصٌ ببَعْض ِ مَسَائِلَ لمْ يَجْزِمُوْا بتَحْرِيْمِهَا ، فأَطلقوْا فِيْهَا لفظ َ«الكرَاهَةِ» ، لاحْتِمَالهِ الأَمْرَين ِ: التَّحْرِيْمَ ، وَمَا دُوْنه .(182/141)
وَلمْ يَكنْ هَذَا مُطرِدًا عِنْدَهُمْ ، بَلْ كانَ في مَسَائِلَ مَخْصُوْصَةٍ ، لمْ يَظهَرْ لهمْ فِيْهَا التَّحْرِيْم .
أَمّا عُمُوْمُ إطلاقِهمْ لِلفظِ«الكرَاهَةِ»: فكانوْا يُطلِقوْنهُ بإطلاقِهِ الشَّرْعِيِّ اللغوِيِّ ، فِيْمَا كرِهَهُ الله ُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْ مُحَرَّمٍ وَمَا دُوْنه .
لهِذَا رُبَّمَا سُئِلوْا عَنْ أَمْرٍ فأَطلقوْا فِيْهِ لفظ َ«الكرَاهَةِ» ، ثمَّ سُئِلوْا عَنْهُ أُخْرَى فأَطلقوْا لفظ َ«التَّحْرِيْم».
وَمِنْ ذلِك َ: قوْلُ الإمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ في لحوْمِ الجلالةِ وَأَلبانِهَا:«أَكرَهُهُ» ، كمَا في رِوَايةِ الأَثرَم . ثمَّ تَصْرِيْحُهُ باِلتَّحْرِيْمِ في رِوَايةِ حَنْبَلَ وَغيرِه .
وَمِنْهُ : كرَاهِيَتُهُ أَيضًا لأَلبان ِ الأُتن ِ، وَهِيَ مُحَرَّمَة ٌ عِنْدَه.
وَهَذَا أَمْرٌ تقدَّمَ تقرِيرُهُ ، فلا حَاجَة َ لِلإعَادَة .) الأَئِمَّة ُ عَنْ إطلاق ِ لفظِ «التَّحْرِيْم»ِ ، وَأَطلقوْا لفظ َ «الكرَاهَة».
فنفى المتأَخِّرُوْنَ «التَّحْرِيْمَ» ، عَمّا أَطلقَ عَليْهِ الأَئِمَّة ُ «الكرَاهَة».
ثمَّ سَهُلَ عَليْهمْ لفظ ُ«الكرَاهَةِ» ، وَخفتْ مُؤْنتهُ عَليْهمْ : فحملهُ بَعْضُهُمْ عَلى التَّنْزِيه.
وَتجَاوَزَ بهِ آخَرُوْنَ إلىَ كرَاهَةِ تَرْكِ الأَوْلىَ ، وَهَذَا كثِيْرٌ جِدًّا في تصَرُّفاتِهمْ : فحَصَلَ بسَببهِ غلط ٌ عَظِيْمٌ عَلى الشرِيعَةِ وَعَلى الأَئِمَّة).
ثمَّ شَرَعَ ابنُ القيِّمِ في بيان ِ طرَفٍ مِنْ أَمْثِلةِ ذلِك َ في المذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ المشْهُوْرَةِ ، بدَأَ بمَذْهَبِ الإمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ فقالَ (1/40-43):
(1- وَقدْ قالَ الإمَامُ أَحْمَدُ في الجمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْن ِ بمِلكِ اليَمِيْن ِ: «أَكرَهُهُ ، وَلا أَقوْلُ هُوَ حَرَام».(182/142)
وَمَذْهَبُهُ تَحْرِيْمُهُ ، وَإنمَا تَوَرَّعَ عَنْ إطلاق ِ لفظِ «التَّحْرِيْمِ» ، لأَجْل ِ قوْل ِ عُثْمَانَ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
2- وَقالَ أَبوْ القاسِمِ الخِرَقِيُّ ، فِيْمَا نقلهُ عَنْ أَبي عَبْدِ اللهِ : «وَيُكرَهُ أَنْ يَتَوَضّأَ في آنيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّة».
وَمَذْهَبُهُ : أَنهُ لا يَجُوْز.
3- وَقالَ في رِوَايةِ أَبي دَاوُوْدَ:«وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَدْخُلَ الحمّامَ إلا َّ بمِئْزَرٍ له».
وَهَذَا اسْتِحْبَابُ وُجُوْب.
4- وَقالَ في رِوَايةِ إسْحَاق ِ ابْن ِمَنْصُوْرٍ:«إذا كانَ أَكثرُ مَال ِ الرَّجُل ِ حَرَامًا ، فلا يُعْجِبُني أَنْ يُؤْكلَ مَاله».
وَهَذَا عَلى سَبيْل ِ التَّحْرِيْم .
5- وَقالَ في رِوَايةِ ابنِهِ عَبْدِ اللهِ:«لا يُعْجِبُني أَكلُ مَا ذبحَ لِلزُّهَرَةِ وَلا الكوَاكِبِ وَلا الكنِيْسَةِ ، وَكلِّ شَيْءٍ ذبحَ لِغيْرِ اللهِ ، قالَ الله ُ عَزَّ وَجَلَّ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }.
فتأَمَّلْ ! كيْفَ قالَ «لا يُعْجِبُني» فِيْمَا نصَّ الله ُ سُبْحَانهُ عَلى تَحْرِيْمِهِ ، وَاحْتَجَّ هُوَ أَيضًا بتَحْرِيْمِ اللهِ لهُ في كِتَابه .
6- وَقالَ في رِوَايةِ الأَثرَمِ:«أَكرَهُ لحوْمَ الجلاّلةِ وَأَلبَانهَا».
وَقدْ صَرَّحَ باِلتَّحْرِيْمِ في رِوَايةِ حَنْبَل ٍ وَغيْرِه .
7- وَقالَ في رِوَايةِ ابنِهِ عَبْدِ اللهِ:«أَكرَهُ أَكلَ لحْمِ الحيَّةِ وَالعَقرَبِ ، لأَنَّ الحية َ لها نابٌ ، وَالعَقرَبُ لها حُمَة».
وَلا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ في تَحْرِيْمِه.(182/143)
8- وَقالَ في رِوَايةِ حَرْبٍ:(إذا صَادَ الكلبُ مِنْ غيْرِ أَنْ يُرْسَلَ ، فلا يُعْجِبُني ، لأَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«إذا أَرْسَلتَ كلبَك َ وَسَمَّيْت»( - رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(175)،(5476)،(5485)،(5486) وَمُسْلِم(1929).).
فقدْ أَطلقَ لفظة َ«لا يُعْجِبُني» عَلى مَا هُوَ حَرَامٌ عِنْدَه .
9- وَقالَ في رِوَايةِ جَعْفرِ بْن ِ مُحَمَّدٍ النَّسَائِيِّ:«لا يُعْجِبُني المكحَلة ُ وَالمِرْوَد» ، يَعْني مِنَ الفِضَّة .
وَقدْ صَرَّحَ باِلتَّحْرِيْمِ في عِدَّةِ مَوَاضِعَ ، وَهُوَ مَذْهَبُهُ بلا خِلاف .
10- وَقالَ جَعْفرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَيضًا:(سَمِعْتُ أَبا عَبْدِ اللهِ سُئِلَ عَنْ رَجُل ٍ قالَ لامْرَأَتِهِ:«كلُّ امْرَأَةٍ أَتزَوَّجُهَا ، أَوْ جَارِيةٍ أَشْتَرِيْهَا لِلوَطْءِ وَأَنتِ حَيَّة ٌ : فالجارِية ُ حُرَّة ٌ ، وَالمرْأَة ُ طالِقٌ».
قالَ:«إنْ تزَوَّجَ لمْ آمُرْهُ أَنْ يُفارِقهَا ، وَالعِتْقُ أَخْشَى أَنْ يَلزَمَهُ ، لأَنهُ مُخالِفٌ لِلطلاق».
قِيْلَ لهُ : يَهَبُ لهُ رَجُلٌ جَارِيَة؟
قالَ :«هَذَا طرِيْقُ الحِيْلةِ» ، وَكرِهَه).
مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ تَحْرِيْمُ الحِيَل ِ، وَأَنهَا لا تخلصُ مِنَ الأَيْمَان .
11- وَنصَّ عَلى كرَاهَةِ البطةِ مِنْ جُلوْدِ الحمُرِ ، وَقالَ : «تكوْنُ ذكِيَّة ً».
وَلا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ في التَّحْرِيْم .
12- وَسُئِلَ عَنْ شَعْرِ الخِنْزِيرِ فقالَ:«لا يُعْجِبُني».
وَهَذَا عَلى التَّحْرِيْم .
13- وَقالَ:«يُكرَهُ القدُّ مِنْ جُلوْدِ الحمِيْرِ ذكِيًّا ، وَغيْرَ ذكِيٍّ ، لأَنهُ لا يَكوْنُ ذكِيًّا ، وَأَكرَهُهُ لِمَنْ يَعْمَلُ وَلِلمُسْتَعْمِل».
14- وَسُئِلَ عَنْ رَجُل ٍ حَلفَ لا يَنْتَفِعُ بكذَا : فباعَهُ وَاشْتَرَى بهِ غيْرَهُ : فكرِهَ ذلِك».
وَهَذَا عِنْدَهُ لا يَجُوْز .(182/144)
15- وَسُئِلَ عَنْ أَلبان ِ الأُتن ِ: فكرِهَه.
وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَه .
16- وَسُئِلَ عَن ِ الخمْرِ يتَّخذُ خلا ًّ: فقالَ:«لا يُعْجِبُني».
وَهَذَا عَلى التَّحْرِيْمِ عِنْدَه .
17- وَسُئِلَ عَنْ بيْعِ الماءِ : فكرِهَه .
وَهَذَا في أَجْوِبتِهِ أَكثرُ مِنْ أَنْ يُسْتقصَى ، وَكذَلِك َ غيْرُهُ مِنَ الأَئِمَّة .
[عند الحنفية]
18- وَقدْ نصَّ مُحَمَّدُ بْنُ الحسَن ِ: أَنَّ كلَّ مَكرُوْهٍ فهُوَ حَرَامٌ ، إلا َّ أَنهُ لما لمْ يَجِدْ فِيْهِ نصًّا قاطِعًا لمْ يُطلِقْ عَليْهِ لفظ َ «الحرَام».
19- وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَيضًا عَنْ أَبي حَنِيْفة َ وَأَبي يُوْسُفَ إلىَ أَنهُ إلىَ الحرَامِ أَقرَب .
20- وَقدْ قالَ في«الجامِعِ الكبيْرِ»:«يُكرَهُ الشُّرْبُ في آنيَةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ لِلرِّجَال ِ وَالنِّسَاءِ» ، وَمُرَادُهُ التَّحْرِيْم .
21- وَكذَلِك َ قالَ أَبوْ يُوْسُفَ وَمُحَمَّدٌ:«يُكرَهُ النَّوْمُ عَلى فرُش ِ الحرِيرِ ، وَالتَّوَسُّدُ عَلى وَسَائِدِهِ» ، وَمُرَادُهُمَا التَّحْرِيْم .
22- وَقالَ أَبوْ حَنِيْفة َ وَصَاحِبَاهُ:«يُكرَهُ أَنْ يَلبسَ الذُّكوْرُ مِنَ الصِّبيَان ِ الذَّهَبَ وَالحرِيرَ، وَقدْ صَرَّحَ الأَصْحَابُ أَنهُ حَرَامٌ ، وَقالوْا : إنَّ التَّحْرِيْمَ لمّا ثبتَ في حَقِّ الذُّكوْرِ ، وَتحْرِيْمُ اللبس ِ يُحَرِّمُ الإلباسَ ، كالخمْرِ لمّا حُرِّمَ شُرْبُهَا : حَرُمَ سَقيهَا .
23- وَكذَلِك َ قالوْا :«يُكرَهُ مَنْدِيْلُ الحرِيْرِ الذِي يُتَمَخط ُ فِيْهِ وَيتمَسَّحُ مِنَ الوُضُوْءِ» ، وَمُرَادُهُمُ التَّحْرِيْم .
24- وَقالوْا:«يُكرَهُ بيْعُ العَذِرَةِ» ، وَمُرَادُهُمُ التَّحْرِيْم .
25- وَقالوْا:«يُكرَهُ الاحْتِكارُ في أَقوَاتِ الآدَمِيِّيْنَ وَالبهَائِمِ إذا أَضَرَّ بهمْ ، وَضَيَّقَ عَليْهمْ» ، وَمُرَادُهُمُ التَّحْرِيْم .(182/145)
26- وَقالوْا:«يُكرَهُ بيْعُ السِّلاحِ في أَيامِ الفِتنةِ» ، وَمُرَادُهُمُ التَّحْرِيْم .
27- وَقالَ أَبوْ حَنِيْفة َ:«يُكرَهُ بيْعُ أَرْض ِ مَكة» ، وَمُرَادُهُمُ التَّحْرِيْمُ عِنْدَهُمْ .
28- قالوْا:«وَيكرَهُ اللعِبُ باِلشِّطرَنجِ» ، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَهُمْ .
29- قالوْا:«وَيُكرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ في عُنُق ِ عَبْدِهِ أَوْ غيْرِهِ طوْقَ الحدِيدِ الذِي يَمْنَعُهُ مِنَ التَّحَرُّكِ» ، وَهُوَ الغلُّ ، وَهُوَ حَرَامٌ ، وَهَذَا كثِيْرٌ في كلامِهمْ جِدًّا .
[عند المالكية]
30- وَأَمّا أَصْحَابُ مَالِكٍ : فالمكرُوْهُ عِنْدَهُمْ مَرْتبة ٌ بيْنَ الحرَامِ وَالمباحِ ، وَلا يُطلِقوْنَ عَليْهِ اسْمَ «الجوَازِ» ، وَيقوْلوْنَ:«إنَّ أَكلَ كلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّبَاعِ مَكرُوْهٌ غيْرُ مُبَاح .
31- وَقدْ قالَ مَالِك ٌ في كثيْرٍ مِنْ أَجْوِبتهِ:«أَكرَهُ كذَا»، وَهُوَ حَرَام .
32- فمِنْهَا : أَنَّ مَالِكا نصَّ عَلى كرَاهَةِ الشِّطرَنجِ ، وَهَذَا
عِنْدَ أَكثرِ أَصْحَابهِ عَلى التَّحْرِيْمِ ، وَحَمَلهُ بَعْضُهُمْ عَلى الكرَاهَةِ التي هِيَ دُوْنَ التَّحْرِيْم .
[عند الشافعية]
33- وَقالَ الشّافِعِيُّ في اللعِبِ باِلشِّطرَنجِ : إنهُ لهوٌ شِبْهُ البَاطِل ِ، أَكرَهُهُ وَلا يتبيَّنُ لِي تَحْرِيْمُه .
فقدْ نصَّ عَلى كرَاهتِهِ ، وَتوَقفَ في تَحْرِيْمِهِ ، فلا يَجُوْزُ أَنْ يُنْسَبَ إليْهِ ، وَإلىَ مَذْهَبهِ أَنَّ اللعِبَ بهَا جَائِزٌ ، وَأَنهُ مُبَاحٌ ، فإنهُ لمْ يَقلْ هَذَا ، وَلا مَا يدُلُّ عَليْه .
وَالحقُّ أَنْ يُقالَ:«إنهُ كرِهَهَا ، وَتوَقفَ في تَحْرِيْمِهَا».
فأَينَ هَذَا مِنْ أَنْ يقالَ:«إنَّ مَذْهَبَهُ جَوَازُ اللعِبِ بهَا ، وَإباحَته ؟!
34- وَمِنْ هَذَا أَيضًا : أَنهُ نصَّ عَلى كرَاهَةِ تزَوِّجِ الرَّجُل ِ بنتهُ مِنْ مَاءِ الزِّنا ، وَلمْ يقلْ قط:«إنهُ مُبَاحٌ ، وَلا جَائِز».(182/146)
وَالذِي يَلِيْقُ بجلالتِهِ ، وَإمامَتِهِ ، وَمَنْصِبهِ الذِي أَحَلهُ الله ُ بهِ مِنَ الدِّين ِ: أَنَّ هَذِهِ الكرَاهَة َ مِنْهُ عَلى وَجْهِ التَّحْرِيْم .
وَأَطلقَ لفظ َ«الكرَاهَةِ» : لأَنَّ الحرَامَ يَكرَهُهُ الله ُ وَرُسُوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقدْ قالَ تعَالىَ ، عَقِيْبَ ذِكرِ مَا حَرَّمَهُ مِنَ المحَرَّمَاتِ ، مِنْ عِنْدِ قوْلِهِ { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ }.
إلىَ قوْلِهِ { فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا }.
إلىَ قوْلِهِ { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ }
إلىَ قوْلِهِ {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى }.
إلىَ قوْلِهِ { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ }.
إلىَ قوْلِهِ { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ }.
إلىَ قوْلِهِ { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } إلىَ آخِرِ الآيات.
ثمَّ قالَ { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } .
وَفي «الصَّحِيْحِ»:«إنَّ الله َ عَزَّ وَجَلَّ كرِهَ لكمْ قِيْلَ وَقالَ ، وَكثرَة َ السُّؤَال ِ، وَإضَاعة َ المال»( - رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1477) وَمُسْلِمٌ(593) مِنْ حَدِيْثِ المغِيْرَةِ بْن ِ شُعْبَة َرَضِيَ الله ُ عَنْه.).
فالسَّلفُ كانوْا يَسْتعْمِلوْنَ «الكرَاهَةَ» في مَعْنَاهَا الذِي اسْتُعْمِلتْ فِيْهِ في كلامِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَمّا المتأَخِّرُوْنَ : فقدِ اصْطلحُوْا عَلى تَخْصِيْص ِ«الكرَاهَةِ» بمَا ليْسَ بمُحَرَّمٍ ، وَترْكهُ أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِه .
ثمَّ حَمَلَ مَنْ حَمَلَ مِنْهُمْ كلامَ الأَئِمَّةِ عَلى الاصْطِلاحِ الحادِثِ : فغلِط َ في ذلِك .(182/147)
وَأَقبحُ غلطا مِنْهُ : مَنْ حَمَلَ لفظ َ«الكرَاهَةِ» ، أَوْ لفظ َ «لا يَنْبغِي»، في كلامِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلى المعْنَى الاصْطِلاحِي الحادِث.
وَقدِ اطرَدَ في كلامِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اسْتِعْمَالُ «لا يَنْبغِي» في المحْظوْرِ شَرْعًا أَوْ قدَرًا : في المسْتحِيْل ِ الممْتنِعِ ، كقوْل ِ اللهِ تعَالىَ { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً }.
وَقوْلِهِ { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ }.
وَقوْلِهِ { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ }.
وَقوْلِهِ عَلى لِسَان ِ نبيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«كذَّبني ابنُ آدَمَ وَمَا يَنْبغِي لهُ ، وَشَتَمَني ابنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي له»( - رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(3193) مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه .).
وَقوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إنَّ الله َ لا ينامُ ، وَلا ينْبغِي لهُ أَنْ ينامَ»( - رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ» (179) مِنْ حَدِيْثِ أَبي مُوْسَى الأَشْعَرِيّ رَضِيَ الله ُ عَنْه .).
وَقوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في لِبَاس ِ الحرِيرِ:«لا يَنْبَغِي هَذَا لِلمُتقِيْنَ»( - رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(375) وَمُسْلِمٌ(2075) مِنْ حَدِيْثِ عُقبَةِ بْن ِعَامِرٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه .) وَأَمْثالُ ذلك)اه كلامُهُ رَحِمَهُ الله .
كمَا أَطلقوْهَا عَلى أُمُوْرٍ أُخْرَى كثِيْرَةٍ ، لا يُرِيْدُوْنَ بهَا التَّحْرِيْمَ ، بَلْ مَا دُوْنَ ذلِك َ مِنَ التَّنْزِيْهِ ، مُوَافِقِيْنَ فِيْهَا للأُصُوْلِيِّيْنَ مِنْ غيْرِ قصْدِ مُوَافقة .(182/148)
وَالحاصِلُ : أَنَّ الكرَاهَة َ عِنْدَهُمْ : مَا كرِهَهُ الشّارِعُ فنهَى عَنْهُ ، أَكانتِ الكرَاهَة ُ تَحْرِيْمِيَّة ً أَمْ تنْزِيْهيَّة . وَيُعْرَفُ مَقصُوْدُ الشّارِعِ باِلكرَاهَةِ أَهِيَ لِلتَّحْرِيْمِ أَمْ لِلتَّنْزِيْهِ ، باِلنظرِ في النُّصُوْص .
فإذا اسْتقرَّ هَذَا عِنْدَك َ: فاعْلمْ - جَازِمًا قاطِعًا - أَنَّ إطلاقَ جَمَاعَةٍ مِنَ الأَئِمَّةِ الكرَاهَة َعَلى الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ أَوْ إليْهَا ، لا يُرِيْدُوْنَ بهَا سِوَى التَّحْرِيْم .
وَقدْ تكاثرَتِ الأَدِلة ُ وَتوَاترَتْ عَلى تَحْرِيْمِ ذلِك َ وَالنَّهْيِّ عَنْهُ ، وَمِنْ ذلِك َ: قوْلُ البُخارِيِّ رَحِمَهُ الله ُ في البابيْن ِ السّابقيْن ِ، وَقوْلُ التِّرْمِذِيِّ في«جَامِعِهِ»:«بَابُ مَا جَاءَ في كرَاهِيَةِ المشْيِّ عَلى القبوْرِ، وَالجلوْس ِ عَليْهَا ، وَالصَّلاةِ إليْهَا».
أَمّا تَرْجِيْحُ المعْتَرِض ِ هَذَا القوْلَ ، بصَلاةِ الصَّحَابةِ : فقدْ تقدَّمَ جَوَابهُ ، وَبيانُ بُطلانهِ ، وَالحمْدُ لله .
فصل
في رَدِّ زَعْمِهِ أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ ، بَطلَ بهِ الاسْتِدْلالُ ، وَبيانُ أَنَّ هَذِهِ قاعِدَة ٌ، إطلاقهَا يؤُوْلُ بصَاحِبهَا إلىَ زَندَقةٍ ،
وَبيان ِ مَعْنَاهَا عِنْدَ أَهْل ِالعِلم
وَأَمّا قوْلُ المعْتَرِض ِ:(وَمِمّا هُوَ مَعْلوْمٌ لدَى طلبةِ العِلمِ : أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ ، بطلَ الاسْتِدْلالُ به)اه .
فإطلاقهُ بَاطِلٌ ، وَإطلاقهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُوْل ِأَهْل ِ البدَعِ وَالضَّلال ِ، مِمَّنْ أَرَادُوْا إهْجَانَ السُّنَّةِ ، وَإبْطالَ الأَدِلةِ ، وَإفسَادَ الدِّين ِ، وَإغوَاءَ المهْتَدِيْن .(182/149)
فإنهُ لا يَخْلوْ دَلِيْلٌ لا فِي الكِتابِ وَلا فِي السُّنَّةِ ، إلا َّ وقدْ أُوْرِدَ عَليْهِ احْتِمَالٌ ، إمّا مِنْ مُهْتَدٍ أَوْ مِنْ مُبْطِل ٍ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ الاحْتِمَالُ صَحِيْحًا أَمْ فاسِدًا .
وَلوْ سُلمَ إطلاقُ هَذِهِ القاعِدَةِ : لمَا صَحَّ لنا وَلا لِغيْرِنا أَنْ يَسْتَدِلَّ بأَيِّ دَلِيْل ٍ، أَوْ يَحْتَجَّ بأَيِّ حُجَّةٍ ، لِتطرُّق ِ احْتِمَال ٍ مِنَ الاحْتِمَالاتِ عَليْهَا ! إمّا فِي أَصْلِهَا ، أَوْ فِي تأْوِيْلِهَا وَمَعْنَاهَا ، وَحِيْنَذَاك َ يَبْطلُ الدِّينُ ، وَتسْقط ُ الشعَائِرُ ، وَيحْصُلُ لِلزَّنادِقةِ مَا أَملوْهُ وَرَجَوْه .
وَمُرَادُ مَنْ ذكرَ هَذِهِ القاعِدَة َ مِنَ العُلمَاءِ ، وَمَعْنَاهَا الصَّحِيْحُ عِنْدَهُمْ : أَنَّ الاحْتِمَالاتِ الوَارِدَة َ عَلى الأَدِلةِ ثلاثة ُ أَنوَاعٍ :
اِحْتِمَالٌ وَهْمِيٌّ مَرْجُوْحٌ ،
وَاحْتِمَالٌ رَاجِحٌ ،
وَاحْتِمَالٌ مُسَاوٍ .
فالاحْتِمَالُ الأَوَّلُ : لا اعْتِبَارَ بهِ ، وَلا تأْثِيْرَ له .
وَالاحْتِمَالُ الثانِي: يَجِبُ المصِيْرُ إليْهِ ، وَالتَّعْوِيْلُ عَليْه.
وَأَمّا الاحْتِمَالُ الثالِثُ : فهُوَ الذِي يُسْقِط ُ الاسْتِدْلالَ بذَلِك َ الدَّلِيْل ِ عَلى ذلِك َ الاحْتِمَال ِ المسَاوِي لا غيرِهِ ، لاسْتِوَاءِ طرَفيْهِ ، وَهُوَ مُرَادُ مَنْ أَطلقَ هَذِهِ القاعِدَة َ مِنَ الأَئِمَّةِ لا سِوَاه .
وَقدْ بيَّنَ أَبوْ العَبّاس ِ القرَافيُّ(ت684ه) في«الفرُوْق» (2/87) : الفرْقَ بَيْنَ هَذِهِ القاعِدَةِ السّابقةِ «حِكاية ُ الحال ِ إذا تطرَّقَ إليْهَا الاحْتِمَالُ ، سَقط َ بهَا الاسْتِدْلال» ، وَبيْنَ قاعِدَةِ «حِكاية ُ الحال ِ، إذا ترِك َ فِيْهَا الاسْتِفصَالُ ، تقوْمُ مَقامَ العُمُوْمِ في المقال ِ، وَيَحْسُنُ بهَا الاسْتِدْلال»، بقوْلِهِ:(وَتَحْرِيْرُ الفرْق ِ بَيْنَهُمَا ، ينبنِي عَلى قوَاعِدَ :(182/150)
القاعِدَة ُ الأُوْلىَ: أَنَّ الاحْتِمَالَ المرْجُوْحَ ، لا يَقدَحُ في دَلالةِ اللفظِ ، وَإلا َّ لسَقطتْ دَلالة ُ العُمُوْمَاتِ كلهَا ، لِتطرُّق ِ احْتِمَال ِ التَّخْصِيْص ِ إليْهَا .
بَلْ تَسْقط ُ دَلالة ُ جَمِيْعِ الأَدِلةِ السَّمْعِيَّةِ ، لِتَطرُّق ِ المجَازِ وَالاشْتِرَاكِ إلىَ جَمِيْعِ الأَلفاظ .
لكِنَّ ذلِك َ باطِلٌ ، فتعَينَ حِيْنَئِذٍ : أَنَّ الاحْتِمَالَ الذِي يُوْجِبُ الإجْمَالَ ، إنّمَا هُوَ الاحْتِمَالُ المسَاوِي ، أَوِ المقارِبُ ، أَمّا المرْجُوْحُ : فلا .
القاعِدَة ُ الثانِيَة ُ: أَنَّ كلامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ ، إذا كانَ مُحْتَمِلا ً احْتِمَاليْن ِ عَلى السَّوَاءِ : صَارَ مُجْمَلا ً، وَليْسَ حَمْلهُ عَلى أَحَدِهِمَا أَوْلىَ مِنَ الآخَر).
ثمَّ قالَ القرَافِيُّ (2/88):(فحَيْثُ قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ الله ُعَنْهُ:«إنَّ حِكاية َ الحال ِ، إذا تَطرَّقَ إليْهَا الاحْتِمَالُ ، سَقط َ بهَا الاسْتِدْلال»: مُرَادُهُ إذا اسْتَوَتِ الاحْتِمَالاتُ في كلامِ صَاحِبِ الشَّرْع)اه.
وَقدْ تَعَقبَ أَبو القاسِمِ ابْنُ الشّاطِ (ت723ه) أَبا العَبّاس ِ القرَافِيَّ في قوْلِهِ السّابق ِ«فتعيَّنَ حِيْنَئِذٍ أَنَّ الاحْتِمَالَ الذِي يُوْجِبُ الإجْمَالَ ، إنّمَا هُوَ الاحْتِمَالُ المسَاوِي ، أَوِ المقارِبُ ، أَمّا المرْجُوْحُ : فلا» فقال:( إيْجَابُ الاحْتِمَال ِ المسَاوِي الإجْمَالَ : مُسَلم .
وَأَمّا إيْجَابُ المقارِبِ : فلا ، فإنهُ :
إنْ كانَ مُتَحَققَ المقارَبةِ: فهوَ مُتَحَققُ عَدَمِ المسَاوَاة .
وَإنْ كانَ مُتَحَققَ عَدَمِ المسَاوَاةِ : فهُوَ مُتَحَققُ المرْجُوْحِيَّةِ : فلا إجْمَال)اه .(182/151)
قلتُ : الذِي يَظهَرُ لِي: أَنَّ مُرَادَ القرَافِيِّ مِنْ قوْلِهِ «الاحْتِمَالُ المقارِبُ»: مَا كانَ مُقارِبا لِلمُسَاوِي مُقارَبة ً شدِيدَة ً، بحيْثُ يَكوْنُ رُجْحَانهُ عَلى غيْرِهِ دَقِيْقا خفِيْفا ، لا يُصَارُ إليْهِ ، وَلا يُرَجَّحُ بهِ عَليْهِ، لِخِفةِ مُرَجِّحِهِ عَلى غيْرِهِ ، فيبْقى مُقارِبا
شبيْهًا باِلمسَاوِي ، وَالله ُ أَعْلم .
وَقدْ سَأَلتُ شَيْخَنَا العَلامَة َ، عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن ِ ابنَ غدَيان حَفِظهُ الله ُ، وَبارَك َ فِيْهِ وَفي عِلمِهِ : عَنْ صِحَّةِ إطلاق ِ تِلك َ القاعِدَةِ السّابقةِ فقالَ:(لا يَصِحُّ إطلاقهَا ، وَإنّمَا هِيَ صَحِيْحَة ٌ في صُوْرَةٍ وَاحِدَةٍ : إذا كانَ الاحْتِمَالُ مُسَاوِيا .
أَمّا إذا لمْ يَكنْ مُسَاوِيا : فكانَ رَاجِحًا : وَجَبَ المصِيْرُ إليْهِ . أَوْ مَرْجُوْحًا وَهْمِيا : وَجَبَ اطرَاحُهُ وَترْكهُ ، وَلا تأْثِيْرَ له .
وَإطلاقهَا كإطلاق ِ النّاس ِ لِقاعِدَةِ «دَرْءُ المفاسِدِ ، مُقدَّمٌ عَلى جَلبِ المصَالِحِ» ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ القاعِدَة َ، لا تصِحُّ إلا َّ فِي صُوْرَةٍ وَاحِدَةٍ فقط ، وَهِيَ إذا تسَاوَتِ المفسَدَة ُ وَالمصْلحَة .
ثمَّ ذكرَ الشَّيْخُ حَفِظهُ الله ُ: أَنَّ أَحْسَنَ مَنْ رَآهُ تَكلمَ عَلى تِلك َ القاعِدَةِ الأُوْلىَ السّابقةِ: القرَافِيُّ في«الفرُوْق» وَأَوْفاهَا شَرْحًا ، وَقدْ قدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ كلامِهِ فِيْهَا رَحِمَهُ الله .
إذا تقرَّرَ هَذَا ، فاعْلمْ أَنَّ هَذَا المعْتَرِضَ المبطِلَ ، لا تعلقَ لهُ صَحِيْحٌ بهذِهِ القاعِدَة .
وَأَنَّ إطلاقهُ البَاطِلَ لها - كمَا أَنهُ يُسْقِط ُ الاحْتِجَاجَ ببَعْض ِ أَدِلتِنَا ، كمَا يُرِيْدُ وَيزْعُمُ – يُسْقِط ُ الاحْتِجَاجَ بأَدِلتِهِ كافة ً، لِتطرُّق ِ الاحْتِمَال ِ عَليْهَا أَيْضًا !(182/152)
وَالاحْتِمَالُ الوَارِدُ عَلى حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام»-إنْ قِيْلَ بوُجُوْدِهِ أَصْلا ً– : هُوَ احْتِمَالٌ وَهْمِيٌّ مَرْجُوْحٌ لا عِبْرَة َ بهِ ، وَقدْ تكاثرَتِ الأَدِلة ُ المخْتَلفة ُ عَلى بيان ِ صِحَّةِ ذلِك َ الحدِيْثِ كمَا تقدَّم .
* * *
فصل
في زَعْمِ جَمَاعَةٍ مِنَ القبوْرِيِّينَ : أَنْ لا عَوْدَة َ لِلشِّرْكِ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ ،
وَلا حَاجَة َ لِسَدِّ ذرَائِعِهِ وَوَسَائِلِهِ ، وَأَنَّ قوْلَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَجْتَمِعُ دِيْنان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ»، وَقوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ
في جَزِيْرَةِ العَرَبِ»: دَلِيْلان ِ عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ المنافِيَةِ لِلإيْمَان ِ، وَبيان ِ فسَادِ اسْتِدْلالهِمْ وَنقضِهِ ، وإخْبَارِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَوْدَةِ الشِّرْكِ إلىَ جَزِيْرَةِ العَرَبِ بَعْدَ انتِشَارِ الإسْلامِ ، وَإكمَال ِ الرِّسَالةِ ،
لِتَفرِيْطِ النّاس ِ في سَدِّ ذرَائِعِ الشِّرْكِ ، وَمَنْعِ أَسْبَابه
قدْ زَعَمَ جَمَاعَة ٌمِنْ سَدَنةِ القبوْرِ ، وَدُعَاةِ الضَّلالةِ إلىَ دَارِ الثبوْرِ: أَنَّ قوْلَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ ، وَلكِنْ في التَّحْرِيْش ِ بَيْنَهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ» (2812) مِنْ حَدِيْثِ جَابرِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ الله ُ عَنْه .(182/153)
وَزَعَمُوْا كذَلِك َ: أَنَّ قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لا يَجْتَمِعُ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ دِيْنَان ِ» رَوَاهُ الفاكِهيُّ في«أَخْبَارِ مَكة َ»(3/44)(1762) وَالبَيْهَقِيُّ في «سُننِهِ الكبْرَى»(6/115) مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّبِ عَنْ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه( - وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزّاق ِ في«مُصَنَّفِهِ»(6/53)(9984) مُرْسَلا ً، مِنْ حَدِيْثِ سَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّب .
وَرَوَاهُ مَالِك ٌ في«الموَطإ»(1651) عَن ِ ابْن ِ شِهَابٍ مُرْسَلا ً. وَهَذَان ِ المرْسَلان ِ مَوْصُوْلان ِ حَقِيْقة ً، مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَقدْ تقدَّم .).
فزَعَمُوْا أَنهُمَا : إخْبَارَان ِ مِنَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبشارَاتان ِ عَلى خُلوِّ جَزِيْرَةِ العَرَبِ مِنْ دِيْن ٍ ثان ٍ يَكوْنُ فِيْهَا ! وَإخْبَارَان ِ كذَلِك َ بسَلامَتِهَا مِنَ الشِّرْكِ وَالكفر !
قالوْا : فدَلَّ ذلِك َ عَلى أَنَّ مَا يَفعَلوْنهُ عِنْدَ القبوْرِ وَالأَضْرِحَةِ وَالمشَاهِدِ ، مِنْ دُعَاءٍ وَاسْتِغاثةٍ وَذبْحٍ وَغيْرِهِ : ليْسَ بشِرْكٍ وَلا كفرٍ، وَإلا َّ لكانتْ تِلك َ الأَفعَالُ مُخالِفة ً لخبرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبشارَتِه !
وَجَوَابُ هَذِهِ الإيْرَادَاتِ البَارِدَاتِ السّاقِطاتِ ، مِنْ وُجُوْهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا تَحْرِيْفٌ لِلكلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ ، وَصَرْفٌ لهُ عَنْ حَقيْقتِه .(182/154)
وَمُرَادُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قوْلِهِ«لا يَجْتَمِعُ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ دِيْنَان»- كمَا هُوَ عِنْدَ أَهْل ِ العِلمِ الرَّبانِييْنَ ، لا عُبّادِ القبوْرِ مِنَ المشْرِكِيْنَ - : أَمْرٌ بوُجُوْبِ خُلوِّ الجزِيْرَةِ مِنْ دِيْن ٍ ثان ٍ غيْرَ الإسْلامِ ، لا خبرٌ وَبشارَة ٌ بخلوِّهَا !
وَقدْ دَلَّ عَلى هَذَا المعْنَى أَحَادِيْثُ كثِيْرَة ٌ، مِنْهَا :
* حَدِيْثُ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا قالتْ:(كانَ آخِرُ مَا عَهدَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قالَ:«لا يُتْرَك ُ بجَزِيْرَةِ العَرَبِ دِيْنَان» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في «مُسْنَدِه»(6/275).
وَهَذَا مَا فهمَهُ الصَّحَابة ُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلامِ : فرَوَى ابْنُ زَنْجُوْيه في «الأَمْوَال ِ»(1/276)(417) قالَ:(أَخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبيْدٍ حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نافِعٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا : أَنَّ عُمَرَ أَخْرَجَ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى وَالمجُوْسَ مِنَ المدِيْنةِ ، وَضَرَبَ لِمَنْ قدِمَهَا مِنْهُمْ أَجَلا ً، إقامَة َ ثلاثِ ليَال ٍ ، قدْرَ مَا يَبيْعُوْنَ سِلعَهُمْ ، وَلمْ يَكنْ يَدَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُقِيْمُ بَعْدَ ثلاثِ ليَال ٍ، وَكانَ يَقوْلُ:«لا يَجْتَمِعُ دِيْنَان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَب»).
وَرَوَاهُ :
- القاسِمُ بْنُ سَلامٍ في«الأَمْوَال»(1/180)(272) أَيْضًا : أَخْبَرَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبيْدٍ بهِ،
- وَابْنُ أبي شَيْبَة َ في«مُصَنَّفِهِ»(12/345) في«كِتَابِ الجهَادِ»،«مَنْ قالَ لا يَجْتَمِعُ اليَهُوْدُ وَالنَّصَارَى مَعَ المسْلِمِيْنَ في مِصْرٍ»: حَدَّثنَا عَبْدَة ُ بنُ سُليْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بنَحْوِه .(182/155)
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزّاق ِ في «مُصَنَّفِهِ»(4/125-126)(7208)(6/56) (9990) في«كِتَابِ أَهْل ِ الكِتَابِ»،«إجْلاءُ اليَهُوْدِ مِنَ المدِيْنَةِ» قالَ:(أَخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَن ِ الزُّهْرِيِّ عَن ِ ابْن ِ المسَيِّبِ : أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفعَ خَيْبَرَ إلىَ اليَهُوْدِ عَلى أَنْ يَعْمَلوْا فِيْهَا ، وَلهمْ شَطرُ ثمَرِهَا .
فمَضَى عَلى ذلِك َ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبوْ بَكرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلافةِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا .
ثمَّ أُخْبرَ عُمَرُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ- في وَجَعِهِ الذِي مَاتَ مِنْهُ -: «لا يَجْتَمِعُ بأَرْض ِ العَرَبِ دِيْنَان ِ» أَوْ قالَ «بأَرْض ِ الحِجَازِ دِيْنَان ِ»: ففحَّصَ عَنْ ذلِك َ حَتَّى وَجَدَ عَليْهِ الثبْت . ثمَّ دَعَاهُمْ فقالَ:«مَنْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليأْتِ بهِ ، وَإلا َّ فإني مُجْلِيْكمْ». قالَ ابْنُ المسَيِّبِ : فأجْلاهُمْ عُمَر).
وَرَوَى مَالِك ٌ في«الموَطإ»(1651): عَن ِ ابْن ِ شِهَابٍ : أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«لا يَجْتَمِعُ دِيْنَان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَب».
قالَ ابْنُ شِهَابٍ : ففحَّصَ عَنْ ذلِك َ عُمَرُ بْنُ الخطابِ حَتَّى أَتاهُ الثلجُ وَاليقِيْنُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«لا يَجْتَمِعُ دِيْنَان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ» ، فأَجْلى يَهُوْدَ خيْبَر .(182/156)
قالَ أَبو الوَلِيْدِ الباجِيُّ(ت494ه) في«المنْتَقى في شَرْحِ الموَطإ» بَعْدَهُ(7/195):(وَقوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يبْقينَّ دِيْنَان ِ بأَرْض ِ العَرَبِ»: يُرِيْدُ - وَالله ُ أَعْلمُ - لا يبْقى فِيْهَا غيْرُ دِيْن ِ الإسْلامِ ، وَأَنْ يُخْرَجَ مِنْهَا كلُّ مَنْ يتدَينُ بغيْرِ دِيْن ِ الإسْلام .
قالَ مَالِك ٌ:«يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ البلدَان ِ كلُّ يَهُوْدِيٍّ أَوْ نصْرَانِيٍّ أَوْ ذِمِّيٍّ كانَ عَلى غيْرِ مِلةِ الإسْلام»).
ثمَّ قالَ الباجِيُّ(7/196):(وَقوْلُ ابْن ِ شِهَابٍ«ففحَّصَ عُمَرُ بنُ الخطابِ عَنْ ذلِك»: قالَ مَالِك ٌ:«مَعْنَاهُ : كشَفَ عَنْ هَذَا القوْل ِ، هَلْ يَصِحُّ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ».
قالَ:«حِيْنَ جَاءَهُ الثلجُ» قالَ :«مَعْنَاهُ اليَقِيْنُ الذِي لا شَك َّ فِيْهِ ، يُرِيْدُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ ذلِك» فأَجْلى عُمَرُ بْنُ الخطابِ يهُوْدَ خَيْبَر)اه.
وَهَذَا المعْنَى - أَي وُجُوْبَ إخْرَاجِ المشْرِكِيْنَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ ، وَعَدَمَ إبقاءِ دِيْن ٍ في الجزِيْرَةِ يُتَعبَّدُ بهِ غيْرَ الإسْلامِ - قدْ جَاءَ في غيْرِ حَدِيْثٍ ، مِنْ ذلِك َ :
* قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَخْرِجُوْا المشْرِكِيْنَ مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(1/222) وَالبُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(3053)، (3168)، (4431) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(1637) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِهِ» (3029) مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا في حَدِيْثٍ فِيْهِ طوْل .(182/157)
* وَقوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لأُخْرِجَنَّ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ ، حَتَّى لا أَدَعَ إلاّ مُسْلِمًا» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(1/29) (3/345) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(1767) وَالتِّرْمِذِيُّ(1607) وَأَبوْ دَاوُوْدَ(3030) مِنْ حَدِيْثِ جَابرِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ عَنْ عُمَرِ بْن ِ الخطابِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا .
وَفي رِوَايةٍ لأَحْمَدَ في«مُسْنَدِهِ»(1/32) وَالتِّرْمِذِيِّ(1606):«لئِنْ عِشْتُ لأُخْرِجَنَّ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى ... » الحدِيْث .
الوَجْهُ الثانِي : أَنَّ تأْوِيْلَ القبوْرِيِّيْنَ ذلِك َ، مُخالِفٌ لِمَا ثبتَ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَوْدَةِ الشِّرْكِ إلىَ جَزِيْرَةِ العَرَبِ في أَمَاكِنَ مِنْهَا ، وَحُدُوْثِهِ في أَحْيَاءٍ مِنْهُمْ ، وَمِنْ ذلِك َ:
* قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لا تقوْمُ السّاعَة ُ حَتَّى تلحَقَ قبائِلُ مِنْ أُمَّتِي باِلمشْرِكِيْنَ ، وَحَتَّى يَعْبُدُوْا الأَوْثانَ ، وَإنهُ سَيَكوْنُ في أُمَّتِي ثلاثوْنَ كذّابوْنَ ، كلهُمْ يَزْعُمُ أَنهُ نبيٌّ ، وَأَنا خَاتمُ النَّبيِّيْنَ لا نبيَّ بَعْدِي».
وَهُوَ حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، رَوَاهُ :
- أَبوْ دَاوُوْدَ الطيالِسِيُّ في«مُسْنَدِهِ»(ص133)(991): حَدَّثنَا حَمّادُ بْنُ زَيدٍ عَنْ أَيوْبَ عَنْ أَبي قلابة َ عَنْ أَبي أَسْمَاءٍ الرَّحَبيِّ عَنْ ثوْبانَ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
- وَالتِّرْمِذِيُّ في«جَامِعِهِ»(2219): حَدَّثنا قتيْبَة ُحَدَّثنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ بهِ ، وَقالَ:(هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْح).
- وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِه»(4252) ،
- وَابْنُ أَبي عَاصِمٍ في«الآحَادِ وَالمثانِي»(1/332)(456) وَ«الدِّياتِ»(ص48)،
- وَأَبوْ بَكرٍ البَرْقانِيُّ في«صَحِيْحِهِ» ،(182/158)
- وَالحاكِمُ في«مُسْتَدْرَكِه»(4/448-449).
وَهَذَا كمَا تقدَّمَ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، بَلْ قدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَصْلهُ في«صَحِيْحِهِ»(2889): حدَّثنا قتيْبَة ُ بْنُ سَعِيْدٍ عَنْ حَمّادِ بْن ِ زَيْدٍ بهِ ، دُوْنَ مَوْضِعِ الشّاهِدِ مِنْهُ ، وَهُوَ حَدِيْثٌ طوِيْلٌ ، قطعَهُ بَعْضُ الأَئِمَّةِ وَرَوَوْهُ في الأَبْوَاب .
* وَمِنْ ذلِك َ أَيْضًا : قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لا تقوْمُ السّاعَة ُ حَتَّى تضْطرِبَ أَلياتُ نِسَاءِ دَوْس ٍ عَلى ذِي الخلصَة».
وَذو الخلصَةِ : طاغِيَة ُ دَوْس ٍ التِي كانوْا يَعْبُدُوْنَ في الجاهِليَّة . رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(2/271) وَالبُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» (7116) وَمُسْلِمٌ(2906) مِنْ حَدِيْثِ أبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
الوَجْهُ الثالِثُ : ارْتِدَادُ كثِيْرٍ مِنْ قبائِل ِ الجزِيْرَةِ بَعْدَ وَفاةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقِتَالُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيق ِ مَعَ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ جَمِيْعًا لهمْ : دَلِيْلٌ عَلى بُطلان ِ تَأْوِيْل ِ القبوْرِيِّيْنَ وَفسَادِه .
الوَجْهُ الرّابعُ : ادَّعَاءُ مُسَيْلِمَة َ الكذّابِ النُّبوَّة َ، وَإيْمَانُ أَهْل ِ اليَمَامَةِ بهِ ، حَتَّى قاتلهُمُ الصَّحَابة ُ عَلى ذلِك َ زَمَنَ أبي بَكرٍ الصِّدِّيق ِ: دَلِيْلٌ آخَرُ عَلى بُطلان ِ قوْل ِ القبوْرِيِّين .
الوَجْهُ الخامِسُ : خُرُوْجُ الزَّنادِقةِ في خِلافةِ الخلِيْفةِ الرّاشِدِ عَلِيِّ بْن ِ أبي طالِبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، المدَّعِيْنَ أُلوْهِيَّتَهُ ، وَقتْلهُ لهمْ بحَرْقِهمْ باِلنّارِ ، حَتَّى اتصَلَ عَذَابُهُمْ مِنْ نارِ الدُّنيا إلىَ نارِ الآخِرَةِ : دَلِيْلٌ آخَرُ عَلى بُطلان ِ قوْل ِ القبوْرِيين .(182/159)
الوَجْهُ السّادِسُ : وُجُوْدُ اليَهُوْدِ في بَعْض ِ جَزِيْرَةِ العَرَبِ مِنْ زَمَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اليَوْم في اليَمَن ِ وَغيْرِهَا ، وَوُجُوْدُ النَّصَارَى وَالمجُوْس ِ وَالقرَامِطةِ وَالبَاطِنِيَّةِ وَالرَّوَافِض ِ وَغيْرِهِمْ مِنَ الزَّنادِقةِ وَالكافِرِيْنَ في الجزِيْرَةِ قدِيْمًا وَحَدِيْثًا : دَلِيْلٌ عَلى بُطلان ِ تَأْوِيْلِهمْ .
بَلْ يَلزَمُ أُوْلئِك َ القبوْرِيينَ ، المحْتَجِّيْنَ بتلك َ الأَحَادِيْثِ عَلى ذلِك َ الوَجْهِ الفاسِدِ : أَنْ يُصَحِّحُوْا دِيْنَ أُوْلئِك َ الكفارِ ، مِنَ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى وَغيْرِهِمْ ! وَهَذا أَمْرٌ لا يَقوْلوْنَ بهِ ، وَلا يَسْتَطِيْعُوْنَ قوْلهُ ، وَمَنْ قالهُ : كفرَ إجْمَاعًا .
فلا سَبيْلَ لهمْ إلا َّ إبْطالُ تأْوِيْلِهمْ ، وَترْك ُ تَحْرِيْفِهمْ .
الوَجْهُ السّابعُ : إخْبَارُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخرُوْجِ الدَّجّال ِ، وَأَنهُ يَدَّعِي الإلهِيَّة َ، وَأَنهُ يَطأُ الأَرْضَ كلهَا ، حَتَّى لا يَسْلمَ مِنْ فِتنتِهِ أَحَدٌ إلا َّ مَا شاءَ الله ُ، إلا َّ أَهْلُ المدِينتيْن ِ المقدَّسَتيْن ِ مَكة َ وَالمدِيْنَةِ ، فإنهُ يُمْنَعُ مِنْ دُخُوْلهِمَا ، وَتَحُوْلُ الملائِكة ُ دُوْنهُ ، فيقِفُ عَلى مَشَارِفِهمَا ، فتَرْجُفُ المدِينة ُ بأَهْلِهَا ، فيخْرُجُ خَبَثهَا إليْهِ ، فيؤْمِنُوْنَ بهِ رَبا ، وَيَكفرُوْنَ باِللهِ ، عِيَاذاً باِلله . وَهَذَا يُخالِفُ تَأْوِيْلَ القبوْرِيينَ ، وَيُظهرُ فسَادَ قوْلهِم .(182/160)
وَقدْ جَاءَتْ بذَلِك َ الأَحَادِيْثُ المتوَاتِرَة ُ في شَأْنِهِ ، وَمِنْ ذلِك َ: مَا رَوَاهُ البخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1881) وَمُسْلِمٌ(2943) مِنْ حَدِيْثِ أَنس ِ بْن ِ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«ليْسَ مِنْ بلدٍ إلا َّ سَيطؤُهُ الدَّجّالُ ، إلا َّ مَكة َ وَالمدِينة َ ليْسَ لهُ مِنْ نِقابهَا نقبٌ إلا َّ عَليْهِ الملائِكة ُ صَافينَ يَحْرُسُوْنهَا ثمَّ ترْجُفُ المدِيْنَة ُ بأَهْلِهَا ثلاثَ رَجْفاتٍ ، فيُخْرِجُ الله ُ كلَّ كافِرٍ وَمُنَافِق».
الوَجْهُ الثامِنُ : أَنهُ مُخالِفٌ لإجْمَاعِ أَهْل ِ العِلمِ مِنَ الصَّحَابةِ وَالتابعِيْنَ فمَنْ بَعْدَهُمْ ، مِمَّنْ كفرُوْا مَن ِ ارْتكبَ ناقِضًا مِنْ نوَاقِض ِ الإسْلامِ ، أَوِ ارْتدَّ عَنْهُ ، مِنْ أَهْل ِ الجزِيْرَةِ كانَ ، أَمْ مِنْ غيْرِهَا ، دُوْنَ مُرَاعَاةِ ضَابطِ القبوْرِيِّيْنَ الفاسِد .
الوَجْهُ التّاسِعُ : مُخالفتهُ أَيْضًا وَمُنَاقضَتهُ ، لِفِعْل ِ كثِيْرٍ مِنْ هَؤُلاءِ القبوْرِيِّيْنَ ، في تَكفِيْرِهِمْ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْل ِ الجزِيْرَةِ ، وَقِتَالهِمْ
لهمْ ، مَعَ كوْنِهمْ دَاخِلِيْنَ في بشَارَةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي زَعَمُوْهَا بخلوِّ الجزِيْرَةِ مِنَ المشْرِكِين .
وَمِنْ ذلِك َ: تَكفِيْرُهُمْ لِلشَّيْخِ الإمَامِ مُحَمَّدِ بْن ِ عَبْدِ الوَهّابِ وَمَنْ ناصَرَهُ وَآزَرَهُ رَحِمَهُمُ الله ُ، مُحْتَجِّيْنَ بأَنهُمْ خَوَارِجُ ! أَوْ نوَاصِبُ ! أَوْ مُبْغِضِيْنَ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! أَوْ مُنْتَقِصِيْنَ لهُ ، وَهَلمَّ جَرًّا لأَكاذِيْبهْم .(182/161)
وَمِنَ المعْلوْمِ : أَنَّ الشَّيْخَ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ الله ُ وَمَنْ كانَ مَعَهُ ، كانوْا في قلبِ الجزِيْرَةِ ، وَلم يَكنْ نصِيْبُهُمْ مِنْ تِلك َ البشَارَةِ المزْعُوْمَةِ ، كنَصِيْبِ أُوْلئِك َ! فمَا بَالُ البشارَةِ تَجَنبتهُمْ ، وَلمْ يَنَالوْا مِنْهَا شَيْئًا غيْرَ التَّكفِيْرِ وَالتَّضْلِيْل ِ، وَخَالفتْهُمْ لِيَدْخُلَ فِيْهَا أَرْبابُ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيْل ؟!
وَمَا كانَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ ضَالا ًّ أَوْ دَاعِيَة ً إلىَ ضَلال ٍ، وَلمْ يَدْعُ النّاسَ لِشَيْءٍ قط ، لمْ يَدْعُهُمْ إليْهِ أَنبيَاءُ اللهِ وَرُسُلهُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام .
وَإنمَا دَعَاهُمْ بمَا عَرَفتْهُ الأُمَّة ُ في كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نبيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَجْمَعَ عَليْهِ الصَّحَابة ُ وَالتّابعُوْنَ بَعْدَهُمْ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام .
وَخُلاصَة ُ دَعْوَتِهِ : أَنَّ العِبَادَة َ للهِ وَحْدَهُ ، وَأَنْ لا يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّ اللهِ لِغيْرِ اللهِ ، وَلا يُتَعَبَّدَ الله ُ بشَيْءٍ إلا َّ بمَا شَرَع .
وَمَدَارُ دَعْوَتِهِ رَحِمَهُ الله ُ، وَدَعْوَةِ مُنَاصِرِيْهِ : عَلى ذلِك َ ، حَتَّى ظهَرَ لِلنّاس ِ صَفاؤُهَا ، وَصَلاحُهَا ، وَظهَرَ لهمْ عَوَارُ وَكذِبُ أَعْدَائِهَا وَزُوْرُهُمْ وُبهْتَانهُمْ {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}.(182/162)
الوَجْهُ العَاشِرُ: إخْبَارُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضَعْفِ الإسْلامِ آخِرَ الزَّمَان ِ، وَقِلتِهِ وَانْحِسَارِهِ ، حَتَّى لا يُقالَ في الأَرْض ِ«الله َ الله َ» ، وَأَنَّ الإيْمَانَ يَأْرِزُ إلىَ المدِيْنَةِ كمَا تأْرِزُ الحية ُ إلىَ جُحْرِهَا .
حَتَّى يَبْلغَ الحالُ باِلمسْلِمِيْنَ لِضَعْفِهمْ : أَنْ ينقضَ الأَسْوَدُ ذو السُّوَيْقتيْن ِ الكعْبَة َ حَجَرًا حَجَرًا ، لا يَجِدُ مَنْ يَمْنعُهُ وَلا مَنْ يَدْفعُه .
وَفي هَذَا أَحَادِيْثُ في الصِّحَاحِ وَالمسَانِيْدِ ، مِنْهَا :
* مَا رَوَاهُ أَنسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«لا تقوْمُ السّاعَة ُ حَتَّى لا يُقالَ في الأَرْض ِ: الله َ الله» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِه»(148).
* وَرَوَى البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1876) وَمُسْلِمٌ(147) عَنْ أبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«إنَّ الإيْمَانَ ليَأْرِزُ إلىَ المدِيْنَةِ ، كمَا تأْرِزُ الحية ُ إلىَ جُحْرِهَا».
* وَعَنْ أبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«يُخْرِبُ الكعْبَة َ ذو السُّوَيْقتَيْن ِ مِنَ الحبشة» رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1591)،(1596) وَمُسْلِم(2909).
* وَفي رِوَايةٍ لأَحْمَدَ في«مُسْنَدِهِ»(2/220) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِ عَمْرٍو رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ : سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوْلُ :«يُخْرِبُ الكعْبَة َ ذو السُّوَيْقتيْن ِ مِنَ الحبشةِ ، وَيسْلبهَا حِليتهَا ، وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كِسْوَتِهَا ، وَلكأَني أَنظرُ إليْهِ أُصَيْلِعُ أُفيْدِعُ يَضْرِبُ عَليْهَا بمِسْحاتهِ وَمِعْوَلِه».(182/163)
الوَجْهُ الحادِي عَشَرَ : أَنهُ مُخالِفٌ لإجْمَاعِ أَهْل ِ العِلمِ ، عَلى جَوَازِ طرُوْءِ الكفرِ وَالشِّرْكِ عَلى كلِّ مُكلفٍ إلا َّ الأَنبيَاءَ ، فهُمْ مَخْصُوْصُوْنَ بعِصْمَةِ اللهِ لهمْ مِنْ ذلِك َ كله .
وَلمْ يَسْتثن ِ أَهْلُ العِلمِ أَهْلَ الجزِيْرَةِ مِنْ هَذِهِ الأَحْكامِ ، بَلْ هُمْ دَاخِلوْنَ فِيْهَا بلا رَيْبٍ ، وَمَا قدَّمْنَاهُ في الوَجْهِ الثالِثِ وَالرّابعِ وَالخامِس ِ، مِنَ ارْتدَادِ أَحْيَاءٍ مِنَ العَرَبِ زَمَنَ أَبي بَكرٍ الصِّدِّيق ِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَارْتِدَادِ جَمَاعَةٍ آخَرِيْنَ مِنْ أَهْل ِ الجزِيْرَةِ ، بإيْمَانِهمْ بمُسَيْلِمَة َ الكذّابِ ، وَارْتِدَادِ آخَرِيْنَ بتأْلِيْههمْ عَليًّا رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَهُمْ جَمِيْعًا مِنْ أَهْل ِ الجزِيْرَةِ : يدُلُّ عَلى ذلِك َ أَيْضًا .
هَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا ، كلُّ وَجْهٍ مِنْهَا يُسْقِط ُ تَأْوِيْلَ أُوْلئِك َ المبْطِلِيْنَ بحمْدِ الله .
فصل
أَمّا اسْتِدْلالُ هَؤُلاءِ المبْطِلِيْنَ ، عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ ، بقوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ ، وَلكِنْ في التَّحْرِيْش ِ بَيْنَهُمْ» : فاسْتِدْلالٌ بَاطِلٌ في غيْرِ مَحَلهِ وَلا مَكانِه ، وَجَوَابهُ مِنْ وُجُوْهٍ أَيضًا :
الوَجْهُ الأَوَّلُ : أَنَّ يَأْسَ المخْلوْق ِ- أَيا كانَ ، وَلوْ كانَ صَالِحًا فضْلا ً عَنْ غيرِهِ -: لا يدُلُّ عَلى انتِفاءِ مَا يئِسَ مِنْهُ ، بَلْ رُبمَا كانَ مَا يئِسَ مِنْهُ أَقرَبَ إليْهِ مِنْ شِرَاكِ نعْلِهِ ، قالَ سُبْحَانهُ: { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }.(182/164)
فيَأْسُ الرُّسُل ِ لمْ يَكنْ صَحِيْحًا في حَقِيْقةِ الأَمْرِ مِنَ الميْؤُوْس ِ مِنْهُ ، بَلْ كانَ قرْبُ الميْؤُوْس ِ مِنْهُ شَدِيْدًا ، لكِنْ لِخفاءِ ذلِك َ عَنْهُمْ ظنُّوْا مَا ظنُّوْا .
وَهَذَا مِنْ قصُوْرِ البشرِ ، وَعَدَمِ عِلمِهمْ باِلغيْبِ إلا َّ مَا أَظهَرَهُمُ الله ُ عَليْهِ : رَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(4/11-12) وَأَبوْ دَاوُوْدَ الطيالِسِيُّ في«مُسْنَدِهِ»(ص147)(1092) وَابْنُ مَاجَهْ في«سُننِهِ»(181) كلهُمْ مِنْ طرِيْق ِ حَمّادِ بْن ِسَلمَة َ عَنْ يَعْلى بْن ِ عَطاءٍ عَنْ وَكِيْعِ بْن ِ عُدُس ٍ عَنْ عَمِّهِ أبي رَزِيْن ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ : قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«ضَحِك َ رَبنا مِنْ قنوْطِ عِبَادِهِ ، وَقرْبِ غِيَرِه».
وَالقنوْط ُ : اليأْسُ . والغِيَرُ : سُقيا اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ باِلأَمْطار .
فلمّا كانَ العِبَادُ لا يرَوْنَ فرَجًا قرِيْبًا ، وَيئسُوْا مِنْ فرَجهمْ وَقنِطوْا ، وَكانَ فرَجُهُمْ في الحقِيْقةِ قرِيبا : كانَ ذلِك َ مُوْجِبًا لِضَحِكِ الرَّحْمَن ِ جَلَّ وَعَلا .
لهِذَا جَاءَ في رِوَايةٍ لأَحْمَدَ في«مُسْنَدِهِ»(4/13) وَابْن ِخُزَيْمَة َ في «التَّوْحِيْدِ» (2/460-470)(271) والحاكِمِ في«مُسْتَدْرَكِهِ»(4/561) زَادُوْا:«يُشْرِفُ عَليْكمْ أَزِلِيْنَ مُشْفِقِيْنَ ، فظلَّ يَضْحَك ُ ، وَقدْ عَلِمَ أَنَّ فرَجَكمْ قرِيْبٌ».
فيَأْسُ المخلوْق ِ لا ينفِي تَحَققَ الميْؤُوْس ِ مِنْهُ وَحُصُوْله .
بَلْ رُبمَا كانَ ذلِك َ الميْؤُوْسُ مِنْهُ قرِيبا ، كمَا في«آيةِ يُوْسُفَ» وَ«حَدِيْثِ أَبي رَزِيْن ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ» ، وَقدْ تقدَّما .
فيَأْسُ الشَّيْطان ِ لا يدُلُّ عَلى انتِفاءِ مَا يَئِسَ مِنْهُ ، لأَنَّ ذلِك َ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوْبِ الغيْبِ ، وَقدْ خَفِيَ عَنْهُ كمَا تقدَّم .(182/165)
وَإنمَا يدُلُّ عَلى انتِشَارِ الخيرِ في ذلِك َ الزَّمَان ِ، حَتَّى ظنَّ الشَّيْطانُ - لِكثْرَةِ مَا يرَاهُ مِنَ الخيرِ وَانتِشَارِ الحقِّ وَالهدَى ، وَظهُوْرِ أَهْلِهِ-: أَنْ لا يُضِلَّ أَحَدًا مِنَ المؤْمِنِينَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ ، وَلا يُعْبَدُ فِيْهَا شَيءٌ غيرَ اللهِ عَزَّ وَجَلّ .
الوَجْهُ الثّانِي : تقدَّمَ ذِكرُهُ في الوَجْهِ الثّانِي عَلى الحدِيْثِ السّابق ِ «لا يَجْتَمِعُ دِيْنَان ِ في جَزِيْرَةِ العَرَب».
وَالوَجْهُ الثالِثُ : تقدَّمَ ذِكرُهُ في الوَجْهِ الثالِث(ص205).
وَالوَجْهُ الرّابعُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ الرّابع(ص205).
وَالوَجْهُ الخامِسُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ الخامِس(ص205).
وَالوَجْهُ السّادِسُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ السّابع(ص206).
وَالوَجْهُ السّابعُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ الثامِن(ص206).
وَالوَجْهُ الثامِنُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ التّاسِع(ص206-208).
وَالوَجْهُ التّاسِعُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ العَاشِر(ص208-209).
وَالوَجْهُ العَاشِرُ: تقدَّمَ في الوَجْهِ الحادِي عَشر(ص209).
هَذِهِ عَشَرَة ُ وُجُوْهٍ في إبْطال ِ اسْتِدْلال ِ القبوْرِيينَ بحدِيْثِ «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَب».
وَتقدَّمَ قبْلهَا أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا في إبْطال ِ اسْتِدْلالهِمْ بحدِيْثِ «لا يَجْتَمِعُ دِينان ِ في جَزِيرَةِ العَرَب».
وَالحاصِلُ : أَنهُ لا يَصِحُّ لهمْ دَلِيْلٌ في هَذِهِ المسْأَلةِ ، وَكلُّ مَا اسْتَدَلوْا بهِ لا حُجَّة َ لهمْ فِيْهِ إجْمَاعًا ، كمَا تقدَّم . وَشُذُوْذهُمْ في الاسْتِدْلال ِ بهَذَيْن ِ الدَّليْليْن ِ عَلى تِلك َ المسْأَلةِ ، كشذُوْذِهِمْ في اسْتِدْلالهِمْ في مَسَائِل ِ تَوْحِيْدِ العِبَادَة :
فإمّا دَلِيْلٌ صَحِيْحٌ : حَرَّفوْهُ لِيَسْتَقِيْمَ بهِ لهمُ اسْتِدْلالهمْ .(182/166)
أَوْ دَلِيْلٌ ضَعِيْفٌ أَوْ مَوْضُوْعٌ ، لا يَصِحُّ أَوْ لا أَصْلَ له .
وَالقوْمُ ليْسَ لهمْ زِمَامٌ مِنْ نقل ٍ، وَلا خِطامٌ مِنْ عقل .
فصل
في بيان ِ أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِغاثة َ بهمْ ، وَالذَّبْحَ والنذْرَ لهمْ : شِرْك ٌ أَكبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الملةِ ، مِنْ جِنْس ِ شِرْكِ الجاهِلِيِّيْنَ ،
بَلْ هُوَ أَعْظمُ مِنْه
قدْ بيَّنّا في فصُوْل ٍ كثِيْرَةٍ تقدَّمَتْ ، حُكمَ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، وَأَنهَا صَلاة ٌ باطِلة ٌ مُحَرَّمة ٌ غيْرُ صَحِيْحَةٍ ، وَفاعِلهَا ليْسَ لهُ مِنْهَا إلا َّ الإثمُ العَظِيْمُ وَالوِزْرُ الكبيْرُ ، وَلا تسْقط ُ عَنْهُ الصَّلاة ُ بفِعْلِهَا في ذلِك َ المكان ِ المحَرَّمِ ، ولا تبْرَأُ ذِمَّتُه .
غيْرَ أَنَّ مَا يَفعَلهُ كثِيْرٌ مِنَ المصَلينَ عِنْدَ القبوْرِ وَالمقابرِ : أَعْظمُ بكثِيْرٍ مِنْ مُجَرَّدِ حُرْمَةِ تِلك َ الصَّلاةِ وَبُطلانِهَا .
فقدْ تَعَلقَ كثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ بأَصْحَابِ القبوْرِ ، وَزَعَمُوْا لهمْ كرَامَاتٍ وَأُعْطِيَاتٍ وَهِبَاتٍ وَمَنْزِلة ً عِنْدَ اللهِ ، لِذَا فقدِ اتَّخذُوْا دُعَاءَهُمْ وَسِيْلة ً إليْهِ ، وَالاسْتِغاثة َ بهمْ طرِيْقا إلىَ الاسْتِغاثةِ بهِ ، كمَا فعَلَ سَابقوْهُمْ مِنَ المشْرِكِينَ ، باِلملائِكةِ وَالنَّبيِّينَ وَجَمَاعَاتٍ مِنَ الصّالحِينَ ، صَوَّرُوْا صُوَرَهُمْ ، وَجَعَلوْهَا أَصْنَامًا وَتَمَاثِيْلَ ، وَدَعَوْهَا وَاسْتَغَاثوْا بهَا .(182/167)
وَكمَا فعَلتِ النَّصَارَى بعِيْسَى بْن ِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ الصِّدِّيْقةِ عَليْهمَا السَّلامُ ، قالَ سُبْحَانهُ -ذاكِرًا حُجَّة َ هَؤُلاءِ المشْرِكِينَ المتَقدِّمِينَ -: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.
وَقالَ سُبْحَانهُ : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وَحُجَّة ُ هَؤُلاءِ المشْرِكِينَ : هِيَ حُجَّة ُ مُشْرِكِي زَمَانِنَا فِي مَعْبُوْدِيْهمْ ، مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَالصّالحِينَ وَغيرِهِمْ مِنْ ضَالينَ وَمُسْلِمِين .
غيرَ أَنَّ مُتَقدِّمِيْهمْ مَثلوْا صُوَرَ الصّالحِينَ بأَحْجَارٍ وَطِين ٍ وَتَمْرٍ وَغيرِهِ ، وَجَعَلوْهَا أَصْنَامًا تُذَكرُهُمْ إياهُمْ . وَمُشْرِكو زَمَانِنَا : جَعَلوْا القبوْرَ وَالأَضْرِحَة َ وَالقِبَابَ مَكانَ الأَصْنَامِ ، وَأَقامُوْا عَليْهَا مَعَابدَهُمُ الشِّرْكِيَّة َ، وَسَمَّوْهَا مَشَاهِدَ ، وَليْسَتْ بمسَاجِدَ ، وَإنْ شَابَهَتْ بناءَهَا ، وَ {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ}.(182/168)
وَقدْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ: أَنَّ هَؤُلاءِ المشْرِكِينَ المتَأَخِّرِيْنَ ، يُعَظمُوْنَ مَشَاهِدَهُمْ أَكثرَ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ ! وَتقدِّمُ جَمَاعَاتٌ كثِيرة ٌ مِنْهُمْ حَجَّهَا ، عَلى حَجِّ بَيْتِ رَبِّهَا !
وَقدْ بَذَلوْا فِي عِمَارَتِهَا الأَمْوَالَ ، وَزَيَّنُوْهَا باِلذَّهَبِ وَالحرِيْرِ وَأَمَدُّوْهَا بأَيدِي الرِّجَال . أَمّا مَسَاجِدُهُمْ : فهيَ خَالِيَة ٌ مِنَ المصَلينَ ، مُعَطلة ٌ مِنْ ذلِك َ كله .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ في«رَدِّهِ عَلى البَكرِيِّ»(2/673-674):(وَكثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ يُخْرِبُوْنَ المسَاجِدَ ، وَيَعْمُرُوْنَ المشَاهِدَ ! فتجِدُ المسْجِدَ الذِي بُنِيَ لِلصَّلوَاتِ الخمْس ِ: مُعَطلا ً مُخْرَبًا ليْسَ لهُ كسْوَة ٌ إلا َّ مِنَ النّاس ِ، وَكأَنهُ خَانٌ مِنَ الخانات !
وَالمشْهَدَ الذِي بُنِيَ عَلى الميِّتِ : عَليْهِ السُّتُوْرُ ، وَزِيْنَة ُ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالرُّخَامُ ؛ وَالنُّذُوْرُ تَغْدُوْ وَتَرُوْحُ إليْه !
فهَلْ هَذَا إلا َّ مِنَ اسْتِخْفافِهمْ باِللهِ تَعَالىَ وَآياتِهِ وَرَسُوْلِهِ ، وَتَعْظِيْمِهمْ لِلشِّرْك؟!
فإنهُمْ اعْتقدُوْا أَنَّ دُعَاءَ الميِّتِ -الذِي بُنِيَ لهُ المشْهَدُ- وَالاسْتِغاثة َبهِ : أَنفعُ لهمْ مِنْ دُعَاءِ اللهِ تَعَالىَ ، وَالاسْتِغاثةِ بهِ فِي البيْتِ الذِي بُنِيَ للهِ عَزَّ وَجَلّ !
ففضَّلوْا البيْتَ الذِي بُنِيَ لِدُعَاءِ المخْلوْق ِ، عَلى البيْتِ الذِي بُنِيَ لِدُعَاءِ الخالِق !(182/169)
وَإذا كانَ لهِذَا وَقفٌ وَلهِذَا وَقفٌ : كانَ وَقفُ الشِّرْكِ أَعْظمَ عِنْدَهُمْ ! مُضَاهَاة ً لِمُشْرِكِي العَرَبِ الذِيْنَ ذكرَ الله ُ تَعَالىَ حَالهُمْ فِي قوْلِهِ تَعَالىَ:{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
كمَا يَجْعَلوْنَ للهِ زَرْعًا وَمَاشِيَة ً، وَلآلِهَتِهمْ زَرْعًا وَمَاشِيَة ً، فإذا أُصِيْبَ نَصِيْبُ آلِهَتِهمْ : أَخَذُوْا مِنْ نَصِيْبِ اللهِ تَعَالىَ ، فوَضَعُوْهُ فِيْهِ ، وَقالوْا:«الله ُ غنِيٌّ ، وَآلِهَتنا فقرَاءُ» ! فيُفضِّلوْنَ مَا يُجْعَلُ لِغيرِ اللهِ تَعَالىَ عَلى مَا يُجْعَلُ للهِ تَعَالىَ !
وَهَكذَا الوُقوْفُ وَالنُّذُوْرُ التي تُبْذَلُ عِنْدَهُمْ لِلمَشاهِدِ أَعْظمُ عِنْدَهُمْ مِمّا تُبْذَلُ لِلمَسَاجِدِ وَلِعِمَارَةِ المسَاجِدِ وَلِلجهادِ فِي سَبيْل ِ اللهِ تَعَالىَ)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله .
وَأَعْرِفُ بَعْضَ وَزَارَاتِ الشُّؤُوْن ِ الإسْلامِيَّةِ فِي بَعْض ِ بلادِ المسْلِمِينَ ، مِمَّن ِ ابتلوْا بهَذِهِ الأَوْثان ِ وَعبّادِهَا : مَنْ تَجْمَعُ الأَمْوَالَ مِنْ بَيْتِ المال ِ، وَمِنَ المتصَدِّقِينَ لِبناءِ المسَاجِدِ ، ثمَّ تنفِقهَا عَلى بناءِ المشَاهِدِ المعَابدِ الوَثنِيَّةِ ! وَالقِبَابِ وَتَشْييْدِ الأَضْرِحَةِ ! وَتزْيينِهَا ! وَإقامَةِ القيِّمِينَ عَليْهَا !(182/170)
أَمّا المسَاجِدُ الخالِيَة ُ مِنَ القبوْرِ : فليْسَ لها نَصِيْبٌ مِنْ ذلِك َ! فتجِدُهَا مُهْمَلة ً دُوْنَ عِنَايةٍ وَلا رِعايةٍ ! فإذا طلبَ عُمّارُهَا شَيْئًا مِنْ تِلك َ الوَزَارَاتِ لِعِمَارَتِهَا أَوْ كِسْوَتِهَا : اعْتَذَرُوْا لهمْ بقِلةِ ذاتِ اليدِ ! وَضَعْفِ الموَارِدِ ! فسُبْحَانَ مَنْ نزَّهَ مَسَاجِدَهُ مِنْ أُوْلئِك َ المشْرِكِينَ ، وَأَبْعَدَهُمْ عَنْهَا وَعَنْ عِمَارَتِهَا إلىَ مَشَاهِدِهِمْ وَمَعَابدِهِمْ ، كمَا قالَ سُبْحَانهُ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ}.
وَقدْ قالَ جَمَاعَة ٌ مِنْهُمْ - مِنَ المنتسِبينَ إلىَ يُوْنس ِ بْن ِ يُوْسُفَ القنييِّ(ت619ه) أَحَدِ الضُّلال ِ- قالوْا :
تعالوْا نخرِبُ الجامِعْ
وَ نجْعَلُ فِيْهِ خمّارَهْ
وَنكسِرُ خشبة َ المنبرْ
وَ نجْعَلُ مِنْهُ طِنبارَهْ
وَ نخرِقُ وَرْقة َ المصْحَفْ
وَ نجْعَلُ مِنْهُ زُمّارَهْ
وَ ننتِفُ لِحْية َ القاضِي
وَ نجْعلُ مِنْهَا أَوْتارَهْ
وَشَيْخهُمْ هَذَا يُوْنسُ بْنُ يُوْسُفَ القنييّ(ت619ه) ، كانَ ضَالا ًّ، لهُ أَبياتٌ خَبيْثة ٌ كأَبياتهمْ ، وَصَوْتٌ مُنْكرٌ كأَصْوَاتِهمْ .(182/171)
وَكانتْ لهُ مَخَارِيْقُ شَيْطانِيَّة ٌ، وَأَحْوَالٌ إبْلِيْسِيَّة ٌ، جَعَلهُ لأَجْلِهَا بَعْضُ مَنْ لمْ يَعْرِفْ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَن ِ وَلِيًّا للهِ ! كيُوْسُفِ بْن ِ إسْمَاعِيْلَ النَّبْهَانِيِّ(ت1350ه) ، فإنهُ عَدَّهُ وَلِيًّا مِنَ الأَوْلِيَاءِ الصّالحِينَ ! ذوَي الكرَامَاتِ ! في كِتَابهِ - مَجْمَعِ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ ، وَالخزَعْبلاتِ البُهْتَانِيَّةِ -«الجامِعِ لِكرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ»(2/296).
إلا َّ أَنهُ ذكرَ شيْئًا قلِيْلا ًمِنْ كرَامَاتِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابةِ وَالتابعِينَ قدْ ثبتتْ وَصَحَّتْ ، غيرَ أَنَّ سَوَادَهُ الأَغلبَ أَسْوَدُ ! وَأَكثرَ مَا سَاقهُ لا يُحْمَدُ لهُ وَلا يُوْجَد !
فصل
وَقدْ حَرَّمَ الله ُ تَعَالىَ الإشْرَاك َ بهِ ، وَجَعَلهُ ذنبًا عَظِيْمًا يُحْبط ُ الأَعْمَالَ ، وَيَؤُوْلُ بصَاحِبهِ إلىَ النارِ خالِدًا فِيْهَا وَبئْسَ المآلُ ، قالَ سُبْحَانهُ: { مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ }.
وَقالَ تَعَالىَ : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً }.
وَقالَ: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً }.
وَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (65) بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ }.(182/172)
وَقالَ سُبْحَانهُ – بَعْدَ أَنْ ذكرَ جُمْلة ً مِنْ أَنبيَائِهِ الكِرَامِ ، إبْرَاهِيْمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقوْبَ وَدَاوُوْدَ وَسُليْمَانَ وَأَيوْبَ وَيُوْسُفَ وَمُوْسَى وَهَارُوْنَ وَزَكرِيّا وَيَحْيَى وَعِيْسَى وَيوْنسَ وَلوْطا قالَ -: { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ثمَّ قالَ: { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
وَقالَ: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }.
وَمَنْ دَعَى غيْرَ اللهِ أَوِ اسْتغاثَ بهِ فِيْمَا لا يَقدِرُ عَليْهِ إلا َّ هُوَ سُبْحَانهُ ، أَوْ ذبحَ أَوْ نذَرَ لهُ : كانَ مُشْرِكا كافِرًا ، لا يَقبَلُ الله ُ مِنْهُ صَرْفا وَلا عَدْلا ً.
سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ المدْعُوُّ المسْتغاثُ بهِ ، أَوِ المذْبوْحُ المنْذُوْرُ لِوَجْههِ : نبيًّا كرِيْمًا ، أَوْ مَلكا مُقرَّبًا ، أَوْ وَلِيًا صَالحا أَوْ غيرَ ذلِك .
وَإذا كانَ هَذَا حَالَ مَنْ دَعَى هَؤُلاءِ الكِرَامَ ، فكيْفَ بحال ِ مَنْ دَعَى غيرَهُمْ مِنَ الزَّنادِقةِ وَالملحِدِينَ وَغيرِهِمْ مِنَ سَائِرِ اللئام ؟!
ثمَّ إنَّ هَؤُلاءِ الصّالحِينَ المعْبُوْدِيْنَ ، مَلائِكة ً وَنبيِّينَ وَأَوْلِيَاءَ صَالحِينَ : يتبَرَّؤُوْنَ يوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أُوْلئِك َ المشْرِكِينَ وَشِرْكِهمْ ، وَيَعُوْذُوْنَ باِللهِ رَبِّهمْ مِنْ أَفعَالهِمْ تِلك َ وَشَرِّهِمْ .(182/173)
قالَ سُبْحَانهُ - مُبيِّنًا حَالَ الملائِكةِ مَعَ دَاعِيْهمْ وَعَابدِيْهمْ يَوْمَ القِيَامَةِ-: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.
وَقوْلهُ تَعَالىَ { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } : لأَنهَا هِيَ التي وَسْوَسَتْ إليْهمْ بذَلِك َ، وَزَينتهُ لهمْ ، فكانتْ تتلبَّسُ باِلأَصْنَامِ وَتدَاخِلهَا وَتخاطِبُهُمْ أَحْيَانا ، وَتَقضِي لهمْ شَيْئًا مِنْ حَوَائِجِهمْ ، حَتَّى أَضَلتْهُمْ بذَلِك َ، وَزَيَّنَتْ لهمْ سُلوْك َ تِلك َ المهَالِكِ ، وَسَنُبَيِّنُ - بمَشِيْئَةِ اللهِ - فِي فصُوْل ٍ قادِمةٍ(ص259-306) بَعْضَ تِلك َ المكائِدِ ، وَشَيْئًا مِنْ تِلك َالمرَاصِدِ وَالمصَائِد .
وَقالَ سُبْحَانهُ مُبيِّنًا حَالَ عِيْسَى بْن ِ مَرْيَمَ الصِّدِّيْقةِ - عَليْهمَا السَّلامُ - مَعَ مَنْ دَعَاهُمَا وَعَبَدَهُمَا يَوْمَ القِيَامَةِ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.(182/174)
وَقالَ تَعَالىَ مُبيِّنًا حَالَ جَمِيْعِ مَنْ عُبدَ مِنْ دُوْنِهِ سُبْحَانهُ وَدُعِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ عَابدِيْهِ وَدَاعِيْهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
وَقالَ عَزَّ وَجَلَّ : {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
وَفِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ: { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } وَقوْلِهِ { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ }: دَلِيْلٌ عَلى أَنَّ تِلك َ الأَصْنَامَ ، كانتْ تمَاثِيْلَ لِرِجَال ٍ صَالحِينَ مَعْبُوْدِيْنَ ، أَنبيَاءٍ وَمَلائِكةٍ ، وَعُلمَاءٍ بغيرِ أَمْرِهِمْ وَلا عِلمِهمْ وَلا رِضَاهُمْ .
وَلمْ تكنْ أَحْجَارًا مُجَرَّدَة ً، يَعْبُدُوْنهَا دُوْنَ تَأْوِيْل ٍوَلا تَعْلِيْل ٍ، بَلْ كانتْ لهمْ حُجَّتُهُمْ هَذِهِ الفاسِدَة ُ، لهِذَا تبَرَّأَ هَؤُلاءِ الصّالحِوْنَ مِنْ عَابدِيْهمْ ، كمَا فِي آيةِ سَبَإ وَالمائِدَةِ حِينَ تبرَّأَ عِيْسَى بْنُ مَرْيَمَ وَالملائِكة ُمِنْ عَابدِيْهمْ .
فصل
وَكمَا تفرَّدَ الله ُ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ بأَسْمَائِهِ وَصِفاتِهِ الكمَالِيَّةِ ، فلا شَبيْهَ لهُ سُبْحَانهُ ، وَلا مَثِيْلَ وَلا نِدَّ ، لهُ الأَسْمَاءُ الحسْنَى وَالصِّفاتُ العُلى .(182/175)
وَكمَا تفرَّدَ جَلَّ وَعَلا بأَفعَال ِ الرُّبوْبيَّةِ ، فلا خَالِقَ إلا َّ هُوَ ، وَلا رَازِقَ وَلا مُحْييَ وَلا مُمِيْتَ غيْرُهُ ، لهُ الخلقُ كلهُ ، وَهُوَ الرَّبُّ سُبْحَانهُ وَحْدَه .
فكمَا تفرَّدَ سُبْحَانهُ بذَلِك َ كلهِ : تفرَّدَ جَلَّ وَعَلا باِلأُلوْهِيَّةِ وَالعِبَادَةِ مِنْ دُعَاءٍ ، وَاسْتِغاثةٍ ، وَذبْحٍ ، وَنذْرٍ ، وَحَجٍّ ، وَصِيَامٍ ، وَصَلاةٍ ، وَزَكاةٍ وَجِهَادٍ ، وَغيْرِ ذلِك َ مِنْ سَائِرِ أَفعَال ِ العِبَادِ لِرَبِّ العِبَاد .
فلا يُسْجَدُ لأَحَدٍ سِوَاهُ ، وَلا يُصَلى إلا َّ لهُ ، وَلا يُدْعَى إلا َّ هُوَ ، وَلا يُسْتَغاثُ إلا َّ بهِ ، وَلا يُنْذَرُ أَوْ يُذْبحُ لِغيْرِهِ ، لا شَرِيْك َ لهُ فِي ذلِك َ مِنْ خَلقِهِ ، وَلا نِدَّ لهُ مِنْ برِيتِه .
بَعَثَ أَنبيَاءَهُ إلىَ عِبَادِهِ لِيَعْبُدُوْهُ وَحْدَهُ وَيُوَحِّدُوْهُ ، لا أَنْ يُشَارِكوْهُ فِي عِبَادَتِهِ وَيُمَاثِلوْهُ ، قالَ سُبْحَانهُ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
فصل
وَلمْ يَكن ِ المشْرِكوْنَ مُشْرِكِينَ فِي تَوْحِيْدِ الرُّبوْبيَّةِ ، وَإنمَا كانَ شِرْكهُمْ وَكفرُهُمْ فِي تَوْحِيْدِ العِبَادَة .(182/176)
أَمّا تَوْحِيْدُ الرُّبوْبيَّةِ : فقدْ كانَ مُسْتقِرًّا عِنْدَهُمْ مُسَلمًا بَيْنَهُمْ ، لا يُنَازِعُوْنَ فِيْهِ ، لِذَا أَلزَمَهُمُ الله ُ وَحَجَّهُمْ بإيمَانِهمْ وَإقرَارِهِمْ باِلأَوَّل ِ (وَهُوَ الرُّبوْبيَّة ُ) عَلى تَوْحِيْدِهِ فِي الثانِي(وَهُوَ الأُلوْهِيَّة ُ) ، فقالَ سُبْحَانهُ :{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }.
وَقالَ: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }.
وَقالَ: { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }.
وَقالَ: {رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } .(182/177)
وَقالَ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وَقالَ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
وَقالَ: { قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }.(182/178)
فمَا دَعَى المشْرِكوْنَ الأَوَائِلُ الأَصْنَامَ وَاسْتَغاثوْا بهَا ، إلا َّ توَسُّطا وَتَشَفعًا بأَصْحَابهَا ، وَمَنْ صُوِّرَتْ عَلى صُوَرِهِمْ ، مِنَ الملائِكةِ وَالأَنبيَاءِ وَالصّالحِينَ ، قالَ سُبْحَانهُ: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }.
فبيَّنَ سُبْحَانهُ : أَنَّ أُوْلئِك َ المدْعُوِّينَ هُمْ مِنْ عِبَادِهِ الصّالحِينَ المحْتَاجِينَ إليْهِ ، لا يَمْلِكوْنَ لأَنفسِهمْ نفعًا وَلا ضَرًّا .
وَإنمَا يبْتَغوْنَ إلىَ رَبِّهمُ الوَسِيْلة َباِلأَعْمَال ِ الصّالحِةِ ، عَسَى أَنْ ينالوْا بهَا رَحْمَتَهُ ، وَأَنْ يَنْجُوْا بهَا مِنْ عَذَابهِ ، فكيْفَ يُدْعَوْنَ مِنْ دُوْنِهِ ! وَكأَنهُمْ يَمْلِكوْنَ مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا؟!
وَقدْ قالَ سُبْحَانهُ لِنبيِّهِ وَخَلِيْلِهِ وَصَفوَتِهِ مِنْ خَلقِهِ ، وَأَفضَل ِ عِبَادِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فكيْفَ بمَنْ دُوْنه؟!
وَقالَ سُبْحَانهُ لِنبيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا أَلحَّ وَاجْتَهَدَ فِي هِدَايةِ عَمِّهِ أَبي طالِبٍ ، وَعَظمَ عَليْهِ مَوْتهُ دُوْنَ تَوْحِيْدٍ وَلا شَهَادَةٍ: { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }.(182/179)
فهَذَا حَالُ سَيِّدِ وَلدِ آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكرَمِ نبيٍّ عِنْدَ اللهِ ، وَأَحَبِّهمْ إليْهِ ، وَأَعْظمِهمْ مَنْزِلة ً عِنْدَهُ ، وَأَقرَبهمْ مَكانا مِنْهُ ، فكيْفَ بمَنْ دُوْنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟! وَهَذَا حَالهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ رَغِبَ هُوَ فِي هِدَايتِهِ ، وَأَلحَّ فِي طلبهَا لهُ فِي حَيَاتِهِ ، فكيْفَ بمَنْ يَتَوَسَّلُ إليْهِ وَيَدْعُوْهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِه ؟!
وَلمّا طلبَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبيْعَةِ بْن ِمَالِكٍ الأَسْلمِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنْ يَسْأَلهُ حَاجَتَهُ ، وَكانَ قدْ خَدَمَهُ بضْعَ سِنِينَ ، قالَ لهُ رَبيْعة ُ: أَسْأَلك َ مُرَافقتَك َ فِي الجنَّة .
فقالَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«أَوَ غيرَ ذلِك ؟».
فقالَ رَبيْعة ُ: هُوَ ذاك .
فقالَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«فأَعِنِّي عَلى نفسِك َ بكثرَةِ السُّجُوْدِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِه»(489).
وَالله ُ عَزَّ وَجَلَّ لمْ يَقبَلْ مِنَ المشْرِكِينَ تقرُّبهُمْ إليْهِ ، وَاسْتِشْفاعَهُمْ باِلملائِكةِ وَالأَنبيَاءِ وَالصّالحِينَ عَليْهِ ، بَلْ جَعَلَ أَفعَالهُمْ تِلك َ شِرْكا وَكفرًا بهِ ، وَعِبَادَة ً لِغيرِهِ وَسِوَاهُ ، لا قرْبة ً وَلا وَسِيْلة ً، وَلا شُفعَاءَ إليْهِ ، وَابتِغاءَ رِضَاهُ ، فلعَنهُمْ وَأَحْبَط َ أَعْمَالهُمْ ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِنَ المقبُوْحِينَ وَفِي النّارِ مُخلدُوْنَ .(182/180)
قالَ سُبْحَانهُ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وَقالَ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.
فصل
وَبيَّنَ الله ُ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ عَدَمَ اسْتِحْقاق ِ غيرِهِ باِلدُّعاءِ وَسَائِرِ العِبَادَاتِ ، لِضَعْفِهمْ وَكوْنِهمْ مَخْلوْقِينَ مِثلهُمْ ، فقالَ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
وَقالَ: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنْ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
وَقالَ: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.(182/181)
وَقالَ:{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } .
وَقالَ: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ }.
وَقالَ: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}.
وَقالَ: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
وَقالَ: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ }.(182/182)
وَقالَ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}.
وَقالَ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَانظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وَقالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}.
وَقالَ:{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .(182/183)
وَقالَ:{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } .
وَقالَ : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً }.
وَقالَ: { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
وَقالَ: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
وَقالَ: {رَبُّكُمْ الَّذِي يُزْجِي لَكُمْ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً}.(182/184)
وَقالَ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }.
فصل
وَبيَّنَ سُبْحَانهُ أَنهُ لا شَفاعَة َ لأَحَدٍ مِنْ خلقِهِ عِنْدَهُ إلا َّ بشَرْطين ِ:
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْذنَ الله ُ لِلشّافِعِ فِي الشَّفاعَة .
وَالثانِي : أَنْ يَرْضَى عَن ِ المشْفوْعِ فِيْهِ ، كمَا فِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }.
فالشَّرْط ُ الأَوَّلُ فِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ { إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ }، وَمِثْلهُ : قوْلهُ تَعَالىَ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } .
وَالشَّرْط ُ الثانِي فِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ: { وَيَرْضَى }، وَمِثلهُ : قوْلهُ تَعَالىَ { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }.
أَمّا المشْرِكوْنَ المسْتغِيْثوْنَ وَالدّاعُوْنَ غيرَ اللهِ : فلا نصِيْبَ لهمْ فِي شَفاعَةِ أَحَدٍ ، وَلا يشفعُ فِيْهمْ أَحَدٌ وَلا يؤْذنُ لهُ: { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ }.
وَالظالِمُوْنَ هُنَا : المشْرِكوْنَ ، كمَا فِي قوْلِهِ سُبْحَانهُ: { لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }.(182/185)
فمَنْ أَرَادَ أَنْ يشفعَ الله ُ فِيْهِ أَنبيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصّالحِينَ : فليَسْلك ْ طرِيْقَ الموَحِّدِيْنَ ، فإنَّ الشَّفاعَة َ للهِ جَمِيْعًا ، لا تَكوْنُ إلا َّ بإذنهِ لِلشّافِعِ ، وَرِضَاهُ عَن ِ المشْفوْعِ ، كمَا قالَ تَعَالىَ: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.
وَمَنْ سَأَلها مِنَ الأَمْوَاتِ أَنبيَاءً وَصَالحِينَ ، أَوْ مَلائِكة ً مُقرَّبينَ : كانَ حَالهُ كمَنْ قالَ الله ُ فِيْهمْ مِنَ المشْرِكِينَ: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
فصل
وَلا شَك َّ أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِغاثة َ بهمْ : عِبَادَة ٌ لهمْ ، وَهُوَ شِرْك ٌ أَكبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ المِلةِ ، مِنْ جِنْس ِ شِرْكِ الجاهِلِيِّينَ ، وَإن ِ اخْتَلفَ المعْبُوْدُ وَمَكانُ العِبَادَةِ ، وَزَمَانهُ ، وَأَصْحَابه .
قالَ سُبْحَانهُ: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }.
قالَ شَيْخنا العَلامَة ُ المحَققُ صَالِحُ بْنُ فوْزَان ِ بْن ِ عَبْدِ اللهِ الفوْزَانُ فِي«شَرْحِهِ لِكِتَابِ التَّوْحِيْدِ»(1/199-200) عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ:(وَفِي الآيةِ السّابقةِ فائِدَة ٌ عَظِيْمَة ٌ، وَهِيَ : أَنَّ الله َ سَمَّى الدُّعَاءَ عِبَادَة ً، فقالَ: { وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } لأَنهُ فِي أَوَّل ِ الآيةِ قالَ: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو}.(182/186)
وَإذا كانَ الدُّعَاءُ عِبَادَة ً، فصَرْفهُ لِغيرِ اللهِ شِرْك ٌ، كمَا فِي الآيةِ الأُخْرَى: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } يَعْنِي : عَنْ دُعَائِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } .
فسَمَّى الدُّعَاءَ عِبَادَة ً، وَإذا كانَ الدُّعَاءُ عِبَادَة ً: فصَرْفهُ لِغيْرِ اللهِ شِرْك)اه كلامُ شَيْخِنَا الفوْزَان .
وَالدُّعَاءُ عِبَادَة ٌ بلا شَك َّ، كمَا تقدَّمَ فِي الآيَتَين ِ السّابقتين ِ اللتين ِ ذكرَهُمَا الشَّيْخُ صَالِح .
وَكمَا فِي :
قوْلِهِ تَعَالىَ: { قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً }.
وَقوْلِهِ سُبْحَانهُ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}.
وَقوْلِهِ:{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
فجَعَلَ الله ُ فِي هَذِهِ الآياتِ كلهَا الدُّعَاءَ عِبَادَة ً، وَمَنْ صَرَفهُ لِغيرِهِ نبيٍّ ، أَوْ مَلكٍ ، أَوْ صَالِحٍ ، أَوْ غيرِ ذلِك َ: مُشْرِكا كافِرًا .(182/187)
وَأَخْرَجَ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي«مُسْنَدِهِ»(4/276،271،267) مِنْ حَدِيْثِ النُّعْمَان ِ بْن ِ بَشِيرٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ : سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقوْلُ:«الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَة ُ، ثمَّ قرَأَ : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }).
وَرَوَاهُ :
البُخارِيُّ فِي«الأَدَبِ المفرَدِ»(714)،
وَالتِّرْمِذِيُّ فِي«جَامِعِهِ»(3247) وَقالَ:(هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ)،
وَأَبوْ دَاوُوْدَ فِي«سُننِهِ»(1479)،
وَالنَّسَائِيُّ فِي«سُننِهِ الكبرَى»(6/450)،
وَابْنُ مَاجَهْ فِي«سُننِهِ»(3828)،
وَابْنُ حِبّانَ فِي«صَحِيْحِهِ»(890)،
وَالحاكِمُ فِي«مُسْتَدْرَكِه»(1/490-491).
وَإسْنَادُهُ صَحِيْحٌ ، رِجَالهُ رِجَالُ الشَّيْخَين ِ، غيرَ يُسَيْعِ بْن ِ مَعْدَانَ الحضْرَمِيِّ الكوْفِيِّ ، وَهُوَ ثِقة ٌ، وَثقهُ النَّسَائِيُّ وَجَمَاعَة .
وَصَحَّحَ هَذَا الحدِيْثَ جَمَاعَة ٌ، مِنْهُمْ :
التِّرْمِذِيُّ وَتقدَّمَ ، وَابْنُ حِبّانَ ، وَالحاكِمُ ، وَالذَّهَبيُّ ، وَالنَّوَوِيُّ فِي «الأَذكارِ» . وَجَوَّدَ إسْنَادَهُ الحافِظ ُ ابنُ حَجَرٍ فِي«فتْحِ البَارِي» ، وَصَحَّحَهُ
شَيْخُنَا العَلامَة ُ عَبْدُ العَزِيْزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ ابنُ بازٍ رَحِمَهُمُ الله ُ، وَجَمَاعَة .
وَلِلتِّرْمِذِيِّ (3371) مِنْ حَدِيْثِ أَنس ِ بْن ِ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة».
قالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَهُ:(هَذَا حَدِيْثٌ غرِيْبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ ، لا نعْرِفهُ إلا َّ مِنْ حَدِيْثِ ابْن ِ لهيْعة).
* * *
فصل(182/188)
وَقدْ بيَّنَ الله ُ سُبْحَانهُ لِعِبَادِهِ أَجْمَعِينَ : أَنَّ أُوْلئِك َ المدْعُوِّينَ جَمِيْعًا ، مِنْ مَلائِكةٍ ، وَأَنبيَاءٍ ، وَصَالحِينَ ، لا يَمْلِكوْنَ لأَنفسِهمْ نفعًا وَلا ضَرًّا ، وَلا غيًّا وَلا رَشَدًا ، وَليْسَ لهمْ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ . بَلْ لايَسْمَعُوْنَ دُعَاءَهُمْ وَلا يَعْلمُوْنَ بهِ ، وَلوْ سَمِعُوْا لمَا اسْتَجَابوْا لهمْ { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ }.
قالَ سُبْحَانهُ لِنبيِّهِ وَصَفِيِّهِ وَخَلِيْلِهِ وَخِيرَتِهِ مِنْ خَلقِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } .
فإذا لمْ يَمْلِكوْا لأَنفسِهمْ شَيْئًا ، فكيْفَ يَمْلِكوْنهُ لِغيرِهِمْ ؟!
قالَ سُبْحَانهُ: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }.
وَقالَ سُبْحَانهُ: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وَقالَ: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً }.
وَقالَ: { عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً }.(182/189)
وَقالَ: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ}.
وَقالَ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}.
وَقالَ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَانظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وَقالَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}.
وَقالَ :{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } .
وَقالَ: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً .(182/190)
وَقالَ:{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وَقالَ: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }.
وَقالَ: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}.
قالَ شَيْخُنَا العَلامَة ُصَالِحُ بْنُ فوْزَانَ بن ِ عَبْدِ اللهِ الفوْزَانُ فِي«شَرْحِهِ عَلى كِتَابِ التَّوْحِيْدِ» عِنْدَ هَذِهِ الآيةِ الأَخِيرَةِ(1/207): (يشْتَرَط ُ فِي المدْعُوِّ ثلاثة ُ شُرُوْطٍ :
الأَوَّلُ : أَنْ يَكوْنَ مَالِكا لِمَا يُطلبُ مِنْه .
الثانِي : أَنْ يَكوْنَ يَسْمَعُ الدّاعِي .
الثالِثُ : أَنْ يَكوْنَ يَقدِرُ عَلى الإجَابة .
وَهَذِهِ الأُمُوْرُ لا تتفِقُ إلا َّ فِي اللهِ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ ، فإنهُ المالِك ُ السَّمِيْعُ القادِرُ عَلى الإجَابة .
أَمّا هَذِهِ المعْبُوْدَاتُ : فهيَ :
أَوَّلا ً : فقِيرَة ٌ، ليْسَ لها مُلك .
ثانِيا : لا تَسْمَعُ مَنْ دَعَاهَا .
وَثالِثا: لوْ سَمِعَتْ فإنها لا تَقدِرُ عَلى الإجَابة .(182/191)
- ففِي قوْلِهِ تَعَالىَ { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ }: انتفى الشَّرْط ُ الأَوَّل .
- وَفِي قوْلِهِ { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ }: انتفى الشَّرْط ُ الثانِي .
- وَفِي قوْلِهِ { وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } : انتفى الثالِثُ ، إذنْ بَطلَ دُعَاؤُهَا .
ثمَّ قالَ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ }: إذا جَاءَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَتَبَرَّؤُوْنَ مِنْكمْ . وَكلُّ المعْبُوْدَاتِ مِنْ دُوْن ِ اللهِ تتبَرَّأُ مِمَّنْ عَبَدَهَا يَوْمَ القِيَامَة)اه كلامُ شَيْخِنَا الفوْزَان .
قلتُ : وَالقِطمِيرُ : شَقُّ النَّوَاةِ ، أَوِ القِشْرَة ُ التي فِيْهَا .
وَأَخْرَجَ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي«مُسْنَدِهِ»(3/99) مِنْ حَدِيْثِ هُشَيْمٍ أَخْبرَنا حُمَيْدٌ الطوِيْلُ عَنْ أَنس ِ بْن ِمَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ يوْمَ أُحُدٍ ، وَشُجَّ فِي جَبْهَتِهِ الغرّاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حَتَّى سَالَ دَمُهُ الطاهِرُ عَلى وَجْههِ الكرِيْمِ ، فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذلِك َ: «كيْفَ يُفلِحُ قوْمٌ فعلوْا هَذَا بنبيِّهمْ ، وَهُوَ يَدْعُوْهُمْ إلىَ رَبهمْ»؟!
فنزَلتْ هَذِهِ الآية ُ{ لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } .
وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَين ِ، وَهُوَ مِنْ ثلاثيّاتِ الإمَامِ أَحْمَدَ ، وَرَوَاهُ ثلاثيا أَيضًا عَنْ شَيْخَيْهِ ابْن ِ أَبي عَدِيٍّ وَسَهْل ِ بْن ِ يُوْسُفَ كلاهُمَا عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنس ٍ به .
وَرَوَاهُ :
مُسْلِمٌ فِي«صَحِيْحِهِ»(1791)،
وَالتِّرْمِذِيُّ فِي«جَامِعِهِ»(3002).(182/192)
وَعَلقهُ البُخارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ» مَجْزُوْمًا بهِ ، فِي«كِتَابِ المغازِي»،«بَابُ { لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }».
وَرَوَى البُخارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ»(2753)،(4771)، وَمُسْلِمٌ(206) عَنْ أَبي هُرَيْرَة َرَضِيَ الله ُعَنْهُ قالَ:(قامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنزَلَ الله ُ عَزَّ وَجَلَّ { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } قالَ:«يَا مَعْشَرَ قرَيْش ٍ- أَوْ كلِمَة ً نَحْوَهَا - اشْتَرُوْا أَنفسَكمْ ، لا أُغني عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا .
يَا بَني عَبْدِ مَنَافٍ ! لا أُغني عَنْكمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا .
يَا عَبّاسَ بْنَ عَبْدِ المطلِبِ ! لا أُغني عَنْك َ مِنَ اللهِ شَيْئًا .
وَيَا صَفِيَّة ُ عَمَّة َ رَسُوْل ِ اللهِ ! لا أُغني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا .
وَيَا فاطِمَة َ بنْتَ مُحَمَّدٍ ! سَلِيْني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي ، لا أُغني عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا»).
وَقدْ عُلِمَ أَنَّ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شفاعَة ً لأَهْل ِ الكبَائِرِ، وَشَفاعَة ً لِغيرِهِمْ مِنَ المؤْمِنِينَ . وَإنمَا نفى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفعهُ لِقرَابتِهِ هَؤُلاءِ ، وَفِيْهمْ بنتهُ ، وَعَمُّهُ ، وَعَمَّتُهُ ، وَغيرُهُمْ ، لا لِكوْنِهمْ كانوْا مُشْرِكِينَ ! بَلْ هُمْ مِنْ كِبَارِ المؤْمِنِينَ الصّالحِينَ ، وَلكِنْ لِكوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَمْلِك ُ شَفاعَة ً لأَحَدٍ حَتَّى يَأْذنَ الله ُ جَلَّ وَعَلا لهُ ، وَيَرْضَى سُبْحَانهُ عَن ِالمشْفوْعِ فِيْهِ ، وَهُمَا الشَّرْطان ِ اللذَان ِ سَبَقَ تقرِيْرُهُمَا .(182/193)
فإذا كانَ هَذَا حَالُ خَاصَّةِ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَقرَبِ قرَابتِهِ مَعَهُ ، لا يُغني عَنْهُمْ شَيْئًا ، إلا َّ مِنْ بَعْدَ أَنْ يَأْذنَ الله ُ لهُ وَيَرْضَى : فكيْفَ بحال ِ غيرِهِمْ؟!
وَكيْفَ يسْأَلوْنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لا يَمْلِكهُ ، وَمَا نفاهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نفسِهِ لأَخَصِّ قرَابتِهِ في حَيَاتِه؟! «وَمَنْ بطأَ بهِ عَمَلهُ ، لمْ يُسْرِعْ بهِ نسَبه»( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(2/252و407) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(2699) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في «سُننِهِ»(3643) وَالتِّرْمِذِيُّ في«جَامِعِهِ»(2945) وَابنُ مَاجَهْ(225) ، كلهُمْ مِنْ طرِيْق ِ الأَعْمَش ِ عَنْ أَبي صَالِحٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه.).
فصل
بَلْ إنَّ شِرْك َ هَؤُلاءِ أَعْظمُ مِنْ شِرْكِ الجاهِلِيِّيْنَ ، فإنَّ شِرْك َ الجاهِلِيِّيْنَ : كانَ في رَخائِهمْ ، أَمّا إذا عَظمَتْ بهمُ الخطوْبُ ، وَتكالبتْ عَليْهمُ الكرُوْبُ : دَعُوْا الله َ مُخْلِصِيْنَ لهُ الدِّينَ ، كمَا قالَ سُبْحَانهُ: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }.
أَمّا مُشْرِكوْ زَمَانِنَا : فشِرْكهُمْ مُطرِدٌ مَعَهُمْ في رَخائِهمْ وَشدَائدِهِمْ ، بَلْ إنَّ كثِيْرًا مِنْهُمْ يَدْعُو الله َ وَمَعَهُ غيْرَهُ في الرَّخاءِ ، فإذا اشْتدَّ بهِ البلاءُ : أَخْلصَ الدَّعَاءَ لِغيْرِ الله !(182/194)
حَتَّى أَنَّ مِنْهُمْ جَمَاعَة ً رَكِبوْا سَفِيْنة ً في البحْرِ ، فتلاطمَتْ بهمُ الأَمْوَاجُ ، وَكادُوْا يَغرَقوْنَ : فلجُّوْا جَمِيْعًا باِلدُّعاءِ مُتضَرِّعِيْنَ قائِلِيْنَ:«يَا بْنَ عِيْسَى( - يَعْنُوْنَ سَعِيْدَ بْنَ عِيْسَى بْن ِ أَحْمَدَ العَمُوْدِيّ الحضْرَمِيّ (ت671ه).) ! يَا بْنَ عِيْسَى ! حُلهَا يَا عَمُوْدَ الدِّيْن» !
ثمَّ أَخَذُوْا يَتَسابَقوْنَ بنذْرِ النُّذُوْرِ لهُ ، وَالتَّعَهُّدِ بتقدِيْمِهَا عِنْدَ قبْرِهِ إنْ هُمْ نجَوْا مِنَ الغرَق ِ وَنَجَّاهُمْ ، عِيَاذاً باِلله .
فلمّا أَنكرَ عَليْهمْ مُوَحِّدٌ كانَ مَعَهُمْ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوْا الله َ مُخْلِصِيْنَ لهُ الدِّينَ ، وَيَتْرُكوْا غيْرَهُ مِنَ المخْلوْقِيْنَ : كادُوْا يَفتِكوْنَ بهِ ، وَيُلقوْنَ بهِ في اليمّ !
فحِيْنَ أَذِنَ الله ُ بنجَاتِهمْ ، وَنجَوْا مِمّا كانوْا فِيْهِ ، وَتفرَّجَتْ عَنْهُمْ كرُبَاتهُمْ : وَبَّخُوْا ذلِك َ الموَحِّدَ ! وَاسْتَدَلوا بنَجَاتِهمْ عَلى صِحَّةِ فِعْلِهمْ ! وَاسْتِقامَةِ أَعْمَالهِمْ ! وَأَنَّ تِلك َ الأَفعَالَ القبيْحَة َ ، كانتْ سَبَبَ نَجَاتِهمْ وَنَجَاتِهِ ، نَسْأَلُ الله َ السَّلامَة َ مِنَ الخذْلان( - قِصَّة ٌ حَكاهَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بَا شْمِيْل – شَفاهُ الله ُ وَعَافاهُ - في كِتَابهِ «لهيْبِ الصَّرَاحَةِ يُحْرِقُ المغالطات»(ص31-36) ، ثمَّ أَفرَدَ مِنْهُ مَا يَتَعَلقُ باِلتَّوْحِيْدِ في كِتَابهِ «كيْفَ نفهَمُ التَّوْحِيْد» ، وَأَعَادَهَا فِيْه(ص15-19).
وَكانَ - هُوَ- مَعَ أُوْلئِك َ المفتوْنِيْنَ في تِلك َ السَّفِيْنَةِ قبْلَ نَحْوِ سِتِّينَ سَنَة ً، وَلما رَأَى مِنْهُمْ ذلِك َ وَسَمِعَهُ : أَنكرَ عَليْهمْ ، فكانَ مِنْهُمْ مَا سَبَقَ ، وَلهُ مَعَهُمْ قِصَّة ٌوَجِدَالٌ حَسَنٌ ، ذكرَهُ في كِتَابهِ المذْكوْر.).(182/195)
وَآخَرُوْنَ لجوْا باِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالاسْتِغاثةِ بعبْدِ القادِرِ الجِيْلانِيِّ ، وَآخرُوْنَ باِلبدَوِيِّ ، وَغيْرُهُمْ بأَبي العَبّاس ِ المرْسِيّ .
وَهَكذَا يَسِيْرُ رَكبهمْ مُتَرَسِّمًا خطى الشَّيْطان ِ، فأَوْرَدَهُمُ النارَ ، فبئْسَ الوِرْدُ الموْرُوْد .
وَقدْ ذكرَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْن ِ الصِّدِّيق ِ الغمارِيُّ(ت1380ه) في كِتابهِ الفاسِدِ «إحْيَاءِ المقبوْرِ ، مِنْ أَدِلةِ اسْتِحْبَابِ بناءِ المسَاجِدِ وَالقِبَابِ عَلى القبوْر»(ص21-22): شَيْئًا مِنْ ذلِك َ ، وَكفرَ - هُوَ- فاعِلِيْهَا .
وَمَعَ فسَادِ كِتَابهِ ذلِك َ، إلا َّ أَنهُ ذكرَ ذلِك َ، وَحَكمَ بكفرِ فاعِلِيْه .
وَهَذَا أَمْرٌ رَأَيناهُ وَسَمِعْنَا بَعْضَهُ ، وَقرَأْنا بَعْضَه .
بَلْ قدْ سَمِعْتُ شَيْطانا مِنْ شَيَاطِينِهمْ ، يقرِّرُ لأُوْلئِك َ المشْرِكِيْنَ صِحَّة َ أَعْمَالهِمْ ، وَيزَينُ لهمْ سُوْءَ أَفعالهِمْ ، فقالَ:(قدْ جَعَلَ الله ُ لِلأَوْلِيَاءِ كرَامَاتٍ وَمُعْجزَاتٍ ، وَخَوَارِقَ لِلعادَاتِ . فهُمْ يجيْبُوْنَ المضْطرَّ وَيَكشِفوْنَ السُّوْءَ ! وَيرْفعُوْنَ البأْسَ ! وَهُمْ مَيتوْنَ في قبوْرِهِمْ ! وَمَا ذاك َ إلا َّ لِعِظمِ جَاهِهمْ عِنْدَ اللهِ ، وَرِفعَةِ مَنْزِلتِهمْ لدَيه .
فمَنْ رَكِبَ في الفلكِ وَخَشِيَ الغرَقَ فدَعَاهُمْ ، وَنادَاهُمْ ، وَاسْتغاثَ بهمْ فقالَ «يا عَبْدَ القادِرِ» أَوْ«يا جِيْلانِيّ» أَوْ غيْرَ ذلِك َ: نفعهُ ذلِك َ بلا رَيب) !
ثمَّ قالَ مُنْكِرًا مُتعَجِّبًا مِمَّنْ يُنكِرُ ذلِك َ:(وَمَنْ يَسْتَطِيْعُ أَنْ يُنْكِرَ ذلِك َوَيَجْحَدُهُ ؟! أَلا يَسْتَطِيْعُ الله ُ أَنْ يَجْعَلَ لِرُوْحِ ذلِك َ الوَلِيِّ قدْرَة ً في إغاثةِ الملهُوْفِيْنَ ، وَإجَابةِ المضْطرِّين؟!).(182/196)
هَكذَا قالَ هَذَا المشْرِك ُ الضّالُّ ، وَهَكذَا يُزَينُ لهِؤُلاءِ مِلة َ أَبي لهَبٍ وَأَبي جَهْل . وَلمّا لمْ يَجِدْ دَلِيْلا ً عَلى صِحَّةِ مَزَاعِمِهِ تِلك َ: نقلَ المسْأَلة َ مِنْ حُكمِ الاسْتِغاثةِ وَدُعَاءِ أُوْلئِك َ العِبَادِ الضُعَفاءِ المقبوْرِيْنَ مِنْ دُوْن ِ اللهِ ، إلىَ بيان ِ قدْرَةِ اللهِ وَاسْتِطاعَتِهِ ! وَكأَنَّ المخالِفَ لهمْ مِنَ الموَحِّدِيْنَ ينازِعُ في اسْتِطاعَةِ اللهِ وَقدْرَتهِ أَنْ يَهَبَ أَحَدًا مِنْ أُوْلئِك َ الأَمْوَاتِ قدْرَة ً عَلى إغاثةِ أَهْل ِ الكرُوْبِ ، وَكشْفِ الكرْبِ عَن ِ المكرُوْب !
وَلوْ كانَ دَلِيْلُ جَوَازِ دُعَائِهمُ الأَمْوَاتَ وَالاسْتِغاثةِ بهمْ : قدْرَة َ اللهِ عَلى مَنْحِ أُوْلئِك َ الأَمْوَاتِ قدْرَة ً لإغاثةِ الملهُوْفِيْنَ وَالمضْطرِّينَ : لكانَ ذلِك َ أَيضًا دَلِيْلا ً عَلى صِحَّةِ أَفعَال ِ المشْرِكِيْنَ المتقدِّمِيْنَ ، مِنْ عُبّادِ اللاتِ وَمَنَاةِ وَالعُزَّى وَغيْرِهَا ، لِقدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، عَلى مَنْحِ تِلك َ الأَصْنَامِ قدْرَة ً عَلى إغاثةِ المسْتَغِيثِيْنَ بهَا ! وَإلا َّ لكانَ مُنْكِرًا لِقدْرَةِ اللهِ وَاسْتِطاعَتِه !
أَمّا كوْنُ مُشْرِكِي الجاهِلِيَّةِ الأُوْلىَ أَصَحَّ اعْتِقادًا مِنْ هَذَا المتكلمِ وَكثِيْرٍ مِنْ مُشْرِكِي زَمَانِنَا : فلِكوْن ِ شِرْكِ هَؤُلاءِ المتأَخِّرِيْنَ مُطرِدًا مَعَهُمْ في جَمِيْعِ أَحْوَالِهمْ ، رَخاءًا وَشِدَّة .
أَمّا أُوْلئِك َ المتقدِّمُوْنَ : فكانوْا مُشْرِكِيْنَ ، إلا َّ في شَدَائِدِهِمْ فيُخْلِصُوْنَ الدُّعَاءَ للهِ وَحْدَهُ ، كمَا في حَدِيْثِ عِمْرَان ِ بْن ِ حُصَيْن ِ بْن ِ عُبيْدٍ الخزَاعِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لأَبيْهِ – وَكانَ جَاهِلِيًّا مُشْرِكا-:«يَا حُصَيْنُ كمْ تعْبُدُ اليوْمَ إلها؟».(182/197)
فقالَ حُصَيْنٌ:«سَبْعَة ً، سِتَّة ً في الأَرْض ِ، وَوَاحِدًا في السَّمَاء».
فقالَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«فأَيهُمْ تعِدُّ لِرَغبتِك َ وَرَهْبتِك؟».
قالَ حُصَيْنٌ:«الذِي في السَّمَاء» ... الحدِيْثَ ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في «جَامِعِهِ»(3483) وَجَمَاعَة ٌ، وفي رِوَايةٍ لابن ِ خزَيْمَة َ في«التَّوْحِيْدِ» (1/277-278)(177): أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ لهُ:«فإذا أَصَابك َ الضُّرُّ مَنْ تدْعوْ؟
قالَ حُصَيْنٌ :«الذِي في السَّمَاءِ؟»
فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«هَلك َ المالُ مَنْ تدْعُوْ؟»
قالَ حُصَيْنٌ:«الذِي في السَّمَاءِ».
فقالَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«فيسْتجِيْبُ لك َ وَحْدَهُ ، وَتشْرِكهُمْ مَعَه؟!».
وَمِصْدَاقُ هَذَا : قوْلُ اللهِ تَعَالىَ عَنْهُمْ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
وَلا أَعَزَّ عَلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا أَكرَمَ عَليْهِ مِنْ أَنبيَائِهِ وَرُسُلِهِ صَلوَاتُ اللهِ عَليْهمْ وَسَلامُهُ ، وَمَا بَعثهُمْ إلا َّ لِيوَحِّدُوْهُ باِلعِبَادَةِ وَيَأْمُرُوْا النّاسَ بتوْحِيْدِهِ ، لا أَنْ يُشَارِكوْهُ فِيْهَا ! لهذَا كانوْا أَشَدَّ النّاس ِ تَحْذِيْرًا لأُمَمِهمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالغلوِّ فِيْهمْ ، حَذَرًا عليْهمْ مِنْ ذلِك .(182/198)
وَلما غلتِ النَّصَارَى في عِيْسَى وَعَبَدُوْهُ ، كمَا عَبَدَ هَؤُلاءِ المشْرِكوْنَ الأَوْلِيَاءَ وَالصَّالحِيْنَ وَغيْرَهُمْ مِنْ جُمْلةِ المقبوْرِيْنَ : قالَ الله ُ عَزَّ وَجَلَّ لِنبيِّهِ الكرِيْمِ عِيْسَى عَليْهِ السَّلامُ: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.
فكيْفَ بمَنْ دُوْنهُمْ مِمَّنْ تزْعَمُ وَلايتهُمْ ، وَكثِيْرٌ مِنْهُمْ مَلاحِدَة ٌ وَزَنادِقة ٌ! وَمِنْهُمْ عُصَاة ٌ وَفسَقة ٌ ، أَوْ شياطِيْنُ مَرَدَة !
بَلْ إنَّ بَعْضَ أُوْلئِك َ المقبوْرِيْنَ ، يَهُوْدُ ، أَوْ نصَارَى ، أَوْ بَاطِنِيَّة ٌ، أَوْ غيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ الملاحِدَةِ وَالزَّنادِقةِ ، وَقدْ ذكرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا شَيْخُ الإسْلامِ في«الاسْتِغاثة» وَغيْرُه ، وَسَيَأْتِي ذِكرُ طرَفٍ مِنْهُ بمَشِيْئَةِ الله(ص307-326).
فصل
ثمَّ إنَّ هَؤُلاءِ مَعَ فسَادِ دِينِهمْ وَعقوْلهِمْ : مُتنَاقِضُوْنَ كثِيْرًا ، وَمِنْ ذلِك َ: أَنهُمْ لا يَطلبوْنَ مِنْ حَيٍّ دُعاءًا ، مَعَ مَشْرُوْعِيَّتِهِ ، وَاسْتِقامَتِهِ شَرْعًا ، وَإتيان ِ السُّنَّةِ بجوَازِهِ ، وَاسْتِحْبَابهِ لِمَنْ ظهَرَ صَلاحُهُ ، كمَا في حَدِيْثِ أُوَيْس ٍ القرَنِيِّ في«صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»(2542) وَغيْرِه .(182/199)
وَلكِنهُمْ لا يَطلبوْنَ مِنْهُ الدَّعَاءَ لهمْ ، حَتَّى إذا مَاتَ ، وَانقطعَ عَمَلهُ ، وَأَصْبَحَ هُوَ في حَاجَةٍ لإخْوَانِهِ أَنْ يَدْعُوا الله َ لهُ : لجُّوْا في دُعَائِهِ هُوَ ! وَالاسْتِغاثةِ بهِ ! وَالذَّبْحِ لهُ ! وَالتقرُّبِ إليْهِ ( - قالَ الشَّيْخُ الأَلبَانِيُّ في مُقدِّمَةِ تَحْقِيْقِهِ لِكِتَابِ «الآيَاتِ البَيِّنَاتِ ، في عَدَمِ سَمَاعِ الأَمْوَاتِ ، عِنْدَ الحنَفِيَّةِ السّادَات» لِلعَلامَةِ نُعْمَان ِ بْن ِ مَحْمُوْدٍ الأَلوْسِيِّ(ت1317ه)(ص11):(كاعْتِقادِ بَعْضِهمْ فِي الأَوْلِيَاءِ : أَنهُمْ قبْلَ مَوْتِهمْ كانوْا عَاجِزِيْنَ ، وَباِلأَسْبَابِ الكوْنِيَّةِ مُقيَّدِيْنَ . فإذا مَاتوْا انْطلقوْا وَتفلتوْا مِنْ تِلك َ الأَسْبَابِ ، وَصَارُوْا قادِرِيْنَ عَلى كلِّ شَيْءٍ كرَبِّ الأَرْبَاب !
وَلا يَسْتَغْرِبَنَّ أَحَدٌ هَذَا مِمَّنْ عَافاهُمُ الله ُ تَعَالىَ مِنَ الشِّرْكِ عَلى اخْتِلافِ أَنْوَاعِهِ ، فإنَّ فِي المسْلِمِينَ اليَوْمَ مَنْ يُصَرِّحُ بأَنَّ فِي الكوْن ِ مُتَصَرِّفِينَ مِنَ الأَوْلِيَاءِ دُوْنَ اللهِ تَعَالىَ ! مِمَّنْ يُسَمُّوْنَهُمْ هُنَا فِي الشّامِ ب«المدَّرِّكِينَ» وَب«الأَقطابِ» وَغيرِهِمْ . وَفِيْهمْ مَنْ يَقوْلُ :«نَظرَة ٌ مِنَ الشَّيْخِ تَقلِبُ الشَّقِيَّ سَعِيْدًا» ! وَنَحْوِهِ مِنَ الشِّرْكِيّات)اه.) !(182/200)
وَقدْ رَأَيتُ كثِيْرًا مِنْ هَؤُلاءِ ، مِمَّنْ يَنْتَسِبُ عِنْدَ رَهْطِهِ إلىَ العِلمِ وَالفِقهِ – وَهُوَ بَرَاءٌ مِنْهُمَا -: يَشُدُّ رِحَالهُ مُسَافِرًا إلىَ أَضْرِحَةِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ يُزْعَمُ صَلاحُهُمْ : فيَدْعُوْهُمْ وَيَسْتَغِيْثُ بهمْ ، وَيَزْعُمُ أَنهُمْ أَغوَاثٌ وَأَقطابٌ ! وَأَنَّ لهمْ تَصَرُّفا في الكوْن ِ مَعْلوْم ! وَاطلاعٌ عَلى الغيْبِ لا يَخْفى عَلى ذوِي الفهوْم ! وَأَنهُ ضَعِيْفٌ عِنْدَهُمْ ! مُحْتَاجٌ لِمَا في أَيْدِيْهمْ ! مفرِّط ٌ إنْ لمْ يَعْفوْا عَنْهُ ، وَمُقصِّرٌ فِيْمَا يرَادُ مِنْه .
وَسَمِعْتُ أَحَدَهُمْ - وَقدْ بَلغَ سُؤْلهُ ، وَأَناخَ رَاحِلتَهُ ، بَعْدَ سَفرٍ طوِيْل ٍ- عِنْدَ قبوْرِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ يُنْسَبُوْنَ إلىَ الصَّلاحِ ، وَكثِيْرٌ مِنْهُمْ عَاطِلٌ مِنْ ذلِك . فدَعَاهُمْ بَاكِيًا خَاشِعًا ، وَاسْتَشْفعَ بهمْ بذِلةٍ خَاضِعًا .
وَكانَ مِمّا قالهُ في دَعْوَاتِهِ الشِّرْكِيَّةِ تِلك َ:
(نحْنُ جِئْنَا مُسْتَمِدِّيْنَ طالِبيْنَ رَاجيْنَ أَنْ يَقبَلوْنا عَلى ضَعْفِنَا ، وَأَنْ لا يرُدُّوْنا ، وَأَنْ تتحَققَ قوَاعِدُ لا إلهَ إلا ّ الله ُ عِنْدَنا، كمَا تَحَققتْ عِنْدَهُمْ .
جِئْنَا إليْهِ وَإليْهمْ ، وَوَقفنا عَلى أَعْتَابهمْ ، وَاطرَحْنَا عَلى أَبوَابهمْ ، وَأَرْجُوْ مِنْهُمْ أَنْ لا يَرُدُّوْنا ، وَأَرْجُوْ مِنْهُمْ أَنْ يَقبَلوْنا ، وَأَرْجُوْ مِنْهُمْ أَنْ يُكرِمُوْنا).
وَالآنَ أَقبلنَا عَليْهمْ وَحَاشَاهُمْ أَنْ يَرُدُّوْنا ، وَحَاشَاهُمْ أَنْ لا يُشَفعُوْنا ، وَحَاشَاهُمْ أَنْ لا يَشْفعُوْا فِيْنَا ، وَحَاشَاهُمْ أَنْ لا يَرْحَمُوْا مَنْ غفلَ ، وَأَنْ يُدْرِكوا مَن ِ اسْتَمْهَل).
فصل(182/201)
وَقدْ سُئِلَ شَيْخُ الإسْلامِ أَبوْ العَبّاس ِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الحلِيْمِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ– كمَا في«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»(27/64-70)- عَمَّنْ يَزُوْرُ القبوْرَ ، وَيَسْتنْجِدُ لِمَرَض ٍ أَلمَّ بهِ أَوْ بمَنْ يُحِبُّهُ باِلمقبوْرِ ، وَيَزْعُمُ أَنهُ إنمَا يُرِيْدُ أَنْ يَكوْنَ المقبوْرُ وَاسِطة ً بَيْنَهُ وَبَينَ الله .
وَفِيْمَنْ يَنْذُرُ لِلزَّوَايا وَالمشَايخِ ، وَفِيْمَنْ يَسْتَغِيْثُ بشَيْخِهِ ، وَفِيْمَنْ يَجِيءُ إلىَ قبْرِ شَيْخِهِ وَيُمَرِّغُ وَجْهَهُ عَليْهِ ، وَيَمْسَحُهُ بيَدَيهِ ، ثمَّ يَمْسَحُ بهمَا وَجْهَهُ ، وَنَحْوِ ذلك .
فأَجَابَ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله ُ بقوْلِهِ :
(الحمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِيْنَ، الدِّينُ الذِي بَعَثَ الله ُ بهِ رُسُلهُ ، وَأَنزَلَ بهِ كتبهُ : هُوَ عِبَادَة ُ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيْك َ لهُ ، وَاسْتِعَانتهُ وَالتَّوَكلُ عَليْهِ ، وَدُعَاؤُهُ لِجَلبِ المنافِعِ ، وَدَفعِ المضَارِّ ، كمَا قالَ تعَالىَ:{ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
وَقالَ تعَالىَ: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً }.
وَقالَ تعَالىَ: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }.(182/202)
وَقالَ تعَالىَ: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}.
قالتْ طائِفة ٌمِنَ السَّلفِ :«كانَ أَقوَامٌ يَدْعُوْنَ المسِيْحَ ، وَعُزَيْرًا ، وَالملائِكة َ، فقالَ الله ُ تعَالىَ : هَؤُلاءِ الذِيْنَ تَدْعُوْنهُمْ عِبَادِي ، كمَا أَنتمْ عِبَادِي ، وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتي ، كمَا تَرْجُوْنَ رَحْمَتي ، وَيَخافوْنَ عَذَابي كمَا تَخافوْنَ عَذَابي ، وَيتقرَّبوْنَ إليَّ كمَا تتقرَّبوْنَ إليَّ .
فإذا كانَ هَذَا حَالُ مَنْ يَدْعُوْ الأَنبيَاءَ وَالملائِكة َ، فكيْفَ بمَنْ دُوْنهُمْ ؟!
وَقالَ تعَالىَ: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً }.
وَقالَ تعَالىَ: { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }.
فبينَ سُبْحَانهُ : أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ دُوْن ِ اللهِ مِنْ جَمِيْعِ المخْلوْقاتِ مِنَ الملائِكةِ وَالبشرِ وَغيْرِهِمْ : أَنهُمْ لا يَمْلِكوْنَ مِثقالَ ذرَّةٍ في مُلكِهِ ، وَأَنهُ ليْسَ لهُ شَرِيْك ٌ في مُلكِهِ ، بَلْ هُوَ سُبْحَانهُ لهُ الملك ُ وَلهُ الحمْدُ ، وَهُوَ عَلى كلِّ شَيْءٍ قدِيْر.
وَأَنهُ ليْسَ لهُ عَوْنٌ يعَاوِنهُ كمَا يَكوْنُ لِلمَلِكِ أَعْوَانٌ وَظهَرَاء .(182/203)
وَأَنَّ الشُّفعَاءَ عِنْدَهُ لا يَشْفعُوْنَ إلا َّ لِمَن ِ ارْتضَى ، فنفى بذَلِك َ وُجُوْهَ الشِّرْك .
وَذلِك َ أَنَّ مَنْ يَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِهِ :
* إمّا أَنْ يَكوْنَ مَالِكا ،
* وَإمّا أَنْ لا يَكوْنَ مَالِكا .
وَإذا لمْ يَكنْ مَالِكا :
* فإمّا أَنْ يَكوْنَ شَرِيْكا ،
* وَإمّا أَنْ لا يَكوْنَ شَرِيْكا .
وَإذا لمْ يَكنْ شَرِيْكا :
* فإمّا أَنْ يَكوْنَ مُعَاوِنا ،
* وَإمّا أَنْ يَكوْنَ سَائِلا ً طالِبًا .
فالأَقسَامُ الأُوَلُ الثلاثة ُ، وَهِيَ : الملك ُ ، وَالشِّرْكة ُ، وَالمعاوَنة ُ : مُنتفِيَة .
وَأَمّا الرّابعُ : فلا يَكوْنُ إلاَّ مِنْ بَعْدِ إذنِهِ ، كمَا قالَ تعَالىَ: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }.
وَكمَا قالَ تعَالىَ: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }.
وَقالَ تعَالىَ: { أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } .
وَقالَ تعَالىَ :{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ }.
وَقالَ تعَالىَ: { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }.(182/204)
وَقالَ تعَالىَ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
فإذَا جَعَلَ مَن ِ اتخذَ الملائِكة َ وَالنبيينَ أَرْبابا كافِرًا ، فكيْفَ مَن ِ اتخذَ مَنْ دُوْنهُمْ مِنَ المشَايخِ وَغيْرِهِمْ أَرْبابا .
وَتفصِيْلُ القوْل ِ: أَنَّ مَطلوْبَ العَبْدِ إنْ كانَ مِنَ الأُمُوْرِ التي لا يَقدِرُ عَليْهَا إلا َّ الله ُ تعَالىَ : مِثلَ أَنْ يَطلبَ شِفاءَ مَرِيْضِهِ مِنَ الآدَمِيِّيْنَ وَالبهَائِم . أَوْ وَفاءَ دَينِهِ مِنْ غيْرِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، أَوْ عَافِيَة َ أَهْلِهِ ، وَمَا بهِ مِنْ بَلاءِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ ، وَانتِصَارَهُ عَلى عَدُوِّهِ ، وَهِدَاية َ قلبهِ ، وَغفرَانَ ذنبهِ ، أَوْ دُخُوْلهُ الجنة َ، أَوْ نجَاتهُ مِنَ النّارِ ، أَوْ أَنْ يَتَعَلمَ العِلمَ وَالقرْآنَ ، أَوْ أَنْ يُصْلِحَ قلبهُ ، وَيُحْسِنَ خُلقهُ ، وَيُزَكي نفسَهُ ، وَأَمْثالَ ذلك .
فهَذِهِ الأُمُوْرُ كلهَا لا يَجُوْزُ أَنْ تطلبَ إلا َّ مِنَ اللهِ تعَالىَ ، وَلا يَجُوْزُ أَنْ يَقوْلَ لِمَلكٍ ، وَلا نبيٍّ ، وَلا شَيْخٍ – سَوَاءٌ كانَ حَيًّا أَوْ مَيتا-:«اغفِرْ ذنبي» ، وَلا «انصُرْنِي عَلى عَدُوِّي» ، وَلا «اشْفِ مَرِيْضِي» ، وَلا «عَافِنِي» أَوْ «عَافِ أَهْلِي أَوْ دَابَتي» ، وَمَا أَشبهَ ذلك .(182/205)
وَمَنْ سَأَلَ ذلِك َ مَخْلوْقا كائِنًا مَنْ كانَ : فهوَ مُشْرِك ٌ برَبهِ ، مِنْ جِنْس ِ المشْرِكِيْنَ الذِيْنَ يَعْبُدُوْنَ الملائِكة َ وَالأَنبيَاءَ وَالتَّمَاثِيْلَ ، التي يُصَوِّرُوْنهَا عَلى صُوَرِهِمْ .
وَمِنْ جِنْس ِ دُعَاءِ النَّصَارَى لِلمَسِيْحِ وَأُمِّهِ ، قالَ الله ُ تعَالىَ: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ }.
وَقالَ تَعَالىَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وَأَمّا مَا يَقدِرُ عَليْهِ العَبْدُ : فيَجُوْزُ أَنْ يُطلبَ مِنْهُ في بَعْض ِ الأَحْوَال ِ دُوْنَ بَعْض .
فإنَّ «مَسْأَلة َ المخلوْق»ِ قدْ تَكوْنُ جَائِزَة ً، وَقدْ تَكوْنُ مَنْهيًّا عَنْهَا ، قالَ الله ُ تَعَالىَ: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }.
وَأَوْصَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنَ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا:«إذا سَأَلتَ فاسْأَل ِ الله َ ، وَإذا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باِلله»( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(1/293،307) وَالتِّرْمِذِيُّ في«جَامِعِهِ»(2516) وَقالَ:«حَسَنٌ صَحِيْح».).(182/206)
وَأَوْصَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طائِفة ًمِنْ أَصْحَابهِ : أَنْ لا يَسْأَلوْا النّاسَ شَيْئًا . فكانَ سَوْط ُ أَحَدِهِمْ يَسْقط ُ مِنْ كفهِ ، فلا يَقوْلُ لأَحَدٍ ناوِلني إياه( - رَوَى مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(1043) مِنْ حَدِيْثِ عَوْفِ بْن ِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ: (كنّا عِنْدَ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَة ً، أَوْ ثَمَانِيَة ً، أَوْ سَبْعَة ً، فقالَ:«أَلا تُبَايعُوْنَ رَسُوْلَ اللهِ؟» وَكنّا حَدِيْثَ عَهْدٍ ببَيْعَة .
فقلنَا : قدْ بَايَعْنَاك َ يَا رَسُوْلَ اللهِ !
ثمَّ قالَ:«أَلا تُبَايعُوْنَ رَسُوْلَ اللهِ؟».
فقلنَا : قدْ بَايَعْنَاك َ يَا رَسُوْلَ اللهِ !
ثمَّ قالَ:«أَلا تُبَايعُوْنَ رَسُوْلَ اللهِ؟».
قالَ : فبَسَطنَا أَيْدِيَنَا ، وَقلنَا : بَا يَعْنَاك َ يَا رَسُوْلَ اللهِ ، فعَلامَ نُبَايعُك؟
قالَ:«عَلى أَنْ تَعْبُدُوْا الله َوَلا تُشْرِكوْا بهِ شَيْئًا ، وَالصَّلوَاتِ الخمْس ِ، وَتُطِيْعُوْا»-وَأَسَرَّ كلِمَة ً خَفِيَّة ً-«وَلا تَسْأَلوْا النّاسَ شَيْئًا».
قالَ : فلقدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُوْلئِك َ النَّفرِ ، يَسْقط ُ سَوْط ُ أَحَدِهِمْ ، فمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلهُ إياه). وَرَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(6/27)، وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُنَنِهِ»(1642) ، وَابْنُ مَاجَهْ(2867)، وَالنَّسَائِيُّ في«سُنَنِه»(460).
وَرَوَى وَكِيْعٌ في«الزُّهْدِ»(140)(1/370-371) ، وَابْنُ الجعْدِ في «مُسْنَدِهِ»(2/993)(2873) : عَن ِابْن ِأبي ذِئْبٍ عَنْ محمَّدِ بْن ِ قيْس ٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَن ِ بْن ِ يَزِيْدِ بْن ِ مُعَاوِيَة َ عَنْ ثوْبانَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ:قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ يَتَقبَّلْ لِي بوَاحِدَةٍ ، وَأَتقبَّلْ لهُ باِلجنَّة؟».(182/207)
قالَ ثوْبانُ: قلتُ : أَنا .
فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لا تَسْأَل ِ النّاسَ شَيْئًا».
قالَ: فكانَ ثوْبانُ يَقعُ سَوْطهُ وَهُوَ رَاكِبٌ ، فلا يَقوْلُ لأَحَدٍ نَاوِلنِيْهِ حَتَّى يَنْزِلَ فيَأْخُذُه .
وَرَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(5/277): حَدَّثنَا وَكِيْعٌ به ، وَابْنُ مَاجَهْ في«سُننِهِ»(1837): حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ محمَّدٍ حَدَّثنَا وَكِيْعٌ به .
وَفي البابِ: حَدِيْثُ جَمَاعَةٍ آخَرِيْنَ ، مِنْهُمْ أَبوْ ذرٍّ الغِفارِيُّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فقالَ لهُ :«هَلْ لك َ إلىَ بَيْعَةٍ وَلك َ الجنَّة ؟».
قالَ أَبوْ ذرٍّ : قلتُ : نَعَم . وَبَسَط َ أَبوْ ذرٍّ يَدَه .
فقالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَشْتَرِط ُعَليْهِ:«أَنْ لا تَسْأَلَ النّاسَ شَيْئًا».
قالَ أَبوْ ذرٍّ: قلتُ : نَعَم .
قالَ:«وَلا سَوْطك َ إنْ سَقط َ مِنْك َ، حَتَّى تنْزِلَ فتَأْخُذَه» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(5/172) وَغيْرُه.).
وَثبتَ في«الصَّحِيْحَيْن»: أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«يَدْخُلُ الجنة َ مِنْ أُمَّتي سَبْعُوْنَ أَلفا بغيْرِ حِسَابٍ ، وَهُمُ الذِيْنَ لا يَسْتَرْقوْنَ وَلا يَكتوُوْنَ ، وَلا يَتطيَّرُوْنَ ، وَعَلى رَبِّهمْ يتوَكلوْن»[خ(5705)،(5752)،(6472) م(216)، (218) ، (220) ].(182/208)
وَالاسْتِرْقاءُ : طلبُ الرُّقيةِ ، وَهُوَ مِنْ أَنوَاعِ الدُّعَاءِ ، وَمَعَ هَذَا فقدْ ثبتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قالَ:«مَا مِنْ رَجُل ٍ يَدْعُوْ لهُ أَخُوْهُ بظهْرِ الغيْبِ دَعْوَة ً، إلا َّ وَكلَ الله ُ بهَا مَلكا ، كلمَا دَعَا لأَخِيْهِ دَعْوَة ً قالَ الملك ُ: وَلك َمِثْلُ ذلِك»( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(6/452)،(5/195) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِه»(2732)،(2733).).
وَمِنَ المشْرُوْعِ في الدُّعَاءِ : دُعَاءُ غائِبٍ لِغائِب . وَلهِذَا أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باِلصَّلاةِ عَليْهِ ، وَطلبنَا الوَسِيْلة َ له .
وَأَخْبَرَ بمَا لنا في ذلِك َ مِنَ الأَجْرِ إذا دَعَوْنا بذَلك َ، فقالَ في الحدِيْثِ:«إذا سَمِعْتُمُ المؤَذنَ فقوْلوْا مِثلَ مَا يَقوْلُ ، ثمَّ صَلوْا عَليَّ ، فإنَّ مَنْ صَلى عَليَّ مَرَّة ً، صَلى الله ُ عَليْهِ عَشْرًا . ثمَّ سَلوْا الله َ لِي الوَسِيْلة َ ، فإنهَا دَرَجَة ٌ في الجنةِ لا يَنْبَغِي أَنْ تَكوْنَ إلا َّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ ، وَأَرْجُوْ أَنْ أَكوْنَ أَنا ذلِك َ العَبْد . فمَنْ سَأَلَ الله َ لِيَ الوَسِيْلة َ: حَلتْ لهُ شَفاعَتي يوْمَ القِيَامَة»( - رَوَاهُ النَّسَائِيُّ في«سُننِهِ»(678) مِنْ حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بْن ِ عَمْرٍو رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا .).
وَيُشْرَعُ لِلمُسْلِمِ : أَنْ يَطلبَ الدُّعَاءَ مِمَّنْ هُوَ فوْقهُ ، وَمِمَّنْ هُوَ دُوْنه . فقدْ رُوِيَ طلبُ الدُّعَاءِ مِنَ الأَعْلى وَالأَدْنى ، فإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَّعَ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ إلىَ العُمْرَةِ وَقالَ:«لا تنْسَنا مِنْ دُعَائِك َ يَا أَخِي»( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(2/59)،(1/29) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِه»(1498).).(182/209)
لكِنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا أَمَرَنا باِلصَّلاةِ عَليْهِ وَطلبِ الوَسِيْلةِ لهُ : ذكرَ أَنَّ مَنْ صَلى عَليْهِ مَرَّة ً ، صَلى الله ُ بهَا عَليْهِ عَشْرًا . وَأَنَّ مَنْ
سَأَلَ لهُ الوَسِيْلة َ: حَلتْ لهُ شفاعَتُهُ يَوْمَ القِيَامَة .
فكانَ طلبهُ مِنّا لِمَنْفعَتِنَا في ذلِك َ، وَفرْقٌ بَيْنَ مَنْ طلبَ مِنْ غيْرِهِ شَيْئًا لِمَنْفعَةِ المطلوْبِ مِنْهُ ، وَمَنْ يَسْأَلُ غيْرَهُ لحاجَتِهِ إليْهِ فقط.
وَثبتَ في«الصَّحِيْحِ»[م(2542)]: أَنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرَ أُوَيْسًا القرَنِيَّ وَقالَ لِعُمَرَ:«إن ِ اسْتَطعْتَ أَنْ يَسْتَغفِرَ لك َ فافعَلْ».
وَفي«الصَّحِيْحَيْن»ِ: أَنهُ كانَ بَيْنَ أَبي بَكرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا شَيْءٌ ، فقالَ أَبوْ بَكرٍ لِعُمَرَ :«اسْتغفِرْ لِي» ، لكِنْ في الحدِيْثِ :
أَنَّ أَبا بَكرٍ ذكرَ أَنهُ حَنِقَ عَلى عُمَرَ( - رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(3661)،(4640) مِنْ حَدِيْثِ أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ الله ُ عَنْه .).
وَثبَتَ أَنَّ أَقوَاما كانوْا يَسْتَرْقوْنَ ، وَكانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرْقِيْهمْ( - وَمِنْ ذلِك َ: مَا أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(5675)،(5743)،(5744)،(5750) وَمُسْلِمٌ(2191) مِنْ حَدِيْثِ عَائِشَة َرَضِيَ الله ُ عَنْهَا : أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَرْقِي يَقوْلُ:«امْسَحِ البَاسَ رَبَّ النّاس ِ، بيَدِك َ الشِّفاءُ ، لا كاشِفَ لهُ إلا َّ أَنت».
وَمَا أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» أَيْضًا(5742) مِنْ حَدِيْثِ ثابتٍ عَنْ أَنس ِبْن ِمَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه أَنَّ ثابتًا قالَ لهُ: يَا أَبا حَمْزَة َ اشْتَكيْتُ .
فقالَ أَنسٌ: أَلا أَرْقِيْك َ برُقيَةِ رَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
قالَ: بَلى .(182/210)
قالَ:«اللهُمَّ رَبَّ النّاس ِ ، مُذْهِبَ البَاس ِ، اشْفِ أَنتَ الشّافي ، لا شَافِيَ إلا َّ أَنتَ شِفاءً لا يُغادِرُ سَقمًا».).
وَثبتَ في«الصَّحِيْحَيْن»ِ:(أَنَّ النّاسَ لمّا أَجْدَبوْا سَأَلوْا النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَسْقِي لهمْ فدَعَا الله َ لهمْ فسُقوْا)( - أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(932)،(933)،(1033) وَمُسْلِمٌ(987) مِنْ حَدِيْثِ أَنس ِبْن ِ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْه .).
وَفي«الصَّحِيْحَيْن»ِ أَيضًا:(أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطابِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ اسْتَسْقى باِلعَبّاس ِ ، فدَعَا فقالَ:«اللهُمَّ إنا كنا إذا أَجْدَبنا نتوَسَّلُ إليْك َ بنبينا فتسْقينا ، وَإنا نتوَسَّلُ إليْك َبعَمِّ نبيِّنَا فأَسْقِنَا» فيُسْقوْن)[خ(1010)].
وَفي «السُّنَن»ِ:(أَنَّ أَعْرَابيًّا قالَ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : جَهدَتِ الأَنفسُ ، وَجَاعَ العِيَالُ ، وَهَلك َ المالُ ، فادْعُ الله َ لنا ، فإنا نسْتَشْفِعُ باِللهِ عَليْك َ، وَبك َ عَلى الله»[د(4726)].
فسَبَّحَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَ ذلِك َ في وُجُوْهِ أَصْحَابهِ وَقالَ:«وَيْحَك ْ ! إنَّ الله َ لا يُسْتَشْفعُ بهِ عَلى أَحَدٍ مِنْ خَلقِهِ ، شَأْنُ اللهِ أَعْظمُ مِنْ ذلك»).
فأَقرَّهُ عَلى قوْلِهِ «إنا نسْتَشْفِعُ بك َعَلى اللهِ» ، وَأَنكرَ عَليْهِ «نسْتشْفِعُ باِللهِ عَليْك».
لأنَّ الشّافِعَ يَسْأَلُ المشفوْعَ إليْهِ ، وَالعَبْدُ يَسْأَلُ رَبهُ وَيَسْتَشْفِعُ إليْهِ ، وَالرَّبُّ تعَالىَ لا يَسْأَلُ العَبْدَ وَلا يَسْتشْفِعُ به)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلام .
فصل(182/211)
في اغتِرَارِ الأَتبَاعِ بمَا زَينهُ لهمُ الشَّيْطانُ فِي مَتْبُوْعِيْهمْ مِنْ مَخَارِيْقَ شَيْطانِيَّةٍ ، وَمَكائِدَ إبْلِيْسِيَّةٍ ، لِيَظنَّ الأَغمَارُ أَنَّ أُوْلئِك َ المعْبُوْدِيْنَ أَوْلِيَاءُ صَالحِوْنَ ، وَأَنهُمْ لِدَعَوَاتِهمُ الشِّرْكِيَّةِ يُجِيْبُوْنَ وَيَنْفعُوْنَ
وَكانَ مِمّا أَضَلَّ كثِيرًا مِنَ النّاس ِ، مِمَّنْ لا تَحْقِيْقَ عِنْدَهُمْ وَلا بَصِيرَة َ، حَتَّى ظنُّوْا أُوْلئِك َ المبْطِلِينَ أَوْلِيَاءَ للهِ صَالحِينَ : مَا أَظهَرَتهُ الشَّيَاطِينُ لهمْ مِنْ خَوَارِقَ شَيْطانِيَّةٍ ، وَأَحْوَال ٍ إبْلِيْسِيَّةٍ ، فطارَتْ بهمْ فِي الهوَاءِ ، وَحَمَلتْ أَرْجُلهُمْ حَتَّى مَشَوْا عَلى الماءِ ، وَأَوْحَتْ إليْهمْ بشَيْءٍ مِمّا اسْتَرَقتْهُ مِنَ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ ، فضَلَّ بذَلِك َ كثِيرٌ مِنَ الدَّهْمَاءِ وَالغوْغاء .
وَلمْ يَكنْ عِنْدَ هَؤُلاءِ مِنَ البَصِيرَةِ وَالعِلمِ وَالمعْرِفةِ ، مَا يُمَيِّزُوْنَ بهِ بَينَ أَوْلِياءِ الشَّيْطان ِ وَأَوْلِياءِ الرَّحْمَن ِ، وَلكِنْ سَمِعُوْا أَنَّ لأَوْلِياءِ اللهِ كرَامَاتٍ ، وَخَوَارِقَ لِلعَادَاتِ ، فلمّا رَأَوْا أَحْوَالَ أُوْلئِك َ الشَّيْطانِيَّةِ ، ظنُّوْا هَذَا كهَذَا ! فاسْتَحْوَذتْ عَليْهمُ اسْتِحْوَاذا .
وَقدِ اتفقَ أَوْلِيَاءُ الرَّحْمَن ِ عَلى : أَنَّ الرَّجُلَ لوْ طارَ فِي الهوَاءِ ، وَمََشَى عَلى الماءِ : لمْ يُعْتَبَرْ بذَلِك َ حَتَّى يُرَى صَلاحُهُ وَاسْتِقامَتُهُ ، وَوُقوْفهُ عِنْدَ حُدُوْدِ اللهِ ، وَاجْتِنَابهُ مَنَاهِيْهِ ، وَإتيَانهُ مَرَاضِيْه .
قالَ يُوْنسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلى الصَّدَفِيُّ:(قلتُ لِلشّافِعِيِّ ، كانَ الليْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقوْلُ:«إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ : فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة».(182/212)
فقالَ الشّافِعِيُّ:«قصَّرَ الليْثُ رَحِمَهُ الله ُ ! بَلْ إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ ، وَيَطِيرُ فِي الهوَاءِ : فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة»).
وَقالَ أَبوْ يَزِيْدَ البسْطامِيُّ:(لوْ نظرْتُمْ إلىَ رَجُل ٍ أُعْطِيَ مِنَ الكرَامَاتِ ، حَتَّى يرْفعَ فِي الهوَاءِ : فلا تَغْتَرُّوْا بهِ ، حَتَّى تَنْظرُوْا كيْفَ تجدُوْنهُ عِنْدَ الأَمْرِ وَالنَّهْيِّ ، وَحِفظِ الحدُوْدِ وَآدَابِ الشَّرِيْعَة) رَوَاهُ أَبوْ نعَيْمٍ في«الحِليَةِ»(10/40).
وَقالَ أَبوْ يَزِيْدَ أَيضًا:«الذِي يَمْشِي عَلى الماءِ ليْسَ بعَجَبٍ ! للهِ خَلقٌ كثِيرٌ يَمْشُوْنَ عَلى الماءِ ليْسَ لهمْ عِنْدَ اللهِ قِيْمَة» رَوَاهُ أَبوْ نعَيْمٍ فِي«الحِليَة»(10/39).
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ فِي«الفرْقان ِ، بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَن ِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطان»(ص168-169):(وَتَجِدُ كثِيرًا مِنْ هَؤُلاءِ ، عُمْدَتُهُمْ فِي اعْتِقادِ كوْنِهِ وَلِيًّا للهِ : أَنهُ قدْ صَدَرَ عَنْهُ مُكاشَفة ٌ فِي بَعْض ِ الأُمُوْرِ أَوْ بَعْض ِ التصَرُّفاتِ الخارِقةِ لِلعَادَةِ ، مِثْلَ أَنْ يُشِيْرَ إلىَ شَخْص ٍ فيَمُوْتُ ، أَوْ يَطِيْرَ في الهوَاءِ إلىَ مَكة َأَوْ غيرِهَا ، أَوْ يَمْشِيَ عَلى الماءِ أَحْيَانا ، أَوْ يَمْلأَ إبرِيقا مِنَ الهوَاءِ ، أَوْ يُنْفِقَ بَعْضَ الأَوْقاتِ مِنَ الغيْبِ ، أَوْ أَنْ يَخْتَفِيَ أَحْيَانا عَنْ أَعْيُن ِ النّاس ِ، أَوْ أَنْ بَعْضَ النّاس ِ اسْتَغاثَ بهِ وَهُوَ غائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ فرَآهُ قدْ جَاءَهُ فقضَى حَاجَتَهُ ، أَوْ يُخْبرَ النّاسَ بمَا سُرِقَ لهمْ ، أَوْ بحَال ِ غائِبٍ لهمْ أَوْ مَرِيْض ٍ أَوْ نَحْوِ ذلِك َ مِنَ الأُمُوْر .(182/213)
وَليْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُوْرِ مَا يَدُلُّ عَلى أَنَّ صَاحِبَهَا وَلِيٌّ للهِ ، بَلْ قدِ اتفقَ أَوْلِيَاءُ اللهِ عَلى : أَنَّ الرَّجُلَ لوْ طارَ فِي الهوَاءِ ، أَوْ مَشَى عَلى الماءِ ، لمْ يُغترَّ بهِ حَتَّى يُنْظرَ مُتَابعَتهُ لِرَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَافقتهُ لأَمْرِهِ وَنهْيِّه .
وَكرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالىَ أَعْظمُ مِنْ هَذِهِ الأُمُوْرِ، وَهَذِهِ الأُمُوْرُ الخارِقة ُ لِلعادَةِ ، وَإنْ كانَ قدْ يَكوْنُ صَاحِبُهَا وَلِيًّا للهِ ، فقدْ يَكوْنُ عَدُوًّا لله .
فإنَّ هَذِهِ الخوَارِقَ تَكوْنُ لِكثِيرٍ مِنَ الكفارِ وَالمشْرِكِينَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ وَالمنافِقِينَ ، وَتَكوْنُ لأَهْل ِ البدَعِ ، وَتَكوْنُ مِنَ الشَّيَاطِين .
فلا يَجُوْزُ أَنَّ يُظنَّ أَنَّ كلَّ مَنْ كانَ لهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الأُمُوْرِ : أَنهُ وَلِيٌّ للهِ ، بَلْ يُعْتَبرُ أَوْلِيَاءُ اللهِ بصِفاتِهمْ وَأَفعَالهِمْ وَأَحْوَالهِمْ التي دَلَّ عَليْهَا الكِتَابُ وَالسُّنَّة ُ، وَيُعْرَفوْنَ بنوْرِ الإيْمَان ِ وَالقرْآن ِ، وَبحقائِق ِ الإيْمَان ِ البَاطِنَةِ ، وَشَرَائِعِ الإسْلامِ الظاهِرَة) .
ثمَّ قالَ(ص224-226):(وَمِنْ هَذِهِ الأَرْوَاحِ الشَّيْطانِيَّةِ : الرُّوْحُ الذِي يزْعُمُ صَاحِبُ «الفتوْحَاتِ» أَنهُ أَلقى إليْهِ ذلِك َ
الكِتَابَ ! وَلهِذَا يَذْكرُ أَنوَاعًا مِنَ الخلوَاتِ بطعَامٍ مُعَيَّن ٍ، وَحَال ٍ مُعَيَّن .
وَهَذِهِ مِمّا تَفتَحُ لأَصْحَابهَا الاتِّصَالَ باِلجِنِّ وَالشَّيَاطِين ِ، فيَظنُّوْنَ ذلِك َ مِنْ كرَامَاتِ الأَوْلِيَاءِ ، وَإنمَا هُوَ مِنَ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّة).(182/214)
وَقالَ أَيْضًا فِي«الفرْقان»ِ(ص365-367): (وَكثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ قدْ لا يَعْرِفُ أَنَّ ذلِك َمِنَ الجِنِّ ، بَلْ قدْ سَمِعَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لهمْ كرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ لِلعَادَاتِ ، وَليْسَ عِنْدَهُ مِنْ حَقائِق ِ الإيْمَان ِ، وَمَعْرِفةِ القرْآن ِ مَا يُفرِّقُ بهِ بَينَ الكرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ ، وَبَينَ التَّلبيْسَاتِ الشَّيْطانِيةِ ، فيَمْكرُوْنَ بهِ بحسَبِ اعْتِقادِه .
فإنْ كانَ مُشْرِكا يَعْبُدُ الكوَاكِبَ وَالأَوْثانَ : أَوْهَمُوْهُ أَنهُ يَنْتَفِعُ بتِلك َ العِبَادَةِ ، وَيَكوْنُ قصْدُهُ الاسْتِشْفاعَ وَالتَّوَسُّلَ مِمَّنْ صَوَّرَ ذلِك َ الصَّنَمَ عَلى صُوْرَتِهِ مِنْ مَلكٍ ، أَوْ نبيٍّ ، أَوْ شَيْخٍ صَالِح .
فيَظنُّ أَنهُ صَالِحٌ ! وَتَكوْنُ عِبَادَتهُ فِي الحقِيْقةِ لِلشَّيْطان ِ، قالَ الله ُ تَعَالىَ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.
وَلهِذَا كانَ الذِيْنَ يَسْجِدُوْنَ لِلشَّمْس ِ وَالقمْرِ وَالكوَاكِبِ : يَقصِدُوْنَ السُّجُوْدَ لها ، فيُقارِنهَا الشَّيْطانُ عِنْدَ سُجُوْدِهِمْ لِيَكوْنَ سُجُوْدُهُمْ له .
وَلهِذَا يتمَثلُ الشَّيْطانُ بصُوْرَةِ مَنْ يَسْتَغِيْثُ بهِ المشْرِكوْنَ :
* فإنْ كانَ نصْرَانِيًّا ، وَاسْتَغَاثَ بجِرْجِسَ أَوْ غيرِهِ : جَاءَ الشَّيْطانُ فِي صُوْرَةِ جِرْجِسَ ، أَوْ مَنْ يَسْتَغِيْثُ به .
* وَإنْ كانَ مُنْتَسِبًا إلىَ الإسْلامِ ، وَاسْتَغَاثَ بشَيْخٍ يُحْسِنُ الظنَّ بهِ مِنْ شُيُوْخِ المسْلِمِينَ : جَاءَ فِي صُوْرَةِ ذلِك َ الشَّيْخ .
* وَإنْ كانَ مِنْ مُشْرِكِي الهِنْدِ : جَاءَ فِي صُوْرَةِ مَنْ يُعَظمُهُ ذلِك َ المشْرِك).(182/215)
وَقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ فِي«رَدِّهِ عَلى البَكرِيِّ» (2/480)-:(وَحُجَّتُهُمْ : أَنَّ طائِفة ً مِنَ النّاس ِ اسْتَغَاثوْا بحيٍّ أَوْ مَيِّتٍ : فرَأَوْهُ قدْ أَتى فِي الهوَاءِ ، وَقضَى بَعْضَ تِلك َ الحوَائِجِ ، وَأَخبرَ ببَعْض ِ مَا سُئِلَ عَنْه !
وَهَذَا كثِيرٌ وَاقِعٌ فِي المشْرِكِينَ الذِيْنَ يَدْعُوْنَ الملائِكة َ وَالأَنبيَاءَ وَالصّالحِينَ وَالكوَاكِبَ وَالأَوْثانَ ، فإنَّ الشَّيَاطِينَ كثِيرًا مَا تَتَمَثلُ لهمْ فيَرَوْنهَا قدْ تُخَاطِبُ أَحَدَهُمْ وَلا يرَاهَا .
وَلوْ ذكرْتُ مَا أَعْلمُ مِنَ الوَقائِعِ الموْجُوْدَةِ فِي زَمَانِنَا مِنْ هَذَا : لطالَ هَذَا المقام .
وَكلمَا كانَ القوْمُ أَعْظمَ جَهْلا ً وَضَلالا ً: كانتْ هَذِهِ الأَحْوَالُ الشَّيْطانِيَّة ُ عِنْدَهُمْ أَكثر .
وَقدْ يَأْتِي الشَّيْطانُ أَحَدَهُمْ بمَال ٍ، أَوْ طعَامٍ ، أَوْ لِبَاس ٍ، أَوْ غيرِ ذلِك َ، وَهُوَ لا يَرَى أَحَدًا أَتاهُ بهِ ، فيَحْسَبُ ذلِك َ كرَامَة ً، وَإنمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطان.
وَسَببُهُ : شِرْكهُ باِللهِ تَعَالىَ ، وَخُرُوْجُهُ عَنْ طاعَةِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إلىَ طاعَةِ الشَّيَاطِين ِ فأَضَلتْهُمُ الشَّيَاطِينُ بذَلِك َ، كمَا كانتْ تُضِلُّ عُبّادَ الأَصْنَام .
وَمِثْلُ هَذِهِ الأَحْوَال ِ، لا تَكوْنُ مِنْ كرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالىَ المتقِين).
وَقالَ رَحِمَهُ الله ُفِي مَوْضِعٍ آخَرَ (13/91):(فصَارَ كثِيرٌ مِنَ النّاس ِ لا يَعْلمُوْنَ مَا لِلسَّحَرَةِ وَالكهّان ِ، وَمَا يَفعَلهُ الشَّيَاطِينُ مِنَ العَجَائِبِ ، وَظنوْا أَنهَا لا تَكوْنُ إلا َّ لِرَجُل ٍ صَالِحٍ ، فصَارَ مَنْ ظهَرَتْ هَذِهِ لهُ ، يَظنُّ أَنها كرَامَة ٌ، فيَقوَى قلبهُ بأَنَّ طرِيقتهُ هِيَ طرِيقة ُ الأَوْلِيَاء .(182/216)
وَكذَلِك َ غيْرُهُمْ : يَظنُّ فِيْهِ ذلِك َ ثمَّ يَقوْلوْنَ :«الوَلِيُّ إذا تَوَلىَّ لا يُعْتَرَضُ عَليْه»!
فمِنْهُمْ : مَنْ يَرَاهُ مُخالِفا لِمَا عُلِمَ باِلاضْطِرَارِ مِنْ دِيْنِ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِثْلَ تَرْكِ الصَّلاةِ المفرُوْضَةِ ، وَأَكل ِ الخبَائِثِ كالخمْرِ وَالحشِيْشَةِ وَالميْتةِ وَغيرِ ذلِك َ، وَفِعْل ِ الفوَاحِش ِ، وَالفحْش ِ، وَالتَّفحُّش ِ فِي المنْطِق ِ، وَظلمِ النّاس ِ، وَقتْل ِ النَّفس ِ بغيْرِ حَقٍّ ، وَالشِّرْكِ باِلله .
وَهُوَ مَعَ ذلِك َ: يُظنُّ فِيْهِ أَنهُ وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ ! قدْ وَهَبَهُ هَذِهِ الكرَامَاتِ بلا عَمَل ٍ! فضْلا ً مِنَ اللهِ تَعَالىَ !
وَلا يَعْلمُوْنَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَعْمَال ِ الشَّيَاطِين ِ، وَأَنَّ هَذِهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِين ِ، تُضِلُّ بهَا النّاسَ وَتُغْوِيْهمْ .
وَدَخَلتِ الشَّيَاطِينُ فِي أَنوَاعٍ مِنْ ذلِك َ، فتارَة ً يَأْتوْنَ الشَّخْصَ فِي النَّوْمِ يَقوْلُ أَحَدُهُمْ :«أَنا أَبوْ بَكرٍ الصِّدِّيقُ ! وَأَنا أُتوِّبك َ لِي وَأَصِيرُ شَيْخَك َ! وَأَنتَ تتوِّبُ النّاسَ لِي!» وَيُلبسُه .
فيُصْبحُ وَعَلى رَأْسِهِ مَا أَلبَسَهُ ! فلا يَشُك ُّ أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الذِي جَاءَهُ ، وَلا يَعْلمُ أَنهُ الشَّيْطان .
وَقدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا لِعِدَّةٍ مِنَ المشَايخِ باِلعِرَاق ِ وَالجزِيرَةِ وَالشّام .
وَتَارَة ً يَقصُّ شَعْرَهُ فِي النَّوْمِ، فيُصْبحُ فيَجِدُ شَعْرَهُ مَقصُوْصًا ! وَتَارَة ً يَقوْلُ:«أَنا الشَّيْخُ فلانٌ» ، فلا يَشُكُّ أَنَّ الشَّيْخَ نفسَهُ جَاءَهُ وَقصَّ شَعْرَه .(182/217)
وَكثِيرًا مَا يَسْتَغِيْثُ الرَّجُلُ بشَيْخِهِ الحيِّ أَوِ الميِّتِ : فيَأْتوْنهُ فِي صُوْرَةِ ذلِك َ الشَّيْخِ ، وَقدْ يُخَلصُوْنهُ مِمّا يَكرَهُ ، فلا يَشُك ُّ أَنَّ الشَّيْخَ نفسَهُ جَاءَهُ ، أَوْ أَنَّ مَلكا تَصَوَّرَ بصُوْرَتِهِ وَجَاءَه .
وَلا يَعْلمُ أَنَّ ذلِك َ الذِي تَمَثلَ إنمَا هُوَ الشَّيْطانُ لمّا أَشْرَك َ باِللهِ : أَضَلتهُ الشَّيَاطِينُ . وَالملائِكة ُ لا تُجِيْبُ مُشْرِكا)اه كلامُهُ رَحِمَهُ الله .
وَقالَ القرْطبيُّ رَحِمَهُ الله ُ فِي«تفسِيرِهِ» عِنْدَ قوْل ِ اللهِ تَعَالىَ : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ }:
(قالَ عُلمَاؤُنا رَحْمَة ُ اللهِ عَليْهمْ:«وَمَنْ أَظهَرَ الله ُ تَعَالىَ عَلى يَدَيْهِ مِمَّنْ ليْسَ بنَبيٍّ كرَامَاتٍ ، وَخَوَارِقَ لِلعَادَاتِ : فليْسَ ذلِك َ دَالا ًّ عَلى وَلايتِه».
خِلافا لِبَعْض ِ الصُّوْفِيَّةِ وَالرّافِضَةِ ، حَيْثُ قالوْا :«إنَّ ذلِك َ يَدُلُّ عَلى أَنهُ وَلِيٌّ , إذْ لوْ لمْ يَكنْ وَلِيًّا مَا أَظهَرَ الله ُ عَلى يَدَيْهِ مَا أَظهَر !».
وَدَلِيْلنا : أَنَّ العِلمَ بأَنَّ الوَاحِدَ مِنّا وَلِيٌّ للهِ تَعَالىَ ، لا يَصِحُّ إلا َّ بَعْدَ العِلمِ بأَنهُ يَمُوْتُ مُؤْمِنًا . وَإذا لمْ يُعْلمْ أَنهُ يَمُوْتُ مُؤْمِنًا : لمْ يُمْكِنّا أَنَّ نقطعْ عَلى أَنهُ وَلِيٌّ للهِ تَعَالىَ , لأَنَّ الوَلِيَّ للهِ تَعَالىَ مِنْ عِلمِ اللهِ تَعَالىَ أَنهُ لا يُوَافِي إلا َّ باِلإيْمَان .
وَلمّا اتفقنا عَلى أَننا لا يُمْكِننا أَنْ نقطعَ عَلى أَنَّ ذلِك َ الرَّجُلَ يوَافِي باِلإيْمَان ِ, وَلا الرَّجُلُ نفسُهُ يَقطعُ عَلى أَنهُ يُوَافِي باِلإيْمَان ِ: عُلِمَ أَنَّ ذلِك َ ليْسَ يدُلُّ عَلى وَلايتِهِ لله .(182/218)
قالوْا :«وَلا نمْنَعُ أَنْ يُطلِعَ الله ُ بَعْضَ أَوْلِيَائِهِ عَلى حُسْن ِ عَاقِبتِهِ ، وَخاتِمَةِ عَمَلِهِ ، وَغيرَهُ مَعَهُ» قالهُ الشَّيْخُ أَبوْ الحسَن ِ الأَشْعَرِيُّ وَغيرُه)اه .
وَنقلَ الحافِظ ُ ابْنُ كثِيرٍ كلامَ القرْطبيِّ السّابق ِ فِي«تفسِيرِهِ» عِنْدَ الآيةِ نفسِهَا ، ثمَّ قالَ عَقِبَهُ :( وَقدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلى أَنَّ الخارِقَ قدْ يَكوْنُ عَلى يدِ غيرِ الوَلِيِّ ، بَلْ قدْ يَكوْنُ عَلى يدِ الفاجِرِ وَالكافِرِ أَيضًا ، بمَا ثبَتَ عَن ِ ابن ِ صَيّادٍ أَنهُ قالَ:«هُوَ الدُّخُّ» حِينَ خَبَّأَ لهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } ( - رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1355)، (3055)،(6173)،(6618) وَمُسْلِمٌ(2931) مِنْ حَدِيْثِ ابن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا.).
وَبمَا كانَ يَصْدُرُ عَنْهُ : أَنهُ كانَ يَمْلأُ الطرِيقَ إذا غضِبَ حَتَّى ضَرَبهُ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(6/283) وَمُسْلِم(2932).) !
وَبمَا ثبتَتْ بهِ الأَحَادِيْثُ عَن ِ الدَّجّال ِ، بمَا يَكوْنُ عَلى يدَيهِ مِنَ الخوَارِق ِ الكثِيرَةِ ، مِنْ أَنهُ يَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فتُمْطِرُ ! وَالأَرْضَ أَنْ تُنْبتَ فتُنْبتُ ! وَتتْبَعُهُ كنوْزُ الأَرْض ِ مِثلَ اليعَاسِيْب( - رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(2937) مِنْ حَدِيْثِ النوّاس ِ بْن ِ سَمْعَانَ رَضِيَ الله ُ عَنْه.) ! وَأَنْ يَقتُلَ ذلِك َ الشّابَّ ثمَّ يُحْييْه( - رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1882) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(2938) مِنْ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ.) ! إلىَ غيرِ ذلِك َ مِنَ الأُمُوْرِ المهُوْلة .(182/219)
وَقدْ قالَ يُوْنسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلى الصَّدَفِيُّ:(قلتُ لِلشّافِعِيِّ ، كانَ الليْثُ بْنُ سَعْدٍ يَقوْلُ:«إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ ، فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة».
فقالَ الشّافِعِيُّ:«قصَّرَ الليْثُ رَحِمَهُ الله ُ ! بَلْ إذا رَأَيتمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلى الماءِ ، وَيَطِيرُ فِي الهوَاءِ ، فلا تَغْترُّوْا بهِ حَتَّى تَعْرِضُوْا أَمْرَهُ عَلى الكِتَابِ وَالسُّنَّة»)اه كلامُ ابنُ كثِيرٍ رَحِمَهُ الله .
وَقالَ أَبوْ عَبْدِ اللهِ الذَّهَبيُّ في«سِيَرِ أَعْلامِ النُّبَلاءِ» (22/179):(فلا يغترُّ المسْلِمُ بكشْفٍ وَلا بحَال ٍ، وَلا بإخْبَارٍ عَنْ مُغيبٍ ، فابنُ صَائِدٍ وَإخْوَانهُ مِنَ الكهَنَةِ ، لهمْ خَوَارِق !
وَالرُّهْبَانُ فِيْهمْ مَنْ قدْ تمَزَّقَ جُوْعًا وَخَلوَة ً وَمُرَاقبة ً عَلى غيرِ أَسَاس ٍ وَلا تَوْحِيْدٍ : فصَفتْ كدُوْرَاتُ أَنفسِهمْ ، وَكاشَفوْا وَفشرُوْا ، وَلا قدْوَة َ إلا َّ في أَهْل ِ الصَّفوَةِ ، وَأَرْبابِ الوَلايةِ المنوْطةِ باِلعِلمِ وَالسُّنن ِ، فنسْأَلُ الله َ إيْمَانَ المتقِينَ ، وَتأَلهَ المخْلِصِين)اه.
قلتُ : قدْ صَدَقَ رَحِمَهُ الله ُ، فلا يُغْتَرُّ بعَمَل ِ عَامِل ٍ، وَلا اجْتِهَادِ مُجْتَهدٍ ، وَلا تنسُّكِ مُتنسِّكٍ زَاهِدٍ ، حَتَّى يَكوْنَ عَمَلهُ خالِصًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مُوَافِقا لِشَرْعِهِ ، غيرَ مُخالِفٍ له .
لهِذَا كانتِ الأَعْمَالُ مُعَلقة ً في قبُوْل ِ اللهِ تَعَالىَ لها بشَرْطين ِ:
أَحَدِهِمَا : أَنْ تَكوْنَ خَالِصَة ً للهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مُبْتَغًى بهَا وَجْهُهُ سُبْحَانه .
وَالآخَرِ: أَنْ تَكوْنَ مُوَافِقة ً لِسُنَّةِ نبيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(182/220)
فدَلِيْلُ الأَوَّل ِ: قوْلهُ تَعَالىَ: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } .
وَقوْلهُ سُبْحَانهُ في الحدِيْثِ القدْسِيِّ:«أَنا أَغنى الشُّرَكاءِ عَن ِ الشِّرْكِ ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا ً أَشْرَك َ فِيْهِ مَعِيَ غيْرِي : ترَكتهُ وَشِرْكه» رَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(2985) مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيْرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
وَدَلِيْلُ الثانِي : قوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنا هَذَا مَا ليْسَ مِنْهُ : فهُوَ رَدّ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(6/240و270) وَالبُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(2697) وَمُسْلِمٌ(1718) مِنْ حَدِيْثِ أُمِّ المؤْمِنِينَ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا .
وَفي رِوَايةٍ عِنْدَ الإمَامِ أَحْمَدَ في«مُسْنَدِهِ»(6/146و180و256) وَمُسْلِمٍ (1718) :(مَنْ عَمِلَ عَمَلا ً ليْسَ عَليْهِ أَمْرُنا : فهُوَ رَدّ) ، وَقدْ عَلقهَا البُخارِيُّ أَيضًا في«صَحِيْحِهِ» مَجْزُوْمًا بهَا .
وَالأَدِلة ُ عَلى هَذَين ِ الشَّرْطين ِ كثِيرَة .
وَمَتَى تخلفَ هَذَان ِ الأَمْرَان ِأَوْ أَحَدُهُمَا : كانَ ذلِك َ العَمَلُ بَاطِلا ً فاسِدًا ، ليْسَ لِصَاحِبهِ مِنْهُ إلا َّ المشقة ُ في الدُّنيا ، وَالعَذَابُ في الآخِرَة .(182/221)
لهِذَا لمْ تنفعِ الرُّهْبَانَ - المتنسِّكِينَ المتعَبِّدِينَ ، الخالِينَ في الفلوَاتِ لِلعِبَادَةِ وَالصَّلوَاتِ- أَعْمَالهمْ ، وَهُمْ لمْ يُؤْمِنُوْا بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيتابعُوْهُ في شَرْعِهِ ، وَإنْ كانتْ أَعْمَالهمْ خَالِصَة ً للهِ عَزَّ وَجَلَّ ، لا يُرِيْدُوْنَ بهَا جَاهًا عِنْدَ أَحَدٍ وَلا رِياءًا . بَلْ أَصْبَحَتْ أَعْمَالهمْ عَليْهمْ حَسْرَة ً وَمَشَقة ً، قالَ سُبْحَانهُ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}.
وَأَخْرَجَ الحافِظ ُ أَبوْ بَكرٍ البَرْقانِيُّ في«صَحِيْحِهِ» مِنْ طرِيق ِ أَبي عِمْرَانَ الجوْنِيِّ قالَ :(مَرَّ عُمَرُ بْنُ الخطابِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ بدِيرِ رَاهِبٍ فنادَاهُ :«يا رَاهِب» !
فأَشْرَفَ ، فجَعَلَ عُمَرُ ينْظرُ إليْهِ وَيبْكِي !
فقِيْلَ لهُ : يا أَمِيرَ المؤْمِنِينَ مَا يبْكِيْك َ مِنْ هَذَا ؟!
قالَ : «ذكرْتُ قوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابهِ { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً } فذَاك َ الذِي أَبكانِي»).
وَحُجَّة ُ هَؤُلاءِ الجاهِلِينَ الضّالينَ فِي كوْن ِ أَئِمَّةِ مُشْرِكِيْهمْ أَوْلِيَاءَ صَالحِينَ ، هُوَ تِلك َ المخارِيقُ الشَّيْطانِيَّة !(182/222)
فليْتَ شِعْرِي أَيُّ دَرَجَاتِ الوَلايةِ بَلغَ عِنْدَهُمُ ابْنُ صَيّادٍ ؟! وَأَيُّ الرُّتبِ سَيَحُلهَا عِنْدَهُمُ المسِيْحُ الدَّجّال؟! فمَا سَيَأْتي بهِ لا يَسْتَطِيْعُهُ رُؤُوْسُهُمْ وَلوِ اجْتَمَعَتْ لهُ ، وَليْسَ مِنْ فِتنَةٍ أَعْظمُ وَأَخْوَفُ عَلى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ ، فإنهُ يَأْمُرُ السَّمَاءَ لِلمُؤْمِنِينَ بهِ فتُمْطِرُ ! وَالأَرْضَ فتنْبتُ ! فتَرُوْحُ عَليْهمْ سَارِحَتُهُمْ أَطوَلَ مَا كانتْ ذرًّا ، وَأَسْبَغهُ ضُرُوْعًا ، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِر .
وَيَأْمُرُهُمَا لِلكافِرِينَ بهِ أَنْ يُمْسِكا : فيُصْبحُوْنَ مُمْحِلِينَ مُجْدِبينَ ، ليْسَ بأَيدِيْهمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالهِمْ ! وَيَمُرُّ باِلخرِبةِ فيقوْلُ لها:«أَخْرِجِي كنُوْزَكِ» فتتْبعُهُ كنُوْزُهَا كيَعَاسِبِ النَّحْل ! ثمَّ يَدْعُوْ رَجُلا ً مُمْتَلِئًا شَبَابًا فيَضْرِبهُ باِلسَّيْفِ فيَقطعُهُ جِزْلتين ِ، رَمْيَة َ الغَرَض ِ، ثمَّ يَدْعُوْهُ فيُقبلُ وَيَتَهَللُ وَجْهُهُ يَضْحَك !
وَهَذِهِ المخارِيْقُ الشَّيْطانِية ُ ثابتَة ٌ لإمَامِ الدَّجَاجِلةِ ،كمَا فِي«صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»(2937) وَغيرِهِ، وَأَخبَارُهُ كثِيرَة ٌ، وَحَسْبُك َ مِنْهَا مَا تقدَّم.
وَمَنْ كانَ ضَابط ُ الوَلايةِ عِنْدَهُ تِلك َ المخارِيْقَ الشَّيْطانِيَّة َ: فإمَامُ أَوْلِيَائِهِ ، وَشَيْخُ مَشَايخِهِ : هَذَا الدَّجّال .
وَمَا عَظمَتْ فِتْنَتهُ ، وَعَمَّتْ بَليَّتُهُ إلا َّ لِعُقوْل ٍ تَرُوْجُ عَليْهَا هَذِهِ التَّلبيْسَاتُ ، وَمِنْ ضَعْفِ الإيْمَان ِ وَالعِلمِ وَاليَقِين .(182/223)
وَإلا َّ فالمبْصِرُ : حَالهُ كحَال ِ ذلِك َ المؤْمِن ِ الذِي خَرَجَ لِلدَّجَال ِ، مُبْصِرًا سِرَّ خَوَارِقِهِ ، عارِفا حَقِيْقة َ أَمْرِهِ ، مُوْقِنًا بوَعْدِ رَبهِ وَخبَرِ نبيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ليْسَ فِي رِيْبَةٍ مِنْ شَيْءٍ قدْ أَتتْ بهِ رُسُلهُ ، فيَخْرُجُ لِلدَّجّال ِ حَتَّى إذا بَدَا لهُ الدَّجّالُ قالَ لِلنّاس ِ:«يَا أَيهَا النّاسُ هَذَا الدَّجّالُ الذِي ذكرَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ».
فيَأْمُرُ الدَّجّالُ بهِ عِنْدَ ذلِك َ فيُشَبَّحُ ، فيقوْلُ:«خُذُوْهُ وَشُجُّوْهُ» ، فيُوْسَعُ ظهْرُهُ وَبَطنهُ ضَرْبًا ، فيَقوْلُ لهُ الدَّجّالُ : أَوَمَا تُؤْمِنُ بي؟
فيَقوْلُ:«أَنتَ المسِيْحُ الكذّاب».
فيَأْمُرُ بهِ فيُؤْشَرُ بالمِئْشَارِ مِنْ مَفرِقِهِ حَتَّى يفرُقَ بينَ رِجْليْهِ ، ثمَّ يَمْشِي الدَّجّالُ بَينَ القِطعَتَين ِ، ثمَّ يَقوْلُ لهُ :«قمْ» فيَسْتوِي قائِمًا ، ثمَّ يَقوْلُ لهُ :«أَتُؤْمِنُ بي؟!»
فيَقوْلُ :«مَا ازْدَدْتُ فِيْك َ إلا َّ بَصِيرَة ً».
ثمَّ يَقوْلُ :«يَا أَيهَا النّاسُ ، إنهُ لا يَفعَلُ بَعْدِي بأَحَدٍ مِنَ النّاس».
فيَأْخُذُهُ الدَّجّالُ لِيَذْبحَهُ ، فيُجْعَلُ مَا بَينَ رَقبتِهِ إلىَ تِرْقوَتِهِ نحَاسًا فلا يَسْتَطِيْعُ إليْهِ سَبيْلا ً. فيَأْخُذُ بيَدَيهِ وَرِجْليْهِ فيَقذِفُ بهِ ،
فيَحْسَبُ النّاسُ أَنمَا قذَفهُ إلىَ النارِ ، وَإنمَا أُلقِيَ فِي الجنة .
فقالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«هَذَا أَعْظمُ النّاس ِ شَهَادَة ً عِنْدَ رَبِّ العَالمِينَ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ»(1882) وَمُسْلِمٌ(2938) وَاللفظ ُ له .
* * *
فصل(182/224)
في تَمَثل ِ الشَّيَاطِين ِ باِلمقبُوْرِينَ المسْتَغَاثِ بهمْ وَالمعْبُوْدِينَ ، تَغْرِيرًا بعُبّادِهِمْ وَإضْلالا ً لهمْ ! كمَا كانتْ تصْنَعُ بأَسْلافِهمْ مِنَ عُبّادِ الأَصْنَام
ثمَّ غرَّرَتْ بهمُ الشَّيَاطِينُ حَتَّى عَبَدُوْا أُوْلئِك َ المنْسُوْبينَ زُوْرًا إلىَ الصَّلاحِ وَالاسْتِقامَةِ ، أَحْيَاءً وَمَيِّتِينَ ، فتَمَثلتْ لهمْ بصُوَرِ رِجَال ٍ صَالحِينَ قدْ مَاتوْا أَوْ مَا زَالوْا حَيِّينَ ، يُخاطِبُوْنهُمْ فيُكلمُوْهُمْ ، وَيَدْعُوْنَهُمْ فيُجِيْبُوْا دَعَوَاتِهمْ وَيُغِيْثُوْا لهفاتِهمْ ، وَيُنَجُّوْا هَلكاهُمْ ، وَيُخْرِجُوْا غرْقاهُمْ .
حَتَّى عَلقتْهُمْ وَزَادَتْ تَعَلقهُمْ فِيْهمْ ، فأَصْبَحُوْا يَدْعُوْنَهَا فِي كلِّ كبيرٍ وَصَغِيرٍ ، وَكلِّ عَظِيْمٍ وَحَقِير .
كمَا كانَتْ تَفعَلُ الشَّيَاطِينُ مَعَ عُبّادِ الأَصْنَامِ ، وَالملائِكةِ وَغيرِهِمْ مِنَ المشْرِكِينَ قبْلهُمْ .
فكانَتْ تَدْخُلُ فِي الأَصْنَامِ وَتُخَاطِبُهُمْ ، وَتَقضِي لهمْ شَيْئًا مِنْ حَوَائِجِهمْ ، حَتَّى أَضَلتْهُمْ ، وَزَيَّنَتْ لهمْ شِرْكهُمْ .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ- كمَا فِي«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»(1/360)-: (وَمِنْ هَؤُلاءِ : مَنْ يَأْتِي إلىَ قبْرِ الشَّيْخِ الذِي يُشْرِك ُ بهِ وَيَسْتَغِيْثُ بهِ ، فينزِلُ عَليْهِ مِنَ الهوَاءِ طعامٌ ، أَوْ نفقة ٌ، أَوْ سِلاحٌ ، أَوْ غيرُ ذلِك َ،
مِمّا يَطلبُهُ ، فيَظنُّ ذلِك َ كرَامَة ً لِشَيْخِهِ ، وَإنمَا ذلِك َ كلهُ مِنَ الشَّيَاطِين .
وَهَذَا مِنْ أَعْظمِ الأَسْبَابِ التي عُبدَتْ بهَا الأَوْثانُ ، وَقدْ قالَ الخلِيْلُ عَليْهِ السَّلامُ: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ } كمَا قالَ نوْحٌ عَليْهِ السَّلام .(182/225)
وَمَعْلوْمٌ : أَنَّ الحجَرَ لا يُضِلُّ كثِيرًا مِنَ النّاس ِ إلا َّ بسَبَبٍ اقتَضَى ضَلالهمْ ، وَلمْ يَكنْ أَحَدٌ مِنْ عُبّادِ الأَصْنَامِ يَعْتَقِدُ أَنهَا خَلقتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، بَلْ إنمَا كانوْا يَتَّخِذُوْنَهَا شُفعَاءَ وَوَسَائِط َ لأَسْبَاب :
مِنْهُمْ : مَنْ صَوَّرَهَا عَلى صُوَرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِين .
وَمِنْهُمْ : مَنْ جَعَلهَا تَمَاثِيْلَ وَطلاسِمَ لِلكوَاكِبِ وَالشَّمْس ِ وَالقمَر .
وَمِنْهُمْ : مَنْ جَعَلهَا لأَجْل ِ الجنّ .
وَمِنْهُمْ : مَنْ جَعَلهَا لأَجْل ِ الملائِكة .
فالمعْبُوْدُ لهمْ فِي قصْدِهِمْ : إنمَا هُوَ الملائِكة ُ وَالأَنبيَاءُ وَالصّالحِوْنَ أَوِ الشَّمْسُ أَوِ القمَر .
وَهُمْ فِي نفس ِ الأَمْرِ يَعْبُدُوْنَ الشَّيَاطِينَ : فهيَ التي تَقصِدُ مِنَ الإنس ِ أَنْ يَعْبُدُوْهَا ، وَتُظهرُ لهمْ مَا يَدْعُوْهُمْ إلىَ ذلِك َ كمَا قالَ تَعَالىَ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ }.
وَإذا كانَ العابدُ مِمَّنْ لا يَسْتَحِلُّ عِبَادَة َ الشَّيَاطِين ِ: أَوْهَمُوْهُ أَنهُ إنمَا يَدْعُوْ الأَنْبيَاءَ وَالصّالحِينَ وَالملائِكة َ وَغيرَهُمْ مِمَّنْ يُحْسِنُ العَابدُ ظنَّهُ به .
وَأَمّا إنْ كانَ مِمَّنْ لا يُحَرِّمُ عِبَادَة َ الجِنِّ : عَرَّفوْهُ أَنهُمُ الجِنّ)اه كلامُ شَيْخِ الإسْلام .(182/226)
وَهَذَا حَقٌّ لا رَيْبَ فِيْهِ وَلا مِرْية َ، لهِذَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ الإمَامِ أَحْمَدَ فِي«زَوَائِدِهِ عَلى مُسْنَدِ أَبيْهِ»(5/135) قالَ:(حَدَّثنَا هُدْبة ُ بنُ عَبْدِ الوَهّابِ وَمَحْمُوْدُ بْنُ غيْلانَ قالا:حَدَّثنَا الفضْلُ بْنُ مُوْسَى أَخْبرَنا حُسَينُ بْنُ وَاقِدٍ عَن ِ الرَّبيْعِ بْن ِ أَنس ٍ عَنْ أَبي العَالِيَة َ عَنْ أُبيّ بْن ِ كعْبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } قالَ أُبيٌّ :«مَعَ كلِّ صَنَمٍ جِنيَة») اه.
وَأَرْسَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا فتحَ مَكة َ- خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ إلىَ العُزَّى ، فهَدَمَهَا ، وَوَجَدَ عِنْدَهَا شَيْطانة ً كانتْ تُضِلُّ النّاسَ لِيَعْبُدُوْا العُزَّى : فقتلها . وَكانَ ذلِك َ لِخَمْس ِ ليال ٍ بقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَة َ ثمَان .
فرَوَى النَّسَائِيُّ في«سُننِهِ الكبرَى»(11547)(6/474): عَنْ عَلِيِّ بن ِ المنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بن ِ فضيْل ٍ عَن ِ الوَلِيْدِ بن ِجُمَيْعٍ عَنْ أَبي الطفيْل ِ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمّا فتحَ مَكة َ: بعَثَ خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ إلىَ نخلة َ، وَكانتْ بهَا العُزَّى لِيهْدِمَهَا .
فأَتاهَا خَالِدٌ - وَكانتِ العُزَّى عَلى ثلاثِ سَمُرَاتٍ - فقطعَ السَّمُرَاتِ ، وَهَدَمَ البيْتَ الذِي كانَ عَليْهَا .
ثمَّ أَتى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَخْبرَه .
فقالَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«ارْجِعْ ! فإنك َ لمْ تصْنَعْ شَيْئًا».
فرَجَعَ خَالِدٌ ، فلمّا أَبصَرَتْ بهِ السَّدَنة ُ- وَهُمْ حَجَبَتهَا- أَمْعَنُوْا في الجبل ِ وَهُمْ يقوْلوْنَ : يا عُزَّى خَبِّلِيْهِ ! يَا عُزَّى عَوِّرِيهِ !(182/227)
فأَتاهَا خَالِدٌ ، فإذا هِيَ امْرَأَة ٌ عُرْيانة ٌ ! ناشِرَة ٌ شَعْرَهَا ، تحْتفِنُ التُّرَابَ عَلى رَأْسِهَا !
فعَمَّمَهَا خَالِدٌ باِلسَّيْفِ فقتلهَا ، ثمَّ رَجَعَ إلىَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَخْبرَهُ الخبرَ ، فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«تِلك َ العُزَّى».
وَرَوَاهُ :
- أَبوْ نعَيْمٌ الأَصْبَهَانِيُّ في«دَلائِل ِالنُّبُوَّةِ»(ص469) مِنْ طرِيق ِ عَلِيِّ بن ِ المنْذِرِ به .
- وَأَبوْ يعْلى الموْصِلِيُّ في«مُسْنَدِهِ»(2/196-197)(902) : حَدَّثنَا أَبوْ كرَيْبٍ حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بنُ فضيْل ٍ به .
- وَالبَيْهَقِيُّ في«دَلائِل ِ النُّبُوَّةِ»(5/77) مِنْ طرِيق ِ أَبي يعْلى الموْصِلِيُّ به .
وَأَخْرَجَ الأَزْرَقِيُّ في«أَخْبَارِ مَكة»(1/126): عَن ِ ابن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا -وَذكرَ اللاتَ وَالعُزَّى- فقالَ:(كانَ العُزَّى ثلاثُ شَجَرَاتٍ سَمُرَاتٍ بنخلة .
وَكانَ أَوَّلَ مَنْ دَعَا إلىَ عِبَادَتِهَا : عَمْرُو بنُ رَبيْعَة َ، وَالحارِثُ بنُ كعْب .
وَكانَ في كلِّ وَاحِدَةٍ شَيْطانا يعْبَد .
فلمّا بعَثَ الله ُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثَ بَعْدَ الفتْحِ خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ إلىَ العُزَّى لِيَقطعَهَا فقطعَهَا ، ثمَّ جَاءَ خَالِدٌ إلىَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فقالَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَا رَأَيتَ فِيْهنّ ؟»
قالَ : لا شَيْء .
فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«مَا قطعْتهُنَّ ! فارْجِعْ فاقطعْ».
فرَجَعَ فقطعَ ، فوَجَدَ تَحْتَ أَصْلِهَا امْرَأَة ً ! ناشِرَة ً شَعْرَهَا ! قائِمَة ً عَليْهنَّ ، كأَنهَا تنُوْحُ عَليْهنّ !
فرَجَعَ فقالَ : إني رَأَيتُ كذَا وَكذَا !
فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«صَدَقتَ».(182/228)
وَأَخْرَجَ الأَزْرَقِيُّ أَيضًا في«أَخْبَارِ مَكة»(1/127): عَنْ مُحَمَّدِ بن ِ السّائِبِ الكلبيُّ قالَ :(كانتْ بنوْ نصْرٍ وَجُشَمُ وَسَعْدُ بنُ بَكرٍ ، وَهُمْ عَجُزُ هَوَازِنَ يعْبُدُوْنَ العُزَّى .
وَكانتِ اللاتُ وَالعُزَّى وَمَنَاة ُ في كلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَيْطانة ٌ تُكلمُهُمْ وَترَاءَا لِلسَّدَنةِ - وَهُمُ الحجَبَة ُ- وَذلِك َ مِنْ صَنِيْعِ إبلِيْسَ وَأَمْرِه).
وَأَخْرَجَ الأَزْرَقِيُّ كذَلِك َفي«أَخْبَارِ مَكة»(1/127-129): عَنْ سَعِيْدِ بن ِ عَمْرٍو الهذَلِيِّ قالَ:(قدِمَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكة َيوْمَ الجمُعَةِ لِعَشْرٍ بقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَان).
ثمَّ ذكرَ سَعِيْدٌ : أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَثَ خَالِدَ بنَ الوَلِيْدِ إلىَ العُزَّى لِيَهْدِمَهَا ، فخَرَجَ خَالِدٌ في ثلاثِينَ فارِسا مِنْ أَصْحَابهِ إلىَ العُزَّى ، حَتَّى انتهَى إليْهَا فهَدَمَهَا .
ثمَّ رَجَعَ إلىَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ لهُ :«أَهَدَمْتَ؟».
قالَ : نعَم ، يا رَسُوْلَ الله .
قالَ :«هَلْ رَأَيتَ شَيْئًا ؟».
قالَ : لا .
قالَ :«فإنك َ لمْ تهْدِمْهَا ! فارْجِعْ إليْهَا فاهْدِمْهَا».
فخَرَجَ خَالِدُ بنُ الوَلِيْدِ - وَهُوَ مُتَغَيِّظ ٌ- فلمّا انتهَى إليْهَا جَرَّدَ سَيْفهُ ، فخَرَجَتِ امْرَأَة ٌ سَوْدَاءُ عُرْيانة ٌ ! ناشِرَة ٌ شَعْرَهَا !
فجَعَلَ السّادِنُ يَصِيْحُ بهَا – قالَ خَالِدٌ : وَأَخَذَنِي اقشِعْرَارٌ في ظهْرِي- وَيقوْلُ :
أَعُزَّى ! شُدِّي شَدَّة ً لا تُكذِّبي
أَعُزَّى ! أَلق ِ القِنَاعَ وَ شَمِّرِي
أَعُزَّى ! إنْ لمْ تقتلِي المرْءَ خَالِدًا
فبوْئِي بإثمٍ عَاجِل ٍ أَوْ تنصَّرِي
فأَقبلَ خَالِدٌ باِلسَّيْفِ إليْهَا وَهُوَ يَقوْلُ :
يَا عُزَّى ! كفرَانكِ لا سُبْحَانكِ
إني رَأَيتُ الله َ قدْ أَهَانكِ(182/229)
قالَ : فضَرَبهَا باِلسَّيْفِ ، فجَزَلها باِثنتين ِ، ثمَّ رَجَعَ إلىَ رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَخْبرَهُ .
فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«نعم، تِلك َ العُزَّى قدْ أَيسَتْ أَنْ تعْبَدَ ببلادِكمْ أَبدًا .
وَكانَ هَدْمُهَا لِخَمْس ِ ليال ٍ بقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَة َ ثمَان .
وَأَخْرَجَ الأَزْرَقِيُّ كذَلِك َفي«أَخْبَارِ مَكة»(1/122): مِنْ طرِيق ِ الوَاقِدِيِّ عَنْ أَشْيَاخِهِ : أَنَّ الأَصْنَامَ لمّا كسِرَتْ ، وَمِنْهَا إسَافٌ وَنائِلة ُ-: خَرَجَتْ مِنْ إحْدَاهُمَا امْرَأَة ٌ سَوْدَاءُ شَمْطاءُ ! تَخْمِشُ وَجْهَهَا ! عُرْيانة ٌ ! ناشِرَة ُ الشَّعْرِ ، تدْعُوْ باِلوَيل !
فقِيْلَ لِرَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلِك َ فقالَ:«تِلك َ نائِلة ُ، قدْ أَيسَتْ أَنْ تعبدَ ببلادِكمْ أَبدًا».
وَمَا يَرَاهُ هَؤُلاءِ المشْرِكوْنَ فِي كلِّ عَصْرٍ مِنْ خَوَارِقَ شَيْطانِيَّةٍ ، هِيَ مِنْ أَسْبَابِ شِرْكِهمْ وَضَلالهِمْ قدِيْمًا وَحَدِيْثًا .
وَمَا رَأَوْهُ مِمّا سَبَقَ ، أَوْ سَمِعُوْهُ مِمّا تقدَّمَ : هِيَ مَخَارِيْقُ شَيْطانِيَّة ٌ، مِنْ جِنْس ِ مَخَارِيْق ِ السَّحَرَةِ وَالكهّان ِ، أَرَادَتِ الشَّيَاطِينُ إغوَاءَهُمْ بهَا عَنْ دِيْن ِ اللهِ وَتَوْحِيْدِهِ ، كمَا كانتْ تُغْوِي قبْلهُمْ عُبّادَ الأَصْنَامِ وَسَائِرَ المشْرِكِينَ ، تَتَمَثَّلُ فِي الأَصْنَامِ وَتُخَاطِبُهُمْ ، وَتَقضِي حَاجَاتِهمْ ، وَتُغِيْثُ بَعْضَ لهفاتِهمْ .
وَلوْلا تِلك َ الأُمُوْرُ لمَا ضَلوْا باِلأَحْجَارِ وَالأَشْجَارِ ، وَلمَا خَشِيَ نبيُّ اللهِ وَخَلِيْلهُ إمَامُ الحنفاءِ ، وَأَبوْ الأَنبيَاءِ الأَصْفِيَاءِ مِنْهُ فقالَ: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ }.(182/230)
فهَلْ كانَ إضْلالهنَّ لِكثِيرٍ مِنَ النّاس ِ إلا َّ لِمُوْجِبٍ لِلإضْلال ِ، مُخِيْفٍ لإمَامِ الحنفاءِ مِنَ الوُقوْعِ فِيْهِ وَالضَّلال ؟!
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ–كمَا فِي«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (17/460-461)-:(وَإنمَا المقصُوْدُ : أَنَّ أَصْلَ الشِّرْكِ فِي العَالمِ كانَ مِنْ عِبَادَةِ البَشَرِ الصّالحِينَ ، وَعِبَادَةِ تَمَاثِيْلِهمْ وَهُمُ المقصوْدُوْنَ .
وَمِنَ الشِّرْكِ : مَا كانَ أَصْلهُ عِبَادَة َ الكوَاكِبِ ، إمّا الشَّمْسُ ، وَإمّا القمَرُ ، وَإمّا غيرُهُمَا ، وَصُوِّرَتِ الأَصْنَامُ طلاسِمَ لِتِلك َ الكوَاكِب .
وَشِرْك ُ قوْمِ إبْرَاهِيْمَ - وَالله ُ أَعْلمُ – كانَ مِنْ هَذَا ، أَوْ كانَ بَعْضُهُ مِنْ هَذَا .
وَمِنَ الشِّرْكِ : مَا كانَ أَصْلهُ عِبَادَة َ الملائِكةِ أَوِ الجِنِّ ، وَوُضِعَتِ الأَصْنَامُ لأَجْلِهمْ ، وَإلا َّ فنفسُ الأَصْنَامِ الجمَادِيةِ لمْ تُعْبَدْ لِذَاتِهَا ، بَلْ لأَسْبَابٍ اقتضَتْ ذلِك َ، وَشِرْك ُ العَرَبِ كانَ أَعْظمُهُ الأَوَّلَ ، وَكانَ فِيْهِ مِنَ الجمِيْع)اه.
فصل(182/231)
وَلِتمَامِ عِلمِ الصَّحَابةِ - رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ جَمِيْعًا – وَتمامِ إيْمَانِهمْ وَمَعْرِفتِهمْ ، وَتَمَامِ عِلمِ أَتْبَاعِهمْ عَلى الإيْمَان ِ وَالإسْلامِ وَالإحْسَان ِ وَتابعِيْهمْ : لمْ يَطمَعْ فِيْهمُ الشَّيْطانُ أَنْ يَقوْلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لأَصْحَابهِ :«إذا كانتْ لكمْ حَاجَة ٌ فتَعَالوْا إلىَ قبْرِي ، وَاسْتَغِيْثوْا بي ، لا فِي مَحْيَاهُ وَلا فِي مَمَاتِهِ ، كمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكثِيرٍ مِنَ المتأَخِّرِينَ مِمَّنْ ضَعُفَ عِلمُهُمْ وَإيمَانهُمْ ، وَضَعُفتْ بَصِيرَتُهُمْ ، وَجَهلوْا حَقِيْقة َ مَا بعِثتْ بهِ الرُّسُلُ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ ، مِنْ إفرَادِ اللهِ باِلتَّوْحِيْدِ ، وَمُوَالاةِ أَهْلِهِ ، وَعَدَاءِ مُخَالِفِيْهِ ، وَأَنَّ مَجَامِعَ الكرَامَةِ فِي تَمَامِ الاسْتِقامَة .
وَلا طمِعَ الشَّيْطانُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَهُمْ وَيَقوْلَ:«أَنا مِنْ رِجَال ِ الغيْبِ ، أَوْ مِنَ الأَوْتادِ الأَرْبعةِ ، أَوِ السَّبْعَةِ ، أَوِ الأَرْبعِينَ» ، أَوْ يَقوْلَ لهُ:«أَنتَ مِنْهُمْ» ، إذْ كانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنَ الباطِل ِ الذِي لا حَقِيْقة َ له .
وَلا طمِعَ الشَّيْطانُ أَنْ يَأْتِي أَحَدَهُمْ فيَقوْلُ:«أَنا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » ، أَوْ يُخَاطِبُهُ عِنْدَ القبرِ ، كمَا وَقعَ لِكثِيرٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ عِنْدَ قبرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقبرِ غيْرِهِ ، وَعِنْدَ غيرِ القبوْر .
وَكمَا يَقعُ كثِيرٌ مِنْ ذلِك َ لِلمُشْرِكِينَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ ، يَرَوْنَ بَعْدَ الموْتِ مَنْ يُعَظمُوْنهُ مِِنْ شُيُوْخِهمْ .
فأَهْلُ الهِنْدِ : يَرَوْنَ مَنْ يُعَظمُوْنهُ مِنْ شُيُوْخِهمُ الكفارِ وَغيْرِهِمْ .
وَالنَّصَارَى : يَرَوْنَ مَنْ يُعَظمُوْنهُ مِنَ الأَنْبيَاءِ وَالحوَارِيِّينَ وَغيرِهِمْ .(182/232)
وَالضُّلاّلُ مِنْ أَهْل ِ القِبْلةِ : يَرَوْنَ مَنْ يُعَظمُوْنهُ : إمّا النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإمّا غيرَهُ مِنَ الأَنْبيَاءِ يَقظة ً! وَيُخاطِبُهُمْ وَيُخاطِبُوْنهُ ! وَقدْ يَسْتَفتُوْنهُ ! وَيَسْأَلوْنهُ عَنْ أَحَادِيْثَ فيُجِيْبُهُمْ !
وَمِنْهُمْ : مَنْ يُخَيَّلُ إليْهِ أَنَّ الحجْرَة َ قدِ انشقتْ وَخَرَجَ مِنْهَا النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَانقهُ – هُوَ- وَصَاحِبَاه .
وَمِنْهُمْ : مَنْ يُخَيَّلُ إليْهِ أَنهُ رَفعَ صَوْتهُ باِلسَّلامِ حَتَّى وَصَلَ مَسِيرَة َ أَيامٍ ، وَإلىَ مَكان ٍ بَعِيْد .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ بَعْدَ ذلِك َ- كمَا فِي«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»(27/392-393)-:(وَهَذَا وَأَمْثالهُ أَعْرِفُ مِمَّنْ وَقعَ لهُ هَذَا وَأَشبَاهُهُ عَدَدًا كثِيرًا .
وَقدْ حَدَّثنِي بمَا وَقعَ لهُ فِي ذلِك َ وَبمَا أَخْبرَ بهِ غيرُهُ مِنَ الصّادِقِينَ مَنْ يَطوْلُ هَذَا الموْضِعُ بذِكرِهِمْ .
وَهَذَا مَوْجُوْدٌ عِنْدَ خَلق ٍ كثِيرٍ ، كمَا هُوَ مَوْجُوْدٌ عِنْدَ النَّصَارَى وَالمشْرِكِينَ ، لكِنْ كثِيرٌ مِنَ النّاس ِ يُكذِّبُ بهَذَا ، وَكثِيرٌ مِنْهُمْ إذا صَدَّقَ بهِ يَظنُّ أَنهُ مِنَ الآياتِ الإلهِيَّةِ ، وَأَنَّ الذِي رَأَى ذلِك َ رَآه ُ لِصَلاحِهِ وَدِينِه !
وَلمْ يَعْلمْ أَنهُ مِنَ الشَّيْطان ِ، وَأَنهُ بحسَبِ قِلةِ عِلمِ الرَّجُل ِ يُضِلهُ الشَّيْطان .
وَمَنْ كانَ أَقلَّ عِلمًا : قالَ لهُ مَا يَعْلمُ أَنهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيْعَةِ خِلافا ظاهِرًا .
ومَنْ عِنْدَهُ عِلمٌ مِنْهَا : لا يَقوْلُ لهُ مَا يَعْلمُ أَنهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيْعَةِ ، وَلا مُفِيْدًا فائِدَة ً فِي دِينِهِ ، بَلْ يضِلهُ عَنْ بَعْض ِ مَا كانَ يَعْرِفه .(182/233)
فإنَّ هَذَا فِعْلُ الشَّيَاطِين ِ، وَهُوَ وَإنْ ظنَّ أَنهُ قدِ اسْتَفادَ شَيْئًا ، فالذِي خَسِرَهُ مِنْ دِينِهِ أَكثر .
وَلهِذَا لمْ يَقلْ قط ّ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابةِ : إنَّ الخضِرَ أَتاهُ ، وَلا مُوْسَى ، وَلا عِيْسَى ، وَلا أَنهُ سَمِعَ رَدَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَليْه .
وَابْنُ عُمَرَ كانَ يُسَلمُ إذا قدِمَ مِنْ سَفرٍ ، وَلمْ يَقلْ قط ّ : إنهُ يَسْمَعُ الرَّدّ .
وَكذَلِك َ التّابعُوْنَ وَتابعُوْهُمْ ، وَإنمَا حَدَثَ هَذَا مِنْ بَعْض ِ المتَأَخِّرِيْنَ).
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ بَعْدَ ذلِك َ:(فمَا ظهَرَ فِيْمَنْ بَعْدَهُمْ مِمّا يُظنُّ أَنهَا فضِيْلةٌ لِلمُتَأَخِّرِيْنَ ، وَلمْ تَكنْ فِيْهمْ : فإنهَا مِنَ الشَّيْطان ِ، وَهِيَ نَقِيْصَة ٌ لا فضِيْلة ٌ، سَوَاءٌ كانَتْ مِنْ جِنْس ِ العُلوْمِ ، أَوْ مِنْ جِنْس ِ العِبَادَاتِ ، أَوْ مِنْ جِنْس ِ الخوَارِق ِ وَالآياتِ ، أَوْ مِنْ جِنْس ِ السِّيَاسَةِ وَالملك .
بَلْ خيرُ النّاس ِ بَعْدَهُمْ أَتبعُهُمْ لهمْ ، قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُوْدٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ :«مَنْ كانَ مِنْكمْ مُسْتنًّا : فليَسْتَنَّ بمَنْ قدْ مَاتَ ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤْمَنُ عَليْهِ الفِتْنَة .
أُوْلئِك َ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَبرُّ هَذِهِ الأُمَّةِ قلوْبًا ، وَأَعْمَقهَا عِلمًا ، وَأَقلهَا تَكلفا .
قوْمٌ اخْتَارَهُمُ الله ُ لِصُحْبَةِ نبيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإقامَةِ دِينِهِ ، فاعْرِفوْا لهمْ حَقهُمْ ، وَتَمَسَّكوْا بهَدْيهمْ ، فإنهُمْ كانوْا عَلى الهدْي المسْتقِيْم». وَبَسْط ُ هَذَا لهُ مَوْضِعٌ آخَر)اه.
فصل
في ذِكرِ طرَفٍ مِنَ المخارِيق ِ الشَّيْطانِيَّة(182/234)
وَهَذِهِ المخارِيقُ الشَّيْطانِيَّة ُ لِلمُشْرِكِينَ وَالضّالينَ الجاهِلِينَ : يَعْرِفُ حَقِيْقتَهَا الموَحِّدُوْنَ فِي كلِّ عَصْرٍ وَكلِّ مِصْرٍ ، فلا تُغْوِيْهمُ الشَّيَاطِينُ عَمّا هُمْ عَليْهِ مِنَ الهدَى وَالحقِّ المبين ِ، وَلا تَزِيدُهُمْ هَذِهِ الخزَعْبلاتُ إلا َّ بَصِيرَة ً وَإيْمَانا ، وَتَصْدِيْقا بإخْبَارِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإيقانا ، وَقِيَامًا بمَا أَمَرَ الله ُ وَرَسُوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِجَاهَهَا ، فقلوْبهُمْ مَعَ هَذِهِ الفِتن ِ سَالِمَة ٌ خَالِيَة ٌ، كمَا أَخْبرَ بذَلك َ نبيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالَ:«تُعْرَضُ الفِتَنُ عَلى القلوْبِ كالحصِيرِ عُوْدًا عُوْدًا ، فأَيُّ قلبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيْهِ نُكتَة ٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكتَة ٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلى قلبَيْن ِ عَلى أَبْيَضَ مِثْل ِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَة ٌمَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا ، كالكوْزِ مُجَخِّيًا ، لا يَعْرِفُ مَعْرُوْفا وَلا يُنْكِرُ مُنْكرًا ، إلا َّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ» (5/405،386) وَمُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(144) مِنْ حَدِيْثِ حُذَيْفةِ بْن ِ اليمَان ِ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
وَقدْ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ فِي جُمْلةٍ مِنْ كتبهِ طرَفا كبيرًا مِنْ تِلك َ المخارِيْق ِ الشَّيْطانِيَّةِ ، وَذكرَ أَنهُ لوْ ذكرَ كلَّ مَا يَعْرِفهُ مِنْ ذلِك َ لاحْتَاجَ إلىَ مُجَلدٍ كبيرٍ فِي ذلِك َ!
وَأَكتفِي بذِكرِ شَيْءٍ مِمّا ذكرَهُ رَحِمَهُ الله ُ:(182/235)
* مِنْ ذلِك َ: قوْلهُ رَحِمَهُ الله ُ:(وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ عَدَدًا ، وَمِنْهُمْ : مَنْ كانَ يُحْمَلُ فِي الهوَاءِ إلىَ مَكان ٍ بَعِيْدٍ وَيَعُوْد !
* وَمِنْهُمْ : مَنْ كانَ يُؤْتى بمَال ٍ مَسْرُوْق ٍ ، تَسْرُقهُ الشَّيَاطِينُ ، وَتَأْتِيْهِ به !
* وَمِنْهُمْ : مَنْ كانَتْ تدُلهُ عَلى السَّرِقاتِ بجُعْل ٍ يَحْصُلُ لهُ مِنَ النّاس ِ، أَوْ بعَطاءٍ يُعْطوْنهُ إذا دَلهمْ عَلى سَرِقاتِهمْ ، وَنَحْو ذلك)( - «الفرْقانُ ، بَينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَن ِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطان»(ص226).).
* وَقالَ:(وَمِنْ هَؤُلاءِ : مَنْ يَسْتَغِيْثُ بمَخلوْق ٍ، إمّا حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ ، سَوَاءٌ كانَ ذلِك َ المخلوْقُ مُسْلِمًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مُشْرِكا : فيَتَصَوَّرُ الشَّيْطانُ بصُوْرَةِ ذلِك َ المسْتَغاثِ بهِ ، وَيَقضِي بَعْضَ حَاجَةِ ذلِك َ المسْتَغِيْثِ ، فيَظنُّ أَنهُ ذلِك َ الشَّخْصُ ، أَوْ هُوَ مَلك ٌ عَلى صُوْرَتِه .
وَإنمَا هُوَ شَيْطانٌ أَضَلهُ لمّا أَشْرَك َ باِللهِ ، كمَا كانَتِ الشَّيَاطِينُ تَدْخُلُ في الأَصْنَامِ ، وَتُكلمُ المشْرِكِين .
* وَمِنْ هَؤُلاءِ : مَنْ يَتَصَوَّرُ لهُ الشَّيْطانُ وَيَقوْلُ لهُ :«أَنا الخضِرُ» ! وَرُبَّمَا أَخْبرَهُ ببَعْض ِ الأُمُوْرِ ! وَأَعَانهُ عَلى بَعْض ِ مَطالِبهِ ! كمَا جَرَى ذلِك َ لِغَيرِ وَاحِدٍ مِنَ المسْلِمِينَ وَاليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى .(182/236)
* وَكثِيرٌ مِنَ الكفارِ بأَرْض ِ المشْرِق ِ وَالمغْرِبِ ، يَمُوْتُ لهمُ الميِّتُ ، فيَأْتِي الشَّيْطانُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلى صُوْرَتِهِ - وَهُمْ يَعْتَقِدُوْنَ أَنهُ ذلِك َ الميِّتُ - وَيَقضِي الدُّيوْنَ ، وَيَرُدُّ الوَدَائِعَ ، وَيَفعَلُ أَشْيَاءَ تَتَعَلقُ باِلميِّتِ ، وَيَدْخُلُ إلىَ زَوْجَتِهِ ، وَيَذْهَب . وَرُبمَا يَكوْنوْنَ قدْ أَحْرَقوْا مَيَّتَهُمْ باِلنّارِ ! كمَا يَصْنَعُ كفارُ الهِنْدِ ، فيَظنُّوْنَ أَنهُ عَاشَ بَعْدَ مَوْتِه !
* وَمِنْ هَؤُلاءِ : شَيْخٌ كانَ بمصْرَ أَوْصَى خَادِمَهُ فقالَ :«إذا أَنا مِتُّ فلا تَدَعْ أَحَدًا يُغَسِّلني ، فأَنا أَجِيءُ وَأُغسِّلُ نَفسِي!».
فلمّا مَاتَ : رَأَى خَادِمُهُ شَخْصًا فِي صُوْرَتِهِ ! فاعْتَقدَ أَنهُ هُوَ دَخَلَ وَغسَّلَ نَفسَهُ ! فلمّا قضَى ذلِك َ الدّاخِلُ غسْلهُ - أَيْ غسْلَ الميِّتِ - غاب !
وَكانَ ذلِك َ شَيْطانا ، وَكانَ قدْ أَضَلَّ الميِّتَ ، وَقالَ :«إنك َ بَعْدَ الموْتِ تَجِيءُ فتَغْسِلُ نفسَك َ!» ، فلمّا مَاتَ جَاءَ أَيْضًا فِي صُوْرَتِهِ لِيُغوِيَ الأَحْيَاءَ ، كمَا أَغوَى الميِّتَ قبْلَ ذلك .
* وَمِنْهُمْ : مَنْ يرَى عَرْشا فِي الهوَاءِ وَفوْقهُ نوْرٌ ، وَيَسْمَعُ مَنْ يُخَاطِبُهُ وَيَقوْلُ :«أَنا رَبك َ!» ، فإنْ كانَ مِنْ أَهْل ِ المعْرِفةِ : عَلِمَ أَنهُ شَيْطانٌ فزَجَرَهُ ، وَاسْتَعَاذَ باِللهِ مِنْهُ فيَزُوْلُ ذلك)( - «الفرْقانُ ، بَينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَن ِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطان»(ص329-330).).(182/237)
* قالَ:(وَقدْ جَرَتْ هَذِهِ القِصَّة ُ لِغيرِ وَاحِدٍ مِنَ النّاس ِ، فمِنْهُمْ مَنْ عَصَمَهُ الله ُ ، وَعَرَفَ أَنهُ الشَّيْطانُ ، كالشَّيْخِ عَبْدِ القادِرِ فِي حِكايتِهِ المشْهُوْرَةِ حَيْثُ قالَ:«كنْتُ مَرَّة ً فِي العِبَادَةِ ، فرَأَيتُ عَرْشا عَظِيْمًا ، وَعَليْهِ نوْرٌ ، فقالَ لِي : يَا عَبْدَ القادِرِ ! أَنا رَبك َ ! وَقدْ حَللتُ لك َ مَا حَرَّمْتُ عَلى غيرِك !
قالَ : فقلتُ لهُ : أَنتَ الله ُ الذِي لا إلهَ إلا َّ هُوَ ؟! اِخْسَأْ يا عَدُوَّ الله .
قالَ : فتَمَزَّقَ ذلِك َ النوْرُ ، وَصَارَ ظلمَة .
وَقالَ : يَا عَبْدَ القادِرِ نجَوْتَ مِنِّي بفِقهك َ فِي دِينِك َ، وَعِلمِك َ وَبمُنازَلاتِك َ فِي أَحْوَالِك َ، لقدْ فتنْتُ بهَذِهِ القِصَّةِ سَبْعِينَ رَجُلا ً».
فقِيْلَ لهُ : كيْفَ عَلِمْتَ أَنهُ الشَّيْطان ؟
قالَ :«بقوْلِهِ لِي : حَللتُ لك َ مَا حَرَّمْتُ عَلى غيرِك َ! وَقدْ عَلِمْتُ أَنَّ شَرِيْعَة َ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُنْسَخُ ، وَلا تبدَّل . وَلأَنهُ قالَ : أَنا رَبُّك َ، وَلمْ يَقدِرْ أَنْ يَقوْلَ : أَنا الله ُ الذِي لا إلهَ إلا َّ أَنا».
* وَمِنْ هَؤُلاءِ : مَن ِ اعْتَقدَ أَنَّ المرْئِيَّ هُوَ الله ُ ! وَصَارَ هُوَ وَأَصْحَابهُ يَعْتَقِدُوْنَ أَنهُمْ يَرَوْنَ الله َ تَعَالىَ فِي اليَقظةِ ! وَمُسْتَنَدُهُمْ مَا شَاهَدُوْه !
وَهُمْ صَادِقوْنَ فِيْمَا يُخْبرُوْنَ بهِ ، وَلكِنْ لمْ يَعْلمُوْا أَنَّ ذلِك َ هُوَ الشَّيْطان .
* وَهَذَا قدْ وَقعَ كثِيرًا لِطوَائِفَ مِنْ جُهّال ِ العُبّادِ ، يَظنُّ أَحَدُهُمْ أَنهُ يَرَى الله َ تَعَالىَ بعَيْنِهِ فِي الدُّنيا ! لأَنَّ كثِيرًا مِنْهُمْ رَأَى مَا ظنَّ أَنهُ الله ُ، وَإنمَا هُوَ شَيْطان)( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(1/172).).(182/238)
* قالَ:(وَمِنْهُمْ : مَنْ يَرَى أَشْخاصًا فِي اليَقظةِ يَدَّعِي أَحَدُهُمْ أَنهُ نبيٌّ ! أَوْ صِدِّيقٌ ! أَوْ شَيْخٌ مِنَ الصّالحِينَ ! وَقدْ جَرَى هَذَا لِغيرِ وَاحِد .
* وَمِنْهُمْ : مَنْ يَرَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ بَعْضَ الأَكابرِ : إمّا الصِّدِّيقُ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، أَوْ غيرُهُ ، قدْ قصَّ شَعْرَهُ ، أَوْ حَلقهُ ، أَوْ أَلبسَهُ طاقِيَّتَهُ ، أَوْ ثوْبهُ : فيُصْبحُ وَعَلى رَأْسِهِ طاقِيَّة ٌ، وَشَعْرُهُ مَحْلوْقٌ أَوْ مُقصَّرٌ ! وَإنمَا الجِنُّ قدْ حَلقوْا شعْرَهُ أَوْ قصَّرُوْه)( - «الفرْقانُ ، بَينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَن ِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطان»(ص330-331).).
* ثمَّ قالَ:(فإني أَعْرِفُ مَنْ تُخَاطِبُهُ النَّبَاتاتُ بمَا فِيْهَا مِنَ المنَافِعِ ! وَإنمَا يُخَاطِبُهُ الشَّيْطانُ الذِي دَخَلَ فِيْهَا .
* وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُمُ الحجَرُ وَالشَّجَرُ ! وَتَقوْلُ :«هَنِيْئًا لك َ يَا وَلِيَّ اللهِ» فيَقرَأُ آية َ الكرْسِيِّ فيَذْهَبُ ذلك .
* وَأَعْرَفُ مَنْ يَقصِدُ صَيْدَ الطيرِ ، فتُخاطِبُهُ العَصَافِيرُ وَغيْرُهَا وَتَقوْلُ:«خُذْنِي حَتَّى يَأْكلنِي الفقرَاء»! وَيَكوْنُ الشَّيْطانُ قدْ دَخَلَ فِيْهَا ، كمَا يَدْخُلُ فِي الإنس ِ وَيُخاطِبُهُ بذَلك .
* وَمِنْهُمْ : مَنْ يَكوْنُ فِي البَيْتِ وَهُوَ مُغلقٌ ، فيَرَى نفسَهُ خَارِجَهُ وَهُوَ لمْ يُفتَحْ ! وَباِلعَكس ! وَكذَلِك َ فِي أَبوَابِ المدِينةِ ! وَتَكوْنُ الجِنُّ قدْ أَدْخلتهُ وَأَخْرَجَتْهُ بسُرْعة .
* أَوْ تَمُرُّ بهِ أَنوَارٌ ! أَوْ تُحْضِرُ عِنْدَهُ مَنْ يَطلبُهُ ! وَيَكوْنُ ذلِك َ مِنَ الشَّيَاطِين ِ ، يَتَصَوَّرُوْنَ بصُوْرَةِ صَاحِبه . فإذا قرَأَ آية َ الكرْسِيِّ مَرَّة ً بَعْدَ مَرَّةٍ : ذهَبَ ذلِك َ كله .(182/239)
* وَأَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُهُ مُخَاطِبٌ وَيَقوْلُ لهُ :«أَنا مِنْ أَمْرِ اللهِ» ، وَيَعِدُهُ بأَنهُ المهْدِيُّ الذِي بشرَ بهِ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُظهرُ لهُ الخوَارِق !
مِثْلَ أَنْ يَخْطرَ بقلبهِ تَصَرُّفٌ فِي الطيْرِ وَالجرَادِ فِي الهوَاءِ ، فإذا خَطرَ بقلبهِ ذهَابُ الطيرِ أَوِ الجرَادِ يَمِيْنًا أَوْ شَمَالا ً: ذهَبَ حَيْثُ أَرَادَ ! وَإذا خَطرَ بقلبهِ قِيَامُ بَعْض ِ الموَاشِي أَوْ نوْمُهُ أَوْ ذهَابهُ : حَصَلَ لهُ مَا أَرَادَ مِنْ غيرِ حَرَكةٍ مِنْهُ فِي الظاهِر !
وَتَحْمِلهُ إلىَ مَكة َ وَتأْتِي بهِ ، وَتأْتيْهِ بأَشْخَاص ٍ فِي صُوْرَةٍ جَمِيْلةٍ ، وَتَقوْلُ لهُ :«هَذِهِ الملائِكة ُ الكرُوْبيُّوْنَ ، أَرَادُوْا زِيارَتك َ» ! فيَقوْلُ فِي نفسِهِ :«كيْفَ تَصَوَّرُوْا بصُوْرَةِ المرْدَان؟!» فيَرْفعُ رَأْسَهُ فيَجِدُهُمْ بلِحَى !
وَيَقوْلُ لهُ :«عَلامَة ُ أَنك َ أَنتَ المهْدِيُّ : أَنك َ تنبتُ فِي جَسَدِك َ شَامَة ٌ» فتنبتُ وَيرَاهَا ! وَغيرُ ذلك . وَكلهُ مِنْ مَكرِ الشَّيْطان .
وَهَذَا بابٌ وَاسِعٌ ، لوْ ذكرْتُ مَا أَعْرِفهُ مِنْهُ لاحْتَاجَ إلىَ مُجَلدٍ كبير)( - «الفرْقانُ ، بَينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَن ِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطان»(ص351-353).).
* قالَ:(وَلقدْ أَخبرَ بَعْضُ الشُّيُوْخِ الذِينَ كانَ قدْ جَرَى لهمْ مِثْلُ هَذَا بصُوْرَةِ مُكاشَفةٍ وَمُخَاطبَةٍ فقالَ :«يُرُوْنني الجِنُّ شَيْئًا برّاقا مِثْلَ الماءِ وَالزُّجَاج» ، وَيُمَثلوْنَ لهُ فِيْهِ مَا يطلبُ مِنْهُ الإخْبَارُ به !
قالَ :«فأُخبرُ النّاسَ بهِ ! وَيُوْصِلوْنَ إليَّ كلامَ مَن ِ اسْتَغَاثَ بي مِنْ أَصْحَابي ، فأُجيْبُهُ ، فيُوْصِلوْنَ جَوَابي إليْه !(182/240)
وَكانَ كثِيرٌ مِنَ الشُّيُوْخِ الذِيْنَ حَصَلَ لهمْ كثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الخوَارِق ِ: إذا كذَّبَ بهَا مَنْ لمْ يَعْرِفهَا ، وَقالَ:«إنكمْ تَفعَلوْنَ هَذَا بطرِيق ِ الحِيْلةِ ، كمَا يُدْخَلُ النّارُ بحجَرِ الطلق ِ، وَقشُوْرِ النّارَنجِ ، وَدِهْن ِ الضَّفادِعِ وَغيرِ ذلِك َ مِنَ الحِيَل ِ الطبيْعِيَّة» . فيَعْجَبُ هَؤُلاءِ المشَايخُ ، وَيَقوْلوْنَ :«نَحْنُ وَاللهِ لا نعْرِفُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الحِيَل».
فلمّا ذكرَ لهمُ الخبيرُ :«إنكمْ لصَادِقوْنَ في ذلِك َ، وَلكِنْ هَذِهِ الأَحْوَالُ شَيْطانِيَّة»: أَقرُّوْا بذَلِك َ، وَتابَ مِنْهُمْ مَنْ تابَ الله ُ عَليْهِ ، لمّا تبَيَّنَ لهمُ الحقُّ ، وَتبَيَّنَ لهمْ مِنْ وُجُوْهٍ أَنهَا مِنَ الشيْطان .
وَرَأَوْا أَنهَا مِنَ الشَّيَاطِين ِ : لمّا رَأَوْا أَنها تَحْصُلُ بمِثْل ِالبدَعِ المذْمُوْمَةِ فِي الشَّرْعِ ، وَعِنْدَ المعَاصِي لله . فلا تَحْصُلُ عِنْدَ مَا يُحِبُّهُ الله ُ وَرَسُوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ العِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، فعَلِمُوْا أَنهَا حِيْنَئِذٍ مِنْ مَخَارِق ِ الشَّيْطان ِ لأَوْلِيَائِهِ ، لا مِنْ كرَامَاتِ الرَّحْمَن ِ لأَوْلِيَائِه)( - «الفرْقانُ ، بَينَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَن ِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطان»(ص367-369).).
* وَقالَ:(وَمِثْلُ هَذَا وَاقِعٌ كثِيرًا فِي زَمَانِنَا وَغيرِه .
* وَأَعْرِفُ مِنْ ذلِك َ مَا يَطوْلُ وَصْفهُ ، فِي قوْمٍ اسْتَغَاثوْا بي أَوْ بغيرِي ، وَذكرُوْا أَنهُ أَتى شَخْصٌ عَلى صُوْرَتِي أَوْ صُوْرَةِ غيرِي ! وَقضَى حَوَائِجَهُمْ ! فظنُّوْا أَنَّ ذلِك َ مِنْ برَكةِ الاسْتِغَاثةِ بي أَوْ بغيرِي! وَإنمَا هُوَ شَيْطانٌ أَضَلهُمْ وَأَغوَاهُمْ.(182/241)
وَهَذَا هُوَ أَصْلُ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ ، وَاتخاذِ الشُّرَكاءِ مَعَ اللهِ تَعَالىَ فِي الصَّدْرِ الأَوَّل ِ مِنَ القرُوْن ِ الماضِيَةِ ، كمَا ثبَتَ ذلِك َ، فهَذَا أَشْرَك َ باِللهِ نعُوْذُ باِللهِ مِنْ ذلك)( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(1/350).).
* وَقالَ:(وَكثِيرٌ مِنْ هَؤُلاءِ يَطِيرُ فِي الهوَاءِ ، وَتَكوْنُ الشَّيَاطِينُ قدْ حَمَلتْهُ ، وَتَذْهَبُ بهِ إلىَ مَكة َ وَغيرِهَا . وَيَكوْنُ مَعَ ذلِك َ زِندِيقا يَجْحَدُ الصَّلاة َ وَغيرَهَا مِمّا فرَضَ الله ُ وَرَسُوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَسْتَحِلُّ المحَارِمَ التي حَرَّمَهَا الله ُ وَرَسُوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإنمَا يَقتَرِنُ بهِ أُوْلئِك َ الشَّيَاطِينُ لِمَا فِيْهِ مِنَ الكفرِ وَالفسُوْق ِ وَالعِصْيَان ِ، حَتَّى إذا آمَنَ باِللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتابَ وَالتزَمَ طاعَة َ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فارَقتْهُ تِلك َ الشَّيَاطِينُ ، وَذهَبَتْ تِلك َ الأَحْوَالُ الشَّيْطانِيَّة ُ مِنَ الإخْبَارَاتِ وَالتّأْثِيرَات .
وَأَنا أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ عَدَدًا كثِيرًا ، باِلشّامِ وَمِصْرَ وَالحِجَازِ وَاليَمَن .
وَأَمّا الجزِيرَة ُ( - صَدَقَ رَحِمَهُ الله ُ، فقدْ كانتِ الجزِيْرَة ُ - إنْ كانَ يَعْني جَزِيرَة َ العَرَبِ - عَامِرَة ً بتِلك َ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ ، خَالِيَة ً مِنَ الكرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ ، تَعُجُّ بهَا البدَعُ وَالضَّلالاتُ وَالشِّرْكِيّاتُ ، حَتَّى بَلغَ مِنْ سَفههمْ ، وَضَيَاعِ دِينِهمْ ، وَضَعْفِ حُلوْمِهمْ وَفسَادِ عُلوْمِهمْ : أَنْ كانوْا يَطلبُوْنَ قضَاءَ كثِيرٍ مِنْ حَوَائِجِهمْ مِنَ النَّخِيْل ِ وَالأَشْجَارِ وَالأَحْجَار!(182/242)
فلمّا أَرَادَ الله ُ بأَهْلِهَا خَيرًا – وَهِيَ مَعْقِلُ الإسْلامِ ، وَمَأْرِزُ الإيْمَان ِ- أَخْرَجَ لها مِنْ أَبنائِهَا وَعُلمَائِهَا : الشَّيْخَ الإمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الوَهّابِ رَحِمَهُ الله ُ، فدَعَى النّاسَ إلىَ مَا دَعَتْ إليْهِ رُسُلُ اللهِ عَليْهمْ صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ :{ أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }. وَقالَ لِقوْمِهِ مَا قالتْهُ الأَنبيَاءُ لأَقوَامِهَا مِنْ قبْلِهِ: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
وَبَقِيَ عَلى ذلِك َ سِنِينَ عَدَدًا ، يَلقى فِي سَبيْلِهِ مَا لقِيَهُ أَسْلافهُ أَئِمَّة ُ الهدَى ، حِينَ دَعَوْا إلىَ تَوْحِيْدِ اللهِ أَهْلَ الضَّلال ِ وَالرَّدَى . حَتَّى آزَرَهُ الله ُ وَأَيدَهُ باِلإمَامِ مُحَمَّدِ بْن ِ سُعُوْدٍ رَحِمَهُمَا الله ُ فرَفعَ سَيْفهُ عَلى مَنْ تَطاوَلَ حَيْفه . حَتَّى عَمَّ الإيْمَانُ أَرْكانَ البلادِ ، وَقمِعَ بهِ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالزَّيْغِ وَالفسَادِ وَالإفسَادِ ، وَعَادَتْ لِلإسْلامِ جِدَّتهُ ، وَعَادَ لِحِمَاهُ حُمَاتهُ وَمَنْعَتُه . فخلتِ الجزِيْرَة ُ مِمّا كانَ فِيْهَا مِنْ مَعَالِمِ الإشْرَاك ، وَتَعَطلتِ الأَحْوَالُ الشَّيْطانِيَّة ُ مِمّا ذكرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ هنا وَهُنَاك ، فقرَّتْ بهِ أَعْينُ الموَحِّدِيْنَ ، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }.) وَالعِرَاقُ وَخُرَاسَانُ وَالرُّوْمُ : ففِيْهَا مِنْ هَذَا الجِنْس ِ أَكثرُ مِمّا باِلشّامِ وَغيرِهَا . وَبلادُ الكفارِ مِنَ المشْرِكِينَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ أَعْظم)( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(1/363).).(182/243)
* وَقالَ رَحِمَهُ الله ُ أَيْضًا :(وَأَصْحَابُ الحلاّجِ لمّا قتِلَ كانَ يَأْتِيْهمْ مَنْ يَقوْلُ : «أَنا الحلاّجُ» ! فيَرَوْنهُ فِي صُوْرَتِهِ عِيَانا !
* وَكذَلِك َ شَيْخٌ بمصْرَ يُقالُ لهُ:«الدُّسُوْقِيُّ»( - إبْرَاهِيْمُ بْنُ أَبي المجْدِ بْن ِ قرَيْش ٍ الدُّسُوْقِيّ المِصْرِيّ (633ه-676ه)، سَيَأْتِي بيانُ حَالِهِ بمشِيْئَةِ اللهِ فِي فصْل ٍ قادِم (ص323-326).) بَعْدَ أَنْ مَاتَ : كانَ يَأْتِي أَصْحَابهُ مِنْ جهَتِهِ رَسَائِلُ وَكتبٌ مَكتُوْبة ٌ! وَأَرَانِي صَادِقٌ مِنْ أَصْحَابهِ الكِتَابَ الذِي أَرْسَلهُ ، فرَأَيتهُ بخط ِّ الجِنِّ ! وَقدْ رَأَيتُ خَط َّ الجِنِّ غيرَ مَرَّةٍ ، وَفِيْهِ كلامٌ مِنْ كلامِ الجِنّ( - ذكرَ جُمْلة ً مِنْ هَذِهِ الرَّسَائِل ِ الشَّيْطانِيَّةِ : الشَّعْرَانِيُّ فِي«طبقاتِهِ» فِي تَرْجَمَةِ الدُّسُوْقِيِّ(1/143-158) ، غيْرَ أَنهُ زَعَمَ أَنهَا رَسَائِلُ كتبَهَا الدُّسُوْقِيُّ إلىَ أَصْحَابهِ بلغاتٍ مُخْتَلِفةٍ ! وَزَعَمَ أَنَّ الدُّسُوْقِيَّ يَتَكلمُ باِلسِّرْيَانِيِّ ! وَالعَجَمِيِّ ! وَالعِبرَانِيِّ ! وَالزِّنجِيِّ ! وَسَائِرِ لغاتِ الطيرِ وَالوُحُوْش !).
وَذاك َ المعْتَقِدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْخَ حَيٌّ ! وَكانَ يَقوْلُ:«انتقلَ ثمَّ مَات» !
* وَكذَلِك َ شَيْخٌ آخَرُ كانَ باِلمشْرِق ِ، وَكانَ لهُ خَوَارِقُ مِنَ الجِنِّ ، وَقِيْلَ: كانَ بَعْدَ هَذَا يَأْتِي خَوَاصَّ أَصْحَابهِ فِي صُوْرَتِهِ ، فيَعْتَقِدُوْنَ أَنهُ هُو !
* وَهَكذَا الذِيْنَ كانوْا يَعْتَقِدُوْنَ بَقاءَ عَلِيٍّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، أَوْ بَقاءَ مُحَمَّدِ بْن ِ الحنفِيَّةِ : قدْ كانَ يَأْتِي إلىَ بَعْض ِ أَصْحَابهمْ جِنِّيٌّ فِي صُوْرَتِه !
* وَكذَا مُنْتَظرُ الرّافِضَةِ : قدْ يرَاهُ أَحَدُهُمْ أَحْيَانا، وَيَكوْنُ المرْئِيُّ جِنِّيًّا .(182/244)
فهَذَا بابٌ وَاسِعٌ وَاقِعٌ كثِيرًا ، وَكلمَا كانَ القوْمُ أَجْهَلَ : كانَ عِنْدَهُمْ أَكثرَ ، ففِي المشْرِكِينَ أَكثرُ مِمّا فِي النَّصَارَى ، وَهُوَ فِي النَّصَارَى ، كمَا هُوَ فِي الدّاخِلِينَ فِي الإسْلام)( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(13/94-95).).
* وَقالَ رَحِمَهُ الله ُ:(حَتَّى أَني أَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ جَمَاعَاتٍ يَأْتوْنَ إلىَ الشَّيْخِ نفسِهِ الذِي اسْتَغاثوْا بهِ ، وَقدْ رَأَوْهُ أَتاهُمْ فِي الهوَاءِ ، فيَذْكرُوْنَ ذلِك َ لهُ ، هَؤُلاءِ يَأْتوْنَ إلىَ هَذَا الشَّيْخِ ، وَهَؤُلاءِ يَأْتوْنَ إلىَ هَذَا الشَّيْخِ ، فتَارَة ً يَكوْنُ الشَّيْخُ نفسُهُ لمْ يَكنْ يَعْلمُ بتِلك َ القضِيَّة !
فإنْ كانَ يُحِبُّ الرّئاسَة َ: سَكتَ ! وَأَوْهَمَ أَنهُ نفسَهُ أَتاهُمْ وَأَغاثهُمْ !
وَإنْ كانَ فيْهِ صِدْقٌ مَعَ جَهْل ٍ وَضَلال ٍ: قالَ : هَذَا مَلك ٌ صَوَّرَهُ الله ُ عَلى صُوْرَتِي !
وَجَعَلَ هَذَا مِنْ كرَامَاتِ الصّالحِينَ ، وَجَعَلهُ عُمْدَة ً لِمَنْ يَسْتَغِيْثُ باِلصّالحِينَ وَيَتَّخِذُهُمْ أَرْبابا ، وَأَنهُمْ إذا اسْتَغاثوْا بهمْ بَعَثَ الله ُ مَلائِكة ً عَلى صُوَرِهِمْ تُغِيْثُ المسْتغِيْثَ بهمْ .
* وَلهِذَا أَعْرِفُ غيرَ وَاحِدٍ مِنَ الشُّيُوْخِ الأَكابرِ ، الذِيْنَ فِيْهمْ صِدْقٌ وَزُهْدٌ وَعِبَادَة ٌ، لمَّا ظنوْا هَذَا مِنْ كرَامَاتِ الصّالحِينَ : صَارَ أَحَدُهُمْ يُوْصِي مُرِيْدِيْهِ يَقوْلُ:«إذا كانتْ لأَحَدِكمْ حَاجَة ٌ: فليسْتَغِثْ بي ، وَليَسْتَنْجِدْنِي ، وَليَسْتَوْصِني»! وَيَقوْلُ:«أَنا أَفعَلُ بَعْدَ مَوْتِي مَا كنْتُ أَفعَلُ فِي حَيَاتِي»!(182/245)
وَهُوَ لا يَعْرِفُ أَنَّ تِلك َ شَيَاطِينُ تَصَوَّرَتْ عَلى صُوْرَتِهِ لِتضِلهُ ، وَتُضِلَّ أَتباعَهُ ، فتُحَسِّنُ لهمُ الإشْرَاك َ باِللهِ ، وَدُعَاءَ غيرِ اللهِ ، وَالاسْتِغاثة َ بغيرِ اللهِ ، وَأَنهَا قدْ تُلقِي فِي قلبهِ: أَنا نفعَلُ بَعْدَ مَوْتِك َ بأَصْحَابك َ، مَا كنا نفعَلُ بهمْ فِي حَيَاتِك !
فيَظنُّ هَذَا مِنْ خِطابٍ إلهِيٍّ أُلقِيَ فِي قلبهِ : فيأْمُرُ أَصْحَابهُ بذَلِك .
* وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ : مَنْ كانَ لهُ شَيَاطِينُ تَخْدِمُهُ فِي حَيَاتِهِ بأَنوَاعِ الخدَمِ ، مِثْلُ خِطابِ أَصْحَابهِ المسْتغِيْثِينَ بهِ ، وَإعانتِهمْ وَغيرِ ذلك .
فلمّا مَاتَ : صَارُوْا يَأْتوْنَ أَحَدَهُمْ فِي صُوْرَةِ الشَّيْخِ ! وَيُشْعِرُوْنهُ أَنهُ لمْ يَمُتْ ! وَيُرْسِلوْنَ إلىَ أَصْحَابهِ رَسَائِلَ بخِطاب !
* وَقدْ كانَ يَجْتَمِعُ بي بَعْضُ أَتبَاعِ هَذَا الشَّيْخِ ، وَكانَ فِيْهِ زُهْدٌ وَعِبَادَة ٌ، وَكانَ يُحِبُّني وَيُحِبُّ هَذَا الشَّيْخَ ، وَيَظنُّ أَنَّ هَذَا مِنَ الكرَامَاتِ ! وَأَنَّ الشَّيْخَ لمْ يَمُتْ ! وَذكرَ لِي الكلامَ الذِي أَرْسَلهُ إليْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ! فقرَأَهُ فإذا هُوَ كلامُ الشَّيَاطِينِ بعَيْنِه !
* وَقدْ ذكرَ لِي غيرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ أَعْرِفهُمْ : أَنهُمُ اسْتَغاثوْا بي : فرَأَوْنِي فِي الهوَاءِ ! وَقدْ أَتَيْتُهُمْ وَخَلصْتُهُمْ مِنْ تِلك َ الشَّدَائِدِ ! مِثْلَ مَنْ أَحَاط َ بهِ النَّصَارَى الأَرْمَنُ لِيَأْخُذُوْه . وَآخَرُ قدْ أَحَاط َ بهِ العَدُوُّ وَمَعَهُ كتبٌ مُلطفاتٌ مِنْ مُنَاصِحِينَ ، لوِ اطلعوْا عَلى مَا مَعَهُ لقتلوْهُ ، وَنَحْو ذلك !
فذَكرْتُ لهمْ : أَني مَا دَرَيْتُ بمَا جَرَى أَصْلا ً! وَحَلفتُ لهمْ عَلى ذلِك َ حَتَّى لا يَظنُّوْا أَني كتَمْتُ ذلِك َ كمَا تُكتَمُ الكرَامَات .(182/246)
وَأَنا قدْ عَلِمْتُ أَنَّ الذِي فعَلوْهُ ليْسَ بمَشْرُوْعٍ ، بَلْ هُوَ شِرْك ٌ وَبدْعة .
ثمَّ تَبَيَّنَ لِي فِيْمَا بَعْدُ ، وَبَيَّنْتُ لهمْ : أَنَّ هَذِهِ شَيَاطِينُ تَتَصَوَّرُ عَلى صُوْرَةِ المسْتَغاثِ به)( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(17/458).).
* وَقالَ:(وَأَعْرِفُ عَدَدًا كثِيرًا وَقعَ لهمْ فِي عِدَّةِ أَشْخاص ٍ، يَقوْلُ لِي كلٌّ مِنَ الأَشْخاص ِ:«إني لمْ أَعْرِفْ أَنَّ هَذَا اسْتَغاثَ بي!» وَالمسْتغِيْثُ قدْ رَأَى ذلِك َ الذِي هُوَ عَلى صُوْرَةِ هَذَا ! وَمَا اعْتقدَ أَنهُ إلا َّ هَذَا !
* وَذكرَ لِي غيرُ وَاحِدٍ : أَنهُمُ اسْتَغاثوْا بي – كلٌّ يَذْكرُ قِصَّة ً غيرَ قِصَّةِ صَاحِبهِ - فأَخْبَرْتُ كلا ًّ مِنْهُمْ : أَني لمْ أُجِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ ، وَلا عَلِمْتُ باِسْتِغاثتِه !
فقِيْلَ : هَذَا يَكوْنُ مَلكا ؟
فقلتُ : الملك ُ لا يُغِيْثُ المشْرِك َ، إنمَا هُوَ شَيْطانٌ أَرَادَ أَنْ يُضِله)( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(19/47-48).).
* وَقالَ:(وَنَحْنُ نَعْرِفُ كثِيرًا مِنْ هَؤُلاءِ ، فِي زَمَانِنَا وَغيرِ زَمَانِنَا : مِثْلَ شَخْص ٍ هُوَ الآنَ بدِمْشَقَ ، كانَ الشَّيْطانُ يَحْمِلهُ مِنْ جَبَل ِ الصّالحِيَّةِ إلىَ قرْيةٍ حَوْلَ دِمَشْقَ ! فيَجِيءُ مِنَ الهوَاءِ إلىَ طاقةِ البَيْتِ الذِي فِيْهِ النّاسُ ! فيَدْخُلُ وَهُمْ يرَوْنه !
* وَيَجِيءُ باِلليْل ِ إلىَ بَابِ الصَّغِيرِ ، فيَعْبُرُ مِنْهُ هُوَ وَرِفقتُهُ وَهُوَ مِنْ أَفجَرِ النّاس .
* وَآخَرُ كانَ ب«الشُّوَيْكِ» فِي قرْيةٍ يُقالُ لها «الشّاهِدَة» ، يَطِيرُ فِي الهوَاءِ إلىَ رَأْس ِ الجبل ِ! وَالنّاسُ يرَوْنهُ ، وَكانَ شَيْطانٌ يَحْمِلهُ ، وَكانَ يَقطعُ الطرِيْق)( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(35/112).).(182/247)
* قالَ:(وَشَيْخٌ آخَرُ أَخبرَ عَنْ نفسِهِ : أَنهُ كانَ يَزْنِي باِلنِّسَاءِ ، وَيَتَلوَّط ُ باِلصِّبيَان ِ الذِيْنَ يُقالُ لهمْ «الحوّارَات». وَكانَ يَقوْلُ:«يَأْتِيْني كلبٌ أَسْوَدُ ، بَينَ عَيْنَيْهِ نُكتتَان ِ بَيْضَاوَان ِ، فيَقوْلُ لِي : فلانٌ ! إنَّ فلانا نذَرَ لك َ نذْرًا ، وَغدًا يَأْتِيْك َ بهِ ، وَأَنا قضَيْتُ حَاجتهُ لأَجْلِك».
فيُصْبحُ ذلِك َ الشَّخْصُ يَأْتِيْهِ بذَلِك َ النذْرِ ! وَيُكاشِفهُ هَذَا الشَّيْخُ الكافِر .
قالَ:«وَكنْتُ إذا طلِبَ مِنِّي تَغْييرُ مِثْل ِ اللاذَن ِ أَقوْلُ حَتَّى أَغيْبَ عَنْ عَقلِي ، وَإذْ باِللاذَن ِ فِي يَدِي ، أَوْ فِي فمِي ، وَأَنا لا أَدْرِي مَنْ وَضَعَه» !
قالَ:«وَكنْتُ أَمْشِي وَبَينَ يدَيَّ عَمُوْدٌ أَسْوَدُ عَليْهِ نوْر» !
فلمّا تابَ هَذَا الشَّيْخُ، وَصَارَ يُصَلي ، وَيَصُوْمُ ، وَيَجْتنِبُ المحارِمَ : ذهَبَ الكلبُ الأَسْوَدُ ! وَذهَبَ التَّغْييرُ ! فلا يُؤْتى بلاذَن ٍ، وَلا غيرِه .
* وَشَيْخٌ آخَرُ كانَ لهُ شَيَاطِينُ يُرْسِلهُمْ يَصْرَعُوْنَ بَعْضَ النّاس ِ، فيَأْتِي أَهْلُ ذلِك َ المصْرُوْعِ إلىَ الشَّيْخِ يَطلبوْنَ مِنْهُ إبرَاءَهُ ، فيُرْسِلُ إلىَ أَتباعِهِ : فيفارِقوْنَ ذلِك َ المصْرُوْعَ ، وَيُعْطوْنَ ذلِك َ الشَّيْخَ دَرَاهِمَ كثِيرَة !
وَكانَ أَحْيَانا تأْتيْهِ الجِنُّ بدَرَاهِمَ وَطعَامٍ تَسْرِقهُ مِنَ النّاس .
حَتَّى أَنَّ بَعْضَ النّاس ِ كانَ لهُ تينٌ فِي كوّارَةٍ ، فيَطلبُ الشَّيْخُ مِنْ شَيَاطِيْنِهِ تِيْنًا ، فيُحْضِرُوْنهُ لهُ ، فيَطلبُ أَصْحَابُ الكوّارَةِ التِّينَ ، فوَجَدُوْهُ قدْ ذهَبَ !
* وَآخَرُ كانَ مُشْتَغِلا ً باِلعِلمِ وَالقِرَاءَةِ : فجَاءَتهُ الشَّيَاطِينُ أَغرَتهُ وَقالوْا لهُ:«نَحْنُ نُسْقِط ُ عَنْك َ الصَّلاة َ، وَنُحْضِرُ لك َ مَا ترِيد» !(182/248)
فكانوْا يَأْتوْنهُ باِلحلوَى وَالفاكِهَةِ ، حَتَّى حَضَرَ عِنْدَ بَعْض ِ الشُّيُوْخِ العَارِفِينَ باِلسُّنَّةِ : فاسْتتَابَهُ ، وَأَعْطى أَهْلَ الحلاوَةِ ثمَنَ حَلاوَتِهمُ التي أَكلهَا ذلِك َ المفتوْنُ باِلشَّيْطان .
فكلُّ مَنْ خَرَجَ عَن ِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكانَ لهُ حَالٌ : مِنْ مُكاشَفةٍ ، أَوْ تَأْثِيرٍ ، فإنهُ صَاحِبُ حَال ٍ نفسَانِيٍّ ، أَوْ شَيْطانِيّ .
وَإنْ لمْ يَكنْ لهُ حَالٌ ، بَلْ هُوَ يَتَشَبَّهُ بأَصْحَابِ الأَحْوَال ِ: فهُوَ صَاحِبُ حَال ٍ بُهْتَانِيّ .
وَعَامَّة ُ أَصْحَابِ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ : يَجْمَعُوْنَ بَينَ الحال ِ الشَّيْطانِيِّ ، وَالحال ِ البُهْتَانِيِّ ، كمَا قالَ تَعَالىَ: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ })( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(35/113-114).).
* وَقالَ:(وَلهِذَا مَن ِ اعْتَمَدَ عَلى مُكاشَفتِهِ التي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الجِنِّ : كانَ كذِبهُ أَكثرَ مِنْ صِدْقِه .
* كشَيْخٍ كانَ يُقالُ لهُ:«الشيّاحُ» - توَّبْنَاهُ وَجَدَّدْنا إسْلامَهُ – كانَ لهُ قرِيْنٌ مِنَ الجِنِّ يُقالُ لهُ:«عَنْتَرُ» ، يُخْبرُه ُبأَشْيَاءَ ، فيَصْدُقُ تارَة ً، وَيَكذِبُ تارَة .
فلمّا ذكرْتُ لهُ : أَنك َ تَعْبُدُ شَيْطانا مِنْ دُوْن ِ اللهِ : اعْتَرَفَ بأَنهُ يَقوْلُ لهُ:«يَا عَنْتَرُ لا سُبْحَانك َ ! إنك َ إلهٌ قذِر» وَتابَ مِنْ ذلِك َ فِي قِصَّةٍ مَشْهُوْرَة .
* وَقدْ قتَلَ سَيْفُ الشَّرْعِ مَنْ قتَلَ مِنْ هَؤُلاءِ : مِثْلَ الشَّخْص ِ الذِي قتلناهُ سَنَة َ خَمْسَ عَشْرَة َ(715ه) ، وَكانَ لهُ قرِينٌ يأْتِيْهِ وَيُكاشِفهُ ، فيَصْدُقُ تارَة ً، وَيَكذِبُ تارَة .
وَقدِ انقادَ لهُ طائِفة ٌ مِنَ المنْسُوْبينَ إلىَ أَهْل ِ العِلمِ وَالرّئاسَةِ : فيُكاشِفهُمْ حَتَّى كشفهُ الله ُ لهمْ .(182/249)
وَذلِك َ أَنَّ القرِيْنَ كانَ تارَة ً يَقوْلُ لهُ:«أَنا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ » ، وَيَذْكرُ أَشْيَاءَ تنَافِي حَالَ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فشُهدَ عَليْهِ أَنهُ قالَ:«إنَّ الرَّسُوْلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيْني ، وَيَقوْلُ لِي : كذَا وَكذَا» ! مِنَ الأُمُوْرِ التي يَكفرُ مَنْ أَضَافهَا إلىَ الرَّسُوْل ِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فذَكرْتُ لِوُلاةِ الأُمُوْرِ: أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْس ِ الكهّان ِ، وَأَنَّ الذِي يرَاهُ شَيْطانا ، وَلهِذَا لا يَأْتِيْهِ فِي الصُّوْرَةِ المعْرُوْفةِ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! بَلْ يَأْتِيْهِ فِي صُوْرَةٍ مُنْكرَةٍ ! وَيَذْكرُ عَنْهُ أَنهُ يَخْضَعُ لهُ ! وَيُبيْحُ لهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ المسْكِرَ ! وَأُمُوْرًا أُخْرَى .
وَكانَ كثِيرٌ مِنَ النّاس ِ يَظنُّوْنَ أَنهُ كاذِبٌ فِيْمَا يخْبرُ بهِ مِنَ الرُّؤْيةِ ، وَلمْ يَكنْ كاذِبًا فِي أَنهُ رَأَى تِلك َ الصُّوْرَة َ، لكِنْ كانَ كافِرًا فِي اعْتِقادِهِ أَنَّ ذلِك َ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِثْلُ هَذَا كثِير .
وَلهِذَا يَحْصُلُ لهمْ تَنَزُّلاتٌ شَيْطانِيَّة ٌ، بحسَبِ مَا فعَلوْهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطان . فكلمَا بَعُدُوْا عَن ِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطرِيْق ِ المؤْمِنِينَ : قرُبوْا مِنَ الشَّيْطان ِ، فيَطِيرُوْنَ فِي الهوَاءِ ! وَالشَّيْطانُ طارَ بهمْ .
* وَمِنْهُمْ : مَنْ يَصْرَعُ الحاضِرِيْنَ ، وَشَيَاطِيْنُهُ صَرَعَتْهُمْ .
* وَمِنْهُمْ : مَنْ يُحْضِرُ طعَامًا وَإدَامًا ، وَمَلأَ الإبْرِيْقَ مَاءً مِنَ الهوَاءِ ! وَالشَّيَاطِينُ فعَلتْ ذلك .(182/250)
فيَحْسَبُ الجاهِلوْنَ أَنَّ هَذِهِ كرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ المتقِينَ ! وَإنمَا هِيَ مِنْ جِنْس ِ أَحْوَال ِ السَّحَرَةِ وَالكهَنةِ وَأَمْثالهِمْ .
وَمَنْ لمْ يُمَيِّزْ بَينَ الأَحْوَال ِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالنَّفسَانِيَّةِ : اشْتبَهَ عَليْهِ الحقُّ باِلباطِل .
وَمَنْ لمْ يُنَوِّرِ الله ُ قلبهُ بحقائِق ِ الإيْمَان ِ، وَاتباعِ القرْآن ِ: لمْ يَعْرِفْ طرِيْقَ المحِقِّ مِنَ المبْطِل ِ، وَالتبَسَ عَليْهِ الأَمْرُ وَالحالُ ، كمَا التبَسَ عَلى النّاس ِ حَالُ مُسَيْلِمَة َ صَاحِبِ اليَمَامَةِ ، وَغيرِهِ مِنَ الكذّابينَ فِي زَعْمِهمْ أَنهُمْ أَنبيَاء ! وَإنمَا هُمْ كذّابوْنَ ، وَقدْ قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لا تَقوْمُ السّاعَة ُ حَتَّى يَكوْنَ فِيْكمْ ثلاثوْنَ دَجّالوْنَ كذّابوْنَ ، كلهُمْ يَزْعُمُ أَنهُ رَسُوْلُ الله»( - رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(2/457) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِهِ»(4333) مِنْ حَدِيْثِ العَلاءِ بن ِ عَبْدِ الرَّحْمَن ِ عَنْ أَبيْهِ عَنْ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَإسْنَادُهُ صَحِيْحٌ عَلى شَرْطِ مُسْلِم .))( - «مَجْمُوْعُ الفتَاوَى»(35/116-118).)اه.
فصل
وَذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ-كمَا فِي«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى»(1/168-171)- أُمُوْرًا عِدَّة ً مِمّا تُزِيْلُ تِلك َ الأَحْوَالَ وَتَكشِفُ حَقِيْقتَهَا ، وَتظهرُ زَيفهَا :
أَحَدُهَا : أَنْ يَقرَأَ آية َ الكرْسِيِّ بصِدْق ٍ، فإذا قرَأَهَا تَغيَّبَ ذلِك َ الشَّخْصُ ، أَوْ سَاخَ فِي الأَرْض ِ، أَوِ احْتَجَب .(182/251)
وَلوْ كانَ رَجُلا ً صَالِحًا أَوْ ملكا أَوْ جِنيا مُؤْمِنًا : لمْ تَضُرَّهُ آية ُ الكرْسِيِّ ، وَإنمَا تَضُرُّ الشَّيَاطِينَ ، كمَا ثبَتَ فِي«الصَّحِيْحِ» [خ(3275)،(5010)] مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ لمّا قالَ لهُ الجِنِّيُّ:«اقرَأْ آية َ الكرْسِيِّ إذا أَوَيتَ إلىَ فِرَاشِك َ، فإنهُ لا يزَالُ عَليْك َ مِنَ اللهِ حَافِظ ٌ، وَلا يَقرَبك َ شَيْطانٌ حَتَّى تُصْبحَ».
فقالَ لهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«صَدَقك َ وَهُوَ كذُوْب».
وَمِنْهَا : أَنْ يَسْتَعِيْذَ باِللهِ مِنَ الشَّيَاطِين .
وَمِنْهَا : أَنْ يَسْتَعِيْذَ باِلعُوَذِ الشَّرْعِيَّةِ ، فإنَّ الشَّيَاطِينَ كانتْ تَعْرِضُ لِلأَنبيَاءِ فِي حَيَاتِهمْ ، وَترِيدُ أَنْ تُؤْذِيَهُمْ ، وَتفسِدُ عِبَادَتهُمْ ، كمَا جَاءَتِ الجِنُّ إلىَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشُعْلةٍ مِنَ النّارِ ترِيدُ أَنْ تُحْرِقهُ ، فأَتاهُ جِبرِيْلُ باِلعَوْذةِ المعْرُوْفةِ التي تَضَمَّنَهَا الحدِيْثُ المرْوِيُّ عَنْ أَبي التَّيّاحِ أَنهُ قالَ : سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَن ِ بْنَ خنْبَش ٍ- وَكانَ شَيْخا كبيرًا قدْ أَدْرَك َ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : كيْفَ صَنَعَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كادَتهُ الشَّيَاطِين؟
قالَ : تَحَدَّرَتْ عَليْهِ مِنَ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيةِ ، وَفِيْهمْ شَيْطانٌ مَعَهُ شُعْلة ٌ مِنْ نارٍ يُرِيْدُ أَنْ يُحْرِقَ بهَا رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قالَ : فرُعِبَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأَتاهُ جِبرِيْلُ عَليْهِ السَّلامُ فقالَ:«يَا مُحَمَّدُ قلْ !»
قالَ:«مَا أَقوْلُ؟»(182/252)
قالَ:«قلْ أَعُوْذُ بكلِمَاتِ اللهِ التّامّاتِ ، التي لا يجَاوِزُهُنَّ برٌّ وَلا فاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلقَ وَذرَأَ وَبرَأَ ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيْهَا ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَرْض ِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ فِيْهَا ، وَمِنْ شَرِّ فِتَن ِ الليْل ِ وَالنَّهَارِ ، وَمِنْ شَرِّ كلِّ طارِق ٍ يَطرُقُ إلا َّ طارِقا يَطرُقُ بخيْرٍ يَا رَحْمَن».
قالَ:«فطفِئَتْ نارُهُمْ ، وَهَزَمَهُمُ الله ُ عَزَّ وَجَلّ» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ فِي«مُسْنَدِه»(3/419).
وَفِي«صَحِيْحِ مُسْلِمٍ»(542): عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَنهُ قالَ : قامَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلي ، فسَمِعْنَاهُ يَقوْلُ:«أَعُوْذُ باِللهِ مِنْك».
ثمَّ قالَ:«أَلعَنك َ بلعْنَةِ اللهِ» ثلاثا ، وَبسَط َ يدَهُ كأَنهُ يتنَاوَلُ شَيْئًا .
فلمّا فرَغَ مِنْ صَلاتِهِ قلنا : يَا رَسُوْلَ اللهِ ! سَمِعْنَاك َ تَقوْلُ شَيْئًا فِي الصَّلاةِ ، لمْ نسْمعْك َ تقوْلهُ قبْلَ ذلِك َ، وَرَأَيناك َ بسَطتَ يدَك ؟
قالَ:«إنَّ عَدُوَّ اللهِ إبْلِيْسَ ، جَاءَ بشِهَابٍ مِنْ نارٍ لِيجْعَلهُ فِي وَجْهي ، فقلتُ : أَعُوْذُ باِللهِ مِنْك َ ثلاثَ مَرّاتٍ ، ثمَّ قلتُ : أَلعنك َ بلعْنَةِ اللهِ التّامَّةِ ، فاسْتَأْخَر .
ثمَّ أَرَدْتُ أَنْ آخُذَهُ ، وَلوْلا دَعْوَة ُ أَخِيْنَا سُليْمَانَ ، لأَصْبَحَ مُوْثقا يَلعَبُ بهِ وُلدَانُ المدِيْنَة».(182/253)
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ (1/171) بَعْدَهُ :(فإذا كانتِ الشَّيَاطِينُ تَأْتِي الأَنبيَاءَ عَليْهمُ الصَّلاة ُ وَالسَّلامُ لِتُؤْذِيهُمْ ، وَتفسِدَ عِبَادَتهُمْ ، فيَدْفعُهُمُ الله ُ تَعَالىَ بمَا يُؤَيدُ بهِ الأَنبيَاءَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالذِّكرِ وَالعِبَادَةِ وَمِنَ الجِهَادِ باِليدِ ، فكيْفَ مَنْ هُوَ دُوْنَ الأَنبيَاء ؟!
فالنَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قمَعَ شَيَاطِينَ الإنس ِ وَالجِنِّ ، بمَا أَيدَهُ الله ُ تَعَالىَ مِنْ أَنوَاعِ العُلوْمِ وَالأَعْمَال ِ، وَمِنْ أَعْظمِهَا الصَّلاة ُ وَالجِهَاد .
وَأَكثرُ أَحَادِيْثِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ وَالجِهَادِ ، فمَنْ كانَ مُتبعًا لِلأَنبيَاءِ : نصَرَهُ الله ُ سُبْحَانهُ بمَا نصَرَ بهِ الأَنبيَاء .
وَأَمّا مَن ِ ابتدَعَ دِينا لمْ يَشْرَعُوْهُ : فتَرَك َ مَا أَمَرُوْا بهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيْك َ لهُ ، وَاتباعِ نبيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْمَا شَرَعَهُ لأُمَّتِهِ ، وَابتَدَعَ الغلوَّ فِي الأَنبيَاءِ وَالصّالحِينَ وَالشِّرْك َ بهمْ : فإنَّ هَذَا تتلعَّبُ بهِ الشَّيَاطِينُ ، قالَ تَعَالىَ: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ }.
وَقالَ تَعَالىَ: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ })اه كلامُهُ رَحِمَهُ الله .
وَمِنْهَا : أَنْ يَدْعُوَ الرّائِي بذَلِك َ رَبهُ تبَارَك َ وَتَعَالىَ لِيبيِّنَ لهُ الحال .(182/254)
وَمِنْهَا : أَنْ يَقوْلَ لِذَلِك َ الشَّخْص ِ:«أَأَنتَ فلانٌ؟» وَيُقسِمَ عَليْهِ باِلأَقسَامِ المعظمَةِ ، وَيَقرَأَ عَليْهِ قوَارِعَ القرْآن ِ، إلىَ غيرِ ذلِك َ مِنَ الأَسْبَابِ التي تَضُرُّ الشَّيَاطِين .
وَسَبَبُ حُدُوْثِ هَذِهِ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ فِي كلِّ بلدٍ : انتِشَارُ الكفرِ وَالجهْل ِ وَالمعَاصِي وَالبدَع.
وَسببُ اندِثارِهَا وَزَوَالهِا : ظهُوْرُ الإسْلامِ وَالإيمَان ، وَانتِشَارُ السُّنَّة .
فصل
في بيان ِأَنَّ كثِيْرًا مِنْ أُوْلئِك َ المقبُوْرِيْنَ المسْتغاثِ بهمْ
زَنادِقة ٌ أَوْ ضُلالٌ مُبْتَدِعَة ٌ ! بَلْ مِنْهُمْ يَهُوْدُ وَنَصَارَى وَبَاطِنِيَّة ٌ وَرَوَافِضُ ، وَأَنَّ كثِيْرًا مِنْ قبوْرِهِمْ مُخْتَلقٌ لا صِحَّة َ له !
قدِ اسْتَغلَّ كثِيْرٌ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنيا ، ضَلالَ كثِيْرٍ مِنَ النّاس ِ، وَلجوْءَهمْ إلىَ القبوْرِ اسْتِغاثة ً، وَدُعَاءًا وَذبْحًا : فأَقامُوْا مَشَاهِدَ ، وَبنوْا قببًا لِصَالحِينَ مَزْعُوْمِينَ مُخْتَلقِينَ ، لِيأْكلوْا أَمْوَالَ النّاس ِ باِلباطِل .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ في«رَدِّه عَلى البَكرِيّ» (2/586):(فالسَّدَنة ُ الذِيْنَ عِنْدَ القبوْرِ وَنَحْوِهِمْ : غرَضُهُمْ يَأْكلوْنَ أَمْوَالَ النّاس ِ بهمْ . وَأَتبَاعُهُمْ غرَضُهُمْ : تَعْظِيْمُ أَنفسِهمْ عِنْدَ النّاس ِ، وَأَخْذُ أَمْوَالهِمْ لهمْ).
ثمَّ ذكرَ شَيْخُ الإسْلامِ : أَنَّ كثِيْرًا مِنَ النّاس ِ، كانوا يَذْهَبُوْنَ يَدْعُوْنَ عِنْدَ قبوْرِ العُبيْدِيِّينَ ، يَظنُّوْنَ أَنهُمْ أَوْلِيَاءُ صَالحوْنَ ، مَعَ أَنهُمْ مُنَافِقوْنَ زَنادِقة ٌ ظاهِرُوْ الكفرِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كثِيْر.(182/255)
ثمَّ قالَ رَحِمَهُ الله ُ(2/590-591):(وَالمقصُوْدُ : أَنَّ كثِيْرًا مِنَ النّاس ِ، يُعَظمُ قبْرَ مَنْ يَكوْنُ في البَاطِن ِ كافِرًا أَوْ مُنَافِقا ! وَيَكوْنُ هَذَا عِنْدَهُ وَالرَّسُوْلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْس ٍ وَاحِد .
لاعْتِقادِهِ : أَنَّ الميِّتَ يَقضِي حَاجتهُ إذا كانَ رَجُلا ً صَالحا ! وَكِلا هَذَيْن ِ عِنْدَهُ مِنْ جِنْس ِ مَنْ يَسْتَغِيْثُ به .
وَكمْ مِنْ مَشْهَدٍ يُعَظمُهُ النّاسُ ، وَهُوَ كذِب .
بَلْ يُقالُ:«إنهُ قبْرُ كافِرٍ» ! كالمشْهَدِ الذِي بسَفحِ جَبَل ِ لبنَانَ ، الذِي يُقالُ:«إنهُ قبْرُ نوْحٍ» ! فإنَّ أَهْلَ المعْرِفةِ يَقوْلوْنَ : «إنهُ قبْرُ بَعْض ِ العَمَالِقة».
وَكذَلِك َ مَشْهَدُ الحسَيْن ِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، الذِي باِلقاهِرَةِ ، وَقبْرُ أُبيٍّ الذِي في دِمَشْقَ : اتفقَ العُلمَاءُ عَلى أَنهُ كذِبٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قالَ:«هُمَا قبْرَان ِ لِنَصْرَانِيَّين .
وَكثِيْرٌ مِنَ المشَاهِدِ مُتنَازَعٌ فِيْهَا ، وَعِنْدَهَا شَيَاطِينُ تُضِلُّ بسَببهَا مَنْ تُضِلّ).
ثمَّ قالَ (2/593):(فالذِي يَجْرِي عِنْدَ المشَاهِدِ مِنْ جِنْس ِ مَا يَجْرِي عِنْدَ الأَصْنَامِ . وَكثيْرٌ مِنَ المشاهِدِ كذِبٌ ، وَكثِيْرٌ مِنْهَا مَشْكوْك ٌ فِيْه .
وَسَببُ ذلِك َ: أَنَّ مَعْرِفة َ المشَاهِدِ ليْسَتْ مِنَ الدِّيْن ِ الذِي تَكفلَ الله ُ بحِفظِهِ لِلأُمَّةِ ، لِعَدَمِ حَاجَتِهمْ إلىَ مَعْرِفةِ ذلك)اه كلامُه.
وَمَا ذكرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ حَقٌّ ، وَالقبوْرُ المختلقة ُ كثِيْرَة ٌ جِدًّا .
وَدَوَافِعُ أَصْحَابهَا وَمُنْشِئِيْهَا مُتبَاينة ٌ، بَينَ إرَادَةِ إضْلال ِ النّاس ِ عَنْ صِرَاطِ اللهِ المسْتقِيْمِ ، وَبَينَ حُبٍّ وَطمَعٍ في الدُّنيَا ، وَنهْبٍ لِمَا في أَيدِي النّاس .(182/256)
وَقدْ ذكرَ ابْنُ الجوْزِيِّ في تَارِيْخِهِ«المنتظم»(18/8-9) في حَوَادِثِ سَنةِ (535ه): أَنَّ رَجُلا ً دَخَلَ بَغْدَادَ ، وَأَظهَرَ الزُّهْدَ وَالتَّنَسُّك َ، فقصَدَهُ النّاسُ مِنْ كلِّ جَانِب .
ثمَّ إنَّ رَجُلا ً- مِنْ سَوَادِ بَغْدَادَ - مَاتَ لهُ صَبيٌّ فدَفنهُ ، فعلِمَ بهِ هَذَا المتزَهِّدُ : فمَضَى إلىَ قبْرِ ذلِك َ الصَّبيِّ ، فنبشَهُ ، وَأَخْرَجَ الصَّبيَّ ، ثمَّ دَفنهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ لحاجَةٍ في نفسِه !
ثمَّ قالَ لِلنَّاس ِ في بَعْض ِ الأَيامِ :«اعْلمُوْا أَني قدْ رَأَيتُ عُمَرَ بْنَ الخطابِ في المنامِ ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ ، فسَلمْتُ عَليْهمَا وَسَلمُوْا عَليَّ ، وَقالا لِيَ: إنَّ في هَذَا الموْضِعِ صَبيًّا مِنْ أَوْلادِ أَمِيرِ المؤْمِنِينَ عَلِيّ بن ِ أَبي طالِبٍ ، وَخطا لِيَ المكان) ، ثمَّ أَشَارَ المتزَهِّدُ إلىَ ذلِك َ الموْضِع .
فحَفرُوْا في ذلِك َ المكان ِ، فرَأَوْا الصَّبيَّ - وَهُوَ أَمْرَدُ – فازْدَحَمُوْا عَليْهِ ، وَانْصَرَفوْا إليْهِ ، فمَنْ وَصَلَ إلىَ قِطعَةٍ مِنْ أَكفانِهِ فكأَنهُ حَازَ الدُّنيَا !
حَتَّى خَرَجَ أَرْبابُ الدَّوْلةِ وَأَهْلُ بَغْدَادَ ! وَانقلبَتِ البلدُ ! وَوَضَعُوْا عِنْدَ قبْرِهِ دَسَاتِيْجَ مَاءِ الوَرْدِ وَالبخوْر !
وَأَخَذَ جُهّالُ النّاس ِ التُّرَابَ لِلتَّبَرُّكِ ! وَازْدَحَمَ النّاسُ عَلى القبْرِ ، حَتَّى لمْ يَصِلَ إليْهِ أَحَدٌ مِنْ كثْرَةِ الزِّحَام !
وَجَعَلَ النّاسُ يُقبِّلوْنَ يَدَ ذلِك َ المتزَهِّدِ - وَهُوَ يُظهرُ التَّمنعَ وَالبُكاءَ وَالخشُوْع !- وَالنّاسُ تَارَة ً يَزْدَحِمُوْنَ عَليْهِ ، وَتَارَة ً يَزْدَحِمُوْنَ عَلى الميِّت !
وَبَقِيَ النّاسُ عَلى هَذَا أَياما ، وَالميِّتُ مَكشُوْفٌ يُبْصِرُهُ النّاسُ ، حَتَّى ظهَرَ نتنُ رَائِحَتِه .(182/257)
وَجَاءَ جَمَاعَة ٌ مِنْ أَذكِيَاءِ بَغْدَادَ ، فتفقدُوْا كفنهُ فوَجَدُوْهُ خَامًا ! وَوَجَدُوْا تَحْتَهُ حَصِيرًا جَدِيْدًا ! فقالوْا:«هَذَا لا يُمْكِنُ أَنْ يَكوْنَ عَلى هَذِهِ الصِّفةِ ، مُنْذُ أَرْبَعِ مِئَةِ سَنة !
فمَا زَالوْا يُنقبوْنَ عَنْ ذلِك َ حَتَّى جَاءَ وَالِدُ الصَّبيِّ فأَبصَرَ ابنهُ ، فقالَ لِلنّاس ِ:«هَذَا وَاللهِ وَلدِي ، وَكنْتُ دَفنْتُهُ عِنْدَ السّبْتيّ».
فمَضَى مَعَهُ قوْمٌ إلىَ المكان ِ، فرَأَوْا القبْرَ قدْ نبشَ ، وَليْسَ فِيْهِ مَيِّت !
فلمّا سَمِعَ المتزَهِّدُ ذلِك َ: هَرَبَ ، فطلبُوْهُ وَظفِرُوْا بهِ ، فقرَّرُوْهُ فأَقرَّ أَنهُ فعَلَ ذلِك َ حِيْلة ! فأُخِذَ وَأُرْكِبَ حِمَارًا ، وَشُهِّرَ به .
وَهَذَا حَالُ قبوْرٍ كثيْرَةٍ ، ليْسَ فِيْهَا أَحَدٌ ، أَوْ فِيْهَا ضَالٌّ ، أَوْ كافِرٌ ، أَوْ غيْرُ ذلِك َ، فإنْ كشِفَ حَالُ قبْرٍ مِنْهَا : فقدْ بَقِيَتِ الأُخْرَى .
وَهَذَا حَالُ كثِيْرٍ مِنْ قبوْرِ الأَوْلِيَاءِ المزْعُوْمِينَ في مِصْرَ وَغيْرِهَا ، أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكرِ حَال ِ كثِيرٍ مِنْهَا ، لِعَدَمِ تَعَلق ِ حُكمٍ بهَا أَصْلا ً، سَوَاءٌ ثبتَ أَنَّ مَنْ فِيْهَا وَلِيٌّ صَالِحٌ ، أَوْ فاسِقٌ طالِح .
وَمَنْ صَرَفَ لِمَيِّتٍ شَيْئًا مِنَ العِبَادَةِ ، سَوَاءٌ كانَ الميِّتُ نبيًّا ، أَوْ وَلِيًّا أَوْ دُوْنَ ذلِك َ: كانَ مُشْرِكا كافِرًا ، كمَا تقدَّمَ تقرِيرُهُ ، فكيْفَ إذا كانَ القبرُ قبْرَ يهُوْدِيٍّ أَوْ نصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوْسِيّ ؟!
فصل
في بيان ِ حَال ِ أَحْمَدَ البدَوِيِّ صَاحِبِ القبرِ المشْهُوْرِ ب«طنْطا»
(596ه-675ه)
وَمِنْ قبوْرِ المبْطِلِينَ ، التي شُغِفَ بهَا الضّالوْنَ المنْحَرِفوْنَ : قبْرُ أَحْمَدِ بْن ِ عَلِيّ بْن ِ إبْرَاهِيْمَ البدَوِيّ .
فإنهُ نشأَ فاسِدًا ذا أَحْوَال ٍ شَيْطانِيَّةٍ ، وَمَخارِيْقَ إبْلِيْسِيَّة .(182/258)
وَكانَ قبْلَ ذلِك َ قدْ حَفِظ َ القرْآنَ ، وَاشْتَغلَ باِلعِلمِ مُدَّة ً عَلى مَذْهَبِ الإمَامِ الشّافِعِيّ . فلمّا اجْتَالتْهُ الشَّيَاطِينُ وَمَسَّتْهُ - في حَال ٍ يُسَمِّيْهَا المتصَوِّفة ُ«حَادِثَ الوَلهِ»-: ترَك َ ذلِك َ كلهُ ! وَانسَلخَ مِنْه.
وَكانَ لا يُصَلي ! وَإذا لبسَ ثوْبًا أَوْ عِمَامَة ً لمْ يَخْلعْهَا لِغُسْل ٍ وَلا لِغيْرِهِ حَتَّى تَذُوْبَ قذَرًا ! فيُبْدِلوْنهَا لهُ بغيرِهَا ، فلا صَلاة َ تَحْمِلهُ عَلى غسْل ٍ ، وَلا وُضُوْءٍ ، وَلا مُرُوْءَة َ نفس. وَقدْ ناصَحَهُ بَعْضُ أَهْل ِ العِلمِ مِنْ مُعَاصِرِيهِ في تَرْكِهِ لِلصَّلاةِ : فلمْ يَسْتَجِبْ وَلمْ يُصَلِّ ! أَبعَدَهُ الله .
وَكانَ فاسِيَّ الأَصْل ِ، رَحَلَ بهِ أَبوْهُ إلىَ مَكة َ، ثمَّ سَافرَ هُوَ إلىَ العِرَاق ِ، وَزَارَ بهَا قبْرَ عَدِيِّ بْن ِ مُسَافِرٍ ، وَقبْرَ الزِّندِيق ِ المقتوْل ِ عَليْهَا الحلاجِ ، ثمَّ زَارَ مِصْرَ ، وَدَخَلَ «طنْطا» ، وَبَقِيَ فِيْهَا حَتَّى هَلك .
وَلقِيَ في سَفرِهِ إلىَ مِصْرَ سَاحِرَة ً كبيرَة ً، قدْ أَعْجَزَتْ غيرَهَا مِنَ السَّحَرَةِ ، فغلبَهَا البدَوِيُّ بشَيَاطِيْنِهِ وَأَحْوَالِه !
فزَعَمَ المتصَوِّفة ُ-لمّا رَأَوْا ذلِك َ-: أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا أَحْوَالٌ وَكرَامَاتٌ ، وَمَا هِيَ إلا َّ مَا عَرَفتَ .
فلمّا بَلغَ «طنْطا»: دَخَلَ مُسْرِعًا دَارَ رَجُل ٍ مِنْ مَشَايخِ المتصَوِّفةِ ، يُسَمَّى «ابْنَ شُحَيْطٍ» ، فصَعدَ البدَوِيُّ إلىَ سَطحِ غرْفتِهِ ، وَبقِيَ فِيْهِ طوْلَ نهَارِهِ وَليْلِهِ ، قائِمًا شَاخِصًا ببَصَرِهِ إلىَ السَّمَاءِ ! وَقدِ انقلبَ سَوَادُ عَيْنَيْهِ بحمْرَةٍ تتوَقدُ كالجمْر !(182/259)
وَكانَ يَمْكثُ الأَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ أَكثرَ لا يَأْكلُ ! وَلا يَشْرَبُ! وَلا ينامُ ! ثمَّ ينزِلُ لحِاجَةٍ ثمَّ يعوْدُ إلىَ مَكانِهِ عَلى حَالِهِ السّابق ِ، وَبقِيَ عَلى ذلِك َ اثنتيْ عَشْرَة َ سَنة !
وَكانَ يَزْعُمُ البدَوِيُّ: أَنَّ مِنْ كرَامَاتِهِ: أَنَّ ثوْرًا كادَ يَقتلُ رَضِيْعًا بمصْرَ ، فمَدَّ البدَوِيُّ يدَهُ إليْهِ - وَكانَ حِيْنَذَاك َ باِلعِرَاق ِ- إلىَ مِصْرَ ، فنجَّاهُ وَأَبْعَدَ الثوْرَ عَنْه !
وَكانَ البدَوِيُّ يتلثمُ بلِثامَين ِ، لا يُرَى مِنْ وَجْههِ شَيْءٌ سِوَى عَيْنيْهِ ! فطلبَ مِنْهُ أَحَدُ مُرِيدِيهِ أَنْ يَنْظرَ إلىَ وَجْههِ دُوْنَ لِثامٍ ، لِيَرَى وَجْهَه .
فقالَ لهُ البدَوِيُّ:«كلُّ نظرَةٍ برَجُل»ٍ !
فقالَ المرِيدُ المرِيدُ:«يَا سَيِّدِي أَرِنِي وَجْهَك َ وَلوْ مِتّ».
فكشَفَ البدَوِيُّ لهُ اللثامَ العُلوِيَّ ، فبدَا لهُ بَعْضُ وَجْههِ ، فصَعِقَ مُرِيدُهُ وَمَاتَ مِنْ فوْرِه ! كذَا زَعَمَ الشَّعْرَانِيُّ في «طبقاتِهِ الكبْرَى»(1/160).
وَمَا ذاك َ إلا َّ لِقبْحِ وَجْههِ ، وَتمَثل ِ الشياطِين ِ بهِ ، وَإلا َّ فليْسَ في ذلِك َ مَفخَرَة ٌ وَلا مَنْقبَة ٌ، وَليْسَ أَحَدٌ أَكرَمَ عَلى اللهِ وَلا أَحَبَّ إليْهِ مِنْ نبيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خلِيْلِهِ وَصَفيِّهِ ،
وَخِيْرَتِهِ مِنْ خلقِهِ ، وَكانَ وَجْهُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبيْحًا جَمِيْلا ً، لا تَمَلُّ عَينُ النّاظِرِ إليْهِ مِنْهُ ، يَمْلأُ القلوْبَ بَهْجَة ً وَسُرُوْرًا ، وَالنفسَ رِضا وَحُبُوْرًا . كمَا في«صَحِيْحِ البُخارِيِّ»(1009) وَغيرِهِ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا ، كانَ رُبَّمَا تمَثلَ بشِعْرِ أَبي طالِبٍ عَمِّ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نظرَ إليْهِ يَقوْلُ :
وَأَبيضَ يسْتسْقى الغمَامُ بوَجْههِ(182/260)
ثِمَالُ اليتامى عِصْمَة ٌ لِلأَرَامِل ِ
وَقدْ تَمَثلَ بهِ غيرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ جَمِيْعًا في النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَوَى البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(3549) وَمُسْلِمٌ(2337) عَن ِ البرَاءِ بْن ِعَازِبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ:«كانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النّاس ِ وَجْهًا ، وَأَحْسَنَهُ خَلقا ، ليْسَ باِلطوِيْل ِ البائِن ِ ، وَلا باِلقصِير».
وَفي«صَحِيْحِ البُخارِيِّ»(3552): أَنَّ البرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ سُئِلَ أَكانَ وَجْهُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ السَّيْفِ؟
فقالَ:«لا ! بَلْ مِثْلَ القمَر».
وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(5/454): عَنْ يَزِيْدِ بْن ِ هَارُوْنَ عَن ِ الجرَيرِيِّ قالَ: كنتُ أَطوْفُ مَعَ أَبي الطفيْل ِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ فقالَ : «مَا بَقِيَ أَحَدٌ رَأَى رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرِي».
قالَ :قلتُ :وَرَأَيته؟
قالَ :«نعَمْ».
قالَ :قلتُ : كيْفَ كانَ صِفتهُ؟
قالَ:«كانَ أَبيَضَ مَلِيْحًا مُقصَّدًا» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِه»(2340).(182/261)
وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(5/451) بإسْنَادٍ صَحِيْحٍ رِجَالهُ رِجَالُ الشَّيْخَين ِ: عَنْ يَحْيَى بْن ِسَعِيْدٍ وَمحمَّدِ بْن ِ جَعْفرٍ عَنْ عَوْفِ بْن ِ أَبي جَمِيْلة َ عَنْ زُرَارَة َعَنْ عَبْدِ اللهِ بْن ِ سَلامٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ قالَ:(لمّا قدِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدِينة َ، انْجَفلَ النّاسُ عَليْهِ ، فكنْتُ فِيْمَن ِ انْجَفلَ . فلمّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفتُ أَنَّ وَجْهَهُ ليْسَ بوَجْهِ كذّابٍ . فكانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقوْلُ:«أَفشوْا السَّلامَ ، وَأَطعِمُوْا الطعَامَ ، وَصِلوْا الأَرْحَامَ ، وَصَلوْا وَالنّاسُ نِيَامٌ ، تدْخُلوْا الجنة َ بسَلام» وَرَوَاهُ الدّارِمِيُّ(1460)،(2632) عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ عَامِرٍ عَنْ عَوْفٍ به .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في«جَامِعِهِ»(2485) وَابْنُ مَاجَهْ في«سُننِهِ»(1334) كِلاهُمَا عَنْ محمَّدِ بْن ِ بَشّارٍ عَنْ يَحْيَى بْن ِ سَعِيْدٍ ، وَمحمَّدِ بْن ِ جَعْفرٍ ، وَعَبْدِ الوَهّابِ الثقفِيِّ ، وَابْن ِ أَبي عَدِيٍّ كلهُمْ عَنْ عَوْفٍ به .
وَقالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَهُ:(هَذَا حَدِيْثٌ صَحِيْح).
أَمّا هَؤُلاءِ المتصَوِّفة ُ: فوُجُوْهُهُمْ وَرُؤُوْسُهُمْ قبيْحَة ٌ، تشْمَئِزُ مِنْهَا النُّفوْسُ ، لِفسَادِهِمْ وَتلبُّس ِ الشَّيَاطِين ِ بهمْ .
لهِذَا لمّا وَصَفَ الله ُ عَزَّ وَجَلَّ النارَ ، وَمَا فِيْهَا ، وَوَصَفَ شَجَرَة َ الزَّقوْمِ ، قالَ: { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ }.
* * *
فصل
وَقدْ سَاقَ الشَّعْرَانِيُّ في تَرْجَمَةِ البدَوِيِّ في«طبَقاتِهِ الكبرَى»(1/158-163) ، وَفي سَائِرِ ترَاجِمِهِ أَخْبَارًا مَمْجُوْجَة ً، لِكثِيرٍ مِنْ هَؤُلاءِ المفسِدِيْن .
وَمِنْ ذلك :(182/262)
مَا ذكرَهُ الشَّعْرَانِيُّ – مَنْقبَة ً- في«طبَقاتِهِ»(1/160) لإسْمَاعِيْل ِ بْن ِ يُوْسُفَ الأَنبابيِّ ، أَحَدِ المتصَوِّفةِ القائِمِينَ بَعْدَ البدَوِيِّ : أَنَّ إسْمَاعِيْلَ هَذَا ، كانَ يَزْعُمُ أَنهُ يرَى اللوْحَ المحْفوْظ ! وَيَقوْلُ لِلنَّاس ِ:«يَقعُ كذَا وَكذَا» فيَجِيءُ الأَمْرُ كمَا قالَ !
حَتَّى أَنهُ لمّا بَلغَ أَمْرُ هَذَا الضّال ِ أَحَدَ عُلمَاءِ المالِكِيَّةِ بمصْرَ: أَفتى بتعْزِيرِهِ ، فبلغهُ الخبَرُ ، فزَعَمَ : أَنَّ مِمّا رَآهُ في اللوْحِ المحْفوْظِ أَنَّ هَذَا القاضِي يَغْرَقُ في بَحْرِ الفرَاتِ ، فغرِقَ فِيْه !
وَلا شَك َّ أَنَّ هَذَا - إنْ صَحَّ - فهُوَ مِمّا تُوْحِيْهِ الشَّيَاطِينُ إلىَ أَوْلِيَائِهمْ مِنَ الكهنةِ مِنْ أُمُوْرِ الغيْبِ ، كمَا قالَ سُبْحَانهُ عَن ِ الجِنِّ: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً }.
وَقالَ: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}.
وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(6/87) وَالبخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» (5762)،(6213)،(7561) وَمُسْلِمٌ(2228) عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالتْ:(سَأَلَ أُناسٌ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِالكهّان ِ، فقالَ لهمْ رَسُوْلُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«ليْسُوْا بشَيْءٍ».
فقالوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ ، إنهُمْ يحَدِّثوْنَ أَحْيَانا باِلشَّيْءِ يَكوْنُ حَقا ؟!(182/263)
فقالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«تِلك َ الكلِمة ُ مِنَ الحقِّ يَخْطفهَا الجنيُّ ، فيقرُّهَا في أُذن ِ وَليِّهِ قرَّ الدَّجَاجَةِ ، فيَخلِطوْنَ فِيْهَا أَكثرَ مِنْ مِئَةِ كذِبة»).
وَأَمّا مَن ِادَّعَى عِلمَ الغيْبِ : فهُوَ كافِرٌ مُرْتدٌّ ، وَلا يَعْلمُ الغيْبَ إلا َّ الله ُ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ ، كمَا قالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
وَقالَ: { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.
وَقالَ: { وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ }.
وَقالَ: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } ، وَسَيَأْتِي بمَشِيْئَةِ اللهِ مَزِيدُ تفصِيْل ٍ(ص327-336) لهِذَا وَبيان .
فصل
ثمَّ ذكرَ الشَّعْرَانِيُّ أَيضًا(1/161): أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ البدَوِيِّ (مُحَمَّدًا قمرَ الدَّوْلة).
وَلمْ تَكنْ صُحْبتهُ لهُ عَنْ مُلازَمَةٍ ، وَإنمَا أَتتهُ هَذِهِ الصُّحْبَة ُ وَهَذَا الفضْلُ مِنْ شُرْبهِ لِمَاءِ بطيْخةٍ كانَ قدْ شَرِبهُ البدَوِيُّ ثمَّ تقيَّأَهُ ! في حِين ِ غيْبَةٍ مِنْ أَصْحَابه .
فكانَ بهَذَا مِنْ خَاصَّةِ البدَوِيِّ ! حَتَّى قالَ فِيْهِ بَعْدَ شُرْبهِ قيْئَهُ:(أَنتَ قمرُ دَوْلةِ أَصْحَابي) !(182/264)
فلمّا عَادَ أَصْحَابُ البدَوِيِّ ، وَعَلِمُوْا بخبرِ قمَرِ الدَّوْلةِ مَعَ البدَوِيِّ حَسَدُوْهُ ! حَتَّى أَنَّ عَبْدَ العَال ِ– أَحْدَ كِبَارِ مُرِيْدِي البدَوِيِّ ، وَالقائِمَ بَعْدَهُ مَكانهُ – طلبَ قمَرَ الدَّوْلةِ لِيقتلهُ ! حَسَدًا لهُ عَلى مَكانتِهِ هَذِهِ مِنَ البدَوِيِّ ! لكِنَّهُ لمْ يَظفرْ بهِ ، فعثرَتْ فرَسُ قمَرِ الدَّوْلةِ بهِ – وَهُمْ في طلبهِ – فسَقط َ في بئْرٍ ، فوَقفَ عَبْدُ العَال ِ وَمَنْ مَعَهُ عَلى البئْرِ يَنْتَظِرُوْنَ قمَرَ الدَّوْلةِ لِيَخْرُجَ لِيَقتلوْهُ ، فلمْ يَخْرُجْ ! ثمَّ عَلِمُوْا بخرُوْجِهِ مِنْ بئْرٍ أُخْرَى في قرْيةٍ بَعِيْدَة ! فلمْ يَطلبوْهُ بَعْدَهَا .
وَذكرَ الشَّعْرَانِيُّ عَنْ نفسِهِ –هُوَ- في«طبقاتِهِ» في تَرْجَمَةِ البَدَوِيِّ (1/161): أَنَّ شَيْخَهُ محمَّدًا الشِّنّاوِيَّ ، قدْ أَخَذَ عَليْهِ العَهْدَ عِنْدَ ضَرِيْحِ البَدَوِيِّ تَحْتَ قبتِهِ ، وَطلبَ الشِّنّاوِيُّ مِنَ البَدَوِيِّ : أَنْ يَكوْنَ الشَّعْرَانِيُّ تَحْتَ نظرِ البَدَوِيِّ وَرِعَايتِه !
فسَمِعُوْا عِنْدَهَا صَوْتَ البَدَوِيِّ مِنْ ضَرِيْحِهِ يُجِيْبُهُمْ أَنْ نَعَمْ ! ثمَّ أَخْرَجَ إليْهمْ يَدَهُ فصَافحَ الشَّعْرَانِيَّ وَقبَضَ عَلى يَدِه !
لِذَا كانَ الشَّعْرَانِيُّ مُلازِمًا حُضُوْرَ مَوْلِدِ البَدَوِيِّ كلَّ سَنةٍ لا يَغِيْبُ عَنْه .
وَزَعَمَ عَبْدُ الوَهّابِ الشَّعْرَانِيُّ في تَرْجَمَةِ البَدَوِيِّ مَزَاعِمَ خُرَافِيَّة ً كثِيرَة ً(1/161):
مِنْهَا : أَنَّ أَحَدَ المتصَوِّفةِ أَضَافهُ وَدَعَى في ضِيَافتِهِ الأَوْلِيَاءَ الأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالأَمْوَات !(182/265)
وَمِنْهَا : أَنهُ تخلفَ سنة َ(948ه) عَنْ مِيْعَادِ حُضُوْرِ مَوْلِدِ البَدَوِيِّ ، فأَخْبرَهُ بَعْضُ الأَوْلِيَاءِ - بزَعْمِهِ - مِمَّنْ حَضَرَ مَوْلِدَ البَدَوِيِّ : أَنَّ البَدَوِيَّ ذلِك َ اليوْمَ كانَ يَكشِفُ السِّتْرَ عَنْ ضَرِيْحِهِ وَيَقوْلُ:(أَبْطأَ عَبْدُ الوَهّابِ مَا جَاءَ) !
وَمِنْهَا : أَنَّ الشَّعْرَانِيَّ أَرَادَ في سَنةٍ مِنَ السِّنِين ِ التخلفَ عَنْ مَوْلِدِ البَدَوِيِّ ، فرَأَى البَدَوِيَّ وَمَعَهُ جَرِيْدَة ٌ خَضْرَاءُ ! وَهُوَ يَدْعُو النّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَقطارِ إلىَ مَوْلِدِهِ ، وَالنّاسُ خَلفهُ وَيَمِيْنَهُ وَشِمَالهُ أُمَمٌ لا يُحْصَوْن .
ثمَّ إنَّ البدَوِيَّ أَرَى الشَّعْرَانِيَّ خَلقا كثِيرًا مِنَ الأَوْلِيَاءِ وَغيرِهِمْ مِنَ الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ مِنَ الشُّيُوْخِ وَالزَّمْنَى بأَكفانِهمْ يَمْشُوْنَ وَيَزْحَفوْنَ ، وَآخَرِيْنَ مِنَ الأَسْرَى جَاءُوْا مَعَهُ مِنْ بلادِ الإفرَنجِ مُقيَّدِيْنَ مَغْلوْلِينَ يَزْحَفوْنَ عَلى مَقاعِدِهِمْ !
فقوِيَ عَزْمُ الشَّعْرَانِيِّ بَعْدَهَا عَلى الحضُوْرِ ، وَوَعَدَ البَدَوِيَّ بذلك ، إلا َّ أَنَّ البَدَوِيَّ أَبى ! وَلمْ تَطِبْ نفسُهُ حَتَّى أَقامَ عَلى الشَّعْرَانِيِّ سَبْعَيْن ِ عَظِيْمَيْن ِ أَسْوَدَيْن ِ كالأَفيال ِ! وَقالَ البدَوِيُّ لهذَيْن ِ السَّبْعَيْن ِ:(لا تفارِقاهُ حَتَّى تَحْضُرَا به)! كذَا زَعَمَ الشَّعْرَانِيُّ في«طبقاتِه».
وَلا شَك َّ أَنَّ هَذَا الشَّيْطانَ أَقامَ عَليْهِ شَيْطانين ِ خَشْيَة ً مِنْ تخلفِهِ عَنْ مَسَالِكِ الحثالةِ ، وَمَهَاوِي الرَّدَى وَالضَّلالة .(182/266)
وَمِنْهَا : أَنَّ الشَّعْرَانِيَّ زَعَمَ أَنَّ البَدَوِيَّ بَعْدَ مَوْتِهِ عَاتبَ محمَّدًا السَّرَوِيَّ – أَحَدَ المتصَوِّفةِ – لمّا غابَ عَنْ مَوْلِدِهِ وَقالَ لهُ:(مَوْضِعٌ يَحْضُرُ فِيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالأَنبيَاءُ عَليْهمُ الصَّلاة ُ وَالسَّلامُ مَعَهُ ، وَأَصْحَابُهُمْ وَالأَوْلِيَاءُ : مَا تَحْضُرُه؟!).
وَمِنْهَا : أَنَّ الشَّعْرَانِيَّ زَعَمَ أَنهُ وَصَاحِبٌ لهُ لقِيَا في يَوْمِ سَبْتٍ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ الهِنْدِ بزَعْمِهمْ بمصْرَ ، فأَضَافاهُ وَمَنْ مَعَهُ - وَكانوْا عَشرَة ً - وَسَأَلاهُ عَنْ أَمْرِهِ : فأَخْبرَهُمْ أَنهُ كانَ ليْلة َالأَرْبعَاءِ عِنْدَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدِينةِ ! وَليْلة َ الخمِيْس ِ عِنْدَ قبْرِ الشَّيْخِ عَبْدِ القادِرِ في العِرَاق ِ! وَليْلة َ الجمُعةِ عِنْدَ البَدَوِيّ !
فتعَجَّبَا مِنْ ذلِك َ فقالَ لهمُ الهِنْدِيُّ:(الدُّنيا كلهَا خُطوَة ٌ عِنْدَ أَوْلِيَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلّ).
وَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ الشَّعْرَانِيُّ في«طبَقاتِهِ»(1/162) عَنْ شَيْخِهِ مُحََمَّدٍ الشِّنّاوِيِّ أَنهُ قالَ:(إنَّ شَخْصًا أَنكرَ حُضُوْرَ مَوْلِدِ البَدَوِيِّ فسُلِبَ الإيْمَانَ ! فلمْ يَكنْ فِيْهِ شَعْرَة ٌ تحِنُّ إلىَ دِيْن ِ الإسْلام !
فاسْتَغاثَ بسَيِّدِي أَحْمَدَ فقالَ لهُ:«بشَرْطِ أَنْ لا تَعُوْدَ».
فقالَ : نعَم . فرَدَّ عَليْهِ ثوْبَ إيمَانِه)اه.
وَهَذِهِ الخرَافاتُ لا ترُوْجُ إلا َّ عَلى فاسِدِ عَقل ٍ، مُضَيَّعِ الدِّين ِ، وَمَا زَالَ أَئِمَّة ُ الإسْلامِ يُنْكِرُوْنَ عَلى المتصَوِّفةِ وَالجهّال ِ إقامَة َ الموَالِدِ البدْعِيَّةِ ، وَمِنْهَا : مَا يسَمُّوْنهُ الموْلدَ النبوِيَّ ! وَلمْ ينْزِلْ بهمْ مَا زَعَمَ أَنهُ نزَلَ بمُنْكِرِ مَوْلِدِ البدَوِيّ !(182/267)
وَقدْ كانَ الصَّحَابة ُ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ جَمِيْعًا أَشَدَّ النّاس ِ حُبًّا لِرَسُوْل ِاللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَكثرَهُمْ فِدَاءًا لهُ وَقِتَالا ً مَعَهُ ، قدِ اخْتَارَهُمُ الله ُ لِنبيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاصْطفاهُمْ لِصَفِيِّهِ ، وَلمْ يقِيْمُوْا مَوْلِدًا لهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
لِتمامِ عِلمِهمْ ، وَسَلامَةِ اعْتِقادِهِمْ ، وَمَضَى عَلى ذلِك َ التّابعُوْنَ وَتابعُوْهُمْ ، وَعَليْهِ أَئِمَّة ُ الإسْلامِ المهْتَدُوْنَ بَعْدَ ذلك .
وَمَا حَدَثتْ هَذِهِ البدْعَة ُ المسَمّاة ُ باِلموْلِدِ النَّبَوِيِّ ، إلا َّ بَعْدَ تَصَرُّمِ القرُوْن ِ المفضلةِ ، عَلى يدِ أَحَدِ حُكامِ الفاطِمِيِّينَ الزَّنادِقة .
فصل
في بيان ِ حَال ِ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ أَبي المجْدِ الدُّسُوْقِيّ
(633ه-676ه)
وَمِنْ قبُوْرِ المبْطِلِينَ كذَلِك َ، الذِيْنَ شُغِفَ بهَا الضّالوْنَ المنْحَرِفوْنَ : قبرُ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ أَبي المجْدِ الدُّسُوْقِيِّ المِصْرِيّ .
وَهَذَا الرَّجُلُ كسَابقِهِ ، قدْ نشأَ ضَالا ًّ مُنْحَرِفا ، يَزْعُمُ الاطلاعَ عَلى اللوْحِ المحْفوْظِ ! وَيَدَّعِي عِلمَ الغيْبِ ! وَلهُ أَحْوَالٌ شَيْطانِيَّة ٌ، كحَال ِ كثِيرٍ مِنْ أَشْبَاهِه .
وَكانَ يَقوْلُ:(مَنْ غابَ بقلبهِ بحضْرَةِ رَبهِ : لا يُكلفُ فِي غيْبتِهِ ، فإذا خَرَجَ إلىَ عَالمِ الشَّهَادَةِ ، قضَى مَا فاتهُ ، وَهَذَا حَالُ المبْتَدِئِينَ . أَمّا حَالُ الكمَّل ِ: فلا يَجْرِي عَليْهمْ هَذَا الحكمُ ، بَلْ يُرَدُّوْنَ لأَدَاءِ فرْضِهمْ وَسُنَنِهمْ)اه نقلهُ عَنْهُ الشَّعْرَانِيُّ فِي«طبقاتِه»(1/143).(182/268)
وَقالَ(1/147):(إذا كمُلَ العَارِفُ فِي مَقامِ العِرْفان ِ: أَوْرَثهُ الله ُ عِلمًا بلا وَاسِطةٍ ، وَأَخَذَ العُلوْمَ المكتوْبة َ فِي أَلوَاحِ المعَانِي ، ففهمَ رُمُوْزَهَا ، وَعَرَفَ كنوْزَهَا ، وَفك َّ طلسَمَاتِهَا ، وَعَلِمَ اسْمَهَا وَرَسْمَهَا ، وَأَطلعَهُ الله ُ تَعَالىَ عَلى العُلوْمِ الموْدَعةِ فِي النَّقطِ ، وَلوْلا خوْفُ الإنكارِ لنطقوْا بمَا يَبْهَرُ العُقوْل .
وَكذَلِك َ لهمْ مِنْ إشَارَاتِ العِبَارَاتِ عِبَارَاتٌ مُعْجَمَة ٌ، وَأَلسُنٌ مُخْتَلِفة .
وَكذَلِك َ لهمْ فِي مَعَانِي الحرُوْفِ ، وَالقطعِ ، وَالوَصْل ِ، وَالهمِّ ، وَالشَّكل ِ، وَالنَّصْبِ ، وَالرَّفعِ ، مَا لا يُحْصَرُ ، وَلا يَطلِعُ عَليْهِ إلا َّ هُمْ .
وَكذَلِك َ لهمُ الاطلاعُ عَلى مَا هُوَ مَكتُوْبٌ عَلى أَوْرَاق ِ الشَّجَرِ وَالماءِ وَالهوَاءِ ، وَمَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ، وََمَا هُوَ مَكتُوْبٌ عَلى صَفحَةِ قبَّةِ خَيْمَةِ السَّمَاءِ ، وَمَا فِي جِبَاهِ الإنس ِ وَالجِنِّ ، مِمّا يَقعُ لهمْ فِي الدُّنيا وَالآخِرَة .
وَكذَلِك َ لهمُ الاطلاعُ عَلى مَا هُوَ مَكتُوْبٌ بلا كِتَابةٍ مِنْ جَمِيْعِ مَا فوْقَ الفوْقِيِّ ، وَمَا تَحْتَ التَّحْتيِّ ، وَلا عَجَبَ مِنْ حَكِيْمٍ يتلقى عِلمًا مِنْ حَكِيْمٍ عَلِيْم . فإنَّ مَوَاهِبَ السِّرِّ اللدُنِيِّ ، قدْ ظهَرَ بَعْضُهَا فِي قِصَّةِ مُوْسَى وَالخضِرِ عَليْهمَا السَّلام).(182/269)
وَكانَ يَقوْلُ(1/157):(أَنا مُوْسَى عَليْهِ السَّلامُ فِي مُنَاجَاتِهِ ، وَأَنا عَلِيٌّ فِي حَمْلاتِهِ . أَنا كلُّ وَلِيٍّ فِي الأَرْض ِ، خَلعْتُهُ بيَدَيَّ ، أَلبَسُ مِنْهُمْ مَنْ شِئْتُ . أَنا فِي السَّمَاءِ شَاهَدْتُ رَبِّي ، وَعَلى الكرْسِيِّ خَاطبْتهُ ، أَنا بيَدَيَّ أَبوَابُ النّارِ غلقتهَا ، وَبيَدَيَّ جَنَّة ُ الفِرْدَوْس ِ فتَحْتُهَا . مَنْ زَارَنِي أَسْكنْتُهُ جَنَّة َ الفِرْدَوْس).
ثمَّ قالَ:(وَقدْ كنْتُ أَنا وَأَوْلِيَاءُ اللهِ تَعَالىَ أَشْيَاخًا فِي الأَزَل ِ، بَينَ يَدَي قدِيْمِ الأَزَل ِ، وَبَينَ يَدَي رَسُوْل ِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَخْلعَ عَلى جَمِيْعِ الأَوْلِيَاءِ بيَدَيَّ ، فخلعْتُ عَليْهمْ بيَدَيَّ ، وَقالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«يَا إبْرَاهِيْمُ أَنتَ نقِيْبٌ عَليْهمْ») إلىَ آخِرِ خُرَافاتِه .
وَقالَ أَيضًا(1/158):(أَشْهَدَنِي الله ُ تَعَالىَ مَا فِي العُلا وَأَنا ابْنُ سِتِّ سِنِينَ ، وَنظرْتُ فِي اللوْحِ المحْفوْظِ وَأَنا ابْنُ ثمَان ِ سِنِينَ ، وَفككتُ طلسَمَ السَّمَاءِ وَأَنا ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ ، وَرَأَيْتُ فِي السَّبْعِ المثانِي حَرْفا مُعْجَمًا حَارَ فِيْهِ الجِنُّ وَالإنسُ ، ففهمْتُهُ وَحَمِدْتُ الله َ تَعَالىَ عَلى مَعْرِفتِهِ ، وَحَرَّكتُ مَا سَكنَ ، وَسَكنْتُ مَا تَحَرَّك َ بإذن ِ اللهِ تَعَالىَ ، وَأَنا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَة َ سَنة).
وَلهُ نظمٌ خَبيْثٌ كنثْرِهِ ، مِنْهُ قوْلهُ (1/158):
أَنا الحرْفُ لا أُقرَا لِكلِّ مُنَاظِرٍ
وَكلُّ الوَرَى مِنْ أَمْرِ رَبِّي رَعِيَّتي
وَمَا قلتُ هَذَا القوْلُ فخْرًا وَإنّمَا
أَتَى الإذنُ كيْ لا يَجْهَلوْنَ طرِيْقتي
فأَوْصَلتُ ذاتِي باِتِّحَادِي بذَاتِهِ
بغيرِ حُلوْل ٍ بَلْ بتَحْقِيْق ِ نِسْبَتي
أَنا ذلِك َ القطبُ المبَارَك ُ أَمْرُهُ(182/270)
فكلُّ مَدَارِ الكلِّ مِنْ حَوْل ِ ذرْوَتِي
وَبي قامَتِ الأَشْيَاءُ فِي كلِّ أُمَّةٍ
بمخْتَلفِ الآرَاءِ وَالكلُّ أُمَّتي
وَلا جَامِعٌ إلا َّ وَلِي فِيْهِ مِنْبَرٌ
وَفِي حَضْرَةِ المخْتَارِ فزْتُ ببُغْيَتي
نعَمْ نشْأَتِي فِي الحبِّ مِنْ قبْل ِ آدَمٍ
وَسِرِّيَ فِي الأَكوَان ِ مِنْ قبْل ِ نشْأَتِي
أَنا كنْتُ فِي العَليَاءِ مَعْ نوْرِ أَحْمَدٍ
عَلى الدُّرَّةِ البَيْضَاءِ فِي خَلوِيَّتي
أَنا كنْتُ فِي رُؤْيا الذَّبيْحِ فِدَاؤُهُ
بلطفِ عِنَايَاتٍ وَعَين ِ حَقِيْقةِ
أَنا كنْتُ مَعْ إدْرِيْسَ لمّا أَتَى العُلا وَأُسْكِنَ فِي الفِرْدَوْس ِ أَنعَمِ بُقعَةِ
أَنا كنْتُ مَعْ عِيْسَى عَلى المهْدِ ناطِقا وَأَعْطيْتُ دَاوُوْدًا حَلاوَة َ نغْمَةِ
أَنا كنْتُ مَعْ نوْحٍ بمَا شَهدَ الوَرَى
بحَارًا وَطوْفانا عَلى كفِّ قدْرَةِ
أَنا القطبُ شَيْخُ الوَقتِ فِي كلِّ حَالةٍ
أَنا العَبْدُ إبْرَاهِيْمُ شَيْخُ الطرِيقةِ
وَفي كلامِهِ السّابق ِ نظمًا وَنثرًا مِنَ الضّلالاتِ المكفرَاتِ : مَا لوْ قسِّمَ عَلى أُمَّةٍ لأَوْبقهَا ، عِيَاذا باِللهِ مِنْ ضَلالِهِ وَضَلال ِ أَتباعِهِ وَأَصْحَابه .
* * *
فصل(182/271)
وَقدْ زَعَمَ كثِيرٌ مِنَ المتَصَوِّفةِ ، حَتَّى أَصْبَحَ مِنَ المسْتقِرِّ بَيْنَهُمْ ، المعْلوْمِ عِنْدَهُمْ باِلضَّرُوْرَةِ : أَنَّ الأَوْلِيَاءَ – أَوْ أَكثرَهُمْ – لهمُ اطلاعٌ عَلى الغيْبِ ! وَاطلاعٌ عَلى اللوْحِ المحْفوْظِ ! وَتَصَرُّفٌ فِي الكوْن ِ! وَأَنَّ التَّكالِيْفَ الشَّرْعِيَّة َ تَسْقط ُ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ إذا بَلغوْا مَرْتبَة َ اليَقِين ِ بزَعْمِهمْ ! فلا عِبَادَة ٌ تُقرِّبهُمْ إلىَ رَبِّهمْ وَقدْ بَلغُوْا فِي القرْبِ الغاية ! وَلا يَزِيْدُ إيْمَانهُمْ بَعْدَ هَذَا وَإنْ تُلِيَتْ عَليْهمْ آياتُ اللهِ آية ً آية ! خِلافَ أَئِمَّةِ الدِّيْن ِ، وَأَنبيَاءِ اللهِ وَالمرْسَلِينَ ، الذِيْنَ قالَ فِيْهمْ سُبْحَانهُ: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }.
وَقالَ: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}.
وَهَذِهِ الأُمُوْرُ السّابقة ُ مِنَ ادِّعَاءِ الغيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الكوْن ِ وَسُقوْطِ التَّكالِيْفِ ، مَعَ بلايا كثِيراتٍ غيرِهَا : مُكفرَاتٌ كبيرَاتٌ ، وَنوَاقِضُ لِعُرَى الإسْلامِ عَظِيْمَاتٌ ، لا يَبْقى مَعَ مَن ِ اعْتقدَهَا ، أَوْ اعْتقدَ بَعْضَهَا ، أَوْ ظنَّ صِحَّتَهَا ، أَوْ سَلامَة َ مُعْتَقِدِهَا إسْلامٌ وَلا إيْمَان .(182/272)
وَمَن ِادَّعَى عِلمَ الغيْبِ : فهُوَ كافِرٌ مُرْتدٌّ ، وَلا يَعْلمُ الغيْبَ إلا َّ الله ُ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ ، كمَا قالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
وَقالَ: { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.
وَقالَ: { وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ }.
وَقالَ: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }.
فلا يَعْلمُ الغيْبَ أَحَدٌ سِوَاهُ ، إلا َّ أَنهُ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ قدْ خَصَّ أَنبيَاءَهُ وَرُسُلهُ بشَيْءٍ مِنْ ذلِك َ، قالَ تَعَالىَ: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً }.
وَقالَ: { ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }.
وَقالَ: { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }.(182/273)
وَقالَ: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }.
* فمَنْ زَعَمَ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غيرِهِ عِلمًا باِلغيْبِ مُطلقا : كانَ ضَالا ًّ كاذِبا ، قالَ سُبْحَانهُ لِنبيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
وَرَوَى البُخارِيُّ فِي«صَحِيْحِهِ»(7380) وَمُسْلِمٌ(177) مِنْ حَدِيْثِ مَسْرُوْق ٍ أَنَّ عَائِشَة َ رَضِيَ الله ُعَنْهَا قالتْ لهُ :(مَنْ حَدَّثك َ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبهُ : فقدْ كذَبَ ، وَهُوَ يَقوْلُ { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ }.
وَمَنْ حَدَّثك َ أَنهُ يَعْلمُ الغيْبَ : فقدْ كذَبَ ، وَهُوَ يَقوْلُ«لا يَعْلمُ الغيْبَ إلا َّ الله»). * وَقالَ سُبْحَانهُ في أَنبيَائِهِ جَمِيْعًا عَليْهمُ السَّلامُ: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }.
* وَقالَ تَعَالىَ فِي هُوْدٍ عَليْهِ السَّلامُ: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ}.(182/274)
* وَقالَ في مُوْسَى عَليْهِ السَّلامُ : {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
* وَقالَ في عِيْسَى عَليْهِ السَّلامُ: : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.
* وَقالَ سُبْحَانهُ في الملائِكةِ في قِصَّتِهمْ مَعَ آدَمَ عَليْهمُ السَّلامُ: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.
وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(2/52) وَالبخارِيُّ في «صَحِيْحِهِ» (1039) عَن ِ ابْن ِعُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا عَن ِالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«مَفاتِيْحُ الغيْبِ خَمْسٌ ، لا يَعْلمُهُنَّ إلا َّ الله ُ، لا يَعْلمُ مَا في غدٍ إلا َّ الله ُ، وَلا يَعْلمُ نزُوْلَ الغيْثِ إلا َّ الله ُ، وَلا يَعْلمُ مَا في الأَرْحَامِ إلا َّ الله ُ، وَلا يَعْلمُ السّاعَة َ إلا َّ الله ُ، وَمَا تَدْرِي نفسٌ مَاذا تكسِبُ غدًا ، وَمَا تدْرِي نفسٌ بأَيِّ أَرْض ٍ تَمُوْت»، وَالأَحَادِيْثُ في هَذَا كثِيرَة ٌ مَعْلوْمَة .
فليْسَ لأَحَدٍ سَبيْلٌ قط ّ إلىَ شَيْءٍ مِنْ أُمُوْرِ الغيْبِ ، إلا َّ بأَحدِ أَمْرَيْن ِ:(182/275)
* إمّا بوَحْي وَنبوَّةٍ ، وَهَذَا لِلرُّسُل ِ دُوْنَ غيرِهِمْ ، وَمَن ِ ادَّعَاهُ لِنفسِهِ مِنْ غيرِهِمْ : فهوَ كافِرٌ مِنْ وَجْهين ِ:
أَحَدِهِمَا : ادِّعَاؤُهُ عِلمَ الغيْب .
وَالثانِي : ادِّعَاؤُهُ النُّبُوَّة َ، وَكِلاهُمَا كفرٌ ، مُتَّفقٌ عَليْه .
* وَإمّا بمَا أَخْبرَنا الله ُ بهِ في كِتَابهِ وَنبيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُمُوْرٍ غيْبيَّةٍ عَمَّنْ سَبَقنَا مِنَ بَدْءِ الخلق ِ وَمَعَادِهِمْ ، وَأَخبَارِ الأُمَمِ ، وَمَا سَيَحْدُثُ في آخِرِ الزَّمَان ِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ ، وَأَسْمَاءِ اللهِ وَصِفاتِهِ ، وَمَا أَعَدَّهُ لِلمُؤْمِنِينَ مِنْ نعِيْمٍ ، وَمَا أَعَدَّهُ لِلكافِرِيْنَ مِنْ جَحِيْمٍ ، وَنَحْوِ ذلك .
وَالوَاجِبُ في هَذَا كلهِ : الإيْمَانُ بهِ ، وَالتَّسْلِيْمُ وَالتَّصْدِيْقُ ، لهِذَا وَصَفَ الله ُ عِبَادَهُ المؤْمِنِينَ المتقِينَ المفلِحِينَ ، وَمَدَحَهُمْ باِلإيْمَان ِ باِلغيْبِ فقالَ: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ }.
فمَنْ لمْ يؤْمِنْ بخبرِ اللهِ سُبْحَانهُ وَخبرِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لمْ يَكنْ مُؤْمِنًا ، بَلْ هُوَ كافِرٌ أَيضا .
أَمّا مَاتدَّعِيْهِ المتصَوِّفة ُ لأَوْلِيَائِهَا وَكثِيرٍ مِنْ أَعْيَانِهَا وَأَغيَانِهَا ، مِنَ اطلاعٍ عَلى الغيْبِ ، أَوْ نظرٍ في اللوْحِ المحْفوْظِ : فهُوَ كفرٌ صَرِيْحٌ وَرِدَّة ٌ، لا تَأْوِيْلَ فِيْهِ وَلا مِرْية .(182/276)
أَمّا مَا يَرَاهُ النّائِمُ في نوْمِهِ مِنْ أُمُوْرٍ قدْ يتحَققُ بَعْضُهَا : فهَذَا لا يُخالِفُ مَا قرَّرْناهُ سَابقا ، وَهُوَ مِنَ المبشرَاتِ لِلمُؤْمِن ِ، وَقدْ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الرُّؤْيا الصّالحة ُ مِنَ اللهِ ، وَالحلمُ مِنَ الشَّيْطان ِ، فإذا حَلمَ فليتعَوَّذْ مِنْهُ وَليبْصُقْ عَنْ شِمَالِهِ فإنهَا لا تضُرُّه» رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(6986) وَمُسْلِمٌ (2261) مِنْ حَدِيْثِ أَبي قتادَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
وَرَوَى البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(6989) مِنْ حَدِيْثِ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ : أَنهُ سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقوْلُ:«الرُّؤْيا الصّالحِة ُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّة».
وَقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«لمْ يبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلا َّ المبشِّرَات».
قالوْا: وَمَا المبشِّرَات؟
قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«الرُّؤْيا الصّالحِة» رَوَاهُ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(6990) مِنْ حَدِيْثِ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْه .
إلا َّ أَنَّ الرُّؤْيا تخالِفُ الوَحْيَ وَتفارِقهُ في مَسَائِلَ ، مِنْهَا :
* أَنَّ شَرْط َ اعْتِبَارِهَا : أَنْ تَكوْنَ رُؤْيا صَالحِة ً، لا حُلمًا أَوْ أَضْغاثَ أَحْلام .
* وَأَنهَا لا تَكوْنُ باِخْتِيَارِ النّائِمِ ، بَلْ ترِدُ عَليْهِ دُوْنَ اخْتِيَارِه .
* وَلا يُشْترَط ُ فِيْهَا صَلاحُ صَاحِبهَا لِصِحَّتِهَا ، بَلْ رُبَّمَا كانَ كافِرًا أَوْ دُوْنَ ذلِك َ، كمَا في قِصَّةِ مَلِكِ مِصْرَ مَعَ يُوْسُفَ عَليْهِ السَّلامُ ، وَصَاحِبَيْهِ في السِّجْن ِ، وَقدْ حَكاهَا الله ُ تَعَالىَ لنا في القرْآن ِ، وَقِصَّةِ هِرَقلَ في«صَحِيْحِ البُخارِيّ»(7).(182/277)
إلا َّ أَنَّ صِدْقَ رُؤْيا هَؤُلاءِ عَلى النادِرِ ، بخِلافِ المؤْمِنِينَ المسْتقِيْمِينَ : فقدْ أَخْرَجَ البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(7017) وَمُسْلِمٌ (2063) عَنْ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ يَقوْلُ : قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إذا اقترَبَ الزَّمَانُ لمْ تكدْ تَكذِبُ رُؤْيا المؤْمِن ِ ، وَرُؤْيا المؤْمِن ِ جُزْءٌ مِنْ سِتةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ ، وَمَا كانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فإنهُ لا يَكذِب».
* وَأَنهَا لا اعْتبَارَ لها في الأَحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ ، فلا يثبتْ بهَا شَيْءٌ لمْ يثبتْ ، وَلا ينفى لأَجْلِهَا شَيْءٌ ثابت .
* وَلا يُجْزَمُ بصِدْقِهَا ، وَلا يُعْرَفُ صِدْقهَا إلا َّ بَعْدَ وُقوْعِهَا ، بخِلافِ الوَحْيِّ ، فيعْرَفُ صِدْقهُ قبْلَ وُقوْعِه .
وَيُسْلك ُ فِيْهَا مَسْلك ُ أَخْبَارِ بَني إسْرَائِيْلَ – التي لمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بتَصْدِيْق ٍ لها وَلا برَدٍّ- لا تُصَدَّقُ وَلا تُكذَّبُ ، كمَا قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَا حَدَّثكمْ أَهْلُ الكِتَابِ : فلا تُصَدِّقوْهُمْ وَلا تُكذِّبوْهُمْ ، وَقوْلوْا آمَنّا باِللهِ وَرُسُلِه .
فإنْ كانَ بَاطِلا ً لمْ تُصَدِّقوْهُ ، وَإنْ كانَ حَقا لمْ تُكذِّبوْه» رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(4/136) وَأَبوْ دَاوُوْدَ في«سُننِه»(3644).
وَلا سَبيْلَ إلىَ الجزْمِ بهَا إلا َّ مِنْ طرِيْق ِ الوَحْيِّ ، كمَا في قِصَّةِ يُوْسُفَ عَليْهِ السَّلامُ مَعَ مَلِكِ مِصْرَ وَمَعَ الفتَيَين ِ اللذَين ِ سُجِنَا مَعَهُ ، فإنهُ بيَّنَ لهمْ تَأْوِيْلَ رُؤْياهُمْ ، وَكانَ ذلِك َ وَحْيًا ، لا رَجْمًا باِلغيْبِ : فجُزِمَ بصِدْق ِ تَأْوِيْلِهِ عَليْهِ السَّلامُ وَإنْ كانَ قبْلَ وُقوْعِه .(182/278)
وَكمَا كانَ يَفعَلهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثِيرًا مَعَ أَصْحَابهِ بَعْدَ صَلاةِ الفجْرِ ، فرَوَى البُخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(1386)،(7047) وَمُسْلِمٌ(2275) عَنْ سَمُرَةِ بْن ِجُنْدُبٍ رَضِيَ الله ُعَنْهُ قالَ:(كانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمّا يُكثِرُ أَنْ يَقوْلَ لأَصْحَابهِ :«هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكمْ مِنْ رُؤْيا؟».
قالَ سَمُرَة ُ: فيقصُّ عَليْهِ مَنْ شَاءَ الله ُ أَنْ يَقصّ) الحدِيْثَ بطوْلِه.
وَالوَحْيُ قدِ انقطعَ فانقطعَ مَعَهُ سَبيْلُ الجزْمِ بصِدْق ِ الرُّؤَى قبْلَ وُقوْعِهَا .
فإذا تقرَّرَ هَذَا عِنْدَك َ، وَأَنَّ الله َ قدِ اخْتَصَّ نفسَهُ سُبْحَانهُ بعِلمِ الغيْبِ ، وَأَنْ لا اطلاعَ لأَحَدٍ مِنْ خلقِهِ عَليْهِ سِوَى مَا خَصَّ الله ُ بهِ رُسُلهُ وَأَنبيَاءَهُ ببعْض ِ أُمُوْرِهِ : إذا عَلِمْتَ هَذَا ، عَلِمْتَ عَظِيْمَ ضَلال ِ كثِيرٍ مِنَ المتصَوِّفةِ زَاعِمِي الوَلايةِ ، مِمَّنْ يَدَّعُوْنَ لأَنْفسِهمْ أَوْ لِبعْض ِ شُيُوْخِهمُ الاطلاعَ عَلى اللوْحِ المحْفوْظِ ! مِمّا لمْ يَجْعَلهُ الله ُ تَعَالىَ وَلمْ يَأْذنْ بهِ لأَحَدٍ مِنْ خَلقِهِ ، حَتَّى خِيْرَتِهِ مِنْ خَلقِهِ ، لا نبيٍّ مُرْسَل ٍ، وَلا مَلكٍ مُقرَّبٍ ، فكيْفَ يَجْعَلهُ لحِثالةِ الخلق ِ وَضُلالهِمْ وَرُذلائِهمْ.
أَمّا مَا يُخْبرُ بهِ هَؤُلاءِ الدَّجّالوْنَ المزْعُوْمَة ُ وَلايَتُهُمْ ، مِنْ أُمُوْرٍ غيْبيَّةٍ فتَجِئُ أَخْبَارُهُمْ مُوَافِقة ً لِحَقِيْقةِ مَا غابَ : فهيَ - إنْ صَحَّ بَعْضُهَا- مِمّا تُوْحِيْهِ الشَّيَاطِينُ إلىَ أَوْلِيَائِهمْ مِنَ الكهنةِ مِنْ أُمُوْرِ الغيْبِ ، كمَا قالَ سُبْحَانهُ عَن ِ الجِنِّ { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً }.(182/279)
وَقالَ: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}.
وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(6/87) وَالبخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ» (5762)،(6213)،(7561) وَمُسْلِمٌ(2228) عَنْ عَائِشَة َزَوْجِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ الله ُ عَنْهَا قالتْ:(سَأَلَ أُناسٌ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِالكهّان ِ، فقالَ لهمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«ليْسُوْا بشَيْءٍ».
فقالوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ ، إنهُمْ يحَدِّثوْنَ أَحْيَانا باِلشَّيْءِ يَكوْنُ حَقا ؟!
فقالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«تِلك َ الكلِمة ُ مِنَ الحقِّ يَخْطفهَا الجنيُّ ، فيقرُّهَا في أُذن ِ وَليِّهِ قرَّ الدَّجَاجَةِ ، فيَخلِطوْنَ فِيْهَا أَكثرَ مِنْ مِئَةِ كذِبة»).
وَرَوَى البخارِيُّ في«صَحِيْحِهِ»(4800) عَنْ أَبي هُرَيرَة َ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ يَقوْلُ : إنَّ نبيَّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:«إذا قضَى الله ُ الأَمْرَ في السَّمَاءِ ، ضَرَبتِ الملائِكة ُ بأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانا لِقوْلِهِ ، كأَنهُ سِلسِلة ٌ عَلى صَفوَانَ ، ف{ إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } لِلذِي قالَ { قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }.(182/280)
فيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكذَا بَعْضُهُ فوْقَ بَعْض ٍ، فيَسْمَعُ الكلِمَة َ فيلقِيْهَا إلىَ مَنْ تَحْتَهُ ، ثمَّ يُلقِيْهَا الآخَرُ إلىَ مَنْ تَحْتَهُ ، حَتَّى يُلقِيْهَا عَلى لِسان ِ السّاحِرِ أَوِ الكاهِن .
فرُبمَا أَدْرَك َ الشِّهَابُ قبْلَ أَنْ يُلقِيْهَا ، وَرُبمَا أَلقاهَا قبْلَ أَنْ يُدْرِكه.
فيَكذِبُ مَعَهَا مِئَة َ كذِبةٍ ، فيقالُ: أَليْسَ قدْ قالَ لنا يوْمَ كذَا وَكذَا : كذا وكذا؟! فيصَدَّقُ بتِلك َ الكلِمَةِ التي سَمِعَ مِنَ السَّمَاء».
وَرَوَى الإمَامُ أَحْمَدُ في«مُسْنَدِهِ»(1/218) عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ: (كانَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا في نفرٍ مِنْ أَصْحَابهِ مِنَ الأَنصَارِ ، فرُمِيَ بنجْمٍ عَظِيْمٍ فاسْتنَار!
قالَ:«مَا كنتمْ تقوْلوْنَ إذا كانَ مِثْلُ هَذَا في الجاهِلِيَّة؟».
قالَ: كنا نقوْلُ يُوْلدُ عَظِيْمٌ أَوْ يَمُوْتُ عَظِيْم.
قالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«فإنهُ لا يرْمَى بهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ ، وَلكِنَّ رَبنا تبَارَك َ اسْمُهُ إذا قضَى أَمْرًا : سَبَّحَ حَمَلة ُ العَرْش ِ، ثمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الذين يَلوْنهُمْ حَتَّى يَبْلغَ التَّسْبيْحُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنيا .
ثمَّ يَسْتَخْبرُ أَهْلُ السَّمَاءِ الذِيْنَ يَلوْنَ حَمَلة َ العَرْش ِ، فيقوْلُ الذِيْنَ يَلوْنَ حَمَلة َالعَرْش ِ، لحمَلةِ العَرْش ِ: مَاذا قالَ رَبُّكمْ ؟ فيُخْبرُوْنهُمْ .
وَيُخْبرُ أَهْلُ كلِّ سَمَاءٍ سَمَاءً ، حَتَّى يَنْتَهيَ الخبرُ إلىَ هَذِهِ السَّمَاءِ وَيَخْطِفُ الجنُّ السَّمْعَ فيُرْمَوْنَ ، فمَا جَاءُوْا بهِ عَلى وَجْههِ : فهُوَ حَقٌّ ، وَلكِنَّهُمْ يُقذَفوْنَ وَيزِيدُوْنَ ، وَيَخْطِفُ الجِنُّ وَيُرْمَوْن».(182/281)
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ في«صَحِيْحِهِ»(2229) وَالتِّرْمِذِيُّ في«جَامِعِه»(3224).
فصل
وَمَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ وَالاسْتِغاثة َ وَالذَّبحَ لِلأَمْوَاتِ أَنبيَاءً وَصَالحِينَ وَغيْرِهِمْ : شِرْك ٌ أَكبرُ مُخْرِجٌ مِنَ المِلةِ كمَا بيناه .
إلا َّ أَنَّ أُوْلئِك َ المشْرِكِينَ الضّالينَ وَشُيُوْخَهُمْ ، جَمَعُوْا إلىَ شِرْكِهمْ وَكفرِهِمْ : تعْظِيْمَ قبوْرِ مُشْرِكِينَ وَضَالين .
وَإذا كانَ مَا سُقتهُ سَابقا مِنْ حَال ِ البَدَوِيِّ ، وَضَلالِهِ - وَهُوَ مُعَظمٌ عِنْدَهُمْ وَمُبَجَّلٌ - وَمِثْلهُ الدُّسُوْقِيُّ : فإنَّ حَالَ كثِيرِيْنَ غيْرِهِمَا مِنْ هَؤُلاءِ مِثْلهُمَا أَوْ أَسْوَأُ مِنْهُمَا .
وَقدْ سَعَى النَّصَارَى الصَّلِيْبيُّوْنَ في القرْن ِ الماضِي في نشْرِ هَذِهِ الخرَافاتِ ، وَصَرَفوْا النّاسَ عَنْ دِينِهمْ إلىَ الوَثنِيَّةِ ، وَعَمّا يَجِبُ عَليْهمْ تِجَاهَ أُوْلئِك َ المسْتعْمِرِينَ ، باِلتزْيين ِ لهمْ أَفعَالهمْ عِنْدَ القبوْرِ وَمَعَ المقبوْرِين .
حَتَّى أَنَّ بَعْضَ الجزَائرِيينَ أَخْبرَنِي: أَنَّ الفرَنسِيِّينَ لمّا اسْتَوْلوْا عَلى الجزَائِرِ ، كانوْا يَعْمَدُوْنَ إلىَ بَعْض ِ المشَاهِدِ وَالأَضْرِحَةِ التي يُنْسَبُ أَصْحَابهَا إلىَ الصَّلاحِ ، فيَجْمَعُوْنَ النّاسَ لها ثمَّ يُوَجِّهُوْنَ المِدْفعَ إليْهَا مُظهرِيْنَ لهمْ أَنهُمْ يُرِيْدُوْنَ إصَابتهُ وَتدْمِيرَهُ ، وَقدْ مَلؤُهُ بَارُوْدًا دُوْنَ ذخِيرَةٍ مَكرًا !
ثمَّ يُطلِقوْنَ عَليْهِ ، فيدَوِّي صَوْتُ المِدْفعِ ، حَتَّى يَخالَ الحاضِرُوْنَ أَنهُ قدْ أَصَابهُ ، ثمَّ يَنْظرُوْنَ فإذا هُوَ بَاق ٍ مَكانهُ ! فيزِيدُ
تعلقهُمْ بهِ وَاعْتِقادُهُمْ فِيْه !(182/282)
وَذكرَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ حَسَن ٍ الباقوْرِيُّ المِصْرِيُّ الأَزْهَرِيُّ (ت1405ه) في فتْوَى لهُ في النَّهْيِّ عَنْ زَخْرَفةِ القبوْرِ وَبناءِ القِبَابِ وَالمسَاجِدِ عَليْهَا : أَنَّ أَحَدَ كِبَارِ الشَّرْقِيِّينَ ، حَدَّثهُ عَنْ بَعْض ِ أَسَالِيْبِ الاسْتِعْمَارِ في آسْيَا .
فكانَ مِمّا ذكرَهُ لهُ : أَنَّ المسْتعْمِرِينَ كانوْا يَضْطرُّوْنَ إلىَ تَحْوِيْل ِالقوَافِل ِ الآتِيَةِ مِنَ الهِنْدِ إلىَ بغدَادَ عبْرَ تِلك َ المنْطِقةِ الوَاسِعَةِ ، إلىَ اتجَاهٍ جَدِيدٍ لهمْ فِيْهِ حَاجَة ٌ وَغاية .
فكانوْا يَسْعَوْنَ جَاهِدِيْنَ في صَرْفِ القوَافِل ِ عَن ِ اتجَاهِهَا الأَوَّل ِ إلىَ الاتجَاهِ الجدِيْدِ ، فلا يَسْتَطِيْعُوْنَ ذلك .
حَتَّى اهْتَدَوْا إلىَ حِيْلةٍ جَعَلتْ تِلك َ القوَافِلَ تغيِّرُ اتِّجَاهَهَا إلىَ وِجْهَتِهمُ المرَادَة .
فأَقامُوْا عِدَّة َ أَضْرِحَةٍ وَقِبَابٍ عَلى مَسَافاتٍ مُتقارِبةٍ في ذلِك َ الطرِيْق ِ المرَادِ سُلوْكهُ ، ثمَّ أَشَاعُوْا الشّائِعَاتِ أَنَّ في تِلك َ الأَضْرِحَةِ أَوْلِيَاءَ صَالحِينَ ، وَأَنهُ قدْ شُوْهِدَ مِنْ كرَامَاتِهمْ كذَا وَكذَا !
فانتشرَتِ الإشَاعَاتُ في الآفاق ِ، وَذاعَتِ الأَخْبَارُ في كلِّ مِصْرٍ وَعِرَاق ٍ، فصَارَتْ تِلك َ الطرُقُ عَامِرَة ً مَأْهُوْلة !
وَقدْ ذكرَ هَذِهِ القِصَّة َ وَعَزَاهَا إلىَ الباقوْرِيِّ الشَّيْخُ الأَلبانِيُّ في«تَحْذِيْرِ السّاجِد»(ص148-149).
خاتمة
أَدْعُوْ إخْوَانِي جَمِيْعًا فِيهَا ، إلىَ الحذَرِ الشَّدِيْدِ مِمّا يَطرَحُهُ بَعْضُ المشبوْهِيْنَ فِي رَسَائِلَ صَغِيْرَةٍ ، أَوْ كتَاباتٍ فِي«مُنْتَدَياتِ الانْتَرْنِتْ» وَغيْرِهَا ، بأَسْمَاءٍ صَرِيْحَةٍ أَحْيَانا ، وَأَسْمَاءٍ وَهْمِيَّةٍ أَحْيَانا أُخْرَى ، لا يُعْرَفُ مَنْ خلفهَا ، وَلا يدْرَى مَا مَقصَدُ مُوْرِدِهَا .(182/283)
وَإثارَة ُهَذَهِ المسْأَلةِ عَلى الوَجْهِ السّابق ِ، مَعَ فسَادِهِ وَبطلانِهِ : فِيْهِ فتْحُ بابِ شَرٍّ عَظِيْمٍ عَلى المسْلِمِيْنَ قدْ أُغلِقَ بحمْدِ اللهِ فِي بلادِنا ، وَعِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنْ صَالِحِي المسْلِمِيْنَ فِي بلادٍ مُتفرِّقةٍ ، وَلا حَاجَة َ لِذَلِك .
وَالحاجَة ُالقائِمَة ُ: هِيَ سَدُّ هَذَا البابِ وَمَنْعُهُ -كمَا سَدَّهُ وَمَنَعَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأَشَدِّ الأَلفاظِ ، وَأَغلظِ الوَعِيْدِ - لِفشُوِّهِ في بلادٍ كثِيْرَةٍ مِنْ بلادِ المسْلِمِيْنَ ، وَتذَرُّعِهمْ بهِ إلىَ أَنوَاعٍ كثِيْرَةٍ مِنَ الشِّرْكِ الأَكبَرِ، مِنْ دُعَاءٍ لِلأَمْوَاتِ ، وَاسْتِغاثةٍ بهمْ ، وَذبْحٍ ، وَغيْرِ ذلِك َ مِنَ العِبَادَاتِ التِي لا تصْرَفُ إلا َّ للهِ وَحْدَهُ سُبْحَانهُ وَتعَالىَ .
أَسْأَلُ الله َ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُسَلمَ المسْلِمِيْنَ مِنْ مَكائِدِ المفسِدِينَ ، وَأَنْ يرُدَّهُمْ بهَا مَخْذُوْلِيْنَ مُفلِسِيْنَ ، وَصَلى الله ُ عَلى نبيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَعَلى آلهِ وَصَحْبهِ وَسَلم.
تمّ
بحمْدِ اللهِ وَفضْلِهِ
يَوْمَ الأَحَدِ 29/10/1422ه عَلى يَدِ كاتِبهِ
عَبْدِ العَزِيْزِ بْن ِ فيْصَل الرّاجِحِيّ ،
ثمَّ نظرْتُ فِيْهِ ، وَزِدْتُ عَليْهِ في أَيامٍ مُتفرِّقةٍ مِنْ سَنةِ 1424ه
عَفا الله ُ عَنْ كاتِبهِ ، وَعَنْ وَالدَيْهِ ، وَإخْوَانهِ ، وَمَشَايخهِ ، وَجَمِيْعِ المسْلِمِينَ ، وَصَلى الله ُ عَلى نبيِّنَا مُحَمَّدٍ ،
وَعَلى آلهِ وَصَحْبهِ ،
وَسَلمَ تَسْلِيْمًا
كثِيْرًا
الرّياض
ص.ب 37726
الرَّمْز البريدي 11449
الفهرس
فهرس الموضوعات التّفصيليّ 343 - 388
فهرس الموضوعات الإجْمَاليّ 389 - 400
فهرس الموضوعات التّفصيلي والفوائد
المَوْضوع
الصَّفحة
تَقدِيْمُ مَعَالِي الشَّيْخِ صَالِحِ بْن ِفوْزان الفوْزان ..........(182/284)
صُوْرَة ُ تَقدِيْمِ مَعَالِي الشَّيْخِ صَالِحٍ الفوْزان بخطه ....
مُقدِّمَة ُ الكِتَاب ...............................
نهْيُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُشَابهَةِ المشْرِكِيْنَ وَأَهْل ِ الكِتَابِ ، وَتَحْذِيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ مِنَ الشِّرْكِ ، وَوَسَائلِهِ ، وَذرَائِعِه .............
فصْل في سَبَبِ تَأْلِيْفِ الرِّسَالة .....................
ذِكرُ أَدِلةِ مُجِيْزِي الصَّلاةِ في المقابرِ إجْمَالا ً........
فصْل في تَحْرِيْرِ مَحَلِّ النزَاعِ في هَذِهِ المسْأَلةِ ، وبَيَان ِ مَا أَجْمَعَ العُلمَاءُ عَلى تَحْرِيْمِهِ فِيْهَا ، وَمَا فِيْهِ خِلافٌ بَيْنَهُمْ .............
إجْمَاعُ العُلمَاءِ عَلى حُرْمَةِ بنَاءِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، وَأَنهَا بدْعة ٌ مُحْدَثة ..........................
إجْمَاعُ العُلمَاءِ عَلى ضَلال ِ مَنْ ظنَّ أَنَّ الصَّلاة َ عِنْدَ قبْرٍ مَا ، لها فضِيْلة ٌ تَخُصُّهَا ، أَوْ أَنهَا مُسْتَحَبَّة ٌ عِنْدَه .....
مَحَلُّ النِّزَاعِ بَيْنَ أَهْل ِ العِلمِ فِي هَذِهِ المسْأَلةِ : هُوَ حُكمُ الصَّلاةِ ذاتِ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ ، في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، مِنْ غيْرِ قصْدِ الصَّلاةِ فِيْهَا ، وَلا تَعْظِيْمِ مَقبوْر .........
اخْتِلافُ أَهْل ِ العِلمِ في حُكمِهَا بَينَ مُجَوِّزٍ وَمُحَرِّم .....
تَحْقِيْقُ مَذْهَبِ مَالِكٍ في هَذِهِ المسْأَلة ..............
إطلاقُ جَمَاعَةٍ مِنَ الأَئِمَّةِ جَوَازَ الصَّلاةِ في المقبرَةِ ، وَهُمْ يَعْنُوْنَ صَلاة َ الجنَازَةِ ، لا الصّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْد
الذِي عَليْهِ المحَققوْنَ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ : أَنَّ الصَّلاة َ ذاتَ الرُّكوْعِ وَالسُّجُوْدِ مُحَرَّمَة ٌ بلا شَك ّ وَلا رَيبٍ ، لِكثرَةِ الأَحَادِيْثِ النّاهِيَةِ عَنْهَا ......................(182/285)
اخْتِلافُ مُحَرِّمِي الصَّلاةِ في المقابرِ في صِحَّةِ صَلاةِ المصَلي مَعَ حُرْمَتِهَا ..............................
بيانُ مُرَادِ ابن ِ المنذِرِ بقوْلِهِ:(وَالذِي عَليْهِ الأَكثرُ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ : كرَاهِيَة ُ الصَّلاةِ في المقبَرَة) ، وَأَنَّ مُرَادَهُ كرَاهَة ُ التَّحْرِيمِ لا الكرَاهَة ُ الاصْطِلاحِيَّةِ عِنْدَ المتأَخِّرِين
فصْل في الأَحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ النّاهِيَةِ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ ، وَعِنْدَ القبوْر ................................
التَّنْبيْهُ عَلى وَهْمٍ وَقعَ فِيْهِ الشَّيْخُ الأَلبانِيُّ رَحِمَهُ الله ....
فصْل في تَحْقِيْق ِ العِلةِ الكبرَى لِلنَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْر ..............................
اخْتِلافُ العُلمَاءِ في عِلةِ النَّهْيِّ ، أَهِيَ نجَاسَة ُ تُرَابِ المقبَرَةِ ، أَمْ سَدٌّ لِذَرِيْعَةِ الشِّرْكِ أَنْ يُعْبَدَ أَرْبَابُهَا ، وَنهْيٌ عَنْ مُشَابَهَةِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى ، المتخِذِيْنَ القبوْرَ عَلى المسَاجِد
عِلة ُ النَّهْيِّ عِنْدَ المحَققِينَ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ : أَمْرَان ِ: كوْنهَا ذرِيْعَة ً إلىَ الشِّرْكِ ، وَلِمَا في ذلِك َ مِنْ مُشَابَهَةِ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى ، المتخِذِينَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالِحِيْهمْ مَسَاجِد ............
أَدِلة ُ المحَققِيْنَ عَلى أنَّ هَذِهِ العِلة َ هِيَ المرَادَة ُ لا غيْرُهَا ، وَبيانهُمْ ضَعْفَ قوْل ِمَنْ عَللَ التَّحْرِيْمَ بنَجَاسَةِ ترَابِ المقابر .....................
الدَّلِيْلُ الأَوَّلُ عَلى أَنهَا هِيَ العِلة ُ المرَادَة ُ، وَأَنَّ عِلة َ النَّجَاسَةِ غيْرُ مُرَادَةٍ : عُمُوْمُ أَدِلةِ تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ في المقابرِ دُوْنَ تَفرِيْق ٍ وَلا تقييْد .........................(182/286)
الدَّلِيْلُ الثانِي: لعْنُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى لاتِّخَاذِهِمْ قبوْرَ أَنْبيَائِهمْ مَسَاجِدَ ، مَعَ طهَارَةِ قبوْرِهِمْ ، وَخُلوِّهَا مِنَ النَّجَاسَات ...................
الدَّلِيْلُ الثالِثُ: نهْيُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن ِ الصَّلاةِ إلىَ القبوْرِ ، وَهَذَا لا صِلة َ لهُ بنجَاسَةِ القبوْرِ وَطهَارَتِهَا ، وَإنمَا مُرَاعَاة ً لِلعِلةِ السّابقة ............
الدَّلِيْلُ الرّابعُ: قوْلُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» ، فتخْصِيْصُهُ المقبَرَة َ دُوْنَ الحشوْش ِ مَوْضِعِ الأَخْبَاثِ وَالنَّجَاسَاتِ : دَلِيْلٌ عَلى أَنَّ النَّهْيَ لِعِلةٍ أُخْرَى غيْرَ النَّجَاسَةِ ، وَقدْ بيناهَا ........................
الدَّلِيْلُ الخامِسُ: أَنَّ مَسْجِدَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ مَقبَرَة ً لِلمُشْرِكِيْنَ ، فأَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باِلقبوْرِ فنبشَتْ، وَسُوِّيتْ الأَرْضُ ، وَصَلى فِيْهَا وَأَصْحَابهُ . وَلوْ كانتِ العِلة ُ النَّجَاسَة ُ، لأَمَرَ بإزَالتِهَا بنقل ِ تُرَابهَا ..........................
الدَّلِيْلُ السّادِسُ: أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهَى عَن ِ الصَّلاةِ بَعْدَ الفجْرِ وَبَعْدَ العَصْرِ ، سَدًّا لِذَرِيْعَةِ الشِّرْكِ ، وَمُجَانبة ً لِمُشَابَهَةِ المشْرِكِيْنَ ، فكيْفَ لا يَكوْنُ النَّهْيُ عَن ِ الصَّلاةِ في القبوْرِ لِهَذِهِ العِلةِ ، وَتَحَققهَا فِيْهَا أَشَدُّ مِنْ سَابقتِهَا؟! ..................................(182/287)
الدَّلِيْلُ السّابعُ: لعْنُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتَّخِذِيْنَ عَليْهَا مَسَاجِدَ مُطلقا، فلوْ كانَ ذلك لأَجْل ِ النَّجَاسَةِ ، لأَمْكنَ إزَالة ُ نَجَاسَةِ ترْبتِهَا ، بنقلِهَا أَوْ تَطييْنِهَا ، فتَزُوْلُ العِلة ُ، وَهَذَا بَاطِلٌ قطعًا ............................
الدَّلِيْلُ الثامِنُ: قرْنُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اللعْن ِ بَيْنَ مُتَّخِذِي القبوْرِ مَسَاجِدَ ، وَبَيْنَ مُوْقِدِي السُّرُجِ عَليْهَا : دَلِيْلٌ عَلى أَنَّ العِلة َ المرَاعَاة َ في ذلك ، خَشْيَتُهُ أَنْ يَكوْنَ ذلك وَسِيْلة ً لِتَعْظِيْمِهَا ..................
الدَّلِيْلُ التّاسِعُ: تنْبيْهُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى ذلك حِيْنَ قالَ:«اللهُمَّ لا تَجْعَلْ قبْرِي وَثنًا يُعْبَدُ ، اشْتَدَّ غضَبُ اللهِ عَلى قوْمٍ اتخذُوْا قبوْرَ أَنْبيَائِهمْ مَسَاجِد» ....
فصْل في اخْتِلافِ الأَئِمَّةِ في صِحَّةِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ مَعَ قوْلهِمْ بتَحْرِيْمِهَا ...................................
فصْل في بَيَان ِ بُطلان ِ الصَّلاةِ في كلِّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى قبْرٍ ، أَوْ كانَ فِيْهِ قبْر .......................
فصْل في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ غيْرَ عَالمٍ باِلنَّهْيّ
فصْل في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ غيْرَ عَالمٍ به ......
فصْل في بُطلان ِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ اتفاقا ، مِنْ غيْرِ قصْدٍ له .....................................
فصْل في اسْتِوَاءِ الحكمِ في الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكثرَ ، وَأَنهَا صَلاة ٌ بَاطِلة ٌ عَلى كلِّ حَال ................
فصْل في حُكمِ الصَّلاةِ في عُلوِّ المقبَرَةِ ، وَبَيَان ِ أَنهَا بَاطِلة ٌ، لِتَحَقق ِ العِلةِ ، وَعُمُوْمِ الأَدِلة ...............(182/288)
فصْل في حُكمِ الصَّلاةِ إلىَ القبوْر .................
فصْل في فسَادِ ظنِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الفِتنة َ قدْ أُمِنَتْ مِنْ تَعْظِيْمِ أَصْحَابِ القبوْرِ ، وَتَصْوِيْرِ التَّمَاثِيْل ِ، وَبَيَان ِ أَنهَا فِتنة ٌ عَمْيَاءُ خطِيْرَة ٌ لا تؤْمَن ..................
بيانُ ضَلال ِ أَحْمَدِ بن ِ مُحَمَّدِ بن ِ الصِّدِّيق ِ الغُمَارِيِّ في هَذَا البَابِ ، وَتَصْنِيْفهُ كِتَابًا فاسِدًا فِيْه .......
تَحْذِيْرُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَشْيَتُهُ عَلى أُمَّتِهِ وَصَحَابتِهِ في عَهْدِهِ مِنَ الفِتن ِ، وَهُوَ فِيْهمْ ، فمَنْ أَتى بَعْدَهُمْ - بَعْدَ مَوْتِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانقِطاعِ الوَحْيِّ ، وَذهَابِ أَصْحَابهِ وَأَئِمَّةِ الإسْلام-: أَوْلىَ وَأَحْرَى باِلخوْفِ عَليْهِ وَالخشْيَةِ مِمَّنْ تقدَّم
خَشْيَة ُ أَنبيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ وَالصّالحِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الإسْلامِ عَلى أَنفسِهمْ مِنَ الشِّرْكِ ، فغيرُهُمْ مِنْ بَابِ أَوْلىَ ....
وُقوْعُ كثِيرٍ مِنَ الأُمَّةِ فِيْمَا خَشِيَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَليْهمْ مِنَ الشِّرْكِ باِللهِ تَعَالى .................
فصْل في بيان ِ وَاجِبِ المسْلِمِيْنَ تِجَاهَ المشاهِدِ المبْنِيَّةِ عَلى القبوْر ..................................
فصْل في بيان ِ تَحْرِيْمِ الوَقفِ لِلمَشَاهِدِ وَالنَّذْرِ لها وَإسْرَاجِهَا ................................
فصْل في بيان ِ ضَلال ِ مَنْ شدَّ رَحْلهُ إلىَ مَشْهَدٍ أَوْ قبْرٍ ، وَتَحْرِيْمِ شدِّ الرِّحَال ِ إلىَ كلِّ مَسْجِدٍ غيْرَ المسَاجِدِ الثلاثةِ ، وَالتَّنْبيْهِ عَلى عِلةِ النَّهْيِّ ، التِي غابتْ عَنْ كثِيْرٍ مِنْ قاصِرِي العِلمِ وَالمعْرِفة ..................(182/289)
زِيارَة ُ قبرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغيرِهِ مِنْ قبوْرِ المسْلِمِينَ : قرْبة ٌ وَطاعَة ٌ، غيرَ أَنَّ ذلِك َ مَشْرُوْط ٌ بعَدَمِ شَدِّ رَحْل ٍ إليْهَا ، كمَا جَاءَتِ السُّنَّة ُ الصَّحِيْحَة ُ بذَلِك ....................
مَنْ شَدَّ رَحْلهُ قاصِدًا زِيَارَة َ المسْجِدِ النَّبَوِيِّ : شُرِعَ لهُ بَعْدَ وُصُوْلِهِ وَسُنَّ : زِيَارَة ُ قبرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالسَّلامُ عَليْهِ وَعَلى صَاحِبَيْهِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا .............................
فتْوَى شَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تَيْمِيَّة َ رَحِمَهُ الله ُ فِيْمَنْ شَدَّ رَحْلهُ لِزِيارَةِ شَيْءٍ مِنَ القبوْرِ أَيَجُوْزُ ذلِك َ أَمْ لا ؟ وَهَلْ لهُ التَّرَخُّصُ برُخص ِ المسَافِرِينَ أَوْ لا؟ وَمَا صِحَّة ُ مَا جَاءَ في ذلِك َ مِنْ أَحَادِيْثَ باِلمنْعِ أَوِ الإباحَة؟ ...............
اخْتِلافُ العُلمَاءِ عَلى قوْلين ِ، في صِحَّةِ قصْرِ صَلاةِ مَنْ سَافرَ لِزِيارَةِ القبوْر ................................
ضَعْفُ الأَحَادِيْثِ الوَارِدَةِ في الزِّيارَة .................
تَجْوِيْزُ أَبي مُحَمَّدٍ ابْن ِ قدَامَة َ رَحِمَهُ الله ُ السَّفرَ لِزِيارَةِ القبوْرِ ! بزِيارَةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ قباءَ ! وَجَوَابُ شَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تَيْمية َ عَنْ ذلِك َ، وَبيانهُ بُعْدَ قوْل ِ ابن ِ قدَامَة َ فِيْهَا عَن ِ الصَّوَاب .............(182/290)
بيانُ أَنْ لا وَجْهَ لاسْتِدْلال ِ أبي مُحَمَّدٍ ابن ِ قدَامَة َ عَلى جَوَازِ شَدِّ الرِّحَال ِ إلىَ القبوْرِ بزِيارَةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ قباءَ ، إذْ أَنَّ زِيارَتهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقباءَ زِيارَة ٌ خَالِيَة ٌ عَنْ شَدِّ رَحْل ٍ إليْهِ لِقرْبهِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لهِذَا كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي قباءَ مَاشِيًا وَرَاكِبًا كمَا ثبتَ في الصَّحِيْح .....
تناقضُ قوْل ِ أَبي مُحَمَّدٍ ابن ِ قدَامَة َ في هَذِهِ المسْأَلةِ وَتَعَارُضُهُ ! فإنهُ فسَّر قوْلَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تشَدُّ الرِّحَالُ إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِدَ»: بأَنهُ لا يُسْتَحَبُّ زِيارَة ُ شَيْءٍ مِنَ المسَاجِدِ غيرَ هَذِهِ المسَاجِدِ الثلاثةِ . أَمّا بَقِيَّة ُ المسَاجِدِ : فلا تُسْتَحَبُّ زِيارَتهَا - عَلى قوْلِهِ- مَعَ جَوَازِهَا عِنْدَهُ .
وَفي هَذَا تناقضٌ ظاهِرٌ مِنْهُ ، فإنهُ :
* إمّا أَنْ يَنْفِيَ اسْتِحْبَابَ زِيارَةِ مَسْجِدِ قباءَ - الذِي جَاءَتِ السُّنَّة ُ الصَّحِيْحَة ُ بفضْل ِ زِيارَتِهِ- فيخالِفُ السُّنَّة َ الصَّحِيْحَة َ الوَارِدَة َ في فضْل ِ زِيارَتِه .
* وَإمّا أَنْ يَسْتَحِبَّ زِيارَة َ مَسْجِدِ قباءَ : فيُخالِفُ قوْلهُ هُوَ في مَعْنَى حَدِيْثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا َّ إلىَ ثلاثةِ مَسَاجد» ...................................
الرّافِضَة ُ وَأَهْلُ البدَعِ : أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الأَحَادِيثَ في فضْل ِ السَّفرِ إلىَ زِيارَةِ المشَاهِدِ التي عَلى القبوْر........(182/291)
فصْل في إنكارِ بَعْض ِ أَهْل ِ البدَعِ فتْوَى شَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تَيْمية َ السّابقة َ، وَكذِبهمْ عَليْهِ فِيْهَا : بزَعْمِهمْ أَنهُ يَمْنَعُ زِيارَة َ قبرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطلقا ، وَزِيارَة َ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِين .....................
كشْفُ الحافِظين ِ ابن ِ عَبْدِ الهادِي وَابن ِ كثِيرٍ كذِبَ أُوْلئِك َ الكاذِبينَ عَلى شَيْخِ الإسْلامِ ، وَإظهَارُهُمْ حَقِيْقة َ فتْوَاهُ مِنْ كلامِهِ رَحِمَه ُ الله ُ وَرَسَائِلِهِ وَكتبهِ وَمَنَاسِكِهِ ، وَأَنهُ لمْ يَمْنَعْ زِيارَة َ قبرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلا قبوْرَ المسْلِمِينَ ، بلْ يَسْتَحِبُّهَا وَينْدُبُ إليْهَا ، وَيزُوْرُهَا ، غيرَ أَنهُ يَمْنَعُ شَدَّ الرَّحْل ِ إليْهَا فحَسْب .....
فصْل في انتِصَارِ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ لِشَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تَيْمية َ، حِيْنَ أَنكرَ عَليْهِ بَعْضُ أَهْل ِ البدَعِ تَحْرِيْمَهُ شَدَّ الرِّحَال ِ إلىَ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثةِ ، وَبَيَانِهمْ مَقصِدَهُ ، وَاحْتِجَاجِهمْ له .....................
بيانُ عِلةِ النَّهْيِّ عَنْ شدِّ الرِّحَال ِ إلىَ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثة ....
فصْل في بيان ِ حَال ِ الأَحَادِيْثِ المرْوِيةِ في فضْل ِ زِيَارَةِ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنهَا مَوْضُوْعَة ٌ، مَعَ كوْن ِ زِيَارَةِ قبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرْبة ً مِنَ القرُباتِ ، وَطاعَة ً مِنَ الطاعَاتِ ، بشَرْطِ أَنْ لا يَكوْنَ ذلك بشدِّ رَحْل ٍ إليْه ...............
فصْل في نقض ِ شُبُهَاتِ المعْتَرِض ِ عَلى تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ مُطلقا في المقابرِ ، وَعِنْدَ القبوْر ................(182/292)
رَدُّ دَلِيْلِهِ الأَوَّل ِ: بزَعْمِهِ عُمُوْمَ قوْل ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» ، فعمَّ الأَرْضَ كلهَا ! وَبيانُ فسَادِهِ ، وَإجْمَاعِ عُلمَاءِ المسْلِمِيْنَ عَلى تَخْصِيْصِهِ خِلافَ زَعْمِهِ ، غيْرَ أَنهُمْ مُخْتَلِفوْنَ في المخَصِّصَاتِ لا التَّخْصِيْص ..............
إجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلى تَخْصِيْص ِ ذلِك َ الحدِيْثِ باِلموْضِعِ النَّجِس ِ، وَاخْتِلافهُمْ في تَخْصِيْص ِ غيرِهِ له ...............
ذِكرُ الموَاطِن ِ التي اخْتُلِفَ في تَخْصِيْصِهَا مِنْ ذلِك َ الإطلاق ِ وَالعُمُوْمِ ، وَقِيْلَ بحُرْمَةِ الصَّلاةِ فِيْهَا ...........
بيانُ تَنَاقض ِ المعْتَرِض ِ، حِينَ زَعَمَ عُمُوْمَ حَدِيْثِ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» ، وَأَنهُ لا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا العُمُوْمِ شَيْءٌ ! ثمَّ حَرَّم هُوَ في مَوْضِعٍ آخَرَ اتِّخاذَ قبوْرِ الأَنبيَاءِ مَسَاجِدَ ! وَالصَّلاة َ فِيْهَا ! مَعَ دُخُوْلهِا في ذلِك َ العُمُوْمِ عَلى قوْلِهِ هُوَ ! ...........
فصْل في نقض ِ دَلِيْلِهِ الثانِي : وَهُوَ بناءُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ في مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكيْن .......................
بيانُ تَدْلِيْس ِ المعْتَرِض ِ وَتَلبيْسِهِ ، حَيْثُ اسْتَدَلَّ بأَنَّ مَسْجِدَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ مَقبرَة ً، وَلمْ يَذْكرْ أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمْ يُصَلِّ في تِلك َ الأَرْض ِ، وَلمْ يَبْن ِ فِيْهَا مَسْجِدًا ، حَتَّى نبشَتْ تِلك َ القبوْرُ كافة ً، وَأُخْرِجَتْ وَأُزِيْلتْ بأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .....................................(182/293)
بيانُ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بهِ المعْتَرِضُ هُنَا : دَلِيْلٌ عَليْهِ لا لهُ ، وَأَنَّ الصَّلاة َ في المقابرِ لوْ كانتْ جَائِزَة ً صَحِيْحَة ً: لمَا أَمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَة َ بنبْش ِ القبوْرِ وَإزَالتِهَا .......
فصْل في نقض ِ دَلِيْلِهِ الثّالِثِ : وَهُوَ صَلاة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابهِ عَلى قبْرِ امْرَأَةٍ كانتْ تقمُّ المسْجِدَ ، رَضِيَ الله ُ عَنْهَا .........................
فصْل في نقض ِ دَلِيْلِهِ الرّابعِ : وَهُوَ زَعْمُهُ صَلاة َ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله ُعَنْهُمْ في المقبَرَةِ دُوْنَ نكِيْر ............
المعْلوْمُ مِنْ حَال ِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ : مَنْعُ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْر .......................
نَهْيُ عُمَرِ بْن ِ الخطابِ أَنسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا ، عَن ِ الصَّلاةِ لمّا رَآهُ يُصَلي عِنْدَ قبرٍ لمْ يَعْلمْ بهِ ، وَذِكرُ صِحَّةِ هَذَا الأَثرِ ، وَتَخْرِيْجُه ................
اسْتِقرَارُ مَنْعِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ بَينَ الصَّحَابَةِ ، حَتَّى أَصْبَحَ شَبيْهًا باِلإجْمَاعِ أَوْ قرِيبًا مِنْه ......
بيانُ حَال ِ مَا وَرَدَ عَنْ وَاثِلةِ بن ِ الأَسْقعِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ مِنْ صَلاتِهِ الفرِيْضَة َ في مَقبرَة .....................
فصْل في نقض ِ دَلِيْلِهِ الخامِس ِ: وَهُوَ زَعْمُهُ عَدَمَ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍصَحِيْحٍ صَرِيْحٍ في النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَة ..........
فصْل في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ عُبّادِ القبوْرِ عَلى جَوَازِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ بقوْلِهِ تَعَالىَ { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } وَنقضِهِ وَبيان ِ بُطلانِه مِنْ وُجُوْه(182/294)
الوَجْهُ الأَوَّلُ : أَنَّ قائِلِي ذلِك َ كانوْا كفارًا ليْسُوْا بمُسْلِمِينَ ، وَقدْ لعَنَهُمُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى أَفعَالهِمْ تِلك َ، باِتِّخَاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، كمَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فكيْفَ يُسْتَدَلُّ بفِعْل ِ هَؤُلاءِ الملعُوْنِينَ عَلى حُكمٍ شَرْعِيّ؟! ...................
الوَجْهُ الثانِي : أَنا لوْ سَلمْنَا أَنهُمْ كانوْا مُسْلِمِينَ : فقدْ كانوْا ضَالينَ مُنْحَرِفِينَ بفِعْلِهمْ ذلِك َ، قدِ اسْتَحَقوْا لعْنَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسَبَبهِ ، وَهُمْ مِنْ جُمْلةِ الجهّال ِ وَالعَامَّة ................................
الوَجْهُ الثالِثُ : أَنَّ الله َ عَزَّ وَجَلَّ لمْ يَصِفهُمْ بشَيْءٍ يُمْدَحُوْنَ لأَجْلِهِ ، وَإنمَا وَصَفهُمْ باِلغلبةِ ! وَليْسَ هَذَا وَصْفا مَمْدُوْحًا ، وَلا يدُلُّ عَلى عِلمٍ وَلا هُدَى وَلا صَلاحٍ وَلا فلاح ......................
الوَجْهُ الرّابعُ : أَنَّ اسْتِدْلالَ القبوْرِيِّينَ بهَذِهِ الآيةِ عَلى هَذَا الوَجْهِ - مَعَ مُخَالفتِهِ لِلأَحَادِيْثِ المتوَاتِرَةِ- مُخَالِفٌ لإجْمَاعِ المسْلِمِينَ عَلى تَحْرِيْمِ اتِّخَاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْر ............................................(182/295)
الوَجْهُ الخامِسُ : أَنَّ هَذِهِ الآية َ ليْسَتْ مُخالِفة ً وَلا مُعَارِضَة ً لِمَا دَلتْ عَليْهِ السُّنَّة ُ الصَّحِيْحَة ُ المتوَاتِرَة ُ في النَّهْيِّ عَن ِ اتِّخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ ، وَلعْن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى لاتِّخاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالحِيْهمْ مَسَاجِدَ . وَإنمَا هِيَ مُوَافِقة ٌ لها ، دَلتْ عَلى مَا دَلتْ عَليْهِ السُّنَّة ُ: أَنهُ كانَ فِيْمَنْ قبْلنا مَنْ يَتَّخِذُ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، فالآية ُ مُصَدِّقة ٌ لِلأَحَادِيْثِ لا مُخالِفة ................
تنبيهٌ عَلى عَدَمِ صِحَّةِ وَجْهَين ِ رَدَّ بهمَا الشَّيْخُ الأَلبانِيُّ قوْلَ مَن ِ اسْتَدَلَّ بآيةِ الكهْفِ السّابقة ..........
لا يَصِحُّ حَمْلُ هَذِهِ الآيةِ عَلى أَنهَا مِنْ شَرْعِ مَنْ قبْلنا ، لِكوْن ِ ذلِك َ لوْ كانَ صَحِيْحًا ، وَهُوَ مِنْ شَرْعِهمُ الذِي جَاءَتْ بهِ رُسُلهُمْ : لمَا اسْتحَقوْا لعْنَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَدُعَاءَهُ عَليْهمْ ، وَتَحْذِيْرَهُ مِنْ فِعْلِهمْ ..
فصْل في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ القبوْرِيِّيْنَ عَلى صِحَّةِ صَلاتِهمْ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، بحدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا مَرْفوْعًا «في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نَبيًّا» ، وَقدْ صَلى فِيْهِ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام ! وَبيَان ِ بُطلانِهِ وَأَنهُ مُنْكرٌ ، وَرَدِّهِ عَليْهمْ مِنْ وُجُوْه(182/296)
الوَجْهُ الأَوَّلُ في رَدِّهِ : مُخالفتهُ لِلأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ ، بَل ِ المتوَاتِرَةِ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْ لعْنِهِ اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى لاتِّخَاذِهِمْ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ وَصَالحِيْهمْ مَسَاجِدَ ، وَنهْيهِ عَنْهَا . فكيْفَ يَنْهَى النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَخْشَى عَلى أُمَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذُوْا قبرَهُ مَسْجِدًا ، وَلا يَخْشَى عَليْهمْ اتِّخَاذَ قبرِ سَبْعِينَ نبيًّا مَسْجِدًا ؟! ..........
الوَجْهُ الثانِي : مُخالفتهُ لِلإجْمَاعِ عَلى تَحْرِيْمِ اتِّخَاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْر ..........................
الوَجْهُ الثالِثُ : مُخالفتهُ لإجْمَاعٍ آخَرَ عَلى جَهَالةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ كافة ً، سِوَى قبرِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ........
الوَجْهُ الرّابعُ : أَنهُ لوْ صَحَّ : لحَرُمَ وَطئُ قبوْرِهِمْ ، والجلوْسُ عَليْهَا ، وَالصَّلاة ُ فِيْهَا وَإليْهَا ، وَلوَجَبَ عَلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيانُ ذلِك َ لأُمَّتِهِ ، فلمَا لمْ يَفعَلْ : دَلَّ ذلِك َ عَلى عَدَمِ وُجُوْدِهَا ................
الوَجْهُ الخامِسُ : أَنهُ مُخَالِفٌ لِلرِّوَاياتِ الصَّحِيْحَةِ الأُخْرَى ، التي فِيْهَا :«صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا» لا «قبرُ سَبْعِينَ نبيًّا» .................
مُخالفتهُ الرِّوَاية َ المرْفوْعَة َ في ذلك ...........
مُخالفتهُ الرِّوَاية َ الموْقوْفة َ في ذلك ..............
مُرْسَلُ سَعِيْدِ بْن ِ المسَيِّبِ المخالِفُ لهُ أَيْضًا .........(182/297)
الوَجْهُ السّادِسُ : مُخالفتهُ لِمَا ثبتَ عَنْ مُجَاهِدِ بْن ِ جَبرٍ رَاوِيْهِ عَن ِ ابن ِ عُمَرَ : فقدْ جَاءَ عَنْهُ قوْلهُ :«صَلى في هَذَا المسْجِدِ - مَسْجِدِ الخيْفِ - سَبْعُوْنَ نبيًّا . فوَافقَ قوْلهُ الأَحَادِيْثَ الصَّحِيْحَة َ في ذلِك َ، وَخَالفَ حَدِيثَ ابن ِ عُمَرَ المنْكر .......................
الوَجْهُ السّابعُ : أَنَّ سَبَبَ نكارَتِهِ وَغرَابتِهِ : إبْرَاهِيْمُ بْنُ طهْمَانَ ، وَهُوَ وَإنْ كانَ ثِقة ً، إلا َّ أَنَّ لهُ مَفارِيدَ وَغرَائِبَ رُدَّتْ عَليْهِ وَمُعْضِلات ..............
الوَجْهُ الثامِنُ : أَنَّ سِيَاقَ حَدِيْثِ ابن ِ عُمَرَ المنْكرِ : سِيَاقُ مَدْحٍ وَتَفضِيْل ٍ، وَلا مَدْحَ وَلا فضِيْلة َ لِمَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى قبرٍ ، بَلْ هُوَ مَذْمُوْمٌ نصًّا وَإجْمَاعًا ........
بيانُ أَنَّ مَرَدَّ فضْل ِ مَسْجِدِ الخيْفِ : صَلاة ُ الأَنبيَاءِ عَليْهمُ السَّلامُ فِيْهِ ، وَصَلاة ُ نبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْهِ كذَلِك َ، حَتَّى أَصْبَحَتِ الصَّلاة ُ فِيْهِ سُنَّة َ أَنبيَاءِ اللهِ وَرُسُلِه ..........
الوَجْهُ التّاسِعُ : أَنهُ لا يَسْتَقِيْمُ تتابعُ دَفن ِ هَؤُلاءِ الأَنبيَاءِ السَّبْعِينَ - مَعَ كثْرَتِهمْ- فِيْهِ ، إلا َّ أَنْ يَكوْنَ أَصْلُ أَرْضِهِ مَقبرَة ً، يدْفنُ فِيْهَا الصّالحِوْنَ وَالمشْرِكوْنَ ! فإنْ كانَ هَذَا : فلا فضِيْلة َ لهُ ، بَلْ يَجِبُ إزَالة ُ وَنبْشُ مَا فِيْهِ مِنْ قبوْرِ المشْرِكِينَ ، كمَا فعَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأَرْض ِ مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نبشَ مَا فِيْهَا مِنْ قبوْرِ مُشْرِكِينَ وَأَزَالهَا(182/298)
الوَجْهُ العَاشِرُ : أَنهُ يَلزَمُ مِنْ دَفن ِ هَؤُلاءِ الأَنبيَاءِ السَّبْعِينَ في مَسْجِدِ الخيْفِ : أَنهُمْ بقوْا في مَكة َ بَعْدَ حَجِّهمْ مُدَّة ً حَتَّى وَافتْهُمْ مَنَاياهُمْ ! وَالعَادَة ُ تُحِيْلُ ذلِك َ فِيْهمْ جَمِيْعًا .................................
يلزَمُ مِنْ بقاءِ هَؤُلاءِ الأَنبيَاءِ السَّبْعِينَ – لوْ قِيْلَ بهِ ، وَلا يَصِحُّ – أَمْرَان ِ:
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكوْنَ بَقِيَ في مَكة َ أَنبيَاءُ قبْلَ نبيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرَ إبْرَاهِيْمَ وَابنِهِ عَليْهمَا السَّلامُ ! وَهَذَا غيرُ مُسَلم ......................
الثانِي : أَنهُمْ بقوْا في مَكة َ عِنْدَ قوْمٍ لمْ يبْعَثوْا إليْهمْ ! وَترَكوْا أَقوَامَهُمُ المكلفِينَ بإبلاغِهمْ رِسَالاتِ رَبهمْ ! .................................
الوَجْهُ الحادِي عَشَرَ : أَنا لوْ سَلمْنَا جَدَلا ً بوُجُوْدِ هَذِهِ القبوْرِ وَلا نسَلمُ : فإنَّ صُوَرَهَا غيرُ ظاهِرَةٍ ، وَلا بارِزَةٍ ، وَالشِّرْك ُ يَحْصُلُ بظهُوْرِهَا وَبرُوْزِهَا ، لا مَعَ خَفائِهَا ، وَعَدَمِ عِلمِ أَكثرِ النّاس ِ بهَا ................
فصْل في بيان ِحَال ِ مَا جَاءَ في دَفن ِ آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ في مَسْجِدِ الخيْفِ وَبُطلانِه ...........................
بيانُ عِلةِ إسْنَادِهِ ، وَاطرَاحُ الدّارَقطنيِّ - وَهُوَ رَاوِيْهِ- لهُ
بيانُ ضَعْفِ وَعِلل ِ رِوَايةٍ لهُ أُخْرَى ................
أَنهُ مَعَ عِلل ِ هَذَا الحدِيْثِ وَضَعْفِ إسْنَادِهِ ، إلا َّ أَنَّ مَتنَهُ مُنْكرٌ ، يُظهرُ نكارَتهُ الأَوْجُهُ الأَرْبعَة ُ الأُوْلىَ المتقدِّمَة ُ في سَابقِهِ ، وَوَجْهَان ِ آخَرَان ِ:
أَحَدُهُمَا : تَرَدُّدُ رَاوِيهِ فِيْهِ ، بينَ دَفن ِ آدَمَ في مَسْجِدِ الخيْفِ ، أَوْ في مَكة ! .........................(182/299)
وَالثانِي : أَنَّ دَفنَ آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ في مَسْجِدِ الخيْفِ غيرُ مَعْرُوْفٍ عِنْدَ أَهْل ِ العِلمِ وَلا مَشْهُوْرٍ بَيْنَهُمْ ، حَتَّى عِنْدَ مَنْ تَسَاهَلَ مِنْهُمْ ، فذَكرَ الأَقوَالَ المطرَحَة َ في هَذَا البابِ ، فإنهُ لمْ يَذْكرْ هَذَا القوْل ...................
ذِكرُ ثلاثةِ مَرَاسِيْلَ في البابِ ، وَبيانُ ضَعْفِهَا وَاطرَاحِهَا
فصْل في رَدِّ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلى بَعْض ِأَدِلةِ المحَرِّمِيْن ......
رَدُّ زَعْمِ المعْتَرِض ِ: أَنَّ عُمُوْمَ أَحَادِيْثِ النَّهْيِّ عَن ِ اتِّخَاذِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِينَ مَسَاجِدَ : مَخْصُوْصٌ باِلصَّلاةِ عِنْدَ قبرٍ مُعَظمٍ ، أَوْ أَنْ يَبْنِيَ عَليْهِ مَسْجِدًا . وَبيانُ أَنَّ الأَحَادِيْثَ في ذلِك َ عَامَّة ٌ مُطلقة ٌ غيرُ مُقيَّدَةٍ ، وَلا مُخَصَّصَة .....
عُمُوْمُ هَذِهِ الأَحَادِيْثِ : هُوَ الذِي فهمَهُ الصَّحَابة رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ مِنْهَا ...........................
عِلة ُ النَّهْيِّ عَن ِ اتِّخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ : مُتحَققة ٌ دُوْنَ شَرْطِ المعْتَرِض ...................................
ضَابط ُ المعْتَرِض ِ غيرُ مُنْضَبطٍ ، وَأَنَّ كوْنَ القبرِ مُعَظمًا غيرُ مُسْتَقِيْمٍ ، فكمْ مِنْ قبرٍ مُعَظمٍ عِنْدَ قوْمٍ مُهَان ٍ عِنْدَ غيرِهِمْ .....................................
قبرُ ابن ِ عَرَبيٍّ الضَّالِّ : كانَ يبالُ عَليْهِ ، حَتَّى دَخَلَ السُّلطانُ العُثْمَانِيُّ سَلِيْمُ الأَوَّلُ(ت926ه) دِمَشْقَ ، فبناهُ وَعَظمَهُ ! وَبنى عَليْهِ قبة ! ................
لا يُعْرَفُ مِنْ قبوْرِ الأَنبيَاءِ سِوَى قبرِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمّا البَقِيَّة ُ: فغيرُ ثابتةٍ . وَقبرُ إبْرَاهِيْمَ الخلِيْل ِ مُخْتَلفٌ فِيْهِ ، وَالجمْهُوْرُ عَلى إثباتِه .........................................(182/300)
بيانُ حَقِيْقةِ مُرَادِ المعْتَرِض ِ، وَأَنهُ يُرِيدُ إبطالَ الآثارِ في تَحْرِيْمِ اتِّخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ لا سِوَاه ................
لا يُشْتَرَط ُ في اتِّخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ : بناءُ مَسْجِدٍ عَليْهَا ، بل ِ الصَّلاة ُ عِنْدَ القبرِ اتخاذٌ لهُ مَسْجِدًا ...........
فصْل في رَدِّ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلى حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» ..............
تنازُعُ العُلمَاءِ في صِحَّةِ حَدِيْثٍ : لا يُسْقِط ُ الاحْتِجَاجَ بهِ ، بلْ هُوَ حُجَّة ٌ عِنْدَ مَنْ قبلهُ ، وَهَذَا مَحَلُّ إجْمَاع ....
مَنْ رَدَّ حَدِيْثَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَبَبٍ يُقبَلُ مِثلهُ ، وَلهُ فِيْهِ سَلفٌ ، وَمَعَهُ فِيْهِ حُجَّة ٌ وَبَيِّنَة ٌ، كوُجُوْدِ ناسِخٍ ، أَوْ مُخَصِّص ٍ، أَوْ مُقيِّدٍ ، أَوْ ضَعْفٍ لا يَصْلحُ مَعَهُ احْتِجَاجٌ بهِ وَنَحْوِ ذلِك َ: كانَ بينَ الأَجْرِ وَالأَجْرَين .....................
أَمّا مَنْ رَدَّ حَدِيْثا بسَبَبٍ لا يُقبَلُ مِثْلهُ ، أَوْ ليْسَ لهُ فِيْهِ حُجَّة ٌ، أَوْ بحُجَّةٍ وَسَبَبٍ بُيِّنَ لهُ ضَعْفهَا وَفسَادُهَا : فهُوَ آثِمٌ وَعَاص ...................
فصْل في بَيَان ِ صِحَّةِ حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» ، وَذِكرِ طرُقِهِ ، وَالكلامِ عَليْه ........
رِوَاية ُ الإمَامِ التّابعِيِّ الثقةِ يَحْيَى بن ِ عُمَارَة َ الأَنصَارِيِّ المازِنِيِّ المدَنِيِّ (ع) لهِذَا الحدِيْثِ ، وَاخْتِلافُ الرُّوَاةِ عَنْهُ في وَصْلِهِ وَإرْسَالِه ..............
ذِكرُ رِوَايتِهِ الموْصُوْلةِ ، وَمَنْ رَوَاهَا عَنْهُ ، وَخَرَّجَهَا .....
ذِكرُ رِوَايتِهِ المرْسَلةِ ، وَمَنْ رَوَاهَا عَنْهُ ، وَخَرَّجَهَا ......
فصْل فِي اخْتِلافِ أَقوَال ِ الأَئِمَّةِ فِي هَذَا الحدِيْث ............(182/301)
اخْتِلافُ الحفاظِ في هَذَا الحدِيْثِ : أَيَكوْنُ مُضْطرِبًا ، لِرِوَايةِ الثوْرِيِّ لهُ مُرْسَلا ً، وَرِوَايةِ غيرِهِ لهُ مَوْصُوْلا ً؟ وَهَل ِ المحْفوْظ ُ مِنْ رِوَايةِ الثوْرِيِّ لهُ : الرِّوَاية ُ الموْصُوْلة ُ أَوِ المرْسَلة ؟ ....................
مرَادُ الدّارَقطنيِّ وَالبَيْهَقِيِّ مِنْ قوْلهِمَا:(إنَّ المحْفوْظ َ مِنْ هَذَا الحدِيْثِ المرْسَلُ): يَعْنُوْنَ أَنَّ المحْفوْظ َ مِنْ رِوَايتَي الثوْرِيِّ لهُ : الرِّوَاية ُ المرْسَلة ُ، لا الموْصُوْلة ُ، وَلا يَعْنُوْنَ أَصْلَ الحدِيْثِ ، فإنَّ رِوَايتهُ الموْصُوْلة َ مِنْ غيرِ طرِيق ِ الثوْرِيِّ صَحِيْحَة ٌ مَحْفوْظة ..................
ذِكرُ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ صَحَّحَهُ وَقبله .....................
فصْل في مَعْنَى المقبَرَة ...........................
العِبْرَة ُ في تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ : بتحَقق ِ العِلةِ ، لا بصَحَّةِ إطلاق ِ لفظِ المقبرَةِ فحَسْب .......
فصْل في رَدِّ زَعْمِ المعْتَرِض ِ: أَنَّ حَدِيْثَ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ السّابقَ مَنْسُوخ ..........................
فصْل في رَدِّ زَعْمِهِ : أَنَّ أَكثرَ الفقهَاءِ ، وَعُلمَاءِ الحدِيْثِ يُجِيْزُوْنَ الصَّلاة َ في المقابرِ ، وَتَكذِيْبه ........
فصْل في بَيَان ِ مُرَادِ أَهْل ِ العِلمِ المتقدِّمِيْنَ بلفظِ «الكرَاهَةِ» ، وَأَنهُمْ أَرَادُوْا إطلاقهُ اللغوِيَّ الشَّرْعِيَّ ، لا الاصْطِلاحِيَّ الأُصُوْلِيَّ ، وَبَيَان ِ غلطِ مَنْ زَعَمَ أَنهُمْ أَرَادُوْا المعْنَى الاصْطِلاحِيَّ عِنْدَ المتأَخِّرِيْن ...........(182/302)
المحَدِّثوْنَ وَأَهْلُ العِلمِ المتقدِّمُوْنَ : كانوْا يُطلِقوْنَ «الكرَاهَة» بمَعْنَاهَا اللغوِيِّ العَامِّ ، الذِي يَدْخُلُ تَحْتَهُ كلُّ مَا كرِهَهُ الشّارِعُ فنهَى عَنْهُ ، مِنْ كفرٍ وَشِرْكٍ ، وَكبَائِرَ وَصَغَائِرَ ، وَمَا دُوْنَ ذلك ................
مِثالُ ذلِك َ مِنْ كلامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ الله ............
مِثالهُ مِنْ كلامِ البُخارِيِّ وَأَبي دَاوُوْدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابن ِ مَاجَهْ ..............................
مِثالهُ مِنْ كلامِ ابن ِ المنذِر ................
تَقرِيْرُ العَلامَةِ أَبي عَبْدِ اللهِ ابن ِ قيِّمِ الجوْزِيةِ مَا سَبَق ....
تَوَرُّعُ بَعْض ِ الأَئِمَّةِ عَنْ إطلاق ِ التَّحْرِيْمِ عَلى مَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ ، فأَطلقَ الكرَاهَة َ، وَلمْ يَكنْ هَذَا مُطرِدًا عِنْدَهُمْ ...................
اسْتِدْلالُ ابن ِ القيِّمِ ببَعْض ِ أَقوَال ِ الإمَامِ أَحْمَدَ عَلى تَقرِيْرِهِ المسْأَلة َ السّابقة .....................
اسْتِدْلالهُ بكلامِ الحنفِيَّة ...............
اسْتِدْلالهُ بكلامِ الإمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ الله .............
اسْتِدْلالهُ بكلامِ الإمَامِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ الله ...........
إطلاقُ السَّلفِ لِلكرَاهَةِ ، بمَعْنَاهَا الذِي اسْتُعْمِلَ في كلامِ اللهِ وَكلامِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .........
تَخْصِيْصُ المتأَخِّرِينَ لفظ َ«الكرَاهَةِ» بمَا ليْسَ بمُحَرَّمٍ ، وَتَرْكهُ أَرْجَحُ مِنْ فِعْلِه ..............
غلط ُ مَنْ حَمَلَ لفظ َ«الكرَاهَةِ» في كلامِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى المعْنَى الاصْطِلاحِيِّ الحادِث ..
غلط ُ مَنْ حَمَلَ لفظ َ«الكرَاهَةِ» في كلامِ الأَئِمَّةِ بإطلاق ٍ، عَلى المعْنَى الاصْطِلاحِيِّ الحادِث ............(182/303)
اطرَادُ لفظِ «لا يَنْبَغِي» في كلامِ اللهِ ، وَكلامِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحْظوْرِ شَرْعًا ، أَوْ قدَرًا ، وفي المسْتَحِيْل ِ الممْتَنِع ..........
الأَئِمَّة ُ المتقدِّمُوْنَ يطلِقوْنَ «الكرَاهَة» تارَة ً عَلى مَا ليْسَ بمُحَرَّمٍ ، مُوَافِقِينَ في إطلاقِهمُ المتأَخِّرِينَ في اصْطِلاحِهمْ دُوْنَ قصْدٍ لِلمُوَافقة ..............
إطلاقُ الأَئِمَّةِ المتقدِّمِينَ «الكرَاهَة» عَلى الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ : لا يرِيدُوْنَ بهِ إلا َّ التَّحْرِيْم ......
فصْل في رَدِّ زَعْمِهِ : أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ ، بَطلَ بهِ الاسْتِدْلالُ ، وَبَيَان ِ أَنَّ هَذِهِ قاعِدَة ٌ إطلاقهَا يَؤُوْلُ بصَاحِبهَا إلىَ زَندَقةٍ ، وَبَيَان ِ مَعْنَاهَا عِنْدَ أَهْل ِ العِلم
لوْ سُلمَ لِلمُعْتَرِض ِ إطلاقُ هَذِهِ القاعِدَةِ : لبطلتِ الأَدِلة ُ الشَّرْعِيَّة ُ كافة ً، لِتطرُّق ِ الاحْتِمَالاتِ إليْهَا ، إمّا في أَصْلِهَا ، أَوْ في تَأْوِيْلِهَا وَمَعْنَاهَا ! وَعِنْدَ ذلِك َ يَفسُدُ الدِّينُ ، وَتسْقط ُ الشَّعَائِرُ وَالشَّرَائِع ...............
بيانُ مُرَادِ أَهْل ِ العِلمِ الرّاسِخِينَ مِنْ هَذِهِ القاعِدَة .....
الاحْتِمَالاتُ الوَارِدَة ُ عَلى الأَدِلةِ ثلاثة ُ أَنوَاعٍ :
* احْتِمَالٌ وَهْمِيٌّ مَرْجُوْحٌ : فهَذَا لا اعْتِبَارَ بهِ ، وَلا تأْثِيرَ له ....................
* وَاحْتِمَالٌ رَاجِحٌ : فهَذَا يَجِبُ المصِيرُ إليْهِ ، وَالتَّعْوِيْلُ عَليْه .............................(182/304)
* وَاحْتِمَالٌ مُسَاوٍ : وَهَذَا الذِي يسْقِط ُ الاسْتِدْلالَ باِلدَّلِيْل ِ عَلى أَحَدِ الاحْتِمَالين ِ المتسَاوِيين ِ دُوْنَ مُرَجِّحٍ يرَجِّحُ أَحَدَهُمَا عَلى الآخَرِ . وَهَذَا الاحْتِمَالُ المسَاوِي : هُوَ الذِي أَرَادَهُ الأَئِمَّة ُ، أَنهُ يسْقِط ُ الاسْتِدْلال .......
كلامُ أَهْل ِ العِلمِ في تبْيين ِ مُرَادِهِمْ مِنْ هَذِهِ القاعِدَة ...
فصْل في زَعْمِ جَمَاعَةٍ مِنَ القبوْرِيِّينَ : أَنَّ قوْلَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَجْتَمِعُ دِيْنان ِفي جَزِيْرَةِ العَرَبِ»، وَقوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ»: دَلِيْلان ِ عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ المنافِيَةِ لِلإيْمَان ِ، وَبيان ِ فسَادِ اسْتِدْلالهِمْ وَنقضِهِ ، وإخْبَارِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَوْدَةِ الشِّرْكِ إلىَ جَزِيْرَةِ العَرَبِ بَعْدَ انتِشَارِ الإسْلامِ ، وَإكمَال ِ الرِّسَالةِ ، لِتَفرِيْطِ النّاس ِ في سَدِّ ذرَائِعِ الشِّرْكِ ، وَمَنْعِ أَسْبَابه ....................
رَدُّ زَعْمِ القبوْرِيينَ في مَعْنَى قوْل ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَجْتَمِعُ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ دِينان»ِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا .................
الوَجْهُ الأَوَّلُ : ببيان ِ مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْل ِ العِلمِ الرَّبانِيِّينَ ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ : أَمْرُ وُجُوْبٍ بإخْلاءِ الجزِيرَةِ مِنْ دِين ٍ ثان ٍ غيرِ الإسْلامِ ، لا خبرٌ وَبشارَة ٌ بخُلوِّهَا مِنْ دِين ٍ ثان ٍ!
الوَجْهُ الثانِي : مُخالفتهُ لِمَا ثبتَ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَوْدَةِ الشِّرْكِ إلىَ جَزِيرَةِ العَرَب ......(182/305)
الوَجْهُ الثالِثُ : ارْتِدَادُ كثِيرٍ مِنْ قبائِل ِ الجزِيرَةِ بَعْدَ وَفاةِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقِتَالُ الصَّحَابةِ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ لهمْ ......
الوَجْهُ الرّابعُ : ادِّعَاءُ مُسَيْلِمَة َ الكذّابِ النبوَّة َ، وَارْتِدَادُ أَهْل ِ اليمَامَةِ بإيمَانِهمْ بهِ ، وَقِتَالُ الصَّحَابةِ لهمْ .........
الوَجْهُ الخامِسُ : خُرُوْجُ الزَّنادِقةِ في خِلافةِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، وَادِّعَاؤُهُمْ أُلوْهِيَّتهُ ، وَقتْلهُ لهمْ بحَرْقِهمْ باِلنار ......
الوَجْهُ السّادِسُ : وُجُوْدُ اليهُوْدِ في اليَمَن ِ، وَوُجُوْدُ الرّافِضَةِ وَالبَاطِنِيَّةِ وَالقرَامِطةِ وَغيرِهِمْ في الجزِيرَة .......
الوَجْهُ السّابعُ : مُخالفتهُ إخْبَارَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخرُوْجِ الدَّجّال ِ، وَارْتِدَادِ كثِيرٍ مِنَ الناس ِ بإيْمَانِهمْ بهِ ، وَزَعْمُهُ الأُلوْهِيَّة َ، حَتَّى يطأَ الأَرْضَ كلهَا إلا َّ مَكة َ وَالمدِينة ..........................
الوَجْهُ الثامِنُ : مُخالفتهُ لإجْمَاعِ أَهْل ِ العِلمِ ، بتَكفِيرِ مَن ِ ارْتكبَ ناقِضًا مِنْ نوَاقِض ِ الإسْلامِ ، وَلوْ كانَ مِنْ أَهْل ِ الجزِيرَةِ ، كمَا كفرَ الصَّحَابة ُ مَانِعِي الزَّكاةِ مِنْ أَهْل ِ الجزِيرَةِ وَغيرِهِمْ ، وَقاتلوْهُمْ عَليْهَا .........
الوَجْهُ التّاسِعُ : مُخالفتهُ وَمُنَاقضَتهُ فِعْلَ أُوْلئِك َ القبوْرِيينَ - الزّاعِمِينَ خُلوَّ الجزِيرَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالكفرِ - بتَكفِيرِهِمْ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْل ِ الجزِيرَةِ ، بحجَّةِ كوْنِهمْ وَهّابيَّة ً، أَوْ غيرَ ذلك .............
خلاصَة ُ دَعْوَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بن ِ عَبْدِ الوَهّابِ رَحِمَهُ الله ُ وَمَدَارُهَا ...........(182/306)
الوَجْهُ العَاشِرُ: مُخالفتهُ إخْبَارَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضَعْفِ الإسْلامِ آخِرَ الزَّمَان ِ وَانْحِسَارِهِ ، حَتَّى لا يقالَ في الأَرْض ِ(الله الله) حَتَّى يبْلغَ مِنْ ضَعْفِهمْ : أَنْ يَهْدِمَ الأَسْوَدُ الحبَشِيُّ ذو السُّوَيْقتَين ِ الكعْبَة َ، وَينقضُ حَجَرَهَا حَجَرًا حَجَرًا ، لا يَجِدُ مَنْ يَمْنَعُهُ وَلا مَنْ يَرْدَعُه .....
الوَجْهُ الحادِي عَشَرَ : مُخالفتهُ إجْمَاعَ أَهْل ِ العِلمِ عَلى جَوَازِ طرُوْءِ الكفرِ مِنْ كلِّ مُكلفٍ غيرَ الأَنبيَاءِ ، بلا اسْتِثْنَاءٍ أَكانَ مِنْ أَهْل ِ الجزِيرَةِ أَمْ لمْ يَكنْ مِنْهُمْ ..
فصْل في نقض ِ اسْتِدْلالهِمْ بحدِيْثِ«إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيرةِ العَرَبِ» مِنْ عَشَرَةِ وُجُوْه ..................
الوَجْهُ الأَوَّلُ : أَنَّ يَأْسَ المخْلوْق ِ لا يدُلُّ عَلى انتِفاءِ مَا يَئِسَ مِنْهُ وَعَدَمِ تحَققِهِ ، بلْ رُبمَا كانَ الميْؤُوْسُ مِنْهُ أَقرَبَ إلىَ اليائِس ِ مِنْ شِرَاكِ نعْلِه ...............
الوَجْهُ الثانِي : تقدَّمَ في الوَجْهِ الثانِي ، في الجوَابِ عَلى الحدِيْثِ الأَوَّل ...................................
الوَجْهُ الثالِثُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ الثالِثِ السّابق ......
الوَجْهُ الرّابعُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ الرّابعِ السّابق ..........
الوَجْهُ الخامِسُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ الخامِس ِ السّابق ....
الوَجْهُ السّادِسُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ السّابعِ السّابق .....
الوَجْهُ السّابعُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ الثامِن ِ السّابق ....
الوَجْهُ الثامِنُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ التّاسِعِ السّابق ......
الوَجْهُ التّاسِعُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ العَاشِرِ السّابق .....
الوَجْهُ العَاشِرُ : تقدَّمَ في الوَجْهِ الحادِي عَشَرَ السّابق ...(182/307)
أَدِلة ُ القبوْرِيينَ عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ : إمّا دَلِيْلٌ صَحِيْحٌ حَرَّفوْا مَعْنَاهُ ، لِيَسْتَقِيْمَ لهمُ اسْتِدْلالهمْ بهِ ، أَوْ فهمُوْهُ عَلى غيرِ وَجْهه . وَإمّا حَدِيْثٌ لا يَصِحُّ الاسْتِدْلالُ بهِ ، لِضَعْفِهِ أَوْ وَضْعِهِ ، أَوْ لا أَصْلَ له .....
فصْل في بيان ِ أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِغاثة َ بهمْ ، وَالذَّبْحَ والنذْرَ لهمْ : شِرْك ٌ أَكبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الملةِ ، مِنْ جِنْس ِ شِرْكِ الجاهِلِيِّيْنَ ، بَلْ هُوَ أَعْظمُ مِنْه ............
حُجَّة ُ مُشْرِكِي زَمَانِنَا : هِيَ حُجَّة ُ مُشْرِكِي الجاهِلِيَّةِ ، غيرَ أَنَّ أُوْلئِك َ المتقدِّمِينَ مَثلوْا صُوَرَ صَالحِيْهمْ وَشُفعَائِهمْ باِلأَحْجَارِ وَالطين ِ وَغيرِهَا . وَمُشْرِكوْ زَمانِنَا اسْتَبْدَلوْهَا باِلقِبَابِ وَالمشَاهِدِ وَالأَضْرِحَة .........
مُشْرِكوْ المتأَخِّرِين ِ يعَظمُوْنَ المشَاهِدَ المبْنِيَّة َ عَلى القبوْرِ فوْقَ تَعْظِيْمِهمْ لِلمَسَاجِدِ الخالِيَةِ مِنْ ذلِك َ، يظهَرُ تَعْظِيْمُهُمْ لها في بذْلهِمُ الأَمْوَالَ العَظِيْمَة َ في بناءِ المشاهِدِ ، وَحَجِّهمْ إليْهَا ، وَبُكائِهمْ عِنْدَهَا ، وَغيرِ ذلِك َ مِنْ أُمُوْرٍ لا ترَى مِنْهُمْ في مَسَاجِدِهِمْ ................
فصْل في بيان ِ قبيْحِ عَاقِبَةِ المشْرِكِينَ ، وَأَنَّ الشِّرْك َ ذنبٌ لا يغفِرُهُ الله ُ جَلَّ وَعَلا ، وَأَنَّ مَعْبُوْدِيهمْ مِنَ الصّالحِينَ ، يتبَرَّؤُوْنَ مِمَّنْ أَشْرَكهُمْ مَعَ اللهِ يوْمَ القِيَامَةِ ، في عِبَادَتِهِ سُبْحَانهُ وَدُعَائِهِ وَالاسْتِغاثةِ به ................
مَنْ عُبدَ مَعَ اللهِ تَعَالىَ أَوْ دُوْنهُ مِنَ الصّالحِينَ ، نبيًّا كانَ أَوْ وَلِيًّا أَوْ غيرَ ذلِك َ: فإنهُ يتبَرَّأُ مِنْ عَابدِيهِ يوْمَ القِيَامَةِ ، وَيَكفرُ بشِرْكِ عُبّادِه ......................(182/308)
فصْل في تَفرُّدِ اللهِ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ باِلعِبَادَةِ ، كمَا تَفرَّدَ بأَسْمَائِهِ الحسْنَى وَصِفاتِهِ العُلا ، وَتَفرَّدَ باِلرُّبوْبيَّة ......
فصْل في بيان ِ أَنَّ شِرْك َ المشْرِكِينَ المتقدِّمِينَ كانَ في تَوْحِيْدِ العِبَادَةِ لا الرُّبوْبيَّة .......................
إيْمَانُ المشْرِكِينَ المتقدِّمِينَ بتَوْحِيْدِ الرُّبوْبيَّةِ ، وَكفرُهُمْ بتَوْحِيْدِ العِبَادَةِ ، لِذَا أَلزَمَهُمُ الله ُ بإيمَانِهمْ باِلتَّوْحِيْدِ الأَوَّل ِ، عَلى اسْتِحْقاقِهِ وَحْدَهُ باِلتَّوْحِيْدِ الثانِي .........
المشْرِكوْنَ المتقدِّمُوْنَ لمْ يَعْبُدُوْا الأَصْنَامَ اعْتِقادًا مِنْهُمْ أَنهَا رَبُّ العَالمِينَ ! أَوْ شَرِيْكة ٌ للهِ جَلَّ وَعَلا في مُلكِهِ ! وَإنمَا عَبَدُوْهَا - باِلدُّعَاءِ وَالاسْتِغاثةِ وَالذَّبحِ وَالنذْرِ-: تشفعا بأَصْحَابهَا إلىَ اللهِ ، وَاتخاذاً لهمْ وَسَائِط َ إليْه .........
كلُّ مَنْ عُبدَ مَعَ اللهِ أَوْ دُوْنهُ بدُعَاءٍ ، أَوِ اسْتِغاثةٍ ، أَوْ ذبحٍ ، أَوْ غيرِ ذلِك َ: مَخْلوْقٌ ضَعِيْفٌ لا يَنفعُ وَلا يَضُرُّ ، وَليْسَ لهُ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ حَتَّى لِنفسِهِ ، وَإنمَا هُمْ عِبَادٌ مِثلهُمْ يرْجُوْنَ رَحْمَة َ اللهِ وَيخافوْنَ عَذَابه ......
فصْل في عَدَمِ اسْتِحْقاق ِ أَحَدٍ سِوَى اللهِ جَلَّ وَعَلا لِسَائِرِ العِبَادَاتِ مِنْ دُعَاءٍ وَاسْتِغاثةٍ وَغيرِهَا ، لِضَعْفِ المخْلوْقِينَ جَمِيْعًا ، وَافتِقارِهِمْ كافة ً لهُ سُبْحَانه ......
فصْل في انتِفاءِ شَفاعَةِ الشّافِعِينَ إلا َّ بشَرْطين .........
الشَّرْط ُ الأَوَّلُ : إذنُ اللهِ لِلشّافِعِ باِلشَّفاعَة .........
وَالشَّرْط ُ الثانِي : رِضَى اللهِ عَن ِ المشْفوْعِ فِيْه ......
لا شفِيْعَ لِلمُشْرِكِينَ ، وَلا حَمِيْمٌ يطاع ............(182/309)
مَنْ طلبَ الشفاعَة َ في الدُّنيا مِنَ الأَمْوَاتِ : حُرِمَ في الآخِرَةِ مِنْ سَائِرِ الشَّفاعَات .................
فصْل في بيان ِ أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِغاثة َ بهمْ : شِرْك ٌ أَكبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الملةِ ، مِنْ جِنْس ِ شِرْكِ الجاهِلِيِّيْنَ ، بَلْ هُوَ أَعْظمُ مِنْه ....................
الدُّعَاءُ : عِبَادَة ٌ خَالِصَة ٌ، لا تُصْرَفُ إلا َّ للهِ وَحْدَهُ ، وَمَنْ صَرَفهَا لِغيرِهِ سُبْحَانهُ : فقدْ أَشْرَك ...........
فصْل في بيان ِ أَنَّ جَمِيْعَ المدْعوِّينَ مِنْ مَلائِكةٍ وَأَنبيَاءٍ وَصَالحِينَ وَغيرِهِمْ ، لا يَمْلِكوْنَ لأَنفسِهمْ نفعًا وَلا ضَرًّا ، وَلا غيًّا وَلا رَشَدًا، وَليْسَ لهمْ مِنَ الأَمْرِ شَيْء
تَحْذِيْرُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقرَابتِهِ أَنْ لا يَغرَّهُمْ قرْبهُ مِنْهُمْ ، وَصِلتهُ بهمْ عَن ِ الأَعْمَال ِ الصّالحِة . وَبيانهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهمْ أَنهُ لا يُغني عَنْهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، وَفِيْهمْ بنتهُ وَعَمُّهُ وَعَمَّتُهُ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ ، فإذا كانَ هَذَا حَالهمْ فمَا حَالُ غيرِهِمْ ؟! .............
بيانُ شُرُوْطِ المدْعُوِّ ، وَهِيَ ثلاثة ٌ، لا تَتَحَققُ فِي أَحَدٍ قط ّ سِوَى اللهِ جَلَّ وَعَلا ........................
فصْل في بيان ِ أَنَّ شِرْك َ المتأَخِّرِيْنَ أَعْظمُ مِنْ شِرْكِ الجاهِلِيِّينَ ، لِكوْنِهِ مُطرِدًا مَعَهُمْ في رَخَائِهمْ وَشِدَّتِهمْ ، بخِلافِ الجاهِلِيِّينَ فقدْ كانوْا مُشْرِكِينَ في رَخَائِهمْ ، مُوَحِّدِينَ في شَدَائِدِهِمْ .........................
مُشْرِكو الجاهِلِيَّةِ : مُوَحِّدُوْنَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ ، مُشْرِكوْنَ عِنْدَ الرَّغائِد . وَمُشْرِكوْ زَمَانِنَا : مُشْرِكوْنَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالرَّغائِد .............................(182/310)
ذِكرُ قِصَّةٍ تدَللُ عَلى صِحَّةِ مَا قدَّمْنَاه .............
اسْتِدْلالٌ عَجِيْبٌ لِمُشْرِكٍ مُعَاصِرٍ : عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ ، مِنْ دُعَاءٍ وَاسْتِغاثةٍ باِلأَمْوَاتِ وَغيرِهَا : بأَنَّ الله َ جَلَّ وَعَلا قادِرٌ عَلى مَنْحِ أُوْلئِك َ الأَمْوَاتِ قدْرَة ً- وَهُمْ في البَرْزَخِ مَيتوْنَ - عَلى إغاثةِ المنْكوْبينَ ، وَإنْجَادِ الملهُوْفِينَ ! وَأَنهُ لا يَمْنَعُ ذلِك َ إلا َّ شَاك ٌّ في قدْرَةِ اللهِ تعَالىَ ! وَبيانُ أَنَّ حُجَّتَهُ الفاسِدَة َ هَذِهِ : يَصِحُّ أَنْ يَسْتَدِلَّ بهَا كلُّ مُشْرِكٍ عَلى صِحَّةِ دُعَائِهمْ لِلأَصْنَامِ وَاسْتِغاثتِهمْ بهَا ! وَفي كلِّ مَا عُبدَ مِنْ دُوْن ِ اللهِ تَعَالىَ ، مِنْ شَجَرٍ وَحَجَرٍ وَوَثن ٍ وَنارٍ ، وَغيرِ ذلك ............
بَعَثَ الله ُ أَنبيَاءَهُ وَرُسُلهُ - صَلوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَليْهمْ - لِيوَحِّدُوْهُ وَيَعْبُدُوْهُ ، وَيَأْمُرُوْا النّاسَ بإفرَادِهِ باِلعِبَادَةِ ، لا أَنْ يُشَارِكوْهُ فِيْهَا ! ...................
فصْل في تناقض ِ مُشْرِكِي زَمَانِنَا ، وَفسَادِ عقوْلهِمْ ، فلا يَطلبوْنَ الدُّعَاءَ مِنْ صَالِحٍ في حَيَاتِهِ ! فمَتى مَاتَ لجوْا فِي دُعَائِهِ وَطلبهِ ! وَكأَنَّ مَوْتهُ وَانقِطاعَ عَمَلِهِ وَظهُوْرَ ضَعْفِهِ : مَنْقبة ٌ وَقدْرَة ٌ، تَحَققتْ لهُ بَعْدَ مَوْتِه!
فصْل في ذِكرِ فتْوَى لِشَيْخِ الإسْلامِ ابْن ِ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ في حُكمِ الاسْتِنْجَادِ باِلمقبوْرِينَ وَالاسْتِغاثةِ بهمْ وَدُعَائِهمْ وَنَحْوِهِ ، وَبيان ِ أَنَّ ذلِك َ كلهُ شِرْك ٌ مُخْرِجٌ مِنَ المِلة ...............(182/311)
تَمَامُ الإيْمَان ِ وَكمَالهُ ، في ترْكِ سُؤَال ِ النّاس ِ حَاجَة ً، وَلوْ كانتْ سَوْطا سَقط َ عَلى الأَرْض ِ، وَوَصِيَّة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابهِ بذلك ......................................
طلبُ الدُّعَاءِ مِنَ المسْلِمِ الحيِّ : مَشْرُوْعٌ جَاءَتْ بذَلِك َ السُّنَّة ُ الصَّحِيْحَة ..........
فصْل في اغتِرَارِ الأَتبَاعِ بمَا زَينهُ لهمُ الشَّيْطانُ فِي مَتْبُوْعِيْهمْ مِنْ مَخَارِيْقَ شَيْطانِيَّةٍ ، وَمَكائِدَ إبْلِيْسِيَّةٍ ، لِيَظنَّ الأَغمَارُ أَنَّ أُوْلئِك َ المعْبُوْدِيْنَ أَوْلِيَاءُ صَالحِوْنَ ، وَأَنهُمْ لِدَعَوَاتِهمُ الشِّرْكِيَّةِ يُجِيْبُوْنَ وَيَنْفعُوْنَ .....
إجْمَاعُ أَوْلِيَاءِ اللهِ الصّالحِينَ : أَنْ لا عِبرَة َ بصَلاحِ أَحَدٍ ، إلا َّ باِسْتِقامَتِهِ عَلى أَوَامِرِ الشَّرْعِ ، وَاتباعِهِ لِلوَحْيِّ ، وَلزُوْمِهِ الطاعَاتِ ، وَمجَانبتِهِ المعَاصِي وَالموْبقاتِ ، لا بمَجِيْئِهِ بخَوَارِق ِ العَادَات .................
خَوَارِقُ العَادَاتِ : تَحْصُلُ لِكثِيرٍ مِنَ المشْرِكِينَ وَالكفارِ وَالمنافِقِينَ وَأَهْل ِ البدَعِ وَالمعَاصِي ، وَتَكوْنُ مِنَ الشَّيَاطِين ِ، فلا يَجُوْزُ أَنْ يظنَّ في كلِّ مَنْ رُئِيَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذلِك َ أَنهُ وَلِيٌّ للهِ صَالِح .....................
تلاعُبُ الشَّيَاطِين ِ بمَنْ ظنَّ أَصْحَابَ الخوَارِق ِ الشَّيْطانِيَّةِ أَوْلِيَاءَ صَالحِين ..............
وُقوْعُ خَوَارِقَ لِلعَادَاتِ كثِيرَةٍ لِلدَّجّال ِ، وَابن ِ صَيّادٍ ، وَكثِيرٍ مِنَ الكهّان ِ وَغيرِهِمْ مَعَ كفرِ هَؤُلاءِ وَخبثِهمْ وَفسَادِهِمْ ...........................
شُرُوْط ُ قبوْل ِ العِبَادَاتِ : إخْلاصُهَا للهِ جَلَّ وَعَلا ، وَمُوَافقتهَا لِلسُّنَّة ...............................(182/312)
فصْل في تَمَثل ِ الشَّيَاطِين ِ باِلمقبُوْرِينَ المسْتَغاثِ بهمْ وَالمعْبُوْدِينَ ! تغرِيرًا بعُبّادِهِمْ ! وَإضْلالا ً لهمْ ! كمَا كانتْ تصْنَعُ بأَسْلافِهمْ مِنَ المشْرِكِينَ .........
الأَحْجَارُ لمْ تُضِلَّ المشْرِكِينَ إلا َّ بسَببٍ اقتضَى ضَلالهُمْ ، وَلمْ يَكوْنوْا يظنُّوْنَ فِيْهَا أَنهَا خَلقتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ، وَلا أَنهَا تُحْيي وَتُمِيْتُ ، وَإنمَا اتخذُوْهَا وَسَائِط َ وَشُفعَاء ...........
الشَّيَاطِينُ تُغْوِي كلَّ إنسَان ٍ بمَا يَصْلحُ لِحَالِهِ ، وَيرُوْجُ عَليْه .....................................
الشَّيَاطِينُ كانتْ تدَاخِلُ الأَصْنَامَ ، وَتخاطِبُ المشْرِكِينَ ، وَتضِلهُمْ بذَلِك َ، وَتزِيدُ فِتنتهُمْ بهَا ......
لمْ يَخْشَ إبرَاهِيْمُ الخلِيْلُ ، إمَامُ الحنفاءِ ، وَأَبوْ الأَنبيَاءِ الأَصْفِيَاءِ عَلى نفسِهِ وَبنِيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ إلا َّ لِسَببٍ عَظِيْمٍ اقتضَى ذلِك َ، لا لِكوْنِهِ يَخْشَى عَلى نفسِهِ عَليْهِ السَّلامُ أَنْ يظنَّ فِيْهَا الخلقَ وَالرَّزْقَ وَالإحْيَاءَ وَالإمَاتة ..................
فصْل في انقِطاعِ طمَعِ الشَّيْطان ِ في الصَّحَابَةِ وَتَابعِيْهمْ عَلى الإيْمَان ِ وَالإحْسَان ِ أَنْ يُضِلهُمْ أَوْ يُغْوِيَهُمْ باِلاسْتِغاثةِ باِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ دُعَاءِ غيرِهِ ، لِتَمَامِ عِلمِهمْ وَإيْمَانِهمْ ، كمَا طمِعَ في غيرِهِمْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فأَوْقعَهُمْ في الشِّرْك .......
مَا ظهَرَ أَنهُ فضِيْلة ٌ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الصَّحَابةِ مِنَ المتأَخِّرِينَ ، وَلمْ تَكنْ فِيْهمْ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمْ : فهُوَ مِنَ الشَّيْطان ِ، وَهُوَ نقِيْصَة ٌ لا فضِيْلة .........................
فصْل في ذِكرِ طرَفٍ مِنَ المخارِيق ِ الشَّيْطانِيَّة .....(182/313)
الموَحِّدُوْنَ يَعْرِفوْنَ حَقِيْقة َ المخارِيق ِ الشَّيْطانِيَّةِ ، وَلا يغْترُّوْنَ بأَصْحَابهَا ، لاسْتِقامَةِ مِيْزَانِهمْ ...........
ذِكرُ شَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ طرَفا كبيرًا مِمّا عَرَفهُ وَرَآهُ مِنْ مخارِيق ِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطان ِ، مِمّا لوْ قيَّدَهُ كلهُ لاحْتَاجَ إلىَ مُجَلدٍ كبير.....
مَنْ كانَ يَطِيرُ مِنْهُمْ في الهوَاءِ إلىَ مَكان ٍ بَعِيْدٍ وَيَعُوْد ....
مَنْ كانَ يؤْتى بمَال ٍ مَسْرُوْق ٍ، تسْرُقهُ الشَّيَاطِينُ لهُ ، وَتَأْتِيْهِ به ...........................
مَنْ كانتِ الشَّيَاطِينُ تدُلهُ عَلى السَّرِقاتِ ، فيَأْخُذُ عَطاءًا مِنَ النّاس ِ عَلى ذلك .....................
مَنْ كانتِ الشَّيَاطِينُ تتمَثلُ بصُوْرَتِهِ إذا اسْتُغِيْثَ بهِ في غيْبَتِهِ ، وَتُغِيْثُ مُسْتَغِيْثِيْهِ لِتُضِلهُمْ وَتُغْوِيَهُمْ .........
مَنْ كانَ يَتَصَوَّرُ لهُ الشَّيْطانُ وَيَقوْلُ لهُ:«أَنا الخضِرُ» ! وَيعِيْنُهُ عَلى قضَاءِ بَعْض ِ حَوَائِجِه ................
مَنْ مَاتَ ثمَّ تصَوَّرَ الشَّيْطانُ بصُوْرَتِهِ وَعَادَ إلىَ أَهْلِهِ فقضَى دُيوْنهُ ، وَرَدَّ وَدَائِعَه .......................
مَنْ مَاتَ فتصَوَّرَ الشَّيْطانُ بصُوْرَتِهِ ، وَجَاءَ فغسَّلهُ وَكفنه ! ...................................
قِصَّة ٌ عَجِيْبَة ٌ وَقعَتْ لِلشَّيْخِ عَبْدِ القادِرِ الجِيْلانِيِّ رَحِمَهُ الله ُ، في تَمَثل ِ الشَّيْطان ِ لهُ في نوْرٍ عَظِيْمٍ ، وَعَرْش ٍ عَظِيْمٍ ، وَخَاطبهُ قائِلا ً:(أَنا رَبك َ! وَقدْ حَللتُ لك َ مَا حَرَّمْتُهُ عَلى غيرِك) ! ............
مَنْ تَمَثلَ لهُ الشَّيْطانُ وَزَعَمَ أَنهُ الله ُ جَلَّ وَعَلا ! فظنَّ ذلِك َ الجاهِلُ أَنهُ يرَى الله َ جَهْرَة ً في الدُّنيا .......
مَنْ رَأَى شَخْصًا ادَّعَى أَنهُ نبيٌّ أَوْ صِدِّيق ............(182/314)
مَنْ رَأَى في مَنَامِهِ أَحَدَ الأَكابرِ الصِّدِّيقَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ أَوْ غيرَهُ ، فقصَّ شَعْرَهُ ، أَوْ حَلقهُ ، أَوْ أَلبسَهُ شَيْئًا ، فأَصْبَحَ وَهُوَ يَجِدُ مَا رَآهُ في نوْمِهِ حَقِيْقة ً! مِنْ حَلق ٍ، أَوْ تَقصِيرٍ، أَوْ لِبَاس ٍ! فظنَّ أَنَّ مَا رَآهُ حَقٌّ ، فعَمِلَ بمَا أَوْصَاهُ ذلِك َ المرْئِيُّ في المنام ! .................
مَنْ كانتِ النَّبَاتَاتُ وَالأَحْجَارُ وَالأَشْجَارُ وَالطيوْرُ تخاطِبُه ....
مَنْ كانَ يدْخُلُ البيْتَ وَيَخْرُجُ مِنْهُ ، وَكذَلِك َ المدِينة َ، دُوْنَ فتْحِ بابٍ وَلا سُوْر ....................
مَنْ كانتِ الشَّيَاطِينُ ترِيهِ أَنهُ المهْدِيُّ ، وَتدَللُ لهُ أَنهُ المهْدِيُّ بأُمُوْرٍ كثِيرَةٍ تغْوِيهِ بهَا وَتغرُّه ................
مَنْ كانتِ الشَّيَاطِينُ ترِيهِ صُوَرَ المسْتَغِيْثِينَ بهِ ، وَالسّائِلِينَ لهُ ، وَتوْصِلُ إليْهمْ إجَاباتِه ........................
بَعْضُ الصّالحِينَ إذا سَمِعَ بشَيْءٍ مِمّا سَبَقَ مِمَّنْ حَصَلَ لهمْ شَيْءٌ مِنْ ذلِك َ: ظنَّهُ كذِبًا ، أَوْ ضَرْبًا مِنْ سِحْرٍ أَوْ حِيْلةٍ ، وَلا يَعْلمُ أَنَّ فِيْهَا شَيْئًا كثِيرًا حَقٌّ ، غيرَ أَنهُ مِنْ مَخَارِيْق ِ الشَّيَاطِين ............................
جَمَاعَة ٌ اسْتغاثوْا بشَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تيْمية َ فجَاءَهُمْ رَجُلٌ في صُوْرَتِهِ فأَغاثهُمْ ! وَشَيْخُ الإسْلامِ لا يَعْلمُ بذَلِك َ! وَكشْفُ شَيْخِ الإسْلامِ حَقِيْقة َ ذلِك َ لأُوْلئِك َ المسْتغِيْثِين ...............................(182/315)
حَالُ الجزِيرَةِ قبْلَ دَعْوَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بن ِ عَبْدِ الوَهّابِ رَحِمَهُ الله ُ، وَمَا كانَ فِيْهَا مِنْ أَحْوَال ٍ شَيْطانِيَّةٍ ، وَأَعْمَال ٍ شِرْكِيَّةٍ ، مِنْ تعَلق ٍ باِلأَحْجَارِ وَالأَشْجَارِ وَالقِبَابِ وَالقبوْرِ ، فأَزَالها الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله ُ حَتَّى أَصْبَحَ الدِّينُ كلهُ للهِ ، فلا يُدْعَى إلا َّ هُوَ ، وَلا يُعْبَدُ أَحَدٌ سِوَاه ................
مَنْ كانتِ الشَّيَاطِينُ تكاتِبُ أَصْحَابهُ برَسَائِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ ! لِتزِيدَ تعَلقهُمْ بهِ ، وَضَلالهُمْ فِيْه ..................
تصَوُّرُ الشَّيَاطِين ِ عَلى صُوْرَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله ُ عَنْهُ ، أَوْ مُحَمَّدِ بن ِ الحنفِيَّةِ ، أَوْ مُنتَظرِ الرّافِضَةِ ! وَمَجِيْؤُهُمْ إلىَ مُعْتَقِدِي بقائِهمْ بَعْدَ مَوْتِهمْ ، لِتضِلهُمْ عَن ِ السَّبيْل ِ، وَتثبتهُمْ عَلى فسَادِهِمْ .............................
بَعْضُ جُهّال ِ المشَايخِ : كانَ يَحُثُّ تَلامِيْذَهُ وَأَصْحَابهُ عَلى الاسْتِغاثةِ بهِ في حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ ، لمّا سَمِعَ مِنْهُمْ أَنَّ ذلِك َ كانَ يَنْفعُهُمْ ! ظنًّا مِنْهُ أَنَّ تِلك َ كرَامَة ٌ له ! ...
رَجُلٌ فاجِرٌ بدِمَشْقَ كانتِ الشَّيَاطِينُ تحْمِلهُ مِنْ جَبَل ِ الصّالحِيَّةِ إلىَ قرْيةٍ أُخْرَى ...............
رَجُلٌ آخَرُ ب«الشُّوَيْكِ» كانَ الشَّيْطانُ يحْمِلهُ إلىَ رَأْس ِ الجبل .....................................
رَجُلٌ آخَرُ كانَ صَاحِبَ زِنا وَلِوَاطٍ وَفجُوْرٍ : كانَ لهُ كلبٌ أَسْوَدُ يُخْبرُهُ بمَا خَفِيَ عَليْهِ ، وَغابَ عَنْهُ ، فلمّا تابَ وَصَلى وَصَامَ : غابَ عَنْهُ ذلِك َ الكلبُ وَترَكه ....
رَجُلٌ كانتْ لهُ شَيَاطِينُ يرْسِلهُمْ فتصْرَعُ النّاسَ ، لِيتكسَّبَ مِنْ أَهْل ِ المصْرُوْعِينَ إذا جَاؤُوْهُ يرِيدُوْنَ عِلاجَ صَرْعَاهُمْ ...................(182/316)
رَجُلٌ آخَرُ كانَ مُشْتَغِلا ً باِلعِلمِ وَالقِرَاءَةِ : فجَاءَتهُ الشَّيَاطِينُ وَصَرَفتْهُ عَن ِ الصّلاةِ وَالطلبِ ، وَأَحْضَرَتْ لهُ مَا يرِيدُ وَمَا يطلب ............................
رَجُلٌ آخَرُ باِلشّامِ كانَ لهُ شَيْطانٌ يُخْبرُهُ باِلمغيَّبَاتِ ، فيَصْدُقُ تارَة ً، وَيَكذِبُ أُخْرَى ............
رَجُلٌ باِلشّامِ كانَ يَزْعُمُ أَنهُ يرَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة ً يأْتِيْهِ وَيخاطِبُهُ ، وَيحِلُّ لهُ مَا حَرُمَ عَلى أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْ شُرْبٍ لِلمُسْكِرِ وَغيرِهِ ! وَقتْلُ وَلِيِّ الأَمْرِ لهُ سَنَة (715ه) بفتْوَى شَيْخِ الإسْلامِ فِيْهِ ، وَسَعْيه ...........
مَنْ كانَ يَصْرَعُ الحاضِرِينَ ! وَشَيَاطِيْنُهُ صَرَعَتْهُمْ ....
مَنْ لمْ ينوِّرِ الله ُ قلبهُ باِلإيْمَان ِ، وَالعِلمِ ، وَاتباعِ القرْآن ِ: التبَسَ عَليْهِ الحقُّ باِلباطِل .......
فصْل في ذِكرِ جُمْلةٍ مِنَ الأُمُوْرِ التي تبْطِلُ سُلطانَ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّة .............................
أَحَدُهَا : قِرَاءَة ُ آيةِ الكرْسِيّ .......................
الثانِي : الاسْتِعَاذة ُ باِللهِ مِنَ الشَّيَاطِين .............
الثالِثُ : الاسْتِعَاذة ُ باِللهِ باِلعُوَذِ الشَّرْعِيَّةِ التي كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسْتَعِيْذُ بهَا ........
الشَّيَاطِينُ كانتْ تعْرِضُ لِلأَنبيَاءِ في حَيَاتِهمْ عَليْهمُ السَّلامُ لإيذَائِهمْ وَإفسَادِ عِبَادَاتِهمْ .............
الرّابعُ : دُعَاءُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاللجُوْءُ إليْهِ أَنْ يَكشِفَ لهُ حَقِيْقة َ الأَمْرِ وَباطِنَه ....................(182/317)
الخامِسُ : الإقسَامُ عَلى ذلِك َ الشَّخْص ِ باِلأَقسَامِ المغلظةِ أَنهُ هُوَ فلانٌ ، وَقِرَاءَة ُ قوَارِعِ القرْآن ِ عَليْهِ ، وَتَحْرِيْجُه ..............................
سَبَبُ ظهُوْرِ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ : انتِشارُ الكفرِ وَالجهْل ِ وَالمعَاصِي وَالبدَع . وَسببُ اندِثارِهَا وَانْحِسَارِهَا : ظهُوْرُ الإيْمَان ِ، وَالعِلمِ وَالسُّنَّة ...................
فصْل في بيان ِأَنَّ كثِيْرًا مِنْ أُوْلئِك َ المقبُوْرِيْنَ المسْتغاثِ بهمْ زَنادِقة ٌ أَوْ ضُلالُ مُبْتَدِعَة ٌ، بَلْ مِنْهُمْ يَهُوْدُ وَنَصَارَى وَبَاطِنِيَّة ٌ وَرَوَافِضُ ، وَأَنَّ كثِيْرًا مِنْ قبوْرِهِمْ مُخْتَلقٌ لا صِحَّة َ له ....................................
كثِيرٌ مِنَ الضُّلال ِ يُعَظمُ قبرَ مَنْ يَكوْنُ في الحقِيْقةِ كافِرًا أَوْ زِندِيقا ..............................
حِكاية ُ عِرَاقِيٍّ زَعَمَ أَنَّ قبرًا اخْتَلقهُ : قبرٌ لأَحَدِ آل ِ البيْتِ وَهُوَ ليْسَ كذَلِك َ! وَإضْلالهُ كثِيرًا مِنَ الجهّال ِ وَالضُّلال ِ بحِيْلةٍ صَنَعَهَا ، وَذلِك َ سَنَة َ(535ه) ، وَانْكِشَافُ أَمْرِهِ بعْدَ ذلِك . وَمَا بقِيَ خَافِيًا أَكثرُ وَأَعْظم .............
فصْل في بيان ِ حَال ِ أَحْمَدَ البدَوِيِّ ، صَاحِبِ «طنْطا» (596ه-675ه) ، وَأَنهُ قدْ نشأَ فاسِدًا ضَالا ًّ مُنْحَرِفا ، لا يُصَلي وَلا يَغْتَسِلُ ، ذا أَحْوَال ٍ شَيْطانِيَّةٍ ، وَمَخَارِيْقَ إبْلِيْسِيَّةٍ ، قدْ أَضَلَّ بهَا فِئَامًا كثِيرِين ...............
فصْل في سِيَاق ِ الشَّعْرَانِيِّ أَخْبَارًا مَمْجُوْجَةٍ لِلبدَوِيِّ وَغيرِهِ ، تدُلُّ عَلى عَظِيْمِ ضَلالِهِ وَضَلالهِمْ ..........(182/318)
اسْترَاقُ الشَّيَاطِين ِ لِلسَّمْعِ ، وَإخْبَارُهُمْ أَوْلِيَاءَهُمْ مِنَ الكهّان ِ وَغيرِهِمْ بهَا ، لِيغرُّوْا - بمَا يُلقوْنَ إليْهمْ وَيُوْحُوْنهُ - كثِيرًا مِنَ النّاس ................
لا يَعْلمُ الغيْبَ إلا َّ الله ُ وَحْدَهُ سُبْحَانهُ ، وَمَن ِ ادَّعَى عِلمَ الغيْبِ : فهُوَ كافِرٌ مُرْتدّ ............
فصْل في بَعْض ِ أَخْبَارِ البدَوِيِّ وَضَلالِه .....
زَعْمُ الشَّعْرَانِيِّ : أَنَّ أَحَدَ المتصَوِّفةِ أَضَافهُ وَدَعَى لِضِيَافتِهِ الأَوْلِيَاءَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتا ! ..............
مَجْيءُ البدَوِيِّ لِلشَّعْرَانِيِّ في سَنَةٍ أَرَادَ الشَّعْرَانِيُّ التَّخلفَ فِيْهَا عَنْ حُضُوْرِ مَوْلِدِهِ ! وَإزَالة ُ البدَوِيِّ الحجُبَ عَنْ بَصَرِ الشَّعْرَانِيِّ حَتَّى رَأَى أَهْلَ الأَرْض ِ يَسْعَوْنَ مِنْ كلِّ فجٍّ عَمِيْق ٍ لِحُظوْرِ مَوْلِدِهِ ! أَحْيَاءً وَأَمْوَاتا ! وَأُسَارَى وَمَرْضَى ! يَمْشُوْنَ وَيزْحَفوْن .................
زَعْمُ البدَوِيِّ أَنَّ مَوْلِدَهُ يَحْضُرُهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! بَلْ وَسَائِرُ الأَنبيَاءِ ! وَأَتباعُهُمْ وَأَصْحَابهُمْ جَمِيْعًا ! ................(182/319)
زَعْمُ الشِّنّاوِيِّ : أَنَّ رَجُلا ً أَنكرَ مَوْلِدَ البدَوِيِّ فسُلِبَ الإيْمَانَ ! وَبيانُ أَنَّ الموْالِدَ كافة ً بدْعَة ُ ضَلالةٍ ، وَأَنَّ أَئِمَّة َ الهدَى كانوْا وَمَا زَالوْا ينْهَوْنَ عَنْهَا ، وَعَن ِ الموْلِدِ المسَمَّى ب«الموْلِدِ النَّبَوِيِّ» ، وَيبدِّعُوْنَ فاعِلهُ ، وَلمْ يسْلبوْا الإيْمَانَ ، بلْ كانَ فِعْلهُمْ ذلِك َ مِنْ حَقِيْقةِ الإيْمَان ِ، وَاسْتِقامَتِهِ ، وَكانَ عَليْهِ الصَّحَابة ُ وَالتّابعُوْنَ وَأَتباعُهُمْ ، فلمْ يقِيْمُوْا مَوْلِدًا ، وَلمْ يَجْعَلوْا لِذَلِك َ مَحْفلا ً، مَعَ مَحَبَّتِهمُ العَظِيْمَةِ لهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلمْ يحْدِثهُ إلا َّ الزَّنادِقة ُ الفاطِمِيُّوْن .............................
ذِكرُ شَيْءٍ مِنْ تَلاعُبِ الشَّيَاطِين ِ بأَتباعِ البدَوِيِّ وَإغوَائِهمْ لهمْ ........................
سَعْيُ مُرِيْدِي البدَوِيِّ وَأَصْحَابهِ في قتْل ِ مُحَمَّدٍ قمَرِ الدَّوْلةِ ، حَسَدًا لهُ أَنْ فازَ بشُرْبِ قيْءِ البدَوِيّ ! ........
أَخْذُ مُحَمَّدٍ الشِّنّاوِيِّ تِلمِيْذَهُ الشَّعْرَانِيَّ إلىَ ضَرِيْحِ البدَوِيِّ ، وَسُؤَالهُ لهُ أَنْ يتوَلىَّ البدَوِيُّ رِعَايتهُ وَحِفظهُ ! وَمُخاطبَة ُ البدَوِيِّ لهمْ مِنْ ضَرِيْحِهِ أَنْ نعَم ! وَمُصَافحَتُهُ إياهُمْ ! ...............................
فصْل في بيان ِ حَال ِ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ أَبي المجْدِ الدُّسُوْقِيِّ (633ه-676ه) وَضَلالِهِ وَكفرِهِ ، وَبعْض ِ أَخْبَارِهِ وَأَقوَالِه ..................................
فصْل في زَعْمِ كثِيرٍ مِنَ المتصَوِّفةِ وَغيرِهِمْ مِنَ الضّالينَ : أَنَّ لهمْ عِلمًا باِلغيْبِ ، وَاطلاعا عَلى اللوْحِ المحْفوْظِ ، وَهَذَا كلهُ كفرٌ وَرِدَّة ٌ، فلا يَعْلمُ الغيْبَ أَحَدٌ سِوَى اللهِ جَلَّ وَعَلا ........................(182/320)
مَن ِ ادَّعَى عِلمَ الغيْبِ : فقدْ كفر ................
مَن ِ ادَّعَى لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غيرِهِ مِنَ الأَنبيَاءِ وَالرُّسُل ِ عَليْهمُ السَّلامُ عِلمًا باِلغيْبِ مُطلقا : فهُوَ ضَالٌّ كذّاب ........
لا سَبيْلَ إلىَ مَعْرِفةِ الغيْبِ إلا َّ عَنْ طرِيق ِ الوَحْي ......
مَا تَدَّعِيْهِ المتصَوِّفة ُ لأَعْيَانِهَا ، مِنْ عِلمٍ باِلغيْبِ ، وَاطلاعٍ عَلى اللوْحِ المحْفوْظِ : كفرٌ وَرِدَّة ....................
الكلامُ عَلى الرُّؤَى ................
الرُّؤْيا الصّالِحَة ُ جُزْءٌ مِنْ سِتٍّ وَأَرْبعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّة .......
مَا تخالِفُ فِيْهِ الرُّؤْيا الصّالِحَة ُ الوَحْي .....
أَخْبَارُ الدَّجّالِينَ الموَافِقة ُ لِلحَقِيْقةِ : هِيَ مِنْ جُمْلةِ أَخْبَارِ الكهّان ِ، وَمِنْ إخْبَارِ الشَّيَاطِين ِ المسْتَرِقِينَ لِلسَّمْعِ لهمْ ........
فصْل في كوْن ِ كثِيرٍ مِنَ المسْتَغاثِ بهمْ مُشْرِكِينَ وَضَالينَ ، فاجْتَمَعَ عِنْدَ المسْتَغِيْثِينَ بهمْ أَمْرَان ِ قبيْحَان ِ: الشِّرْك ُ باِللهِ ، وَتَعْظِيْمُ ضُلال ٍ وَمُشْرِكِين ..........
اسْتِغلالُ المسْتَعْمِرِينَ الصَّليْبيِّينَ تِلك َ المشَاهِدَ الوَثنِيَّة َ، في إمْدَادِ قوَافِلِهمْ باِلزّادِ وَالعَتَادِ ، أَيامَ اسْتِعْمَارِهِمْ ........................................
خَاتِمَة ٌ في التَّحْذِيْرِ مِمّا يَكتُبُهُ المشْبُوْهُوْنَ وَالضّالوْنَ المنحَرِفوْنَ في «مُنْتَدَيَاتِ الانْتَرْنِتْ» ، وَغيْرِه ........
فهْرِسُ الموْضُوْعَاتِ التفصِيْلِيّ وَالفوَائِد ........
فهْرِسُ الموْضُوْعَاتِ الإجْمَالِيّ .............
فهرس الموضوعات الإجمالي
المَوْضوع
الصَّفحة
تَقدِيْمُ مَعَالِي الشَّيْخِ صَالِحِ بْن ِفوْزان الفوْزان ...................(182/321)
صُوْرَة ُ تَقدِيْمِ مَعَالِي الشَّيْخِ صَالِحٍ الفوْزان بخطه .............
مُقدِّمَة ُ الكِتَاب ...................................................
فصْل في سَبَبِ تَأْلِيْفِ الرِّسَالة ........................
فصْل في تَحْرِيْرِ مَحَلِّ النزَاعِ في هَذِهِ المسْأَلةِ ، وبَيَان ِ مَا أَجْمَعَ العُلمَاءُ عَلى تَحْرِيْمِهِ فِيْهَا ، وَمَا فِيْهِ خِلافٌ بَيْنَهُمْ ................
فصْل في الأَحَادِيْثِ النَّبَوَيَّةِ النّاهِيَةِ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ ، وَعِنْدَ القبوْر .......
فصْل في تَحْقِيْق ِ العِلةِ الكبرَى لِلنَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْر ........................................
فصْل في اخْتِلافِ الأَئِمَّةِ في صِحَّةِ الصَّلاةِ في المقبَرَةِ مَعَ قوْلهِمْ بتَحْرِيْمِهَا ..................................................................
فصْل في بَيَان ِ بُطلان ِ الصَّلاةِ في كلِّ مَسْجِدٍ بُنِيَ عَلى قبْرٍ ، أَوْ كانَ فِيْهِ قبْر .............................................................
فصْل في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ غيْرَ عَالمٍ باِلنَّهْيّ
فصْل في حُكمِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ غيْرَ عَالمٍ به ......
فصْل في بُطلان ِ صَلاةِ مَنْ صَلى عِنْدَ قبْرٍ اتفاقا ، مِنْ غيْرِ قصْدٍ له .........
فصْل في اسْتِوَاءِ الحكمِ في الصَّلاةِ عِنْدَ قبْرٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكثرَ ، وَأَنهَا صَلاة ٌ بَاطِلة ٌ عَلى كلِّ حَال ................
فصْل في حُكمِ الصَّلاةِ في عُلوِّ المقبَرَةِ ، وَبَيَان ِ أَنهَا بَاطِلة ٌ، لِتَحَقق ِ العِلةِ ، وَعُمُوْمِ الأَدِلة ...............................
فصْل في حُكمِ الصَّلاةِ إلىَ القبوْر .......................................(182/322)
فصْل في فسَادِ ظنِّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الفِتنة َ قدْ أُمِنَتْ مِنْ تَعْظِيْمِ أَصْحَابِ القبوْرِ ، وَتَصْوِيْرِ التَّمَاثِيْل ِ، وَبَيَان ِ أَنهَا فِتنة ٌ عَمْيَاءُ خطِيْرَة ٌ لا تؤْمَن ...........................................
فصْل في بيان ِ وَاجِبِ المسْلِمِيْنَ تِجَاهَ المشاهِدِ المبْنِيَّةِ عَلى القبوْر ..............................................................
فصْل في بيان ِ تَحْرِيْمِ الوَقفِ لِلمَشَاهِدِ وَالنَّذْرِ لها وَإسْرَاجِهَا ....................................................
فصْل في بيان ِ ضَلال ِ مَنْ شدَّ رَحْلهُ إلىَ مَشْهَدٍ أَوْ قبْرٍ ، وَتَحْرِيْمِ شدِّ الرِّحَال ِ إلىَ كلِّ مَسْجِدٍ غيْرَ المسَاجِدِ الثلاثةِ ، وَالتَّنْبيْهِ عَلى عِلةِ النَّهْيِّ ، التِي غابتْ عَنْ كثِيْرٍ مِنْ قاصِرِي العِلمِ وَالمعْرِفة ....................................
فصْل في إنكارِ بَعْض ِ أَهْل ِ البدَعِ فتْوَى شَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تَيْمية َ السّابقة َ، وَكذِبهمْ عَليْهِ فِيْهَا : بزَعْمِهمْ أَنهُ يَمْنَعُ زِيارَة َ قبرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُطلقا ، وَزِيارَة َ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِين .................
فصْل في انتِصَارِ جَمَاعَاتٍ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ لِشَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تَيْمية َ، حِيْنَ أَنكرَ عَليْهِ بَعْضُ أَهْل ِ البدَعِ تَحْرِيْمَهُ شَدَّ الرِّحَال ِ إلىَ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثةِ ، وَبَيَانِهمْ مَقصِدَهُ ، وَاحْتِجَاجِهمْ له ......................(182/323)
فصْل في بيان ِ حَال ِ الأَحَادِيْثِ المرْوِيةِ في فضْل ِ زِيَارَةِ قبْرِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنهَا مَوْضُوْعَة ٌ، مَعَ كوْن ِ زِيَارَةِ قبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرْبة ً مِنَ القرُباتِ ، وَطاعَة ً مِنَ الطاعَاتِ ، بشَرْطِ أَنْ لا يَكوْنَ ذلك بشدِّ رَحْل ٍ إليْه ..........................................
فصْل في نقض ِ شُبُهَاتِ المعْتَرِض ِ عَلى تَحْرِيْمِ الصَّلاةِ مُطلقا في المقابرِ ، وَعِنْدَ القبوْر ......................................
رَدُّ دَلِيْلِهِ الأَوَّل ِ: بزَعْمِهِ عُمُوْمَ قوْل ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جُعِلتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطهُوْرًا» ، فعمَّ الأَرْضَ كلهَا ! وَبيانُ فسَادِهِ ، وَإجْمَاعِ عُلمَاءِ المسْلِمِيْنَ عَلى تَخْصِيْصِهِ خِلافَ زَعْمِهِ ، غيْرَ أَنهُمْ مُخْتَلِفوْنَ في المخَصِّصَاتِ لا التَّخْصِيْص ....................
فصْل في نقض ِ دَلِيْلِهِ الثانِي : وَهُوَ بناءُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَهُ في مَقبَرَةٍ لِلمُشْرِكيْن .................................................
فصْل في نقض ِ دَلِيْلِهِ الثّالِثِ : وَهُوَ صَلاة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابهِ عَلى قبْرِ امْرَأَةٍ كانتْ تقمُّ المسْجِدَ ، رَضِيَ الله ُ عَنْهَا ..........
فصْل في نقض ِ دَلِيْلِهِ الرّابعِ : وَهُوَ زَعْمُهُ صَلاة َ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله ُعَنْهُمْ في المقبَرَةِ دُوْنَ نكِيْر ..................
فصْل في نقض ِ دَلِيْلِهِ الخامِس ِ: وَهُوَ زَعْمُهُ عَدَمَ وُجُوْدِ دَلِيْل ٍصَحِيْحٍ صَرِيْحٍ في النَّهْيِّ عَن ِ الصَّلاةِ في المقبَرَة ..........(182/324)
فصْل في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ عُبّادِ القبوْرِ عَلى جَوَازِ اتخاذِ المسَاجِدِ عَلى القبوْرِ بقوْلِهِ تَعَالىَ { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً } وَنقضِهِ وَبيان ِ بُطلانِه
فصْل في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ القبوْرِيِّيْنَ عَلى صِحَّةِ صَلاتِهمْ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، بحدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا مَرْفوْعًا «في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نَبيًّا» ، وَقدْ صَلى فِيْهِ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام ! وَبيَان ِ بُطلانِهِ وَأَنهُ مُنْكرٌ ، وَرَدِّهِ عَليْهمْ ..........
فصْل في بَيَان ِحَال ِ مَا جَاءَ في دَفن ِ آدَمَ عَليْهِ السَّلامُ في مَسْجِدِ الخيْفِ وَبُطلانِه ..........................................................
فصْل في رَدِّ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلى بَعْض ِأَدِلةِ المحَرِّمِيْن ...........
رَدُّ زَعْمِ المعْتَرِض ِ: أَنَّ عُمُوْمَ أَحَادِيْثِ النَّهْيِّ عَن ِ اتِّخَاذِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ وَالصّالحِينَ مَسَاجِدَ : مَخْصُوْصٌ باِلصَّلاةِ عِنْدَ قبرٍ مُعَظمٍ ، أَوْ أَنْ يَبْنِيَ عَليْهِ مَسْجِدًا . وَبيانُ أَنَّ الأَحَادِيْثَ في ذلِك َ عَامَّة ٌ مُطلقة ٌ غيرُ مُقيَّدَةٍ ، وَلا مُخَصَّصَة .........
فصْل في رَدِّ اعْتِرَاضَاتِهِ عَلى حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ ، إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» ...............
فصْل في بَيَان ِ صِحَّةِ حَدِيْثِ «الأَرْضُ كلهَا مَسْجِدٌ إلا َّ المقبَرَة َ وَالحمّام» ، وَذِكرِ طرُقِهِ ، وَالكلامِ عَليْه ...........
فصْل فِي اخْتِلافِ أَقوَال ِ الأَئِمَّةِ فِي هَذَا الحدِيْث ............
فصْل في مَعْنَى المقبَرَة ...............(182/325)
فصْل في رَدِّ زَعْمِ المعْتَرِض ِ: أَنَّ حَدِيْثَ أَبي سَعِيْدٍ الخدْرِيِّ السّابقَ مَنْسُوخ ........
فصْل في رَدِّ زَعْمِهِ : أَنَّ أَكثرَ الفقهَاءِ ، وَعُلمَاءِ الحدِيْثِ يُجِيْزُوْنَ الصَّلاة َ في المقابرِ ، وَتَكذِيْبه ..............................
فصْل في بَيَان ِ مُرَادِ أَهْل ِ العِلمِ المتقدِّمِيْنَ بلفظِ «الكرَاهَةِ» ، وَأَنهُمْ أَرَادُوْا إطلاقهُ اللغوِيَّ الشَّرْعِيَّ ، لا الاصْطِلاحِيَّ الأُصُوْلِيَّ ، وَبَيَان ِ غلطِ مَنْ زَعَمَ أَنهُمْ أَرَادُوْا المعْنَى الاصْطِلاحِيَّ عِنْدَ المتأَخِّرِيْن .........................
فصْل في رَدِّ زَعْمِهِ : أَنَّ الدَّلِيْلَ إذا تَطرَّقَ إليْهِ الاحْتِمَالُ ، بَطلَ بهِ الاسْتِدْلالُ ، وَبَيَان ِ أَنَّ هَذِهِ قاعِدَة ٌ إطلاقهَا يَؤُوْلُ بصَاحِبهَا إلىَ زَندَقةٍ ، وَبَيَان ِ مَعْنَاهَا عِنْدَ أَهْل ِ العِلم
الاحْتِمَالاتُ الوَارِدَة ُ عَلى الأَدِلةِ ثلاثة ُ أَنوَاع ...............
فصْل في زَعْمِ جَمَاعَةٍ مِنَ القبوْرِيِّينَ : أَنَّ قوْلَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَجْتَمِعُ دِيْنان ِفي جَزِيْرَةِ العَرَبِ»، وَقوْلهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ»: دَلِيْلان ِ عَلى صِحَّةِ أَعْمَالهِمُ الشِّرْكِيَّةِ المنافِيَةِ لِلإيْمَان ِ، وَبيان ِ فسَادِ اسْتِدْلالهِمْ وَنقضِهِ ، وإخْبَارِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعَوْدَةِ الشِّرْكِ إلىَ جَزِيْرَةِ العَرَبِ بَعْدَ انتِشَارِ الإسْلامِ ، وَإكمَال ِ الرِّسَالةِ ، لِتَفرِيْطِ النّاس ِ في سَدِّ ذرَائِعِ الشِّرْكِ ، وَمَنْعِ أَسْبَابه .......................(182/326)
رَدُّ زَعْمِ القبوْرِيينَ في مَعْنَى قوْل ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَجْتَمِعُ في جَزِيْرَةِ العَرَبِ دِينان»ِ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا .................
خلاصَة ُ دَعْوَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بن ِ عَبْدِ الوَهّابِ رَحِمَهُ الله ُ وَمَدَارُهَا .....
فصْل في نقض ِ اسْتِدْلالهِمْ بحدِيْثِ«إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أَيسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المصَلوْنَ في جَزِيرةِ العَرَبِ» مِنْ عَشَرَةِ وُجُوْه ................................
فصْل في بيان ِ أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِغاثة َ بهمْ ، وَالذَّبْحَ والنذْرَ لهمْ : شِرْك ٌ أَكبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الملةِ ، مِنْ جِنْس ِ شِرْكِ الجاهِلِيِّيْنَ ، بَلْ هُوَ أَعْظمُ مِنْه .........................
فصْل في بيان ِ قبيْحِ عَاقِبَةِ المشْرِكِينَ ، وَأَنَّ الشِّرْك َ ذنبٌ لا يغفِرُهُ الله ُ جَلَّ وَعَلا ، وَأَنَّ مَعْبُوْدِيهمْ مِنَ الصّالحِينَ ، يتبَرَّؤُوْنَ مِمَّنْ أَشْرَكهُمْ مَعَ اللهِ يوْمَ القِيَامَةِ ، في عِبَادَتِهِ سُبْحَانهُ وَدُعَائِهِ وَالاسْتِغاثةِ به .......................
فصْل في تَفرُّدِ اللهِ سُبْحَانهُ وَتَعَالىَ باِلعِبَادَةِ ، كمَا تَفرَّدَ بأَسْمَائِهِ الحسْنَى وَصِفاتِهِ العُلا ، وَتَفرَّدَ باِلرُّبوْبيَّة ......
فصْل في بيان ِ أَنَّ شِرْك َ المشْرِكِينَ المتقدِّمِينَ كانَ في تَوْحِيْدِ العِبَادَةِ لا الرُّبوْبيَّة ...............
فصْل في عَدَمِ اسْتِحْقاق ِ أَحَدٍ سِوَى اللهِ جَلَّ وَعَلا لِسَائِرِ العِبَادَاتِ مِنْ دُعَاءٍ وَاسْتِغاثةٍ وَغيرِهَا ، لِضَعْفِ المخْلوْقِينَ جَمِيْعًا ، وَافتِقارِهِمْ كافة ً لهُ سُبْحَانه ....
فصْل في انتِفاءِ شَفاعَةِ الشّافِعِينَ إلا َّ بشَرْطين ..........(182/327)
فصْل في بيان ِ أَنَّ دُعَاءَ الأَمْوَاتِ وَالاسْتِغاثة َ بهمْ : شِرْك ٌ أَكبَرُ مُخْرِجٌ مِنَ الملةِ ، مِنْ جِنْس ِ شِرْكِ الجاهِلِيِّيْنَ ، بَلْ هُوَ أَعْظمُ مِنْه ...............
فصْل في بيان ِ أَنَّ جَمِيْعَ المدْعوِّينَ مِنْ مَلائِكةٍ وَأَنبيَاءٍ وَصَالحِينَ وَغيرِهِمْ ، لا يَمْلِكوْنَ لأَنفسِهمْ نفعًا وَلا ضَرًّا ، وَلا غيًّا وَلا رَشَدًا، وَليْسَ لهمْ مِنَ الأَمْرِ شَيْء
بيانُ شُرُوْطِ المدْعُوِّ ، وَهِيَ ثلاثة ٌ، لا تَتَحَققُ فِي أَحَدٍ قط ّ سِوَى اللهِ جَلَّ وَعَلا ....
فصْل في بيان ِ أَنَّ شِرْك َ المتأَخِّرِيْنَ أَعْظمُ مِنْ شِرْكِ الجاهِلِيِّينَ ، لِكوْنِهِ مُطرِدًا مَعَهُمْ في رَخَائِهمْ وَشِدَّتِهمْ ، بخِلافِ الجاهِلِيِّينَ فقدْ كانوْا مُشْرِكِينَ في رَخَائِهمْ ، مُوَحِّدِينَ في شَدَائِدِهِمْ ..............................
فصْل في تناقض ِ مُشْرِكِي زَمَانِنَا ، وَفسَادِ عقوْلهِمْ ، فلا يَطلبوْنَ الدُّعَاءَ مِنْ صَالِحٍ في حَيَاتِهِ ! فمَتى مَاتَ لجوْا فِي دُعَائِهِ وَطلبهِ ! وَكأَنَّ مَوْتهُ وَانقِطاعَ عَمَلِهِ وَظهُوْرَ ضَعْفِهِ : مَنْقبة ٌ وَقدْرَة ٌ، تَحَققتْ لهُ بَعْدَ مَوْتِه!
فصْل في ذِكرِ فتْوَى لِشَيْخِ الإسْلامِ ابْن ِ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ في حُكمِ الاسْتِنْجَادِ باِلمقبوْرِينَ وَالاسْتِغاثةِ بهمْ وَدُعَائِهمْ وَنَحْوِهِ ، وَبيان ِ أَنَّ ذلِك َ كلهُ شِرْك ٌ مُخْرِجٌ مِنَ المِلة ...............................
فصْل في اغتِرَارِ الأَتبَاعِ بمَا زَينهُ لهمُ الشَّيْطانُ فِي مَتْبُوْعِيْهمْ مِنْ مَخَارِيْقَ شَيْطانِيَّةٍ ، وَمَكائِدَ إبْلِيْسِيَّةٍ ، لِيَظنَّ الأَغمَارُ أَنَّ أُوْلئِك َ المعْبُوْدِيْنَ أَوْلِيَاءُ صَالحِوْنَ ، وَأَنهُمْ لِدَعَوَاتِهمُ الشِّرْكِيَّةِ يُجِيْبُوْنَ وَيَنْفعُوْنَ ....................................(182/328)
خَوَارِقُ العَادَاتِ : تَحْصُلُ لِكثِيرٍ مِنَ المشْرِكِينَ وَالكفارِ وَالمنافِقِينَ وَأَهْل ِ البدَعِ وَالمعَاصِي ، وَتَكوْنُ مِنَ الشَّيَاطِين ِ، فلا يَجُوْزُ أَنْ يظنَّ في كلِّ مَنْ رُئِيَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذلِك َ أَنهُ وَلِيٌّ للهِ صَالِح .................
شُرُوْط ُ قبوْل ِ العِبَادَاتِ : إخْلاصُهَا للهِ جَلَّ وَعَلا ، وَمُوَافقتهَا لِلسُّنَّة .........
فصْل في تَمَثل ِ الشَّيَاطِين ِ باِلمقبُوْرِينَ المسْتَغاثِ بهمْ وَالمعْبُوْدِينَ ! تغرِيرًا بعُبّادِهِمْ ! وَإضْلالا ً لهمْ ! كمَا كانتْ تصْنَعُ بأَسْلافِهمْ مِنَ المشْرِكِينَ ..........
فصْل في انقِطاعِ طمَعِ الشَّيْطان ِ في الصَّحَابَةِ وَتَابعِيْهمْ عَلى الإيْمَان ِ وَالإحْسَان ِ أَنْ يُضِلهُمْ أَوْ يُغْوِيَهُمْ باِلاسْتِغاثةِ باِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ دُعَاءِ غيرِهِ ، لِتَمَامِ عِلمِهمْ وَإيْمَانِهمْ ، كمَا طمِعَ في غيرِهِمْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فأَوْقعَهُمْ في الشِّرْك .......................................
فصْل في ذِكرِ طرَفٍ مِنَ المخارِيق ِ الشَّيْطانِيَّة .............
ذِكرُ شَيْخِ الإسْلامِ ابن ِ تيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ طرَفا كبيرًا مِمّا عَرَفهُ وَرَآهُ مِنْ مخارِيق ِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطان ِ، مِمّا لوْ قيَّدَهُ كلهُ لاحْتَاجَ إلىَ مُجَلدٍ كبير........
حَالُ الجزِيرَةِ قبْلَ دَعْوَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بن ِ عَبْدِ الوَهّابِ رَحِمَهُ الله ُ، وَمَا كانَ فِيْهَا مِنْ أَحْوَال ٍ شَيْطانِيَّةٍ ، وَأَعْمَال ٍ شِرْكِيَّةٍ ، مِنْ تعَلق ٍ باِلأَحْجَارِ وَالأَشْجَارِ وَالقِبَابِ وَالقبوْرِ ، فأَزَالها الشَّيْخُ رَحِمَهُ الله ُ حَتَّى أَصْبَحَ الدِّينُ كلهُ للهِ ، فلا يُدْعَى إلا َّ هُوَ ، وَلا يُعْبَدُ أَحَدٌ سِوَاه ..............(182/329)
فصْل في ذِكرِ جُمْلةٍ مِنَ الأُمُوْرِ التي تبْطِلُ سُلطانَ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّة ..........
سَبَبُ ظهُوْرِ الأَحْوَال ِ الشَّيْطانِيَّةِ : انتِشارُ الكفرِ وَالجهْل ِ وَالمعَاصِي وَالبدَع . وَسببُ اندِثارِهَا وَانْحِسَارِهَا : ظهُوْرُ الإيْمَان ِ، وَالعِلمِ وَالسُّنَّة .......
فصْل في بيان ِأَنَّ كثِيْرًا مِنْ أُوْلئِك َ المقبُوْرِيْنَ المسْتغاثِ بهمْ زَنادِقة ٌ أَوْ ضُلالُ مُبْتَدِعَة ٌ، بَلْ مِنْهُمْ يَهُوْدُ وَنَصَارَى وَبَاطِنِيَّة ٌ وَرَوَافِضُ ، وَأَنَّ كثِيْرًا مِنْ قبوْرِهِمْ مُخْتَلقٌ لا صِحَّة َ له ..................................
فصْل في بيان ِ حَال ِ أَحْمَدَ البدَوِيِّ ، صَاحِبِ «طنْطا» (596ه-675ه) ، وَأَنهُ قدْ نشأَ فاسِدًا ضَالا ًّ مُنْحَرِفا ، لا يُصَلي وَلا يَغْتَسِلُ ، ذا أَحْوَال ٍ شَيْطانِيَّةٍ ، وَمَخَارِيْقَ إبْلِيْسِيَّةٍ ، قدْ أَضَلَّ بهَا فِئَامًا كثِيرِين ...............
فصْل في سِيَاق ِ الشَّعْرَانِيِّ أَخْبَارًا مَمْجُوْجَة ً لِلبدَوِيِّ وَغيرِهِ ، تدُلُّ عَلى عَظِيْمِ ضَلالِهِ وَضَلالهِمْ .........................
فصْل في بَعْض ِ أَخْبَارِ البدَوِيِّ وَضَلالِه ...........................
فصْل في بيان ِ حَال ِ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ أَبي المجْدِ الدُّسُوْقِيِّ (633ه-676ه) وَضَلالِهِ وَكفرِهِ ، وَبعْض ِ أَخْبَارِهِ وَأَقوَالِه .............................. فصْل في زَعْمِ كثِيرٍ مِنَ المتصَوِّفةِ وَغيرِهِمْ مِنَ الضّالينَ : أَنَّ لهمْ عِلمًا باِلغيْبِ ، وَاطلاعا عَلى اللوْحِ المحْفوْظِ ، وَهَذَا كلهُ كفرٌ وَرِدَّة ٌ، فلا يَعْلمُ الغيْبَ أَحَدٌ سِوَى اللهِ جَلَّ وَعَلا ......................................(182/330)
فصْل في كوْن ِ كثِيرٍ مِنَ المسْتَغاثِ بهمْ مُشْرِكِينَ وَضَالينَ ، فاجْتَمَعَ عِنْدَ المسْتَغِيْثِينَ بهمْ أَمْرَان ِ قبيْحَان ِ: الشِّرْك ُ باِللهِ ، وَتَعْظِيْمُ ضُلال ٍ وَمُشْرِكِين ..........
خَاتِمَة ٌ في التَّحْذِيْرِ مِمّا يَكتُبُهُ المشْبُوْهُوْنَ وَالضّالوْنَ المنحَرِفوْنَ في «مُنْتَدَيَاتِ الانْتَرْنِتْ» ، وَغيْرِه .....................
فهْرِسُ الموْضُوْعَاتِ التفصِيْلِي وَالفوَائِد .....................
فِهْرِسُ الموْضُوْعَاتِ الإجْمَالِي ..........................................(182/331)
مجدد ملة عمرو بن لحي
وداعية الشرك في هذا الزمان
للعلامة الشيخ
سفر بن عبد الرحمن لحوالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل في محكم كتابه المبين " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون " ، وقال جل ذكره : " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " .
وصلى الله وسلم وبارك على إمام الموحدين وخاتم النبيين الذي أخرج الله به من سبقت سعادته من ظلمات الشرك والضلال إلى نور التوحيد والسنة ، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، وحمى به جناب التوحيد وسد كل الذرائع إلى الشرك ، فكان مما أعلن لأمته وأبان من سنته " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " - صلى الله عليه وسلم - وصحبه أجمعين .
أما بعد فإلى شيوخنا الكرام وعلمائنا الأفاضل وإخواننا طلبة العلم نتوجه بهذه الكلمات المسطرة لإعلام من لم يبلغه الأمر منهم وحض من بلغه على القيام بالواجب حماية لتوحيد الله وصيانة لجنابه وذبا عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرة على دعوته .
وموجب هذا أنه ظهر منذ أشهر في بلد الله الحرام وغيرها من البلاد كتاب لداعية الشرك في هذا الزمان ومجدد ملة عمرو بن لحي المدعو (محمد بن علوي المالكي ) أسماه " شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد" . طبعته ونشرته وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات .(183/1)
وقدم له وزيرها بمقدمة أثنى فيها على الكتاب وعلى مؤلفه مدعيا أنه : " قد جلا فيه وجه الصواب وأصاب كبد الحقيقة وأوضح سبيل الرشد بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة بأسلوب علمي دقيق وتوفيق رائع عميق .." إلى آخر ما هذى به .
وقد تلقف أهل البدع ومروجو الضلالة ودعاة الشرك والخرافة هذا الكتاب فنشروه على العامة ولبسوا به على الناس ، وتحمسوا في نظرهم ، للأخذ بالثأر ورد الاعتبار لمؤلفه بعد أن هتك الله ستره وفضح أمره .
ومما زاد في ألم أهل التوحيد والسنة أنه مع توزيع هذا الكتاب وانتشاره عند الخاصة والعامة ما سمعوا ولاعلموا أنه صودر أو حوسب موزعوه أو سئل كاتبه أدنى سؤال ولم يكن لذلك من أثر يذكر في العلاقة مع الدولة التي طبعته والوزارة التي نشرته .
بل الذي بلغهم يقينا أن كاتبا مصريا في صحيفة مصرية تعرض للمؤلف مستشهدا ببعض ما في كتابه السابق "الذخائر المحمدية " فثارت حمية وزارة الإعلام وكادت تبطش بالرقيب الذي فسح للصحيفة ( في قصة يعلمها الكثير في الوزارة ولا نريد الإطالة بذكرها) .
وهذا ما حدا بأهل الغيرة إلى مناشدة شيوخنا وعلمائنا أن يقوموا بواجبهم في هذا الشأن ، إذ لا نملك نحن طلبة العلم إلا أضعف الإيمان ، ولما طال الانتظار واستطال الأشرار قام كاتب هذه السطور بتعليق موجز على الكتاب وتنبيهات على ما فيه من الشرك الأكبر الذي لا يحتمل تأويلا ولا يقبل جدلا ، وذلك ضمن الوقت المخصص عادة للإجابة على أسئلة درس شرح العقيدة الطحاوية .
فنفع الله به على إيجازه وأطفأ به بعض غضب أهل التوحيد وأقام الحجة على بعض أهل الخرافة ، ولكن لم يمض على ذلك أسبوعان أو ثلاثة حتى صادرت الوزارة - وزارة الإعلام - الشريط وسحبته من كل التسجيلات ولا سيمافي المنطقة الغربية .
وأبلغنا بذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز حفظه الله وغيره من العلماء وانتظرنا فما سمعنا حتى تاريخه عن عمل أو إنكار أو رد من أحد من أهل السنة .(183/2)
بل سمعنا من بعض المرجفين في المدينة المنتسبين إلى السلفية - والله أعلم بما يبيتون - إنكارهم للشريط لأنه نسب طمس بعض الأبيات الشركية إلى فاعل خير ولم ينسبه إلى الحكومة - هكذا أوّلوا - مع أن شيوخنا في المدينة وغيرها يعلمون أمر الطمس جيدا ويعلمون لماذا لم يطمس الباقي حتى اليوم !!.
وقد خطر لي - وأرجو أن يكون ذلك حقيقة - أن الذي منع أهل السنة من الإنكار ليس الخذلان عياذا بالله لكنها المشاغل الكثيرة من جهة ، وعدم اطلاع بعضه على الكتاب وخطر ما فيه من جهة أخرى .
فرأيت أن أجمل بعض مصائبه في ورقات قلائل وأبعث بها إلى من يهمه الأمر مقرونة بصورة من الكتاب لمن لم يطلع عليه بعد ، رجاء أن يرفع الله عنا الإثم ويدفع العذاب ويبعث الهمم .
والكتاب محشو بما اشتملت عليه مصنفات الغالين المطرين قبله ( كالسبكي) من بدع الزيارة وحكاياتها المصنوعة بل الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يتناقلونها جيلا بعد جيل مع بيان أئمة الحديث - رحمهم الله - لحالها ولو لم يكن إلا بيان شيخ الإسلام لكفى .
والمؤلف مع أنه يحمل شهادة الدكتوراه في الحديث ومع اطلاعه على كلام شيخ الإسلام - بدليل نقله عنه في الكتاب - أصر على تنكب طريق الحق وضرب صفحا عما يعلمه من تحريم الاستدلال بمثل هذه الروايات ، بل نقل هو في كتابه هذا صفحة " 69 " عن الشوكاني قول الحافظ رحمه الله : أكثر متون هذه الأحاديث موضوعة . نعوذ بالله من عمى البصيرة .(183/3)
وهذا الكتاب أشمل وأعمق في الضلالة من كتاب الزيارة الذي كتبه " الخميني " والذي يوزعه الرافضة في كل موسم ، فهو كالمستنقع للإرث المشترك بين الروافض والصوفية وعباد القبور في القديم والحديث إلا أنه تميز عمن سبقه - فيما أعلم - بإيراده لما يسمى قصائد الحجرة النبوية حيث حلّ رموز تلك القصائد التي لا يستطيع كثير من الناس قراءتها لصعوبة خطها أو لما اعتراها من طمس ونقص، ولم يكتف بإيرادها بل استحسن أن تقال أمام المواجهة النبوية كما سنبين من كلامه .
فأما نقوله التي اشتملت على الأحاديث الباطلة والحكايات المختلقة أو التي جاء بها للتلبيس من كلام أئمة الدين والفقهاء المعتبرين ، أو التي اشتملت على بدع ومخالفات دون الشرك فلم أر الإطالة بذكرها ؛ إذ الغرض التنبيه لا التفصيل ومثل هذا لا يخفى على فطنة القارئ من أمثالكم .
وأما نقوله الشركية وما فيها من حط لمقام الألوهية وغلو في الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى درجة الربوبية أو الألوهية وتقرير لمذهب غلاة الرافضة والصوفية بل الباطنية فهذا ما سنورد عليه نماذج تدلك على ما وراءها .
صفحة (109) قال " زيارة نبوية " معنونا ثم أورد فيها : " وقد وفدت عليك زائرا ، وبك مستجيرا وجئتك مستغفرا ، .. فها أنا في حضرتك وجوارك ونزيل بابك .. " ثم ذكر في قصيدة :
هذا نزيلك أضحى لا ملاذ له
إلا جنابك يا سؤلي و يا أملي
ضيف ضعيف غريب قد أناخ بكم
ويستجير بكم يا سادة العرب
يا مكرمي الضيف يا عون الزمان ويا
غوث الفقير ومرمى القصد في الطلب
هذا مقام الذي ضاقت مذاهبه
وأنتم في الرجا من أعظم السبب
صفحة ( 113) نقل ضمن زيارة أخرى لمن سماه " الإمام المَطَري " وهو المُطري في الحقيقة :
" السلام عليك يا معنى الوجود ، السلام عليكم يا منبع الكرم والجود "
وأتبعها بأبيات كذلك ومنها :
فالآن ليس سوى قبر حللت به
منجى الطريدوملجا كل معتصم
وقد حططنا لديه الرحل همتنا
على المدى نهلة من مورد الكرم(183/4)
هذا عطاؤك فاغمرنا بمنهله
فقد مددنا أكف الفقر والعدم
وإن رمتنا الخطايا وسط مهلكة
فأنت ملجأ خلق الله كلهم
صفحة (117) ذكره صلاة تقال عند زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - للحبيب علي بن محمد الحبشي :
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد أول متلق لفيضك الأول ..
إلى أن قال في الصفحة التي تليها :
" صلاة نشهدك بها من مرآته ونصل بها إلى حضرتك من حضرة ذاته قائمين لك وله بالأدب الوافر ، مغمورين منك ومنه بالمدد الباطن و الظاهر " .
ومنها في صفحة (118 ، 119) : " اللهم اكشف عني حجب الأغيار ، اللهم أفض على روحي ما أفضته على روح الكامل من هذه الأمة .. وهب لي زهدا كزهد الكامل وورعا كورعه، وعلما كعلمه ونورا كنوره وفهما كفهمه وإقبالا كإقباله " .
مع ملاحظة أن المقصود بالكامل هنا " رسول الله- صلى الله عليه وسلم - " .
صفحة (120) " زيارة نبوية للشيخ القشاش " كما عنون وفيها :
" السلام عليك يا أول السلام عليك يا آخر السلام عليك يا باطن السلام عليك يا ظاهر " .
5. صفحة (122) قال تحت عنوان " استشعار رد السلام " : " ينبغي للزائر أن يردد السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأدب ولطف وذل واستكانة ،لعل الله أن ييسر له سماع جواب سلامه الشريف شهادة وإلا فيؤمن به غيباً وإن لم يسمعه".
أقول :وعن رد النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوت مسموع - بل إخراجه يده ومصافحته من سلم عليه- تحكي الصوفية من الخرافات والإختلاق ما لا يتسع له المقام وحسبك بما ينسبونه إلى الجيلاني والآخر البرعي من هذا.
06صفحة(123)نقل عن صاحب الدرة الثمينة - وهو قشاش السابق ذكره - جمجمة وغمغمة أشبه بكلام الباطنية فيها غلو في المدينة النبوية منها:(183/5)
"اعلم أن مراتب الداخلين من الزائرين بعد الاستقرار والتكرار السلام عليه عند تخالف الأطوار وتقسيم دخولهم بحسب أحوالهم وأصولهم"،"وتجعل له ضابطا من أسماء المدينة المشرفة كما أصل تسميتها بذلك لأنها محل القِرى لأهل المدن والقُرى بل ولأهل السماء كأهل الأرض فهي الدار الآخرة في الدنيا لمن نظر بها لغد إذا حصل الزائرون فيها وانتهى السالكون إليها ..وجاء الحق وبرد اليقين وانقطع الشك ببرهان العين بالعين للشاهدين .. "
إلى آخر ما لا نريد الإطالة به . ثم أخذ في تفصيل ذلك فقال بعدها :
7. صفحة (124) بعنوان " درجات الزائرين وأحوالهم في تحقيق معنى الزيارة " .
قال : " تختلف أحوال الزائرين في استفادتهم من زيارتهم واستمدادهم بواسطة نبيهم المصطفى وحبيبهم المجتبى - صلى الله عليه وسلم - بحسب استعدادهم في تلقي الفيوضات الإلهية والواردات الربانية بواسطة الحضرة المحمدية ولكل منهم مقام وباب يدخل منه ويقف عنده يناسب حاله وذلك يتناسب مع أسماء المدينة المنورة " .
ثم شرع في التفصيل فقال :"الطبقة الأولى في : يثرب " .
" فناس من الزائرين النبي - صلى الله عليه وسلم -إلى المدينة المشرفة المستغفرين الله لهم ( الطبقة الأولى ) من الزيارة وأحوال الزائرين ومنازلهم بالاسم الأول من أسمائها الذي هو ( يثرب ) وما والاه من الأسماء الإلهية والأسماء المحمدية ، بما يمد ذلك بقدر أولئك فهذه درجة العامة " .
ثم قال صفحة(125) :
" وفي هذا المنزل منازل لا تعد ولا تحصى بعدد الواصلين إلى الدوام إلى يوم القيامة فلهم ذلك الاسم وما والاه وما يقابله من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الأسماء الإلهية أيضا ، فهذه منه فينزلون منازل الاسم وما والاه فتتلقاهم أملاكه وكراماته وجنوده الحسية والمعنوية " .
الطبقة الثانية في دار الهجرة :(183/6)
" وناس في الطبقة الثانية من طبقات الزيارة والزائرين له - صلى الله عليه وسلم -المستغفرين الله .. ومقامهم من أسماء المدينة المشرفة أرض الهجرة وبقية الأسماء المدنية ممدة لهم فيه كالأولين والآخرين على ذلك " .
قال صفحة (126) :
" ولهم من الأسماء المحمدية وما إلى ذلك كالماحي والرحيم ومن الأسماء الإلهية كذلك .
ولا يخفى عليك أيها المستبصر كالاسم المنان والكريم والوهاب في الحضرتين أيضا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلقه القرآن كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها . فالأسماء الإلهية له أيضا أسماء سار في جميع الحضرات وهو الغالب وبعضها يخص بعض الحضرات بوجه ما وذلك قليل لحكم الكل في الكل وإنما بسبب طرف ما من الغالبية والمغلوبية يتقدم الأسماء بعضها بعضا وتترتب كذلك على بعضها بعضا فاذكر ذلك في جميع الباقي " . اه
أي أن حضر النبي- صلى الله عليه وسلم - لها ما لحضرة الله تعالى من الأسماء وتشترك الحضرتان في الأكثر وقليل ما تختص إحداهما باسم دون الأخرى لحكم الكل في الكل .
وهذا ما تورعت عن القول به كثير من طوائف النصارى المشركة - نعوذ بالله من الضلالة - فلا أكفر من هؤلاء إلا من قال إن اللاهوت والناسوت جوهر واحد .
وهؤلاء جعلوهما جوهرين أو حضرتين لكن الأسماء في الغالب مشتركةفالخصائص إذن مشتركة تعالى الله عما يصفون .
ثم قال صفحة (127) :
"الطبقة الثالثة في دار الإيمان : وناس في الطبقة الثالثة من طبقات الزيارة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وطبقات الزائرين المستغفرين لهم من الله رحمة وتوبة من حضرة اسمها الإيمان …..
ولهم من الأسماء المحمدية البر والباطن والبرهان والبينة وتمدها جميع الأسماء ولهم من الأسماء الإلهية النور الهادي الحميد المقيت وما والاها وتمدها جميع الأسماء " .(183/7)
" ومن الزوار من يدخل من باب دار الأخيار ومنهم من يدخل من باب دار الأبرار ومنهم من يدخل من باب دار الفتح منهم من يدخل من باب ذات الحجر " .
أقول : وهؤلاء لم يجعل لهم طبقة منفردة ولم يلحقهم بما ذكر من الطبقات فلا ندري أين يذهبون .
ثم قال صفحة ( ) نفسها :
" ومن طبقات الزائرين طبقة المفتقرين إلى الله في جميع الحالات الواقفين على باب رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالذل والافتقار في جميع الفقرات الذين لا يأوون إلى أنفسهم في حالة من الحالات ولا حياة لهم إلا سيد السادات تدرعا به عنهم ، وهؤلاء لهم من الله رحمة وتوبة وفيض من باب اسمه الدرع مستمد من اسم المدينة المنورة (الدرع) " .
قال: " ثم تتفرع تلك الطبقات بحسب الأبواب العلية المستمدة من الأسماء المدنية إلى ما شاء الله من المداخل والمراتب : فمنهم جماعة في باب سيدة البلدان ومنهم جماعة في باب الشافية ومنهم في باب طابة ومنهم في باب طيبة " . اه
وهكذا تحت هذا الثالوث الصوفي ( الله ، الرسول ، المدينة) تندرج هذه الفلسفة الباطنية التي تسرح فيها أوهام الخرافيين كما تشاء ، ويكفيك من شر سماعه .
8. صفحة (169) قال بعنوان " الزيارة والشفاعة " .
" واستغاثة الناس يوم القيامة بالنبي لما- صلى الله عليه وسلم - كانت هي أعظم الاستغاثات لشدة كربهم وطول موقفهم وقتئذ ولظهور فضله - صلى الله عليه وسلم -على سائر الخلائق ولدلالة ذلك على جواز الاستغاثة به ونفعها بعد مماته لوقوعها في حياته الدنيوية والأخروية ، لهذا كله ناسب ذكر أحاديث الشفاعة هنا " .
وهكذا يظهر المالكي غرضه فإن موضوع الكتاب هو الزيارة لا الشفاعة ولكنه يتوصل بالشفاعة إلى الغرض من الزيارة وهو "الاستغاثة " ثم يتفلسف أو يتحامق في ذلك ضاربا بأعذاره وتمويهاته التي ادعاها بين يدي العلماء يوم نوقش عن كتاب "الذخائر" عرض الحائط .
فيقول صفحة (175) :(183/8)
" ولا فرق بين أن يسمى ذلك تشفعا أو توسلا أو استغاثة وليس ذلك من باب تقرب المشركين إلى الله تعالى بعبادة غيره فإن ذلك كفر ، والمسلمون إذا توسلوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو بغيره من الأنبياء والصالحين لم يعبدوهم " .
وهكذا تجاوز صاحب الشفاعة العظمى إلى غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ثم إلى الصالحين ومنهم بالطبع صالحو الصوفية المزعومون وجاء بهذا المعيار الفريد :
إذا كان المستغيث بغير الله من المشركين (كالهندوس مثلا) فهذا شرك وإن كان من المسلمين فهذا توحيد ، ونِعمَ أبناء عم له المشركون حينئذما كان من حلوة فهي له وما كان من مرة فهي لهم .
ولا يبالي بعد ذلك أن يقول :
9. صفحة (182) " وقد حفظ الله تلك الرحاب من كل ما ينافي التوحيد ولا يوجد بين الأمة المسلمة بحمد الله من يعتقد فيه أو في قبره - صلى الله عليه وسلم - اعتقادا باطلا ، استجابة لدعائه- صلى الله عليه وسلم -..إلخ " .
وعليه فكل ما يقال هناك توحيد ولو كان تضرعات الروافض واستغاثات الصوفية بل الأمر لا يختص بتلك الرحاب وحدها ، لكنه سرعان ما يقول :
" ولا تظنن ما يفعله بعض الناس مما ظاهره ينافي التوحيد إلا صادرا عن جهل يحتاج إلى تعليم وتنبيه " .
فهل يريد أن يقول أن ذلك لا ينافي التوحيد على الحقيقة وإن نافاه ظاهرا ليتسق أول كلامه وآخره وعليه فليقل من شاء ما شاء ولا حاجة للاستدراك أصلا ، أم يريد أن يقول إن ذلك ينافي لكنه ناتج عن الجهل ، والكلام ليس عن السبب بل عن مجرد الوقوع ، فمتى ما وقع لأي سبب كان انتقض كلامه الأول ، ولكن متى كان الصوفية غير متناقضين .
10. وهنا نأتي على القسم الأخير من الكتاب وعنوانه " الزيارة النبوية والشعر " .
وهنا تقشعر جلود الموحدين من إهدار حق رب العالمين على خلقه بهذا الشعر الشركي الذي قال في أوله صفحة (202) :(183/9)
" وسنذكر في هذا المبحث جملة من غرر القصائد النبوية والمدائح المحمدية التي يستحسن أن تقال أمام المواجهة النبوية وفي حضرة الزيارة المحمدية ".
هكذا استحسان بلا دليل ورحم الله من قال " من استحسن فقد شرع " ثم علل فقال :
" حيث اشتملت على خطابه - صلى الله عليه وسلم -بأجمل أنواع الخطاب .. واستعطافه- صلى الله عليه وسلم - بذكر خصائصه " .
قال : " ونبدأ بذكر القصائد الثلاثة التي حظيت بأن كتبت في المسجد النبوي الشريف وداخل الحجرة المكرمة ، ثم نذكر بعدها جملة من غرر القصائد والمدائح " . اه
ونقول له ولأولئك المطموسة بصائرهم بالحقد والهوى ممن يردون على أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان : لو كان المكتوب على القبر- أي قبر كان -قرآنا لكان ذلك بدعة مأمورا بطمسها يعلم ذلك كل من ينتسب إلى السنة حقا من صغير وكبير ، فكيف إذا كان الشرك الأكبر فاسمعوا هذه القصائد :
أ. أول الثلاث ما سماه المالكي " قصيدة الحجرة النبوية الشريفة " ووصفها باليتيمة العصماء صفحة (203) ومنها :
يا سيدي يا رسول الله خذ بيدي
مالي سواك ولا ألوي على أحد
فأنت نور الهدى في كل نائبة
وأنت سر الندى يا خير معتمد
وأنت حقا غياث الخلق أجمعهم
وأنت هادي الورى لله ذي المدد
إني إذا سامني ضيم يروعني
أقول يا سيد السادات يا سندي
كن لي شفيعا إلى الرحمن من زللي
و امنن عليّ بما لا كان في خلدي
وانظر بعين الرضا لي دائما أبدا
واستر بفضلك تقصيري مدى الأبد
واعطف علي بعفو منك يشملني
فإنني عنك يا مولاي لم أُحَد
ب. وثانيتهما هي التي سماها " القصيدة الوترية البغدادية أمام الحجرة النبوية الشريفة " صفحة (205) ثم ذكر موضع نقشها من المواجهة والمسجد ومنها :
بذلّي بإفلاسي بفقري بفاقتي
إليك رسول الله أصبحت أهرب
بجاهك أدركني إذا حوسب الورى
فإني عليكم ذلك اليوم أحسب
ج . وثالثة الأثافي ما سماها " القصيدة الحدادية الداخلية للحجرة النبوية الشريفة " صفحة (207) ومنها :(183/10)
ملاذ البرايا غوث كل مؤمل
كريم السجايا طيب الجسم و القلب
يؤمله العافون من كل ممحل
كتأميلهم للساكبات من السحب
كريم حليم شأنه الجود و الوفا
يرجّى لكشف الضر والبؤس والكرب
توجه رسول الله في كل حاجة
لنا ومهم في المعاش وفي القلب
وإن صلاح الدين والقلب سيدي
هو الغرض الأسمى فيا سيدي قم بي
عليك سلام الله ما سار مخلص
إليك يقول : الله والمصطفى حسبي
عليك سلام الله أنت ملاذنا
لدى اليسروالإعساروالسهل والصعب
عليك سلام الله أنت حبيبنا
وسيدنا والذخر يا خير من نُبّي
عليك سلام الله أنت إمامنا
ومتبوعنا و الكنز و الغوث في الخطب
11. صفحة (212) شرع في ذكر بقية الأشعار .
وأولها قصيدة لعبد الرحيم البرعي تلك الشخصية التي يرى بعض الباحثين أنها لم توجد إلا في خيال الصوفية ومنها :
يا غوث من في الغافقين وغيثهم
وربيعهم في كل عام مجدب
فأقل عثار عُبيدك الداعي الذي
يرجون إذ راجيك غير مخيّب
واكتب له ولوالديه براءة
من حر نار جهنم المتلهب
واقمع بحولك باغضيه وكل من
يؤذيه من متمرد متعصب
12. صفحة (214) أورد قصيدة بعنوان " شكوى في زيارة " للإمام يحيى الصرصري منها :
أشكو إليك رسول الله ما أجد
من الخطوب التي أعيا بها الجلد
13. صفحة (218) أورد قصيدة بعنوان " سيدي يا أبا البتول " للنبهاني منها :
سيد الرسل يا أبا الأكوان يا
أول خلق يا من به الانتهاء
جئت أبغي منك النوال وعندي
منك يا أعلم الورى استفتاء
ما أجتدي قط من سواكم نوالا
سيءٌ من سواكم الاجتداء
يبتغي أن تحيل منه الخطايا
حسنات من جودك الكيمياء
وأجرني وعترتي من زماني
فدواهيه كلها دهياء
فتداركه قبل أن تخطرالأخطار
فاليوم مسه الإعياء
وتكرم بشدّه فقواه
نالها بالشدائد استرخاء
14. صفحة (220) أورد قصيدة بعنوان" زيارة نبوية ومناجاة شعرية " للحداد ، ومنها :
وفيه عليه الله صلى ودائعٌ
من السر لا تروي خلال الدفاتر
ولكنها مكتوبة ومصانة
لدى الأولياء العارفين الأكابر(183/11)
نبي الهدى لا تنسني من شفاعة
فإني مسيء مذنب ذو جرائر
ألا يا رسول الله عطفا ورحمة
لمسترحم مستنظر للمبارر
ألا يا حبيب الله غوثا وغارة
لذي كربة مودة كالدياجر
ألا يا خليل الله نجدة ماجد
كريم السجايا كاشفا للمعاسر
ألا يا أمين الله أمنا لخائف
أتى هاربا من ذنبه المتكاثر
ألا يا صفي الله قم بي فإنني
بكم وإليكم ياشريف العناصر
وسيلتنا العظمى إلى الله أنت يا
ملاذ الورى من كل باد وحاضر
وياغوث كل المسلمين وغيثهم
وعصمتهم من كل خوف وضائر
15. صفحة (224) أورد قصيدة بعنوان " زيارة " للفيروز بادي منها :
يا أيها السيد المرجو نائله
ما لي سواك و ما في ذاك تمهيل
أنت الغياث وأنت الذخر يا أملي
والغوث والغيث والآمال والسول
إني بباب رسول الله سائله
وشافعي الدمع والمسؤول مأمول
إذا أتاه مقل معدم وجل
يغدو بأمن ولا عدم و تقليل
أنهيت قصة حالي سيدي فعسى
توقيع بِشر بأن العبد مقبول
16. صفحة (225) أورد قصيدة بعنوان " زيارة الشيخ القيراطي " منها :
أنت الذي جئته أرجو النجاة به
إن راعني في كلا الدارين تهويل
أنت الكريم الذي إنعامه أبدا
للوفد من كفه الفياض مبذول
يا نفس إن رسول الله معتمدي
وليس من شأنه للوفد تخجيل
17. صفحة (226) أورد قصيدة بعنوان " زيارة ابن جابر الأندلسي " منها :
يا سيد الرسل عبد قد أتى وله
من سالف الذنب تخويف وتخجيل
18. صفحة (227) أورد قصيدة بعنوان " زيارة نبوية " للصرصري منها :
فاعطف على وفدك الراجين فضلك يا
من عنده للعطاء الغمر إجزال
وها عبيدك يحيى قد أتاك على
علاته فله تزكو بك الحال
مستسلما خاضعا مستأنسا وجلا
مما يزخرف حاوي المكر محتال
19. صفحة (229) أورد قصيدة بعنوان "زيادة مدنية " للشيخ عبد اللطيف المدني منها :
أنا في جوارك قد أقمت وإنني جار
وجارك في الورى يتباهى
قد جئت أسعى نادما مستغفرا
فيما جنيت من المقال شفاها
وأقول يا خير البرية إنني
عبد كئيب مذنب قد تاها(183/12)
20. صفحة (230) أورد قصيدة بعنوان " زيارة حبشية " للحبشي منها :
يا ملاذ الكل يا أهل الندى
يا كريم الأصل يا رب الحور
يا غياث الخلق يا ذا الفضل
والجود والإحسان في بحر وبر
يا لجا اللاجين يا خير نبي
ورسول جاء حقا بالسور
يا رسول الله غوثا عاجلا
يدفع البلواء عنا والأشر
يا رسول الله عجل سيدي
بزوال البؤس عنا والضرر
قد لجونا نحو بابك سيدي
ووقفنا ننتظر منك الخبر
21. صفحة (232) أورد قصيدة بعنوان " يا رسول الله جئنا زائرين " لمن سماه ( الإمام العارف بالله : محمد أمين كتبي ) منها :
أنت سر الله والنور الذي
سار موسى نحوه في طور سين
فهو نور لا يسامى إنه
قبس من نور رب العالمين
يا رسول الله أنت المرتجى
يوم يأتي الناس ما للظالمين
يا رسول الله كن لي شافعا
أنت ذخري يا شفيع المذنبين
22. صفحة (234) أورد قصيدة بعنوان " قل للمدينة "للكتبي منها :
فلأنت في الدنيا وفي الأخرى وفي
كل المواطن عدتي وندائي
حسبي بجاهك مأمنا ومثابة
وببحر جودك مورد استفتاء
23. صفحة (235) أورد قصيدة بعنوان " زيارة نبوية " للكتبي أيضا منها :
أنت طور التحقيق كلم موسى
منه عادنا فصار نجيا
كلما لحت للملائك فردا
في السماوات سجدا وبكيا
ومددت الأكوان شرقا وغربا
مددا في كيانها كليا
24. صفحة (237) أورد قصيدة بعنوان " يا رسول الله إني جئت معتذرا " للكتبي أيضامنها :
يا سيد الرسل إني جئت معتذرا
إليك من زلتي العظمى وأدراني(183/13)
هذه أمثلة ونماذج ولا لا ريب أنكم ستجدون بثاقب فكركم وصحة نظركم غيرها مما لم نذكر وما بقي إلا أن نذكركم وكل غيور بما يجب على أمة التوحيد في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا حيث أظهرت رؤوس الوثنية والشرك والبدعة والضلالة رؤوسها من كل ناحية وتوجهت سهامهم وسهام من يناصرهم من المنافقين إلى أهل السنة ورموهم عن قوس واحدة ، والله أسأل أن يجعلنا جنودا لدينه قائمين بأمره داعين إلى شريعته وأن ينصرنا على من ظلمنا وعادانا نه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين ..
كتبها سفر بن عبد الرحمن الحوالي
في : 6/ 5/ 1412 هـ(183/14)
مجموع فتاوى ابن تيمية – 10 – المجلد العاشر
(الآداب والتصوف)
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
كلمات في أعمال القلوب
القائلون بالتخليد
فَصل في الأعمال الباطنة
فَصل في محبة الله ورسوله
فَصْل استلزام الخوف والرجاء للمحبة
فَصْل في مرض القلوب وشفائها
فصل: مرض القلب نوع فساد
فَصْل: الحسد من أمراض القلوب
فَصْل: أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب
فصل: في مرض القلوب وشفائها
سُئلَ الشيخ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن العبادة وفروعها
فَصْل: التفاضل في حقيقة الإيمان
مخالفات السالكين في دعوى حب الله
معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله
كبار الأولياء لم يقعوا في الفناء
سُئلَ شَيْخُ الإِسْلام عن دعوة ذي النون
فَصْل: الضر لا يكشفه إلا الله
التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله
محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة
غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين
التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها
فَصْل في موجبات المغفرة
هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة؟
ما السبب في أن الفَرَجَ يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق ؟
فَصْل في تفسير الفناء الصوفي
فَصْل في التكليف الشرعي
فَصل في وقوع البدع في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين
فَصْل في خلط متقدمي المتكلمين والمتصوفة كلامهم بأصول الكتاب والسنة
أصل النسبة في الصوفية
فَصْل في قولهم: فلان يسلم إليه حاله
فصل في العبادات و الفرق بين شرعيها وبدعيها
أصول العبادات الدينية
فَصْل في الخلوات
فَصْل في حتمية اقتدائنا بالأنبياء
فَصل في أهل العبادات البدعية
سُئلَ شَيْخُ الإِسْلام: ما عمل أهل الجنة ؟ وما عمل أهل النار ؟
فَصْل في هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة؟
من مستلزمات العقل والبلوغ
فَصْل في أحب الأعمال إلى الله
َسُئِلَ عمَّن يَقُول: الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق
حتمية امتثال المؤمن لأمر الله ونهيه وقدره(184/1)
الرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا اللّه
الرسل جميعًا بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها
من حقيقة دين الإسلام
فَصْل في طريق العلم والعمل
فَصْل في كيف يكون السالك وعاء لعلم الله؟
فَصْل في شرح طريق الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس
فَصْل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولاية
احتمالية خفاء الأمر والنهي على السالك
فَصْل في العبادة والاستعانة والطاعة والمعصية
سُئِلَ عن [ إحياء علوم الدين ] و [ قوت القلوب ] . . . إلخ
فَصْل في ذكر الله ودعائه
فَصل في الصراط المستقيم
فَصْل في جاذبية الحب
فَصْل في جماع الزهد والورع
فَصْل في قول بعض الناس : الثواب على قدر المشقة
فَصْل في تزكية النفس
سُئِلَ شَيْخ الإِسْلام عن رجل تفقه وعلم هل له أن يقطع الرحم ويسير في الأرض؟
سُئِلَ شَيْخُ الإسلام عن مقامات اليقين
سئل شيخ الإسلام أن يوصي وصية جامعة لأبي القاسم المغربي
سُئل شيخ الإسلام عن الصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل
َسُئلَ شَيْخُ الإسلام عما ذكر الأستاذ القشيري في ( باب الرضا )
سئل شيخ الإسلام فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم؟
فَصْل في الأحاديث التي بها التفريق بين الهامّ والعامل
مسألة هل توبة العاجز عن الفعل تصح؟
قَالَ شَيخ ُ الإِسْلام أَحْمَدُ بنُ تَيمية ـ قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
الحمد للّه نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم .
أما بعد :(184/2)
فهذه كلمات مختصرات في أعمال القلوب ـ التي قد تسمى [ المقامات والأحوال ] ـ وهي من أصول الإيمان، وقواعد الدين، مثل / محبة اللّه ورسوله، والتوكل على اللّه، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والخوف منه، والرجاء له، وما يتبع ذلك . اقتضى ذلك بعض من أوجب اللّه حقه من أهل الإيمان، واستكتبها وكل منا عجلان .
فأقول : هذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق ـ المأمورين في الأصل ـ باتفاق أئمة الدين، والناس فيها على ثلاث درجات كما هم في أعمال الأبدان على ثلاث درجات : ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات .
فالظالم لنفسه : العاصي بترك مأمور أو فعل محظور .
والمقتصد : المؤدي الواجبات والتارك المحرمات .
والسابق بالخيرات : المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب، والتارك للمحرم والمكروه . وإن كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه : إما بتوبة ـ واللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين ـ وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك . وكل من الصنفين : المقتصدين والسابقين من أولياء اللّه الذين ذكرهم في كتابه بقوله : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [ يونس : 62، 63 ] . فحد أولياء اللّه : هم المؤمنون المتقون، ولكن ذلك ينقسم إلى عام وهم : المقتصدون، / وخاص وهم : السابقون، وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين .(184/3)
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القسمين في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال : ( يقول اللّه : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ) .
وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان، فمعه من ولاية اللّه بقدر إيمانه وتقواه، كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهذا قول جميع أصحاب رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون : إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وأما القائلون بالتخليد، كالخوارج والمعتزلة القائلين : إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر، لا قبل دخول النار ولا بعده، فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب، وحسنات وسيئات، بل من أثيب لا يعاقب، ومن عوقب لم يثب . ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كثير ليس هذا موضعه، وقد بسطناه في مواضعه .(184/4)
وينبني على هذا أمور كثيرة؛ ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ أن رجلًا كان يسمى حمارًا وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم . وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى به مرة فقال رجل : لعنه اللّه ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه فإنه يحب اللّّه ورسوله ) .
فهذا يبين أن المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبًا للّه ورسوله، وحب اللّه ورسوله أوثق عرى الإيمان، كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطًا عليه عند اللّه ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه ذكر الخوارج فقال : ( يحقر / أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) .
وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح : ( تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق ) .(184/5)
ولهذا قال أئمة الإسلام، كسفيان الثوري وغيره : إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها . ومعنى قولهم : إن البدعة لا يتاب منها : أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه اللّه ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيئ ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله . فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيئ في نفس الأمر فإنه لا يتوب .(184/6)
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه اللّّه ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى ـ سبحانه وتعالى ـ من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل / البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا . وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا . وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [ النساء : 66ـ 68 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الحديد : 28 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 15، 16 ] . وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة .(184/7)
وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ الصف : 5 ] ، وقال تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] ، وقال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ . وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 109، 110 ] . وهذا استفهام نفي وإنكار، أي : وما يدريكم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وإنا نقلب أفئدتَهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة على قراءة من قرأ [ إنها ] بالكسر تكون / جزمًا بأنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ ولهذا قال من قال من السلف كسعيد ابن جبير : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها .
وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقًا . وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللّه كذَّابًا ) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر، وأن الكذب يستلزم الفجور .(184/8)
وقد قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13، 14 ] ؛ ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب ألا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق؛ ولهذا كان يكثر في كلام مشائخ الدين وأئمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولوا : قل لمن لا يصدق : لا يتبعني . ويقولون : الصدق سيف اللّه في الأَرْض، وما وضع على شيء إلا قطعه، ويقول يوسف بن أسباط وغيره : ما صدق اللّّه عبدٌ إلا صنع له . وأمثال هذا كثير .
والصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام، فإن / المظهرين للإسلام ينقسمون إلى : مؤمن ومنافق، والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب؛ ولهذا إذا ذكر اللّه حقيقة الإيمان نعته بالصدق كما في قوله تعالى : { قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } إلى قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحجرات : 14، 15 ] ، وقال تعالى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } [ الحشر : 8 ] .(184/9)
فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، وذلك أن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] ، قال ابن عباس : ما بعث اللّّه نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه .(184/10)
وقال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحديد : 25 ] ، فذكر ـ تعالى ـ أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط؛ وليعلم اللّه من ينصره ورسله؛ ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدي، وسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا . والكتاب والحديد وإن اشتركا في الإنزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من اللّه، كما قال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [ الزمر : 1 ] ، وقال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] ، والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها .(184/11)
وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ البقرة : 10 ] ، وقوله تعالى : { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، وقوله تعالى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] . ونحو ذلك في القرآن كثير .(184/12)
ومما ينبغي أن يعرف : أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي / الأعمال، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ) . ويقال : حملوا على العدو حملة صادقة إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة جازمة، ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك . ولهذا يريدون بالصادق : الصادق في إرادته وقصده وطلبه، وهو الصادق في عمله، ويريدون الصادق في خبره وكلامه، والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الذي يكون كاذبًا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائى في عمله . قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ } الآيتين [ النساء : 142، 143 ] .
وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو : الاستسلام للّه لا لغيره، كما قال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } الآية [ الزمر : 29 ] . فمن لم يستسلم للّه فقد استكبر، ومن استسلم للّّه ولغيرة فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر . ويستعمل لازمًا ومتعديًا كما قال تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] ، وقال تعالى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 112 ] . وأمثال ذلك في القرآن كثير .(184/13)
/ولهذا كان رأس الإسلام [ شهادة أن لا إله إلا اللّه ] ، وهي متضمنة عبادة اللّه وحده وترك عبادة ما سواه، وهو الإسلام العام الذي لا يقبل اللّه من الأولين والآخرين دينا سواه، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران : 85 ] ، وقال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [ آل عمران : 18، 19 ] .
وهذا الذي ذكرناه، مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة : هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده : ( الإسلام عَلانية، والإيمان في القلب ) ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحلال بَيِّن، والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعِرْضِه ودِينهِ ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللّّه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب ) ، وعن أبي هريرة قال : القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده .
فَصل
وهذه الأعمال الباطنة، كمحبة اللّه والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودًا في حال أحد، وإن ارتقى مقامه .(184/14)
وأما [ الحزن ] فلم يأمر اللّه به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين، كقوله تعالى : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] ، وقوله : { وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 127 ] ، وقوله : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة : 40 ] ، وقوله : { وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ } [ يونس : 56 ] ، وقوله : { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] . وأمثال ذلك كثير .
وذلك ؛لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر اللّه به، نعم ! لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم، كما يحزن على المصائب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللّه لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم ) وأشار بيده إلى لسانه، وقال صلى الله عليه وسلم : ( تدمع العين، ويحزن القلب، /ولا نقول إلا ما يرضى الرب ) ، ومنه قوله تعالى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ } [ يوسف : 84 ] .
وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا . فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن .
وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر اللّه ورسوله به، كان مذمومًا عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودًا من جهة أخرى .(184/15)
وأما المحبة للّه، والتوكل عليه، والإخلاص له ونحو ذلك، فهذه كلها خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . ومن قال : إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها كافر أو منافق . وقد تكلم بعضهم في ذلك بكلام، بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلام مبسوط وليس هذا موضعه .
/ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى : خصوص وعموم، فللخاصة خاصها، وللعامة عامها . مثال ذلك أن هؤلاء قالوا : إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت، والخاص لا يناضل عن نفسه . وقالوا : المتوكل يطلب بتوكله أمرًا من الأمور، والعارف يشهد الأمور بفروعها منها فلا يطلب شيئًا . فيقال : أما الأول فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على اللّه في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه؛ ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، كما في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88، الشورى : 10 ] ، وقوله : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرعد : 30 ] .
فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف : إن اللّه جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .(184/16)
وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه سبحانه : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل ) قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( يقول العبد : الحمد للّه رب العالمين، يقول اللّه : حمدني عبدي . يقول العبد : الرحمن / الرحيم، يقول اللّه : أثنى على عبدي . يقول العبد : مالك يوم الدين، يقول اللّه : مجدني عبدي . يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين، يقول اللّّه : فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل . يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، يقول اللّه : فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ) . فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير، والعبد له نصف الدعاء والطلب . وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه، وما للعبد، فإياك نعبد للرب، وإىاك نستعين للعبد .(184/17)
وفي الصحيحين عن معاذ ـ رضي اللّه عنه ـ قال : كنت رديفًا للنبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال : ( يا معاذ، أتدري ما حق اللّه على العباد ؟ ) قلت : اللّه ورسوله أعلم، قال : ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على اللهّ إذا فعلوا ذلك ؟ ) قلت : اللّه ورسوله أعلم، قال : ( حقهم عليه ألا يعذبهم ) . والعبادة هي الغاية التي خلق اللّه لها العباد من جهة أمر اللّه ومحبته ورضاه كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } [ الذاريات : 56 ] ، وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهي اسم يجمع كمال الحب للّه ونهايته، وكمال الذل للّه ونهايته، فالحب الخلي عن ذل، والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين؛ولهذا كانت العبادة لاتصلح إلا للّه، وهي وإن كانت منفعتها للعبد واللّه غني عن العالمين، فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها؛ولهذا كان اللّه أشد فرحًا بتوبة العبد من / الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في أرض دوية مهلكة إذا نام آيسًا منها ثم استيقظ فوجدها، فاللّه أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته، وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في غير هذا الموضع .
والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة، فالاستعانة كالدعاء والمسألة . وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ يقول اللّه عز وجل : يا بن آدم، إنما هي أربع : واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي . فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك ) .(184/18)
وكون هذا للّه وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء، فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملائمًا له، واللّه ـ تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه، ويحب الوسيلة تبعًا لذلك، وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد، وكل ذلك يحبه اللّه ويرضاه، وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم .
/وأيضًا، التوكل من الأمور الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها، والزاهد فيها زاهد فيما يحبه اللّه ويأمر به ويرضاه .
والزهد المشروع هو : ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة اللّه، كما أن الورع المشروع هو : ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهو ترك المحرمات والشبهات التي لايستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها، كالواجبات . فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة، فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 87 ] ، كما أن الاشتغال بفضول المباحات، هو ضد الزهد المشروع، فإن اشتغل بها عن فعل واجب أو فعل محرم كان عاصيًا، وإلا كان منقوصًا عن درجة المقربين إلى درجة المقتصدين .
وأيضًا، فإن التوكل هو محبوب للّه مرضي له مأمور به دائمًا، وما كان محبوبًا للّه مرضيًا له مأمورًا به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين، فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم : المتوكل يطلب حظوظه .(184/19)
وأما قولهم : إن الأمور قد فرغ منها، فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا حاجة إليه؛ لأن المطلوب إن كان مقدرًا فلا حاجة إليه، وإن لم يكن / مقدرًا لم ينفع الدعاء، وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلًا .
وكذلك قول من قال : التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة، وإن حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض، وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضًا، وكذلك قول من قال : إن الدعاء إنما هو عبادة محضة .
فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد : وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة ـ أيضًا ـ تكون من العبد، ولم يعلموا أن اللّه سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد، وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الأعمال بالكلية .(184/20)
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأصل مرات، فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن حصين قال : قيل لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يا رسول اللّه، أعُلِم أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : ( نعم ) . قالوا : ففيم العمل ؟ قال : ( كل ميسر لما خلق له ) . وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال : كنا في جنازة فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه وقال : ( ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة ) . قال : / فقال رجل من القوم : يا نبي اللّه، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ؟ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة . قال : [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له . أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ] ، ثم قال نبي اللّه صلى الله عليه وسلم : [ { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } ) [ الليل : 5 ـ10 ] ، أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد .
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل : يا رسول اللّه، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئًا ؟ فقال : ( هي من قدر اللّه ) .
وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث .(184/21)
فبين صلى الله عليه وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافى أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة، وشقاوة هذا بالأعمال السيئة، فإنه سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة، والشقي يشقى بالأعمال السيئة، فمن كان سعيدًا ييسر للأعمال الصالحة التي تقتضي السعادة، ومن كان شقيًا ييسر للأعمال السيئة / التي تقتضى الشقاوة، وكلاهما ميسر لما خلق له، وهو ما يصير إليه من مشيئة اللّه العامة الكونية التي ذكرها اللّه ـ سبحانه ـ في كتابه في قوله تعالى : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } [ هود : 118، 119 ] .
وأما ما خلقوا له من محبة اللّه ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
واللّه ـ سبحانه ـ قد بين في كتابه في كل واحدة : من [ الكلمات ] و [ الأمر ] و [ الإرادة ] و [ الإذن ] و [ الكتاب ] و [ الحكم ] و [ القضاء ] و [ التحريم ] ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة اللّه ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية .
مثال ذلك أنه قال في الأمر الديني : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } [ النحل : 90 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] ، ونحو ذلك . وقال في الكوني : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، وكذلك قوله : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } [ الإسراء : 16 ] على إحدى الأقوال في هذه الآية .(184/22)
وقال فى الإرادة الدينية : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، / { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ النساء : 26 ] ، { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [ المائدة : 6 ] ، وقال في الإرادة الكونية : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ البقرة : 253 ] ، وقال : { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [ الأنعام : 125 ] ، وقال نوح عليه السلام : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 28 ] .
وقال تعالى في الإذن الديني : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } [ الحشر : 5 ] ، وقال تعالى في الكوني : { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] .
وقال تعالى في القضاء الديني : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] أي : أمر، وقال تعالى في الكوني : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] .(184/23)
وقال تعالى في الحكم الديني : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [ المائدة : 1 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } [ الممتحنة : 10 ] ، وقال تعالى في الكوني عن ابن يعقوب : { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يوسف : 80 ] ، / وقال تعالى : { قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ الأنبياء : 112 ] .
وقال تعالى في التحريم الديني : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ } [ المائدة : 3 ] ، { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الآية [ النساء : 23 ] . وقال تعالى في التحريم الكوني : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } [ المائدة : 26 ] .
وقال تعالى : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } [ المعارج : 24، 25 ] ، وقال تعالى في الكلمات الدينية : { وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] ، وقال تعالى في الكونية : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } [ الأعراف : 137 ] ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه في الصحاح والسنن والمسانيد أنه كان يقول في استعاذته : ( أعوذ بكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بَرٌّ ولا فاجر ) . ومن المعلوم أن هذا هو الكوني الذي لا يخرج منه شىء، عن مشيئته وتكوينه . وأما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته .(184/24)
والمقصود هنا أنه صلى الله عليه وسلم بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالأعمال التي يصيرون بها إلى ذلك، كما أن سائر المخلوقات كذلك، فهو ـ سبحانه ـ يخلق الولد وسائر الحيوان في الأرحام بما يقدره من اجتماع الأبوين على النكاح، واجتماع المائين في الرحم، فلو قال الإنسان : أنا أتوكل ولا أطأ زوجتي، فإن كان قد / قضى لي بولد وجد وإلا لم يوجد ولا حاجة إلى وطء، كان أحمق بخلاف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل الماء لا يمنع انعقاد الولد إذا شاء اللّه، إذ قد يسبق الماء بغير اختياره .
ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال : خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علىنا العزبة، وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( فقال ما علىكم ألا تفعلوا، فإن اللّه قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة ) ، وفي صحيح مسلم عن جابر : أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل، فقال : ( اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها ) .
وهذا مع أن اللّه ـ سبحانه ـ قادر على ما قد فعله من خلق الإنسان من غير أبوين كما خلق آدم، ومن خلقه من أب فقط كما خلق حواء من ضلع آدم القصير، ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم ـ عليه السلام، لكن خلق ذلك بأسباب أخرى غير معتادة .(184/25)
وهذا الموضع، وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع، فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر / غير محقق لما أمر به ونهى عنه، ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل، والجري مع الحقيقة القدرية، ويحسب أن قول القائل : ينبغي للعبد أن يكون مع اللّه كالميت بين يدي الغاسل يتضمن ترك العمل بالأمر والنهي حتى يترك ما أمر به، ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به بين ما أمر اللّه به وأحبه ورضيه، وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق اللّه بينه كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ القلم : 35، 36 ] وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ } [ فاطر : 19-22 ] ، وأمثال ذلك .(184/26)
حتى يفضي الأمر بغلاتهم إلى عدم التمييز بين الأمر بالمأمور النبوي الإلهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبين ما يكون في الوجود من الأحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار، فيشهدون وجه الجمع من جهة كون الجميع بقضاء اللّه وقدره وربوبيته وإرادته العامة، / وأنه داخل في ملكه، ولا يشهدون وجه الفرق الذي فرق اللّه به بين أوليائه وأعدائه، والأبرار والفجار، والمؤمنين والكافرين، وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني، وأهل المعصية الذين عصوا هذا الأمر، ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الأشياخ، أو ببعض غلطات بعضهم .(184/27)
وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الاعتناء به على أهل طريق اللّه، السالكين سبيل الإرادة ؛ إرادة الذين يريدون وجهه، فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما لا يعلمه إلا اللّه، حتى يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الأرض من أهل الظلم والعلو، كالذين يتوجهون بقلوبهم في معاونة من يهوونه من أهل العلو في الأرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك من أولياء اللّه ـ فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحًا، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدًا، فالأحوال يكون تأثيرها محبوبًا للّه تارة، ومكروهًا للّه أخرى، وقد تكلم الفقهاء على وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ـ ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من اللّه له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إهانة، وأن الكرامة لزوم الاستقامة، وأن /اللّه لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء اللّه الذين قال اللّه فيهم : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] .
فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين، وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين، مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجبًا، وأما ما يبتلى اللّه به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها، أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك، وقد يشقى بها قوم إذا عصوه في ذلك .(184/28)
قال اللّه تعالى : { فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي . كَلَّا } [ الفجر : 15-17 ] ؛ ولهذا كان الناس في هذه الأمور على ثلاثة أقسام :
قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في طاعة اللّه .
وقوم يتعرضون بها لعذاب اللّه إذا استعملوها في معصية اللّه كبلعام وغيره .
وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات .
/والقسم الأول : هم المؤمنون حقًا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين اللّه، أو لحاجة يستعين بها على طاعة اللّه . ولكثرة الغلط في هذا الأصل نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الاسترسال مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل : قدر اللّه وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .(184/29)
وفي سنن أبي داود : إن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه : حسبي اللّه ونعم الوكيل . فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يلوم على العجز، ولكن علىك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي اللّه ونعم الوكيل ) . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن يستعين باللّه، وهذا مطابق لقوله تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] . فإن الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة اللّه وعبادته؛ إذ النافع له هو طاعة اللّه ولا شىء أنفع له من ذلك، وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وإن كان من جنس المباح .
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لسعد : ( إنك لن / تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها فى فيِّ امرأتك ) ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه يلوم على العجز الذي هو ضد الكيس، وهو التفريط فيما يؤمر بفعله، فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل . وإن كان لا ينافى القدرة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي .
فإن الاستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له، ولا تصلح إلا لمقدورها، كما ذكرها اللّه تعالى في قوله : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } [ هود : 20 ] ، وفي قوله : { وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } [ الكهف : 101 ] . وأما الاستطاعة التي يتعلق بها الأمر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد لا يقترن كما في قوله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [ آل عمران : 97 ] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : ( صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب ) .
فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام :(184/30)
قوم ينظرون إلى جانب الأمر والنهي والعبادة والطاعة شاهدين لإلهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات اللّه ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان؛ لأن الاستعانة باللّه والتوكل عليه واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه الأمور .
/ولهذا قال بعض السلف : من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه . وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة : ( إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا صُمّا وقلوبًا غُلْفًا بأن يقولوا لا إله إلا اللّه ) .
ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم : لا حول ولا قوة إلا باللّه . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنها كنز من كنوز الجنة ) . قال تعالى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] ، وقال تعالى : الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } إلى قوله : { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 173-175 ] ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ في قوله : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم ) .(184/31)
وقسم ثان : يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به، لكن على أهوائهم وأذواقهم، غير ناظرين إلى حقيقة أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته، وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا / ما يعملون على الأحوال التي يتصرفون بها في الوجود، ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه، وكثيرًا ما يغلطون، فيظنون أن معصيته هي مرضاته، فيعودون إلى تعطيل الأمر والنهي ويسمون هذا حقيقة، ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا وباطنًا .
وهؤلاء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام؛ لأن العاقبة للتقوى، ومن لم يقف عند أمر اللّه ونهيه فليس من المتقين، فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه، تارة في بدعة يظنونها شرعة، وتارة في الاحتجاج بالقدر على الأمر، واللّه ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام والأعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } [ الأعراف : 28 ] ، وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه اللّه، وأن شرعوا ما لم يشرعه اللّه، وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، ونظيرها في النحل ويس والزخرف . وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا .
وأما القسم الثالث : وهو من أعرض عن عبادة اللّه واستعانته به فهؤلاء شر الأقسام .(184/32)
/والقسم الرابع : هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] وقوله : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] فاستعانوا به على طاعته . وشهدوا أنه إلههم الذي لايجوز أن يعبد إلا إياه بطاعته وطاعة رسوله، وإنه ربهم الذي { لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [ الأنعام : 51 ] ، وأنه { مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] ، { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ، { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } [ الزمر : 38 ] .
ولهذا قال طائفة من العلماء : الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع .(184/33)
فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق، فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشائخ ـ كصاحب [ علل المقامات ] وهو من أجل المشائخ، وأخذ ذلك عنه صاحب [ محاسن المجالس ] ـ وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط، وظنه أنه لا فائدة له في تحصيل المقصود، وهذه حال من جعل الدعاء كذلك، وذلك بمنزلة من جعل الأعمال المأمور بها كذلك، كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من / الأسباب التي هي عبادة وطاعة مأمور بها، فإن غلط هذا في ترك الأسباب المأمور بها التي هي داخلة في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } كغلط الأول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] .
لكن يقال : من كان توكله على اللّه ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة، وإن كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة، كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه، ومن أعرض عن التوكل فهو عاص للّه ورسوله، بل خارج عن حقيقة الإيمان، فكيف يكون هذا المقام للخاصة، قال اللّه تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] ، وقال تعالى : { إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } [ آل عمران : 160 ] ، وقال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } [ إبراهيم : 11 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } إلى قوله : { قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [ الزمر : 38 ] .(184/34)
وقد ذكر اللّه هذه الكلمة { حَسْبِي اللَّهُ } في جلب المنفعة تارة، وفي دفع المضرة أخرى . فالأولى في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } الآية [ التوبة : 59 ] . والثانية في قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وفي قوله تعالى : { وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [ الأنفال : 26 ] ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } ، يتضمن بالرضا والتوكل .
والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة : ( اللّهم، بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم، إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللّهم، إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللّهم، زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ) رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر .(184/35)
وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لاحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [ آل عمران : 143 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 2-4 ] نزلت هذه الآية لما قالوا : لو علمنا أي الأعمال أحب إلى اللّه لعملناه، فأنزل اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ آية الجهاد، فكرهه من كرهه .(184/36)
ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلاء، بأن يوجب على نفسه ما لا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك، أو يطلب ولاية، أو يقدم على بلد فيه طاعون . كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال : ( إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل ) ، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد الرحمن بن سَمُرَة : ( لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِلْتَ إلىها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعِنْت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك ) . وثبت عنه في الصحيحين أنه قال في الطاعون : ( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه ) ، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ( لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا اللّه العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم عليه أشياء فيبخل بالوفاء، كما يفعل كثير ممن يعاهد اللّه عهودًا على أمور، وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود .
ويقتضي أن الإنسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات . ولابد في جميع ذلك من / الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات، وترك المحظورات . ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى اللّّه عنه .(184/37)
وقد ذكر اللّه الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] ، { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البقرة : 153 ] ، وقوله : { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ } إلى قوله : { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ هود : 114، 115 ] { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] ، { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } الآية [ غافر : 55 ] .
وجَعلَ الإمَامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] ، فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لابد فيه من الصبر، بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر . كما قال معاذ بن جبل ـ رضي اللّه عنه : علىكم بالعلم فإن طلبه للّه عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعلىمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف اللّه ويعبد، وبه يمجد اللّه ويوحد، يرفع اللّه بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادة وأئمة يهتدون بهم، وينتهون إلى رأيهم .
فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولابد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا / قال تعالى : { وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر ] ، وقال تعالى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [ ص : 45 ] .(184/38)
فالعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي، فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى . قال تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [ النجم : 1، 2 ] ، فلا ينال الهدى إلا بالعلم، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر، ولهذا قال على : ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ـ فإذا انقطع الرأس بان الجسد ـ ثم رفع صوته فقال : ألا لا إيمان لمن لا صبر له .
وأما الرضا، فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء : هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين : فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين . قال عمر بن عبد العزيز : الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن . وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس : " إن استطعت أن تعمل للّه بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا " .
/ولهذا لم يجئ في القرآن إلا مدح الراضين لا إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب، كالمرض والفقر والزلزال، كما قال تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } [ البقرة : 177 ] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا } [ البقرة : 214 ] ، فالبأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، والزلزال في القلوب .(184/39)
وأما الرضا بما أمر اللّه به، فأصله واجب، وهو من الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ) ، وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء اللّه ـ تعالى ـ قال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ النساء : 65 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } الآية [ التوبة : 59 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] ، وقال تعالى : { مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] .
ومن النوع الأول : ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : _من سعادة ابن آدم استخارته / للّه، ورضاه بما قسم اللّه له، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته للّه، وسخطه بما يقسم اللّه له ) .(184/40)
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان، فأكثر العلماء يقولون : لا يشرع الرضا بها، كما لا تشرع محبتها، فإن اللّه ـ سبحانه ـ لا يرضاها ولا يحبها، وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانه : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، وقال تعالى : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } [ النساء : 108 ] ، بل يسخطها كما قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 28 ] .
وقالت طائفة : ترضى من جهة كونها مضافة إلى اللّه خلقًا، وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فعلًا وكسبًا . وهذا القول لا ينافي الذي قبله، بل هما يعودان إلى أصل واحد . وهو ـ سبحانه ـ إنما قدر الأشياء لحكمة، فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية، وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشىء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من أحدهما ويكره من الآخر، كما في الحديث الصحيح : ( ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه ) .
وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف اللّه وفعله لا بالمقضي الذي / هو مفعوله، فهو خروج منه عن مقصود الكلام، فإن الكلام ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ من صفاته وأفعاله، وإنما الكلام في الرضا بمفعولاته . والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع .(184/41)
والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد اللّه على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه، وفي الحديث : ( أول من يدعى إلى الجنة : الحمادون الذين يحمدون اللّه في السراء والضراء ) ، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه الأمر يسره قال : ( الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات ) ، وإذا أتاه الأمر الذي يسوؤه قال : ( الحمد للّه على كل حال ) . وفي مسند الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قبض ولد العبد يقول اللّه لملائكته : أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم، فيقول : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ فيقولون : نعم، فيقول : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع، فيقول : ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد ) ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وأمته هم الحمادون الذين يحمدون اللّه على السراء والضراء . والحمد على الضراء يوجبه مشهدان :
أحدهما : علم العبد بأن اللّه ـ سبحانه ـ مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه، فإنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العلىم الحكيم، الخبير الرحيم .
/والثاني : علمه بأن اختيار اللّه لعبده المؤمن، خير من اختياره لنفسه، كما روى مسلم في صحيحه، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ) .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه اللّه للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له . قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5، لقمان : 31، سبأ : 19، الشورى : 33 ] وذكرهما في أربعة مواضع من كتابه .(184/42)
فأما من لا يصبر على البلاء، ولا يشكر على الرخاء، فلا يلزم أن يكون القضاء خيرًا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين :
أحدهما : أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد، كما في قوله تعالى : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ} أي : من سراء، { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النساء : 79 ] أي : من ضراء، وكقوله تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168] أي : بالسراء والضراء، كما قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وقال تعالى : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } [ آل عمران : 120 ] ، فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار، ويراد بها الطاعات والمعاصي .
والجواب الثاني : أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور . والذنوب تنقص الإيمان، فإذا تاب العبد أحبه اللّه، وقد ترتفع درجته بالتوبة . قال بعض السلف : كان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير : إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة . وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر اللّه ويتوب إلىه منها . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الأعمال بالخواتيم ) . والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب :(184/43)
أن يتوب فيتوب اللّه عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، أو يستغفر فيغفر له، أو يعمل حسنات تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات، أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًا وميتًا، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه اللّه به، أو يشفع فيه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أو يبتليه اللّه ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفر عنه، أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه، أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه، أو يرحمه أرحم الراحمين .
/فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إلا نفسه، كما قال ـ تعالى ـ فيما يروي عنه رسوله صلى الله عليه وسلم : ( يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) .
فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صبارًا شكورًا، أو كان قد استخار اللّه وعلم أن من سعادة ابن آدم استخارته للّه ورضاه بما قسم اللّه له، كان قد رضى بما هو خيرله، وفي الحديث الصحيح عن على ـ رضي اللّه عنه ـ قال : ( إن اللّه يقضي بالقضاء، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط ) . ففي هذا الحديث الرضا والاستخارة، فالرضا بعد القضاء والاستخارة قبل القضاء، وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا، وفي هذا الصبر .
ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيرًا له، فكيف مع الرضا ؟ ولهذا جاء في الحديث : ( المصاب من حرم الثواب ) في الأثر الذي رواه الشافعي في مسنده : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات سمعوا قائلًا يقول : يا آل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن في اللّه عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فباللّه فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط، مع أنه لا فائدة فيه، فقد يكون فيه مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه اللّه .(184/44)
/لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافى الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال : ( إن هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده، وإنما يرحم اللّه من عباده الرحماء ) ، فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه على فضحك وقال : رأيت أن اللّه قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى اللّه به، حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع . وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد اللّه ـ تعالى ـ كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل . كما قال تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [ البلد : 17 ] ، فذكر ـ سبحانه ـ التواصي بالصبر والمرحمة .
والناس أربعة أقسام : منهم من يكون فيه صبر بقسوة . ومنهم من يكون فيه رحمة بجزع . ومنهم من يكون فيه القسوة والجزع . والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس .
وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن اللّه من توابع المحبة له، وهذا إنما يتوجه على المأخذ الأول وهو الرضا عنه لاستحقاقه ذلك بنفسه، مع قطع العبد النظر عن حظه، بخلاف المأخذ الثاني وهو : الرضا لعلمه بأن المقضي خير له، ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه، لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه . إن المحبة لله نوعان : / محبة له نفسه، ومحبة له لما فيه من الإحسان، وكذلك الحمد له نوعان : حمد له على ما يستحقه نفسه، وحمد على إحسانه إلى عبده، فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة .(184/45)
وأما الرضا به وبدينه وبرسوله، فذلك من حظ المحبة، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان، كما ذكر في المحبة وجود حلاوة الإيمان . وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق الإيماني الشرعي، دون الضلالي البدعي . ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ذاق طعم الإيمان من رضي باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ) ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار ) . وهذا مما يبين من الكلام على المحبة فنقول :
فَصل
محبة اللّه؛ بل محبة اللّه ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن / التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة : إما عن محبة محمودة، أو عن محبة مذمومة، كما قد بسطنا ذلك في قاعدة المحبة من القواعد الكبار .
فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة . وأصل المحبة المحمودة هي محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند اللّه لا يكون عملًا صالحًا، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة اللّه، فإن اللّه ـ تعالى ـ لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك ) ، وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار : القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي .(184/46)
بل إخلاص الدين للّه هو الدين الذي لا يقبل اللّه سواه، وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل، وأنزل به جميع الكتب، واتفق عليه أئمة أهل الإيمان، وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية، وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه .
قال تعالى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [ الزمر : 1ـ3 ] ، والسورة كلها عامتها في هذا المعنى، كقوله : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ . وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } [ الزمر : 11، 12 ] إلى قوله : / { قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } [ الزمر : 14 ] ، إلى قوله : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } [ الزمر : 36 ] إلى قوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } الآية [ الزمر : 38 ] إلى قوله : { أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ . قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ الزمر : 43 ـ 45 ] إلى قوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [ الزمر : 64 ] إلى قوله : { بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ } [ الزمر : 66 ] .(184/47)
وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وإبليس أنه قال : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 82، 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] ، وقال : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ . إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 99، 100 ] ، فبين أن سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ ولهذا قال في قصة يوسف : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] ، وأتباع الشيطان هم أصحاب النار، كما قال تعالى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] .
وقد قال سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ] وهذه الآية في حق من لم يتب؛ ولهذا خصص الشرك، وقيد ما / سواه بالمشيئة، فأخبر أنه لا يغفر الشرك لمن لم يتب منه، وما دونه يغفره لمن يشاء . وأما قوله : { قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [ الزمر : 53 ] فتلك في حق التائبين؛ ولهذا عم وأطلق، وسياق الآية يبين ذلك مع سبب نزولها .(184/48)
وقد أخبر ـ سبحانه ـ أن الأولين والآخرين إنما أمروا بذلك في غير موضع كالسورة التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أُبَيِّ لما أمره اللّه ـ تعالى ـ أن يقرأ عليه قراءة إبلاغ وإسماع بخصوصه فقال : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ . وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } الآية [ البينة : 4، 5 ] .
وهذا حقيقة قول لا إله إلا اللّه، وبذلك بعث جميع الرسل . قال اللّه تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .(184/49)
وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل كما قال نوح ـ عليه السلام : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ الأعراف : 59 ] ، وكذلك هود وصالح وشعيب ـ عليهم السلام ـ وغيرهم كل يقول : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } لا سيما أفضل / الرسل الذين اتخذ اللّه كلاهما خليلًا : إبراهيم ومحمدًا ـ عليهما السلام ـ فإن هذا الأصل بينه اللّه بهما وأيدهما فيه ونشره بهما، فإبراهيم هو الإمام الذي قال اللّه فيه : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [ البقرة : 124 ] ، وفي ذريته جعل النبوة والكتاب والرسل، فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك اللّه عليهم، قال سبحانه : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِي . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الزخرف : 26 - 28 ] .(184/50)
فهذه الكلمة هي كلمة الإخلاص للّه وهي البراءة من كل معبود إلا من الخالق الذي فطرنا كما قال صاحب يس : { وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِي . إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [ يس : 22ـ24 ] ، وقال تعالى في قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلال من اتخذ بعض الكواكب ربًا يعبده من دون اللّه، قال : { فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } [ الأنعام : 78-81 ] ، وقال إبراهيم الخليل ـ عليه السلام : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [ الشعراء : 75-81 ] ، وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } الآية [ الممتحنة : 4 ] .(184/51)
ونبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أقام اللّه به الدين الخالص للّه دين التوحيد، وقمع به المشركين من كان مشركًا في الأصل، ومن الذين كفروا من أهل الكتب، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وغيره : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) ، وقد تقدم بعض ما أنزل اللّه عليه من الآيات المتضمنة للتوحيد .
وقال تعالى أيضًا : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } إلى قوله : { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ } إلى قوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ . وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ُ . بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ . فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ } إلى ما ذكره من قصص الأنبياء في التوحيد وإخلاص الدين للّه، إلى قوله : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ . إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [ الصافات : 159 ـ160 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا . إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 145، 146 ] .(184/52)
وفي الجملة فهذا الأصل في سورة الأنعام، والأعراف، والنور، وآل طسم، / وآل حم، وآل الر، وسور المفصل وغير ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر، فهو أصل الأصول وقاعدة الدين حتى في سورتي الكافرون والإخلاص : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ } و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وهاتان السورتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاة التطوع كركعتي الطواف، وسنة الفجر، وهما متضمنتان للتوحيد .
فأما { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَِ } : فهي متضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وهو إخلاص الدين للّه بالقصد والإرادة، وهو الذي يتكلم به مشائخ التصوف غالبًا، وأما سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } : فمتضمنة للتوحيد القولي العملي كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رجلًا كان يقرأ : قل هو اللّه أحد في صلاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سلوه لم يفعل ذلك ؟ ) فقال : لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال : ( أخبروه أن اللّه يحبه ) .
ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ الذي ينفي قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل، ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع . وذكرنا اعتماد الأئمة عليها مع ما تضمنته من تفسير الأحد الصمد، كما جاء تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وما دل على ذلك من الدلائل .(184/53)
لكن المقصود هنا هو : التوحيد العملي، وهو إخلاص الدين للّه وإن / كان أحد النوعين مرتبطًا بالآخر . فلا يوجد أحد من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيه نوع من الشرك العملي؛ إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين اللّه وبين خلقه، أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي لا تستلزم مدحًا ولا ثبوت كمال، أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص، وكما يسوون إذا أثبتوا هم ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم، ويجعلون له أندادًا ويسوون المخلوقات برب العالمين .
واليهود كثيرًا ما يعدلون الخالق بالمخلوق، ويمثلونه به حتى يصفوا اللّه بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه، والنصارى كثيرًا ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا في المخلوقات من نعوت الربوبية، وصفات الإلهية، ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا .
واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غيرالمغضوب عليهم ولا الضالين . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون ) . وفي هذه الأمة من فيه شبه من هؤلاء وهؤلاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القُذَّة بالقذة، حتى لو / دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه ) ، قالوا : يا رسول اللّه، اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) والحديث في الصحيحين .(184/54)
فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين للّّه، وهو إرادة اللّّه وحده فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته، وهذا كمال المحبة، لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقوله : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] وأمثال هذا، والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودًا، والمعظم الذي لا يحب، لا يكون معبودًا؛ ولهذا قال تعالى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] فبين ـ سبحانه ـ أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون اللّّه أندادًا، وإن كانوا يحبونهم كما يحبون اللّه، فالذين آمنوا أشد حبًا للّه منهم للّه ولأوثانهم، لأن المؤمنين أعلم باللّه، والحب يتبع العلم؛ ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم للّّه وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل . قال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } [ الزمر : 29 ] .
واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب اللّه ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة اللّه، وإن كانت المحبة التي للّه / لا يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ مذكورة بما يختص به ـ سبحانه ـ من العبادة والإنابة إليه والتبتل له، ونحو ذلك . فكل هذه الأسماء تتضمن محبة اللّه ـ سبحانه وتعالى .(184/55)
ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين، فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل اللّه ) . فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه . وقد قال تعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } إلى قوله : {أَجْرٌ عَظِيمٌٌ } [ التوبة : 19ـ22 ] ، والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة .
وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة . قال تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } الآية [ التوبة : 24 ] ، وقال تعالى في صفة المحبين المحبوبين : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [ المائدة : 54 ] فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وإنهم يجاهدون في سبيل اللّه، ولا يخافون لومة لائم .(184/56)
/فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك . وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال : ( لعلك أغضبتهم لإن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ) . فقال لهم : يا إخوتي، هل أغضبتكم ؟ قالوا : لا، يغفر اللّه لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا : ما أخذت السيوف من عدو اللّه مأخذها، فقال لهم أبو بكر : أتقولون هذا لسيد قريش ؟ وذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا للّه؛ لكمال ما عندهم من الموالاة للّه ورسوله، والمعاداة لأعداء اللّه ورسوله .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه : ( لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولابد له منه ) فبين ـ سبحانه ـ أنه يتردد لأن التردد تعارض إرادتين، وهو ـ سبحانه ـ يحب ما يحب عبده / ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال : ( وأنا أكره مساءته ) ، وهو ـ سبحانه ـ قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت . فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك .(184/57)
وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه . وقد يقال له : اتحاد نوعي وصفي، وليس ذلك اتحاد الذاتين فإن ذلك محال ممتنع، والقائل به كافر، وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم، وهو الاتحاد المقيد في شيء بعينه .
وأما الاتحاد المطلق ـ الذي هو قول أهل وحدة الوجود الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق ـ فهذا تعطيل للصانع وجحود له، وهو جامع لكل شرك، فكما أن الاتحاد نوعان، فكذلك الحلول نوعان : قوم يقولون : بالحلول المقيد في بعض الأشخاص، وقوم يقولون : بحلوله في كل شيء، وهم الجهمية الذين يقولون : إن ذات اللّه في كل مكان .
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء في المحبة أن يغيب بمحبوبه عن نفسه وحبه، ويغيب بمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، وبموجوده عن وجوده، حتى لا يشهد إلا محبوبه فيظن في زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه . كما قيل : إن محبوبًا وقع في اليم فألقى المحب نفسه خلفه، فقال : / أنا وقعت فأنت ما الذي أوقعك ؟ فقال، غبت بك عني، فظننت أنك أني، فلا ريب أن هذا خطأ وضلال .
لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورًا في زوال عقله، فلا يكون مؤاخذًا بما يصدر منه من الكلام في هذه الحال التي زال فيها عقله بغير سبب محظور، كما قيل في عقلاء المجانين : إنهم قوم آتاهم اللّه عقولًا وأحوالًا، فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، وأسقط ما فرض بما سلب .
وأما إذا كان السبب الذي به زوال العقل محظورًا لم يكن السكران معذورًا، وإن كان لا يحكم بكفره في أصح القولين، كما لا يقع طلاقه في أصح القولين، وإن كان النزاع في الحكم مشهورًا . وقد بسطنا الكلام في هذا، وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم في قاعدة ذلك .(184/58)
وبكل حال، فالفناء الذي يفضي بصاحبه إلى مثل هذا حال ناقص، وإن كان صاحبه غير مكلف؛ ولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الرسل، وإن كان لهؤلاء في صعق موسى نوع تعلق، وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الإلهية على بعض التابعين ومن بعدهم، وإن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، فمن المعلوم أن من/ أحب اللّه المحبة الواجبة فلابد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] .
والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة، كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك، وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب اللّه ويرضاه من جهاد أعدائه، فإن الملام على ذلك كثير . وأما الملام على فعل ما يكرهه اللّه أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق، وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل . وبهذا يحصل الفرق بين [ الملامية ] الذين يفعلون ما يحبه اللّه ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك، وبين [ الملامية ] الذين يفعلون ما يبغضه اللّه ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك .
فَصْل(184/59)
وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه . والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب . قال تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } الآية [ الإسراء : 57 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } [ البقرة : 218 ] .
ورحمته اسم جامع لكل خير . وعذابه اسم جامع لكل شر . ودار الرحمة الخالصة هي الجنة، ودار العذاب الخالص هي النار، وأما الدنيا فدار امتزاج، فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم، وأعلاه النظر إلى وجه اللّه، كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة، إن لكم عند اللّه موعدًا يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار ؟ ) قال : ( فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ) وهو الزيادة .(184/60)
ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول من قال : ما عبدتك شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من نارك، وإنما عبدتك شوقًا إلى رؤيتك، فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة لايدخل في مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات، كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية اللّه من الجهمية، أو من يقربها ويزعم أنه لا تمتع بنفس رؤية اللّه، كما يقوله طائفة من المتفقهة . فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة / لا يدخل فيه إلا التمتع بالمخلوقات؛ ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } [ آل عمران : 152 ] قال فأين من يريد اللّه، وقال آخر في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] قال : إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه، وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخل فيها النظر .
والتحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم، وأعلى ما فيها النظر إلى وجه اللّه، وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة، كما أخبرت به النصوص . وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم، ويدخلون النار، مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفًا بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق نارًا أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك والنظر إليك، ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق .(184/61)
وأما عمل الحي بغير حب ولا إرادة أصلا، فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك، وظن أن كمال العبد ألا تبقى له إرادة أصلا؛ فذاك لأنه تكلم في حال الفناء والفاني ـ الذي يشتغل بمحبوبه ـ له إرادة ومحبة ولكن لا يشعر بها، فوجود المحبة شيء، والإرادة شيء، والشعور بها شيء آخر . فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط، فالعبد لا يتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وإرادة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصدق الأسماء حارث وهمام ) . فكل إنسان له حرث وهو العمل، وله هم وهو أصل /الإرادة، ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة اللّه ما يدعوه إلى طاعته، ومن إجلاله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته، كما قال عمر ـ رضي اللّه عنه : نعم العبد صهيب، لو لم يخف اللّه لم يعصه أي : هو لم يعصه ولو لم يخفه، فكيف إذا خافه، فإن إجلاله وإكرامه للّه يمنعه من معصيته .
فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه، والتنعم بتجليه له، فمعلوم أن هذا من توابع محبته له، فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الاحتجاب، وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به، فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة اللّه المستلزمة محبته، ثم إذا وجد حلاوة محبة اللّه وجدها أحلى من كل محبة؛ ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء، كما في الحديث : ( إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النَّفَس ) وهو يبين غاية تنعمهم بذكر اللّه ومحبته . فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة اللّه التي هي الأصل .(184/62)
وهذا كله ينبني على أصل المحبة، فيقال : قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين، كما في قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] ، وقوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقوله تعالى : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } [ التوبة : 24 ] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا للّه، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه كما يكره أن يلقى في النار ) .
/بل محبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة اللّه كما في قوله تعالى : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) ، وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : واللّه يا رسول اللّه لأنت أحب إلىَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال : ( لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك ) ، فقال : واللّه لأنت أحب إلىَّ من نفسي، قال : ( الآن يا عمر ) .
وكذلك محبة صحابته وقرابته، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار ) ، وقال : ( لا يبغض الأنصار رجل يؤمن باللّه واليوم الآخر ) ، وقال على ـ رضي اللّه عنه : إنه لعهد النبي الأمي إلىَّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق . وفي السنن أنه قال للعباس : ( والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم للّه ولقرابتي ) يعني : بني هاشم، وقد روى حديث عن ابن عباس مرفوعًا أنه قال : ( أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني بحب اللّه، وأحبوا أهل بيتي لأجلي ) .(184/63)
وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } [ النساء : 125 ] ، وقال تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، وقال تعالى : { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 195 ] ، { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ الحجرات : 9 ] ، { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 4 ] ، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 7 ] ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] ، { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 76 ] .
وأما الأعمال التي يحبها اللّه من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة، وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء اللّه المتقون .
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون، وأئمة التصوف إن اللّه ـ سبحانه ـ محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] وكذلك هو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية .(184/64)
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين، زعمًا منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري أمير العراق والمشرق بواسط . خطب الناس يوم الأضحى فقال : أيها الناس، ضَحُّوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مُضَحّ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم / موسي تكليمًا، ثم نزل فذبحه، وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد، وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك .
وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلًا، وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ وهم يعبدون الكواكب ويبنون الهياكل للعقول والنجوم وغيرها، وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلًا، وموسى كليما، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل :
قد تخللت مسلك الروح مني ** وبذا سمى الخليل خليلًا(184/65)
ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه ) يعني : نفسه، وفي رواية : ( إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ) ، وفي رواية : ( إن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم /خليلًا ) ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلًا، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه . مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصًا كما قال لمعاذ : ( واللّه إني لأحبك ) وكذلك قوله للأنصار . وكان زيد بن حارثة حب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابنه أسامة حبه، وأمثال ذلك . وقال له عمرو بن العاص : أي الناس أحب إليك ؟ قال : ( عائشة ) . قال : فمن الرجال ؟ قال : ( أبوها ) ، وقال لفاطمة ابنته ـ رضي اللّه عنها : ( ألا تحبين ما أحب ؟ ) قالت : بلى، قال : ( فأحبي عائشة ) . وقال للحسن : ( اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه ) وأمثال هذا كثير .
فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال : ( إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا ) ، فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها محبوبًا لذاته لا لشيء آخر؛ إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب .(184/66)
فالخلة تنافى المزاحمة، وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبًا لذاته / محبة لا يزاحمه فيها غيره، وهذه محبة لا تصلح إلا للّّه، فلا يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة، وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره ـ إذا كان محبوبًا بحق ـ فإنما يحب لأجله، وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة، فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان للّه تعالى . وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون اللّه محبوبًا لذاته ينكر مخاللته . وكذلك أيضًا إن أنكر محبته لأحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خليلًا بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد .
وكذلك تكليمه لموسى أنكروه؛ لإنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الأفعال، فكما ينكرون أن يتصف بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوى أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم، فهذا حقيقة قولهم . { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [ البقرة : 118 ] .
لكن لما كان الإسلام ظاهرًا والقرآن متلوا، لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام، أخذوا يلحدون في أسماء اللّه ويحرفون الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه، وهذا جهل عظيم؛ فإن محبة المتقرب إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه، فمن لا يحب الشيء لا يمكن أن يحب التقرب إليه؛ إذ التقرب وسيلة، ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود، فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود بالوسيلة .(184/67)
/وكذلك العبادة والطاعة، إذا قيل في المطاع المعبود : إن هذا يحب طاعته وعبادته، فإن محبته ذلك تبع لمحبته، وإلا فمن لا يحب لا يحب طاعته وعبادته، ومن كان لا يعمل لغيره إلا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاوضًا له أو مفتديًا منه لا يكون محبًا له . ولا يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته، فإن محبة المقصود وإن استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة، فإن ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين : محبة العوض والسلامة عن محبة العمل . أما محبة اللّه فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض، ألا ترى أن من استأجر أجيرًا بعوض لا يقال : إن الأجير يحبه بمجرد ذلك . بل قد يستأجر الرجل من لا يحبه بحال بل من يبغضه، وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب لا يقال : إنه يحبه بل يكون مبغضًا له . فعلم أن ما وصف اللّه به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع ألا يكون معناه إلا مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الأغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبًا أصلا .
وأيضًا، فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم؛ ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات :
أحدها : العلاقة : وهو تعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة : وهو انصباب القلب إليه، ثم الغرام : وهو الحب اللازم، ثم العشق وآخر / المراتب هو التتيم : وهو التعبد للمحبوب، والمتيم المعبود، وتيم اللّه عبد اللّه فإن المحب يبقى ذاكرًا معبدًا مذللًا لمحبوبه .
وأيضًا، فاسم الإنابة إليه يقتضى المحبة أيضًا، وما أشبه ذلك من الأسماء، كما تقدم .(184/68)
وأيضًا، فلو كان هذا الذي قالوه حقًا من كون ذلك مجازًا لما فيه من الحذف والإضمار، فالمجاز لا يطلق إلا بقرينة تبين المراد . ومعلوم أن ليس في كتاب اللّه وسنة رسوله ما ينفي أن يكون اللّه محبوبًا، وألا يكون المحبوب إلا الأعمال لا في الدلالة المتصلة ولا المنفصلة بل ولا في العقل أيضًا . وأيضًا : فمن علامات المجاز صحة إطلاق نفيه، فيجب أن يصح إطلاق القول بأن اللّه لا يُحِبّ ولا يُحَبّ، كما أطلق إمامهم الجعد ابن درهم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ومعلوم أن هذا ممتنع بإجماع المسلمين، فعلم دلالة الإجماع على أن هذا ليس مجازًا، بل هي حقيقة .
و أيضًا، فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له في قوله تعالى : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } [ التوبة : 24 ] ، كما فرق بين محبته ومحبة رسوله في قوله تعالى : { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فلو كان المراد بمحبته ليس إلا محبة العمل لكان هذا تكريرًا، أو من باب عطف الخاص على العام، وكلاهما على خلاف ظاهر الكلام الذي لا يجوز المصير إليه إلا بدلالة تبين المراد . وكما أن / محبته لا يجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله، فكذلك لا يجوز تفسيرها بمجرد محبة العمل له، وإن كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له .
وأيضًا، فالتعبير بمحبة الشيء عن مجرد محبة طاعته لا عن محبة نفسه أمر لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازًا، فحمل الكلام عليه تحريف محض أيضا . وقد قررنا في مواضع من القواعد الكبار أنه لا يجوز أن يكون غير اللّه محبوبًا مرادًا لذاته كما لا يجوز أن يكون غير اللّه موجودًا بذاته، بل لا رب إلا اللّه، ولا إله إلا هو المعبود، الذي يستحق أن يحب لذاته ويعظم لذاته، كمال المحبة والتعظيم .(184/69)
وكل مولود يولد على الفطرة فإنه ـ سبحانه ـ فطر القلوب على أنه ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه وتنتهى إليه إلا اللّه وحده، وإن كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه أن قلبه يطلب شيئًا سواه، ويحب أمرًا غيره يتألهه ويصمد إليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الأجناس؛ ولهذا قال اللّه تعالى في كتابه : { أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] ، وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى قال : ( إني خلقت عبادي حنفاءَ فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ) ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج / البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ) ، ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ الروم : 30 ] .
وأيضًا، فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فاللّه هو المستحق له على الكمال، وكل ما في غيره من محبوب فهو منه ـ سبحانه وتعالى ـ فهو المستحق لأن يحب على الحقيقة والكمال . وإنكار محبة العبد لربه هو في الحقيقة إنكار لكونه إلهًا معبودًا، كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه ربًا خالقًا فصار إنكارها مستلزمًا لإنكار كونه رب العالمين، ولكونه إله العالمين . وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود .(184/70)
ولهذا اتفقت الأمتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى ـ صلوات اللّه عليهما وسلامه ـ أن أعظم الوصايا أن تحب اللّه بكل قلبك وعقلك وقصدك، وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة إبراهيم التي هي أصل شريعة التوراة والإنجيل والقرآن، وإنكار ذلك هو مأخوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل، ومن وافقهم على ذلك من متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذه عن هؤلاء، وظهر ذلك في القرامطة الباطنية من الإسماعيلية؛ ولهذا قال الخليل إمام الحنفاء ـ صلوات اللّه وسلامه عليه : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 75ـ77 ] ، وقال أيضًا : { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } [ الأنعام : 76 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88، 89 ] وهو السليم من الشرك .
وأما قولهم : إنه لا مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر إليه . فهذا الكلام مجمل، فإن أرادوا بالمناسبة أنه ليس بينهما توالد فهذا حق، وإن أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والآكل والمأكول أو نحو ذلك فهذا أيضًا حق، وإن أرادوا أنه لا مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبًا عابدًا والآخر معبودًا محبوبًا فهذا هو رأس المسألة، فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب، ويكفي في ذلك المنع .(184/71)
ثم يقال : بل لا مناسبة تقتضي المحبة الكاملة إلا المناسبة التي بين المخلوق والخالق، الذي لا إله غيره، الذي هو في السماء إله وفي الأرض إله، وله المثل الأعلى في السموات والأرض . وحقيقة قول هؤلاء جحد كون اللّه معبودًا في الحقيقة؛ ولهذا وافق على هذه المسألة طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون اللّه محبًا في الحقيقة، فأقروا بكونه محبوبًا ومنعوا كونه محبًا؛ لأنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة، فأخذوا عن الصوفية مذهبهم في المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه، وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية، فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكارًا . ومنكروها قسمان :
/قسم يتأولونها بنفس المفعولات التي يحبها العبد فيجعلون محبته نفس خلقه .
وقسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولات . وقد بسطنا الكلام في ذلك في قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها .
ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على أن اللّه يحب ويرضى ما أمر بفعله من واجب ومستحب، وإن لم يكن ذلك موجودًا، وعلى أنه قد يريد وجود أمور يبغضها ويسخطها من الأعيان والأفعال كالفسق والكفر، وقد قال اللّه تعالى : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [ البقرة : 205 ] ، وقال تعالى : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] .
والمقصود هنا إنما هو ذكر محبة العباد لإلههم .
وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال الإيمان، ولم يتبين بين أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع في ذلك، وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع اللّه أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية، كالعرفان الإيماني والسماع الفرقاني، قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } إلى آخر السورة [ الشورى : 52، 53 ] .(184/72)
/ثم إنه لما طال الأمد صار في طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة .
وصار في بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير، وسماع المكاء والتصدية، فيسمعون من الأقوال والأشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذي يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح لمحب الأوثان والصلبان والإخوان والأوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن، ولكن كان الذين يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والإمكان والخلان، وربما اشترطوا له الشيخ الذي يحرس من الشيطان، ثم توسع في ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه إلى أنواع من المعاصي، بل إلى أنواع من الفسوق، بل خرج فيه طوائف إلى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الأشعار التي فيها الكفر والإلحاد، مما هو من أعظم أنواع الفساد، وينتج ذلك لهم من الأحوال بحسبه، كما تنتج لعباد المشركين وأهل الكتاب عباداتهم بحسبها .(184/73)
والذي عليه محققو المشائخ أنه كما قال الجنيد ـ رحمه اللّه : من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به، ومعنى ذلك أنه لا يشرع الاجتماع لهذا السماع المحدث، ولا يؤمر به، ولا يتخذ ذلك دينًا، وقربة، فإن القرب والعبادات إنما تؤخذ عن الرسل ـ صلوات اللّه وسلامه عليهم ـ فكما أنه لا حرام إلا ما حرمه اللّه ولا دين إلا ما شرعه اللّه . قال اللّه تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ آل عمران : 31 ] ، فجعل محبتهم للّه موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة اللّه لهم، قال أبي بن كعب ـ رضي اللّه عنه : عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه فاقشعر جلده من مخافة اللّه إلا تحاتت عنه خطاياه، كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه من خشية اللّه إلا لم تمسه النار أبدًا، وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصادًا واجتهادًا على منهاج الأنبياء وسنتهم، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .(184/74)
فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب، لكان ذلك مما دلت الأدلة الشرعية عليه . ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا في اليمن، ولا في العراق، ولا في مصر، ولا في خُرَاسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلاح القلوب؛ ولهذا كرهه الأئمة كالإمام أحمد وغيره، حتى عده الشافعي من أحداث الزنادقة حين قال : خلفت ببغداد شيئًا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن .
/وأما ما لم يقصده الإنسان من الاستماع، فلا يترتب عليه لا نهي ولا ذم باتفاق الأئمة؛ ولهذا إنما يترتب الذم والمدح على الاستماع لا على السماع، فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة لا يثاب على ذلك؛إذ الأعمال بالنيات، وكذلك ما ينهى عن استماعه من الملاهي لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك، فلو سمع السامع بيتًا يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما ينهى عنه، وكان المحمود الحسن حركة قلبه التي يحبها اللّه ورسوله إلى محبته التي تتضمن فعل ما يحبه اللّه وترك ما يكرهه اللّه، كالذي اجتاز بيتًا فسمع قائلًا يقول :
كل يوم تتلون ** غير هذا بك أجمل
فأخذ منه إشارة تناسب حاله، فإن الإشارات من باب القياس والاعتبار وضرب الأمثال .
ومسألة [ السماع ] كبيرة منتشرة قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع .(184/75)
والمقصود هنا أن المقاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع الإيماني القرآني النبوي الديني الشرعي الذي هو سماع النبيين، وسماع العالمين، وسماع العارفين، وسماع المؤمنين . قال اللّه تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ } إلى قوله : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم : 58 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلى قوله : { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 107ــ 109 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ } [ المائدة : 83 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } الآية [ الزمر : 23 ] .(184/76)
وكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه في مثل قوله : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } إلى قوله : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ لقمان : 6، 7 ] ، وقال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [ الفرقان : 73 ] ، وقال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين َ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 ـ 51 ] .
وقال تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ } الآية [ الأنفال : 22، 23 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، وقال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِين َ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ . فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 49 ـ 51 ] ومثل هذا كثير في القرآن .
وهذا كان سماع سلف الأمة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وأمثال هؤلاء .(184/77)
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ يقول لأبي موسى الأشعري : يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون ويبكون . وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم أن يقرأ القرآن والباقي يستمعون، وقد ثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته وقال : ( لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود ) ، وقال : ( مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك ) ، فقال : لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا، أي : لحسنته لك تحسينًا، وقال صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) ، وقال : ( للّه أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته ) ـ أذنا أي : استماعًا ـ كقوله : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الانشقاق : 2 ] أي : استمعت، وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما أذن اللّه لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به ) ، وقال : ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) .
/ولهذا السماع من المواجيد العظيمة، والأذواق الكريمة، ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة ما لا يتسع له خطاب، ولا يحويه كتاب، كما أن في تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم والإيمان ما لا يحيط به بيان .(184/78)
ومما ينبغي التفطن له أن اللّه ـ سبحانه ـ قال في كتابه : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ، قال طائفة من السلف : ادعي قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون اللّه فأنزل اللّه هذه الآية : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } الآية ، فبين ـ سبحانه ـ أن محبته توجب اتباع الرسول، وأن اتباع الرسول يوجب محبة اللّه للعبد، وهذه محبة امتحن اللّه بها أهل دعوى محبة اللّه، فإن هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والاشتباه؛ ولهذا يروي عن ذي النون المصري أنهم تكلموا في مسألة المحبة عنده فقال : اسكتوا عن هذه المسألة لئلا تسمعها النفوس فتدعيها .
وقال بعضهم : من عبد اللّه بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد اللّه بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، وذلك؛ لأن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع في أهوائها، إذا لم يزعها وازع الخشية للّه حتى قالت اليهود والنصارى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، ويوجد في مدعي المحبة من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية؛ ولهذا قرن الخشية بها في قوله : / { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ . مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ . ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } [ ق : 32ـ34 ] .
وكان المشائخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية؛ لما في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة، وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد، والأعمال أوجب إنكار طوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية، حتى صار المنحرفون صنفين :
صنف يقر بحقها وباطلها .(184/79)
وصنف ينكر حقها وباطلها، كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه .
والصواب إنما هو الإقرار بما فيها ، وفي غيرها من موافقة الكتاب، والسنة ، والإنكار لما فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة .
وقال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ، فاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعته باطنًا وظاهرًا هي موجب محبة اللّه، كما أن الجهاد في سبيله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه هو حقيقتها، كما في الحديث : ( أوثق عرى الإيمان الحب في اللّه، والبغض في اللّه ) ، / وفي الحديث : ( من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه، فقد استكمل الإيمان ) .
وكثير ممن يدعي المحبة هو أبعد من غيره عن اتباع السنة، وعن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل اللّه، ويدعي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره؛ لزعمه أن طريق المحبة للّه ليس فيه غيره، ولا غضب للّه، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة؛ ولهذا في الحديث المأثور، يقول اللّه ـ تعالى ـ يوم القيامة : ( أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) ، فقوله : أين المتحابون بجلال اللّه تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال اللّه وتعظيمه مع التحاب فيه، وبذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان في قلوبهم، وهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث : ( حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في ) ، والأحاديث في المتحابين في اللّه كثيرة .(184/80)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه : ( سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة اللّه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجلان تحابا في اللّه اجتمعا وتفرقا عليه . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة / ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ) .
وأصل المحبة : هو معرفة اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ ولها أصلان :
أحدهما : وهو الذي يقال له : محبة العامة؛ لأجل إحسانه إلى عباده، وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، واللّه ـ سبحانه ـ هو المنعم المحسن إلى عبده بالحقيقة، فإنه المتفضل بجميع النعم، وإن جرت بواسطة، إذ هو ميسر الوسائط؛ ومسبب الأسباب، ولكن هذه المحبة في الحقيقة إذا لم تجذب القلب إلى محبة اللّه نفسه، فما أحب العبد في الحقيقة إلا نفسه، وكذلك كل من أحب شيئًا لأجل إحسانه إليه فما أحب في الحقيقة إلا نفسه . وهذا ليس بمذموم بل محمود .
وهذه المحبة هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم : ( أحبوا اللّه لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب اللّه، وأحبوا أهلي بحبي ) ، والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة اللّه ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه إليه، وهذا كما قالوا : إن الحمد للّه على نوعين :
حمد هو شكر، وذلك لا يكون إلا على نعمته .(184/81)
وحمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه ـ سبحانه ـ / فكذلك الحب، فإن الأصل الثاني فيه هو محبته لما هو له أهل، وهذا حب من عرف من اللّه ما يستحق أن يحب لأجله، وما من وجه من الوجوه التي يعرف اللّه بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل؛ ولهذا استحق أن يكون محمودًا على كل حال، ويستحق أن يحمد على السراء، والضراء، وهذا أعلى وأكمل، وهذا حب الخاصة .
وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر إلى وجهه الكريم، ويتلذذون بذكره ومناجاته، ويكون ذلك لهم أعظم من الماء للسمك، حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم ما لا يطيقون، وهم السابقون كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بجبل يقال له : جمدان، فقال : ( سيروا هذا جمدان، سبق المفردون ) ، قالوا : يا رسول اللّه، من المفردون ؟ قال : ( الذاكرون اللّه كثيرًا والذاكرات ) ، وفي رواية أخرى قال : ( المستهترون بذكر اللّه يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون الله يوم القيامة خفافًا ) والمستهتر بذكر الله يتولع به ينعم به كلف لا يفتر منه .
وفي حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ قال : قال موسى : يا رب، أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني، قال : أي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يطلب علم الناس إلى علمه ليجد كلمة تدله على / هدى أو ترده عن ردى، قال أي عبادك أحكم ؟ قال : الذي يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه ( 3 ) . فذكر في هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير .(184/82)
ومما ينبغي التفطن له أنه لا يجوز أن يظن في باب محبة اللّه ـ تعالى ـ ما يظن في محبة غيره مما هو من جنس التجني، والهجر، والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك، مما قد يغلط فيه طوائف من الناس، حتى يتمثلون في حبه بجنس ما يتمثلون به في حب من يصد ويقطع بغير ذنب، أو يبعد من يتقرب إليه، وإن غلط في ذلك من غلط من المصنفين في رسائلهم حتى يكون مضمون كلامهم إقامة الحجة على اللّه، بل للّه الحجة البالغة .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يقول اللّه تعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرب إلى ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) . وفي بعض الآثار يقول اللّه تعالى : ( أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي، وإن تابوا فأنا حبيبهم ـ لأن اللّه يحب التوابين ـ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب ) .(184/83)
/وقد قال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [ طه : 112 ] ، قالوا : الظلم : أن يحمل عليه سيئات غيره، والهضم : أن ينقص من حسنات نفسه . وقال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] ، وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول اللّه تعالى : يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، ياعبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم، ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه ) .(184/84)
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس قال : قال / رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا اللّه أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي فاغفرلي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات في يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة ) .
فالعبد دائما بين نعمة من اللّه يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار، وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم اللّه وآلائه، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار .
ولهذا كان سيد ولد آدم، وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر في جميع الأحوال . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري : ( أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإني لأستغفر اللّه، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) ، وفي صحيح مسلم أنه قال : ( إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر اللّه في اليوم مائة مرة ) ، وقال عبد اللّه بن عمر : كنا نعد لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول : ( رب اغفر لي وتب على، إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة ) .(184/85)
/ولهذا شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال . قال تعالى : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ } [ آل عمران : 17 ] ، وقال بعضهم : أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر، أمروا بالاستغفار، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال : ( اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام ) ، وقال تعالى : {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } إلى قوله : { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 198، 199 ] ، وقد أمر اللّه نبيه بعد أن بلغ الرسالة، وجاهد في اللّه حق جهاده، وأتى بما أمر اللّه به مما لم يصل إليه أحد غيره ، فقال تعالى : { جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } [ سورة النصر ] .
ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والاستغفار، كما قال اللّه تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ . أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ . وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } الآية [ هود : 1ـ3 ] ، وقال تعالى : { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } [ فصلت : 6 ] ، وقال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] .(184/86)
ولهذا جاء في الحديث : ( يقول الشيطان : أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا اللّه والاستغفار ) وقد قال يونس : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركب دابته يحمد اللّه ثم يكبر ثلاثا ويقول : ( لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي ) ، وكفارة المجلس التي كان يختم بها المجلس : ( سبحانك اللّهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) . واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وسلم .
/وقال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رحمه اللّه تعالى :
الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ور سوله، صلى اللّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا .
فَصْل
في مَرَضِ القلُوبِ وَشِفَائِهَا(184/87)
قال الله تعالى عن المنافقين : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] ، وقال تعالى : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } [ الحج : 53 ] ، / وقال : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا } [ الأحزاب : 60 ] ، وقال : { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } [ المدثر : 31 ] ، وقال تعالى : { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] ، وقال : { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } ، [ الإسراء : 82 ] ، وقال : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [ التوبة : 14، 15 ] .
ومرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو فساد يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإدراكه إما أن يذهب كالعمى والصمم، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرًا، وكما يخيل إليه أشياء لا حقيقة لها في الخارج .
وأما فساد حركته الطبيعية، فمثل أن تضعف قوته عن الهضم، أو مثل أن يبغض الأغذية التي يحتاج إليها، ويحب الأشياء التي تضره، ويحصل له من الآلام بحسب ذلك، ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يهلك، بل فيه نوع قوة على إدراك الحركة الإرادية في الجملة، فيتولد من ذلك ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية، أو الكيفية .(184/88)
فالأول : إما نقص المادة فيحتاج إلى غذاء، وإما بسبب زيادتها، / فيحتاج إلى استفراغ .
والثاني : كقوة في الحرارة والبرودة خارج عن الاعتدال، فيداوى .
فَصْل
وكذلك مرض القلب، هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره، وإرادته، فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق، أو يراه على خلاف ما هو عليه، وإرادته بحيث يبغض الحق النافع، ويحب الباطل الضار، فلهذا يفسر المرض تارة بالشك والريب . كما فسر مجاهد وقتادة قوله : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [ البقرة : 10 ] أي : شك، وتارة يفسر بشهوة الزنا كما فسر به قوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
ولهذا صنف الخرائطي كتاب [ اعتلال القلوب ] أي مرضها، وأراد به مرضها بالشهوة، والمريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح، فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك، من الأمور التي لا يقوى عليها لضعفه بالمرض .
والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة لا تطيق ما يطيقه / القوي، والصحة تحفظ بالمثل، وتزال بالضد، والمرض يقوى بمثل سببه، ويزول بضده، فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه، وزاد ضعف قوته، حتى ربما يهلك، وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض، كان بالعكس .
ومرض القلب ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك، فإن ذلك يؤلم القلب . قال اللّه تعالى : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [ التوبة : 14، 15 ] ، فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من الألم، ويقال : فلان شفى غيظه، وفي القود استشفاء أولياء المقتول، ونحو ذلك . فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن، وكل هذه آلام تحصل في النفس .(184/89)
وكذلك الشك والجهل يؤلم القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال ) . والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه، حتى يحصل له العلم واليقين، ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق : قد شفاني بالجواب .
والمرض دون الموت، فالقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فله موت ومرض، وحياة وشفاء، وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه؛ فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه، وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من / أسباب صلاحه وشفائه . قال تعالى : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [ الحج : 53 ] ؛ لأن ذلك أورث شبهة عندهم، والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم ضعيفة بالمرض، فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم، وهؤلاء كانت قلوبهم قاسية عن الإيمان، فصار فتنة لهم .
وقال : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } [ الأحزاب : 60 ] ، كما قال : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } [ المدثر : 31 ] ، لم تمت قلوبهم كموت الكفار والمنافقين، و ليست صحيحة صالحة كصالح قلوب المؤمنين، بل فيها مرض شبهة وشهوات، وكذلك { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] ، وهو مرض الشهوة، فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه، فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض .(184/90)
والقرآن شفاء لما في الصدور، ومن في قلبه أمراض الشبهات، والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم، والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب، فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره، فيبقى القلب محبًا للرشاد مبغضًا للغي، بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد .
/فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، حتى يصلح القلب فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي، ويغتذى القلب من الإيمان، والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذى البدن بما ينميه ويقومه، فإن زكاة القلب مثل نماء البدن .
والزكاة في اللغة : النماء والزيادة في الصلاح، يقال : زكا الشيء : إذا نما في الصلاح، فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له، ولابد مع ذلك من منع ما يضره، فلا ينمو البدن إلا بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره، وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا .
والصدقة لما كانت تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، صار القلب يزكو بها، وزكاته معنى زائد على طهارته من الذنب . قال اللّه تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] .
وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب .(184/91)
وكذلك ترك المعاصي، فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن، ومثل الدغلّ ] الدَّغلُ : دَخَلٌ فى الأمر مُفْسِدٌ، والشجر الكثير الملتف [ في الزرع، فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية واستراحت فينمو البدن، وكذلك القلب إذا / تاب من الذنوب كان استفراغًا من تخليطاته، حيث خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه .
فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل .
قال تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [ النور : 21 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } [ النور : 28 ] ، وقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ النور : 30 ] ، وقال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [ الأعلى : 14، 15 ] ، وقال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 9، 10 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } [ عبس : 3 ] ، وقال تعالى : { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى . وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [ النازعات : 18، 19 ] ، فالتزكية وإن كان أصلها النماء، والبركة وزيادة الخير، فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا .(184/92)
وقال : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6، 7 ] ، وهي التوحيد والإيمان الذي به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وإثبات إلهية الحق في القلب، وهو حقيقة لا إله إلا اللّه . وهذا أصل ما تزكو به القلوب .
والتزكية : جعل الشيء زكيًا، إما في ذاته، وإما في الاعتقاد والخبر، / كما يقال : عدلته إذا جعلته عدلا في نفسه، أو في اعتقاد الناس، قال تعالى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] ، أي : تخبروا بزكاتها، وهذا غير قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ؛ ولهذا قال : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى } [ النجم : 32 ] ، وكان اسم زينب برة، فقيل تزكى نفسها، فسماها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زينب .
وأما قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 49 ] ، أي : يجعله زاكيًا، ويخبر بزكاته كما يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم .
والعدل هو : الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده؛ ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالمًا لنفسه، والظلم خلاف العدل، فلم يعدل على نفسه، بل ظلمها، فصلاح القلب في العدل، وفساده في الظلم، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه، فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر . قال تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] .(184/93)
والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلاح قبل أثره في الخارج، فصلاحها عدل لها وفسادها ظلم لها . قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] ، وقال تعالى : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، قال بعض السلف : إن للحسنة لنورًا في القلب، وقوة في البدن، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمة في / القلب، وسوادًا في الوجه ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق .
وقال تعالى : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور : 21 ] ، وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] ، وقال : { وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا } [ الأنعام : 70 ] ، وتبسل أي : ترتهن وتحبس وتؤسر؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه، والمرض إنما هو بإخراج المزاج، مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه، لكن الأمثل، فالأمثل، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والانحراف، والعدل المحض في كل شيء متعذر علمًا وعملًا، ولكن الأمثل فالأمثل؛ ولهذا يقال : هذا أمثل، ويقال للطريقة السلفية : الطريقة المثلى، وقال تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [ النساء : 129 ] ، وقال تعالى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [ الأنعام : 152 ] .(184/94)
واللّه ـ تعالى ـ بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة اللّه وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس .
/والظلم ثلاثة أنواع، والظلم كله من أمراض القلوب، والعدل صحتها وصلاحها . قال أحمد بن حنبل لبعض الناس : لو صححت لم تخف أحدًا، أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك، كمرض الشرك والذنوب .
وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته، قال تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [ الأنعام : 122 ] .
لذلك ذكر اللّه حياة القلوب، ونورها، وموتها، وظلمتها في غير موضع كقوله : { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ يس : 70 ] ، وقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، ثم قال : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 24 ] ، وقال تعالى : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ } [ الروم : 19 ] ، ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن . وفي الحديث الصحيح : ( مثل البيت الذي يذكر اللّه فيه والبيت الذي لا يذكر اللّه فيه، مثل الحي والميت ) ، وفي الصحيح أيضًا : ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا ) .(184/95)
وقد قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } [ الأنعام : 39 ] ، وذكر ـ سبحانه ـ آية النور وآية الظلمة، فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ } [ النور : 35 ] ، فهذا مثل نور الإيمان في قلوب المؤمنين، ثم قال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ . أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [ النور : 39، 40 ] .
فالأول : مثل الاعتقادات الفاسدة، والأعمال التابعة لها، يحسبها صاحبها شيئًا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيئًا ينفعه، فوفاه اللّه حسابه على تلك الأعمال .
والثاني : مثل للجهل البسيط، وعدم الإيمان والعلم، فإن صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض لا يبصر شيئًا، فإن البصر إنما هو بنور الإيمان والعلم .(184/96)
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ يوسف : 24 ] ، وهو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه، فصرف اللّه به ما كان هم به، وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب / عليه خطيئة إذا فعل خيرًا، ولم يفعل سيئة . وقال تعالى : { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [ إبراهيم : 1 ] ، وقال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] ، وقال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] .
ولهذا ضرب اللّه للإيمان مثلين، مثلًا بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد، ومثلًا بالنار التي بها النور وما يقترن بما يوقد عليه من الزبد .(184/97)
وكذلك ضرب اللّه للنفاق مثلين قال تعالى : { أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ } [ الرعد : 17 ] ، وقال تعالى في المنافقين : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ . صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ . أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ . يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 17ـ20 ] .
/فضرب لهم مثلًا كالذي أوقد النار كلما أضاءت أطفأها اللّه، والمثل المائي كالمثل النازل من السماء، وفيه ظلمات ورعد وبرق يرى . ولبسط الكلام في هذه الأمثال موضع آخر .(184/98)
وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها، وفي الدعاء المأثور : ( اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا ) ، والربيع : هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن مما ينبت الربيع ما يَقْتل حَبَطًا أو يُلِمُّ ) . والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع، لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه، وغيرهم يسمى الربيع الفصل الذي يلي الشتاء، فإن فيه تخرج الأزهار التي تخلق منها الثمار، وتنبت الأوراق على الأشجار .
والقلب الحي المنور؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل، والقلب الميت فإنه لا يسمع ولا يبصر . قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ } [ يونس : 42، 43 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } الآيات [ الأنعام : 25 ] .(184/99)
فأخبر أنهم لا يفقهون بقلوبهم ولا يسمعون بآذانهم ولا يؤمنون بما رأوه من النار، كما أخبر عنهم حيث قالوا : { قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] . فذكروا الموانع على القلوب والسمع والأبصار، وأبدانهم حية تسمع الأصوات وترى الأشخاص؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم، لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب وتنكح، ولهذا قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً } .
فشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي لا تسمع إلا نداء، كما قال في الآية الأخرى : { أّمً تّحًسّبٍ أّنَّ أّكًثّرّهٍمً يّسًمّعٍونّ أّوً يّعًقٌلٍونّ إنً هٍمً إلاَّ كّالأّنًعّامٌ بّلً هٍمً أّضّلٍَ سّبٌيلاْ } [ الفرقان : 44 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] .(184/100)
/فطائفة من المفسرين تقول في هذه الآيات وما أشبهها كقوله : { وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، وأمثالها مما ذكر اللّه في عيوب الإنسان وذمها، فيقول هؤلاء : هذه الآية في الكفار، والمراد بالإنسان هنا الكافر، فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر الإسلام في هذا الذم والوعيد نصيب، بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرًا للشرك من العرب، أو إلى من يعرفهم من مظهري الكفر، كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند، ونحو ذلك، فلا ينتفع بهذه الآيات التي أنزلها اللّه ليهتدي بها عباده .
فيقال : أولًا : المظهرون للإسلام فيهم مؤمن ومنافق، والمنافقون كثيرون في كل زمان، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار .
ويقال : ثانيًا : الإنسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر، وإن كان معه إيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر ) . فأخبر أنه من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق .(184/101)
/وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لأبي ذر ـ رضي اللّه عنه ـ : ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) . وأبو ذر ـ رضي اللّه عنه ـ من أصدق الناس إيمانًا، وقال في الحديث الصحيح : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية : الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والنياحة، والاستسقاء بالنجوم ) ، وقال في الحديث الصحيح : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) . قالوا : اليهود والنصارى ؟ ! قال : ( فمن ؟ ! ) . وقال أيضًا في الحديث الصحيح : " لتأخذن أمتي ما أخذت الأمم قبلها، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع " قالوا : فارس والروم ؟ ! قال : ( ومن الناس إلا هؤلاء ) .
وقال ابن أبي مُلَيْكَة : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، وعن علي ـ أو حذيفة ـ رضي اللّه عنهما ـ قال : القلوب أربعة : قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذاك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذاك قلب المنافق، وقلب فيه مادتان : مادة تمده الإيمان، ومادة تمده النفاق، فأولئك قوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا .
وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر اللّه في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر، وهذا كما يقول بعضهم في قوله : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] . فيقولون : المؤمن قد هدى إلى الصراط المستقيم، فأي / فائدة في طلب الهدى ؟ ! ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم : نم حتى آتيك، أو يقول بعضهم : ألزم قلوبنا الهدى، فحذف الملزوم، ويقول بعضهم : زدني هدى، وإنما يوردون هذا السؤال؛ لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه، فإن المراد به العمل بما أمر اللّه به، وترك ما نهى اللّه عنه في جميع الأمور .(184/102)
والإنسان وإن كان أقر بأن محمدًا رسول اللّه، وأن القرآن حق على سبيل الإجمال، فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره، وما أمر به، وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفه، وما عرفه فكثير منه لم يعمل بعلمه، ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة، فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما الأمور العامة الكلية، لا يمكن غير ذلك لا تذكر ما يخص به كل عبد؛ ولهذا أمر الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم .
والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله، يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلًا، ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات، ويتناول إلهام العمل بعلمه، فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل بعلمه، ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [ الفتح : 1، 2 ] ، وقال في حق موسى وهارون : { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ . وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الصافات : 117، 118 ] .
والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء اللّه من الأمور الخبرية والعلمية الاعتقادية والعملية، مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدًا حق، والقرآن حق، فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا، ثم الذين علموا ما أمر اللّه به أكثرهم يعصونه ولا يحتذون حذوه، فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال؛ لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهو عنه، والذين هداهم اللّه من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء اللّه المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم اللّه بهذا الدعاء في كل صلاة، مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى اللّه دائمًا في أن يهديهم الصراط المستقيم .(184/103)
فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء اللّه المتقين . قال سهل بن عبد اللّه التستري : ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار، وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل وهذا حقيقة قول من يقول : ثبتنا واهدنا لزوم الصراط .
وقول من قال : زدنا هدى، يتناول ما تقدم، لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم، فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد، ولا يكون مهتديًا حتى يعمل في المستقبل بالعلم، وقد لا يحصل العلم في / المستقبل بل يزول عن القلب، وإن حصل فقد لا يحصل العمل، فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء؛ ولهذا فرضه اللّه عليهم في كل صلاة، فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه، وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة، واللّه أعلم .
واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الإرادية، أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة من النظار في علم اللّه وقدرته، كأبي الحسين البصري، قالوا : إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر، بل الحياة صفة قائمة بالموصوف، وهي شرط في العلم والإرادة والقدرة على الأفعال الاختيارية، وهي أيضًا مستلزمة لذلك، فكل حي له شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة، وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري فهو حي .
والحياء مشتق من الحياة، فإن القلب الحي يكون صاحبه حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح، فإن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الحياء من الإيمان ) ، وقال : ( الحياء والعي شعبتان من الإيمان . والبذاء والبيان شعبتان من النفاق ) .(184/104)
فإن الحي يدفع ما يؤذيه، بخلاف الميت الذي لا حياة فيه فإنه يسمى وقحًا، والوقاحة الصلابة وهو اليبس المخالف لرطوبة الحياة، فإذا كان وقحًا يابسًا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه، وامتناعه من القبح كالأرض / اليابسة لا يؤثر فيها وطء الأقدام، بخلاف الأرض الخضرة .
ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح، وله إرادة تمنعه عن فعل القبح، بخلاف الوقح الذي ليس بحي فلا حياء معه ولا إيمان يزجره عن ذلك . فالقلب إذا كان حيًا فمات الإنسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن، ليست هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها .
ولهذا قال تعالى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } [ البقرة : 154 ] ، وقال تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } [ آل عمران : 169 ] مع أنهم موتى دخلون في قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] ، وفي قوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، وقوله : { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ الحج : 66 ] ، فالموت المثبت غير الموت المنفي . المثبت : هو فراق الروح البدن، والمنفي : زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن .(184/105)
وهذا كما أن النوم أخو الموت، فيسمى وفاة ويسمى موتًا، وإن كانت الحياة موجودة فيهما . قال اللّه تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ الزمر : 42 ] . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول : ( الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ) ، وفي حديث آخر : / ( الحمد للّه الذي رد على روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا ) ، وإذا أوى إلى فراشه يقول : ( اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها، لك مماتها ومحياها، إن أمسكتها فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) ، ويقول : ( باسمك اللّهم أموت وأحيا ) .
فَصْل
ومن أمراض القلوب الحسد، كما قال بعضهم في حده : إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأغنياء، فلا يجوز أن يكون الفاضل حسودًا؛ لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل، وقد قال طائفة من الناس : إنه تمنى زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، بخلاف الغبطة : فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط .
والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان :
أحدهما : كراهة للنعمة عليه مطلقًا، فهذا هو الحسد المذموم، وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه، فيكون ذلك مرضًا في قلبه، ويلتذ بزوال النعمة عنه، وإن لم يحصل له نفع بزوالها، لكن نفعه / زوال الألم الذي كان في نفسه، ولكن ذلك الألم لم يزل إلا بمباشرة منه، وهو راحة، وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه والمرض باق؛ فإن بغضه لنعمة اللّه على عبده مرض . فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها، وقد يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود .(184/106)
والحاسد ليس له غرض في شيء معين، لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع؛ ولهذا قال من قال : إنه تمنى زوال النعمة، فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه .
والنوع الثاني : أن يكره فضل ذلك الشخص عليه، فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه، فهذا حسد وهو الذي سموه الغبطة، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حسدًا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ أنه قال : ( لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه اللّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه اللّه مالا فسلطه على هلكته في الحق ) هذا لفظ ابن مسعود، ولفظ ابن عمر : ( رجل آتاه اللّه القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه اللّه مالًا فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار ) رواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه : ( لا حسد إلا في اثنين : رجل آتاه اللّه القرآن فهو يتلوه الليل والنهار، فسمعه رجل فقال : ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا، / فعملت فيه مثل ما يعمل هذا، ورجل آتاه اللّه مالا فهو يهلكه في الحق . فقال رجل : ياليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا ) . فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا في موضعين هو الذي سماه أولئك الغبطة، وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه .
فإن قيل : إذًا لم سمي حسدًا وإنما أحب أن ينعم اللّه عليه ؟ قيل : مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته أن يتفضل عليه، ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك، فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدًا؛ لأنه كراهة تتبعها محبة، وأما من أحب أن ينعم اللّه عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس، فهذا ليس عنده من الحسد شيء .(184/107)
ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني، وقد تسمى المنافسة، فيتنافس الاثنان في الأمر المحبوب المطلوب، كلاهما يطلب أن يأخذه، وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر، كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الآخر، والتنافس ليس مذمومًا مطلقًا، بل هو محمود في الخير، قال تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ . تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ . يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ . خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 22ـ 26 ] .
فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم، لا ينافس في نعيم الدنيا / الزائل، وهذا موافق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نهى عن الحسد إلا فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه، ومن أوتي المال فهو ينفقه، فأما من أوتي علمًا ولم يعمل به ولم يعلمه، أو أوتي مالا ولم ينفقه في طاعة اللّه فهذا لا يحسد ولا يتمنى مثل حاله، فإنه ليس في خير يرغب فيه، بل هو معرض للعذاب، ومن ولي ولاية فيأتيها بعلم وعدل، أدى الأمانات إلى أهلها، وحكم بين الناس بالكتاب والسنة، فهذا درجته عظيمة، لكن هذا في جهاد عظيم، كذلك المجاهد في سبيل اللّه .
والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم؛ فلهذا لم يذكره، وإن كان المجاهد في سبيل اللّه أفضل من الذي ينفق المال، بخلاف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدو من خارج، فإن قدر أنهما لهما عدو يجاهدانه، فذلك أفضل لدرجتهما، وكذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم المصلي والصائم والحاج؛ لأن هذه الأعمال لا يحصل منها في العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص، ويسودونه ما يحصل بالتعليم والإنفاق .(184/108)
والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة، وإلا فالعامل لا يحسد في العادة، ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره، بخلاف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرًا؛ ولهذا يوجد بين أهل / العلم الذين لهم أتباع من الحسد ما لا يوجد فيمن ليس كذلك، وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله، فهذا ينفع الناس بقوت القلوب وهذا ينفعهم بقوت الأبدان، والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا .
ولهذا ضرب اللّه ـ سبحانه ـ مثلين : مثلًا بهذا، ومثلًا بهذا فقال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ النحل : 75، 76 ] .
والمثلان ضربهما اللّه ـ سبحانه ـ لنفسه المقدسة، ولما يعبد من دونه، فإن الأوثان لا تقدر لا على عمل ينفع، ولا على كلام ينفع، فإذا قدر عبد مملوك لا يقدر على شيء، وآخر قد رزقه اللّه رزقًا حسنًا فهو ينفق منه سرًا وجهرًا هل يستوى هذا المملوك العاجز عن الإحسان وهذا القادر على الإحسان المحسن إلى الناس سرًا وجهرًا . وهو ـ سبحانه ـ قادر على الإحسان إلى عباده، وهو محسن إليهم دائما، فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي لا يقدر على شيء حتى يشرك به معه، وهذا مثل الذي أعطاه اللّه مالًا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار .(184/109)
/والمثل الثاني إذا قدر شخصان أحدهما أبكم لا يعقل ولا يتكلم ولا يقدر على شىء، وهو مع هذا كَلُّ على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير، فليس فيه من نفع قط، بل هو كَلّ على من يتولى أمره، وآخر عالم عادل يأمر بالعدل، ويعمل بالعدل، فهو على صراط مستقيم، وهذا نظير الذي أعطاه اللّه الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها الناس .
وقد ضرب ذلك مثلًا لنفسه، فإنه ـ سبحانه ـ عالم عادل قادر يأمر بالعدل، وهو قائم بالقسط على صراط مستقيم . كما قال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ آل عمران : 18 ] ، وقال هود : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] .
ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس، كان عبد اللّه يعلم الناس وأخوه يطعم الناس، فكانوا يعظمون على ذلك، ورأى معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال : هذا واللّه الشرف، أو نحو ذلك .
هذا وعمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ نافس أبا بكر ـ رضي اللّه عنه ـ الإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ قال : أمرنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر أن سبقته يومًا . قال فجئت بنصف مالي، قال : فقال لي رسول / اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قلت : مثله، وأتى أبو بكر ـ رضي اللّه عنه ـ بكل ما عنده، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( ما أبقيت لأهلك ؟ ) قال : أبقيت لهم اللّه ورسوله فقلت : لا أسابقك إلى شيء أبدًا .
فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ أفضل منه وهو أنه خال من المنافسة مطلقًا لا ينظر إلى حال غيره .(184/110)
وكذلك موسى صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : ما يبكيك : فقال : ( أبكي، لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ) ، أخرجاه في الصحيحين، وروى في بعض الألفاظ المروية غير الصحيح : ( مررنا على رجل وهو يقول ويرفع صوته : أكرمته وفضلته، قال : فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السلام، فقال : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا أحمد، قال : مرحبًا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، قال : ثم اندفعنا فقلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا موسى بن عمران، قلت : ومن يعاتب ؟ قال : يعاتب ربه فيك، قلت : ويرفع صوته على ربه ؟ ! قال : إن اللّه ـ عز وجل ـ قد عرف صدقه ) .
/وعمر ـ رضي اللّه عنه ـ كان مشبهًا بموسى، ونبينا حاله أفضل من حال موسى، فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك .
وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه، كانوا سالمين من جميع هذه الأمور، فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة، وإن كان ذلك مباحًا؛ ولهذا استحق أبو عبيدة ـ رضي اللّه عنه ـ أن يكون أمين هذه الأمة، فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه، كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته؛ ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان، ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لا يزاحم على الكبرى، ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه، وإذا أؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على الغنم، فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه .(184/111)
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ قال : كنا يومًا جلوسًا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : ( يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة ) ، قال : فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوء، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم : اتبعه عبد اللّه بن عمرو بن العاص ـ رضي /اللّه عنه ـ فقال : إني لاحيت أبى، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت . قال : نعم، قال أنس ـ رضي اللّه عنه ـ : فكان عبد اللّه يحدث أنه بات عنده ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه ذكر اللّه ـ عز وجل ـ وكبر حتى يقوم إلى صلاة الفجر، فقال عبد اللّه : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما فرغنا من الثلاث وكدت أن أحقر عمله قلت : يا عبد اللّه لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات : ( يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ) ، فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوى إليك لأنظر ما عملك، فأقتدى بذلك، فلم أرَك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت، غير أنني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًا ولا حسدًا على خير أعطاه اللّه إياه . قال عبد اللّه : هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق . فقول عبد اللّه ابن عمرو له : هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق، يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد .(184/112)
وبهذا أثنى اللّه ـ تعالى ـ على الأنصار فقال : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] ، أي : مما أوتي إخوانهم المهاجرون، قال المفسرون : لا يجدون في صدورهم حاجة أي : حسدًا وغيظًا مما أوتي المهاجرون، ثم قال بعضهم : من مال الفيء، وقيل : من الفضل والتقدم، / فهم لا يجدون حاجة مما أتوا من المال ولا من الجاه، والحسد يقع على هذا .
وكان بين الأوس والخزرج منافسة على الدين، فكان هؤلاء إذا فعلوا ما يفضلون به عند اللّه ورسوله أحب الآخرون أن يفعلوا نظير ذلك، فهو منافسة فيما يقربهم إلى اللّه كما قال : { خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 26 ] .
وأما الحسد المذموم كله، فقد قال تعالى في حق اليهود : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ } [ البقرة : 109 ] ، يودون : أي : يتمنون ارتدادكم حسدًا، فجعل الحسد هو الموجب لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق؛ لأنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل، بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم، وكذلك في الآية الأخرى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا . فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } [ النساء : 54، 55 ] ، وقال تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ . مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ . وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ . وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ . وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [ سورة الفلق ] .(184/113)
وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سحروه : سحره لبَيِد بن الأعصم اليهودي، فالحاسد / المبغض للنعمة على من أنعم اللّه عليه بها ظالم معتد، والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منهى عن ذلك إلا فيما يقربه إلى اللّه، فإذا أحب أن يعطي مثل ما أعطى مما يقربه إلى اللّه فهذا لا بأس به، وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل .
ثم هذا الحسد، إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالمًا معتديًا مستحقًا للعقوبة إلا أن يتوب، وكان المحسود مظلومًا مأمورًا بالصبر والتقوى، فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه، كما قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] ، وقد ابتلى يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يوسف : 8 ] ، فحسدوهما على تفضيل الأب لهما؛ ولهذا قال يعقوب ليوسف : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يوسف : 5 ] .
ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيقًا لمن ذهب به إلى بلاد الكفر فصار مملوكًا لقوم كفار، ثم إن يوسف ابتلى بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها، ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم، واختار السجن على الفاحشة، وآثر عذاب / الدنيا على سخط اللّه، فكان مظلومًا من جهة من أحبه لهواه، وغرضه الفاسد .(184/114)
فهذه المحبة أحبته لهوي محبوبها شفاؤها وشفاؤه إن وافقها، وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير ملقى في الجب، ثم أسيرًا مملوكًا بغير اختياره، فأولئك أخرجوه من إطلاق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير اختياره، وهذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوسًا مسجونًا باختياره، فكانت هذه أعظم في محنته، وكان صبره هنا صبرًا اختياريًا اقترن به التقوى، بخلاف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر عليها صبر الكرام سلا سلو البهائم، والصبر الثاني أفضل الصبرين؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينََ } [ يوسف : 90 ] .
وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، وإن لم يفعل أوذي وعوقب، فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه : إما الحبس، وإما الخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين، حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون .
وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبرًا اختياريًا، فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله / باختياره، وكان هذا أعظم من صبر يوسف؛ لأن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل بالحبس، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه . وأهون ما عوقب به الحبس، فإن المشركين حبسوه وبني هاشم بالشعب مدة، ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه، فلما بايعت الأنصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحد يهاجر إلا سرًا، إلا عمر بن الخطاب ونحوه، فكانوا قد ألجؤوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن ذلك وحبسوه .(184/115)
فكان ما حصل للمؤمنين من الأذى والمصائب هو باختيارهم طاعة للّه ورسوله، لم يكن من المصائب السماوية التي تجرى بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف، لا من جنس التفريق بينه وبين أبيه، وهذا أشرف النوعين، وأهلها أعظم درجة ـ وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه ـ فإن هذا أصيب وأوذي باختياره طاعة للّه يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عمل صالح، قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ التوبة : 120 ] .
/بخلاف المصائب التي تجرى بلا اختيار العبد، كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله، فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها لا على نفس ما يحدث من المصيبة، لكن المصيبة يكفر بها خطاياه، فإن الثواب إنما يكون على الأعمال الاختيارية، وما يتولد عنها .
والذين يؤذون على الإيمان، وطاعة اللّه ورسوله، ويحدث لهم بسبب ذلك حرج، أو مرض، أو حبس، أو فراق وطن وذهاب مال وأهل، أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال هم في ذلك علي طريقة الأنبياء وأتباعهم كالمهاجرين الأولين، فهؤلاء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح، كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار، وإن كانت هذه الآثار ليست عملًا فعله يقوم به لكنها متسببة عن فعله الاختياري، وهي التي يقال لها متولدة .
وقد اختلف الناس : هل يقال : إنها فعل لفاعل السبب، أو للّه أو لا فاعل لها، والصحيح أنها مشتركة بين فاعل السبب، وسائر الأسباب؛ولهذا كتب له بها عمل صالح .(184/116)
والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا قليل من الناس؛ ولهذا يقال : ما خلا / جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه، وقد قيل للحسن البصري : أيحسد المؤمن ؟ فقال : ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك ! ولكن عمه في صدرك، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يدًا ولسانًا .
فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر، فيكره ذلك من نفسه، وكثير من الناس الذين عندهم دين لا يعتدون على المحسود، فلا يعينون من ظلمه، ولكنهم أيضًا لا يقومون بما يجب من حقه، بل إذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه ولا يذكرون محامده، وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا، وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه مفرطون في ذلك، لا معتدون عليه، وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضًا في مواضع، ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود، وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب .
ومن اتقى اللّه وصبر فلم يدخل في الظالمين، نفعه اللّه بتقواه؛ كما جرى لزينب بنت جحش ـ رضي اللّه عنها ـ فإنها كانت هي التي تسامى عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب، لا سيما المتزوجات بزوج واحد، فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه، فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها .
/وهكذا الحسد يقع كثيرًا بين المتشاركين في رئاسة أو مال، إذا أخذ بعضهم قسطًا من ذلك وفات الآخر، ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه، كحسد إخوة يوسف، وكحسد ابني آدم أحدهما لأخيه، فإنه حسده لكون أن اللّه تقبل قربانه، ولم يتقبل قربان هذا، فحسده على ما فضله اللّه من الإيمان والتقوى ـ كحسد اليهود للمسلمين ـ وقتله على ذلك؛ ولهذا قيل : أول ذنب عصى اللّه به ثلاثة : الحرص، والكبر، والحسد، فالحرص من آدم، والكبر من إبليس، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل .(184/117)
وفي الحديث : ( ثلاث لا ينجو منهن أحد : الحسد، والظن، والطِّيرة، وسأحدثكم بما يخرج من ذلك : إذا حسدت فلا تبغض، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض ) رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة .
وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد، والبغضاء وهي الحالقة، لا أقول : تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين ) فسماه داء، كما سمى البخل داء في قوله : ( وأي داء أدوأ من البخل ؟ ! ) فعلم أن هذا مرض، وقد جاء في حديث آخر : ( أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء، والأدواء ) فعطف الأدواء على الأخلاق والأهواء .
/فإن الخلق ما صار عادة للنفس، وسَجِيَّة، قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] ، قال ابن عباس، وابن عيينة، وأحمد بن حنبل ـ رضي اللّه عنهم ـ على دين عظيم، وفي لفظ عن ابن عباس : على دين الإسلام، وكذلك قالت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ : كان خلقه القرآن . وكذلك قال الحسن البصري : أدب القرآن هو الخلق العظيم .
وأما الهوى، فقد يكون عارضًا، والداء هو المرض، وهو تألم القلب والفساد فيه، وقرن في الحديث الأول الحسد بالبغضاء؛ لأن الحاسد يكره أولًا فضل اللّه على ذلك الغير، ثم ينتقل إلى بغضه، فإن بغض اللازم يقتضى بغض الملزوم، فإن نعمة اللّه إذا كانت لازمة وهو يحب زوالها، وهي لا تزول إلا بزواله أبغضه وأحب عدمه، والحسد يوجب البغي، كما أخبر اللّه ـ تعالى ـ عمن قبلنا : أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، فلم يكن اختلافهم لعدم العلم، بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض، كما يبغى الحاسد على المحسود .(184/118)
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد اللّه إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصدّ هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس أيضًا : ( والذي /نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
وقد قال تعالى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا . وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ النساء : 72، 73 ] .
فهؤلاء المبطئون لم يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم، بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم، وإن أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها، بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ، فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم، أو شر دنيوي ينصرف عنهم، إذا كانوا لا يحبون اللّه ورسوله والدار الآخرة، ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم، وأحبوا ما وصل إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة، ومن لم يسره ما يسر المؤمنين، ويسوؤه ما يسوء المؤمنين فليس منهم .
ففي الصحيحين عن عامر قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر ) ، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) وشبك بين أصابعه .(184/119)
والشح مرض، والبخل مرض، والحسد شر من البخل، كما في الحديث / الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ) وذلك أن البخيل يمنع نفسه، والحسود يكره نعمة اللّه على عباده، وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد لنظرائه، وقد يكون فيه بخل بلا حسد لغيره والشح أصل ذلك .
وقال تعالى : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } [ الحشر : 9 ] ، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ) ، وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول : اللّهم قني شح نفسي، فقال له رجل : ما أكثر ما تدعو بهذا . فقال : إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة . والحسد يوجب الظلم .
فَصْل
فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها، بل وحبها لما يضرها؛ ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب، وأما مرض الشهوة، والعشق فهو حب النفس لما يضرها، وقد يقترن به بغضها لما ينفعها، والعشق مرض نفساني، وإذا قوى أثر في البدن فصار مرضًا في الجسم، إما من أمراض / الدماغ كالماليخوليا؛ ولهذا قيل فيه : هو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا، وأما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك .
والمقصود هنا مرض القلب؛ فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهى ما يضره . وإذا لم يطعم ذلك تألم، وإن أطعم ذلك قوى به المرض وزاد .
كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملامسة وسماعًا، بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي ذلك، فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب، وإن أعطى مشتهاه قوي مرضه، وكان سببًا لزيادة الألم .(184/120)
وفي الحديث : ( إن اللّه يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب ) ، وفي مناجاة موسى المأثورة عن وهب التي رواها الإمام أحمد في كتاب ] الزهد [ يقول اللّه تعالى : ( إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة، وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة، وما ذلك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدنيا ولم يطفئه الهوى ) . وإنما شفاء المريض بزوال مرضه، بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه .
والناس في العشق على قولين :
/قيل : إنه من باب الإرادات، وهذا هو المشهور .
وقيل : من باب التصورات، وإنه فساد في التخييل، حيث يتصور المعشوق على ما هو به، قال هؤلاء : ولهذا لا يوصف اللّه بالعشق، ولا أنه يعشق؛ لأنه منزه عن ذلك، ولا يحمد من يتخيل فيه خيالًا فاسدًا .
وأما الأولون فمنهم من قال : يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة، واللّه يحب ويحب، وروى في أثر عن عبد الواحد بن زيد أنه قال : لا يزال عبدي يتقرب إليَ يعشقني وأعشقه . وهذا قول بعض الصوفية .
والجمهور لا يطلقون هذا اللفظ في حق اللّه؛ لأن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي، واللّه ـ تعالى ـ محبته لا نهاية لها، فليست تنتهي إلى حد لا تنبغي مجاوزته .
قال هؤلاء : والعشق مذموم مطلقًا لا يمدح لا في محبة الخالق، ولا المخلوق؛ لأنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود، وأيضًا فإن لفظ العشق إنما يستعمل في العرف في محبة الإنسان لامرأة أو صبي، لا يستعمل في محبة كمحبة الأهل والمال والوطن والجاه، ومحبة الأنبياء والصالحين، وهو مقرون كثيرًا بالفعل المحرم : إما بمحبة امرأة أجنبية أو صبي، يقترن به النظر المحرم، واللمس المحرم، وغير ذلك من الأفعال المحرمة .(184/121)
/وأما محبة الرجل لامرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل بحيث يفعل لأجلها ما لا يحل، ويترك ما يجب، كما هو الواقع كثيرًا، حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة، لمحبته الجديدة، وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه ودنياه، مثل أن يخصها بميراث لا تستحقه، أو يعطي أهلها من الولاية والمال ما يتعدى به حدود اللّه، أو يسرف في الإنفاق عليها، أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه، وهذا في عشق من يباح له وطؤها .
فكيف عشق الأجنبية والذُّكران من العالمين ؟ ففيه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو من الأمراض التي تفسد دين صاحبها وعرضه، ثم قد تفسد عقله ثم جسمه، قال تعالى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] .
ومن في قلبه مرض الشهوة، وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض، والطمع الذي يقوى الإرادة والطلب، ويقوي المرض بذلك، بخلاف ما إذا كان آيسًا من المطلوب، فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الإرادة فيضعف الحب، فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيس منه، فلا يكون مع الإرادة عمل أصلًا، بل يكون حديث نفس إلا أن يقترن بذلك كلام أو نظر، ونحو ذلك فيأثم بذلك .
/فأما إذا ابتلى بالعشق وعف وصبر، فإنه يثاب على تقواه للّه، وقد روى في الحديث : ( أن من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات كان شهيدًا ) وهومعروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا، و فيه نظر ولا يحتج بهذا .(184/122)
لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرًا وقولًا وعملًا، وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم، إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة، وإما نوع طلب للمعشوق، وصبر على طاعة اللّه، وعن معصيته، وعلى ما في قلبه من ألم العشق، كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة، فإن هذا يكون ممن اتقى اللّه وصبر، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .
وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس، وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه اللّه فينهاها خشية من اللّه كان ممن دخل في قوله : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 40، 41 ] .
فالنفس إذا أحبت شيئًا سعت في حصوله بما يمكن، حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية، فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضًا مذمومًا وفعل ذلك كان آثمًا، مثل أن يبغض شخصًا لحسده له فيؤذي من له به تعلق، إما بمنع حقوقهم، أو بعدوان عليهم . أو لمحبة له / لهواه معه فيفعل لأجله ما هو محرم، أو ما هو مأمور به للّه فيفعله لأجل هواه لا للّه، وهذه أمراض كثيرة في النفوس، والإنسان قد يبغض شيئًا فيبغض لأجله أمورًا كثيرة بمجرد الوهم والخيال .
وكذلك يحب شيئًا فيحب لأجله أمورًا كثيرة، لأجل الوهم والخيال، كما قال شاعرهم :
أحب لحبها السودان حتى ** أحب لحبها سود الكلاب
فقد أحب سوداء، فأحب جنس السواد، حتى في الكلاب، وهذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته .
فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يعافى قلوبنا من كل داء، ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء .(184/123)
والقلب إنما خلق لأجل حب اللّه ـ تعالى ـ وهذه الفطرة التي فطر اللّه عليها عباده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ) ثم يقول أبو هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أقرؤوا إن شئتم : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] ، أخرجه البخاري ومسلم .
/فاللّه ـ سبحانه ـ فطر عباده على محبته وعبادته وحده، فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفًا باللّه محبًا له عابدًا له وحده، لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وهذه كلها تغير فطرته التي فطره عليها، وإن كانت بقضاء اللّه وقدره ـ كما يغير البدن بالجدع ـ ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر اللّه ـ تعالى ـ لها من يسعى في إعادتها إلى الفطرة .
والرسل ـ صلى اللّه عليهم وسلم ـ بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها لا لتغيير الفطرة وتحويلها، وإذا كان القلب محبًا للّه وحده مخلصًا له الدين، لم يبتل بحب غيره أصلا، فضلًا أن يبتلى بالعشق، وحيث ابتلى بالعشق فلنقص محبته للّه وحده .
ولهذا لما كان يوسف محبًا للّه مخلصًا له الدين لم يبتل بذلك، بل قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يوسف : 24 ] . وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها؛ فلهذا ابتليت بالعشق، وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب إلى اللّه الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق :
أحدهما : إنابته إلى اللّه؛ ومحبته له، فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء، فلا تبقى مع محبة اللّه محبة مخلوق تزاحمه .(184/124)
/والثاني : خوفه من اللّه، فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه، وكل من أحب شيئًا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه، إذا كان يزاحمه، وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحب، فإذا كان اللّه أحب إلى العبد من كل شيء، وأخوف عنده من كل شيء، لم يحصل معه عشق ولا مزاحمة إلا عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف، بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما فعل العبد الطاعة محبة للّه وخوفًا منه وترك المعصية حبًا له وخوفًا منه قوى حبه له وخوفه منه، فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره .
وهكذا أمراض الأبدان : فإن الصحة تحفظ بالمثل، والمرض يدفع بالضد، فصحة القلب بالإيمان تحفظ بالمثل، وهو ما يورث القلب إيمانًا من العلم النافع والعمل الصالح، فتلك أغذية له، كما في حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا : ( إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة اللّه هي القرآن ) . والآدب : المضيف فهو ضيافة اللّه لعباده . . . ] بياض بالأصل [ .
مثل آخر : الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده، وفي أدبار الصلوات، ويضم إلى ذلك الاستغفار، فإنه من استغفر اللّه ثم تاب إليه متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى .
/وليتخذ وردًا من الأذكار في النهار، ووقت النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا يلبث أن يؤيده اللّه بروح منه . ويكتب الإيمان في قلبه .
وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس باطنة وظاهرة فإنها عمود الدين، وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا باللّه، فإنها بها تحمل الأثقال، وتكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال .(184/125)
ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل، فيقول : قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي، وليعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، ولم ينل أحد شيئًا من ختم الخير نبي فمن دونه إلا بالصبر .
والحمد للّه رب العالمين، وله الحمد والمنة على الإسلام والسنة، حمدًا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
وصلى اللّه على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وأزواجه أمهات المؤمنين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا .
/وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ أَيْضًا :
الحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على نبينا محمد وصحبه وسلم .
فصل
في مرض القلوب وشفائها
قد ذكرنا في غير موضع : أن صلاح حال الإنسان في العدل، كما أن فساده في الظلم . وأن اللّه ـ سبحانه ـ عدله وسواه لما خلقه، وصحة جسمه وعافيته من اعتدال أخلاطه وأعضائه ومرض ذلك الانحراف والميل .
وكذلك استقامة القلب، واعتداله، واقتصاده، وصحته، وعافيته، وصلاحه متلازمة .(184/126)
/وقد ذكر اللّه مرض القلوب وشفاءها في مواضع من كتابه وجاء ذلك في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كقوله ـ تعالى ـ عن المنافقين : { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] ، وقال : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم } [ المائدة : 52 ] ، وقال تعالى : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [ التوبة : 14، 15 ] ، وقال : { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } [ يونس : 57 ] ، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } [ فصلت : 44 ] ، وقال تعالى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] ، وقال : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } [ الأحزاب : 60 ] ، وقال : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا } [ الأحزاب : 12 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العِيِّ السؤال ) ، وقال الرشيد : الآن شفيتني يا مالك، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود : أن أحدًا لا يزال بخير ما اتقى اللّه، وإذا شك في تفسير شيء سأل رجلًا فشفاه، وأوشك ألا يجده والذي لا إله إلا هو .
وما ذكر اللّه من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر من موتها / وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممها وبكمها وعماها .
لكن المقصود معرفة مرض القلب فنقول : المرض نوعان :
فساد الحس .
وفساد الحركة الطبيعية وما يتصل بها من الإرادية .(184/127)
وكل منهما يحصل بفقده ألم وعذاب، فكما أنه مع صحة الحس والحركة الإرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة، فكذلك بفسادها يحصل الألم والعذاب؛ ولهذا كانت النعمة من النعيم، وهو ما ينعم اللّه به على عباده، مما يكون فيه لذة ونعيم، وقال : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } [ التكاثر : 8 ] ، أي : عن شكره .
فسبب اللذة إحساس الملائم، وسبب الألم إحساس المنافي، ليس اللذة والألم نفس الإحساس والإدراك، وإنما هو نتيجته وثمرته ومقصوده وغايته، فالمرض فيه ألم لابد منه وإن كان قد يسكن أحيانًا لمعارض راجح، فالمقتضى له قائم يهيج بأدنى سبب، فلابد في المرض من وجود سبب الألم، وإنما يزول الألم بوجود المعارض الراجح .
ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه، أعني ألمه ولذته النفسانيتان، / وإن كان قد يحصل فيه من الألم من جنس ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم، فذلك شيء آخر .
فلذلك كان مرض القلب وشفاؤه، أعظم من مرض الجسم وشفائه، فتارة يكون من جملة الشبهات . كما قال : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } ، وكما صنف الخرائطي كتاب [ اعتلال القلوب بالأهواء ] ففي قلوب المنافقين : المرض من هذا الوجه، ومن هذا الوجه : من جهة فساد الاعتقادات، وفساد الإرادات .
والمظلوم في قلبه مرض وهو الألم الحاصل بسبب ظلم الغير له، فإذا استوفى حقه اشتفى قلبه . كما قال تعالى : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [ التوبة : 14، 15 ] ، فإن غيظ القلب إنما هو لدفع الأذي والألم عنه، فإذا اندفع عنه الأذى واستوفى حقه زال غيظه .(184/128)
فكما أن للإنسان إذا صار لا يسمع بأذنه ولايبصر بعينه ولا ينطق بلسانه كان ذلك مرضًا مؤلمًا له يفوته من المصالح ويحصل له من المضار، فكذلك إذا لم يسمع ولم يبصر ولم يعلم بقلبه الحق من الباطل، ولم يميز بين الخير والشر، والغي والرشاد، كان ذلك من أعظم أمراض قلبه وألمه، وكما أنه إذا اشتهى ما يضره مثل الطعام الكثير في الشهوة الكلية، ومثل أكل الطين ونحوه كان ذلك مرضًا، فإنه يتألم حتى يزول ألمه/ بهذا الأكل الذي يوجد ألمًا أكثر من الأول، فهو يتألم إن أكل، ويتألم إن لم يأكل .
فكذلك إذا بلي بحب من لا ينفعه العشق، ونحوه سواء كان لصورة أو لرئاسة أو لمال ونحو ذلك، فإن لم يحصل محبوبه ومطلوبه فهو متألم ومريض سقيم، وإن حصل محبوبه فهو أشد مرضًا وألمًا وسقمًا، ولذلك كما أن المريض إذا كان يبغض ما يحتاج إليه من الطعام والشراب، كان ذلك الألم حاصلًا، وكان دوامه على ذلك يوجب من الألم أكثر من ذلك حتى يقتله، حتى يزول ما يوجب بغضه لما ينفعه ويحتاج إليه، فهو متألم في الحال، وتألمه فيما بعد ـ إن لم يعافهِ اللّه ـ أعظم وأكبر .
فبغض الحاسد لنعمة اللّه على المحسود، كبغض المريض لأكل الأصحاء لأطعمتهم وأشربتهم، حتى لا يقدر أن يراهم يأكلون، ونفرته عن أن يقوم بحقه كنفرة المريض عما يصلح له من طعام وشراب، فالحب والبغض الخارج عن الاعتدال والصحة في النفس كالشهوة والنفرة الخارج عن الاعتدال والصحة في الجسم، وعمى القلب وبكمه أن يبصر الحقائق ويميز ما ينفعه ويضره، كعمى الجسم، وخرسه عن أن يبصر الأمور المرتبة، ويتكلم بها ويميز بين ما ينفعه ويضره .
وكما أن الضرير إذا أبصر وجد أن الراحة والعافية والسرور أمرًا / عظيمًا . فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين بصر الرأس من التفاوت ما لا يحصيه إلا اللّه، وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالآخر، فطب الأديان يحتذى حذو طب الأبدان .(184/129)
وقد كتب سليمان إلى أبي الدرداء : أما بعد : فقد بلغني أنك قعدت طبيبًا، فإياك أن تقتل، واللّه أنزل كتابه شفاء لما في الصدور . وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ، ذلك أن الشفاء إنما يحصل لمن يتعمد الدواء، وهم المؤمنون وضعوا دواء القرآن على داء قلوبهم .
فمرض الجسم يكون بخروج الشهوة، والنفرة الطبيعية عن الاعتدال، أما شهوة ما لا يحصل أو يفقد الشهوة النافعة وينفر به عما يصلح ويفقد النفرة عما يضر، ويكون بضعف قوة الإدراك والحركة، كذلك مرض القلب يكون بالحب والبغض الخارجين عن الاعتدال، وهي الأهواء التي قال اللّه فيها : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ } [ القصص : 50 ] ، وقال : { بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ الروم : 29 ] .
كما يكون الجسد خارجًا عن الاعتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بلا قول الطبيب، ويكون لضعف إدراك القلب وقوته حتى لا يستطيع أن يعلم ويريد ما ينفعه ويصلح له، وكما أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون، فلا / يحتمون ولا يصبرون على الأدوية الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة، ولكن ذلك يعقبهم من الآلام ما يعظم قدره، أو يعجل الهلاك .
فكذلك بنو آدم هم جهال ظلموا أنفسهم، يستعجل أحدهم ما ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه، مما هو لا يصلح له، فيعقبهم ذلك من الألم والعقوبات، إما في الدنيا وإما في الآخرة ما فيه عظم العذاب والهلاك الأعظم .
والتقوى : هي الاحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه، فإن الاحتماء عن الضار يستلزم استعمال النافع، وأما استعمال النافع فقد يكون معه أيضًا استعمالًا لضار، فلا يكون صاحبه من المتقين .(184/130)
وأما ترك استعمال الضار والنافع فهذا لا يكون؛ فإن العبد إذا عجز عن تناول الغذاء كان مغتذيًا بما معه من المواد التي تضره حتى يهلك؛ ولهذا كانت العاقبة للتقوى، وللمتقين؛ لأنهم المحتمون عما يضرهم فعاقبتهم الإسلام والكرامة، وإن وجدوا ألمًا في الابتداء لتناول الدواء والاحتماء، كفعل الأعمال الصالحة المكروهة . كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } [ البقرة : 216 ] .
ولكثرة الأعمال الباطلة المشتهاة، كما قال تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [ النازعات : 40، 41 ] . وكما قال : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] ، فأما من لم يحتم فإن ذلك سبب لضرره في العاقبة، ومن تناول ما ينفعه مع يسير من التخليط، فهو أصلح ممن احتمى حمية كاملة ولم يتناول الأشياء سرًا، فإن الحمية التامة بلا اغتذاء تمرض، فهكذا من ترك السيئات ولم يفعل الحسنات .
وقد قدمنا في قاعدة كبيرة أن جنس الحسنات أنفع من جنس ترك السيئات، كما أن جنس الاغتذاء من جنس الاحتماء، وبينا أن هذا مقصود لنفسه وذلك مقصود لغيره بالانضمام إلى غيره، وكما أن الواجب الاحتماء عن سبب المرض قبل حصوله، وإزالته بعد حصوله، فهكذا أمراض القلب يحتاج فيها إلى حفظ الصحة ابتداء وإلى إعادتها ـ بأن عرض له المرض ـ دوامًا، والصحة تحفظ بالمثل، والمرض يزول بالضد، فصحة القلب تحفظ باستعمال أمثال ما فيها، أو هو ما يقوي العلم والإيمان من الذكر والتفكر والعبادات المشروعة، وتزول بالضد، فتزال الشبهات بالبينات، وتزال محبة الباطل ببغضه ومحبة الحق .(184/131)
ولهذا قال يحيى بن عمار : العلوم خمسة : فعلم هو حياة الدنيا، وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين، وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من/ يشفيه منها، كما قال ابن مسعود : وعلم هو داء الدين وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم السحر ونحوه .
فحفظ الصحة بالمثل، وإزالة المرض بالضد، في مرض الجسم الطبيعي، ومرض القلب النفساني الديني الشرعي . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهَوِّدَانِه أو يُنَصِّرَانه أو يُمَجِّسَانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ) ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] ، أخرجاه في الصحيحين . قال اللّه تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ . وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلى قوله : { بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } إلى قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [ الروم : 26ـ30 ] .(184/132)
فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا، وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له، فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب، وتركها ظلم عظيم اتبع أهله أهواءهم بغير علم، ولابد لهذه الفطرة والخلقة ـ وهي صحة الخلقة ـ من قوت وغذاء يمدها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علمًا وعملًا؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكملة بالشريعة المنزلة، وهي مأدبة اللّه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : ( إن كل آدب يحب أن /تؤتي مأدبته، وإن مأدبة اللّه هي القرآن ) ، ومثله كماء أنزله اللّه من السماء، كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسنة . والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته، هم ممرضون القلوب مسقمون لها، وقد أنزل اللّه كتابه شفاء لما في الصدور .
وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب هي بمنزلة ما تصيب الجسم من الألم، يصح بها الجسم وتزول أخلاطه الفاسدة . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر اللّه بها خطاياه ) ، وذلك تحقيق لقوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] .
ومن لم يطهر في هذه الدنيا من هذه الأمراض فيؤب صحيحًا، وإلا احتاج أن يطهر منها في الآخرة فيعذبه اللّه . كالذي اجتمعت فيه أخلاطه، ولم يستعمل الأدوية لتخفيفها عنه فتجتمع حتى يكون هلاكه بها؛ ولهذا جاء في الأثر : ( إذا قالوا للمريض : اللّهم ارحمه، يقول اللّه : كيف أرحمه من شيء به أرحمه ؟ ! ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( المرض حطة، يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها ) .(184/133)
وكما أن أمراض الجسم ما إذا مات الإنسان منه كان شهيدًا . كالمطعون والمبطون وصاحب ذات الجَنْب، وكذلك الميت بغرق، أو حرق، أو هدم، فمن / أمراض النفس، ما إذا اتقى العبد ربه فيه وصبر عليه حتى مات كان شهيدًا، كالجبان الذي يتقى اللّه ويصبر للقتال حتى يقتل، فإن البخل والجبن من أمراض النفوس إن أطاعه أوجب له الألم، وإن عصاه تألم كأمراض الجسم .
وكذلك العشق، فقد روى : ( من عشق فعف وكتم وصبر، ثم مات مات شهيدًا ) فإنه مرض في النفس، يدعو إلى ما يضر النفس، كما يدعو المريض إلى تناول ما يضر . فإن أطاع هواه عظم عذابه في الأخرة وفي الدنيا أيضًا، وإن عصى الهوى بالعفة والكتمان صار في نفسه من الألم والسقم ما فيها، فإذا مات من ذلك المرض كان شهيدًا، هذا يدعوه إلى النار فيمنعه كالجبان تمنعه نفسه عن الجنة فيقدمها .
فهذه الأمراض إذا كان معها إيمان وتقوى كانت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته سراء فشكر، كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له ) .
والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا .
سُئلَ الشيخ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن قوله عز وجل : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [ البقرة : 21 ] ، فما العبادة وفروعها ؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا ؟ وما حقيقة العبودية ؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أم فوقها شيء من المقامات ؟ وليبسطوا لنا القول في ذلك .
فأجاب :(184/134)
الحمد للّه رب العالمين، العبادة : هي اسم جامع لكل ما يحبه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك حب اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، / والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة للّه .
وذلك أن العبادة للّه هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [ المؤمنون : 23 ] ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم .(184/135)
وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] ، كما قال في الآية الأخرى : { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] . وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] .
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ . يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَّ } [ الأنبياء : 19، 20 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] ، وذم المستكبرين عنها بقوله : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] .(184/136)
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له، فقال تعالى : { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } [ الإنسان : 6 ] ، وقال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } الآيات [ الفرقان : 63 ] ، ولما قال الشيطان : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } [ الحجر : 39، 40 ] ، قال اللّه تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } [ الحجر : 42 ] .
وقال في وصف الملائكة بذلك : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 26ـ 28 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 ـ 95 ] .
وقال تعالى عن المسيح ـ الذي أدعيت فيه الأُلوهية والنبوة : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الزخرف : 59 ] ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى / ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا : عبد اللّه ورسوله ) .(184/137)
وقد نعته اللّه بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } [ الإسراء : 1 ] ، وقال في الإيحاء : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ، وقال في الدعوة : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19 ] ، وقال في التحدي : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، فالدين كله داخل في العبادة .
وقد ثبت في الصحيح : أن جبريل لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال : ( أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) . قال : فما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدرخيره وشره ) . قال : فما الإحسان ؟ قال ( أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ( . ثم قال : في آخر الحديث : ) هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم ) فجعل هذا كله من الدين .
والدين يتضمن معنى الخضوع والذل . يقال : دنته فدان، أي : ذللته فذل، ويقال : يدين اللّه، ويدين للّه أي : يعبد اللّه ويطيعه ويخضع له، فدين اللّه عبادته وطاعته والخضوع له .
/والعبادة أصل معناها : الذل ـ أيضًا ـ يقال : طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام .
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل للّه بغاية المحبة له، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب، ثم العشق وآخرها التتيم يقال : تيم اللّه، أي : عبد اللّه، فالمتيم المعبد لمحبوبه .(184/138)
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابداً له، كما قد يحب ولده وصديقه؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة اللّه ـ تعالى ـ بل يجب أن يكون اللّه أحب إلى العبد من كل شىء، وأن يكون اللّه أعظم عنده من كل شىء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا اللّه .
وكل ما أحب لغير اللّه فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر اللّه كان تعظيمه باطلاً، قال اللّه تعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 24 ] ، فجنس المحبة تكون للّه ورسوله، كالطاعة، فإن الطاعة للّه ورسوله / والإرضاء للّه ورسوله : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، والإيتاء للّه ورسوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ التوبة : 59 ] .(184/139)
وأما العبادة وما يناسبها من التوكل، والخوف، ونحو ذلك فلا يكون إلا للّه وحده، كما قال تعالى : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [ التوبة : 59 ] ، فالإيتاء للّه والرسول كقوله : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7 ] ، وأما الحسب وهو الكافي فهو اللّه وحده، كما قال تعالى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173 ] ، وقال تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنفال : 64 ] ، أي : حسبك وحسب من اتبعك اللّه .
ومن ظن أن المعنى حسبك اللّه والمؤمنون معه، فقد غلط غلطًا فاحشاً، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وقال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] .(184/140)
وتحرير ذلك : أن العبد يراد به المعبد الذي عبده اللّه فذلله ودبره / وصرفه، وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد اللّه، من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا . وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال تعالى : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ] .
فهو ـ سبحانه ـ رب العالمين وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق إلا هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به، بخلاف من كان جاهلاً بذلك، أو جاحداً له مستكبراً على ربه لا يقر ولا يخضع له، مع علمه بأن اللّه ربه وخالقه .
فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] ، وقال تعالى : { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] .(184/141)
/فإن اعترف العبد أن اللّه ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية اللّه، وهذا العبد يسأل ربه، فيتضرع إليه ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره، وقد يعصيه، وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام .
ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة والنار، ولايصير بها الرجل مؤمناً . كما قال تعالى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] ، فإن المشركين كانوا يقرون أن اللّه خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره، قال تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25، الزمر : 38 ] ، وقال تعالى : { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } إلى قوله : { قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } [ المؤمنون : 84 ـ 89 ] .(184/142)
وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها، يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية، التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، وإبليس معترف بهذه الحقيقة، وأهل النار . قال إبليس : { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الحجر : 36 ] ، وقال : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 39 ] ، وقال : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 82 ] ، وقال : { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } [ الإسراء : 62 ] ، وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأن اللّه ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار قالوا : { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } [ المؤمنون : 106 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } [ الأنعام : 30 ] .
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته، وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء اللّه، وأهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان، كان من أشر أهل الكفر والإلحاد .(184/143)
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة، ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين باللّه ورسوله . حتى يدخل في النوع الثاني، من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابداً للّه لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين، ويعادي أعداءه، وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا اللّه بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده، أو يعبد معه إلهًا آخر، فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبها اللّه ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عباده، وبها بعث رسله .
وأما العبد، بمعنى المعبد، سواء أقر بذلك أو أنكره، فتلك يشترك / فيها المؤمن والكافر . وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة اللّه ودينه وأمره الشرعي، التي يحبها ويرضاها، ويوالى أهلها، ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر التي من اكتفى بها، ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته للّه، بحسب ما نقص من الحقائق الدينية .
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق، والتوحيد، والعرفان ما لا يحصيهم إلا اللّه الذي يعلم السر والإعلان، وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر ـ رحمه اللّه ـ فيما ذكر عنه، فبين أن كثيراً من الرجال، إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر .(184/144)
والذي ذكره الشيخ ـ رحمه اللّه ـ هو الذي أمر اللّه به ورسوله، لكن كثيراً من الرجال غلطوا، فإنهم قد يشهدون ما يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة اللّه، وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، / فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به، ونحو ذلك، ديناً وطريقاً وعبادة، فيضاهون المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، وقالوا : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] ، وقالوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] .
ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب، التي تصيبنا، كالفقر والمرض والخوف، قال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ] . وقال بعض السلف : هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند اللّه فيرضى ويسلم، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 22، 23 ] .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( احتج آدم وموسى، فقال موسى : أنت آدم الذي خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك اللّه برسالته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً علي قبل أن أخلق ؟ قال : نعم . قال : فحج آدم موسى ) .(184/145)
/وآدم ـ عليه السلام ـ لم يحتج على موسى بالقدر، ظنًا أن المذنب يحتج بالقدر، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذراً لكان عذرا لإبليس، وقوم نوح، وقوم هود، وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضاً؛ لأجل الذنب، فإن آدم قد تاب إلى ربه، فاجتباه وهدى، ولكن لامه؛ لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال : فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبًا قبل أن أخلق، فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً، وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا باللّه رباً .
وأما الذنوب، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب، فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب . قال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } [ غافر : 55 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [ آل عمران : 120 ] ، وقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [ آل عمران : 186 ] ، وقال يوسف : { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ يوسف : 90 ] .(184/146)
وكذلك ذنوب العباد، يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ـ بحسب قدرته ـ ويجاهد في سبيل اللّه الكفار والمنافقين، ويوالى أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه، ويحب في اللّه، ويبغض في اللّه . كما قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 1ـ 4 ] ، وقال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [ المجادلة : 22 ] ، وقال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [ القلم : 53 ] ، وقال : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ ص : 28 ] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ . وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ . وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } [ فاطر : 19ـ22 ] ، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ(184/147)
مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } [ الزمر : 29 ] ، وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله : { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ النحل : 75، 76 ] ، وقال تعالى : { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] .
ونظائر ذلك، مما يفرق اللّه فيه بين أهل الحق، والباطل، وأهل الطاعة، وأهل /المعصية، وأهل البر، وأهل الفجور، وأهل الهدى، والضلال، وأهل الغي، والرشاد، وأهل الصدق والكذب .
فمن شهد الحقيقة الكونية، دون الدينية سوى بين هذه الأجناس المختلفة التي فرق اللّه بينها غاية التفريق، حتى يؤول به الأمر إلى أن يسوى اللّه بالأصنام، كما قال تعالى عنهم : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97، 98 ] بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا اللّه بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقاً لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد .
وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد لا بمعنى أنهم معبدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب ] الفصوص [ ، وأمثاله من الملحدين المفترين، كابن سبعين وأمثاله، ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود الحقيقة، لا كونية ولا دينية، بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم، وممدوح نعتًا للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا، هو وجود هذا عندهم .(184/148)
/وأما المؤمنون باللّه ورسوله، عوامهم وخواصهم، الذين هم أهل الكتاب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن للّه أهلين من الناس ) قيل : من هم يا رسول اللّه ؟ قال : ( أهل القرآن هم أهل اللّه، وخاصته ) . فهؤلاء يعلمون أن اللّّه رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأن الخالق ـ سبحانه ـ مباين للمخلوق، ليس هو حالاً فيه ولا متحداً به ولا وجوده وجوده .
والنصارى، كفرهم اللّه بأن قالوا بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة، فكيف من جعل ذلك عامًا في كل مخلوق ؟ .
ويعلمون مع ذلك أن اللّه أمر بطاعته، وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته، ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن على الخلق أن يعبدوه، فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك، كما قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .
ومن عبادته وطاعته : الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ـ بحسب الإمكان ـ والجهاد في سبيله، لأهل الكفر والنفاق . فيجتهدون في إقامة دينه، مستعينين به، دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك، إذا آن أوان البرد / دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه . كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول اللّه، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر اللّه شيئًا ؟ فقال : ( هي من قدر اللّه ) . وفي الحديث : ( إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض ) . فهذا حال المؤمنين باللّه ورسوله العابدين للّه وكل ذلك من العبادة .
وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية، وهي ربوبيته ـ تعالى ـ لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال .(184/149)
فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقًا عاماً، فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام : 148 ] ، وقالوا : { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] .
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضاً، بل كل من احتج بالقدر، فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل، فلابد إذا ظلمه ظالم، أو ظلم الناس ظالم، وسعى في الأرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من / أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوان أمثاله . فيقال له : إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك : حجة . وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لايطردون هذا القول ولا يلتزمونه، وإنما هم بحسب آرائهم وأهوائهم، كما قال فيهم بعض العلماء : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به .
ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة، فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلاً، وأثبت له صنعاً، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن اللّّّه هو المتصرف فيه، كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد .(184/150)
وقد يقولون : من شهد الإرادة، سقط عنه التكليف، ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة، فهؤلاء لا يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن اللّه خالق أفعال العباد، وأنه يدبر جميع الكائنات، وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علماً، وبين من يراه شهوداً، فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط، ولكن عمن / يشهده، فلا يرى لنفسه فعلاً أصلاً، وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعاً من التكليف على هذا الوجه .
وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد .
وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم، عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه، كما ضاق نطاق المعتزلة، ونحوهم من القدرية عن ذلك . ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة اللّه العامة وخلقه لأفعال العباد، وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر، ونفوا الأمر والنهي، في حق من شهد القدر، إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقًا . وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي، وصار من الخاصة .
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة، وقول هؤلاء كفر صريح . وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضراً إلى / أن يموت، لا يسقط عنه الأمر والنهي، لا بشهوده القدر، ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عرفه، وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل . وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين .
وأما المستقدمون من هذه الأمة، فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم .(184/151)