فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام ونذر المشى إلى الشام أو مصر معاصي حتى فسر فيها الحديث المشهور مع انها في أنفسها اشياء مباحات
لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويدان لله به صارت عند مالك معاصى لله
وكليه قوله كل بدعة ضلالة شاهدة لهذا المعنى والجميع يقتضى التأثيم والتهديد والوعيد وهي خاصية المحرم
وقد مر ما روى الزبير بن بكار وأتاه رجل فقال يا أبا عبدالله من أين أحرم قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال إني اريد أن أحرم من المسجد
فقال لا تفعل
قال إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر
قال لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة
قال وأي فتنة في هذا إنما هي أميال أزيدها
قال وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
إني سمعت الله تعالى يقول فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم
فأنت ترى أنه خشى عليه الفتنة في الإحرام من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وموضع قبره لكنه أبعد من الميقات فهو زيادة في التعب قصدا لرضا الله ورسوله فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير في بادي الرأي يخاف على صاحبه الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة واستدل بالآية
فكل ما كان مثل ذلك داخل - عند مالك - في معنى الآية فأين كراهية التنزيه في هذه الأمور التي يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة وقال ابن حبيب أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول التثويب ضلال
قال مالك ومن أحدث في هذا الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خان الدين لأن الله تعالى يقول اليوم أكملت لكم دينكم فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا(168/322)
وإنما التثويب الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة قد قامت الصلاة حى على الصلاة حى على الفلاح وهو قول إسحاق ابن راهويه أنه التثويب المحدث
قال الترمذي لما نقل هذا عن سحنون وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل العلم والذي أحدثوه بعد النبى صلى الله عليه وسلم
وإذا اعتبر هذا اللفظ في نفسه فكل أحد يستسهله في بادى الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكير بالصلاة
وقصة صبيغ العراقي ظاهرة في هذا المعنى فحكى ابن وهب قال حدثنا مالك بن أنس قال جعل صبيغ يطوف بكتاب الله معه ويقول من يتفقه يفقهه الله من يتعلم يعلمه الله فأخذه عمر بن الخطاب رضى الله عنه فضربه بالجريد الرطب ثم سجنه حتى إذا خف الذي به أخرجه فضربه فقال يا أمير المؤمنين إن كنت تريد قتلى فأجهز على وإلا فقد شفيتنى شفاك الله فخلاه عمر
قال ابن وهب قال مالك وقد ضرب عمر بن الخطاب رضى الله عنه صبيغا حين بلغه ما يسال عنه من القرآن وغير ذلك أ ه
وهذا الضرب إنما كان لسؤاله عن أمور من القرآن لا ينبنى عليها عمل وربما نقل عنه أنه كان يسأل عن السابحات سبحا والمرسلات عرفا وأشباه ذلك والضرب إنما يكون لجناية أربت على كراهية التنزيه إذ لا يستباح دم امرىء مسلم ولا عرضه بمكروه كراهية تنزيه ضربه إياه خوف الابتداع في الدين أن يشتغل منه بما لا ينبنى عليه عمل وأن يكون ذلك ذريعة لئلا يبحث عن المتشابهات القرآنية ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه وفاكهة وأبا قال هذه الفاكهة فما الأب ثم قال ما أمرنا بهذا
وفي رواية نهينا عن التكلف
وجاء في قصة صبيغ من رواية ابن وهب عن الليث انه ضربه مرتين ثم اراد أن يضربه الثالثة فقال له صبيغ إن كنت تريد قتلى فاقتلنى قتلا جميلا وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت
فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبى موسى الأشعري رضي الله عنه أن لا يجالسه أحد من المسلمين(168/323)
فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت سيئته فكتب إليه عمر أن يأذن للناس بمجالسته
والشواهد في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم
وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهى عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين ارادوا أن يفرقوا بين القبلتين
فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع وأشباه ذلك
وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام
ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى
فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها أكره هذا ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله لا لأنه بدعة مكروهة - على تفصيل يذكر في موضعه
وأما ثالثا فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة - دقت أو جلت - وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة
وبيان ذلك من أوجه احدها أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة فهو إلى الطمع رحمة الله أقرب
وايضا فليس عقده الإيمانى يمتزحزح لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان
فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك اولى في حقه من الفعل وأن نفسه الأمارة زينب له الدخول فيه(168/324)
ويود لو لم يفعل وايضا فلا يزال - إذا تذكر - منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال فإنه يعد ما دخل فيه حسنا بل يراه أولى بما حد له الشارع فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه وهو يزعم أن طريقه هدى سبيلا ونحلته أولى بالاتباع
هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى
وسيأتي لذلك تقرير إن شاء الله
وقد مر في اول الباب الثاني تقرير لجملة من المعاني التي تعظم أمر البدع على الإطلاق وكذلك مر في آخر الباب أيضا أمور ظاهرة في بعد ما بينهما وبين كراهية التنزيه فراجعها هنالك يتبين لك مصداق ما أشير إليه ها هنا وبالله التوفيق
والحاصل أن النسبة بين المكروه من الاعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس فصل إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر
وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة - حسبما تبين في علم الأصول الدينية - فكذلك يقال في البدع المحرمة - إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها - كما تقدم - وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة
ولقد اختلفوا في الفرق بينهما علىأوجه وجميع ما قالوه لعله لا يوفى بذلك المقصود على الكمال فلنترك التفريع عليه
وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات ان الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة
وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال وكل ما نص عليه راجع إليها وما لم ينص عليه جرت في الاعتبار والنظر مجراها وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه
فكذلك نقول في كبائر البدع ما اخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة ومالا فهي صغيرة
وقد تقدمت لذلك أمثلة وأول الباب(168/325)
فكما انحصرت كبائر المعاصى أحسن انحصار - حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب - كذلك تنحصر كبائر البدع ايضا وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها
وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما اصلا وإما فرعا لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصانا منه أو تغييرا لقوافيه او ما يرجع إلى ذلك وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات إن قلنا بدخولها في العادات بل تمنع الجميع
وإذا كانت بكليتها إخلالا بالدين فهي إذا إخلال باول الضروريات وهو الدين وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة وقال في الفرق كلها في النار إلا واحدة وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل
هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان وكذلك سائرها مع الإخلال فكل منها كبيرة
فقد آل النظر إلى ان كل بدعة كبيرة
ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكر ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه أحدها أنا نقول الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة فالقتل كبيرة وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها وقطع عضو واحد كبيرة دونها وهلم جرا إلى أن تنتهي إلى اللطمة ثم إلى أقل خدش يتصور فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة كما قال العلماء في السرقة إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال
فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر
وهذا في ضرروة الدين أيضا(168/326)
فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضىالله عنه قال اول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الإيمان عروة عروة وليصلين نساء وهن حيض - ثم قال - حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما ما بال الصلوات الخمس لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل لا تصلن إلا ثلاثا
وتقول أخرى إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة ما فينا كافر حق على الله أن يحشرهما مع الدجال فهذا الأثر - وإن لم تلتزم عهدة صحته - مثال من الامثلة المسالة فقد نبه على أن في آخر الزمان من يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا خمس وبين أن من النساء من يصلين وهن حيض كأنه يعنى بسبب التعمق وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة
فهذه مرتبة دون الأولى
وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات ثم وقع في العتبية
قال ابن القاسم وسمعت مالكا يقول اول من أحدث الاعتماد في الصلاة - حتى لا يحرك رجليه - رجل قد عرف وسمى إلا أنى لا أحب أن أذكره وقد كان مساء أي يساء الثناء عليه قال - قد عيب ذلك عليه وهذا مكروه من الفعل
قالوا ومساء أي يساء الثناء عليه
قال ابن رشد جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة قاله في المدونة وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم
ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين وهو من محدثات الأمور انتهى
فمثل هذا - إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يات به اثر فيقال في مثله إنه من كبار البدع
كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة(168/327)
والثاني أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسب بالبدعة كليا في الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارا على القرآن وبدعة الخوارج في قولهم لا حكم إلا لله
وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعا من فروع الشريعة دون فرع يبل يجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية أو يكون الخلل الواقع جزئيا إنما يأتى في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك التثوب ضلال وبدعة الأذان والإقامة في العيدين وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين وما أشبه ذلك
فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون اصلا لها
فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصا به لا عاما فيه وفي غيره ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد فلا قطع على أن جميعها من واحد وقد ظهر وجه انقسامها
والثالث أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر ولا شك أن البدع من جملة المعاصى - على مقتضى الأدلة المتقدمة - ونوع من أنواعها فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضا ولا يخصص وجوها بتعميم الدخول في الكبائر لأن ذلك تخصيص من غير مخصص ولو كان ذلك معتبرا لا ستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع فكانوا ينصون على أن المعاصى ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام فظهر أنه شامل لجميع أنواعها(168/328)
فإن قيل إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقا وإنما يدل ذلك على نها تتفاضل فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف والخفة هل تنتهى إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم هذا فيه نظر وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصى غير البدع
وأما في البدع فثبت لها أمران احدهما أنها مضادة للشارع ومراغمة له حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفى بما حد له
والثاني أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص او تغيير للأصل الصحيح وكل ذلك قد يكون على الانفراد وقد يكون ملحقا بما هو مشروع فيكون قادحا في المشروع
ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدا لكفر إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير - قل أو كثر - كفر فلا فرق بين ما قل منه وما كثر
فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأى غالظ رآه أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير
ويعضد هذا النظر عموم الادلة في ذم البدع من غير استثناء فالفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني
وأما الثالث فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام كل بدعة ضلالة وما تقدم من كلام السلف يدل على عموم الذم فيها
وظهر أنها مع المعاصى لا تنقسم ذلك الانقسام بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصى
واعتبر بما تقدم ذكره في الباب الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها(168/329)
وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير أن يقال كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار إما باعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض فالأشد عقابا أكبر مما دونه وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إى الفاضل والأفضل لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل
والصغر والكبر
من باب النسب والإضافات فقد يكون الشىء كبيرا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقسام المعاصى إلى الكبائر والصغائر فقال المرضى عندنا أن كل ذنب كبيرة وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله ولذلك يقال معصية الله أكبر من معصية العباد - قولا مطلقا إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها
ثم ذكر معنى ما تقدم ولم يوافقه غيره على ما قال وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب الموافقات
ولكن الظاهر يأبى ذلك - حسبما ذكره غيره من العلماء - والظواهر في البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها - حسبما تقدم - فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات كما صار اعتقاد نفى الكراهية التنزيه عنها من الواضحات
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدارك وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها بخلاف سائر المعاصى فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها بل صاحب المعصية متنصل منها مقر لله بمخالفته لحكمها(168/330)
وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ولذلك قال مالك بن أنس من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خان الرسالة لأن الله يقول اليوم أكملت لكم دينكم إلى آخر الحكاية
وقد تقدمت
ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة وقال أي فتنة فيها إنما هي أميال أزيدها
فقال واي فتنة أعظم من ان تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
- إلى آخر الحكاية وقد تقدمت ايضا فإذا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة
فالجواب أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه المسألة
وذلك ان صاحب البدعة يتصور أن يكون عالما بكونها بدعة وان يكون غير عالم بذلك
وغير العالم بكونها بدعة على ضربين وهما المجتهد في استنباطها وتشريعها والمقلد له فيها
وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا حكمنا له بحكم أهل الإسلام لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له فلا بد له من تأويل كقوله هي بدعة ولكنها مستحسنة أو يقول إنها بدعة ولكنى رأيت فلانا الفاضل يعمل بها أو يقر بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه أو فرارا من خوف على حظه أو فرارا من الاعتراض عليه في اتباع السنة كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه وما اشبه ذلك
وأما غير العالم وهو الواضع لها فإنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة بل هي عنده مما يلحق بالمشروعات كقول من جعل يوم الاثنين يصام لأنه يوم مولد النبى صلى الله عليه وسلم(168/331)
وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقا بأيام الأعياد لانه عليه السلام ولد فيه وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على أنه يجلب الأحوال السنية أو رغب في الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات دائما بناء على ما جاء في ذلك حالة الوحدة او زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة لينصر في زعمه سنة محمد صلى الله عليه وسلم
فلما قيل له إنك تكذب عليه وقد قال من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار قال لم أكذب عليه وإنما كذبت له
او نقص منها تأويلا عليها لقوله تعالى في ذم الكفار إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا فأسقط اعتبار الاحاديث المنقولة بالآحاد لذلك ولما أشبه لأن خبر الواحد ظنى فهذه كلها من قيل التأويل
وأما المقلد فكذلك أيضا لأنه يقول فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ويتنى كاتخاذ الغناء جزءا من أجزاء طريقة التصوف بناء منهم على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ومنهم من مات بسببه وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لأنهم قد فعلوه وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء المنتمين إلى التصوف
وربما احتجوا على بدعتهم بالجنيد والبسطامى والشبلى وغيرهم فيما صح عندهم أو لم يصح ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها
ولكنهم مع ذلك لا يقرون بالخلاف للسنة بحتا بل يدخلون تحت أذيال التأويل إذ لا يرضى منتم إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلا
وإذا كان كذلك فقول مالك من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن النبى صلى الله عليه وسلم
خان الرسالة
وقوله لمن أراد أن يحرم من المدينة أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى آخر الحكاية - إنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر كأنه يقول يلزمك في هذا القول كذا(168/332)
لانه يقول قصدت إليه قصدا لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم ولازم المذهب هل هو مذهب أم لا هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأى المحققين أيضا ان لازم المذهب ليس بمذهب فلذلك إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار فإذا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض وعند ذلك تستوى البدعة مع المعصية صغائر وكبائر فكذلك البدع
ثم إن البدع على ضربين كلية وجزئية فاما الكلية فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات حسبما يتعين بعد إن شاء الله
وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار وإن دخلت تحت الوصف بالضلال كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة او التطفيف بحبة وإن كان داخلا تحت وصف السرقة بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في السرقة فلا تكون تلك الأدلة واضحة الشمول لها ألا ترى أن خواص البدع غير ظاهرة في أهل البدع الجزئية غالبا كالفرقة والخروج عن الجماعة وإنما تقع الجزئيات في الغالب كالزلة والفلتة ولذلك لا يكون اتباع الهوى فيها مع حصول التأويل في فرد من أفراد الفروع ولا المفسدة الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية فعلى هذا إذا اجتمع في البدعة وصفان كونها جزئية وكونها بالتأويل صح أن تكون صغيرة والله أعلم
ومثاله مسالة من نذر أن يصوم قائما لا يجلس وضاحيا لا يستظل ومن حرم على نفسه شيئا مما أحل الله من النوم أو لذيذ الطعام أو النساء أو الأكل بالنهار وما اشبه ذلك مما تقدم ذكره أو يأتى غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية كما أن التأويل قد يقرب مأخذة وقد يبعد فيقع الإشكال في كثير من أمثلة هذا الفصل فيعد كبيرة ما هو من الصغائر وبالعكس فيوكل النظر فيها إلى الاجتهاد
ا ه
فصل(168/333)
وإذا قلنا إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك بشروط
أحدها أن لا يداوم عليها فإن الصغيرة من المعاصى لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه لان ذلك ناشىء عن الإصرار عليها والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ولذلك قالوا لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع إستغفار فكذلك البدعة من غير فرق إلا أن المعاصى من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها وقد لا يصر عليها وعلى ذلك ينبنى طرح الشهادة وسخطة الشاهد بها أو عدمه بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها وان تقوم على تاركها القيامة وتنطلق عليه ألسنة الملامة ويرمى بالتسفيه والتجهيل وينبز بالتبديع والتضليل ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة والمقتدى بهم من الأئمة والدليل على ذلك الاعتبار والنقل فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة او لصقوا بسلطان تجرى أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك مالا يخفى
وأما النقل فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيا وليست كذلك المعاصى فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله بل قد جاء ما يشد ذلك في حديث الفرق حيث جاء في بعض الروايات تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها حسبما تقدم
والشرط الثاني أن لا يدعو إليها فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه فإنه الذى أثارها وسبب كثرة وقوعها والعمل بها فإن الحديث الصحيح قد أثبت ان كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا والصغيرة والغسية مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته فربما تساوي الصغيرة - من هذا الوجه - الكبيرة أو تربى عليها
فمن حق المبتدع إذا ابتلى بالبدعة أن يقتصر على نفسه ولا يحمل مع وزره وزر غيره(168/334)
وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج فإن المعصية فيما بين العبد وربه يرجو فيها من التوبة والغفران ما يتعذر عليه مع الدعاء إليها وقد مر في باب ذم البدع وباقي الكلام في المسألة سيأتى إن شاء الله
والشرط الثالث أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس او المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها اعلام الشريعة فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به أو ممن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام فإنها لا تعدو امرين إما أن يقتدى بصاحبها فيها فإن العوام أتباع كل ناعق ولا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس والتي للنفوس في تحسينها هوى وإذا اقتدى بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم عليه الوزر
وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصى فإن العالم مثلا إذا أظهر المعصية - وإن صغرت - سهل على الناس ارتكابها فإن الجاهل يقول لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب لم يرتكبه وإنما ارتكبه لامر علمه دوننا
فكذلك البدعة إذا أظهرها العالم المقتدى فيها لا محالة فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل لأن العالم يفعلها على ذلك الوجه بل البدعة اشد في هذا المعنى إذ الذنب قد لا يتبع عليه بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن اتباعه إلا من كان عالما بأنها بدعة مذمومة ن فحينئذ يصير في درجة الذنب فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك فإن كان داعيا إليها فهو أشد وإن كان الإظهار باعثا على الاتباع فبالدعاء يصير أدعى إليه
وقد روى عن الحسن ان رجلا من بنى إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتبع وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها سلسة ثم اوثقها في شجرة فجعل يبكى ويعج إلى ربه فأوحى الله إلى نبى تلك الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي اصاب
فكيف بمن ضل فصار من اهل النار(168/335)
وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر فكأن المظهر لها يقول هذه سنة فاتبعوها
قال أبو مصعب قدم علينا ابن مهدى فصلى ووضع رداءه بين يدى الصف
فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا - وكان قد صلى خلف الإمام - فلما سلم قال من هاهنا من الحرس فجاءه نفسان فقال خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه
فحبس فقيل له إنه ابن مهدى فوجه إليه وقال له ما خفت الله واتقينه أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم
من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فبكى ابن مهدى وآلى على نفسه ان لا يفعل ذلك ابدا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا في غيره
وفي رواية عن ابن مهدى قال فقلت للحرسيين تذهبان بى إلى أبى عبد الله قالا إن شئت فذهبنا إليه
فقال يا عبد الرحمن تصلى مستلبا فقلت يا أبا عبد الله إنه كان يوما حارا - كما رايت - فثقل ردائى على
فقال الله ما اردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه قلت الله قال خلياه
وحكى ابن وضاح قال ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك فأرسل إليه مالك فجاءه فقال له مالك هذا الذي تفعل فقال اردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا فقال له مالك لا تفعل لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا ثم إنه تنحنح في المنارة عند اطلوع الفجر فارسل إليه مالك فقال له ما الذي تفعل قال اردت أن يعرف الناس طلوع الفجر
فقال له الم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن فقال إنما نهيتنى عن التثويب(168/336)
فقال له لا تفعل فكف زمانا ثم جعل يضرب الأبواب فأرسل إليه مالك فقال ما هذا الذي تفعل فقال اردت أن يعرف الناس طلوع الفجر
فقال له مالك لا تفعل لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه
قال ابن وضاح وكان مالك يكره التثويب - قال - وإنما أحدث هذا بالعراق
قيل لابن وضاح فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة او مصر أو غيرها من الأمصار فقال ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والأباضيين
فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شانه عند الناظر فيه ببادى الراي وجعله أمرا محدثا وقد قال في التثويب إنه ضلال وهو بين لأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب لان ذلك جدير بأن يتخذ سنة كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدى خوف أن يكون حدثا احدثه
وقد أحدث بالمغرب المتسمى بالمهدى تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولهم أصبح ولله الحمد إشعارا بان الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ولحضور الجماعة
وللغد ولكل ما يومرون به
فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبا بالصلاة كالأذان
ونقل ايضا إلى اهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية وهو المعتاد في جوامع الأندلس وغيرها فصار ذلك كله سنة في المساجد إلى الآن فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا اذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة قد قامت الصلاة حى على الصلاة حى على الفلاح
وهذا نظير قولهم عندنا الصلاة - رحمكم الله
وروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه دخل مسجدا أراد أن يصلى فيه فثوب المؤذن فخرج عبدالله بن عمر من المسجد وقال اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه
قال ابن رشد وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله حى على الصلاة ثم ترك - قال - وقيل إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه حى علىخير العمل(168/337)
لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة ووقع في المجموعة ان من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه كفعل ابن عمر رضى الله عنهما وفي المسألة كلام المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك انه ضلال والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة أو في المواطن التي تقام فيها السنن والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة لأنها إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها فكان وزر ذلك عائدا على الفاعل أولا فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته
والشرط الرابع أن لا يستصغرها ولا يستحقرها - وإن فرضناها صغيرة - فإن ذلك استهانة بها والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب به فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغير وذلك ان الذنب له نظران نظر من جهة رتبته في الشرط ونظر من جهة مخالفة الرب العظيم به فأما النظر الأول فمن ذلك الوجه يعد صغيرا إذا فهمنا من الشرع أنه صغير لانا نضعه حيث وضعه الشرع وأما الآخر فهو راجع إلى اعتقادنا في العمل به حيث نستحرم جهة الرب سبحانه بالمخالفة والذى كان يجب في حقنا أن نستعظم ذلك جدا إذ لا فرق في التحقيق بين المواجهتين - المواجهة بالكبيرة والمواجهة بالصغيرة(168/338)
والمعصية من حيث هي معصية لا يفارقها النظران في الواقع اصلا لان تصورها موقوف عليهما فالاستعظام لوقوعها مع كونها يعتقد فيها أنها صغيرة لا يتنافيان لانهما اعتباران من جهتين فالعاصى وإن يعمل المعصية لم يقصد بتعمده الاستهانة بالجانب العلي الرباني وإنما قصد اتباع شهوته مثلا فيما جعله الشارع صغيرا أو كبيرا فيقع الإثم على حسبه كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع وإنما قصد الجرى على مقتضاه لكن بتأويل زاده ورجحه على غيره بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع فإنه إنما تهاون بمخالفة الملك الحق لأن النهى حاصل ومخالفته حاصلة والتهاون بها عظيم ولذلك يقال لاتنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظمة من واجهته بها
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال في حجة الوداع أي يوم هذا قالوا ويم الحج الأكبر قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا لا يجنى جان إلا على نفسه ألا لا يجنى جان على ولده ولا مولود على والده الا وإن الشيطان قد يئس ألا يعبد في بلدكم هذا ابدا ولا تكون له طاعة فيما تحتقرون من اعمالكم فسيرضى به فقوله عليه الصلاة ولاسلام فسيرضى به دليل على عظم الخطب فيما يستحقر
وهذا الشرط مما اعتبره الغزالى في هذا المقام فإنه ذكر في الإحياء أن مما تعظم به الصغيرة أن يستصغرها
قال فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله وكلما استصغره كبر عندالله ثم بين ذلك وبسطه
فإذا تحصلت هذه الشروط فإذا ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة فإن تخلف شرط منها أو أكث صارت كبيرة أو خيف أن تصير كبيرة كما أن المعاصى كذلك والله أعلم
الباب السابع
في الابتداع
هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية(168/339)
قد تقدم في حد البدعة ما يقتضى الخلاف فيه هل يدخل في الأمور العادية أم لا اما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها وهي عامة الباب إذ الأمور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية وإما أعمال جوارح من قول أو فعل وكلا القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه
وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع كالمكوس والمحدثة من المظالم وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة وإقامة صور الائمة وولاة الأمور والقضاة واتخاذ المناخل وغسل اليد بالاشنان ولبس الطيالس وتوسيع الاكمام وأشباه ذلك من الامور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا وإليه مال القرافى وشيخه ابن عبد السلام وذهب إليه بعض السلف
فروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن أسلم أنه ولد له ولد - قال محمد بن القاسم الطوسى - فقال اشتر لي كبشين عظيمين ودفع إلى دراهم فاشتريت له وأعطانى عشرة أخرى وقال لي اشتر بها دقيقا ولا تنخله واخبزه - قال فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به فقال نخلت هذا وأعطانى عشرة أخرى وقال اشتر به دقيقا ولا تنخله واخبزه
فخبزته وحملته إليه فقال لى يا ابا عبد الله العقيقة سنة ونخل الدقيق بدعة ولا ينبغى أن يكون في السنة بدعة ولم أحب أن يكون ذلك الخبر في بيتى بعد أن كان بدعة
ومحمد بن اسلم هذا هو الذي فسر به الحديث إسحاق بن راهويه حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه الصلاة والسلام عليكم بالسواد الأعظم فقال محمد وأصحابه
حسبما يأتى - إن شاء الله - في موضعه من هذا الكتاب(168/340)
وايضا فإن تصور في العبادات وقوع الابتداع وقع في العادات لانه لا فرق بينهما فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر
ووجه ثالث وهو أن الشرع جاء بالوعد باشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته
فتدخل فيما تقدم تمثيله لأنها من جنس واحد
ففي الصحيح عن عبد الله رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنكم سترون بعدى اثرة وأمورا تنكرونها - قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال أدوا إليهم حقهم وسلوا حقكم وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه قال من كره من أميره شيئا فليصبر وفي رواية من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية
وفي الصحيح ايضا إذا اسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم
قال يتقارب الزمان ويقبض العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج قال يا رسول الله إيما هو قال القتل القتل وعن أبى موسى رضى الله عنه قال قال النبى صلى الله عليه وسلم
إن بين يدى لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج والهرج القتل
وعن حذيفة رضى الله عنه
قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديثين رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر - حدثنا أن الأمانة نزلت في جدر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة
وحدثنا عن رفعها ثم قال ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الولت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفص فتراه ينتثر وليس فيه شىء ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدى الأمانة
فيقال إن في بنى فلان رجلا أمينا
ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما اجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان الحديث(168/341)
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم زعم أنه رسول وحتى يقبض العلم - ثم قال وحتى يتطاول الناس في البنيان إلى آخر الحديث
وعن عبد الله رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
تخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقولون من قول خير البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية
ومن حديث أبى هريرة رضى الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا فيبيع دينه بعرض الدنيا وفسر ذلك الحسن قال يصبح محرما لدم أخيه وعرضه وماله ويمسى مستحلا له
كأنه تأوله على الحديث الآخر لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض والله اعلم
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن من اشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشوا الزنا ويشرب الخمر وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد
ومن غريب حديث على بن أبى طالب رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا فعلت أمتى خمس عشرة خصلة حل بها البلاء
قيل وما هي يارسول الله قال إذا صار المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها
فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا أو مسخا وقذفا وفي الباب عن أبى هريرة رضى الله عنه قريب من هذا(168/342)
وفيه ساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم ارذلهم وفيه ظهرت القيان والمعازف وفي آخره فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع
فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبى صلى الله عليه وسلم
أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو - في الحقيقة - تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها فلما عوضوا منها غيرها وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعا كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات
والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع الأولون
أما ما تقدم عن القرافى وشيخه فقد مر الجواب عنه فإنها معاص في الجملة
ومخالفات للمشروع كالمكوس والمظالم وتقديم الجهال على العلماء وغير ذلك
والمباح منها كالمناخل إن فرض مباحا - كما قالوا - فإنما إباحته بدليل شرعى فلا ابتداع فيه
وإن فرض مكروها - كما أشار إليه محمد بن أسلم - فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات إذ في الأمر أول ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
المناخل - أو كما قال - فأخذ بظاهر اللفظ من أخذ به كمحمد بن أسلم
وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته قوله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية لا من جهة أنه بدعة
وقولهم كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات مسلم وليس كلامنا في الجواز العقلى وإنما الكلام في الوقوع وفيه النزاع(168/343)
وأما ما احتجوا به من الاحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد إذ لم ينص عل أنها بدع أو محدثات أو ما يشير إلى ذلك المعنى وأيضا إن عدوا كل محدث العادات بدعة فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التى لا عهد بها في الزمان الأول بدعا وهذا شنيع فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والأسم فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم هذا من المستنكرجدا
نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكلام والسنة
وأيضا فقد يكون التزام الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبا ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثم معارض
وإنما جعل الشارع ما تقدم في الأحاديث المذكورة من فساد الزمان واشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى متقدم الزمان فإن الخير كان أظهر والشركان أخفى واقل بخلاف آخر الزمان فإن الامر فيه على العكس والشر فية أظهر والخير أخفى
وأما كون تلك الاشياء بدعا فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة فراجع النظر فيها تجده كذلك
والصواب في المسألة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين و تحقق المقصود في الطريقتين وهو الذي بنى عليه ترجمة هذا الباب فلنفرده في فصل على حدته والله الموفق للصواب
فصل
أفعال المكلفين - بحسب النظر الشرعي فيها - على ضربين
أحدهما أن تكون من قبيل العبادات والثاني أن تكون من قبيل العادات
فأما الأول فلا نظر فيها ها هنا(168/344)
وأما الثاني - وهو العادى - فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعباديات فكما أنا مأمورن في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العاديات وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم حيث كره في سنة العقيقة مخالفة من قبله في أمر عادي وهو استعمال ا لمناخل مع العلم بانه معقول المعنى نظرا منه - والله أعلم - إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد ويظهر أيضا من كلام من قال أول ما أحدث الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
المناخل
ويحكى عن الربيع بن أبى راشد أنه قال لولا أنى أخاف من كان قبلى لكانت الجبانة مسكنى إلى أن أموت
والسكنى عادى بلا إشكال
وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلا في قسم العباديات فدخول الابتداع فيه ظاهر والأكثرون على خلاف هذا وعليه نبنى الكلام فنقول ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادى من شائبة التعبد لان ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهى عنه فهو المراد بالتعبدى وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدى والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي لأن أحكامها معقوله المعنى ولا بد فيها من التعبد إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها كانت اقتضاء أو تخييرا فإن التخيير في التعبدات إلزام كما أن الاقتضاء إلزام - حسبما تقرر برهانه في كتاب الموافقات - وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صح دخوله في العاديات كالعباديات وإلا فلا(168/345)
وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة فمما أتى به القرافي وضع المكوس في معاملات الناس فلا يخلو هذا الوضع المحرم ان يكون على قصد حجر التصرفات وقتا ما أو في حالة ما لنيل حطام الدنيا على هيئة غصب الغاصب وسرقة السارق وقطع القاطع للطريق وما اشبه ذلك او يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والامر المحتوم عليهم دائما أو في أوقات محدودة علي كيفيات مضروبة بحيث تضاهى المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة كما في أخذ زكاة المواشى والحرث وما أشبه ذلك
فأما الثاني فظاهر أنه بدعة إذ هو تشريع زائد وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة والديات المضروبة والغرامات المحكوم بها في اموال الغصاب والمتعبدين بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المتحومة أو ما أشبه ذلك فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك لانه شرع مستدرك وسن في التكليف مهيع فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ونظر من جهة كونها اختراعا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف فاجتمع فيها نهيان نهى عن المعصية ونهى عن البدعة وليس ذلك موجودا في البدع في القسم الأول وإنما يوجد به النهى من جهة كونها تشريعا موضوعا على الناس أمر وجوب أو ندب إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية بل نفس التشريع هو نفس الممنوع(168/346)
وكذلك تقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بطريق التوريث هو من قبيل ما تقدم فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيا في الدين ومعمولا بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها محرم في الدين وكون ذلك يتخذ ديدنا حتى يصير الابن مستحقا لرتبة الاب - وإن لم يبلغ رتبة الاب في ذلك المنصب - بطريق الوراثة أو غير ذلك بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف بدعة بلا إشكال زيادة إلى القول بالراى غير الجاري على العلم وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتى تفسيره إن شاء الله وهو الذي بينه النبى صلى الله عليه وسلم
بقوله حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأظلوا وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم
وأما إقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا وذلك صحيح فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جدا وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص تشريعا خارجا عن قبيل المصالح المرسلة بحيث يعد من الدين الذي يدين به هؤلاء المطلوبون به او يكون ذلك مما يعد خاصا بالأئمة دون غيرهم كما يزعم بعضهم أن خاتم الذهب جائز لذوى السلطان أو يقول إن الحرير جائز لهم لبسه دون غيرهم وهذا اقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم
ويشبهه على قرب زخرفة المساجد(168/347)
إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقا في سبيل الله وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره أو قصد ذلك في فعله أولا بأنه ترفيع للإسلام لما لم ياذن الله به وليس ما حكاه القرافى عن معاوية من قبيل هذه الزخارف بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق خرق يتسع فلا يرقع - هذا إن صح ما قال
وإلا فلا يعول على نقل المؤرخين ومن لا يعتبر من المؤلفين وأحرى أن ينبنى عليه حكم
وأما مسألة المناخل فقد مر ما فيها والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع فلا نطول به وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلام من غير فرق فتبين مجال البدعة في العاديات من مجال غيرها وقد تقدم أيضا فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه
وأما وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات على ما أريد تحقيقه فنقول إن مدارك تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة يمكن ردها إلى اصول هي كلها أو غالبها بدع وهي قلة العلم وظهور الجهل والشح وقبض الأمانة وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر وكون المغنم دولا والزكاة مغرما وارتفاع الأصوات في المساجد وتقديم الأحداث ولعن آخر الأمة أولها وخروج الدجالين ومفارقة الجماعة
وأما الشح فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام
وذلك ان الناس يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم
كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار على النفس
ويليه أنواع القرض الجائز
ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر
وبالإسقاط كما قال وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون وهذا كان شأن من تقدم من السلف الصالح
ثم نقص الإحسان بالوجوه بالأول
فتسامح الناس بالقرض(168/348)
ثم نقض ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطرالمعسر إلى أن يدخل في
المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع
كالربا والسلف الذي يجر النفع فيجعل بيعا في الظاهر
ويجرى في الناس شرعا شائعا ويدين به العامة وينصبون هذه المعاملات متاجر واصلها الشح بالأموال حب الزخارف الدنيوية والشهوات العاجلة فإذا كان كذلك فالحرى أن يصير ذلك ابتداعا في الدين وأن يجعل من أشراط الساعة
فإن قيل هذا انتجاع من مكان بعيد وتكلف لا دليل عليه
فالجواب أنه لولا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قيل به فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله انزل الله بهم بلاءا فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم
ورواه أبو داود أيضا وقال فيه إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم
فتأمل كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس فأشعر بان التبايع بالعينة يكون عن الشح بالأموال وهو معقول في نفسه
فإن الرجل لا يتبايع أبدا هذا التبايع وهو يجد من يسلفه أو من يعينه في حاجته
إلا أن يكون سفيها لا عقل له
ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود ايضا عن على رضى الله عنه قال سيأتى على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك
قال الله تعالى وما انفقتم من شىء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وينشد شرار خلق الله يبايعون كل مضطر
ألا إن بيع المضطر حرام المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه
إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه
وهذه الأحاديث الثلاثة - وإن كانت أسانيدها ليست هناك - مما يعضد بعضه بعضا وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع(168/349)
قال بعضهم عامة العينة إنما تقع من رجل يضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربحه في المائة ما أحب
فيبيعها ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك ففسر بيع المضطر ببيع العينة العينة ن وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل - حسبما هو مبسوط في الفقهيات - فقد صار الشح إذا سببا في دخول هذه المفاسد في البيوع
فإن قيل كلامنا في البدعة في فساد المعصية لأن هذه الأشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه
فالجواب أن مدخل البدعة هاهنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس فقد عده العلماء من البدع المحدثات حتى قال ابن المبارك في كتاب وضع في الحيل من وضع هذا فهو كافر ومن سمع به فرضى به فهو كافر ومن حمله من كورة فهو كافر ومن كان عنده فرضى به فهو كافر وذلك أنه وقع فيه الاحتيالات بأشياء منكرة حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد
وقال إسحاق بن راهويه عن سفيان بن عبد الملك ان ابن المبارك قال في قصة بنت أبى روح حيث أمرت بالارتداد وذلك في ايام أبى غشان فذكر شيئا
ثم قال ابن المبارك وهو مغضب
أحدثوا في الإسلام
ومن كان أمر بهذا فهو كافر
ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر - ثم قال ابن مبارك ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ وكان يحسنها ولم يجد من يمضيها فيهم حتى جاء هؤلاء
وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام حتى يصير حلالا وللواجب حتى يكون غير واجب
وما أشبه ذلك من الأمور الخارجة عن نظام الدين كما أجازوا نكاح المحلل وهو احتيال على رد المطلقة ثلاثا لمن طلقها وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهبة المستعارة وأشباه ذلك فقد ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكور فيها الشح وأنها تتضمن ابتداعا كما تتضمن معاصى جملة(168/350)
وأما قبض الأمانة فعبارة عن شياع الخيانة وهي من سماة أهل النفاق ولكن يوجد في الناس بعض أنواعها تشريعا وحكيت عن قوم ممن ينتمى إلى العلم كما حكيت عن كثير من الأمراء فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع العينة على إخفاء ما ولو أظهروه لكان البيع فاسدا فأخفوه لتظهر صحته
فإن بيعة الثوب بمائة وخمسين إلى أجل لكنهما اظهرا وساطة الثوب وأنه هو المبيع والمشتري وليس كذلك بدليل الواقع
وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلا بلسان حاله ومقاله أنا غير محتاج إلى هذا المال وأنت أحوج إليه منى
ثم يهبه فإذا جاء الحول ألآخر قال الموهوب له للواهب مثل المقالة الأولى والجميع في الحالين بل في الحولين في تصريف المال سواء أليس هذا خلاف الأمانة والتكليف من اصله أمانة فيما بين العبد وربه فالعمل بخلاف خيانة
ومن ذلك أن بعض الناس كان يحفر الزينة ويرد من الكذب ومعنى الزينة التدليس بالعيوب وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم
وأيضا فإن كثيرا من الأمراء يحتاجون أموال الناس اعتقادا منهم أنها لهم دون المسلمين
ومنهم من يعتقد نوعا من ذلك في الغنائم المأخوذة عنوة من الكفار فيجعلونها في بيت المال ويحرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلا على الشريعة بالعقول
فوجه البدعة ها هنا ظاهر
وقد تقدم التنبيه على ذلك في تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا - ويدخل تحت هذا النمط كون الغنائم تصير دولا وقوله سترون بعدى أثرة وأمراء تنكرونها - ثم قال أدوا إليهم حقهم وسلوا الله دقهم
وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر فخرج ابو داود وأحمد وغيرهما عن ابى مالك الأشعرى رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/351)
ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها - زاد ابن ماجه - يعزف على رءوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير وخرجه البخاري عن أبى عامر وأبى مالك الأشعري قال فيه ليكونن من أمتى أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف
ولينزلن أقوام إلى جنب علم
تروح عليهم سارحة لهم يأتيهم رجل لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة وفي سنن أبى داود ليكونن من أمتى أقوام يستحلون الخز والحرير - وقال في آخره - يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة
والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير وغيره
وقوله في الحديث ولينزلن أقوام يعنى - والله أعلم - من هؤلاء المستحلين والمعنى إن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم - وهو الجبل فيواعدهم إلى الغد فيبيتهم الله - وهو أخذ العذاب ليلا - ويمسخ منهم آخرين كما في حديث أبى داود كما في الحديث قبل يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير
وكأن الخسف ها هنا التبييت المذكور في الآخر
وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلو هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره وإنما الخمر عصير العنب النىء وهذا رأى طائفة من الكوفيين وقد ثبت أن كل مسكر خمر
قال بعضهم وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته - قال وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأخذ بما أوقعوها به يوم السبت في الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا ليس هذا بصيد ولا عمل يوم السبت وليس هذا باستباحة الشح(168/352)
بل الذي يستحل الخمر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه بأن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصود الخمر أفسد تأويلا من جهة ان اهل الكوفة من أكثر الناس قياسا فلئن كان من القياس ما هو حق فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل
وهو من القياس الجلى
إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم
فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالا لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ
وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النىء فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير للنساء مطلقا وللرجال في بعض الأحوال فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحوه وأبيح منه الحداء وغيره وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وآعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء
وقد خرج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبى صلى الله عليه وسلم
قال يأتى علىالناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع قال بعضهم يعنى العينة
وروى في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربى عن ابى ثعلبة عن النبى صلى الله عليه وسلم(168/353)
قال اول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض يستحل في الحر والخز يريد استحلال الفروج الحرام والحر بكسر الحاء المهملة والراء المخففة الفرج قالوا ويشبه - والله أعلم - أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك مما يوجب استحلال الفروج المحرمة فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل فإن هذا لم يزل معمولا في الناس ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الاصل فيمن اعتقد الشىء حلالا والواقع كذلك فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين في تلك الأزمان صار في أولى الأمر من يفتى بنكاح المحلل ونحوه ولم يكن قبل ذلك من يفتى به اصلا
ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود رضى الله عنه المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له
وروى أحمد عن ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم
قال ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا احلوا بانفسهم عقاب الله فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا
وقد جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما موقوفا ومرفوعا قال يأتى على الناس زمان يستحل فيه خمسة اشياء - يستحلون الخمر باسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالريبة والزنا بالنكاح والربا بالبيع فإن الثلاثة المذكورة اولا قد سنت وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية فهو ظاهر وأستحلال القتل بأسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسية وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضا وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة
وقد وصف النبى صلى الله عليه وسلم(168/354)
الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال إن من ضئضىء هذا قوما يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يقتلون اهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ولعل هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبى هريرة رضى الله عنه يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا الحديث
يدل عليه تفسير الحسن قال يصبح محرما لدم أخيه وعرضه ويمسى مستحلا إلى آخره
وقد وضع القتل شرعا معمولا به على غير سنة الله وسنة رسوله المتسمى بالمهدى
المغربى الذي زعم انه المبشر به في الأحاديث فجعل القتل عقابا في ثمانية عشر صنفا ذكروا منها الكذب والمداهنة وأخذهم أيضا بالقتل في ترك امتثال امر من يستمع أمره وبايعوه على ذلك وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم ومن لم يحضر أدب فإن تمادى قتل وكل من لم يتادب بما ادب به ضرب بالسوط المرة والمرتين فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل ومن داهن على اخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل
وكل من شك في عصمته قتل أو شك في أنه المهدى المبشر به وكل من خالف أمره أمر أصحابه فعروه فكان أكثر تأديبه القتل - كما ترى - كما انه كان من رأيه ان لا يصلى خلف إمام أو خطيب يأخذ أجرا على الإمامة أو الخطابة وكذلك لبس الثياب الرفيعة - وإن كانت حلالا - فقد حكوا عنه قبل ان يستفحل أمره انه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات بذلك السبب فقدم خطيب آخر في ثياب حفيله تباين التواضع - زعموا - فترك الصلاة خلفه
وكان من رايه ترك الراى واتباع مذاهب الظاهرية قال العلماء وهو بدعة ظهرت في الشريعة بعد المائتين ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادى على الباطل كله(168/355)
وذكر في كتاب الإمامة أنه هو الإمام واصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم بدىء الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء وقال في الكتاب المذكور جاء الله بالمهدى وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد وأن به قامت السموات والأرض وبه تقوم ولا ضد له ولا مثل ولا ند انتهى وكذب فالمهدى عيسى عليه السلام وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح وبعد المغرب فأمر المؤذنين إذا طلع الفجر أن ينادوا أصبح ولله الحمد إشعارا - زعموا - بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ولحضور الجماعة وللغدو لكل ما يؤمرون به
وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا وجميع ذلك إلى أنه قائل برأيه في العبادات والعادات مع زعمه أنه قائل غير قائل بالرأى
وهو التناقض بعينه
فقد ظهر إذن جريان تلك الأشياء على الابتداع
وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشىء عن بدعة الجدال في الدين فإن من عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه أن يكون في المساجد ومن آدابة أن لا ترفع فيه الأصوات في غير المساجد فما ظنك به في المساجد فالجدال فيه زيادة الهوى فإنه غير مشروع في الأصل
فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين
وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما
وكمتشابهات القرآن
ولأجل ذلك جاء في الحديث عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية قال فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم وفي الحديث ما ضل قوم بعده هدى إلا أوتوا الجدل وجاء عنه عليه السلام أنه قال ولا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر وعنه عليه السلام انه قال إن القرآن يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض ما علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه وقال عليه السلام أقرأو القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم(168/356)
فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه وخرج ابن وهب عن معاوية بن قرة قال إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال
وقال النخعى في قوله تعالى وألقينا بينهم العداوة والبغضاء
قال الجدال والخصومات في الدين
وقال معن بن عيسى
انصرف مالك يوما إلى المسجد وهو متكىء على يدى فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتم بالإرجاء
فقال يا أبا عبد الله اسمع منى شيئا أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيى فقال له احذر أن اشهد عليك
قال والله ما اريد إلا الحق
اسمع منى فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم
قال فإن غلبتنى قال اتبعنى
قال فإن غلبتك قال اتبعتك
قال فإن جاء رجل فكلمناه فغلبناه قال اتبعناه
فقال له مالك يا عبد الله بعث الله محمدا بدين واحد وأراك تنتقل
وقال عمر بن عبد العزيز من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل وقال مالك ليس الجدال في الدين بشىء
والكلام في ذم الجدال كثير
فإذا كان مذموما فمن جعله محمودا وعده من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين
ولما كان اتباع الهوى اصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يمارى ويطلب الغلبة وذلك مظنة رفع الأصوات فإن قيل عددت رفع الاصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك فرفع الأصوات قد يكون في العلم ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد وإن كان في العلم أو في غير العلم
قال ابن القاسم في المبسوط رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد
وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين إحداهما أنه يحب أن ينزه المسجد عن مثل هذا لانه مما أمر بتعظيمه وتوقيره
والثانية أنه مبنى للصلاة وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار فأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى
وروى مالك ان عمر بن الخطاب رضى الله عنه بنى رحبة بين ناحية المسجد تسمى البطيحاء
وقال من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة(168/357)
فإذا كان كذلك فمن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد على الجدال المنهى عنه فالجواب من وجهين احدهما أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم اعنى في أكثر الأمر دون الفلتات لان رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشى عن الهوى في الشىء المتكلم فيه وأقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت الكلام فيما لم يؤذن فيه وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم
وايضا لم يكثر الكلام جدا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام وإلى غرضه تصوبت سهام النقد والذم فهو إذا هو
وقد روى عن عميرة بن أبي ناجية المصرى أنه رأى قوما يتعاون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال هؤلاء قوم قد ملوا العبادة وأقبلوا على الكلام اللهم أمت عميرة فمات من عامه ذلك في الحج فرأى رجل في النوم قائلا يقول مات في هذه الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة فجاء موت عميرة هذا
والثاني أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الاصوات يدل على ما قلنا لكان أيضا من البدع إذا عد كانه من الجائز في جميع انواع العلم فصار معمولا به لا نفى ولا يكف عنه مجرى البدع المحدثات
وأما تقديم الأحداث على غيرهم من قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم كان ذلك التقديم في رتب العلم أو غيره لان الحدث أبدا أو في غالب الأمر غر لم يتحنك ولم يرتض في صناعته رياضة تبلغه مبالغ الشيوخ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة ولذلك قالوا في المثل
وابن اللبون إذا ما لز في قرن
لم يستطع صولة البزل القناعيس(168/358)
هذا إن حملنا الحديث على حداثة السن وهو نص في حدث ابن مسعود رضى الله عنه فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة - ويحتمله قوله وكان زعيم القوم أرذلهم وقوله وساد القبيلة فاسقهم وقوله إذا اسند الأمر إلى غير أهله فالمعنى فيها واحد فإن الحديث العهد بالشىء لا يبلغ مبالغ القديم العهد فيه ولذلك يحكى عن الشيخ أبى مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عنهم فقال الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد وإن كان ابن ثمانين سنة
فإذا تقديم الأحداث على غيرهم من باب تقديم الجهال على غيرهم ولذلك قال فيهم سفهاء الأحلام وقال يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم إلى آخره وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج إن من ضئضىء هذا قوما يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم إلى اخر الحديث يعنى أنهم لم يتفقهوا فيه فهو في ألسنتهم لا في قلوبهم
وأما لعن آخر هذه الامة أولها فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضى الله عنهم حين لم يصرفوا الخلافة إلى على رضى الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكفرت عليا رضى الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها
وأما ما دون ذلك مما يوقف فيه عنه السبب فمنقول موجود في الكتب وإنما فعلوا ذلك لمذاهب سوء لهم رأوها فبنوا عليها ما يضاهيها من السوء والفحشاء فلذلك عدوا من فرق أهل البدع
قال مصعب الزبيري وابن نافع دخل هارون يعنى الرشيد المسجد فركع ثم أتى قبر النبى صلى الله عليه وسلم
فسلم عليه ثم أتى مجلس مالك فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته ثم قال لمالك هل لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/359)
في الفيء حق قال لا ولا كرامة ولا مسرة قال من أين قلت ذلك قال قال الله عز وجل ليغيظ بهم الكفار فمن عابهم فهو كافر ولا حق لكافر في الفىء واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الآيات الثلاث قال فهم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذين هاجروا معه وأنصاره والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه وفي فعل خواص الفرق من هذا العنى كثير
وأما بعث الدجالين فقد كان ذلك جملة منهم من تقدم في زمان بنى العباس وغيرهم
ومنهم معد من العبيدية الذين ملكوا إفريقية فقد حكى عنه أنه جعل المؤذن يقول أشهد أن معدا رسول الله عوضا من كلمة الحق اشهد أن محمد رسول الله فهم المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره فلما انتهى كلامهم إليه قال أردد عليهم أذانهم لعنهم الله
ومن يدعى لنفسه العصمة فهو شبه من يدعى النبوة ومن يزعم أنه به قامت السموات والأرض فقد جاوز دعوى النبوة وهو المغربي المتسمى بالمهدى
وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة واستظهر عليها بأمور موهمة للكرامات والإخبار بالمغيبات ومخيلة لخوارق العادات تبعه على ذلك من العوام جملة ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا الباس - وهو مالقة - آخذا ينظر في قوله تعالى وخاتم النبيين وهل يمكن تأويله وجعل يطرق إليه الاحتمالات ليسوغ إمكان بعث نبى بعد محمد صلى الله عليه وسلم
وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبى جعفر ابن الزبير رحمه الله
ولقد حكى بعض مولفى الوقت قال حدثنى شيخنا ابو الحسن بن الجياب قال لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر بتلاوة سورة يس فقال أحد الذعرة ممن جمع السجن بينهما اقرأ قرآنك لأي شىء تتفضل على قرآننا اليوم أو في معنى هذا فتركها مثلا بلوذعيته(168/360)
واما مفارقة الجماعة فبدعتها ظاهرة ولذلك يجازي بالميتة الجاهلية وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم
فهذه أيضا من جملة ما اشتملت عليه تلك الاحاديث
وباقي الخصال المذكورة عائد إلى نحو آخر ككثرة النساء وقلة الرجال وتطاول الناس في البنيان وتقارب الزمان
فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبى - صلى الله عليه وسلم - من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع لكن من جهة التعبد لا من جهة كونها عادية وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة والمعصية التي هي ليست ببدعة
وإن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها ومن حيث يتعبد بها او توضع وضع التعبد تدخلها البدعة وحصل بذلك اتفاق القولين وصار المذهبان مذهبا واحدا وبالله التوفيق
فصل
فإن قيل أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد في العاديات من حيث هو توقيت معلوم معقول فإيجابه او إجازته بالرأى - كما تقدم من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عن الجادة - فظاهر
ومن ذلك القول بالتحسين والتقبيح العقلى والقول بترك العمل بخبر الواحد وما أشبه ذلك
فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به وهو أن المعاصى والمنكرات والمكروهات قد تظهر وتفشو ويجرى العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها إنكار من خاص ولا عام فما كان منها هذا شأنه هل يعد مثله بدعة أم لا
فالجواب ان مثل هذه المسألة لها نظران
أحدهما نظر من حيث وقوعها عملا واعتقادا في الأصل فلا شك أنها مخالفة لا بدعة إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة أن لا ينشرها ولا يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر بل لا تزول المخالفة ظهرت أولا واشتهرت أم لا وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه لا يؤثر في واحدة منهما والمبتدع قد يقام عن بدعة والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت عياذا بالله(168/361)
والثاني نظر من جهة ما يقترن بها من خارج فالقرائن قد تقترن فتكون
سببا في مفسدة حالية وفي مفسدة مالية كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة
أما الحالية فبأمرين الأول أن يعمل بها الخواص من الناس عموما وخاصة العلماء خصوصا وتظهر من جهتهم
وهذه مفسدة في الإسلام ينشأ عنها عادة من جهة العوام استسهالها واستجازتها لان العالم المنتصب مفتيا للناس بعمله كما هو مفت بقوله
فإذا نظر الناس إليه و هو يعمل بامر هو مخالفة حصل في اعتقادهم جوازه ويقولون لو كان ممنوعا أو مكروها لا متنع منه العالم
هذا وإن نص على منعه أو كراهته فإن عمله معارض لقوله فإما أن يقول العامي إن العالم خالف بذلك ويجوز عليه مثل ذلك وهم عقلاء الناس وهم الاقلون
وإما أن يقول إنه وجد فيه رخصة فإنه لو كان كما قال لم يأت به فيرجح بين قوله وفعله
والفعل أغلب من القول في جهة التأسى - كما تبين في كتاب الموافقات - فيعمل العامى بعمل العالم تحسينا للظن به فيعتقده جائزا وهؤلاء هم الأكثرون
فقد صار عمل العالم عند العامى حجة كما كان قوله حجة على الإطلاق والعموم في الفتيا فاجتمع على العامى العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل وهذا عين البدعة
بل لقد وقع مثل هذا في طائفة ممن تميز عن العامة بانتصاب في رتبة العلماء فجعلوا العمل ببدعة الدعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات وقراءة الحزب حجة في جواز العمل بالبدع في الجملة وان منها ما هو حسن وكان منهم من ارتسم في طريقة التصوف فأجاز التعبد لله بالعبادات المبتدعة واحتج بالحزب والدعاء بعد الصلاة كما تقدم
ومنهم من اعتقد انه ما عمل به إلا لمستند فوضعه في كتاب وجعله فقها كبعض أماريد الرس ممن قيد على الأمة ابن زيد واصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان والعمل به على الغفلة ومن هنا تستشنع زلة العالم فقد قالوا ثلاث تهدم الدين زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة ضالون(168/362)
و كل ذلك عائد وباله على عالم وزلله المذكور عند العلماء يحتمل وجهين
احدهما زلله في النظر حتى يفتى بما خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه وذلك الفتيا بالقول
والثاني زلله في العمل بالمخالفات فيتابع عليها أيضا على التأويل المذكور وهو في الاعتبار قائم مقام الفتيا بالقول إذ قد علم أنه متبع ومنظور إليه وهو مع ذلك يظهر بعمله ما ينهى عنه الشارع فكأنه مفت به على ما تقرر في الأصول
والثاني من قسمى المفسدة الحالية أن يعمل بها العوام وتشيع فيهم وتظهر فلا ينكرها الخواص ولا يرفعون لها رءوسهم قادرون على الإنكار فلم يفعلوا فالعامى من شانه إذا رأى امرا يجهل حكمه يعمل العامل به فلا ينكر عليه اعتقد أنه جائز وانه حسن أو انه مشروع بخلاف ما إذا أنكر عليه فإنه يعتقد انه عيب او انه غير مشروع أو أنه ليس من فعل المسلمن
هذا امر يلزم من ليس بعالم بالشريعة لأن مستنده الخواص والعلماء في الجائز مع غير الجائز
فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف المنكر ووجود القدرة عليه فلم يفعل دل عند العوام على انه فعل جائز لا حرج فيه فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من العوام فصارت المخالفة بدعة كما في القسم الأول
وقد ثبت في الاصول أن العالم في الناس قائم مقام النبى عليه الصلاة والسلام والعلماء ورثة الأنبياء فكما أن النبى صلى الله عليه وسم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره كذلك وارثه يدل علىالاحكام بقوله وفعله وإقراره واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور المنهى عنها فلم ينكرها العلماء او عملوا بها فصارت بعد سننا ومشروعات كزيادتهم مع الأذان اصبح ولله الحمد والوضوء للصلاة و تأهبوا ودعاء المؤذنين بالليل في الصوامع وربما احتجوا ذلك بعض الناس بما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما عليه فيه وقد قيدنا في ذلك جزءا مفردا فمن أراد الشفاء في المسألة فعليه به وبالله التوفيق(168/363)
وخرج أبو داود قال اهتم النبى صلى الله عليه وسلم
للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا
فلم يعجبه ذلك - قال - فذكر له القمع يعنى الشبور وفي رواية شبور اليهود فلم يعجبه وقال هو من امر اليهود قال فذكر له الناقوس فقال هو من أمر النصارى فانصرف عبدالله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأرى الأذان في منامه إلى أخر الحديث
وفي مسلم عن أنس بن مالك أنه قال ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشىء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال ان يشفع الأذان ويوتر الإقامة
والقمع والشبور - هو البوق - وهو القرن الذي وقع في حديث ابن عمر رضى الله عنهما
فأنت ترى كيف كره النبى صلى الله عليه وسلم
شأن الكفار فلم يعمل على موافقته
فكان ينبغى لمن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك في المساجد إعلاما بالأوقات أو غير إعلام بها أما الراية فقد وضعت إعلاما بالأوقات وذلك شائع في بلاد المغرب حتى إن الأذان معها قد صار في حكم التبع
وأما البوق فهو العلم في رمضان على غروب الشمس ودخول وقت الإفطار ثم هو علم أيضا بالمغرب والأندلس على وقت السحور ابتداءا وانتهاءا والحديث قد جعل علما الانتهاء نداء ابن أم مكتوم
قال ابن شهاب وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادى حتى يقال له اصبحت أصبحت وفي مسلم وأبى داود لا يمنعن أحدكم نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم الحديث
فقد جعل آذان بلال لأن ينتبه النائم لما يحتاج إليه من سحوره وغيره فالبوق ما شأنه وقد كرهه عليه الصلاة والسام ومثله النار التي ترفع دائما في اوقات الليل وبالعشاء والصبح في رمضان ايضا إعلاما بدخوله فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور ثم ترفع في المنار إعلاما بالوقت والنار شعار المجوس في الأصل(168/364)
قال ابن العربى اول من اتخذ البخور في المسجد بنو برمك يحيى بن خالد ومحمد بن خالد - ملكهما الوالى أمر الدين فكان محمد بن خالد حاجبا ويحيى وزيرا ثم ابنه جعفر بن يحيى - قال وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة فأحيوا المجوسية واتخذوا البخور في المساجد - وإنما تطيب بالخلوق - فزادوا التجمير ويعمرونها بالنار منقولة حتى يجعلوها عند الأندلس ببخورها ثابتة
انتهى
وحاصله أن النار ليس إيقادها في المساجد من شان السلف الصالح ولا كانت مما تزين بها المساجد البتة ثم أحدث التزين بها حتى صارت من جملة ما يعظم به رمضان واعتقد العامة هذا كما اعتقدوا طلب البوق في رمضان في المساجد حتى لقد سأل بعض عنه اهو سنة أم لا ولا يشك أحد ان غالب العوام يعتقدون أن مثل هذه الامور مشروعة على الجملة في المساجد وذلك بسبب ترك الخواص الإنكار عليهم وكذلك ايضا لما لم يتخذ الناقوس للإعلام حاول الشيطان فيه بمكيدة أخرى فعلق بالمساجد واعتد به في جملة الآلات التي توقد عليها النيران وتزخرف بها المساجد زيادة إلى زخرفتها بغير ذلك كما تزخرف الكنائس والبيع
ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن ذكر النواوى أنها من البدع القبيحة وأنها ضلالة فاحشة جمع فيها أنواع من القبائح - منها إضاعة المال في غير وجهه ومنها إظهار شعائر المجوس ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع ا ه
وقد ذكر الطرطوشى في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور وذكر أيضا قبائح سواها
فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر أو وضع الرداء وهو أقرب مراما وايسر خطبا من أن تنشأ بدع محدثات يعتقدها العوام سننا بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب عملهم بها(168/365)
واما المفسدة المالية فهي على فرض ان يكون الناس عاملين بحكم المخالفة وانها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة
لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من غير إنكار
لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعلمهم بالربا فكل من يراهم من العامة صيارف وتجارا في اسواقنا من غير إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك وانت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلى الموضوع من الذهب والفضة ولا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنا بوزن ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلا والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها ويعتقدون أن ذلك جائز لهم ولم يزل العلماء من السلف الصالح ومن بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الأشياء حتى كانوا يتركون السنن خوفا من اعتقاد العوام أمرا هو أشد من ترك السنن وأولى ان يتركوا المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع - وقد مر بيان هذا في باب البيان من كتاب الموافقات فقد ذكروا أن عثمان رضى الله عنه كان لا يقصر في السفر فيقال له أليس قد قصرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيقول بلى ولكنى إمام الناس فينظر إلى الأعراب وأهل البادية أصلى ركعتين فيقولون هكذا فرضت
قال الطرطوشى تأملوا رحمكم الله فإن في القصر قولين لأهل الإسلام منهم من يقول فريضة ومن أتم فإنما يتم ويعيد أبدا
ومنهم من يقول سنة يعيد من أتم في الوقت ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء العاقبة ان يعتقد الناس أن الفرض ركعتان وكان الصحابة رضى الله عنهم لا يضحون يعنى انهم لا يلتزمون
قال حذيفة ابن اسد شهدت أبا بكر وعمر رضى الله عنهما لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة
وقال بلال لا أبالى أن اضحى بكبشين او بديك(168/366)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه كان يشترى لحما بدرهم يوم الأضحى ويقول لعكرمة من سألك فقل هذه اضحية ابن عباس
وقال ابن مسعود إنى لاترك أضحيتي - وإنى لمن ايسركم - مخافة أن يظن انها واجبة
وقال طاوس ما رأيت بيتا أكثر لحما وخبزا وعلما من بيت ابن عباس يذبح وينحر كل يوم ثم لا يذبح يوم العيد
وإنما يفعل ذلك لئلا يظن الناس أنها واجبة وكان إماما يقتدى به
قال الطرطوشى والقول في هذا كالذي قبله وإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية
أحدهما سنة والثاني واجبة ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرا من أن يضع الناس الامر على غير وجهة فيعتقدونها فريضة
قال مالك في الموطإ في صيام ستة بعد الفطر من رمضان إنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها - قال - ولم يبلغنى ذلك عن أحد منا السلف وان اهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وان يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منها لو رأوا في ذلك رخصة من اهل العلم ورأوهم يقولون ذلك
فكلام مالك هنا ليس في دليل على انه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه لكنه لم ير العمل عليه وإن كان مستحبا في الأصل لئلا يكون ذريعة لما قال كما فعل الصحابة رضى الله عنهم في الأضحية وعثمان في الإتمام في السفر وحكى الماوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان هو الأصل فذكر ان الناس كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب لانه كان مفروشا بالتراب فأمر زياد بإلقاء الحصا في صحن المسجد وقال لست آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ ان مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة
وهذا في مباح فكيف به في المكروه أو الممنوع ولقد بلغنى في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام انه قال في الخمر ليست بحرام ولا عيب فيها وإنما العيب ان يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه(168/367)
وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الاسلام كفرا لانه إنكار لما علم من دين الأمة ضرورة وبسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها والتخلية بينهم وبين اقتنائها وشهرته بحارة أهل الذمة فيها وأشباه ذلك
ولا معنى للبدعة إلا ان يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا وليس بمشروع
وهذا الحال متوقع أو واقع فقد حكى القرافى عن العجم ما يقتضى ان ستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان لإبقائهم حالة رمضان الخاصة به كما هي إلى تمام الستة الأيام وكذلك وقع عندنا مثله وقد مر في الباب الأول
وجميع هذا منوط إثمه بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم أو من يعمل ببعضها بمرأى من الناس أو في مواقعهم فإنهم الأصل في انتشار هذه الاعتقادات في المعاصى أو غيرها
وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه
أحدها - وهو أظهر الأقسام - أن يخترعها المبتدع
والثاني ان يعمل بها العالم على وجه المخالفة فيفهمها الجاهل مشروعة
والثالث ان يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار وهو قادر عليه فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة
والرابع من باب الذرائع وهي أن يكون العمل في أصله معروفا إلا أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى
إلا ان هذه الاقسام ليست على وزان واحد ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ بل هي في القرب والبعد على تفاوت فالأول هو الحقيق باسم البدعة فإنها تؤخذ علة بالنص عليها ويليه القسم الثاني فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول بل قد يكون أبلغ منه في مواضع - كما تبين في الأصول - غير انه لا ينزل ها هنا من كل وجه منزلة الدليل أن العالم قد يعمل وينص على قبح عمله ولذلك قالوا لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك
وقال الخليل ابن احمد أو غيره
اعمل بعلمى ولا تنظر إلى عملي
ينفعك علمى ولا يضررك تقصيري(168/368)
ويليه القسم الثالث فإن ترك الإنكار - مع أن رتبة المنكر رتبة من يعد ذلك منه إقرارا - يقتضى ان الفعل غير منكر ولكن يتنزل منزلة ما قبله لان الصوارف للقدرة كثيرة قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل فإنه لا عذر في فعل الإنسان بالمخالفة مع علمه بكونها مخالفة
ويليه القسم الرابع لان المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه بالعرض فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوى رتبة الواقعة أصلا فلذلك كانت من باب الذرائع فهي إذا لم تبلغ ان تكون في الحال بدعة فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة
وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات والبدعة من خارج إلا انها لازمة لزوما عاديا ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالت والله اعلم
الباب الثامن في
الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان
هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيرا من الناس عدوا اكثر المصالح المرسلة بدعا ونسبوها إلى الصحابة والتابعين وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة فقالوا إن منها ما هو واجب ومندوب وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارىء واحد
وأيضا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين فليس له على هذا شاهد شرعى على الخصوص ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول
وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة فإنها راجعة إلى امور في الدين مصلحية - في زعم واضعيها - في الشرع على الخصوص
وإذا ثبت هذا فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقا فاعتبار البدع المستحسنة حق لأنهم يجريان من واد واحد
وإن لم يكن اعتبار البدع حقا لم يصح اعتبار المصالح المرسلة(168/369)
وأيضا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا فيه بل قد اختلف عليه أهل الأصول على أربعة أقوال - فذهب القاضى وطائفة من الأصوليين إلى رده وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل
وذهب مالك إلى اعتبار ذلك وبنى الأحكام عليه على الإطلاق وذهب الشافعى ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذى لم يستند إلى أصل صحيح لكن بشرط قربه من معانى الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني
وذهب الغزالى إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين وإن وقع في رتبة الضرورى فميله إلى قبوله لكن بشرط
قال ولا يبعد أن يؤدى إليه اجتهاد مجتهد
واختلف قوله في الرتبة المتوسطة وهي رتبة الحاجى فرده في المستصفى هو آخر قوليه وقبله في شفاء الغليل كما قبل ما قبله
وإذا اعتبر من الغزالى اختلاف قوله فالأقوال خمسة فإذا الراد لاعتبارها لايبقى له في الواقع له في الوقائع الصحابية مستند إلا انها بدعة مستحسنة - كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه في الاجتماع لقيام رمضان نعمت البدعة هذه - إذ لا يمكنهم ردها لاجماعهم عليها
وكذلك القول في الاستحسان فإنه - على ما المتقدمون راجع إلى الحكم بغير دليل والنافى له لا يعد الاستحسان سببا فلا يعبتر في الأحكام البتة فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها
فلما كان هذا الوضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته - كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر بحول الله والله الموفق فنقول المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام
أحدها ان يشهد الشرع بقبوله فلا إشكال في صحته ولا خلاف في إعماله وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها(168/370)
والثاني ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله إذ المناسبة لا تقتضى الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلى بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذ نقبله فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل يرده كان مردودا باتفاق المسلمين
ومثال ما حكى الغزالى عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان فقال عليك صيام شهرين متتابعين فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين فقال لهم لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك واعتق عبيدا مرارا فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين
فهذا المعنى مناسب لان الكفارة مقصود الشرع منها الزجر والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام
وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين قائل بالتخيير وقائل بالترتيب فيقدم العتق على الصيام فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغنى لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شىء يشبه هذا لكنه على صريح الفقه
قال يحيى بن بكير حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة
فسأل مالكا فقال صيام ثلاثة ايام واتبعه على ذلك إسحاق ابن إبراهيم من فقهاء قرطبة
حكى ابن بشكوال ان الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى احدى كرائمه ووطئها في رمضان فأفتوا بالإطعام وإسحاق بن إبراهيم ساكت(168/371)
فقال له أمير المؤمنين ما يقول الشيخ في فتوى اصحابه فقال له لا أقول بقولهم وأقول بالصيام فقيل له اليس مذهب مالك الإطعام فقال لهم تحفظون مذهب مالك إلا انكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين إنما أمر مالك بالإطعام لمن له مال وامير المؤمنين لا ما له إنما هو مال بيت المسلمين - فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه ا ه وهذا صحيح
نعم حكى بن بشكوال إنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان فسال الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته
فقال يحيى بن يحيى يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين
فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده فقالوا ليحيى مالك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام فقال لهم لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على اصعب الأمور لئلا يعود
فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله وكان كلامه على ظاهره كان مخالفا للإجماع
الثالث ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه فهذا على وجهين احدهما ان يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفان ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله
والثاني ان يلائم تصرفات الشرع وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله
ولتقتصر على عشرة أمثلة
المثال الأول
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
اتفقوا على جمع المصحف وليس ثم نص على جمعه وكتبه أيضا بل قد قال بعضهم كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/372)
فروى عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال ارسل إلى ابو بكر رضى الله عنه مقتل اهل اليمامة وإذا عنده عمر رضى الله عنه قال أبو بكر إن عمر أتانى فقال إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة وإنى أخشى ان يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير وإنى أرى ان تأمر بجمع القرآن
قال فقلت له كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال لى - هو - والله - خير
فلم يزل عمر يراجعنى في ذلك حتى شرح الله صدرى له ورأيت فيه الذي رأى عمر
قال زيد فقال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فتتبع القرآن فاجمعه
قال زيد فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على من ذلك فقلت كيف تعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال أبو بكر هو والله خير
فلم يزل يراجعنى في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدرى للذى شرح له صدورهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف ومن صدور الرجال فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة
ثم روى عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازى أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية واذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن فقال لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الامة قبل ان يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أرسل إلى بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك فأرسلت حفصة به إلى عثمان فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصى وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فامرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم(168/373)
قال ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف ان يحرق فهذا أيضا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لم يحصل منها في الغالب اختلاف
لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات - حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن - فلم يخالف في المسألة إلا عبدالله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان وقال يا اهل العراق ويا اهل الكوفة اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله يقول ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة وألقوا إليه بالمصاحف فتأمل كلامه فإنه لم يخالك في جمعه وإنما خالف امرا آخر
ومع ذلك فقد قال ابن هشام بلغنى أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يرد نص عن النبى صلى الله عليه وسلم
بما صنعوا من ذلك ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعا فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والأمر بحفظها معلوم وإلى منع الذريعة للاختلاف في اصلها الذي هو القرآن وقد علم النهى عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه
وإذا استقام هذا الاصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها إذا خيف عليها الاندراس زيادة على ما جاء في الأحاديث من الامر بكتب العلم
وانا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدى فيه من هذا القبيل لانى رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلا جدا إلا من النقل الجلى كما نقل بن وضاح او يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفى الغليل بالتفقه فيه كما ينبغى ولم أجد على شدة بحثى عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشى وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه فأخذت نفسى بالعناء فيه عسى أن ينتفع به واضعه وقارئه وناشره وكاتبه والمنتفع به وجميع المسلمين إنه ولى ذلك ومسديه بسعة رحمته(168/374)
المثال الثاني
اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
على حد شارب الخمر ثمانين وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل قال العلماء لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم
حد مقدر وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزيز ولما انتهى الأمر إلى أبى بكر رضى الله عنه قرره على طريق النظر باربعين ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضى الله عنه فتتابع الناس فجمع الصحابة رضى الله عنهم فاستشارهم فقال على رضى الله عنه من سكر هذى ومن هذى افترى فأرى عليه حد المفترى
ووجه إجراء المسالة على الاستدلال المرسل أن الصحابة او الشرع يقيم الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات والمظنة مقام الحكمة فقد جعل الإيلاج في احكام كثيرة يجرى مجرى الإنزال وجعل الحافر للبئر في محل العدوان وإن لم يكن ثم مرد كالمردى نفسه وحرم الخلوة بالاجنبية حذرا من الذريعة إلى الفساد إلى غير ذلك من الفساد فرأوا الشرب ذريعة إلى الافتراء الذي تقتضيه كثيرة الهذيان فإنه أول سابق إلى السكران - قالوا - فهذا من أوضح الأدلة على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها يعنى على الخصوص به وهو مقطوع من الصحابة رضى الله عنهم
المثال الثالث
إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع
قال على رضى الله عنه لا يصلح الناس إلا ذاك ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال والأغلب عليهم التفريط
وترك الحفظ فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد امرين إما ترك الاستصناع بالكلية وذلك شاق على الخلق وإما ان يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع فتضيع الأموال ويقل الاحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحة التضمين
هذا معنى قوله لا يصلح الناس إلا ذاك
ولا يقال إن هذا نوع من الفساد وهوتضمين البرىء
إذ لعله ما أفسد ولا فرط فالتضمين مع ذلك كان نوعا من الفساد(168/375)
لانا نقول إذا تقابلت المصلحة والمضرة فشان العقلاء النظر إلى التفاوت ووقوع التلف من الصناع من غير تسبب ولا تفريط بعيد والغالب الفوت فوت الأموال وأنها لا تستند إلى التلف السماوى بل ترجع إلى صنع العباد على المباشرة أو التفريط
وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار تشهد له الاصول من حيث الجملة فإن النبى صلى الله عليه وسلم
نهى عن أن يبيع حاضر لباد وقال دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض وقال لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة فتضمين الصناع من ذلك القبيل المثال الرابع
إن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم
وذهب مالك إلى جواز السجن في التهم وإن كان السجن نوعا من العذاب ونص أصحابه على جواز الضرب وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدى السراق والغصاب إذ قد يتعذر إقامة البينة فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار
فإن قيل هذا فتح باب التعذيب البرىء قيل ففى الإعراض عنه إبطال استرجاع الاموال
بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررا اذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعا من الظن
فالتعذيب في الغالب لا يصادف البدىء وإن امكن مصادفته فتغتفر كما اغتفر في تضمين الصناع
فإن قيل لا فائدة في الضرب وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال
فالجواب إن له فائدتين إحداهما ان يعين المتاع فتشهد عليه البينة لربه وهي فائدة ظاهرة
والثانية ان غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام
فقتل أنواع هذا الفساد وقد عد له سحنون فائدة ثالثة وهو الإقرار حالة التعذيب بأنه يؤخذ عنده بما أقد في تلك الحال
قالوا وهو ضعيف
فقد قال الله تعالى لا إكراه في الدين ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع كما إذا أكره على طلاق زوجته اما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به(168/376)
كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف فإنه مأخوذ به وقد تتفق له بهذه الفائدة على مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به
قال الغزالى - بعد ما حكى عن الشافعى أنه لا يقول بذلك وعلى الجملة فالمسألة في محل الاجتهاد - قال - ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع فإذا وقع النظر في تعارض المصالح كان ذلك قريبا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة
المثال الخامس
إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم فللإمام إذا كان عدلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال إلى أن يظهر مال بيت المال ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك كيلا يؤدى تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب وذلك يقع قليلا من كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل المقصود
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا فإن القضية فيه أحرى ووجه المصلحة هنا ظاهر فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلب شوكة الإمام وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار
وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله
فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها فضلا عن اليسير منها فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم باخذ البعض من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الاول
وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد
والملائمة الاخرى - أن الأب في طفله أو الوصى في يتيمه او الكافل فيمن يكفله مامور برعاية الأصلح له وهو يصرف ماله إلى وجوه من النفقات أو المؤن المحتاج إليها
وكل ما يراه سببا لزياة ما له أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله
ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره(168/377)
ولو وطىء الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة وإذا دعاهم الإمام وجبت الإجابة وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة زيادة إلى انفاق المال
وليس ذلك إلا لحماية الدين ومصلحة المسلمين
فإذا قدرنا هجومهم واستشعرالإمام في الشوكة ضعفا وجب على الكافة إمدادهم
كيف والجهاد في كل سنة واجب على الخلق وإنما يسقط باشتغال المرتزقة فلا يتمارى في بذل المال لمثل ذلك
وإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم فلا يؤمن من انفتاح باب الفتن بين المسلمين فالمسالة على حالها كما كانت وتوقع الفساد عتيد فلا بد من الحراس
فهذه ملاءمة صحيحة إلا انها في محل ضرورة فتقدر بقدرها فلا يصح هذا الحكم إلا مع وجودها
والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجى وأما إذا لم ينتظر شىء وضعفت وجوه الدخل بحديث لا يغنى كبير شىء فلا بد من جريان حكم التوظيف
وهذه المسألة نص عليها الغزالى في مواضع من كتبه وتلاه في تصحيحها ابن العربى في أحكام القرآن له وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع
المثال السادس
إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك - حسبما ذكره الغزالى
على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء عى منعه
فأما الغزالى فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ولا يلائم تصرفات الشرع مع أن هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما - قال - فإن قيل فقد روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه شاطر خالد بن الوليد في ماله حتى أخذ رسوله يرد نعله وشطر عمامته(168/378)
قلنا المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب باخذ المال على خلاف المألوف من الشرع وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية وإحاطته بتوسعته فلعله ضمن المال فرأى شطر ماله من فوائد الولاية فيكون استرجاعا للحق لا عقوبة في المال لان هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع
هذا ما قال ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال كما قال الغزالي وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان
احدهما كما صوره الغزالى فلا مرية في أنه غير صحيح على أن ابن العطار في رقائقه صغى إلى اجازة ذلك فقال في إجازة اعوان القاضى إذا لم يكن بيت المال
أنها على الطالب فإن ادى المطلوب كانت الإجازة عليه ومال إليه ابن رشد
ورده عليه ابن النجار القرطبى وقال إن ذلك من باب العقوبة في المال وذلك لا يجوز على حال
والثاني ان تكون جناية الجاني في نفس ذلك المال أو في عوضه فالعقوبة فيه عنده ثابتة
فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه إنه يتصدق به على المساكين قل أو كثر
وذهب ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قل منه دون ما كثر
وذلك محكى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء ووجه ذلك التأديب للغاش
وهذا التأديب لا نص يشهد له لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة
وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع
على أن أبا الحسن اللخمى قد وضع له أصلا شرعيا وذلك انه عليه الصلاة والسلام أمر بإكفاء القدور التي اغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم وحديث العتق بالمثلة أيضا من ذلك
ومن مسائل مالك في المسالة إذا اشترى مسلم من نصرانى خمرا فإن يكسر على المسلم ويتصدق بالثمن أدبا للنصرانى إن كان النصراني لم يقبضه
وعلى هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه وهو كله من العقوبة في المال إلا ان وجهه ما تقدم المثال السابع(168/379)
أنه لو طبق الحرام الأرض او ناحية من الأرض يعسر الانتقال منها وانسدت طرق المكاسب الطيبة ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق فإن ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة ويرتقى إلى قدر الحاجة في القوت والملبس والمسكن إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال ولم يزل الناس في مقاسات ذلك إلى ان يهلكوا وفي ذلك خراب الدين
لكنه لا ينتهى إلى الترفه و التنعم كما لا يقتصرعلى مقدار الضرورة
وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه فإنه قد أجاز أكل الميتة للمضطر والدم ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث المحرمات
وحكى ابن العربى الاتفاق على جواز الشبع عند توالى المخمصة وإنما اختلفوا إذا لم تتوال
هل يجوز له الشبع أم لا وأيضا فقد أجازوا أخذ مال الغير عند الضرروة ايضا
فما نحن فيه لا يقتصر عن ذلك
وقد بسط الغزالى هذه المسألة في الإحياء بسطا شافيا جدا وذكرها في كتبه الأصولية ك المنخول و شفاء العليل
المثال الثامن
أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد
والمستند فيه المصلحة المرسلة إذ لا نص على عين المسألة ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضى لله عنه وهو مذهب مالك والشافعى
ووجه المصلحة أن القتيل معصوم وقد قتل عمدا فإهداره داع إلى خرم أصل القصاص واتخاذ الاستعانة والأشتراك ذريعة إلى السعى بالقتل إذا علم انه لا قصاص فيه وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقا والمشترك ليس بقاتل تحقيقا فإن قيل هذا أمر بديع في الشرع وهو قتل غير القاتل
قلنا ليس كذلك بل لم يقتل إلا القاتل وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك والشافعى فهو مضاف إليهم تحقيقا إضافته إلى الشخص الواحد وإنما التعيين في تنزل الأشخاص منزلة الشخص الواحد وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعا مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء وعليه يجرى عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة وقطع الأيدى في النصاب الواجب
المثال التاسع(168/380)
إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع كما أنهم اتفقوا أيضا - أو كادوا أن يتفقوا على أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقى في رتبة الاجتهاد
وهذا صحيح على الجملة ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد لأن بين أمرين إما ان يترك الناس فوضى وهو عين الفساد والهرج
وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة ولا يبقى إلا فوت الاجتهاد والتقليد كاف بحسبه وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحى يشهد له وضع اصل الإمامة وهو مقطوع به بحيث لا يفتقر في صحته وملاءمته إلى شاهد
هذا - وإن كان ظاهره مخالفا لما نقلوا من الإجماع في الحقيقة - إنما انعقد على فرض ان لا يخلو الزمان من مجتهد فصار مثل هذه المسألة مما لم ينص عليه فصح الاعتماد فيه على المصلحة
المثال العاشر
إن الغزالى قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل إن رددنا في مبدإ التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها فيتعين تقديم المجتهد لأن اتباع الناظر علم نفسه
له مزية على اتباع علم غيره فالتقليد والمزايا لا سبيل إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها
اما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد وقامت له الشوكة وأذعنت له الرقاب بان خلا الزمان عن قرشى مجتهد مستجمع جميع الشرائط وجب الاستمرار(168/381)
وإن قدر حضور قرشى مجتهد مستجمع للفروع والكفاية وجميع شرئط الإمامة واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضه لإثارة فتن واضطراب أمور لم يجز لهم خلعه والاستبدال به بل تجب عليهم الطاعة له والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته لانا نعلم أن العلم مزية روعيت في الإمامة تحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد وان الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئة الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش النظام وتفويت أصل المصلحة في الحال تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد قال وعند هذا ينبغى أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الامام عن النظر إلى التقليد بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه والاستبدال به أو حكموا بان إمامته غير منعقدة
هذا ما قاله وهو متجه بحسب النظر المصلحى وهو ملائم لتصرفات الشرع وإن لم يعضده نص على التعيين
وما قرره هو أصل مذهب مالك قيل ليحيى بن يحيى البيعة مكروهة قال لا قيل له فإن كانو أئمة جور فقال قد بايع ابن عمر لعبد الملك ابن مروان وبالسيف أخذ الملك
اخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه
قال يحيى والبيعة خير من الفرقة
قال ولقد أتى مالكا العمرى فقال له يا أبا عبدالله بايعنى أهل الحرمين وانت ترى سيرة أبى جعفر فما ترى فقال له مالك أتدرى ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولى رجلا صالحا فقال العمرى لا أدرى قال مالك لكنى أنا ادرى إنما كانت البيعة ليزيد بعده فخاف عمر إن ولى رجلا صالحا أن لا يكون ليزيد بد من القيام فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح فصدر رأى هذا العمرى على رأي مالك
فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق ان تقع فتنة وما لا يصلح فالمصلحة في الترك(168/382)
وروى البخارى عن نافع قال لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوة جمع ابن عمر حشمه وولده فقال إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله وإنى لا اعلم احدا منكم خلعه ولا تابع في هذا الامر إلا كانت الفيصل بينى وبينه
قال ابن العربى وقد قال ابن الخياط إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرها واين يزيد من ابن عمر ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والانفس ما لا يخفى
فخلع يزيد - لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه فكيف ولا يعلم ذلك وهذا اصل عظيم فتفقهوه والزموه ترشدوا إن شاء الله
فصل
فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملى في المصالح المرسلة وتبين لك اعتبار أمور
احدها الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تناقى اصلا من اصوله ولا دليلا من دلائله
والثاني ان عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية لان عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره والحج ونحو ذلك فليتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافى للمناسبات التفصيلية
ألا ترى أن الطهارات - على اختلاف أنواعها - قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادى الرأى فإن البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط ودون جميع الجسد فإذا خرج المنى أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد دون المخرج فقط ودون أعضاء الوضوء
ثم إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء وغير واجب مع قذارتها بالأوساخ والادران إذا فرض انه لم يحدث
ثم التراب - ومن شانه التلويث - يقوم مقام الماء الذي شأنه التنظيف(168/383)
ثم نظرنا في اوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها لاستواء الاوقات في ذلك
وشرع للإعلام بها أذكارمخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها فإذا اقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضا ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك ثم كانت خمس صلوات دون اربع أو ست وغير ذلك من الأعداد فإذا دخل المتطهر المسجد امر بتحيته بركعتين دون واحدة كالموتر أو أربع كالظهر فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة وإذا قرأ سجدة سجد واحدة دون اثنتين
ثم أمر بصلاة النوافل ونهى عن الصلاة في اوقات مخصوصة وعلل النهى بامر غير معقولة المعنى
ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف والاستسقاء دون صلاة الليل ورواتب النوافل
فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولا لانه غير مكلف ثم امرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست او سبع أو غيرها من الاعداد
فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا كإمساك النهار دون الليل والإمساك عن المأكولات والمشروبات دون الملبوسات والمركوبات والنظر والمشى والكلام واشباه ذلك وكان الجماع - وهو راجع إلى الأخراج - كالمأكول - وهو راجع إلى الضد وكان شهر رمضان - وإن كان قد أنزل فيه القرآن - ولم يكن أيام الجمع وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس او كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع(168/384)
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا إن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع انه قصد قصده ونحى نحوه واعتبرت جهته وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة وان يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه سواء علينا أقلنا إن التكاليف معللة بمصالح العباد ام لم نقله اللهم إلا قليلا من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه والمسكوت عنه فلا حرج حينئذ فإن أشكل الأمر فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى
ومن أجل ذلك قال حذيفة رضى الله عنه كل عبادة لم يتعبدها اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا فاتقوا الله يامعشر القراء وخذوا بطريق من كان قبلكم ونحوه لابن مسعود أيضا وقد تقدم من ذلك كثير
ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعانى وإن ظهرت لبادى الرأى وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه فلم يلتفت في إزالة الأخباث ورفع الأحداث إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره حتى اشترط في رفع الأحداث النية ولم يقم غير الماء مقامه عنده - وإن حصلت النظافة - حتى يكون بالماء المطلق وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والأجزاء ومنع من إخراج القيم في الزكاة واختصر في الكفارات على مراعاة العدد وما اشبه ذلك(168/385)
ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب - إن تصور - لقلة ذلك في التعبدات وندوره بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فيهم المعاني المصلحية نعم مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا ينقاض اصلا من أصوله حتى لقد استشنع العلماء كثيرا من وجوه استرساله زاعمين أنه خلق الربقة وفتح باب التشريع وهيهات ما أبعده من ذلك رحمه الله بل هو الذى رضى لنفسه في فقهه بالاتباع بحيث يخيل لبعض انه مقلد لمن قبله بل هو صاحب البصيرة في دين الله - حسبما بين اصحابه في كتاب سيره
بل حكى عن احمد بن حنبل أنه قال إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم انه مبتدع وهذه غاية في الشهادة بالاتباع
وقال ابو داود أخشى عليه البدعة يعنى المبغض لمالك
وقال بن مهدى إذ رأيت الحجازي يحب مالك بن انس فاعلم انه صاحب سنة وإذا رايت احدا بتناوله فاعلم انه على خلاف السنة
وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام ما سمعت أبا داود لعن احدا فقط إلا رجلين احدهما رجل ذكر له أنه لعن مالكا والآخر بشر المريسى
وعلى الجملة فغير مالك ايضا موافق له في ان اصل العبادات عدم معقولية المعنى وإن اختلفوا في بعض التفاصيل الأصل متفق عليه عند الأمة ما عدا الظاهرية فإنه لا يفرقون بين العباادات والعادات بل لكل تعبد غير معقول المعنى فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلا عن أن يعتقدوا المصالح المرسلة
والثالث ان حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضرورى ورفع حرج لازم في الدين وأيضا مرجعها إلى حفظ الضرروي من باب ما لم يتم الواجب إلا به فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر من الأمثلة المذكورة(168/386)
وكذلك رجوعها إلى رفع حرج لازم وهو إما لا حق بالضرورى وإما من الحاجى وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى التقبيح والتزيين البتة فإن جاء من ذلك شىء فإما من باب آخر منها كقيام رمضان في المساجد جماعة - حسبما تقدم - وإما معدود من قبيل البدع التي انكرها السلف الصالح - كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة - وهو من قبيل ما يلائم
وأما كونها في الضرورى من قبيل الوسائل وما لا يتم الواجب إلا به إن نص على اشتراطه فهو شرط شرعى فلا مدخل له في هذا الباب لان نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه
وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلى او عادي فلا يلزم أن يكون شرعيا كما أنه لا يلزم ان يكون على كيفية معلومة فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب مطردا لصح ذلك وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك وكذلك سائر المصالح الضرورية - إذا ثبت هذا - لم يصح ان يستنبط من بابها شىء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل
وأما كونها في الحاجى من باب التخفيف فظاهر أيضا وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف والأمثلة مبينة لهذا الأصل أيضا
إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لان موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها علىالتفصيل
وقد مر ان العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق وأيضا فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع
بل إنما تتصور على أحد وجهين إما مناقضة لمقصوده - كما تقدم في مسألة المفتى للملك بصيام شهرين متتابعين - وإما مسكوتا عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به
وقد تقدم نقل الإجماع على أطراح القسمين وعدم اعتبارهما(168/387)
ولا يقال إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه
إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع لعدم الملاءمة
ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في ان المسكوت عنه كالمأذون فيه - إن قيل بذلك فهى تفارقها
إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به
بخلاف العادات والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة
وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى
وقد اشير إلى هذا المعنى في كتاب الموافقات وإلى هذا
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات لأن البدع من باب الوسائل
لأنها متعبد بها بالفرض ولانها زيادة في التكليف وهو مضاد للتخفيف
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء وحسبك به متعلقا
والله الموفق
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عندما حده
والزيادة عليه بدعة كما أن النقصان منه بدعة
وقد مر لهما أمثلة كثيرة وسيأتى أخيرا في أثناء الكتاب بحول الله فصل
وأما الاستحسان فلأن لأهل البدع أيضا تعلقا به فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن وهو إما العقل أو الشرع
أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما لان الأدلة اقتصت ذلك فلا فائدة لتسميته استحسانا ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال فلم يبق إلا العقل هو المستحسن فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن(168/388)
ويشهد قول من قال في الاستحسان إنه يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه - قالوا وهو عند هؤلاء من جنس مايستحسن في العوائد وتميل إليه الطباع فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافى هذا الكلام ما بين أن ثم من التعبدات مالا يكون عليه دليل وهو الذى يسمى بالبدعة فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح إذ ليس كل استحسان حقا
وأيضا فقد يجرى على التأويل الثاني للاصوليين في الاستحسان
وهو أن المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره
وهذا التأويل فالاستحسان يساعده لبعده لأنه يبعد في مجارى العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له
بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق دليل شرعى
لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه وهو الأغلب - فهذا مما يحتجون به وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون وقد اتوا بثلاثة أدلة
احدها قول الله سبحانه واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم وقوله تعالى الله نزل أحسن الحديث وقوله تعالى فبشر عبادى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه هو ما تستحسنه عقولهم
والثاني قوله عليه الصلاة والسلام ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وإنما يعنى بذلك ما رأوه بعقولهم وإلا لو كان حسنه بالدليل الشرعى لم يكن من حسن ما يرون إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم فلم يكن للحديث فائدة فدل على أن المراد ما رأوه برايهم
والثالث ان الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل ولا سبب لذلك إلا ان المشاحة في مثله قبيحة في العادة فاستحسن الناس تركه مع انا نقطع ان الإجارة المجهولة او مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جهل فإنه ممنوع وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلا(168/389)
فانت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم ايضا لمن أراد أن يبتدع فله أن يقول إن استحسنت كذا وكذا فغيرى من العلماء قد استحسن
وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفضل حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم وبالله التوفيق فنقول إن الاستحسان يراه معتبرا في الأحكام مالك وأبو حنيفة بخلاف الشافعى فإنه منكر له جدا حتى قال من استحسن فقد شرع والذي يستقرى من مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين
هكذا قال ابن العربى - قال - فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى - قال - ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس - قال - ويريان معا تخصيص القياس ونقص العلة ولا يرى الشافعى لعلة الشرع - إذا ثبت - تخصيصا
هذا ما قال ابن العربي
ويشعر بذلك تفسير الكرخى أنه العدول عن الحكم في المسألة بحكم نظائرها إلى خلافة لوجه اقوى
وقال بعض الحنفية إنه القياس الذي يجب العمل به لأن العلة كانت علة بأثرها سموا الضعيف الأثر قياسا والقوى الأثر استحسانا أي قياسا مستحسنا وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسين وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهيه
بل قد جاء عن مالك ان الاستحسان تسعة أعشار العلم
ورواه اصبغ عن ابن القاسم عن مالك قال أصبغ في الاستحسان قد يكون أغلب من القياس
وجاء عن مالك إن المفرق في القياس يكاد يفارق السنة
وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله او أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة وقال ابن العربى في موضع آخر الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته(168/390)
وقسمه أقساما عد منها أربعة أقسام وهي ترك الدليل للعرف وتركه للمصلحة وتركه لليسير لرفع المشقة وإيثار التوسعة
وحده غير ابن العربى من أهل المذهب بأنه عند مالك استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلى - قال - فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس
وعرفه ابن رشد فقال الاستحسان - الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس - هو أن يكون طرحا لقياس يؤدى إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع
وهذه تعريفات
قريب بعضها من بعض
وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبى حنيفة فليس بخارج عن الادلة البتة لان الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضا كما في الأدلة السنية مع القرآنية
ولا يرد الشافعى مثل هذا اصلا
فلا حجة في تسميته استحسانا لمبتدع على حال
ولا بد من الإتيان بأمثلة تبين المقصود بحول الله ونقتصر على عشرة أمثلة
احدها أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب كقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها فظاهر اللفظ العموم في جميع ما يتمول به وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية خاصة فلو قال قائل مالى صدقة
فظاهر لفظه يعم كل مال ولكنا نحمله على مال الزكاة لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب
قال العلماء وكأن هذا يرجع إلى تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن
وهذا المثال أورده الكرخى تمثيلا لما قاله في الاستحسان
والثاني ان يقول الحنفى سؤر سباع الطير نجس قياسا على سباع البهائم
وهذا ظاهر الاثر ولكنه ظاهر استحسانا لان السبع ليس بنجس العين ولكن لضرورة تحريم لحمه فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطير لانه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه فوجب الحكم بطهارة سؤره لأن هذا أثر قوى وإن خفى فترجح على الاول وإن كان أمره جليا والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه(168/391)
والثالث ان أبا حنيفة قال إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عين كل واحد غير الجهة التي عينها الآخر فالقياس ان لا يحد ولكن استحسن حده
ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة فإذا عين كل واحد دارا فلم يأت على كل مرتبة بأربعة
لا متناع اجتماعهم على رتبة واحدة فإذا عين كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ويمكن التزاحف
فإذا قال القياس أن لا يحد فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا واحد ولكنه يقول في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول فإنه إن لم يكن محدودا صار الشهود فسقه ولا سبيل إلى ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلا فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان البعيد فليس هذا حكما بالقيام وإنما تمسك باحتمال تلقى الحكم من القرآن وهذا يرجع - في الحقيقة - إلى تحقيق مناطه
والرابع أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف فإنه رد الأيمان إلى العرف مع أن اللغة تقتضى في الفاظها غير ما يقتضيه العرف كقوله والله لا دخلت مع فلان بيتا فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة والمسجد يسمى بيتا فيحنث على ذلك إلا ان عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه فخرج بالعرف على مقتضى اللفظ فلا يحنث
والخامس ترك الدليل لمصحلة كما في تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعا فإن مذهب مالك في هذه المسالة على قولين كتضمين صاحب الحمام الثياب وتضمين صاحب السفينة وتضمين السماسرة المشتركين وكذلك حمال الطعام - على رأي مالك - فإنه ضامن ولا حق عنده بالصناع
والسبب في ذلك بعد السبب في تضمين الصناع
فإن قيل فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان
قلنا نعم إلا أنهم صوروا الاستحسان تصور الاستثناء من القواعد
بخلاف المصالح المرسلة
ومثل ذلك يتصور في مسألة التضمين
فإن الأجراء مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الاصلية
فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل
فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر(168/392)
والسادس انهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي
يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها
ووجه ذلك ظاهر فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب
وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب
حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم
فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع
وهو متجه بحسب الغرض الخاص
وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة
لكن استحسنوا ما تقدم
وهذا الإجماع مما ينظر فيه
فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره ولكن الاشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب
والسابع ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق
فقد أجازوا التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة
وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعا للآخر
وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما
والأصل المنع في الجميع
لما في الحديث من ان الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل سواء بسواء وأن من زاد أو ازداد فقد اربى
ووجه ذلك ان التافه في حكم العدم ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب وأن المشاحة في اليسير قد تؤدى إلى الحرج والمشقة وهما مرفوعان عن المكلف
والثامن أن في العتبية من سماع اصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتى بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر انه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي اقربه فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره وكان كما لو اشتركا فيه وإن كان يدعى العزل من الوطء الذي أقر به فقال أصبغ إنى أستحسن ها هنا أن الحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواء فلعله غلب ولا يدرى
وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا إن الوكاء قد ينقلب - قال - والاستحسان هاهنا أن الحقه بالآخر والقياس أن يكونا في العلم قد يكون أغلب من القياس - ثم حكى عن مالك ما تقدم(168/393)
ووجه ذلك ابن رشد بأن الاصل من وطىء أمته فعزل عنها وأتت بولد لحق به وإن كان له منكرا وجب على قياس ذلك إذا كانت بين رجلين فوطئاها جميعا في طهر واحد وعزل أحدهما عنها فأنكر الولد وادعاءه الآخر الذي لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كان جميعا يعزلان أو ينزلان
والاستحسان - كما قال - ان يلحق الولد بالذى ادعاه وأقر أنه كان ينزل وتبرأ منه الذي أنكره وادعى أنه كان يعزل لان الولد يكون مع الإنزال غالبا ولا يكون مع العزل إلا نادرا فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذى ادعاه وكان ينزل لا الذي أنكره وهو يعزل والحكم بغلبة الظن اصل في الأحكام وله في هذا الحكم تأثير فوجب أن يصار إليه استحسانا - كما قال اصبغ - وهو ظاهر فيما نحن فيه
والتاسع ما تقدم أولا من أن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل
والأصل في هذا المنع إلا أنهم أجازوا - لا كما قال المحتجون على البدع بل لأمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره فلا حاجة إلى التقدير وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدرا بالعرف ايضا فإنه يسقط للضرورة إليه(168/394)
وذلك لقاعدة فقهية وهي أن نفى جميع الغرر في العقود لا يقدر عليه وهو يضيق أبواب المعاملات وهو تحسيم أبواب المفاوضات ونفى الضرر إنما يطلب تكميلا ورفعا لما عسى أن يقع من نزاع فهو من الأمور المكملة والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى أبطال المكملات سقطت جملة تحصيلا للمهم - حسبما تبين في الاصول - فوجب أن يسامح في بعض انواع الغرر التي لا ينفك عنها إذ يشق طلب الانفكاك عنها فسومح المكلف بيسير الغرر لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل من الغرض ولم يسامح في كثيرة إذ ليس في محل الضرورة ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر لكن الفرق بين القليل والكثير غير منصوص عليه في جميع الأمور وإنما نهى عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر فجعلت اصولا يقاس عليها غير القليل اصلا في عدم الاعتبار وفي الجواز وصار الكثير في المنع ودار في الاصلين فروع تتجاذب العلماء النظر فيها فإذا قل الغرر وسهل الأمر وقل النزاع ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها ومن هذا القبيل مسألة التقدير في ماء الحمام ومدة اللبث
قال العلماء ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه فجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه وبين تطرقه للثمن فمنعه فقال يجوز للانسان أن يشترى سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ وإن كان اليوم بعينه لا ينضبط ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز والسبب في التفرقة المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف ولا مضايقة في الأجل
إذ قد يسامح البائع في التقاضى الايام
ولا يسامح في مقدار الثمن على حال ويعضده ما روى عمرو بن العاص رضى الله عنه أن النبى عليه الصلاة والسام أمر بشراء الإبل إلى خروج المصدق
وذلك لا يضبط يومه ولا يعين ساعته ولكنه على التقريب والتسهيل
فتأملوا كيف وجه الاستثناء من الاصول الثابتة بالحرج والمشقة(168/395)
وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط فتبين لك بون ما بين المنزلتين
العاشر أنهم قالوا إن من جملة انواع الاستحسان مراعاة خلاف العلماء
وهو أصل في مذهب مالك ينبنى عليه مسائل كثيرة
منها أن الماء اليسير إذا حلت في النجاسة اليسيرة ولم تغير أحد أوصافه أنه لا يتوضأ به بل يتيمم ويتركه
فإن توضأ به وصلى أعاد دام في الوقت ولم يعد بعد الوقت
وإنما قال يعيد في الوقت مراعاة لقول من يقول إنه طاهر مطهر ويروى جواز الوضوء به ابتداء
وكان قياس هذا القول أن يعيد أبدا
إذ لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم
ومنها قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه إن لم يتفق على فساده فيفسخ بطلاق
ويكون فيه الميراث
ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح الصحيح فإن اتفق العلماء على فساده فسخ بغير طلاق
ولا يكون فيه ميراث ولا يلزم فيه طلاق
ومنها مسألة من نسى تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وكان مع الإمام أن يتمادى
لقول من قال إن ذلك يجزئه
فإذا سلم الإمام أعاد هذا المأموم وهذا المعنى كثير جدا في المذهب ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال لأنه ترجح عنده ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه
ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد افريقية لإشكال عرض فيها من وجهين احدهما مما يخص هذا الموضع على فرض صحتها وهو ما اصلها من الشريعة وعلام تبنى من قواعد أصول الفقه فإن الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه ومتى رجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر - ولو بأدنى وجوه الترجيح - وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في الاصول فإذا رجوعه - أعنى المجتهد - إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلاف القواعد(168/396)
فأجابنى بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد إلا أنى راجعت بعضهم بالبحث وهو أخى ومفيدى أبو العباس ابن القباب رحمة الله عليه فكتب إلى بما نصه وتضمن الكناب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف وقلتم إن رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى اقتضى ذلك عدم المرجوحة مطلقا واستشنعتم أن يقول المفتى هذا لا يجوز ابتداء وبعد الوقوع يقول بجوازه لانه يصير الممنوع إذا فعل جائزا
وقلتم إنه إنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم - إلى غير ذلك مما اوردتم في المسألة
وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار حتى قال الإمام أو عبد الله الشافعى من استحسن فقد شرع
ولقد ضاقت العبارة عن معنى اصل الاستحسان - كما في علمكم - حتى قالوا أصح عبارة فيه انه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه فإذا كان هذا اصله الذي ترجع فروعه إليه فكيف ما يبنى عليه فلا بد أن تكون العبارة عنها أضيق
ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بنى عليه لولا أنه اعتضد وتقوى لوجدانه كثيرا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير فتقوى ذلك عندى غاية وسكنت إليه النفس وانشرح إليه الصدر ووثق به القلب للأمر باتباعهم والاقتداء بهم رضى الله عنهم
فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد البناء فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضى الله عنهم(168/397)
وكل ما اوردتم في قضية السؤال وارد عليه فإن إذا تحقق أن الذى لم يبن هو الأول فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره وكيف يكون غلطه على زوج غيره مبيحا على الدوام ومصححا لعقده الذي لم يصادف محلا ومبطلا لعقد نكاح مجمع على صحته لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة لا إباحة زوج غيره دائما
ومنع زوجها منها
ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولان فإنه يقال الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها او ليس بقاطع للعصمة فكيف تباح لغيره وهي في عصمة المفقود
وما روى عن عمر وعثمان في ذلك أغرب وهو أنهما قالا إذا قدم المفقود يخير بين أمرأته أو صداقها فإن اختار صداقها بقيت للثاني فأين هذا من القياس وقد صححح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضى الله عنهما ونقل عن على رضى الله عنه أنه قال بمثل ذلك أو أمضى الحكم به وإن كان الاشهر عنه خلافه ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك
قال ابن المعدل لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة فقام أحدهما فأوقع الصلاة بثوب نجس مجانا وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يغار به مع نقل غير واحد من الاشياخ الإجماع على وجوب النجساة عامدا جمع الناس أنه لا يساوى مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة وممن نقله اللخمى والمازرى وصححه الباجى وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه
وعلى الطريقة التي اوردتم - أن المنهى عنه ابتداء غير معتبر - أحرى بكون أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل لان الذي صلى بعد الوقت قضى ما فرط فيه والآخر لم يعمل كما أمر ولا قضى شيئا
وليس كل منهى عنه ابتداء غير معتبر بعد وقوعه
وقد صحح الدار قطنى حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم(168/398)
أنه قال لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها وأخرج ايضا من حديث عائشة رضى الله عنها أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليه فنكاحها باطل - ثلاث مرات - فإن دخل بها فالمهر لها بما اصاب منها
فحكم اول ببطلان العقد وأكده بالتكرار ثلاثا وسماه زنا
وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جملة
لكنه صلى الله عليه وسلم
عقبه بما اقتضى اعتباره بعد الوقوع بقوله ولها مهرها بما اصاب منها ومهر البغى حرام
وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله الآية
فلعل النهى عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله تعالى الذي لا يصح معه عبادة ولا يقبل عمل وإن كان هذا الحكم الآن منسوخا فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى
ومن ذلك قول الصديق رضى الله عنه وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله
فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له
ولهذا لا يسبى الراهب وترك له ماله أو ما قل منه على الخلاف في ذلك وغيره ممن لايقاتل يسبى ويملك وإنما ذلك لما زعم أنه حبس نفسه له وهي عبادة الله تعالى وإن كانت عبادته ابطل الباطل فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعى لا يقطع بخطإ فيه وإن كان يظن ذلك ظنا
وتتبع مثل هذا يطول
وقد اختلف فيما تحقق فيها نهى من الشارع هل يقتضى فساد المنهى عنه وفيه بين الفقهاء والاصوليين ما لا يخفى عليكم فكيف بهذا وإذا خرجت المسالة المختلف فيها إلى اصل مختلف فيه فقد خرجت عن حيز الإشكال
ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل
ويرجح كل احد ما ظهرله بحسب ما وفق له
ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة
انتهى ما كتب لى به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الإستحسان فلا يمكن مع هذا التقرير كله أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل اصلا
فصل(168/399)
فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به أولا فاما من حد الاستحسان بأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه - فكأن هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام ولا شك أن العقل يجوز ان يرد الشرع بذلك بل يجوز أن يرد بأن ما سبق إلى أوهام العوام - مثلا - فهو حكم الله عليهم فيلزمهم العمل بمقتضاه ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به إلا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل
وايضا فإنا نعلم أن الصحابة رضى الله عنهم حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموه من الأصول الثابتة
ولم يقل أحد منهم إنى حكمت في هذا بكذا لأن طبعى مال إليه أو لأنه يوافق محبتى ورضائي
ولو قال ذلك لا شتد عليه النكير وقيل له من أين لك ان تحكم على عباد الله بمحض ميل النفس وهوى القلب هذا مقطوع ببطلانه
بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ويحصرون ضوابط الشرع
وايضا فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة لان الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضا لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر والشريعة ليست كذلك
كتابا متشابها ) الآية وجاء في صحيح الحديث - خرجه مسلم _ ان النبى صلى الله عليه وسلم
قال في خطبته أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله فيفتقر أصحاب الدليل ان يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا فضلا عن أن يقول من أحسنه
وقوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية
يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولا
وحينئذ ينظر إلى كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد
ثم إن نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله وأنه ليس بحجة وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع(168/400)
وأيضا فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من اهل النظر إذا فرض ان الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع وذلك محال للعلم بان ذلك مضاد للشريعة فضلا عن أن يكون من أدلتهأ
واما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه
أحدها أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن والأمة لا تجتمع على باطل
فاجتماعهم على حسن شىء يدل على حسنه شرعا لأن الإجماع يتضمن دليلا شرعيا فالحديث دليل عليكم لا لكم
والثاني أنه خبر واحد في مسالة قطعية فلا يسمع
والثالث إنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام وهو باطل بإجماع
لا يقال إن المراد استحسان أهل الاجتهاد لانا نقول هذا ترك للظاهر فيبطل الاستدلال
ثم إنه لا فائدة في اشتراط الاجتهاد لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة فأى حاجة إلى اشتراط الاجتهاد
فإن قيل إنما يشترط حذرا من مخالفة الأدلة فإن العامى لا يعرفها
قيل
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدا
ولا يفاتحون عالما ولا غيره فيما يبتغون خوفا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندا شرعيا وإنما شانهم إذا وجدوا عالما أو لقوه أن يصانعوا وإذا وجدوا جاهلا عاميا ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ويلبسوا دينهم فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس
ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئا فشيئا وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها وان هذا الطائفة هم أهل الله وخاصته
وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم حتى يهووا بهم في نارجهنم وأما أن يأتوا الامر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا
ونأمل ما نقله الغزالى في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم تجدهم لا يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم والتحيل عليهم بانواع الحيل حتى يخرجوهم من السنة أو عن الدين جملة(168/401)
ولولا الإطالة لأتيت بكلامه فطالعه في كتابه فضائح الباطنية
وأما الحد الثاني فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من شاء ما شاء واكتفى بمجرد القول فألجأ الخصم إلى الإبطال
وهذا يجر فسادا لا خفاء له
وإن سلم فذلك الدليل إن كان فاسدا فلا عبرة به وإن كان صحيحا فهو راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه
وأما الدليل الأول فلا متعلق به فإن احسن الاتباع إلينا اتباع الأدلة الشرعية وخصوصا القرآن فإن الله تعالى يقول الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ) الآية وجاء في صحيح الحديث - خرجه مسلم _ ان النبى صلى الله عليه وسلم
قال في خطبته أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله فيفتقر أصحاب الدليل ان يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا فضلا عن أن يقول من أحسنه
وقوله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية
يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولا
وحينئذ ينظر إلى كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد
ثم إن نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله وأنه ليس بحجة وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع
وأيضا فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من اهل النظر إذا فرض ان الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع وذلك محال للعلم بان ذلك مضاد للشريعة فضلا عن أن يكون من أدلتهأ
واما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه
أحدها أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن والأمة لا تجتمع على باطل
فاجتماعهم على حسن شىء يدل على حسنه شرعا لأن الإجماع يتضمن دليلا شرعيا فالحديث دليل عليكم لا لكم
والثاني أنه خبر واحد في مسالة قطعية فلا يسمع
والثالث إنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام وهو باطل بإجماع
لا يقال إن المراد استحسان أهل الاجتهاد لانا نقول هذا ترك للظاهر فيبطل الاستدلال(168/402)
ثم إنه لا فائدة في اشتراط الاجتهاد لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة فأى حاجة إلى اشتراط الاجتهاد
فإن قيل إنما يشترط حذرا من مخالفة الأدلة فإن العامى لا يعرفها
قيل بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة بدليل أن الصحابة رضى الله عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع
فالحاصل أن تعلق المبتدعة بمثل هذه الامور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة لكن ربما يتعلقون في آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ومنها ما قد مضى
فصل
فإن قيل أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب ويجرى في النفس وإن لم يكن ثم دليل صريح على حكم من أحكام الشرع ولا غير صريح فقد جاء في الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه كان يقول دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمانينة والكذب ريبة
وخرج مسلم عن النواس بن سمعان رضى الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن البر والإثم فقال البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال قال رجل يا رسول الله ما الإيمان قال إذا سرتك حسناتك وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن
قال يا رسول الله فما الإثم قال إذا حاك شىء في صدرك فدعه وعن انس بن مالك رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول دع ما يريبك إلى مالا يريبك وعن وابصة رضى الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن البر والإثم فقال يا وابصة استفت قلبك وأستفت نفسك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك وخرج البغوى في معجمه عن عبد الرحمن بن معاوية أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال يا رسول الله ما يحل لى مما يحرم على فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرد عليه ثلاث مرات كل ذلك يسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/403)
ثم قال أين السائل فقال أنا ذا يا رسول الله
فقال - ونقر بأصبعه - ما انكر قلبك فدعه
وعن عبدالله قال الإثم حواز القلوب فما حاك من شىء في قلبك فدعه وكل شىء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعا وقال أيضا الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وعن أبى الدرداء رضى الله عنه ان الخير طمأنينة وان الشر ريبة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال شريح دع ما يريبك إلى مالا يريبك فوالله ما وجدت فقد شىء تركته ابتغاء وجه الله
فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية إلى ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر وأنه إذا اطمأنت النفس إليه في فالإقدام عليه صحيح وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور وهو عين ما وقع إنكاره من الرجوع إلى الاستحسان الذي يقع بالقلب ويميل إليه الخاطر وإن لم يكن ثم دليل شرعى فإنه لو كان هنالك دليل شرعى او كان هذا التقرير مقيدا بالأدلة الشرعية لم يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب مع انه عندكم عبث وغير مفيد كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية أو الأفعال التي لا ارتباط بينها وبين شرعية الأحكام
فدل ذلك على ان لاستحسان العقول وميل النفوس أثرا في شرعية الأحكام وهوالمطلوب
والجواب أن هذه الأحاديث وما كان في معناه قد زعم الطبرى في تهذيب الآثار أن جماعة من السلف قالوا بتصحيحها والعمل بما دل عليه ظاهرها
وأتى بالآثار المتقدمة عن عمر وابن مسعود وغيرهما ثم ذكر عن آخرين القول بتوهينها وتضعيفها وإحالة معانيها وكلامه وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه فاتيت به على تحرى معناه دون لفظه لطوله فحكىة عن جماعة أنهم قالوا لا شىء من أمر الدين إلا وقد بينه الله تعالى بنص عليه أو بمعناه فإن كان حلالا فعلى العامل به إذا كان عالما تحليله أو حراما فعليه تحريمه أو مكروها غير حرام فعليه اعتقاد التحليل أو الترك تنزيها(168/404)
فأما العامل بحديث النفس والعارض في القلب فلا فإن الله حظر ذلك على نبيه فقال إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله فأمره بالحكم بما اراه الله لا بما رآه وحدثته به نفسه فغيره من البشر أولى أن يكون ذلك محظورا عليه
وأما إن كان جاهلا فعليه مسألة العلماء دون ما حدثته نفسه
ونقل عن عمر رضى الله عنه أنه خطب فقال ايها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا
وعن ابن عباس رضى الله عنهما ما كان في القرآن من حلال او حرام فهو كذلك وما سكت عنه فهو مما عفى عنه
وقال مالك قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد تم هذا الأمر واستكمل فينبغى ان تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم
واصحابه ولا يتبع الرأى فإنه من اتبع الراى جاءه رجل آخر أقوى في الرأى منه فاتبعه فكلما غلبه رجل اتبعه ارى أن هذا بعد لم يتم واعملوا من الآثار بما روى عن جابر رضى الله عنه
أن النبى صلى الله عليه وسلم
قال قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدى إذا اعتصمتم به كتاب الله وسنتى ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض
وروى عن عمرو بن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوما وهم يجادلون في القرآن فخرج وجهه أحمر كالدم فقال يا قوم على هذا هلك من كان قبلكم جادلوا في القرآن وضربوا بعضه ببعض فما كان من حلال فاعملوا به وما كان من حرام فانتهوا عنه وما كان من متشابه فآمنوا به
وعن أبى الدرداء رضى الله عنه يرفعه قال ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فيه فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا وما كان ربك نسيا قالوا فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله والاعلام بان العامل به لن يضل ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنة ولو كان ثم ثالث لم يدع بيانه فعدل على أن لا ثالث ومن ادعاه فهو مبطل(168/405)
قالوا - فإن قيل فإنه عليه السلام قد سن لامته وجها ثالثا وهو قوله استفت قلبك وقوله الإثم حواز القلوب إلى غير ذلك قلنا لو صحت هذه الأخبار لكان ذلك إبطالا لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذا صحا معا لان احكام الله ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته وإنما كان يكون وجها ثالثا لو خرج شىء من الدين عنهما وليس بخارج فلا ثالث يجب العمل به
فإن قيل قد يكون قوله استفت قلبك ونحوه أمرا لمن ليس في مسألته نص من كتاب ولا سنة واختلفت فيه الأمة فيعد وجها ثالثا
قلنا لا يجوز ذلك لأمور
أحدها أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دلالة فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلا لم يكن لنصت الدلالة الشرعية عليه معنى فيكون عبثا وهو باطل
والثاني أن الله تعالى قال فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول فامر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب
والثالث ان الله تعالى قال فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من امر محمد صلى الله عليه وسلم
ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك انفسهم
والرابع أن الله تعالى قال لنبيه احتجاجا على من أنكر وحدانيته افلا ينظرون إلى الأبل كيف خلقت إلى أخرها
فامرهم بالاعتبار بعبرته والاستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به ولم يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ويصدروا عما اطمأنت إليه قلوبهم وقد وضع الأعلام والادلة فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت دون فتوى النفوس وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله(168/406)
هذا ما حكاه الطبرى عمن تقدم ثم اختار إعمال تلك الأحاديث إما لأنه صحت عنده أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها كحديث الحلال بين والحرام بين إلى آخر الحديث فإنه صحيح خرجه الإمامان ولكنه لم يعملها في كل من أبواب الفقه إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال وإحداث التعبدات فلا يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال إذا اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو بر او استفت قلبك في إحداث هذا العمل فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا
وكذلك في النسبة إلى التشريع التركي لا يتاتى تنزيل معانى الأحاديث عليه بان يقال إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلانى فاتركه وإلا فدعه
أي فدع الترك واعمل به
وإنما يستقيم إعمال الاحادث المذكورة فيما أعمل فيه قوله عليه الصلاة والسلام الحلال بين والحرام بين الحديث
وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء والطعام والشراب والنكاح والباس وغير ذلك مما في هذا المعنى فمنه ما هو بين الحلية وما هو بين التحريم وما فيه إشكال - وهو الأمر المشتبه الذي لا يدرى أحلال هو أم حرام فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهلة بحاله نظير قوله عليه السلام إنى لاجد التمرة ساقطة على فراشى فلولا أنى أخشى أن تكن من الصدقة لأكلتها فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين إما من الصدقة وهي حرام عليه وإما من غيرها وهي حلال له فترك أكلها حذرا من أن تكون من الصدقة في نفس الأمر
قال الطبرى - فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو في سعة من تركه والعمل به أو مما هو غير واجب - ان يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه إذ يزول بذلك عن نفسه الشك كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته وإياها ولا يعلم صدقها من كذبها فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له بسبب إخبار المرأة وليس تزوجه إياها بواجب بخلاف ما لو أقدم فإن النفس لا تطمئن إلى حلية تلك الزوجة(168/407)
وكذلك قول عمر إنما هو فيما أشكل امره في البيوع فلم يدر حلال هو ام حرام ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب كما في الإقدام شك هل هو آثم أم لا وهو معنى وقوله عليه السلام للنواس ووابصة رضى الله عنهما ودل على ذلك حديث المشتبهات لا ما ظن أولئك من أنه امر للجهال ان يعملوا بما رأته أنفسهم ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علمائهم
قال الطبرى - فإن قيل إذا قال الرجل لامرأته انت على حرام
فسأل العلماء فاختلفوا عليه
فقال بعضهم قد بانت منك بالثلاث وقال بعضهم إنها حلال غير أن عليك كفارة يمين
وقال بعضهم ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو طلاق
أو الظهار فهو ظهار
أو يمينا فهو يمين
وإن لم ينو شيئا فليس بشىء أيكون هذا اختلافا في الحكم كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق كما يؤمر هناك أن لا يتزوجها خوفا من الوقوع في المحظور أولا قيل حكمه في مسالة العلماء أن يبحث عن أحوالهم وأمانتهم ونصيحتهم ثم يقلد الأرجح
فهذا ممكن والحزازة مرتفعة بهذا البحث
بخلاف ما إذا بحث مثلا عن أحوال المرأة فإن الحزازة لا تزول
وإن أظهر البحث ان احوالها غير حميدة فهما على هذا مختلفان
وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده لم يثبت له ترجيح لاحدهم فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعول به في مسالة المخبرة بالرضاع سواء إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير
انتهى معنى كلام الطبرى
وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتى أنه غير مخير بل حكمه حكم من التبس عليه الامر فلم يدر أحلال هو ام حرام فال خلاص له من الشبهة إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به
وإلا فالترك إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة
فصل
ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقا أو بقيد وهو الذي رآه الطبرى(168/408)
وذلك أن حاصل الامر يقتضى أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية وهو التشريع بعينه فإن طمأنينة النفس وسكون القلب مجردا عن الدليل - إما ان تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعا فإن لم تكن معتبرة فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة
وإن كانت معتبرة فقد صار ثم قسم ثالث غير الكتاب والسنة وهو غير ما نفاه الطبرى وغيره
وإن قيل إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام
لم تخرج تلك عن الإشكال الأول لان كل واحد من الإقدام والاحجام فعل لا بد أن يتعلق به حكم شرعى وهو الجواز وعدمه وقد علق ذلك بطمأنينة النفس او عدم طمأنينتها
فإن كان ذلك عن دليل فهو ذلك الأول بعينه باق على كل تقدير
والجواب أن الكلام الأول صحيح وإنما النظر في تحقيقه فاعلم أن كل مسالة تفتقر إلى نظرين نظر في دليل الحكم ونظر في مناطه فاما النظر في دليل الحكم لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما عن إجماع أو قياس أو غيرهما
ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ولا نفى ريب القلب إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلا اوغير دليل
ولا يقول أحد إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها او يستقبحون كذلك من غير دليل إلا طمأنينة النفس أن الأمر كما زعموا وهو مخالف لإجماع المسلمين
وأما النظر في مناط الحكم فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط بل يثبت بدليل غير شرعى او بغير دليل فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد بل لا يشترط فيه العلم فضلا عن درجة الاجتهاد
الا ترى أن العامى إذا سأل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلى هل تبطل به الصلاة أم لا فقال العامى إن كان يسيرا فمغتفر وإن كان كثيرا فمبطل - لم يغتفر في اليسير إلى أن يحققه له العالم
بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير(168/409)
فقد انبنى هاهنا الحكم - وهو البطلان أو عدمه - على ما يقع بنفس العامى وليس واحدا من الكتاب أو السنة لانه ليس ما وقع بقلبه دليلا على حكم وإنما هو مناط الحكم فإذا تحقق له المناط بأى وجه تحقق فهو المطلوب فيقع عليه الحكم بدليله الشرعى
وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة وفرقنا بين اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة فقد يكتفى العامى بذلك حسبما يشهد قلبه في اليسير أو الكثير فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع في القلب لانه نظر في مناط الحكم
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله لان حليته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلية لتحقق مناطها بالنسبة إليه
أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له اكله لان تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلية فتحقق مناطها بالنسبة إليه
وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه واطمأنت إليه نفسه لا بحسب الامر في نفسه
ألا ترى ان اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطبه بحسب فيأكل أحدهما حلالا ويجب على الآخر الاجتناب لانه حرام ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعى لم يصح هذا المثال وكان محالا لان أدلة الشرع لا تناقض أبدا
فإذا فرضنا لحما أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين كاختلاط الميتة بالذكية واختلاط الزوجة بالأجنبية
فهاهنا قد وقع الريب والشك وإلإشكال والشبهة
وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعى يبين حكمه وهي تلك الأحاديث المتقدمة كقوله دع ما يريبك إلى مالا يريبك وقوله البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرك كانه يقول إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحلية أو الحرمة فالحكم فيه من الشرع بين
وما اشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به(168/410)
وهو معنى - قوله - إن صح - استفت قلبك وإن أفتوك فإن تحقيقك لمناط مسالتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك
ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك لانه لم يعرض له ما عرض لك وليس المراد بقوله وإن أفتوك أي إن نقلوا إليك الحكم الشرعى فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك فإن هذا باطل وتقول على التشريع الحق
وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط
نعم قد لا يكون ذلك دريه أو أنسا بتحقيقه فيحققه لك غيرك وتقلده فيه وهذه الصورة خارجة عن الحديث كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع كحد الغنى الموجب للزكاة فإنه يختلف باختلاف الأحوال فحققه الشارع بعشرين دينارا ومائتي درهم واشباه ذلك وإنما النظر هنا فيما وكل تحقيقه إلى المكلف
فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل وهو تحقيق بالغ
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
الباب التاسع
في السبب الذى لاجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين
فاعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيرا من الأحاديث اشعرت بوصف لأهل البدعة وهو الفرقة الحاصلة حتى يكونوا بسببها شيعا متفرقة لا ينتظم شملهم بالإسلام وإن كانوا من أهله وحكم لهم بحكمه
ألا ترى أن قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شىء وقوله تعالى ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا الآية وقوله وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق
وفي الحديث ستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة والتفرق ناشىء عن الاختلاف في المذاهب والآراء إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان - وهو الحقيقة - وإن جعلنا معنى التفرق في المذاهب فهو الاختلاف كقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الآية(168/411)
فلا بد من النظر في هذا الاختلاف ما سببه وله سببان أحدهما لا كسب للعباد فيه وهو الراجع إلى سابق القدر والآخر هو الكسبى وهو المقصود بالكلام
عليه في هذا الباب إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة فإن فيها معنى أصيلا يجب التثبت له على من أراد التفقه في البدع
فنقول والله الموفق للصواب قال الله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم فأخبر سبحانه انهم لا يزالون مختلفين أبدا مع أنه إنما خلقهم للاختلاف وهو قول جماعة من المفسرين في الآية وان قوله ولذلك خلقهم معناه وللاختلاف خلقهم
وهو مروى عن مالك ابن أنس قال خلقهم ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير
ونحوه عن الحسن فالضمير في خلقهم عائد على الناس فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم وليس المراد ها هنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير ولا في الألوان كالأحمر والأسود ولا في اصل الخلقة كالتام الخلق والأعمى والبصير والاصم والسميع ولا في الخلق كالشجاع والجبان والجواد والبخيل ولا فيما اشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها
وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين كما قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الآية وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا
هذا هو المراد من الأيات التي كرر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق أن هذا الاختلاف الواقع بينهما على أوجه احدها الاختلاف في اصل النحلة
وهو قول جماعة من المفسرين منهم عطاء قال ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم قال - قال اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية - وهم الذين رحم ربك - الحنيفية(168/412)
خرجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادى الرأى في الآية المذكورة
واصل هذا الاختلاف هو في التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه فإن الناس في عامة الأمر لم يختلفوا في ان لهم مدبرا يدبرهم وخالقا أوجدهم إلا انهم اختلفوا في تعيينه على آراء مختلفة من
قائل بالأثنين وبالخمسة وبالطبيعة أو بالدهر او بالكواكب إلى أن قالوا بالآدميين وبالشجر وبالحجارة وما ينحتون بأيديهم
ومنهم من أقر بواجب الوجود الحق لكن على آراء مختلفة أيضا إلى أن بعث الله الأنبياء مبينين لأممهم حق ما اختلفوا فيه من باطله فعرفوا بالحق على ما ينبغى ونزهوا رب الأرباب عما لا يليق بجلاله من نسبة الشركاء والأنداد وإضافة الصاحبة والأولاد فأقر بذلك من أقر به وهم الداخلون تحت مقتضى قوله إلا من رحم ربك وأنكر من أنكر فصار إلى مقتضى قوله وتمت كلمة ربك لأملان جهنم من الجنة والناس اجمعين وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والالفة وهو قوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وهو منقول عن جماعة من المفسرين وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز انه قال في قوله ولذلك خلقهم خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا
وهو معنى ما نقل عن مالك وطاوس في جامعه وبقى الآخرون على وصف الاختلاف إذ خالفوا الحق الصريح ونبذوا الدين الصحيح
وعن مالك أيضا قال الذين رحمهم لم يختلفوا
وقول الله تعالى كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين - إلى قوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ومعنى كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين فأخبر في الآية أنهم أختلفوا ولم يتفقوا فبعث النبيين ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق وأن الذين آمنوا هداهم للحق من ذلك الاختلاف(168/413)
وفي الحديث الصحيح نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم هذا يومهم الذى فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع فاليهود غدا والنصارى بعد غد
وخرج ابن وهب عن زيد اسلم في قوله تعالى كان الناس أمة واحدة فهذا يوم أخذ ميثاقهم لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه
واختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت واتخذ النصارى يوم الأحد فهدى الله امة محمد صلى الله عليه وسلم
ليوم الجمعة
واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واستقبلت اليهود بيت المقدس وهدى الله امة محمد صلى الله عليه وسلم
للقبلة واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلى ولا يتكلم ومنهم من يصلى وهو يمشى وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم
للحق من ذلك
واختلفوا في الصيام فمنهم من يصوم بعض النهار ومنهم من يصوم من بعض الطعام وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم
للحق من ذلك
واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى نصرانيا وجعله الله حنيفا مسلما فهدى الله امة محمد صلى الله عليه وسلم
للحق من ذلك
واختلفوا في عيسى عليه السلام فكفرت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا وجعله الله روحه وكلمته فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم
للحق من ذلك
ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني لا بقصد الاول فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف لكن في الفروع دون الاصول وفي الجزئيات دون الكليات فلذلك لا يضر هذا الاختلاف(168/414)
وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم يعنى لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر بل لهم فيه أعظم العذر ومع ان الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع اتى فيه باصل يرجع إليه وهو قول الله تعالى فإن تنازعتم في شيىء فردوه إلى الله والرسول الآية فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه ان يرد إلى الله وذلك رده إلى كتابه وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذلك رده إليه إذا كان حيا وإلى سنته بعد موته وكذلك فعل العلماء رضى الله عنهم
إلا ان لقائل ان يقول هل هم داخلون تحت قوله تعالى ولا يزالون مختلفين أم لا والجواب انه لا يصح ان يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه
أحدها أن الآية اقتضت أن اهل الاختلاف المذكورين مباينون لاهل الرحمة لقوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك فإنها اقتضت قسمين أهل الاختلاف ومرحومين فظاهر التقسيم أن اهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف وإلا كان قسم الشىء قسيما له ولم يستقم معنى الاستثناء(168/415)
والثانى انه قال فيها ولا يزالون مختلفين فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت واهل الرحمة مبرءون من ذلك لأن وصف الرحمة ينافى الثبوت على المخالفة بل إن خالف احدهم في مسالة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره فخلافه في المسالة بالعرض لا بالقصد الأول فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضى العلاج والانقطاع اليق في الموضع والثالث أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة وهم الصحابة ومن إتبعهم بإحسان رضى الله عنهم بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف - ولو بوجه ما - لم يصح إطلاق القول في حقه انه من أهل الرحمة
وذلك باطل بإجماع أهل السنة
والرابع ان جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة وإذا كان من جملة الرحمة فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روى عن القاسم بن محمد قال لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في العمل لا يعمل العامل بعلم رجل منهم إلا رأى انه في سعة
وعن ضمرة بن رجاء قال اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكران الحديث - قال - فجعل عمر يجىء بالشىء يخالف فيه القاسم - قال - وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى بين فيه فقال له عمر لا تفعل فما يسرنى باختلافهم حمر النعم
وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال لقد أعجبنى قول عمر بن عبد العزيز
ما أحب أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
لا يختلفون لانه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة(168/416)
ومعنى هذا انهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة - كما تقدم - فيصير اهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم وهو نوع من تكليف مالا يطاق وذلك من أعظم الضيق
فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعى فيهم فكان فتح باب للأمة للدخول في هذه الرحمة فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربك فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله
وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى واعلى من الرتبة الثانية وهي أن يقع الاتفاق في أصل الدين ويقع الاختلاف في بعض قواعده الكلية وهو المؤدى إلى التفرق شيعا
فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف
ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسم ان امته تفترق على بضع وسبعين فرقة وأخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع وشمل ذلك الاختلاف الواقع في الامم قبلنا ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار وذلك بعيد من تمام الرحمة
ولقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على الفتنا وهدايتنا حتى ثبت من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال لما حضر النبى صلى الله عليه وسم قال - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضى لله عنهم - فقال هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقال عمر إن النبى - صلى الله عليه وسلم - غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول كما قال عمر فما كثر اللغط والاختلاف عند النبى - صلى الله عليه وسلم - قال قوموا عنى فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(168/417)
فكان ذلك - والله اعلم - وحيا أوحى الله إليه أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة فتخرج الأمة عن مقتضى قوله ولا يزالون مختلفين بدخولها تحت وقوله إلا من رحم ربك فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم
رضينا بقضاء الله وقدره ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنة ويميتنا على ذلك بفضله
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع وأن من رحم ربك أهل السنة ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقا بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتاويل وهذا لا بد من بسطه
فاعلموا ان الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى العالمين بمواردها ومصادرها
والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفا بل كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق
أحدها أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين - ولم يبلغ تلك الدرجة - فيعمل على ذلك ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا ولكن تارة يكون ذلك في جزئى وفرع من الفروع وتارة يكون في كلى واصل من اصول الدين - كان من الاصول الاعتقادية أو من الاصول العملية - فتراه آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادى رايه من غير أحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصده وهذا هو المبتدع وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم
قال لا يقبض الله العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
قال بعض اهل العلم تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم(168/418)
فيؤتى الناس من قبله وقد صرف هذا المعنى تصريفا فقيل ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير امين فخان
قال ونحن نقول ما ابتدع على قط ولكنه استفتى من ليس بعالم
قال مالك بن أنس بكى ربيعة يوما بكاء شديدا فقيل له مصيبة نزلت بك فقال لا ولكن استفتى من لا علم عنده
وفي البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم قبل الساعة سنون خداعا يصدق فيهن الكاذب ويكذب فيهن الصادق ويخون فيهن الأمين ويؤتمن الخائن وينطق فيهن الرويبضة ) قالوا هو الرجل التافه الحقير ينطق فى أمور العامة كأنه ليس بأهل أن يتكلم فى أمور العامة فيتكلم
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال قد علمت من يهلك الناس إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا
وقال ابن مسعود رضى الله عنه لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم فإذا أخذوه عن اصاغرهم وشرارهم هلكوا
واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار فقال ابن المبارك هم أهل البدع وهو موافق لأن اهل البدع أصاغر في العلم ولأجل ذلك صاروا أهل البدع
وقال الباجى يحتمل أن يكون الاصاغر من لا علم عنده قال وقد كان عمر يستشير الصغار وكان القراء أهل مشاورته كهولا وشبانا
قال ويحتمل أن يريد بالاصاغر من لا قدر له ولا حال ولا يكون ذلك إلا بنبيذ الدين والمروءة
فأما من التزمهما فلا بد ان يسموا امره ويعظم قدره ومما يوضح هذا التأويل ما خرجه ابن وهب بسند مقطوع عن الحسن قال العامل على غير علم كالسائر على غير طريق و العامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم(168/419)
ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا - يعنى الخوارج - والله أعلم لأنهم قرأوا القرآن ولم يتفقهوا حسبما أشار إليه الحديث يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم
وروى عن مكحول أنه قال تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا
وتفقه السفلة فساد الدين
وقال الفريانى كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم كغير وجهه فقلت يا أبا عبدالله اراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك
قال كان العلم في العرب وفي سادات الناس وإذا خرج عنهم وصار إلى هؤلاء النبط والسفلة غير الدين
وهذه الآثار ايضا إذا حملت على التأويل المتقدم اشتدت واستقامت لأن ظواهرها مشكلة ولعلك إذا استقريت أهل البدع من المتكلمين أو أكثرهم وجدتهم من أبناء سبايا الأمم ومن ليس له اصالة في اللسان العربي فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه كما أن من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها والثاني من اسباب الخلاف اتباع الهوى
ولذلك سمى أهل البدع أهل الأهواء لانهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى الفلاسفة و غيرهم ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم أو طلبا للرياسة فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ويتأول عليهم فيما أرادوا - حسبما ذكره العلماء ونقله الثقاة من مصاحبى السلاطين
فالأولون ردوا كثيرا من الاحاديث الصحيحة بعقولهم وأساءوا الظن بما صح عن النبى صلى الله عليه وسلم
وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة حتى ردوا كثيرا من امور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان وحشر الأجساد والنعيم والعذاب الجسمى وأنكروا رؤية البارى واشباه ذلك بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أولا بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل إلى غير ذلك من الشناعات(168/420)
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيات وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة حرصا على ان يغلب عدوه أو يفيد وليه أو يجر إلى نفسه كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخى الشيخ ابن لبابة المشهور فإنه عزل قضاء البيرة ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه - وسجل بسختطه القاضى حبيب بن زياد وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وأن لا يفتى أحدا
ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر فشكا إلى القاضى ابن بقى ضرورته إليه لمقابلته منزهه وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه
فقال له ابن بقى لا حيلة عندى فيه وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي وما أجزله من اضعاف القيمة فيه
فلعلهم أن يجدوا لى في ذلك رخصة
فتكلم ابن بقى معهم فلم يجدوا إليه سبيلا فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر وتوبيخهم فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده
وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فدفع إلى الناصر بعضا من اصحابه الفقهاء ويقول إنهم حجروا عليه واسعا
ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعاوضة وتقلد حقا وناظر اصحابه فيها
فوقع الأمر بنفس الناصر وأمر بإعادة محمد ابن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ثم أمر القاضى بإعادة المشورة في المسألة فاجتمع القاضى والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم
وعرفهم القاضى ابن بقى بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعاوضة فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه - وابن لبابة ساكت - فقال له القاضي ما تقول أنت يا ابا عبدالله قال أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس اصلا وهم علماء أعلام يقتدى بهم اكثر الأمة وإذ بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغى أن يرد عنه وله في السنة فسحة وأنا أقول بقول أهل العراق وأتقلد ذلك رأيا(168/421)
فقال له الفقهاء سبحان الله تترك قول مالك الذى أفتى به اسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه وهو رأى أمير المؤمنين ورأى الأئمة آبائه فقال لهم محمد بن يحيى ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل باحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم في ذلك قالوا بلى قال فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا به مأخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة فسكتوا فقال للقاضى انه إلى أمير المؤمنين فتياى
فكتب القاضى إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس وبقى مع اصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بان يؤخذ له بفتيا محمد بن لبابة وينفذ ذلك يعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجيبة وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ثم جىء بكتاب من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطة الوثائق ليكون هو المتولى لعقد هذه المعاوضة فهنىء بالولاية وأمضى القاضى الحكم بفتواه واشهد عليه وانصرفوا فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة
قال القاضى عياض ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر فقال ينبغى ان يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة فهو أولى واشد في السخطة مما تضمنه - او كما قال
فتأملوا كيف اتباع الهوى وأولى أن ينتهى بصاحبه فشأن مثل هذا لا يحل أصلا من وجهين أحدهما أنه لم يتحقق المذهب الذي حكم به لان أهل العراق لا يبطلون الإحباس هكذا على الإطلاق ومن حكى عنهم ذلك فإما على غير تثبيت وإما انه كان قولا لهم رجعوا عنه بل مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور في كتب الحنفية(168/422)
والثاني أنه إن سلمنا صحته فلا يصح للحاكم أن يرجع في حكمه أحد القولين بالمحبة والإمارة او قضاء الحاجة إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعا وهذا متفق عليه بين العلماء فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الربقة واستد إلى غير شرع عافان الله من ذلك بفضله
فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقا محدث وسيأتى بيان ذلك بعد إن شاء الله
وقد ثبت بهذا وجه اتباع الهوى وهو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم
قال الله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ - أي ميل عن الحق - فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقد تقدم معنى الآية فمن شأنهم أن يتركوا الواضح ويتبعوا المتشابه عكس ما عليه الحق في نفسه
وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما - وذكرت الخوارج وما يلقون في القرآن - فقال يؤمنون بمحكمة ويهلكون عند متشابه وقرأ ابن عباس الآية
خرجه ابن وهب
وقد دل على ذمه القرآن في قوله أفرايت من اتخذ إلهه هواه الآية ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم
حكى ابن وهب عن طاوس أنه قال ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه وقال ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إلى غير ذلك من الآيات
وحكى أيضا عن عبد الرحمن بن مهدى أن رجلا سال إبراهيم النخعى عن الأهواء أيها خير فقال ما جعل الله في شىء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان وما الأمر إلا الأمر الأول
يعنى ما كان عليه السلف الصالح
وخرج عن الثورى أن رجلا أتى إلى ابن عباس رضى الله عنهما فقال أنا على هواك
فقال له ابن عباس الهوى كله ضلالة أي شىء أنا على هواك
والثالث من اسباب الخلاف التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت او كانت مخالفة للحق(168/423)
وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشابه ذلك وهو التقليد المذموم فإن الله ذم بذلك في كتابه كقوله إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية ثم قال قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون وقوله هل يسمعونكم إذا تدعون أو ينفعونكم أو يضورن فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء
فقالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون وهو مقتضى الحديث المتقدم ايضا في قوله اتخذ الناس رؤساء جهالا إلى آخره فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان
وفيما يروى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل اهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت و من أهل الجنة فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء
فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين وأن الإنسان لا ينبغى له أن يعتمد على عمل أحد البتة حتى يتثبت فيه ويسأل عن حكمه إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة
و لذلك قيل لا تنظر إلى عمل العالم
ولكن سله يصدقك
وقالوا ضعف الروية أن يكون رأى فلانا يعمل فيعمل مثله
ولعله فعله ساهيا
وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة
وما أشبه ذلك
لانه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه
وقول على رضى الله عنه فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات نكتة في الموضع
يعنى الصحابة ومن جرى مجراههم ممن يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه
واما غيرهم ممن لم يحل ذلك المحل فلا
كأن يرى الإنسان رجلا يحسن اعتقاده فيه فيفعل فعلا محتملا أن يكون مشروعا أو غير مشروع فيقتدى به على الإطلاق ويعتمد عليه في التعبد
ويجعله حجة في دين الله فهذا هو الضلال بعينه(168/424)
ما لم يتثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل ممن هو أهل الفتوى وهذا الوجه هوالذى مال بأكثر المتاخرين من عوام المبتدعة إذا اتفق ان ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء فيراه يعمل عملا فيظنه عبادة فيقتدى به
كائنا ما كان ذلك العمل
موافقا للشرع أو مخالفا
ويحتج به على من يرشده ويقول كان الشيخ فلان من الأولياء وكان يفعله
وهو أولى يقتدى به من علماء الظاهر
فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ او أصاب
كالذين قلدوا آباءهم سواء
وإنما قصارى هؤلاء ان يقولوا إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذه الامور سدى
وما هي إلا مقصودة بالدلائل والبراهين مع انهم يرون أن لا دليل عليها ولا برهان يقود إلى القول بها
فصل
هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول ولا يكون ذلك من راسخ في العلم
ألا ترى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمى لان رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/425)
وصفهم بانهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يعنى - والله اعلم - أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لان الفهم راجع إلى القلب فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم وما تقدم ايضا من قوله عليه الصلاة والسلام إن الله لا يقبض العلم انتزاعا إلى آخره وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى مانحن فيه فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن وسعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التيمى قال خلا عمر رضى الله عنه ذات يوم فجعل يحدث نفسه كيف تختلف هذه الامة ونبيها واحد فأرسل إلى ابن عباس رضى الله عنهما فقال كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة - زاد سعيد وكتابها واحد - قال فقال ابن عباس يا امير المؤمنين إنما أنزل علينا القرآن فقرأنه وعلمنا فيما أنزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم نيه رأى فإذا كان كذلك اختلفوا وقال سعيد فيكون لكل قوم فيه رأى فإذا كان لكل قوم فيه رأى اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا
قال فزجوه عمر وانتهره على فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فارسل إليه وقال اعده على ما قلته
فأعاد عليه فعرف عمر قوله وأعجبه
وما قاله ابن عباس رضى الله عنهما هو الحق فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها فلم يتعد ذلك فيها وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها
فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات فلم يكن بد من الأخذ ببادى الرأى أو التأويل بالتخرص الذي لا يغنى من الحق شيئا إذ لا دليل عليه من الشريعة فضلوا وأضلوا(168/426)
ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير انه سأل نافعا كيف رأى ابن عمر في الحرورية قال يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين
فسر سعيد بن جبير من ذلك فقال مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون ) ويقرنون معها ثم الذين كفروا بربهم يعدلون رأوا رأو الإمام يحكم بغير الحق قالوا قد كفر ومن كفرعدل بربه فقد اشرك فهذه الأمة مشركون فيخروجون فيقتلون ما رأيت لانهم يتأولون هذه الآية
فهذا معنى الرأى الذي نبه عليه ابن عباس وهو الناشىء عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن
وقال نافع إن ابن عمر كان إذا سئل عن الحرورية قال يكفرون المسلمين ويستحلون دمائهم وأموالهم وينكحون النساء في عددهن وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج
فلا أعلم أحدا أحق بالقتال منهم
فإن قيل فرضت الاختلاف المتكلم في واسطة بين طرفين
فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما
فلم تفعل
بل رددته إلى الطرف الأول في الذم والضلال
ولم تعبتره بجانب الاختلاف الذي لا يضير وهو الاختلاف في الفروع
فالجواب عن ذلك أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التي ذكرنا اما الجهة الأخرى فإن عدم ذكرهم في هذه الامة وإدخالهم فيها اوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول وإلا فلو كان ملحقا لهم به لم يقع في الأمة اختلاف ولا فرقة
ولا أخبر الشارع به ولا نبه السلف الصالح عليه
فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد كانوا مفارقين لها لم نقل اتفقت الأمة بعد اختلافها
كذلك لا نقول اختلفت الأمة
وافترقت الامة بعد اتفاقها
أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام
وإنما يقال افترقت وتفترق الأمة
إذا كان الافتراق واقعا فيها مع بقاء اسم الامة هذا هوالحقيقة
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/427)
في الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم قال وتتمارى في الفوق - وفي رواية - فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافي فيتمارى في الفوقه هل علق بها من الدم شىء والتمارى في الفوق فيه هل فيه فرث ودم أم لا شك بحسب التمثيل هل خرجوا من الإسلام حقيقة وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلا
وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمة
ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الاثر عدم القطع بتكفيرهم
والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ألا ترى إلى صنع على رضى الله عنه في الخوارج وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام على مقتضى قول الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنيين اقتلوا فأصلحوا بينهما الآية فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم يهيجهم على ولا قاتلهم ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم لقوله عليه الصلاة والسلام من بدل دينه فاقتلوه ولان أبا بكر رضى الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم فدل ذلك على اختلاف مابين المسألتين
وايضا فحين ظهر معبد الجهنى وغيره من أهل القدر لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به على رضى الله عنه ولم يعاملهم معاملة المرتدين
ومن جهة المعنى إنا وإن قلنا إنهم متبعون الهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارا إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا وهو كفر وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه منبع للدليل بمثله لا يقال إنه صاحب هوى بإطلاق(168/428)
بل هو متبع للشرع في نظره لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة وايضا فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجماعة من مطلب واحد وهو الانتساب إلى الشريعة ومن أشد مسائل الخلاف - مثلا - مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائما حول حمى التنزيه ونفى النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة
وإنما وقع اختلافهم في الطريق وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع
وأيضا فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده كما رجع من الحرورية الخارجين علي رضى الله عنه ألفان وإن كان الغالب عدم الرجوع - كما تقدم في ان المبتدع ليس له توبة
حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابن عباس رضى الله عنهما قال لما اجتمعت الحرورية يخرجون على على جعل يأتيه الرجل فيقول يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك قال دعهم حتى يخرجوا
فلما كان ذات يوم قلت يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتنى حتى آتى القوم - قال - فدخلت عليهم وهم قائلون فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر قد أثر السجود في جباههم كأن أيديهم ثفن الإبل عليهم قمص مرحضة فقالوا ما جاء بك يا ابن عباس وما هذه الحلة عليك - قال - قلت ما تعيبون من ذلك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعليه احسن ما يكون من الثيات اليمنية - قال - ثم قرأت هذه الآية قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الزرق فقالوا ما جاء بك قال جئتكم من عند اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليس فيكم منهم أحد ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/429)
وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم
فقال بعضهم لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول بل هم قوم خصمون فقال بعضهم بلى فلنكلمه - قال - فكلمنى منهم رجلان او ثلاثة - قال - قلت ماذا نقمتم عليه قالوا ثلاثا
فقلت ما هن قالوا حكم الرجال في امر الله وقال الله تعالى إن الحكم إلا لله - قال - هذه واحدة وماذا ايضا قالوا فإنه قاتل فلم يسب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم - قال - قلت وماذا ايضا قالوا ومحا نفسه من إمرة المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين - قال - قالت أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم هذا اترجعون قالوا وما لنا لا نرجع
قال - قلت أما قولكم حكم الرجال في امر الله فإن الله قال في كتابه يا ايها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء منل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم وقال في المرأة وزوجها وإن خفتم شقاق بينهما فأبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها فصير الله ذلك إلى حكم الرجال فناشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم وفي بضع امرأة قالوا بلى هذا افضل قال أخرجتم من هذه قالوا نعم
قال وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم عائشة فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها
فقد كفرتم وإن قلتم ليست بامنا فقد كفرتم فانتم ترددون بين ضلاتين أخرجتم من هذه قالوا بلى
قال وأما قولكم محا نفسه من إمرة المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون إن نبى الله يوم الحيديبة حين صالح ابا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
اكتب - يا على هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو بن ما نعلم انك رسول الله
ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك(168/430)
قال رسول الله اللهم إنك تعلم إنى رسولك يا على اكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو قال فرجع منهم ألفان وبقى بقيتهم فخرجوا فقتولوا أجمعون
فصل
صح من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة و النصارى مثل ذلك وتتفرق امتى على ثلاث وسبعين فرقة وخرجه الترمذى هكذا
وفي رواية أبى داود قال افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على أحدى او اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة وفي الترمذى تفسير هذا ولكن بإسناد غريب عن غير أبى هريرة رضى الله عنه فقال في حديث وإن بنى إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتى على ثلاثة وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة - قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما انا عليه واصحابى
وفي سنن أبى داود وأنا هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعين في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وهي بمعنى الرواية التي قبلها إلا أن هنا زيادة في بعض الروايات وانه سيخرج من أمتى أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله
وفي رواية عن ابن ابى غالب موقوفا عليه إن بنى إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة وإن هذه الأمة تزيد عليهم فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم وفي رواية مرفوعا ستفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال
وهذا الحديث بهذه الرواية الأخيرة قدح فيه ابن عبد البر لأن ابن معين قال إنه حديث باطل لا اصل له
شبه فيه على نعيم بن حماد قال بعض المتاخرين أن الحديث قد روى عن جماعة من الثقات ثم تكلم في إسناده بما يقتضى انه ليس كما قال ابن عبد البر ثم قال وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون - يعنى ابن معين - قد اطلع منه على علة خفية(168/431)
وأغرب من هذا كله رواية رأيتها في جامع ابن وهب إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وثمانين ملة وستفترق أمتى على اثنتين وثمانين ملة كلها في النار إلا واحدة - قالوا وما هي يا رسول الله قال - الجماعة
فإذا تقرر هذا تصدى النظر في الحديث في مسائل
المسألة الأولى في حقيقة هذا الافتراق
وهو يحتمل أن يكون افتراقا على ما يعطيه مقتضى اللفظ ويحتمل أن يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه ولكن يحتمله كما كان لفظ الرقبة بمطلقها لا يشعر بكونها مؤمنة أو غير مؤمنة لكن اللفظ يقبله فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد لانه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ وذلك بأطل بالإجماع فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية وأول ما وقع الخلاف في زمان الخلفاء الراشدين المهديين ثم في سائر الصحابة ثم في التابعين ولم يلعب أحد ذلك منهم وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف
فكيف يمكن أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث وإنما يراد افتراق مفيد وإن لم يكن فيالحديث نص عليه ففي الآيات ما يدل عليه قوله تعالى ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وقوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شىء وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على التفرق الذى صاروا به شيعا ومعنى صاروا شيعا اى جماعات بعضهم قد فارق البعض ليسوا على تالف ولا تعاضد ولا تناصر بل على ضد ذلك فان الاسلام واحد وامره واحد فاقتض أن يكون حكمه على الائتلاف التام لا على الاختلاف(168/432)
وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعداوة والبغضاء ولذلك قال واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا فبين أن التاليف إنما يحصل عند الائتلاف على التعلق بمعنى واحد واما إذا تعلق كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الاخرى فلا بد من التفرق وهو معنى قوله تعالى وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وإذا ثبت هذا نزل عليه لفظ الحديث واستقام معناه والله أعلم
المسألة الثانية
أن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع فى العداوة والبغضاء _ فإما أن يكون راجعا إلى أمر هو معصية غير بدعة ومثاله أن يقع بين أهل الاسلام افتراق بسبب دنياوى كما يختلف مثلا أهل قرية مع قرية اخرى بسبب تعد فى مال أو دم حتى تقع بينهم العداوة فيصيروا حزبين أو يختلفون فى تقديم وال أوغير ذلك فيفترقون مثل هذا محتمل وقد يشعر به من فارق الجماعة قيد شبر فيمتته جاهلية وفى مثل هذا جاء فى الحديث إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما وجاء فى القرآن الكريم وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما إلى آخر القصة وأما ان يرجع إلى أمر هو بدعة كما افترق الخوارج من الأمة ببدعهم التي بنوا عليها في الفرقة وكالمهدى المغربى الخارج عن الامة نصرا للحق في زعمه فابتدع امورا سياسية وغيرها خرج بها عن السنة - كما تقدمت الإشارة إليه قبل - وهذا هو الذي تشير إليه الآيات المتقدمة والأحاديث لمطابقتها لمعنى الحديث
وإما أن يراد المعنيان معا
فأما الأول فلا أعلم قائلا به - وإن كان ممكنا في نفسه إذ لم ار احدا خص هذه بما إذا افترقت الأمة بسبب أمر دنياوي لا بسبب بدعة وليس ثم دليل بدل على التخصيص لأن قوله عليه الصلاة و السلام من فارق الجماعة قيد شبر الحديث لا يدل على الحصر(168/433)
وكذلك إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما وقد اختلف العلماء في المراد بالجماعة المذكورة في الحديث حسبما يأتى فلم يكن منهم قائل بان الفرقة المضادة للجماعة هي فرقة المعاصى غير البدع على الخصوص
وأما الثالث وهو أن يراد المعنيان معا فذلك أيضا ممكن إذ الفرقة المنبه عليها قد تحصل بسبب أمر دنياوي لا مدخل فيها للبدع وإنما هي معاص ومخالفات كسائر المعاصى وإلى هذا المعنى يرشد قول الطبرى في تفسير الجماعة حسبما يأتى بحول الله - ويعضده حديث الترمذي ليأتين على أمتى من يصنع ذلك فجعل الغاية في اتباعهم ما هو معصية كما ترى
وكذلك في الحديث الآخر لتتبعن سنن من كان قبلكم - إلى قوله - حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لا تبعتموهم فجعل الغاية ما ليس ببدعة وفي معجم البغوى عن جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم
وقال لكعب بن عجرة رضى الله عنه أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء - قال وما إمارة السفاء - قال امراء يكونون بعدى لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتى فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منى ولست منهم ولا يردون على الحوض ومن لم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك منى وأنا منهم ويردون على الحوض الحديث
وكل من لم يهتد بهديه ولا يستن بسنته فإما إلى بدعة أو معصية
فلا اختصاص باحدهما غير ان الأكثر في نقل أرباب الكلام وغيرهم أن الفرقة المذكورة إنما هي بسبب الابتداع في الشرع على الخصوص وعلى ذلك حمل الحديث من تكلم عليه من العلماء ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصى التي ليست ببدع وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله
المسألة الثالثة
إن هذه الفرق تحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا
فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق وليس ذلك إلا الكفر إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة كقوله تعالى ((168/434)
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شىء ) وهي آية نزلت - عند المفسرين - في اهل البدع ويوضحه من قرأ إن الذين فارقوا دينهم والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هي الخروج عنه وقوله فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم الآية
وهي عند العلماء منزلة في اهل القبلة وهم أهل البدع و هذا كالنص - إلى غير ذلك من الآيات
وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وهذا نص في كفر من قيل ذلك فيه وفسره الحسن بما تقدم في قوله ويصبح مؤمنا ويسمى كافرا ويسمى مؤمنا ويصبح كافرا الحديث وقوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج دعه فإن له اصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ويقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شىء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجه فيه شىء ثم ينر إلى نضيه فلا يوجد فيه شىء - وهو القدح - ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شىء من الفرث والدم فانظر إلى قوله من الفرث والدم فهو الشاهد على انهم دخلوا في الإسلام فلا يتعلق بهم منه شيئ
وفي رواية أبى ذر رضى الله عنه سيكون بعدى من أمتى قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة إلى غير ذلك من الاحاديث - إنما هي قوم بأعيانهم فلا حجة فيها على غيرهم لان العلماء استدلوا بها على جميع أهل الأهواء كما استدلوا بالآيات
وأيضا فالآيات إن دلت بصيغ عمومها فالاحاديث تدل بمعانيها لاجتماع الجميع في العلة
فإن قيل الحكم بالكفر والإيمان راجع إلى حكم الآخرة والقياس لا يجري فيها
فالجواب إن كلا منا في الأحكام الدنياوية وهو يحكم لهم بحكم المرتدين أم لا وإنما أمر الآخرة لله لقوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شىء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون(168/435)
ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه واصوله
ويدل على ذلك جميع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل فلا فائدة في الإعادة
ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكونوا هم ممن فارق الإسلام لكن مقالته كفر وتؤدى معنى الكفر الصريح ومنهم من لم يفارقه بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقاله وشنع مذهبه لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح
ويدل على ذلك الدليل بحسب كل نازلة وبحسب كل بدعة إذ لا شك في ان البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة وإنكار الإجماع وإنكار القياس وما اشبه ذلك
وإذا تقرر نقل الخلاف فلنرجع إلى ما يقتضيه الحديث الذي نحن بصدده من هذه المقالات
اما ما صح منه فلا دليل على شىء لانه ليس فيه إلا تعديد الفرق خاصة
واما على رواية من قال في حديثه كلها في النار إلا واحدة فإنما يقتضى إنفاذ الوعيد ظاهرا ويبقى الخلود وعدمه مسكوتا عنه فلا دليل فيه على شيء مما أردنا إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة وإن تباينا في التخليد وعدمه
المسألة الرابعة
إن هذه الأقوال المذكورة آنفا مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص كالجبرية والقدرية والمرجئة وغيرها وهو مما ينظر فيها فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص وهو رأى الطرطوشى أفلا ترى إلى قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ الآية و ما في قوله تعالى ما تشابه لا تعطى خصوصا في أتباع المتشابه لا فى قواعد العقائد ولا في غيرها بل الصيغة تشمل ذلك كله فالتخصيص تحكم(168/436)
وكذلك قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شىء فجعل ذلك التفريق في الدين ولفظ دين شمل العقائد وغيرها وقوله وان هذا صراظى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم وشبه ما تقدم في السورة من تحريم ما ذبح لغير الله وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره وإيجاب الزكاة كل ذلك على أبدع نظم وأحسن سياق ثم قال تعالى قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا فذكر اشياء من القواعد وغيرها فابتدأ بالنهى عن الإشراك ثم الأمر ببر الوالدين ثم النهى عن قتل الأولاد ثم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ثم عن قتل النفس بإطلاق ثم عن أكل مال اليتيم ثم الامر بتوفية الكيل والوزن ثم العدل في القول ثم الوفاء بالعهد
ثم ختم ذلك بقوله وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
فأشار إلى ما تقدم ذرك من اصول الشريعة وقواعدها الضرورية ولم يخص ذلك بالعقائد فدل على ان إشارة الحديث لا تختص بها دون غيرها
وفي حديث الخوارج ما يدل عليه أيضا فإنه ذمهم بعد أن ذكر اعمالهم وقال في جملة ما ذمهم به يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم فذمهم بترك التدبر والأخذ بظواهر المتشابهات كما قالوا حكم الرجال في دين الله والله يقول إن الحكم إلا لله
وقال أيضا يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان فذمهم بعكس ما عليه الشرع لان الشريعة جاءت بقتل الكفار والكف عن المسلمين وكلا الأمرين غير مخصوص بالعقائد
فدل على أن الأمر على العموم لا على الخصوص فيما رواه نعيم بن حماد في هذا الحديث اعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال وهذا نص في أن ذلك العدد لا يختص بما قالوا من العقائد(168/437)
واستدل الطرطوشى على ان البدع لا تختص بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسائر العلماء من تسميتهم الأقوال والافعال بدعا إذا خالفت الشريعة ثم أتى بآثار كثيرة كالذي رواه مالك عن عمه أبى سهيل عن ابيه انه قال ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة
يعنى بالناس الصحابة وذلك أنه أنكر أكثر أفعال عصره ورآها مخالفة لأفعال الصحابة
وكذلك أبو الدرداء سأله رجل فقال رحمك الله لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين أظهرنا هل ينكر شيئا مما نحن عليه فغضب واشتد غضبه ثم قال وهل يعرف شيئا مما أنتم عليه
في البخارى عن أم الدرداء قالت دخل ابو الدرداء مغضبا فقلت له مالك فقال والله ما أعرف منهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جيمعا
وذكر جملة من اقاويلهم في هذا المعنى مما يدل على أن مخالفة السنة في الأفعال قد ظهرت
وفي مسلم قال مجاهد دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة وإذا ناس في المسجد يصلون الضحى فقلنا ما هذه الصلاة فقال بدعة
قال الطرطوشى فحمله عندنا على أحد وجهين إما أنه يصلونها جماعة وإما أفذاذا على هيئة النوافل في اعقاب الفرائض
وذكر أشياء من البدع القولية مما نص العلماء على أنها بدع
فصح أن البدع لا تختص بالعقائد
وقد تقررت هذه المسألة في كتاب الموافقات بنوع آخر من التقرير
نعم ثم معنى آخر ينبغى ان يذكر هنا وهي
المسألة الخامسة
وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كل في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجئزئيات إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببه التفرق شيعا وإنما ينشا التفرق عند وقوع المخالفة في الامور الكلية لان الكليات نص من الجزئيات غير قليل وشاذها في الغالب أن لا يختص بمحل دون محل ولا بباب دون باب(168/438)
واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلى فإن المخالفة فيها انشأت بين المخالفين خلافا في فروع لا تنحصر ما بين فروع عقائد وفروع أعمال
ويجرى مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة ايضا وأما الجزئي فبخلاف ذلك بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين حيث قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وائمة مضلون
ولكن إذا قرب موقع الزلة لم يحصل بسببها تفرق في الغالب ولا هدم للدين بخلاف الكليات
فأنت ترى موقع اتباع المتشابهات كيف هو في الدين إذا كان اتباعا مخلا بالواضحات
وهي أم الكتاب وكذلك عدم تفهم القرآن موقع في الإخلال بكلياته وجزئياته
وقد ثبت أيضا للكفار بدع فرعية
ولكنها في الضروريات وما قاربها
كجعلهم لله مما ذرا من الحرث والأنعام نصيبا
و لشركائهم نصيبا ثم فرعوا عليه أن ما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله
وما كان لله وصل إلى شركائهم وتحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى(168/439)
وقتلهم أولادهم سفها بغير علم وترك العدل في القصاص والميراث والحيف في النكاح والطلاق وأكل مال اليتيم على نوع من الحيل إلى اشباه ذلك مما نبه عليه الشرع وذكره العلماء حتى صار التشريع ديدنا لهم وتغيير ملة إبراهيم عليه السلام سهلا عليهم فانشأ ذلك اصلا مضافا اليهم وقاعدة رضوا بها وهي التشريع المطلق لا الهوى ولذلك لما نبههم الله تعالى على إقامة الحجة عليهم بقوله تعالى قل آلذكرين حرم أم الانثيين قال فيها نبئونى بعلم إن كنتم صادقين فطالبهم بالعلم الذى شأنه أن لا يشرع إلا حقا وهو علم الشريعة لا غيره ثم قال تعالى أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا تنبيها لهم على أن هذا ليس مما شرعه في ملة إبراهيم ثم قال فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم فثبت أن هذه الفرق إنما افترقت بحسب امور كلية اختلفوا فيها والله أعلم
المسالة السادسة
إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار - على قول من قال به - او ينقسمون إلى كافر وغيره فكيف يعدون من الأمة وظاهر الحديث يقتضى ان ذلك الأفتراق إنما هو مع كونهم من الأمة وإلا فلو خرجوا من الأمة إلا الكفر لم يعدوا منها البتة - كما تبين -
وكذلك لظاهر في فرق اليهود والنصارى إن التفرق فيهم حاصل مع كونهم هودا ونصارى
فيقال في الجواب عن هذا السؤال إنه يحتمل أمرين أحدهما انا نأخذ الحديث على ظاهره في كون هذه الفرق من الأمة ومن أهل القبلة ومن قيل بكفره منهم فإما ان يسلم فيهم هذا القول فلا يجعلهم من الامة اصلا ولا أنهم مما يعدون في الفرق وإنما نعد منهم من لا تخرجه بدعته إلى كفر فإن قال بتكفيرهم جميعا فلا يسلم أنهم المرادون بالحديث على ذلك التقدير وليس في حديث الخوارج نص على أنهم من الفرق الداخلة في الحديث بل نقول المراد بالحديث فرق لا تخرجهم بدعهم عن الإسلام فليبحث عنهم(168/440)
وإما أن لا نتبع المكفر في إطلاق القول بالتكفير ونفصل الأمر إلى نحو مما فصله صاحب القول الثالث ويخرج من العدد من حكمنا بكفره ولا يدخل تحت عمومه إلا ما سواه مع غيره ممن لم يذكر في تلك العدة
والاحتمال الثاني أن نعدهم من الامة على طريقة لعلها تتمشى في الموضع وذلك أن كل فرقة تدعى الشريعة وأنها على صوبها وانها المتبعة للمتبعة لها وتتمسك بأدلتها وتعمل على ما ظهر لها من طريقها وهي تناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها وترمى بالجهل وعدم العلم من ناقضها
لانها تدعى ان ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره
وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام لان المرتد إذا نسبته إلى الارتداد أقر به ورضيه ولم يسخطه ولم يعادك لتلك النسبة كسائر اليهود والنصارى وأرباب النحل المخالفة للاسلام
بخلاف هؤلاء الفرق فإنهم مدعون الموالفة للشارع والرسوخ في اتباع شريعة محمد رسوله الله صلى الله عليه وسلم
فإنما وقعت العداوة بينهم وبين أهل السنة بسبب ادعاء بعضهم على بعض الخروج عن السنة ولذلك تجدهم مبالغين في العمل والعبادة حتى بعض اشد الناس عبادة مفتون
والشاهد لهذا كله - مع اعتبار الواقع - حديث الخوارج فإنه قال عليه الصلاة والسلام تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم وفي رواية يخرج من أمتى قوم يقرأون القرآن ليس قراءتكم من قراءتهم بشىء ولا صلاتكم من صلاتهم بشىء وهذه شدة المثابرة على العمل به ومن ذلك قولهم كيف يحكم الرجال والله يقول إن الحكم إلا لله ففى ظنهم أن الرجال لا يحكمون بهذا الدليل ثم قال عليه الصلاة والسلام يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم
فقوله عليه الصلاة والسلام يحسبون أنه لهم واضح فيما قلنا ثم إنهم يطلبون اتباعه بتلك الأعمال ليكونوا من أهله وليكون حجة لهم فحين سرفوا تأويله وخرجوا عن الجادة كان عليهم لا لهم(168/441)
وفي معنى ذلك من قول ابن مسعود قال وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتعمق عليكم بالعتيق فقوله يزعمون كذا
دليل على انهم على الشرع فيما يزعمون
ومن الشواهد أيضا حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله لاحقون وددت أن قد رأيت إخواننا - قالوا يارسول الله ألسنا إخوانك قال بل أنتم اصحابى وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وانا فرطكم على الحوض - قالوا يارسول الله كيف تعرف من ياتى بعدك من امتك قال - أرأيت لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم الا يعرف خيله - قالوا بلى يا رسول الله
قال - فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض فليذادن رجال عن حوضى كما يذاد البعير الضال أناديكم الا هل الا هلم فيقال قد بدلوا بعدك فأقول فسحقا فسحقا فسحقا
فوجه الدليل من الحديث أن قوله فليذادان رجال عن حوضى إلى قوله أناديهم ألا هلم مشعر بانهم من أمته
وأنه عرفهم وقد بين أنهم بالغرر والتحجيل فدل على أن هؤلاء الذين دعاهم وقد كانوا بدلوا ذوو غرر وتحجيل وذلك من خاصة هذه الأمة
فبان أنهم معدودون من الأمة ولو حكم لهم بالخروج من الأمة لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بغرة أو تحجيل لعدمه عندهم
ولا علينا أقلنا إنهم خرجوا ببدعتهم عن الأمة أولا إذ اثبتنا لهم وصف الانحياش إليها
في الحديث الآخر فيؤخذ بقوم منكم ذات الشمال فأقول يارب أصحايب قال فيقال لا تدرى ما أحدثوا بعدك(168/442)
فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم - إلى قوله - العزيز الحكمي - قال - فيقال إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فإن كان المراد بالصحابة الأمة فالحديث موافق لما قبله بل أنتم أصحابى وإخواننا الذين لم ياتوا بعد فلا بد من تاويله على أن الأصحاب يعنى بهم من آمن به في حياته وإن لم يره ويصدق لفظ المرتدين على أعقابهم على المرتدين بعد موته او مانعى الزكاة تأويلا على أن أخذها إنما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وحده فإن عامة أصحابه رأوه وأخذوا عنه براءة من ذلك
المسألة السابعة في تعيين هذه الفرق
وهي مسألة - كما قال الطرطوشى - طاشت فيها أحلام الخلق فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عينوها لكن في الطوائف التي خالفت في مسائل العقائد فمنهم من عد أصولها ثمانية فقال كبار الفرق الإسلامية ثمانية - المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة والنجارية والجبرية والمشبهة والناجية فأما المعتزلة فاقترقوا إلى عشرين فرقة وهم الواصلية والعمرية والهذيلية والنظامية والأسوارية والإسكافية والجعفرية والبشرية والمزدارية والهشامية والصالحية والخطابية والحدبية والمعمرية والثمامية والخياطية والجاحظية والكعبية والجبائية والبهشمية
وأما الشيعة فانقسموا أولا ثلاث فرق غلاة
وزيدية
وإمامية
فالغلاة ثمان عشرة فرقة وهم السبائية
والكاملية
والبيانية والمغيرية
والجناحية والمنصورية
والخطابية والغرابية والذمية
والهشامية والزرارية واليونسية والشيطانية والرزامية والمفوضة والبدائية والنصرية والإسماعيلية وهم الباطنية
والقرمطية والحرمية والسبعية والبابكية والحمدية
وأما الزيدية فهم ثلاث فرق الجارودية والسليمانية والبتيرية
وأما الإمامية ففرقة واحدة فالجميع ثنتان وأربعون فرقة
وأما الخوارج فسبع فرق وهم المحكمة والبيهسية والأزارقة والحراث والعبدية(168/443)
والأباضية وهم أربع فرق الحفصية واليزيدية والحارثية والمطيعية وأما العجاردة فإحدى عشرة فرقة وهم الميمونية والشعيبية والحازمية والحمزية والمعلومية والمجهولية والصلتية والثعلبية واربع فرق وهم الاخنسية والمعبدية وألشيبانية والمكرمية فالجميع اثنتان وستون قال يوسف بن اسباط ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشرة فرقة فتلك ثنتان وسبعون فرقة والثالثة والسبعون هي الناجية
وهذا التقدير نحو من الأول ويرد عليه من الإشكال ما ورد في الأول
فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشى رحمه الله شرحا يقرب الأمر فقال لم يرد علماونا بهذا التقدير أن اصل كل بدعة من هذه الأربع تفرقت وتشعبت على مقتضى اصل البدع حتى تحملت تلك العدة لان ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن
قال وإنما أرادوا أن كل بدعة ضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الفرق الأربع وإن لم تكن البدعة الثانية فرعا للأولى ولا شعبة من شعبها بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الأولى بسبيل
ثم بين ذلك بالمثال بأن القدر اصل من أصول البدع ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد مخلوقة لهم من دون الله تعالى
ثم اختلفوا في فروع من فرع القدر
فقال أكثرهم لا يكون فعل بين فاعلين مخلوقين على التولد
وأحال مثله بين القديم والمحدث
ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة
كاختلافهم في الصلاح والأصلح فقال البغداديون منهم يجب على الله تعالى فعل الصلاح لعبادة في دينهم
ويجب عليه ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم
ويجب عليه إكمال عقولهم وإقدارهم وإزاحة عللهم
وقال المصريون منهم لا يجب على الله إكمال عقولهم ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف
وقال البغداديون منهم يجب على الله - تعالى عن قولهم - عقاب العصاة إذا لم يتوبوا
والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر
وأما المصريون منهم ذلك(168/444)
وابتدع جعفر بن بشر من استصر امرأة ليتزوجها فوثب عليها فوطئها بلا ولى ولا شهود ولا رضى ولا عقد حل له ذلك
وخالفه في ذلك سلفه
وقال ثمامة ابن أشرس إن الله يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين ترابا يوم القيامة لا يعذبهم ولا يعرضهم
وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعا تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها
وبدعا لا تعلق لها بها
فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أراد بتفرق أمته اصول التي تجرى مجرى الأجناس للأنواع
والمعاقد للفروع لعلهم - والعلم عند الله - ما بلغن هذا العدد إلى الآن
غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة
وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع
وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت في دين الإسلام مما يلا يلائم اصول الإسلام ولا تقبلها قواعده من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعا لأجناس او كانت متغايرة الأصول والمبانى
فهذا هو الذى اراده عليه الصلاة والسلام - والعلم عند الله - فقد وجد من ذلك عدد أكثر من اثنتين وسبعين ووجه تصحيح الحديث على هذا أن تخرج من الحساب غلاة أهل البدع ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة كنفاة الأعراض من القدرية لأنه لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض وكالحلولية والنصيرية وأشباههم من الغلاة
هذا ما قال الطرطوشي رحمه الله تعالى وهو حسن من التقرير غير انه يبقى للنظر في كلامه مجالان أحدهما أن ما اختار
من أنه ليس المراد الأجناس فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية - فمشكل لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدعة كيف كانت لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة فلا تقف في مائة ولا مائتين فضلا عن وقوعها في اثنتين وسبعين وأن البدع - كما قال - لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة(168/445)
وقد مر من النقل ما يشعر بهذا المعنى وهو قول ابن عباس ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن
وهذا موجود في الواقع فإن البدع قد نشأت إلى الآن ولا تزال تكثر وإن فرضنا إزالة بدع الزائغين في العقائد كلها لكان الذي يبقى أكثر من أثنتين وسبعين فما قاله - والله أعلم - غير مخلص
والثاني أن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعين بعد بخلاف القول المتقدم وهو أصح في النظر لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل و العقل لا يقتضيه
وأيضا فالمنازع أن يتكلف من مسائل الخلاف التي بين الاشعرية في قواعد العقائد فرقا يسميها ويبرىء نفسه وفرقته عن ذلك المحظور
فالأولى ما قاله من عدم التعيين
وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فلا ينبغى التعيين
أما أولا - فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها ويبقى الأمر في تعيين الداخلين في مقتصى الحديث مرجى وإنما ورد التعيين في النادر كما قال عليه الصلاة والسلام في الخوارج إن من ضئضىء هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم الحديث مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يعرف أنهم ممن شملهم حديث الفرق
وهذا الفصل مبسوط في كتاب الموافقات والحمد لله
وأما ثانيا - فلأن عدم التعيين هو الذي ينبغى أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب وأمرنا بالستر على المؤمنين ما لم تبد لنا صفحة الخلاف ليس كما ذكر عن بنى إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة وكذلك في شأن قربانهم فإنهم كانوا إذا قربوا لله قربانا فإن كان مقبولا عند الله نزلت نار من السماء فأكلته وإن لم يكن مقبولا لم تأكله النار وفي ذلك افتضاح المذنب
ومثل ذلك في الغنائم ايضا فكثير من هذه الأشياء خصت هذه الأمة بالستر فيها(168/446)
وأيضا فللستر حكمة أخرى وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التى أمر الله ورسوله بها حيث قال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال تعالى فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم - وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وفي الحديث لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين
فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد
وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى
وخرج أبو داود عن عمر بن أبى مرة قال كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر اشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأناس من اصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة فيقولون قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك
فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال يا سلمان ما يمنعك أن تصدقنى بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى أما تنتهى حتى تورث رجالا حب رجالا ورجالا بغض رجال
وحتى توقع اختلافا وفرقة ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطب فقال إنما رجل سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبى فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثنى الله رحمة للعالمين فأجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو أكتبن إلى عمر(168/447)
فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضى الله عنه وهو جار في مسألتنا فمن هنا لا ينبغى للراسخ في العلم أن يقول هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو فلان وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب إجتهاده اللهم إلا في مواطنين
أحدهما حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق ويجرى مجراهم من سلك سبيلهم فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدى المغربي فإنه ظهر فيهم الأمران اللذان عرف النبى صلى الله عليه بهما في الخوارج من أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقهوا فيه ولا عرفوا مقاصده
ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأى وخرقوها ومزقوا أدمها مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معانى الكتاب والسنة على الوجه الذي ينبغى وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد زعموا عليهم أنهم مجسمون وأنهم غير موحدين وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين لهم وغيرهم
فقد اشتهر في الأخبار والآثار ما كان من خروجهم على علي بن أبى طالب رضى الله عنه وعلى من بعده كعمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيره حتى لقد روى في حديث خرجه البغوى في معجمه عن حميد بن هلال ان عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ثم رجع مع المسلمين منذ زمان فقصد نحو الآذان يريد الصلاة فإذا هو بالأزارقة - صنف من الخوارج - فلما رأوه قالوا ما جاء بك يا عدو الله قال ما أنتم يا إخوتي قالوا أنت أخو الشيطان لنقتلنك
قال
ما ترضون منى بما رضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالوا وأي شىء رضى به منك قال أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلا الله وإنه رسول لله فخلى عنى - قال - فأخذوه فقتلوه(168/448)
وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه وقد جاء في القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم
وعن حذيفة رضى الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازتهم ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال وهذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل
قال صاحب المغنى
لم يصح في ذلك شىء
نعم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر حين أخبره أن القول بالقدر قد ظهر إذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى برىء منهم وهم برآء منى ثم استدل بحديث جبريل - صحيح لا إشكال في صحته
وخرج أبو داود أيضا من حديث عمر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم
لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ولم يصح أيضا
وخرج ابن وهب عن زيد بن على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
صنفان من أمتى لاسهم لهم في الإسلام يوم القيامة المرجئة والقدرية وعن معاذ بن جبل وغيره يرفعه قال لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم
وعن مجاهد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال سيكون من أمتى قدرية وزنديقية أولئك مجوس وعن نافع قال بينما نحن عند عبدالله بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال إن فلانا يقرا عليك السلام - لرجل من أهل الشام - فقال عبدالله بلغنى أنه قد أحدث حدثا فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه السلام
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول سيكون في أمتى مسخ وخسف وهو في الزنديقية
وعن ابن الديلمى قال(168/449)
أتينا أبى بن كعب فقلت له وقع في نفسى شيء من القدر فحدثنى لعل الله يذهبه من قلبى فقال لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار
قال ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال لي مثل ذلك قال ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك
وفي بعض الحديث لا تكلموا في القدر فإنه سر الله وهذا كله أيضا صحيح
وجاء في المرجئة والجهمية شىء لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلا تعويل عليه
نعم نقل المفسرون أن قوله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شىء خلقناه بقدر نزل في أهل القدر
فروى عبد ابن حميد عن أبي هريرة رضى الله عنه قال أتى مشركو قريش إلى النبى صلى الله عليه وسلم
يخاصمونه في القدر فنزلت الآية
وروى مجاهد وغيره أنها نزلت في المكذبين بالقدر ولكن أن صح ففيه دليل وإلا فليس في الآية ما يعين أنهم من الفرق وكلامنا فيه
والثاني حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس وهم من شياطين الإنس فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم
كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره
فروى عاصم الأحول
قال جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال منه
فقلت أبا الخطاب ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض فقال يا أحول أو لا تدرى أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغى لها أن تذكر حتى تحذر فجئت من عند قتادة وأنا مغتم بما سمعت من قتادة في عمرو بن عبيد وما رأيت من نسكه وهديه فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن عبيد المصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله
فقلت(168/450)
سبحان الله تحك آية من كتاب الله قال إني سأعيدها
قال فتركته حتى حكها
فقلت له أعدها
فقال لا أستطيع
فمثل هؤلاء لا بد من ذكرهم والتشريد بهم لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعداوة
ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم - إذا أقيم - عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم وإذا تعارض الضرران فالمرتكب أخفهما وأسهلهما وبعض الشر أهون من جميعه كقطع اليد المتأكلة إتلافها أسهل من إتلاف النفس
وهذا شأن الشرع أبدا يطرع حكم الأخف وقاية من الأثقل فإذا فقد الأمران فلا ينبغى أن يذكروا لأن يعينوا وإن وجدوا لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة والبغضاء ومن حصل باليد منهم أحد ذاكره برفق ولم يره أنه خارج من السنة بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا
فإن فعل ذلك من غير تعصب ولإ إظهار غلبة فهو الحج وبهذه الطريقة دعى الخلق أولا إلى الله تعالى حتى عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك
قال الغزالي في بعض كتبه أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهل أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدى والإدلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارث من بواطنهم دواعى المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن أعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة
ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستفزا في قلب مجنون فصلا عن قلب عاقل
هذا ما قال
وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك
والله أعلم
المسألة الثامنة(168/451)
أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها وهي على قسمين علامات إجمالية وعلامات تفصيلية
فأما العلامات الإجمالية فثلاثة
أحدها الفرقة التى نبه عليها قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات - وقوله تعالى - وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة روى ابن وهب عن إبراهيم النخعى أنه قال هي الجدال والخصومات في الدين وقوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وفي الصحيح عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وصدق الحديث
وهذا التفريق - كما تقدم - إنما هو الذي يصير الفرقة الواحدة فرقا والشيعة الواحدة شيعا
قال بعض العلماء صاروا فرقا لاتباع أهوائهم
وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم وهو قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا - ثم برأه الله منهم بقوله - لست منهم في شىء وهم أصحاب البدع وأصحاب الضلالات والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله
قال - ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يتفرقوا ولا صاروا شيعا لانهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد إلى الرأى والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا واختلف في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبى بكر وعمر وعلى وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلى في امهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة و خلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك فما اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح وأخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/452)
وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا - دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التى ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه
قال كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة - علمنا أنها من مسائل الإسلام
وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة - علمنا أنها ليست من أمر الدين في شىء وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بتفسير الآية
وذلك ما روى عن عائشة رضى الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا من هم - قلت الله ورسوله أعلم
قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة الحديث الذي تقدم ذكره
قال - فيجب على كل ذى عقل ودين أن يجتنبها ودليل ذلك قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا فإذا اختلفوا وتعاطوا ذلك كان لحدث أحدثوه من اتباع الهوى هذا ما قاله
وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين
وهذه الخاصية قد دل عليها الحديث المتكلم عليه وهي موجودة في كل فرقة من الفرق المتضمنة في الحديث
ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبى صلى الله عليه وسلم
في قوله يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان وأي فرقة توازي هذه الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر وهي موجودة في سائر من عرف من الفرق أو ادعى ذلك فيهم إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت لأنا تختلف بالقوة والضعف
وحين ثبت أن مخالفة هذه الفرق من الفروع الجزئية باب الفرقة - فلا بد يجب النظر في هذا كله
والخاصية الثانية هي التي نبه عليها قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه الآية(168/453)
فبينت الآية أن أهل الزيغ يتبعون متشابهات القرآن وجعلوا ممن شأنه أن يتبع المتشابه لا المحكم
ومعنى المتشابه ما أشكل معناه ولم يبين مغزاه كان من المتشابه الحقيقي - كالمجمل من الألفاظ وما يظهر من التشبيه - أو من المتشابه الإضافي وهو ما يحتاج في بيان معناه الحقيقي إلى دليل خارجى وإن كان في نفسه ظاهر المعنى لبادى الرأى كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله إن الحكم إلا لله فإن ظاهر الآية صحيح على الجملة وأما على التفصيل فمحتاج إلى البيان و هو ما تقدم ذكره لابن عباس رضى الله عنهما لأنه بين أن الحكم لله تارة بغير تحكيم لأنه إذا أمرنا بالتحكيم فالحكم به حكم الله
وكذلك قولهم قاتل ولم يسب فإنهم حصروا التحكيم في القسمين وتركوا قسما ثالثا وهو الذي نبه قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهم فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى - الآية
فهذا قتال من غير سبى لكن ابن عباس نبهم على وجه أظهر وهو أن السباء إذا حصل فلا بد من وقوع بعض على أم المؤمنين وعند ذلك يكون حكمها حكم السبايا في الانتفاع بها كالسبايا فيخالفون القرآن الذي ادعو التمسك به
وكذلك في محر الأسم من إمارة المؤمنين اقتضى عندهم أنه إثبات لإمارة الكافرين وذلك غير صحيح لأن نفى الأسم منها لا يقتضى نفي المسمى
وأيضا فإن فرضنا أنه يقتضى نفي المسمى لم يقتض إثبات إمارة أخرى
فعارضهم ابن عباس بمحو النبى صلى الله عليه وسلم
اسم الرسالة من الصحيفة معارضة لا قبل لهم بها
ولذلك رجع منهم ألفان - أو من رجع منهم -
فتأملوا وجه اتباع المتشابهات وكيف أدى إلى الضلال والخروج عن الجماعة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/454)
فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فأحذروهم والخاصية الثالثة اتباع الهوى الذى نبه عليه قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ والزيغ هو الميل عن الحق اتباعا للهوى وكذلك قوله تعالى ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وقوله أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم
وليس في حديث الفرق ما يدل على هذه الخاصية ولا على التي قبلها
إلا أن هذه الخاصية راجعة في المعرفة بها إلى كل أحد في خاصة نفسه لأن أتباع الهوى أمر باطنى فلا يعرفه غير صاحبه إذا لم يغالط نفسه إلا أن يكون عليها دليل خارجى
وقد مر أن أصل حدوث الفرق إنما هو الجهل بمواقع السنة وهو الذي نبه عليه الحديث بقوله اتخذ الناس رؤساء جهالا فكل احد عالم بنفسه هل بلغ في العلم مبلغ المفتين أم لا وعالم راجع النظر فيما سئل عنه هل هو قائل بعلم واضح من غير إشكال أم بغير علم أم هو على وشك فيه والعالم إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم حتى يشهد فيه غيره ويعلم هو من نفسه ما شهد له به وإلا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى
إذ كان ينبغى له أن يستفى في نفسه غيره ولم يفعل وكل من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ولم يفعل هذا
قال العقلاء إن رأى المستشار أنفع لأنه برىء من الهوى بخلاف من لم يستشر فإنه غير برىء ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم
فهذا أنموذج ينبه صاحب الهوى في هواه ويضبطه إلى أصل يعرف به
هل هو في تصدره إلى فتوى الناس متبع للهوى أم هو متبع للشرع وأما الخاصية الثانية فراجعه إلى العلماء الراسخين في العلم لان معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم فهم يعرفونها ويعرفون أهلها فهم المرجوع إليهم في بيان من هو متبع للمحكم فيقلد في الدين ومن هو المتبع للمتشابه فلا يقلد أصلا(168/455)
ولكن له علامة ظاهرة أيضا نبه عليها الحديث الذي فسرت الآية به قال فيه فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم خرجه القاضى إسماعيل بن إسحاق وقد تقدم أول الكتاب
فجعل من شأن المتبع للمتشابه أنه يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك إذ المتشابه لا يعطى بيانا شافيا ولا يقف منه متبعه على حقيقة فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به والنظر فيه لا يتخلص له فهو على شك أبدا وبذلك يفارق الراسخ في العلم لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلبا لإزالته فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر
وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله
ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران وقصدهم أن يناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في عيسى بن مريم عليهما السلام وأنه الله أو أنه ثالث ثلاثة مستدلين بأمور متشابهات من قوله فعلنا وخلقنا وهذا كلام جماعة
ومن أنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى وهو كلام طائفة أخرى - ولم ينظروا إلى اصله ونشأته بعد أن لم يكن وكونه كسائر بنى آدم يأكل ويشرب وتلحقه الآفات والأمراض
والخبر مذكور في السير
والحاصل أنهم إنما أتوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومجادلته لا يقصدوا اتباع الحق
والجدال على هذا الوجه لا ينقطع ولذلك ما بين لهم الحق ولم يرجعوا عنه دعوا إلى أمر آخر خافوا منه الهلكة فكفوا عنه وهو المباهلة
وهو في قوله تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم الآية
وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله وعن الصلاة كالنرد والشطرنج وغيرهما
وقد نقل عن حماد بن زيد أنه قال جلس عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يتخاصمان إلى طلوع الفجر(168/456)
قال فلما صلوا جعل عمرو يقول هيه أبا معمر هيه أبا معمر فإذا رأيتم أحدا شأنه أبدا الجدال في المسائل مع كل أحد من أهل العلم ثم لا يرجع ولا يرعوى فاعملوا أنه زائغ القلب متبع للمتشابه فاحذروه وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من الإسلام لان التواصل والتقاطع معروف عند الناس كلهم وبمعرفته يعرف أهله
وهو الذي نبه عليه حديث الفرق إذ أشار إلى الأفتراق شيعا بقوله وستفترق هذه الأمة على كذا ولكن هذا الافتراق إنما يعرف بعد الملابسة والمداخلة وأما قبل ذلك فلا يعرفه كل أحد فله علامات تتضمن الدلالة على التفرق
أولا مفاتحة الكلام وذلك إلقاء المخالف لمن لقيه ذم المتقدمين ممن اشتهر علمهم وصلاحهم واقتداء الخلف بهم ويختص بالمدح من لم يثبت له ذلك من شاذ مخالف لهم وما أشبه ذلك
وأصل هذه العلامة في الاعتبار تكفير الخوارج - لعنهم الله - الصحابة الكرام رضى الله عنهم فإنهم ذموا في مدحه الله ورسوله واتفق السلف الصالح على مدحهم والثناء عليهم ومدحوا من اتفق السلف الصالح على ذمة كعبد الرحمن بن ملجم قاتل على رضى الله عنه وصوبوا قتله إياه وقالوا إن في شأنه نزل قوله تعالى ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله وأما التي قبلها وهى قوله ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية فإنها نزلت في شأن على رضي الله عنه وكذبوا - قاتلهم الله - وقال عمران بن حطان في مدحه لابن ملجم
يا ضربة من تقى ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا
إنى لأذكره يوما فأحسبه
أو في البرية عند الله ميزانا
وكذب - لعنه الله - فإذا رأيت ما يجرى على هذا الطريق فهو من الفرق المخالفة وبالله التوفيق
وروى عن إسماعيل بن علية قال حدثنى اليسع قال تكلم واصل بن عطاء يوما - يعنى المعتزلى - فقال عمرو بن عبيد ألا تسمعون ما كلام الحسن وابن سيرين - عندما تسمعون - إلا خرقة حيض ملقاة(168/457)
روى أن زعيما من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه فكان يقول إن علم الشافعى وأبى حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة
هذا كلام هؤلاء الزائغين قاتلهم الله
والعلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها وأشير إلى جملة منها في التكاب والسنة في ظنى أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبها عليها ومشار إليها ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعى وقد كنا هممنا بذلك في ماضى الزمان
فغلبنا عليه ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك
فأنت ترى أن الحديث الذي تعرضنا لشرحه لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها لهذا المعنى المذكور - والله أعلم - وإنما نبه عليها في الجملة لتحذر مظانها وعين في الحديث المحتاج إليه منها وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة لأنها - كما قال - أشد الفرق فتنة على الأمة
وبيان كونها اشد فتنة من غيرها سيأتى آخر إن شاء الله
المسألة التاسعة
إن الرواية الصحيحة في الحديث أن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين وهي رواية أبى داود على الشك إحدى وسبعين أو أثنتين وسبعين وأثبت في الترمذى في الرواية الغريبة لبنى إسرائيل الثنتين والسبعين لأنه لم يذكر في الحديث افتراق النصارى وذلك - والله أعلم - لأجل أنه إنما أجرى في الحديث ذكر بنى إسرائيل فقط لأنه ذكر فيه عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليأتين على أمتى ما أتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتى من يصنع ذلك
وإن بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتى الحديث
وفي أبى داود اليهود والنصارى معا إثبات الثنتين والسبعين من غير شك(168/458)
وخرج الطبرى وغيره الحديث على أن بنى إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين ملة وافترقت هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة
فإنا بنينا على إثبات إحدى الروايتين فلا إشكال لكن في رواية الإحدى والسبعين تزيد هذه الأمة فرقتين وعلى رواية الثنتين والسبعين تزيد فرقة واحدة وثبت في بعض كتب الكلام في نقل الحديث أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين وأن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ووافقت سائر الروايات في افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ولم أر هذه الرواية هكذا فيما رأيته من كتب الحديث إلا ما وقع في جامع ابن وهب من حديث على رضى الله عنه - وسيأتى
وأن بنينا على إعمال الروايات
فيمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك ثم أعلم بزيادة فرقة أما أنها كانت فيهم ولو يعلم بها النبى صلى الله عليه وسلم في وقت آخر وإما أن تكون جملة الفرق في الملتين ذلك المقدار فأخبر به ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخبر ذلك عليه الصلاة والسلام
وعلى الجملة فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث والله بحقيقة الأمر
المسألة العاشرة
هذه الأمة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الأخرى اليهود و النصارى فالثنتان والسبعون من الهالكين المتوعدين بالنار والواحدة في الجنة
فإذا انقسمت هذه الامة بحسب هذا الافتراق قسمين قسم في النار وقسم في الجنة ولم يبين ذلك في فرق اليهود ولا في فرق النصارى إذ لم يبين الحديث أن لا تقسيم لهذه الأمة فيبقى النظر هل في اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا وينبنى على ذلك نظران هل زادت هذه الأمة فرقة هالكة أم لا وهذا النظر وإن كان لا ينبنى عليه لكنه من تمام الكلام في الحديث(168/459)
فظاهر النقل في مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى لا بد أن يوجد فيها من آمن بكتابه وعمل بسنته كقوله تعالى ولا تكونوا كالذين أتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ففيه إشارة إلى أن منهم من لم يفسق وقال تعالى فآتينا الذين آمنو منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون وقال تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقال تعالى منهم أمة مقتصدة وهذا كالنص
وفي الحديث الصحيح عن أبى موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بى فله أجران فهذا يدل بإشارته على العمل بما جاء به نبيه
وخرج عبدالله بن عمر عن ابن مسعود قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا عبد الله بن مسعود - قلت لبيك رسول الله قال - أتدرى أي عرى الإيمان أوثق - قال - قلت الله ورسوله أعلم
قال الولاية في الله والحب في الله والبغض فيه - ثم قال يا عبد الله بن مسعود - قلت لبيك رسول الله ثلاث مرات قال - أتدرى أى الناس أفضل قلت الله ورسوله أعلم
قال - فإن افضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم - ثم قال - يا عبدالله بن مسعود - قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرات
قال - هل تدرى أي الناس أعلم - قلت الله ورسوله أعلم(168/460)
قال أعلم الناس أبصرهم للحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على أستة واختلف من قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرها فرقة آذت الملوك وقاتلهم علة دين عيسى بن مريم حتى قتلوا وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤذاة الملوك فأقاموا بين ظهرانى قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم فأخذتهم الملوك وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانى قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم فساحوا في الجبال وهربوا فيها فهم الذين قال الله عز وجل فيهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون فالمؤمنون الذين آمنوا بى وصدقوا بى والفاسقون الذين كذبوا بى وجحدوا بى فأخبر أن فرقا ثلاثا نجت من تلك الفرق المعدودة والباقية هلكت
وخرج ابن وهب من حديث على رضى الله عنه أنه دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال إنى سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما يا رأس جالوت أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى وأطعمكم المن والسلوى وضرب لكم في البحر طريقا يبسا وجعل لكم الحجر الطورى يخرج لكم منه اثنتى عشرة عينا لكل سبط
من بنى إسرائيل عين إلا ما أخبرتنى على كم افترقت اليهود من فرقة بعد موسى فقال له ولا فرقة واحدة
فقال له علي كذبت والذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة
ثم دعا الأسقف فقال أنشدك الله الذى أنزل الإنجيل على عيسى وجعل على رجله البركة وأراكم العبرة فأبرأ الأكمة والأبرص وأحيا الموتى وصنع لكم من الطين طيورا وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم
فقال دون هذا الصدق يا أمير المؤمنين
فقال له على رضى الله عنه
كم افترقت النصارى بعد عيسى بن مريم من فرقة قال لا
والله ولا فرقة(168/461)
فقال ثلاث مرات كذبت والله الذى لا إله إلا الله
لقد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فقال أما أنت يا يهودى فإن الله يقول ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون فهى التي تنجو وأما نحن فيقول الله وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون فهذه التي تنجو من هذه الأمة
ففي هذا أيضا دليل
وخرجه الآجرى ايضا من طريق أنس بمعنى حديث علي رضى الله عنه إن واحدة من فرق اليهود ومن فرق النصارى في الجنة
وخرج سعيد بن منصور في تفسيره من حديث عبدالله أن بنى إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم وكان الحق يحول بين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون فقالوا
اعرضوا هذا الكتاب على بنى إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوه قالوا لا بل أرسلوا إلى فلان رجل من علمائهم - فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتوله فلن يختلف عليكم بعده أحد فأرسلوا إليه فأخذوا ورقة فكتب فيها الكتاب ثم جعلها في قرن ثم علقها في عنقه ثم لبس عليها الثياب ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا أتؤمن بهذا فأومأ إلى صدره فقال آمنت بهذا ومالى لا أومن بهذا يعنى الكتاب الذي في القرن فخلوا سبيله وكان له اصحاب يغشونه فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا الكتاب فقالوا ألا ترون قوله آمنت بهذا ومالى لا أومن بهذا وإنما عنى هذا الكتاب
فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة وخير مللهم أصحاب ذلك القرن - قال عبد الله - وإن من بقى منكم سيرى منكرا بحسب أمره يرى منكرا لا يستطيع أن يغيره إن يعلم الله من قبله خيرا كاره
فهذا الخبر يدل على أن فى بنى إسرائيل فرقة كانت على الحق الصريح في زمانهم لكن لا أضمن عهدة صحته ولا صحة ما قبله(168/462)
وإذا ثبت أن في اليهود والنصارى فرقة ناجية لزم من ذلك أن يكون في هذه الامة فرقة ناجية زائدة على رواية الثنتين والسبعين أو فرقتين بناء على رواية الإحدى والسبعين فيكون لها نوع من التفرق لم يكن لمن تقدم من أهل الكتاب
لأن الحديث المتقدم أثبت أن هذه الأمة تبعث من قبلها من أهل الكتابين في أعيان مخالفتها فثبت أنها تبعتها في أمثال بدعتها و هذه هي
المسألة الحادية عشرة
فإن الحديث الصحيح قال لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب لا تبعتموهم - قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى - قال فمن زيادة إلى حديث الترمذى الغريب فد ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم
وفي الصحيح عن أبى واقد الليثى رضى الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط
فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم
الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة
لتركبن سنن من كان قبلكم وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقا على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع وتزيد عليها ببدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر وقد مر أن ذلك لا يعرف او لا يسوغ التعريف به وإن عرف فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة والله أعلم
وفي الحديث أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/463)
قال لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتى بما أخذ القرون من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع - فقال رجل يا رسول الله كما فعلت فارس والروم قال وهل الناس إلا أولئك وهو بمعنى الأول إلا أنه ليس فيه ضرب مثل فقوله حتى تأخذ أمتى بما أخذ القرون من قبلها يدل على أنها تأخذ بمثل ما آخذوا به إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في اشباهها فالذي يدل على الأول قوله لتتبعن سنن من كان قبلكم الحديث فإنه قال فيه حتى لو دخلوا في جحر ضب خرب لا تبعتموهم
والذي يدل على الثاني قوله فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط فقال عليه السلام هذا كما قالت بنوا إسرائيل اجعل لنا إلها الحديث
فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه والله أعلم
المسألة الثانية عشرة
إنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنها كلها في النار
وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنبا عظيما إذ قد تقرر في الأصول أن ما يتوعد الشر عليه فخصوصيته كبيرة إذ لم يقل كلها في النار
إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته وليس ذلك إلا لبدعة المفرقة إلا أنه ينظر في هذا الوعيد
هل هو أبدى أم لا وإذا قلنا إنه غير أبدى هل هو نافذ أم في المشيئة
أما المطلب الأول فينبنى على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام أو ليست مخرجة والخلاف في الخوارج وغيرهم من المخالفين في العقائد موجود - وقد تقدم ذكره قبل هذه - فحيث نقول بالتفكير لزم منه تأبيد التحريم على القاعدة إن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل - على مذهب أهل السنة - أمرين احدهما نفوذ الوعيد من غير غفران ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث وقوله هنا كلها في النار أي مستقرة ثابتة فيها
فإن قيل ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة(168/464)
قيل بلى قد قال به طائفة منهم في بعض الكبائر في مشيئة الله تعالى لكن دلهم الدليل في خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم ولا بد من ذلك فإن المتبع هو الدليل فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة في المشيئة كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذي في قوله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فإن الله تعالى قال ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم الآية
فأخبر أولا أن جزاءه جهنم وبالغ في ذلك بقوله تعالى خالدا فيها عبارة عن طول المكث فيها ثم عطف بالغضب ثم بلعنته ثم ختم ذلك بقوله تعالى وأعد له عذابا عظيما والإعداد قبل البلوغ إلى المعد مما يدل على حصوله للمعدله ولأن القتل اجتمع فيه حق لله وحق المخلوق وهو المقتول
قال ابن رشد ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم
وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه إلا بأن يدك المقتول حيا فيعفو عنه نفسه
وأولى من هذه العبارة أن نقول ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجنى عليه إما ببذل القيمة له وهو أمر لا يمكن بعد فوت المقتول
فكذلك يمكن في صاحب البدعة من جهة الأدلة فراجع ما تقدم في الباب الثانى تجد فيه كثيرا من التهديد والوعيد المخوف جدا وانظر في قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم فهذا وعيد ثم قال تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وتسويد الوجوه علامة الخزي ودخول النار النار ثم قال تعالى أكفرتم بعد إيمانكم وهو تقريع وتوبيخ ثم قال تعالى فذقوا العذاب الآية
وهو تأكيد آخر
وكل هذا التقرير بناء على أن المراد بالآيات أهل القبلة من أهل البدع
لأن المبتدع إذا اتبع في بدعته لم يمكنه التلافى - غالبا - فيها ولم يزل أثرها في الأرض مستطيل إلى قيام الساعة وذلك كله بسببه فهى أدهى من قتل النفس(168/465)
قال مالك رحمة الله عليه إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئا وجبت له أرفع المنازل لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء إنما يهوى به في نار جهنم فهذا منه نص في إنفاذ الوعيد
والثانى أن يكون مقيدا بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار وإنما حمل قوله كلها في النار أي هي ممن يستحق النار كما قالت الطائفة الأخرى في قوله تعالى فجزاؤه جهنم خالدا فيها أي ذلك جزاؤه فإن عفا عنه فله العفو إن شاء الله لقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة - وإن لم يكن الاستدراك كذلك - يصح أن يقال هنا بمثله
المسألة الثالثة عشرة
إن قوله عليه الصلاة والسلام إلا واحدة قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف إذ لو كان للحق فرق ايضا لم يقل إلا واحدة ولأن الاختلاف منفى عن الشريعة بإطلاق لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول إذ رد التنازع إلى الشريعة فلو كانت الشريعة تقتضى الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة
وقوله في شىء نكرة في سياق الشرط فهى صيغة من صيغ العموم
فتنتظم كل تنازع على العموم فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا
وقال تعالى وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل وهو نص فيما نحن فيه فإن السبيل الواحد لا يقتضى الافتراق بخلاف السبل المختلفة
فإن قيل فقد تقدم في المسألة العاشرة في حديث ابن مسعود واختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها إلى آخر الحديث فلو لزم ما قلت لم يجعل أولئك الفرق ثلاثا وكانوا فرقة واحدة وحين بينوا ظهر أنهم كلهم على الحق والصواب
فكذلك يجوز أن تكون الفرق في هذه الأمة لولا أن الحديث أخبر أن الناجية واحدة(168/466)
فالجواب أولا - أن ذلك الحديث لم نشترط الصحة في نقله إذ لم نجده في الكتب التي لدينا المشترط فيها الصحة وثانيا أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلاثا فإنما عدت هناك واحدة لعدم الاختلاف بينهم في أصل الاتباع وإنما الاختلاف في القدرة على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو عدمها وفي كيفية الأمر والنهى خاصة
فهذه الفرق لا تنافى الصحة الجمع بينهما فنحن نعلم أن المخاطبين في ملتنا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على مراتب فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم الملوك والحكماء ومن اشبههم ومنهم من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ومنهم من لا يقدر إلا بالقلب - إما مع البقاء بين ظهرانيهم إذ لم يقدر على الهجرة أو مع الهجرة إن قدر عليها وجميع ذلك خطة واحدة من خصال الإيمان ولذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام ليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل
فإذا كان كذلك فلا يضرنا عد الناجية في بعض الأحاديث ثلاثا باعبتار وعدها واحدة باعتبار آخر وإنما يبقى النظر في عدها اثنتين وسبعين فتصير بهذا الاعتبار سبعين وهو معارض لما تقدم من جهة الجمع بين فرق هذه الأمة وفرق غيرها مع قوله لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع
ويمكن أن يكون في الجواب أحد أمرين إما أن يترك الكلام في هذا راسا إذا خالف الحديث الصحيح لأنه ثبت فيه إحدى وسبعين وفي حديث ابن مسعود ثنتين وسبعين
وإما أن يتأول أن الثلاثة التي نجت ليست فرقا ثلاثا وإنما هي فرقة واحدة انقسمت إلى المراتب الثلاث لأن الرواية الواقعة في تفسير عبد بن حميد هي قوله نجا منها ثلاث ولم يفسرها بثلاث فرق وإن كان هو ظاهر المساق
ولكن قصد الجمع بين الروايات ومعانى الحديث ألجأ إلى ذلك والله أعلم بما أراد ورسوله من ذلك(168/467)
وقوله عليه الصلاة والسلام كلها في النار إلا واحدة ظاهر في العموم لأن كل من صيغ العموم وفسره الحديث الآخر ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهذا نص لا يحتمل التأويل
المسألة الرابعة عشرة
أن النبى صلى الله عليه وسلم
لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة وإنما تعرض لعدها خاصة وأشار إلى الفرقة الناجية حين سئل عنها وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأمور أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة وأيضا فلو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها لأن الكلام فيما يقتضى ترك أمور وهي بدع والترك للشىء لا يقتضى فعل شىء آخر لا ضدا ولا خلافا فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق
والثانى أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج وحصل التعيين بالأجتهاد بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضى شرحا كثيرا ولا يقتضى في الفرقة الناجية اجتهاد لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعا لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها والثالث أن ذلك أحرى بالستر كما تقدم بيانه في مسألة الفرق ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة فالعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر والحمد لله فبين النبى صلى الله عليه وسلم
ذلك بقوله ما أنا عليه واصحابى ووقع ذلك جوابا للسؤال الذي سالوه إذ قالوا من هي يا رسول الله فأجاب بأن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلاة والسلام وأوصاف أصحابه
وكان ذلك معلوما عندهم غير خفى فاكتفوا به
وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان
وحاصل الأمر أن اصحابه كانوا متقدين به مهتدين بهديه وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم وأثنى عليهم متبوعهم محمد صلى الله عليه وسلم(168/468)
وإنما خلقه صلى الله عليه وسلم
القرآن فقال تعالى وإنك لعلى خلق عظيم فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة وجاءت السنة مبينة له فالمتبع للسنة متبع للقرآن
والصحابة كانوا أولى الناس بذلك ن فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلة للجنة بفضل الله وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام ما أنا عليه وأصحابى فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم وما سواهما من الإجماع وغيره فناشىء عنهما هذا هو الوصف الذي كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله وهى الجماعة لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف إلا أن في لفظ الجماعة معنى تراه بعد إن شاء الله
ثم إن في هذا التعريف نظرا لا بد من الكلام عليه فيه وذلك أن كل داخل تحت ترجمة الإسلام من سنى أو مبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة إذ لا يدعى خلاف ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام وانحاز إلى فئة الكفر كاليهود والنصارى وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين
وأما من لم يرض لنفس إلا بوصف الإسلام وقاتل سائر الملل على هذه الملة فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها - وهو مدع أحسنها - وهو المعلم فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبق على تلك الحالة ولم يصاحب أهلها فضلا عن أن يتخذها دينا يدين به الله وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل
فإذا كان كذلك فكل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة
ألا ترى أن المبتدع آخذ أبدا في تحسين حالته شرعا وتقبيح حالة غيره فالظاهر يدعى أنه المتبع للسنة
والغاش يدعى أنه الذى فهم الشريعة وصاحب نفى الصفات يدعى أنه الموحد
والقائل باستقلال العبد يدعى انه صاحب العدل وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد
والمشبه يدعى أنه المثبت لذات البارى وصفاته لان نفى التشبيه عنده نفى محض وهو العدم(168/469)
وكذلك كل طائفة من الطوائف التي ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها
وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنية على الخصوص فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا
فالخوارج تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله وفي رواية لا يضرهم خلاف من خالفهم ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد
والقاعد يحتج بقوله عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقه الإسلام من عنقه وقوله كن عبدالله المقتول ولا تكن عبدالله القاتل
والمرجئى يحتج بقوله من قال لا إله إلا الله مخلصا من قبله فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق والمخالف له محتج بقوله لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن
والقدرى يحتج بقوله تعالى فطرة الله التى فطر الناس عليها وبحديث كل مولود يولد على الفطرة الحديث
والمفوض يحتج بقوله تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وفي الحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له
والرافضة تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام ليردن الحوض أقوام ثم ليتخلفن دونى فأقول يارب أصحابى فيقال إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ثم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ويحتجون في تقديم على رضى الله عنه ب أنت منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبى بعدى و من كنت مولاه فعلى مولاه ومخالفوهم يحتجون في تقديم أبى بكر وعمر رضى الله عنهما بقوله اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر إلى اشباه ذلك مما يرجع إلى معناه
والجميع محومون - في زعمهم - على الانتظام في سلك الفرقة الناجية وإذا كان كذلك اشكل على المبتدع في النظر ما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم
وأصحابه
ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر فإنها متدافعة متناقضة وإنما يمكن الجمع فيها إذا جعل بعضها اصلا
فيرد البعض الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل(168/470)
وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الأدلة وترد ما سواها إليها أو تهمل اعتبارها بالترجيح إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح أو تدعى أن اصلها الذى ترجع إليه قطعى والمعارض له ظنى فلا يتعارضان
وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة أما وقد استقرت مآخذ الخلاف فمحال وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم
فتأملوا - رحمكم الله - كيف صار الاتفاق محالا في العادة ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به
و الحاصل أن تعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب ومع ذلك فلا بد من النظر فيه وهو نكتة هذا الكتاب فليقع به فضل اعتناء بحسب ما هيأه الله وبالله التوفيق
ولما كان ذلك يقتضى كلاما كثيرا أرجأنا القول فيه إلى باب آخر وذكره فيه على حدته إذ ليس هذا موضع ذكره والله المستعان
المسألة الخامسة عشرة
أنه قال عليه الصلاة والسلام كلها في النار إلا واحدة وحتم ذلك وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلى وقاعدة عامة ولم ينتظم الحديث على الخصوص - إلا أهل البدع المخالفين للقواعد وأما من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمرا كليا او يخرم أصلا من الشرع عاما فلا دخول له في النص المذكور فينظر في حكمه هل يلحق بمن ذكر أو لا
والذى يظهر في المسألة أحد أمرين إما أن نقول إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة كقوله كل بدعة ضلالة وما اشبه ذلك
وإما أن نقول إن الحديث وإن لم يكن في لفظه دلالة ففى معناه ما يدل على قصده في الجملة وبيانه تعرض لذكر الطرفين الواضحين
أحدهما طرف السلامة والنجداة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة - وهو قوله ما أنا عليه وأصحابى(168/471)
والثانى طرف الإغراق في البدعة وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو تخرم أصلا كليا جريا على عادة الله في كتابه العزيز لانه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشر ذلر كل فريق منهم بأهلى ما يحمل من خير أو شر ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفا راجيا إذ جعل التنبيه بالطرفين الواضحين فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض والشر على مراتب بعضها أشد من بعض فإذا ذكر أهل الخير الذين في أعلى الدرجات خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم او رجوا أن يلحقوا بهم وإذا ذكر أهل الشر الذين في اشر المراتب خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم أو رجوا أن لا يلحقوا بهم
وهذا المعنى معلوم بالأستقراء وذلك الاستقراء - إذا تم - يدل على قصد الشارع إلى ذلك المعنى ويقويه ما روى سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الرحمن بن ساباط قال لما بلغ الناس أن أبا بكر يريد أن يستخلف عمر قالوا ماذا يقول لربه إذا لقيه استخلف علينا فظا غليظا - وهو لا يقدر على شىء - فكيف لو قدر
فبلغ ذلك أبا بكر فقال أبربى تخوفونى أقول أستخلفت خير خلقك
ثم أرسل إلى عمر فقال(168/472)
إن لله عملا باليل لا يقبله بالنهار وعملا بالنهار لا يقبله بالليل واعلم انه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حتى يقول القائل عملى خير من هذا ألم تر أن الله أنزل الرغبة والرهبة لكي يرغب المؤمن فيعمل ويرهب فلا يلقى بيده إلى التهلكة ألم تر إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وتركهم الباطل فثقل عملهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا حق أن يثقل ألم تر إنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وتركهم الحق وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف - ثم قال - أما إن حفظت وصيتى لم يكن غائب أحب إليك من الموت وأنت لا بد لاقيه - وإن ضيعت وصيتى لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولا تعجزه وهذا الحديث وإن لم يكن هنالك ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود استشهاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بمثله إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحما بدرهم أين تذهب بكم هذه الآية أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها
والآية إنما نزلت في الكفار - لقوله تعالى ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم الآية إلى أن قال تعالى فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ولم يمنعه رضى الله عنه إنزالها في الكفار من الاستشهاد بها في مواضع اعتبارا بما تقدم وهو اصل شرعى تبين في كتاب الموافقات(168/473)
فالحاصل ان من عدا الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئي لا يبلغ مبلغ أهل البدع في الكليات في الذم والتصريح بالوعيد بالنار ولكنهم اشتركوا في المعنى المقتضى للذم والوعيد كما اشترك في اللفظ في صاحب اللحم - حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما في اجتهاد عمر - مع من أذهب طيباته في حياته الدنيا من الكفار وإن كان ما بينهما من البون البعيد والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد وقد تقدم بسط
ذلك في بابه والحمد لله
المسألة السادسة عشرة
أن رواية من روى في تفسير الفرقة الناجية وهي الجماعة محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى - وهى قوله ما أنا عليه وأصحابى - فمعنى لفظ الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير
فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ومنها ما صح عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم
قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شيئا فمات مات ميتة جاهلية
وصح من حديث حذيفة قال قلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال نعم - قلت وهل بعد ذلك الشر من خير - قال نعم وفيه دخن - قلت
وما دخنه قال - قوم يستنون بغير سنتى ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر - قلت فهل بعد ذلك الخير من شر قال - نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها - قلت
يا رسول الله صفهم لنا
قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا - قلت فما تأمرني إن أدركنى ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم - قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض باصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك
وخرج الترمذى والطبرى عن ابن عمر قال خطبنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالجابية فقال إنى قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فينا(168/474)
فقال أوصيكم بأصحابى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة لا يخلون رجل بأمرأة فإنه لا يخلون رجل بأمرأة إلا كان ثالثهما الشيطان - الشيطان مع الواحد وهم من الأثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن
وفي الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله لا يجمع أمتى على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار وخرج أبو داود عن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه
وعن عرفجة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول سيكون في أمتى هنيات وهنيات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان
فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال أحدها إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبى غالب إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم في شىء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف للحق وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصارى وابن مسعود فروى أنه لما قتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصارى عن الفتنة فقال عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم
على ضلالة واصبر حتى تستريح او يستراح من فاجر
وقال إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة
وقال ابن مسعود عليكم بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر به
ثم قبض يده وقال - إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة
وعن الحسين قيل له أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال إي والذي لا إله إلا هو ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة(168/475)
فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة لم يدخلوا في سوادهم بحال
والثاني إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميتة جاهلية لأن جماعة الله العلماء جعلهم الله حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة و السلام إن الله لن يجمع امتى على ضلالة وذلك ان العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي تبع لها
فمعنى قوله لن تجتمع امتى لن يجتمع علماء أمتى على ضلالة
وممن قال بهذا عبدالله بن المبارك وإسحاق ابن راهوية وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين فقيل لعبد الله بن المبارك من الجماعة الذين ينبغى أن يقتدى بهم قال أبو بكر وعمر - فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد ابن ثابت والحسين بن واقد - فقيل هؤلاء ماتوا فمن الأحياء قال أبو حمزة السكرى
وعن المسيب بن رافع قال كانوا إذا جاءهم شىء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه صوافى الأمراء فجمعوا له أهل العلم فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق وعن إسحاق بن راهوية نحو مما قال ابن المبارك
فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد لانه داخل في أهل التقليد فمن عمل منهم بما يحالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين لأن العالم أولا لا يبتدع وإنما يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع وإن قيل بالاعتداد بهم فيه ففى غير المسئلة التي ابتدع فيها لأنهم في نفس البدعة مخالفون للاجماع فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأسا(168/476)
والثالث إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة اصلا وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام ولا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله - وقوله - لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس فقد أخبر عليه الصلاة
والسلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر
قالوا - وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز فروى ابن وهب عن مالك قال كان عمر بن عبد العزيز يقول سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وولاه الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال الطاعة لله وقوة على دين الله - ليس لاحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها من اهتدى بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا
فقال مالك - فأعجبنى عزم عمر على ذلك
فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام ما أنا عليه واصحابى فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق وبشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لهم بذلك خصوصا في قوله فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين وأشباهه أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة المهتدون للشريعة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقى من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيرهم فإذا كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا قطعا على هذا القول
والرابع إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه(168/477)
قال الشافعى الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنة ولا قياس وإنما تكون الغفلة في الفرقة وكأن هذا القول يرجع إلى الثانى وهو يقتضى أيضا ما يقتضيه او يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم وعند ذلك لا يكون من اجتماعهم على هذا القول بدعة اصلا فهم - إذا - الفرقة الناجية
والخامس ما اختاره الطبرى الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة والسلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم لا يعدوا إحدى حالتين - إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب بل بالتأويل في إحداث بدعة في الدين كالحرورية التي أمرت الأمة بقتلها وسماها النبى صلى الله عليه وسلم
مارقة من الدين وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه
وقد قال صلى الله عليه وسلم
من جاء إلى أمتى ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان قال الطبرى فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة
قال وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتا ميتة جاهيلة فهى الجماعة التي وصفها أبو مسعود الإنصارى وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم وهم السداد الأعظم
قال - وقد بين ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه فروى عن عمرو ابن ميمون الأودى قال قال - عمر حين طعن لصهيب - صل بالناس ثلاثا وليدخل على عثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شىء فقم يا صهيب على رءوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد رأسه بالسيف وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رءوسهما حتى يستوثقوا على رجل
قال - فالجماعة التى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/478)
بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف
فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم
قال وأما الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما أنابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه وذلك لا يكون في الأمة
هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى وتحر في اكثر اللفظ
وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة كالخوارج ومن جرى مجراهم
فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع وأنهم المرادون بالأحاديث فلنأخذ ذلك اصلا ويبنى عليه معنى آخر وهى المسألة السابعة عشرة
وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية وإن ضموا إليها العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال فلا يقول أحد إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث
بل الأمر وبالعكس وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا فإن وافقوا فهو الواجب عليهم(168/479)
ومن هنا لم سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال ابو بكر وعمر - قال - فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين ابن واقد قيل فهؤلاء ماتوا فمن الأحياء قال أبو حمزة السكرى وهو محمد ابن ميمون المروزى فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالى عن المجتهد
وايضا فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ورمى في عماية وهو مقتضى الحديث الصحيح إن الله لا يقبض العلم انتزاعا الحديث
روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسى قال سمعت إسحاق بن راهويه وذكر في حديث رفعه إلى النبى صلى الله عليه وسلم
قال إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة فإذا رايتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم - فقال رجل يا أبا يعقوب من السواد الأعظم فقال محمد اسلم وأصحابه ومن تبعهم - ثم قال سأل رجل ابن المبارك من السواد الأعظم قال أبو حمزة السكرى - ثم قال إسحاق في ذلك الزمان يعنى أبا حمزة وفي زماننا محمد ابن اسلم ومن تبعه - ثم قال إسحاق لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا جماعة الناس
ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبى صلى الله عليه وسلم
وطريقه فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة - ثم قال إسحاق لم اسمع عالما منذ خمسين سنة كان اشد تمسكا بأثر النبى صلى الله عليه وسلم
من محمد بن اسلم
فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم وهو وهم العوام لا فهم العلماء
فلبثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله
المسألة الثامنة عشرة(168/480)
في بيان معنى رواية أبى داود وهى قوله عليه الصلاة والسلام وإنه سيخرج في أمتى أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله
وذلك أن معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه
ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه
واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهنى وعمرو بن عبيد وسواهما فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة محجوبين عن كل لسان مبعدين عند كل مسلم ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديا على ضلالهم ومداومة على ما هم عليه ومن يرد الله فتنة فلن تملك له من الله شيئا
وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول مجردة فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح ثم قصروا افعال الله على ما ظهر لهم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا يجب على الله كذا ولا يجوز أن يفعل كذا
فجعلوه محكوما عليه كسائر المكلفين
ومنهم من لم يبلغ هذا المقدار بل استحسن شيئا يفعله واستقبح آخر وألحقها بالمشروعات ولكن الجميع بقوا على تحكيم العقول ولو وقفوا هنالك لكانت الداهية على عظمتها أيسر ولكنها تجاوزوا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل(168/481)
قال العتبى وقد اعترض على كتاب الله تعالى بالطعن ملحدون ولغوا وهجروا واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله بافهام كليلة وأبصار عليلة ونظر مدخول فحرفوا الكلم عن مواضعه وعدولوا به عن سبيله ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن وفساد النظم والاختلاف وأدلوا بذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر والحديث الغر واعترضت بالشبهة في القلوب وقد حت بالشكوك في الصدور قال ولو كان ما لحنوا إليه على تقريرهم وتأويلهم لسبق إلى الطعن فيه من لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحتج بالقرآن عليهم ويجعله علم نبوته والدليل على صدقه ويتحداهم في مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله وهم الفصحاء والبلغاء والخطباء والشعراء والمخصوصون من بين جميع الأنام بالألسنة الحداد واللدد في الخصام مع اللب والنهى واصالة الرأى
فقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب
وكانوا يقولون مرة هو سحر ومرة هو شعر ومرة هو قول الكهنة
ومرة اساطير الأولين
ولم يحك الله عنهم الأعتراض على الاحاديث ودعوى التناقض والاختلاف فيها وحكى عنهم لأجل ذلك القدح خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة رضى الله عنهم واتبعوهم بالحدس قالوا ما شان أو جروا في الطعن على الحديث جرى من لا يرى عليه محتسبا في الدنيا ولا محاسبا في الآخرة
وقد بسط الكلام في الرد عليهم والجواب عما اعترضوا فيه أبو محمد بن قتيبة في كتابين صنفهما لهذا المعنى وهما من محاسن كتبه رحمه الله
ولم أر قط تلك الاعتراضات تعزيلها للمعترض فيه ولأن غيري - والحمد لله - قد تجرد له ولكن أردت بالحكاية عنهم على الجملة بيان معنى قوله تجارى يهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه وقبل وبعد فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشىء ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئا ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال وهو شان المعتبرين من أهل العقول وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه(168/482)
ولم يعبأ بعذل العاذل فيه ثم أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه
فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل صرنا منه إلى معنى آخر وهى
المسألة التاسعة عشرة
إن قوله تتجارى بهم تلك الأهواء فيه الإشارة ب تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ولا محالا بها على غير معلوم بل لا بد لها من متقدم ترجع إليه وليس إلا الأحوال التي كانت السبب في الافتراق فجاءت الزيادة في الحديث مبينة أنها الأهواء وذلك قوله تتجارى بهم تلك الأهواء فدل على أن كل خارج عما هو عليه وأصحابه إنما خرج باتباع الهوى عن الشرع وقد مر بيان هذا قبل فلا نعيده
المسألة العشرون
إن قوله عليه الصلاة والسلام وأنه سيخرج في أمتى أقوام على وصف كذا يحتمل أمرين
أحدهما أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها فإن هواه يجرى مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبدا عن هواه ولا يتوب من بدعته والثانى أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها ومنهم من لا يكون كذلك فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها
والذى يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم كقوله عليه الصلاة والسلام يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه وقولهم إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة وما اشبه ذلك ويشهد له الواقع فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها بل هو يزداد بضلالتها بصيرة
روى عن الشافعى أنه قال مثل الذى ينظر في الرأى ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء فأعقل ما يكون قد هاج
ويدل على صحة الثانى أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له اصلا لان العقل يجوز ذلك والشرع إن يشا على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعبتر عاديا و العادة إنما تقتضى في العموم الأكثرية لا نحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق وهذا مبين في الاصول(168/483)
والدليل على ذلك ان وجدنا من كان عاملا ببدع ثم ناب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس رضى الله عنهما وكما رجع المهتدى والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها وإذا جعل تخصيص العموم بفرد لم يبق اللفظ
عاما وحصل الانقسام
وهذا الثاني هو الظاهر لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق
من غير إشعار بإشراب أو عدمه ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء فدل أن فيهم من لا يشربها وإن كان من أهلها ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء إذا كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه فإذا بين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى استقام الكلام واتسق وعند ذلك يتصور الانقسام
وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ومن لا يتجارى به ذلك المقدار لأنه يصح أن يختلف التجارى فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ومنه ما لا يكون كذلك
فمن القسم الأول الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم
حيث قال يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ومنه هؤلاء الذين أعرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه وهم بالتفكير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة إذ لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم
ومنه ما ذهب إليه الظاهرية - على رأى من عدها من البدع - وما اشبه ذلك لك أنه يقول من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له لكن على قدرها وبذلك أيضا تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على ان لا توبة له لكن التجارى المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع(168/484)
ذلك الإشراب وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء
وسبب التفريق بينهما - والله أعلم - أمران إما أن يقال إن الذى اشربها من شأنه أن يدعوا إلى بدعته فيظهر بسببها المعاداة والذى لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي قد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بحيث يطرح ما سواه في جنبها حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثنى عنها وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كليته وهي غاية المحبة
ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة وإلى بسببه وعادى ولم يبال بما لقى في طريقه بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ونكتة اهتدى إليها فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال والقيام عليه بأنواع الإضرار ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شىء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشىء مبلغ الاستيلاء فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها
وإما أن يقال أن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم
ومثل ما حكى ابن العربى في العواصم قال أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام أنه ورد بها الاستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري
الصوفى من نيسابور فعقد مجلسا للذكر وحضر فيه كافة الخلق وقرأ القارىء الرحمن على العرش استوى قال لى اخصهم من أنت - يعنى الحنابلة - يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد قاعد بأرفع صوت وأبعده مدى وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيرى ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان وغلبت العامة فأجحروهم إلى المدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب فمات منهم قوم وركب زعيم الكفاة وبعض الدادية فسكنوا ثورانهم(168/485)
فهذا أيضا ممن اشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإن بلغ من ذلك الحرب
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية وصغروا في أنفسهم حملة السنة وحماة الملة حتى وقفوهم مواقف البلوى وأذاقوهم مرارة البأساء والضراء وانتهى بأقوام إلى القتل حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسى في حضرة المأمون وابن أبى دؤاد وغيرهما
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم بل استتروا بها جدا ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهارا كما فعل غيرهم ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما ا نتحلوه
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب وبالله التوفيق
المسألة الحادية والعشرون
إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص وذلك أنه يمكن أن بعض البدع من شأنها أن تشرب قلب صاحبها جدا ومنها ما لا يكون كذلك فالبدعة الفلانية مثلا من شأنها أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكل بصاحبه والبدعة الفلانية ليست كذلك فبدعة الخوارج مثلا في طرف الإشراب كبدعة المنكرين للقياس في الفروع الملتزمين الظاهر في الطرف الآخر ويمكن أن يتجارى ذلك في كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه كعمرو بن عبيد حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة تبت يدا أبى لهب وقوله تعالى ذرنى ومن خلقت وحيدا ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو كجملة من علماء المسلمين كالفارسى النحوى وابن جنى
والثانى بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى على العرش استوى قاعد قاعد وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار كداود بن على في الفروع وأشباهه(168/486)
والثالث بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على الهيئة الإجتماعية فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجبا للقتل عنده فحكى القاضى أبو الخطاب بن خليل حكاية عن ابى عبد الله بن مجاهد العابد ان رجلا من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها - وكان موصوفا بشدة السطوة وبسط اليد - نزل في جوار ابن مجاهد وصلى في مسجده الذي كان يوم فيه وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميما في ذلك على المذهب يعنى مذهب مالك لأنه مكروه في مذهبه
وكان ابن مجاهد محافظا عليه
فكره ذلك الرجل منه ترك
الدعاء
وأمره أن يدعو فأبى وبقى على عادته في تركه في أعقاب الصلوات فلما كان في بعض الليالى صلى ذلك الرجل العتمة في المسجد فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فابى فإذا كان في غدوة غد اضرب رقبته بهذا السيف وأشار إلى سيف في يده فخافوا على ابن مجاهد من قوله لما عملوا منه فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد فخرج إليهم وقال ما شأنكم فقالوا والله لقد خفنا من هذا الرجل وقد اشتد الآن غضبه عليك في تركك الدعاء
فقال لهم لا أخرج عن عادتى فاخبروه بالقصة
فقال لهم - وهو متبسم - انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ودخل داره وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من أشبيلية وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه فكان ذلك تحقيقا للإجابة وإثباتا للكرامة
وقد روى بعض الأشبيليين الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر(168/487)
ولما رد ولد ابن الصقر على الخطيب في خطبته وذلك حين فاه باسم المهدى وعصمته أراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن - وهو إذ ذاك خليفة - أن يسجنه على قوله فأبى الاشياخ والوزراء من فرقة الموحدين إلا قتله فغلبوا على أمره فتقلوه خوفا أن يقول ذلك غيره
فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها
وقد لا تبلغ البدعة في الإشراب ذلك المقدار فلا يتفق الخلاف فيما بما يؤدى إلى مثل ذلك
فهذه الأمثلة بينت بالواقع مراد الحديث - على فرض صحته - فإن أخبار النبى صلى الله عليه وسلم
إنما تكون ابتناء على وفق مخبره من غير تخلف البتة
ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط كالعلم والجهل والشجاعة والجبن والعدل والجور والجود والبخل والغنى والفقر والعز والذل غير ذلك من الأحوال والأوصاف فإنها تتردد مابين الطرفين فعالم في اعلى درجات العلم وآخر في أدنى درجاته وجاهل كذلك وشجاع كذلك إلى سائرها
فكذلك سقوط البدع بالنفوس إلا أن في ذكر النبى صلى الله عليه وسلم
لها فائدة أخرى وهي التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي
المسألة الثانية والعشرون
وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى فإن اصل الكلب واقع بالكلب ثم إذا عض ذلك الكلب أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته وإما أن يثبت في قلبه شكا يطمع في الأنفصال عنه فلا يقدر
هذا بخلاف سائر المعاصى فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالبا إلا مع طول الصحبة والأنس به والاعتياد لحضور معصيته
وقد أتى في الآثار ما يدل
على هذا المعنى
فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالمتهم وكلام مكالمهم وأغلظوا في ذلك وقد تقدم منه في الباب الثانى آثار جمة(168/488)
ومن ذلك ما روى عن ابن مسعود قال من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم الصق من الجرب
وعن حميد الأعرج ثهى قدم غيلان مكة يجاور بها فأتى غيلان مجاهدا فقال يا أبا الحجاج بلغنى أنك تنهى الناس عنى وتذكرنى بلغك عنى شىء لا أقوله إنما أقول كذا فجاء بشىء لا ينكر فلما قام قال مجاهد لا تجالسوه فإنه قدرى
قال حميد - فإنه يوم في الطواف لحقنى غيلان خلفى يجذب ردائى فالتفت فقال كيف يقول مجاهد خرف وكذا فأخبرته فمشى معى فبصر بى مجاهد معه فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد على وأسأله فلا يجيبنى - فقال - فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال فقلت يا أبا الحجاج ابلغك عنى شىء ما أحدثت حدثا مالى قال ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه قال - قلت يا أبا الحجاج ما أنكرت قولك وما بدأته هو بدأنى
قال والله يا حميد لولا أنك عند مصدق ما نظرت لى في وجه منبسط ما عشت ولئن عدت لا تنظر لى في وجه منبسط ما عشت وعن أيوب قال كنت يوما عند محمد بن سيرين إذ جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام فقلت لعمرو انطلق بنا - قال - فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت فقلت يا أبا بكر قد فطنت إلى ما صنعت
قال أقد فطنت قلت نعم قال أما إنه لم يكن ليضمنى معه سقف بيت
وعن بعضهم قال كنت أمشى مع عمرو بن عبيد فرآنى ابن عون فأعرض عنى
وقيل دخل ابن عون فسكت ابن عون لما رآه وسكت عمرو عنه فلم يساله عن شىء فمكث هنيهة ثم قال ابن عون بم استحل أن دخل دارى بغير إذن - مرارا يرددها - أما إنه لو تكلم
وعن مؤمل بن إسماعيل قال قال بعض أصحابنا لحماد بن زيد مالك لم ترو عن عبد الكريم إلا حديثا واحدا قال
ما أتيته إلا مرة واحدة لمساقه في هذا الحديث وما أحب أن أيوب علم بإتيانى إليه وأن لي كذا وكذا وإني لأظنه لو علم لكانت الفصيلة بينى وبينه(168/489)
وعن إبراهيم أنه قال لمحمد بن السائب لا تقربنا ما دمت على رأيك هذا وكان مرجئا
وعن حماد بن زيد قال لقينى سعيد بن جبير فقال أم أرك مع طلق قلت فلا فماله قال لا تجالسه فإنه مرجى
وعن محمد بن واسع قال رأيت صفوان بن محرز وقريب منه شيبة فرآهما يتجادلان فرأيته قائما ينفض ثيابه ويقول إنما أنتم جرب وعن أيوب قال دخل رجل على ابن سيرين فقال يا أبا بكر أقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد أن أقرأها ثم أخرج فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال أعزم عليك إن كنت مسلما إلا خرجت من بيتى - قال - فقاك يا أبا بكر لا أزيد على أن أقرأ آية ثم أخرج
فقام لإزاره يشده وتهيا للقيام فأقبلنا على رجل فقلنا قد عزم عليك إلا خرجت أفيحل لك ان تخرج رجلا من بيته قال - فخرج فقلنا يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج قال إنى والله لو ظننت أن قلبى ثبت على ما هو عليها ما باليت أن يقرا ولكن خفت أن يلقى في قلبى شيئا أجهد في إخراجه من قلبى فلا أستطيع
وعن الأوزاعي قال لا تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته
فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الحديث إليه إن كان مقصودا والله أعلم
تأثير كلام صاحب البدعة في القلوب معلوم وثم معنى آخر قد يكون من فوائد تنبيه الحديث بمثال داء الكلب وهي
المسألة الثالثة والعشرون
وهو التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة إذ كان مثل المعاصى الواقعة بأعمال العباد قولا أو فعلا أو اعتقادا كمثل الأمراض النازلة بجسمه أو روحه فأدوية الأمراض البدنية معلومة وأدوية الأمراض العملية التوبة والأعمال الصالحة وكما أن من الأمراض البدنية ما يمكن فيه التداوي ومنه مالا يمكن فيه التداوي أو يعسر كذلك الكلب الذي في امراض الأعمال فمنها ما يمكن فيه التوبة عادة ومنها ما لا يمكن(168/490)
فالمعاصى كلها - غير البدع - يمكن فيها التوبة من أعلاها - وهي الكبائر - إلى أدناه - وهي اللمم - والبدع أخبرنا فيها إخبارين كلهما يفيد أن لا توبة منها
الإخبار الأول ما تقدم في ذم البدع من أن المبتدع لا توبة له من غير تخصيص والآخر ما نحن في تفسيره وهو تشبيه البدع بما لا نجح فيه من الأمراض كالكلب فأفاد أن لا نجح من ذنب البدع في الجملة من غير اقتضاء عموم بل اقتضى ان عدم التوبة مخصوص بمن تجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه وقد مر أن من أولئك من يتجارى به الهوى على ذلك الوجه وتبين الشاهد عليه ونشأ من ذلك معنى زائد هو من فوائد الحديث - وهي
المسألة الرابعة والعشرون
وهو أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب فإذا يمكن فيه التوبة وإذا أمكن في أهل الفرق أمكن فيمن خرج عنهم وهم أهل البدع الجزئية
فإما أن يرجح ما تقدم من الأخبار على هذا الحديث لأن هذه الرواية في إسنادها شىء وأعلى ما يجرى في الحسان وفي الأحاديث الأخر ما هو صحيح كقوله يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون كما لا يعود السهم على فوقه وما أشبه
وأما أن يجمع بينهما فتجعل النقل الأول عمدة في عموم قبول التوبة ويكون هذا الإخبار أمرا آخر زائدا على ذلك إذ لا يتنافيان بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الهوى وغلبة الهوى للإنسان في الشىء المفعول أو المتروك له ابدا اثر فيه والبدع كلها تصاحب الهوى ولذلك سمى اصحابها أهل الأهواء
فوقعت التسمية بها وهو الغالب عليهم إذ العمل المبتدع إنما نشأ عن الهوى مع شبهة دليل لا عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعى في الظاهر فكان أجرى في البدع من القلب موقع السويداء فاشرب حبه ثم إنه يتفاوت إذ ليس في رتبة واحدة ولكنه تشريع كله واستحق صاحبه أن لا توبة له عافان الله من النار بفضله ومنه(168/491)
وإما أن يعمل هذا الحديث مع الأحاديث الأول - على فرض العمل به - ونقول إن ما تقدم من الأخبار عامة وهذا يفيد الخصوص كما تفيده ا يفيد معنى يفهم منه الخصوص وهو الإشراب في أعلى المراتب مسوقا مساق التبغيض لقوله وإنه سيخرج في أمتى أقوام إلى آخره فدل أن ثم أقواما أخر لا تتجارى بهم تلك الأهواء على ما قال بل هي أدنى من ذلك وقد لا تتجارى بهم ذلك
وهذا التفسير بحسب ما أعطاه الموضع وتمام المسألة قد مر في الباب الثانى والحمد لله
لكن على وجه لا يكون في الأحاديث كلها تخصيص وبالله التوفيق
المسألة الخامسة والعشرون
أنه جاء في بعض روايات الحديث أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال فجعل أعظم تلك الفرق فتنة على الأمة أهل القياس ولا كل قياس بل القياس على غير أصل فإن أهل القياس متفقون على أنه على غير أصل لا يصح وإنما يكون على اصل من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع معتبر فإذا لم يكن للقياس أصل - وهو القياس الفاسد - فهو الذي لا يصح أن يوضع في الدين فإنه يؤدى إلى مخالفة الشرع وان يصير الحلال بالشرع حراما بذلك القياس والحرام حلالا فإن الرأى من حيث هو رأى لا ينضبط إلى قانون شرعى إذا لم يكن له اصل شرعى فإن العقول تستحسن مالا يستحسن شرعا وتستقبح ما لا يستقبح شرعا
وإذا كان كذلك صار القياس على غير اصل فتنة على الناس
ثم أخبر في الحديث أن المعلمين لهذا القياس أضر على الناس من سائل أهل الفرق وأشد فتنة
وبيانه أن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة بخلاف الفتيا فإن أدلتها من الكتاب والسنة لا يعرفها إلا الافراد ولا يميز ضعيفها من قويها إلا الخاصة وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير(168/492)
وقد جاء مثل معناه محفوظا من حديث ابن مسعود أنه قال ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير
خير من أمير
ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برايهم فيهدم الإسلام ويثلم
وهذا الذى في حديث ابن مسعود موجود في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يسفتون برأيهم فيضلون ويضلون
وقد تقدم في ذم الرأى آثار مشهورة عن الصحابة رضى الله عنهم والتابعين تبين فيها أن الأخذ بالرأى يحل الحرام يحرم الحلال
ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأى لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الأجتهاد على الاصول في نازلة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ممن يعرف الاشباه والنظائر ويفهم معانى الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتعليل قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه فإن هذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس وإنما القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة أو ما عليه سلف الأمة أو معانيها المعتبرة
ثم إن مخالفة هذه الأصول على قسمين أحدهما أن يخالف اصلا مخالفة ظاهرة من غير استمساك بأصل آخر فهذا لا يقع من مفت مشهور إلا إذا كان الاصل لم يبلغه كما وقع لكثير من الأئمة حيث لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ وأما الاصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافا ظاهرا من غير معارضة باصل آخر فضلا عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا
والثانى أن يخالف الأصل بنوع من التأويل هو فيه مخطىء بأن يضع الأسم على غير واضعه أو على بعض مواضعه أو يراعى فيه مجرد اللفظ
دون اعتبار المقصود أو غير ذلك من أنواع التأويل
والدليل على أن هذا هو المراد بالحديث وما في معناه أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغير تأويل أو التحريم مشهورا فحلله بغير تأويل كان كفرا وعنادا ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط إلا أن تكون الأمة قد كفرت والأمة لا تكفر أبدا(168/493)
وإذا بعث الله ريحا تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسال عن حرام أو حلال
وإذا كان التحليل أو التحريم غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه دليله فمثل هذا لم يزل موجودا من لدن زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا إنما يكون في آحاد المسائل فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام ولا يقال لهذا إنه محدث عند قبض العلماء
فظهر أن المراد إنما هو استحلال المحرمات الظاهرة أوالمعلومة عنده بنوع تأويل وهذا بين في المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تضافرت عليه أدلته وتواطأت على معناه شواهده وأخذوا في اتباع بعض المتشابهات وترك أم الكتاب
فإذا هذا - كما قال الله تعالى - زيغ وميل عن الصراط المستقيم فإن تقدموا أئمة يفتون ويقتدى بهم بأقوالهم وأعمالهم سكنت إليهم الدهماء ظنا أنهم بالغوا لهم في الاحتياط على الدين وهم يضلونهم بغير علم ولا شىء أعظم على الأنسان من داهية تقع به من حيث لا يحتسب فإنه لو علم طريقها لتوقاها ما استطاع فإذا جاءته على غرة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به وهو ظاهر فكذلك البدعة إذا جاءت العامى من طريق الفتيا لانه يستند في دينه إلى من ظهر في رتبة أهل العلم فيضل من حيث يطلب الهداية اللهم أهدنا الصراط المستقيم
صراط الذين أنعمت عليهم
المسألة السادسة والعشرون
إن ها هنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه وذلك أنه لما أخبر أخبر عليه الصلاة والسلام أن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها - سؤال التعيين فقالوا من هي يا رسول الله فأصل الجواب أن يقال أنا واصحابى ومن عمل مثل عملنا(168/494)
أو ما أشبه ذلك مما يعطى تعيين الفرقة إما بالإشارة إليها أو بوصف من أوصافها إلا ذلك لم يقع وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف فلذلك أتى بما أتى فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها صلى الله عليه وسلم
واصحابه رضى الله عنهم فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ
والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذى به صارت ناجية فقال ما أنا عليه وأصحابى
ومما جاء غير مطابق في الظاهر وهو في المعنى مطابق قول الله تعالى قل أونبئكم بخير من ذلكم - فإن هذا الكلام معناه هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا فكأنه قيل نعم أخبرنا فقال الله تعالى - للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار الآية
أي للذين اتقوا استقر استقر لهم عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار - الآية
فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه
وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين
وقال تعالى مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهار الآية
فقوله مثل الجنة يقتضى المثل لا المملثل - كما قال تعالى مثلهم كمثل الذى استوقد نارا - ولأنه كلما كان المقصود الممثل جاء به بعينه
ويمكن أن يقال إن النبى صلى الله عليه وسلم
لما ذكر الفرق أن فيها فرقة ناجية - كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية لا عن نفس الفرقة
لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها
فالمقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل فلو سألوا ما وصفها أو ما عملها أو ما اشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى فلما فهم عليه الصلاة والسلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك
ونقول لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم أتى به جوابا عن سؤالهم حرصا منه عليه الصلاة والسلام على تعليمهم ما ينبغى لهم تعلمه والسؤال عنه(168/495)
ويمكن أن يقال إن ما سالوا عنه لا يتعين إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر إذ كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير
ومن شأن هذا السؤال التعيين وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضى التعيين وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع وهو ما كان عليه هو وأصحابه
وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم وهو بالنسبة إلى السائل معين لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم راى عين فلم يحتج إلى أكثر من ذلك لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر فاما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود
والله أعلم انتهى
الباب العاشر
في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان
قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعى كأنها على الصراط المستقيم وأن ما سواها منحرف عن الجادة وراكب بنيات الطريق فوقع بينهم الاختلاف إذا في تعيينه وبيانه حتى أشكلت المسألة على كل من نظر فيها حتى قال من قال كل مجتهد في العقليات أو النقليات مصيب
فعدد الأقوال في تعيين هذا المطلب على عدد الفرق وذلك من أعظم الاختلاف إذ لا تكاد تجد في الشريعة مسألة يختلف العلماء فيها على بضع وسبعين قولا إلا هذه المسألة فتحرير النظر حتى تتضح الفرقة الناجية التي كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم
وأصحابه من أغمض المسائل
ووجه ثان أن الطريق المستقيم لو تعين بالنسبة إلى من بعد الصحابة لم يقع اختلاف اصلا لأن الأختلاف مع تعيين محله محال والفرض أن الخلاف ليس بقصد العناد لأنه على ذلك الوجه مخرج عن الإسلام وكلامنا في الفرق(168/496)
ووجه ثالث انه قد تقدم أن البدع لا تقع من راسخ في العلم وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين في أدلتها والشهادة بأن فلانا راسخ في العلم وفلانا غير راسخ في غاية الصعوبة فإن كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه الراسخ وغير قاصر النظر فإن فرض على ذلك المطلب علامة وقع النزاع إما في العلامة وإما في مناطها
ومثال ذلك أن علامة الخروج من الجماعة الفرقة المنبه عليها بقوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا والفرقة - بشهادة الجميع - وإضافية فكل طائفة تزعم أنها هي الجماعة ومن سواها مفارق للجماعة
ومن العلامات اتباع ما تشابه من الأدلة وكل طائفة ترمى صاحبتها بذلك وأنها هي التي اتبعت ام الكتاب دون الأخرى فتجعل دليلها عمدة وترد إليه سائر المواضع بالتأويل على عكس الأخرى
ومنها اتباع الهوى الذي ترمى به كل فرقة صاحبتها وتبرىء نفسها منه فلا يمكن في الظاهر مع هذا أن يتفقوا على مناط هذه العلامات وإذا لم يتفقوا عليها لم يمكن ضبطهم بها بحيث يشير إليهم بتلك العلامات وأنهم في التحصيل متفقون عليها وبذلك صارت علامات فكيف يمكن مع اختلافهم في المناط الضبط بالعلامات
ووجه رابع وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع في الستر على هذه الأمة وإن حصل التعيين بالاجتهاد فالاجتهاد لا يقتضى الاتفاق على محله
الا ترى أن العلماء جزموا القول بأن النظرين لا يمكن الاتفاق عليهما عادة فلوا تعينوا بالنص لم يبق إشكال
بل أمر الخوارج على ما كانوا عليه وإن كان النبى صلى الله عليه وسلم
قد عينهم وعين علامتهم في المخدج حيث قال آيتهم
رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدى المرأة ومثل البضعة تدردر الحديث
وهم الذين قاتلهم على بن أبى طالب رضى الله عنه إذ لم يرجعوا عما كانوا عليه ولم ينتهوا - فما الظن بمن ليس له في النقل تعيين(168/497)
فإذا تقرر هذا ظهر به أن التعيين للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادى لا ينقطع الخلاف فيه وإن ادعى فيه القطع دون الظن فهو نظرى لا ضروري ولكنا مع ذلك نسلك في المسألة - بحول الله - مسلكا وسطا يذعن إلى قبوله عقل المو ويقر بصحته العالم بكليات الشريعة وجزئياتها والله الموفق للصواب
فنقول
لا بد من تقديم مقدمة قبل الشروع في المطلوب وذلك أن الإحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل وإما من جهة تحسين الظن بالعقل وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة وقد مر في ذلك ما يؤخذ منه شواهد المسألة إلا أن الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع فإذا اجتمعت فتارة تجتمع منها اثنتان وتارة تجتمع الثلاث فأما جهة الجهل فتارة تتعلق بالأدوات التي بها تفهم المقاصد وتارة تتعلق بالمقاصد وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرع وتارة يقدم عليه وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد وأما جهة اتباع الهوى فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يغلب صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير دليل وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد فالجميع أربعة أنواع وهي الجهل بأدوات الفهم والجهل بالمقاصد وتحسين الظن بالعقل واتباع الهوى
فلنتكلم على كل واحد منها وبالله التوفيق
النوع الأول
إن الله عز وجل أنزل القرآن عربيا لا عجمة فيه بمعنى أنه جار في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب قال الله تعالى إنا جعلناه قرآنا عربيا وقال تعالى قرآنا عربيا غير ذى عوج وقال تعالى نزل به الروح الامين بلسان عربي مبين وكان المنزل عليه القرآن عربيا افصح من نطق بالضاد وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم(168/498)
وكان الذين بعث فيهم عربا ايضا فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم فليس فيه شىء من الألفاظ والمعانى إلا وهو جار على ما اعتادوه ولم يداخله شىء بل نفى عنه أن يكون فيه شىء أعجمى فقال تعالى ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربي مبين
وقال تعالى في موضع آخر ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته
هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعا للسان العرب وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها
أما الفاظها فظاهرة للعيان وأما معانيها وأساليبها فكان مما يعرف في معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالشىء منه عاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ويستدل على هذا ببعض الكلام وعاما ظاهرا يراد به الظاهر ويستغنى باوله عن آخره وعاما ظاهرا يراد به الخاص وظاهرا يعرف في سياقه أن المراد به غير ذلك الظاهر والعلم بهذا كله موجود في أول الكلام أو وسطه أو آخره
وتبتدىء الشىء من كلامها بين أول اللفظ فيه عن آخره او بين آخره عن أوله ويتكلم بالشىء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وهذا عندها من أفصح كلامها لانفراداها بعلمه دون غيرها ممن يجهله وتسمى الشىء الواحد بالأسماء الكثيرة وتوقع اللفظ الواحد للمعانى الكثيرة
فهذه كلها معروفة عندها وتستنكر عند غيرها إلى غير ذلك من التصرفات التي يعرفا من زاول كلامهم وكانت له به معرفة وثبت رسوخه في علم ذلك
فمثال ذلك أن الله تعالى خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل وقال تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه فإن كل شىء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه وكل دابة على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها(168/499)
وقال الله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه فقوله ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله إنما أريد به من أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى وقوله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه عام فيمن أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى
وقوله تعالى حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما اهلها فأبوا أن يضيفوهما فهذا من العام المراد به الخاص لأنهما لم يستطعما جميع أهل القرية
وقال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا فهذا عام لم يخرج عنه احد من الناس
وقال إثر هذا إن أكرمكم عند الله اتقاكم فهذا خاص لأن التقوى إنما تكون على من عقلها من البالغين
وقال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فالمراد بالناس الثاني الخصوص لا العموم
وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضا وهم قد خرجوا
لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة منهم
وعلى جميع الناس وعلى ما بين ذلك فيصح أن يقال إن الناس قد جمعوا لكم
والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر
وقال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له فالمراد بالناس هنا الدين اتخدوا من دون الله إلها دون الأطفال والمجانين والمؤمنين
وقال تعالى واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر فظاهر السوال عن القرية نفسها وسياق قوله تعالى إذ يعدون في السبت إلى آخر الآية يدل على أن المراد أهلها لأن القرية لا تعدو ولا تفسق
وكذلك قوله تعالى وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة الآية فإنه لما قال كانت ظالمة دل على ان المراد أهلها
وقال تعالى واسأل القرية التي كنا فيها الآية فالمعنى بين أن المراد أهل القرية ولا يختلف أهل العلم باللسان في ذلك لان القرية والعير لا يخبران بصدقهم
هذا كله معنى تقرير الشافعي رحمه الله في هذه التصرفات الثابتة للعرب(168/500)
وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يفهم إلا عليه وإنما أتى الشافعى بالنوع الأغمض من طرائق العرب لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلها وهم أهل النحو والتصريف وأهل المعانى والبيان وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمتقضيات الأحوال فجميعه نزل به القرآن
ولذلك أطلق عليه عبارة العربي
فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وروعا أمران
أحدهما أن لا يتكلم في شىء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب
بالغا فيه مبالغ العرب
او مبالغ الائمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم
وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا كجمعهم وإنما المراد أن يصير فهمه عربيا في الجملة
وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين
إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا ائمة فإن لم يبلغ ذلك فحسبه في فهم معانى القرآن التقليد ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسال فيه أهل العلم به
قال الشافعى لما قرر معنى ما تقدم فمن جهل هذا من لسانها يعنى لسان العرب - وبلسانها نزل القرآن وجاءت السنة به - فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل لفظه ومن تكلف ما جهل وما يثبته معرفة كانت موافقته للصواب - إن وافقه - من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان في تخطئته غير معذور إذ نظر فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه
وما قاله حق فإن القول في القرآن والسنة بغير علم تكلف - وقد نهينا عن التكلف - ودخول تحت معنى الحديث حيث قال عليه الصلاة والسلام حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا الحديث لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربى يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه رجع إلى فهمه الأعجمى وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة(169/1)
وقد خرج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له أرايت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه قال نعم فليتعلمها فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك
وعن الحسن قال أهلكتهم العجمة يتأولون على غير تأويلة
والأمر الثانى أنه إذا اشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية فقد يكون إماما فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات فالأولى في حقه الاحتياط إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعانى الخاصة حتى يسأل عنها وقد نقل من هذا عن الصحابة - وهم العرب - فكيف بغيرهم
نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال كنت لا أدرى ما فاطر السموات والأرض حتى أتانى أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها
وفيما يروى عن عمر رضى الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف فأخبره رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثيرة
قال الشافعى لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا
قال - ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبى
ولكنه لا يذهب منه شىء على عامتها حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه - قال - والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شىء فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشىء منها ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره ممن كان في طبقته وأهل علمه قال - وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شىء عليها ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلا من نقله عنها ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها ومن قبله منها فهو من أهل لسانها وإنما صار غيرهم من غير أهله لتركه فإذا صار إليه صار من أهله(169/2)
هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أديت وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها فإن ثبت على هذه الوصاة كان
إن شاء الله - موافقا لما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام واصحابه الكرام
روى عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما انه قال قلنا يا رسول الله
من خير الناس قال ذو القلب المهموم واللسان الصادق - قلنا قد عرفنا اللسان الصادق فما ذو القلب المهموم قال - هو التقي النقى الذي لا إثم فيه ولا حسد - قلنا فمن على أثره قال - الذي ينسى الدينا ويحب الآخرة - قلنا ما نعرف هذا فينا إلا رافعا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلنا فمن على اثره قال - مؤمن في خلق حسن قلنا أما هذا فإنه فينا
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
جاءه رجل فقال يا رسول الله أيدا لك الرجل أمرأته قال نعم إذا كان ملفجا فقال له أبو بكر رضى الله عنه ما قلت وما قال لك رسول الله عليك وسلم فقال قال أيماطل الرجل امرأته قلت نعم إذا كان فقيرا فقال أبو بكر ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول الله فقال وكيف لا وأنا من قريش وأرضعت في بنى سعد
فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب فالواجب السؤال كما سألوا فيكون على ما كانوا عليه وإلا زل فقال في الشريعة برايه لا بلسانها(169/3)
ولنذكر لذلك ستة أمثلة أحدها قول جابر الجعفى في قوله تعالى فلن ابرح الارض حتى يأذن لى أبى أن تأويل هذه الآية لم يجىء بعد - وكذب - فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة فإنها تقول إن عليا في السحاب فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادى على من السماء اخرجو مع فلان فهذا معنى قوله تعالى فلن ابرح الارض حتى ياذن لى ابى الآية عند جابر حسبما فسره سفيان من قوله لم يجىء بعد
بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف وقع ذلك في مقدمة كتاب مسلم ومن كان ذا عقل فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان وأن ما قاله جابر لا ينساق
والثاني قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل مستدلا بقوله تعالى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع لأن أربعا إلى ثلاث إلى اثنتين تسع ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب وأن معفى الآية فانكحو إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثا أو أربعا اربعا على التفصيل لا على ما قالوا
والثالث قول من زعم أن المحرم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم وأما الشحم
فحلال لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضا بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم - لم يقل ما قال
والرابع قول من قال إن كل شىء فإن حتى ذات البارى - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - ما عدا الوجه بدليل كل شىء هالك إلا وجهه وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قال فإن للمفسرين فيه تأويلات وقصد هذا القائل ما يتجه لغة ولا يعنى
وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذو الوجه كما تقول فعلت ذا لوجه فلان أي لفلان فكان معنى الآية كل شىء هالك إلا هو
وقوله تعالى إنما نطعمكم لوجه الله - ومثله قوله تعالى كل من عليها فإن والسادس قوله من قال في قول النبى صلى الله عليه وسلم(169/4)
لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر إن هذا الذى في الحديث هو مذهب الدهرية ولم يعرف أن المعنى لا تسبوا الدهر إذا اصابتكم المصائب ولا تنسبوها إليه فإن الله هو الذى اصابكم بذلك لا الدهر فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر لان العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر فتقول اصابه الدهر في ماله ونابته قوارع الدهر ومصائبه
فينسبون إلى كل شىء تجرى به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر فيقولون لعن الله الدهر ومحا الله الدهر
وأشباه ذلك وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه فكأنهم إنما سبوا الفاعل والفاعل هو الله وحده فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى
فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
وأن ذلك يؤدى إلى تحريف الكلم عن مواضعه والصحابة رضوان الله عليهم برآء من ذلك
لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربى اللسان تكلف ذلك حتى علمه وحينئد داخل القوم في فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغى فيها كسلمان الفارسى وغيره فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنة على العربية - إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو - إن شاء الله - داخل في سوادهم الأعظم كائن على ما كانوا عليه فانتظم في سلك الناجية
فصل
النوع الثاني أن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله صلى الله عليه وسلم
فيها تبيان كل شىء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التى أمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا فكل من زعم أنه بقى في الدين شىء لم يكمل فقد كذب بقوله اليوم أكملت لكم دينكم(169/5)
فلا يقال قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه وأن مسائل الجد في الفرائض والحرام في الطلاق ومسألة الساقط على جريح محفوف بجرحى وسائر المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من كتاب ولا سنة فأين - الكلام فيها
فيقال في الجواب أولا أن قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم إن اعتبرت فيها الجزئيات من المسائل والنوازل فهو كما أوردتم ولكن المراد كلياتها فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة فلا بد من إعمالها ولا يسع تركها وإذا ثبت في الشريعة اشعرت بأن ثم مجالا للاجتهاد ولا يوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه
ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم وقد نص العلماء على هذا المعنى فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجرى عليها ما لا نهاية له من النوازل
ثم نقول ثانيا إن النظر في كمالها بحسب خصوص الجزئيات يؤدى إلى الإشكال والالتباس وإلا فهو الذي ادى إلى إيراد هذا السؤال إذ لو نظر السائل إلى الحالة التي وضعت عليها الشريعة وهي حالة الكلية - لم يورد سؤاله لأنها موضوعة على الابدية وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية
وأما الجزئية فموضوعة على النهاية المؤدية إلى الحصر في التفصيل وإذا ذاك قد يتوهم أنها لم تكمل فيكون خلافا لقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم - وقوله تعالى - ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء الآية ولا شك أن كلام الله هو الصادق وما خالفه فهو المخالف
فظاهر إذ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها(169/6)
وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال إما محتاج إليها وإما غير محتاج إليها فإن كانت محتاج إليها فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الاصول الشرعية فأحكامها قد تقدمت
ولم يبق إلا نظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة وإما غير محتاج إليها فهي البدع المحدثات إذ لو كانت محتاجا إليها لما سكت عنها في الشرع لكنها مسكوت عنها بالفرض ولا دليل عليها فيه كما تقدم - فليست بمحتاج إليها
فعلى كل تقدير قد كمل الدين والحمد لله
ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضى الله عنهم أنهم لم يسمع عنهم قط
إيراد ذلك السؤال ولا قال أحد منهم لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة وعلى حكم من قال لزوجته أنت على حرام وأشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصا بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد
وقد صح أنه سهل ابن حنيف قال يوم صفين وحكم الحكمين يا أيها الناس اتهموا رايكم فلقد رايتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم أبى جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمره لرددناه وأيم الله وما ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لامر يفظعنا إلا اسهلن بنا امر نعرفه - الحديث
فوجد الشاهد منه أمران قوله اتهموا الرأى فإن معارضة الظواهر في غالب الامر رأى غير مبنى على اصل يرجع إليه وقوله في الحديث - وهو النكتة في الباب - والله ما وضعنا سيوفنا - إلى آخره فإن معناه ان كل ما ورد عليهم في شرع الله مما يصادم الرأى فإنه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الراى وأنه كان شبهة عرضت وإشكالا ينبغى أن لا يلتفت إليه بل يتهم أولا ويعتمد على ما جاء في الشرع فإنه إن لم يتبين اليوم تبين غدا ولو فرض انه لا يتبين أبدا فلا حرج فإنه متمسك بالعروة الوثقى
وفي الصحيح عن عمر رضى الله عنه قال سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم(169/7)
فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكدت اساوره في الصلاة فصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرا فقال أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت إنى سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرسله إقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
كذلك أنزلت - ثم قال - أقرأ يا عمر القرأة التي أقرأنى فقال - كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه
وهذه المسألة إنما هي إشكال وقع لبعض الصحابة في نقل الشرع بين لهم جوابه النبى صلى الله عليه وسلم
ولم يكن ذلك دليلا على أن فيه اختلافا فإن الاختلاف بين المكلفين في بعض معانيه أو مسائله لا يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلاف فقد اختلفت الأمم في النبوات ولم يكن ذلك دليلا على وقوع الاختلاف في نفس النبوات
واختلفت في مسائل كثيرة من علوم التوحيد ولم يكن اختلافهم دليلا على وقوع الاختلاف فيما اختلفوا فيه فكذلك ما نحن فيه(169/8)
وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه ثم نبنى على هذا معنى آخر وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف صح أن يكون حكما بين جميع المختلفين لانه إنما يقرر معنى هو الحق والحق لا يختلف في نفسه فكل اختلاف صدر من مكلف فالقرآن هو المهيمن عليه قال الله تعالى فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فهذه الآى وما اشبهها ضريحة في الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه لأن السنة بيان الكتاب وهو دليل على أن الحق فيه واضح وأن البيان فيه شاف لا شىء بعده يقوم مقامه وهكذا فعل الصحابة رضى الله عنهم لأنهم كانوا إذا اختلفوا في مسالة ردوها إلى الكتاب والسنة وقضاياهم شاهدة بهذا المعنى لا يجهلها من زاول الفقه فلا فائدة في جلبها إلى هذا الموضع لشهرتها فهو إذا مما كان عليه الصحابة
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران أحدهما ان ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان ويعتبرها اعتبارا كليا في العبادات والعادات ولا يخرج عنها البتة لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمى في عماية كيف وقد ثبت كمالها وتمامها فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطرق
والثانى أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن و لا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر بل الجميع جار على مهيع واحد ومنتظم إلى معنى واحد فإذا أداه بادى الرأى إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف لأن الله قد شهد له أن لا اختلاف فيه فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع أو المسلم من غير اعتراض فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملى فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين أو ليبق باحثا إلى الموت ولا عليه من ذلك فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها(169/9)
ويضعها نصب عينيه في كل مطلب دينى كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم فأما الأمر الأول فهو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسبب ذلك الاستدراك على الشرع وإليه مال كل من كان يكذب على النبى صلى الله عليه وسلم
فيقال له ذلك ويحذر ما في الكذب عليه من الوعيد
فيقول لم أكذب عليه وإنما كذبت له
وحكى عن محمد بن سعيد المعروف بالأردنى أنه قال إذا كان الكلام حسنا لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا
فلذلك كان يحدث بالموضوعات وقد قتل في الزندقة وصلب وقد تقدم لهذا القسم أمثلة كثيرة
ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة أحدها قول من قال إن قوله تعالى وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون يتناقض مع قوله تعالى فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون
والثانى قول من قال في قوله تعالى فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان مضاد لقوله وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون - وقوله تعالى ولتسألن عما كنتم تعملوان
والثالث قول من قال في قوله تعالى أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين - إلى قوله تعالى - ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا او كرها قالتا أتينا طائعين رفع سمكها فسواها والأرض بعد ذلك دحاها فصرح بأن الأرض مخلوقة بعد السماء(169/10)
ومن هذه الأسئلة ما أورده نافع بن الأزرق - أو غيره على ابن عباس رضى الله عنهما فخرج البخارى في المعلقات عن سعيد بن جبير قال - قال رجل لابن عباس إنى أجد في القرآن اشياء تختلف على وهي قوله تعالى فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - واقبل بعضهم على بعض يتساءلون ولا يكتمون الله حديثا - والله ربنا ما كنا مشركين ) فقد كتموا في هذا الآية أم السماء بناها رفع سمكها فسواها - إلى قوله تعالى والأرض بعد ذلك دحاها فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين - إلى قوله - ثم استوى إلى السماء وهي دخان - إلى قوله - طائعين فذكر في هذه خلق الارض قبل خلق السماء وقال وكان الله غفورا رحيما
عزيزا حكيما - سميعا بصيرا فكأنه كان ثم مضى فقال - يعنى ابن عباس فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون في النفخة الأولى ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الأخرى أقبل بعضهم على بعض يتساءلون
وأما قوله ما كنا مشركين - ولا يكتمون الله حديثا فإن الله عز وجل يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم وقال المشركون تعالوا نقول لم نكن مشركين فختم على افواههم فتنطق ايديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض وقوله عز وجل خلق الأرض في يومين - ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات في يومين آخرين ثم دحا الأرض ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى
وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فلذلك قوله دحاها وقوله تعالى خلق الأرض في يومين فخلقت الأرض وما فيها من شىء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين
وكان الله غفورا رحيما سمى نفسه بذلك وذلك قوله أي لم يزل كذلك فإن الله عز وجل لم يرد شيئا إلا اصاب به الذي اراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله(169/11)
والرابع قول من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة واشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى الحديث كما وقع مخالف لقول الله تعالى وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فالحديث أنه أخذهم من ظهر آدم والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور آدم وهذا إذا تؤمل لا خلاف فيه لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يخرجوا من صلب آدم عليه السلام والصلاة دفعة واحدة على وجه لو خرجوا على الترتيب كما أخرجوا إلى الدنيا ولا محال في هذا بأن يتفطر في تلك الآخذة الأبناء عن الأبناء من غير ترتيب زمان وتكون النسبتان معا صحيحتين في الحقيقة لا على المجاز والخامس قول من قال - فيما جاء في الحديث
أن رجلا قال يا رسول الله نشدتك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله فقال خصمه وكان أفقه منه صدق أقض بيننا بكتاب الله وائذن لى في أن أتكلم ثم أتى بالحديث
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم إلى آخر الحديث - هو مخالف لكتاب الله لأنه قد قال لأقضين بينكما بكتاب الله حسبما ساله السائل ثم قضى بالرجم والتغريب وليس لهما ذكر في كتاب الله
الجواب إن الذى أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في كتاب الله فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد كان مسطورا في القرآن أولا كما قال تعالى كتاب الله عليكم أي حكم لله فرضه وكل ما جاء في القرآن من قوله كتاب الله عليكم فمعناه فرضه وحكم به ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن
والسادس قول من زعم أن قوله تعالى في الإماء فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب لا يعقل مع ما جاء في الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم(169/12)
رجم ورجمت الأئمة بعده لانه يقتضى أن الرجم ينتصف وهذا غير معقول فكيف يكون نصفه على الإماء ذهابا منهم
إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج وليس كذلك بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر بدليل قوله أول الآية ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات وليس المراد هنا إلا الحرائر لان ذوات الأزواج لا تنكح
والسابع قولهم إن الحديث جاء بأن المرأة لا تنكح على عمتها ولا على خالتها وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب والله تعالى لما ذكر المحرمات لم يذكر من الرضاع إلا الأم والأخت ومن الجمع إلا الجمع بين الأختين وقال بعد ذلك وأحل لكم ما وراء ذلكم فاقتضى أن المرأة تنكح على عمتها وعلى خالتها وإن كان رضاع سوى الأم والأخت حلالا
وهذه الاشياء من باب تخصيص العموم لا تعارض فيه على حال
والثامن قول من قال إن قوله عليه الصلاة و السلام غسل الجمعة واجب على كل محتلم مخالف لقوله من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت ومن اغتسل فالغسل افضل والمراد بالوجوب هنا بالتأكيد خاصة بحيث لا يكون تركا للفرض وبه يتفق معنى الحديثين فلا اختلاف
والتاسع قولهم جاء في الحديث صلة الرحم تزيد العمر والله تعالى يقول إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يؤخر ولا يقدم البتة
وأجيب عنه بأجوبة منها أن يكون في علم الله أن هذا الرجل إن وصل رحمه عاش مائة سنة وإلا عاش ثمانين سنة مع ان في علمه أن يفعل بلا بد أو أنه لا يفعل أصلا
وعلى كلا الوجهين إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم
قاله ابن قتيبة وتبعه عليه القرافى
والعاشر قال في الحديث إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة ثم فيه كان عليه الصلاة والسلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء وهذا تدافع
والحديثان معا لعائشة رضى الله عنها
والجواب سهل(169/13)
فالحديثان يدلان على أن الأمرين موسع فيهما لأنه إذا فعل أحد الأمرين وأكثر منه وفعل الآخر أيضا وأكثر منه على ما تقتضيه كان يفعل حصل منهما أنه كان يفعل ويترك وهذا شأن المستحب فلا تعارض بينهما
فهذه عشرة امثلة تبين لك مواقع الإشكال وإنى رتبتها مع ثلج اليقين فإن الذي عليه كل موفق بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف
فمن توهم ذلك فيها فلم ينعم النظر ولا أعطى وحى الله حقه
ولذلك قال الله تعالى افلا يتدبرون القرآن فحضهم على التدبر أولا ثم أعقبه ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فبين أنه لا اختلاف فيه
والتدبر يعين على تصديق ما أخبر به
فصل
النوع الثالث أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهى إليه لا تتعداه ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب
ولو كانت كذلك لاستوت مع البارى تعالى في إدارك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون إذ لو كان كيف كان يكون فمعلومات الله لا تتناهى ومعلومات العبد متناهية والمتناهي لا يساوى ما لا يتناهى
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلا وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلا فالشىء الواحد من جملة الأشياء يعلمه البارى تعالى على التمام والكمال بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله أو أحكامه بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشىء قاصر ناقص تعقل أو صفاته أو أحواله أو أحكامه وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تخرجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه
وأيضا فأنت ترى المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة اقسام
قسم ضرورى لا يمكن التشكيك فيه كعلم الإنسان بوجوده وعلمه بأن الأثنين أكثر من الواحد وأن الضدين يجتمعان
وقسم لا يعلمه البتة إلا أن يعلم به أو يجعل له طريق إلى العلم به وذلك كعلم المغيبات عنه كانت من قبيل ما يعتاد علم العبد به أولا كعلمه بما تحت رجليه
إلا أن مغيبه عنه تحت الأرض بمقدار شبر(169/14)
وعلمه بالبلد القاصى عنه الذي لم يتقدم له به عهد
فضلا عن علمه بما في السموات وما في البحار وما في الجنة أو النار على التفصيل فعلمه بما لم يجعله عليه دليل غير ممكن
وقسم نظرى يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به - وهي النظريات - وذلك الممكنات التي تعلم بواسطة لا بأنفسها إلا ان يعلم بها إخبارا
وقد زعم أهل العقول ان النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة لاختلاف القرائح والأنظار
فإذا وقع الاختلاف فيها لم يكن بد من مخبر بحقيقتها في أنفسها إن احتيج إليها لانها لو لم تفتقر إلى الأخبار لم يصح العلم بها لأن المعلومات لا تختلف باختلاف الأنظار لأنها حقائق في أنفسها
فلا يمكن أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا - كما هو معلوم في الاصول - وإنما المصيب فيها واحد وهو لا يتعين إلا بالدليل
وقد تعارضت الأدلة في نظر الناظر فنحن نقطع بأن أحد الدليلين دليل حقيقة
ولا الآخر شبهة ولا يعين
فلا بد من إخبار بالتعيين
ولا يقال إن هذا قول الإمامية لأنا نقول بل هو يلزم الجميع فإن القول بالمعصوم غير النبى صلى الله عليه وسلم
يفتقر إلى دليل لأنه لم ينص عليه الشارع نصا يقطع العذر
فالقول بإثباته نظرى فهو مما وقع الخلاف فيها فكيف يخرج عن الخلاف بأمر فيه خلاف هذا لا يمكن
فإذا ثبت هذا رجعنا إلى مسألتنا فنقول الأحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال المكلفين من قبيل الضروريات في الجملة
وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فلتماسها(169/15)
ونرجع إلى ما بقى من الأقسام فإنهم قد أقروا في الجملة - أعنى القائلين بالتشريع العقلى - أن منه نظريا ومنه ما لايعلم بضرورة ولا نظر وهما القسمان الباقيان مما لا يعلم له اصل إلا من جهة الإخبار فلا بد فيه من الإخبار لأن العقل غير مستقل فيه وهذا إذا راعينا قولهم وساعدناهم عليه فإنا إن لم نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن لا نحكم العقل أصلا فضلا عن أن يكون له قسم لا حكم له وعندهم أنه لا بد من حكم فلأجل ذلك نقول لا بد من الافتقار إلى الخبر وحينئذ يكون العقل غير مستقل بالتفريغ
فإن قالوا بل هو مستقل لأن ما لم يقض فيه فإما أن يقولوا فيه بالوقوف - كما هو مذهب بعضهم - أو بأنه على الحظر أو الإباحة - كما ذهب إليه آخرون
فأن قالوا بالثانى فهو مستقل وإن قالوا بالأول فكذلك أيضا لأن قد ثبت استقلاله بالبعض فافتقاره في بعض الأشياء لا يدل على افتقاره مطلقا
قلنا بل هو مفتقر على الأطلاق لأن القائلين بالوقف اعترفوا بعدم استقلاله في البعض وإذا ثبت الافتقار في صورة ثبت مطلقا إذ ما وقف فيه العقل قد ثبت فيه ذلك وما لم يقف فيه فإنه نظرى فيرجع ما تقدم في النظر وقد مر أنه لا بد من حكم ولا يمكن إلا من جهة الإخبار
وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالهم ايضا إلى ان المسألة نظرية فلا بد من الإخبار وذلك معنى كون العقل لا يستقل بإدراك الأحكام حتى يأتى المصدق للعقل أو المكذب له
فإن قالوا فقد ثبت فيها قسم ضروري فيثبت الاستقلال
قلنا إن ساعدناكم على ذلك فلا يضرنا في دعوى الافتقار لأن الأخبار قد تأتى بما يدركه
الإنسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر أو إيقاظا لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريا فهو إذا محتاج إليه ولا بد للعقل من التنبيه من خارج وهي فائدة بعث الرسل فإنكم تقولون إن حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب ايضا والكفران معلوم ضرورة وقد جاء الشرع بمدح هذا وذم ذلك
وأمر بهذا ونهى عن ذلك(169/16)
فلو كان العقل غير مفتقر إلى التنبيه لزم المحال وهو الإخبار بما لا فائدة فيه لكنه أتى بذلك فدلنا على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إلى التنبيه عليه هذا وجه
ووجه آخر
وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه فما ادعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه وعلى حال دون حال والبرهان على ذلك أحوال أهل الفترات فإنهم وضعوا أحكاما على العباد بمقتضى السياسات لا تجد فيها اصلا منتظما وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء بل استحسنوا أمورا تجد العقول بعد تنويرها بالشرع تنكرها وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم اشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم غامضة لكنها بالنسبة إلى ما لم يصيبوا فيه قليلة فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والله الحجة البالغة والنعمة السابغة
فا لانسان - وإن زعم فى الامر أنه أدركه وقتله علما - لا يأتى عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم ولا بذات دون صفة ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية - وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد لا سبيل له إلى دعوى الإستقلال البتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع - إن كانت شرعية - لان أوصاف الشارع لا تختلف فيها البتة ولا قصور ولا نقص بل مباديها موضوعة على وفق الغايات وهي من الحكمة
ووجه ثالث(169/17)
وهو أن ما ندعى علمه في الحياة ينقسم كما تقدم - إلى البديهى الضروري وغيره إلا من طريق ضروري إما بواسطة أو بغير واسطة إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لا بد في تحصيلها من توسط مقدمتين معترف بهما فإن كانتا ضروريتين فذاك وإن كانتا مكتسبتين فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين وينظر فيهما ما تقدم وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة فلا بد للمكتسبة من مقدمتين فإن انتهينا إلى ضروريتين فهو المطلوب وإلا لزم التسلسل أو الدور وكلاهما محال فإذا لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا بالضروري
وحاصل الأمر أنه لا بد من معرفتهما بمقدمتين حصلت لنا كل واحدة
منهما مما عقلناه وعلمناه من مشاهد باطنة كالألم واللذة أو بديهي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الاثنين أكثر من الواحد وبأن الضدين لا يمكن اجتماعهما وما أشبه ذلك مما هو لنا معتاد في هذه الدار فإنا يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذه الدار وأما ما ليس بمعتاد فقبل النبوات لم يتقدم لنا به معرفة فلو بقينا وذلك لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا ولأنكرنا من أدعى جواز قلب الشجر حيوانا والحيوان حجرا وما أشبه ذلك لأن الذي نعرفه من المعتادات المتقدمة خلاف هذه الدعوى
فلما جاءت النبوات بخوارق العادات أنكرها من أصر على الأمور العادية واعتقادها سحرا أو غير ذلك كقلب العصا ثعبانا وفرق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ونبع الماء من بين اصابع اليد وتكليم الحجر والشجر وانشقاق القمر - إلى غير ذلك مما تبين به أن تلك العوائد اللازمة في العادات ليست بعقلية بحيث لا يمكن تخلفها بل يمكن أن تتخلف كما يجوز على كل مخلوق أن يصير من الوجود إلى العدم كما خرج من العدم إلى الوجود
فمبادى العادات إذا يمكن عقلا تخلفها(169/18)
إذ لو كان عدم التخلف لها عقليا لم يمكن أن تتخلف لا لنبى ولا لغيره ولذلك لم يدع أحد من الانبياء عليهم الصلاة والسلام الجمع بين النقيضين ولا تحدى أحد بكون الاثنين أكثر من الواحد مع أن الجميع فعل الله تعالى
وهو متفق عليه بين أهل الإسلام
وإذا أمكن في العصا والبحر والأكمه والأبرص والاصابع والشجر وغير ذلك - أمكن في جميع الممكنات لأن ما وجب للشىء وجب لمثله
وايضا فقد جاءنا الشرع بأوصاف من أهل الجنة وأهل النار خارجة عن المعتاد الذي عندنا فإن كون الإنسان في الجنة يأكل ويشرب ثم لا يغوط ولا يبول غير معتاد وكون عرقه كرائحة المسك غير معتاد وكون الأزواج مطهرة من الحيض مع كونهن في حالة الصبا وسن من يحيض غير معتاد وكون الإنسان فيها لا ينام ولا يصيبه جوع ولا عطش وإن فرض أنه لا يأكل ولا يشرب أبد الدهر غير معتاد وكون الثمر فيها إذا قطف أخلف في الحال ويتدانى إلي يد القاطف إذا اشتهاه غير معتاد وكون اللبن والخمر والعسل فيها أنهارا من غير حلاب ولا عصر ولا نحل - وكون الخمر لا تسكر غير معتاد وكون ذلك كله بحيث لو استعمله دائما لا يمتلىء ولا يصيبه كظة ولا تخمة ولا يخرج من جسده لا في أذنه ولا أنفه ولا ارفاغه ولا سائر جسده أوساخ ولا اقذار غير معتاد وكون أحد من أهل الجنة لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت ولا يمرض ولا غير معتاد
كذلك إذا نظرت أهل النار - عياذا بالله - وجدت من ذلك كثيرا ككون النار لا تأتى عليه حتى يموت كما قال تعالى لا يموت فيها ولا يحيى وسائر أنواع الأحوال التي هم عليها كلها خارق للعادة
فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بانها ليست بعقلية
وإنما هي وضعية يمكن تخلفها وإنما لم نحتج بالكرامات لأن أكثر المعتزلة ينكرونها راسا
وقد اقر بها بعضهم
وإن ملنا إلى التعريف فلو اعتبر الناظر في هذا العالم لوجد لذلك نظائر جارية إلى غير المعتاد(169/19)
وأسمع في ذلك أثرا غريبا حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط قال سمعت شعيب بن أبى سعيد يحدث أن راهبا كان بالشأم من أعمالهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما اشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه
فقال له الراهب أمن علمائهم أنت قال خالد إن فيهم لمن هو أعلم منى
قال الراهب أليس تقولون إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى قال خالد بلى قال الراهب افلهذا مثل تعرفونه في الدنيا قال نعم الصبى يأكل في بطن أمه من طعامها
ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى
قال الراهب لخالد اليس تقول إنك لست من علمائهم قال خالد إن فيهم لمن هو أعلم منى قال أفليس تقولون إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شىء قال خالد بلى قال أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه قال خالد نعم الكتاب يكتب منه كل شىء أحد ثم لا ينقص منه شىء قال الراهب اليس تقول إنك لست من علمائهم قال خالد إن فيهم لمن هو أعلم منى قال خالد فتمعر وجهه ثم قال إن هذا من أمه بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد
أنتهى المقصود من الخبر
وهو ينبه على أن ذلك الاصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له اصل في المعتاد وهو تنزل للمنكر غير لازم ولكنه مقرب لفهم من قصد فهمه عن إدارك الحقائق الواضحات
فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادى بانخراقه مع أن كون العادي عاديا مطردا غير صحيح أيضا فكل عادى يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص البارى باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار سبحان من ربط الاسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون
تنبيها على هذا المعنى المقرر(169/20)
فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين أحدهما أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم - وهو الشرع ويؤخر ما حقه التأخير - وهو نظر العقل - لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل لأنه خلاف المعقول والمنقول بل ضد القضية هو الموافق للأدلة
فلا معدل عنه ولذلك قال اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك تنبيها على تقدم الشرع على العقل
والثانى أنه إذا وجد في الشرع أخبارا تقتضى ظاهرا خرق العادة الجارية المعتادة فلا ينبغى له أن يقدم بين يديه الإنكار بإطلاق بل له سعة في أحد أمرين إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه
وهو ظاهر قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يعنى الواضح المحكم والمتشابه المجمل إذ لا يلزمه العلم به ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته وإلا كان تكليفا بما لا يطاق
وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر لان إنكاره إنكار لخرق العادة فيه
وعلى هذا السبيل يجرى حكم الصفات التى وصف البارى بها نفسه لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين وهذا منفى عند الجمهور فبقى الخلاف في نفى عين الصفة أو إثباتها فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفى التشبيه والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد
فإن قالوا هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة كقوله رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإن الجميع أنكروا ظاهره إذ العقل والمحسوس يشهدان بانها غير مرفوعة وأنت تقول اعتقدوا أنها مرفوعة وتأولوا الكلام(169/21)
قيل لم نعن ما هو منكر ببداهة العقول وإنما عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب كما نقول إن الصراط ثابت والجواز عليه قد أخبر الشارع به فنحن نصدق به لأنه إن كان كحد السيف وشبهه لا يمكن استقرار الإنسان فوقه عادة فكيف يمشى عليه فالعادة قد تخرق حتى يمكن المشى والاستقرار والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون اصل الصراط ولا يلتفتون إلى إمكان انخراق العوائد فإن فرقوا صار ذلك تحكما لأنه ترجيح في أحد المثلين دون الآخر من غير مرجح عقلى وقد صادفهم النقل فالحق الإقرار دون الإنكار
ولنرشح هذا المطلب بأمثلة عشرة أحدها مسألة الصراط وقد تقدمت
والثانى مسألة الميزان إذ يمكن إثباته ميزانا صحيحا على ما يليق بالدار الآخرة وتوزن فيه الأعمال على وجه غير عادى نعم يقر العقل بأن أنفس الأعراض - وهي الأعمال - لا توزن وزن الموزونات عندنا في العادات - وهي الأجسام ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس الأعمال توزن بعينها
فالاخلق الحمل إما على التسليم - وهذه طريقة الصحابة رضى الله عنهم إذ لم يثبت عنهم إلا مجرد التصديق من غير بحث عن نفس الميزان أو كيفية الوزن
كما أنه لم يثبت عنهم في الصراط
إلا ما ثبت عنهم في الميزان
فعليك به فهو مذهب الصحابة رضى الله عنهم
فإن قيل فالتأويل إذا خارج عن طريقتهم فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الخارج
قيل لا لأن الاصل في ذلك التصديق بما جاء التسليم محضا أو مع التأويل نظر لا يبعد إذ قد يحتاج إليه في بعض المواضع بخلاف من جعل اصله في تلك الأمور التكذيب بها
فإنه مخالف لهم
لسلك في الأحاديث مسلك التأويل أو عدمه لا أثر له لأنه تابع على كلتا الطريقتين لكن التسليم أسلم
والثالث مسألة عذاب القبر وهي اسهل
ولا بعد ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية
ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه(169/22)
فنحن نرى الميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها ولا نرى عليه من ذلك أثرا
وكذلك أهل الأمراض المؤلمة
واشباه ذلك مما نحن فيه مثلها
فلماذا يجعل استبعاد العقل صادا في وجه التصديق باقوال الرسول صلى الله عليه وسلم
والرابع مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في الدنيا
وقد تقدم أن تحكيمه
بإطلاق غير صحيح لقصوره وإمكان خرق العوائد إما بفتح القبر حتى يمكن إقعاده أو بغير ذلك من الأمور التي لا تحيط بمعرفتها العقول
والخامس مسألة تطاير الصحف وقراءة من لم يقرأ قط وقراءته إياه وهو خلف ظهره كل ذلك يمكن فيه خرق العوائد فيتصوره العقل على وجه منها
والسادس مسألة إنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها لا فرق بينها وبين الأحجار والأشجار التي شهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
بالرسالة
والسابع روية الله في الآخرة جائزة إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة وهو إلى القصور في النظر أميل والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن الصديق
والثامن كلام البارى تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفا مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق البارى محال ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجا عن مشابهة المعتاد على وجه صحيح لائق بالرب إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلا ولا يجزم العقل بان الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجردا
والتاسع إثبات الصفات كالكلام إنما نفاه من نفاه للزوم التركيب عنده في ذات البارى تعالى - على القول بإثباتها - فلا يمكن أن يكون واحدا مع إثباتها
وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور إدراكه في المخلوقات فكيف لا يثبت(169/23)
قصوره في إدراكه إذا دعى من التركيب بالنسبة إلى صفات البارى فكان من الصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما اثبته الله لنفسه ويقر مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم
والعاشر تحكيم العقل على الله تعالى بحيث يقول يجب عليه بعثة الرسل ويجب عليه الصلاح والاصلح ويجب عليه اللطف ويجب عليه كذا - إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء وهذا إنما نشأ من ذلك الاصل المتقدم وهو الاعتياد في الإيجاب على العباد
ومن أجل البارى وعظمه لم يجترىء على إطلاق هذه العبارة ولا ألم بمعناها في حقه لأن ذلك المعتاد إنما حسن في المخلوق من حيث هوعبد مقصور محصور ممنوع والله تعالى ما يمنعه شىء ولا يعارض احكامه حكم فالواجب الوقوف مع قوله قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين - وقوله تعالى يفعل ما يشاء - وقوله تعالى - إن الله يحكم ما يريد ذو العرش المجيد فعال لما يريد
فالحاصل من هذه القضية أنه لا ينبغى للعقل أن يتقدم بين يدى الشرع فإنه من التقدم بين يدى الله ورسوله بل يكون ملبيا من وراء وراء
ثم نقول إن هذا هو المذهب للصحابة رضى الله عنهم وعليه دأبوا وإياه اتخذوا طريقا إلى الجنة فوصلوا
ودل على ذلك من سيرهم اشياء
منها أنه لم ينكر أحد منهم ما جاء من ذلك بل اقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم
ولم يصادموه ولا عارضوه بإشكال ولو
كان شىء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية فلما لم ينقل إلينا شىء من ذلك دل على أنهم آمنو به وأقروه كما جاء من غير بحث ولا نظر
كان مالك بن أنس يقول الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأى جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل
فأما الكلام في الدين وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إلى لأنى رايت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل(169/24)
قال ابن عبد البر قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده - يعنى العلماء منهم وأخبر ان الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه وضرب مثلا نحو رأى جهم والقدر - قال - والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى وإنما خالف في ذلك أهل البدع - وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله
إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع في درد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه وخشى ضلالة عامة او نحو هذا
وقال يونس بن عبد الاعلى سمعت الشافعى يوم ناظره حفص الفرد قال لى يا أبا موسى لان يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشىء من الكلام لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه
وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل
وقال عن الحسن بن زياد اللولؤى - وقال له رجل في زفر بن الهذيل - أكان ينظر في الكلام فقال سبحان الله ما أحمقك ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم - همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم
وقال ابن عبد البر أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم
وعن أبى الزناد أنه قال وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ونتعلمها شبيها بتعلمنا آي القرآن وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس بعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالراي وينهون عن لقائهم ومجالستهم ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله وما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن(169/25)
حتى كان من قوله كراهية لذلك ذرونى ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه
وإذا أمرتكم بشىء فخذوا منه ما استطعتم
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال اتقوا الله في دينكم
قال سحنون يعنى الانتهاء عن الجدل فيه وخرج ابن وهب عن عمر أيضا أن أصحاب الرأى أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم
قال أبو بكر بن أبى داود أهل الراى هم أهل البدع
وهو القائل في قصيدته في السنة
ودع عنك آراء الرجال وقولهم
فقول رسول الله أزكى وأشرح
وعن الحسن قال إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا واضلوا
وعن مسروق قال من رغب برأيه عن أمر الله يضل
وعن هشام بن عروة عن ابيه أنه كان يقول السنن السنن إن السنن قوام الدين وعن هشام بن عروة قال إن بنى إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا حتى نشأ فيهم مولدون سبايا الأمم فاخذوا فيهم بالرأى فضلوا واضلوا
فهذه الآثار واشباهها تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبى صلى الله عليه وسلم
وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأى المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة في الاعتقاد
كرأى أبى جهم وغيره من أهل الكلام
لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث
فقالوا لا يجوز أن يرى الله
في الآخرة لأنه تعالى يقول لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الآية
فردوا قوله عليه الصلاة والسلام إنكم ترون ربكم يوم القيامة وتأولوا قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقالوا لا يجوز أن يسأل الميت في قبره(169/26)
لقول الله تعالى أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها وقالوا لن يخرج من النار من دخل فيها وقالوا لا نعرف حوضا ولا ميزانا ولا نعقل ما هذا وردوا السنن في ذلك كله - برأيهم وقياسهم - إلى اشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفة البارى وقالوا العلم محدث في حال حدوث المعلوم لأنه لا يقع علم إلا على معلوم فرارا من قدم العالم - في زعمهم
وقال جماعة الرأى المذموم المراد به الرأى المبتدع وشبهه من ضروب البدع
وهذا القول أعم من الأول لان الأول خاص بالاعتقاد وهذا عام في العمليات وغيرها
وقال آخرون - قال ابن عبد البر وهم الجمهور - إن المراد به القول في الشرع بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى اصولها فاستعمل فيها الراى قبل أن تنزل - قالوا وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها
وهذا القول غير خارج عما تقدم
وإنما الفرق بينهما أن هذا منهى عنه للذريعة إلى الرأى المذموم
وهو معارضة المنصوص
لأنه إذا لم يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إلى الرأى
فلحق بالأولين الذين عارضوا السنن حقيقة فجميع ذلك راجع إلى معنى واحد
وهو إعمال النظر العقلى مع طرح السنن إما قصدا أو غلطا وجهلا
والرأى إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة
فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء في السنن بآرائهم علموا معناه أو جهلوه جرى لهم على معهودهم أولا وهو المطلوب من نقله وليعتبر فيه من قدم الناقص - وهو العقل - على الكامل - وهو الشرع - ورحم الله الربيع بن خثيم حديث يقول يا عبد الله ما علمكالله في كتابه من علم فاحمد الله وما استاثر عليك به من علم فكله إلى عالمه لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه قل ما اسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إلى آخرها(169/27)
وعن معمر بن سليمان عن جعفر عن رجل من علماء أهل المدينة قال إن الله علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد فمن تكلف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعدا
قال والقدر منه
وقال الأوزاعى كان مكحول والزهرى يقولان أمرو هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها ومثله عن مالك والأوزاعى وسفيان بن سعيد وسفيان بن عيينة ومعمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم أمروا كما جاءت نحو حديث التنزيل وخلق آدم على صورته وشبهها
وحديث مالك في السؤال عن الاستواء مشهور
وجميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة الآية
ثم قال والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا فإنها صريحة في هذا الذي قررناه فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه فالوقف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا لو كان من شأنهم اتباع الرأى لم يذموه ولم ينهوا عنه لأن أحدا لا يرتضى طريقا ثم ينهى عن سلوكه كيف وهم قدوة الأمة باتفاق المسلمين
وروى أن الحسن كان في مجلس فذكر في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فقال إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم
فتشبهوا بأخلاقهم وطرائفهم فإنهم - ورب الكعبة - على الهدى المستقيم
وعن حذيفة انه كان يقول اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم فلعمرى لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا أو شمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
وعن ابن مسعود من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما واقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها خلالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم(169/28)
وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
والآثار في هذا المعنى كثيرة جميعها يدل على الاقتداء بهم والاتباع لطريقهم على كل حال وهو طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق في قوله ما أنا عليه واصحابي
فصل
النوع الرابع أن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله
وهذا اصل قد تقرر في قسم المقاصد من كتاب الموافقات لكن على وجه كلى يليق بالاصول
فمن أراد الأطلاع عليه فليطالعه من هنالك
ولما كانت طرق الحق متشعبة لم يكن أن يؤتى عليها بالاستيفاء
فلنذكر منها شبعة واحدة تكون كالطريق لمعرفة ما سواها
فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم
مطيعهم وعاصيهم
برهم وفاجرهم
لم يختص الحجة بها أحدا دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة
حتى إن الشريعة المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها
فأنت ترى أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته
مما اختص به دون أمته
أو كان عاما له ولأمته
كقوله تعالى يا أيها النبى إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن وما ملكت يمينك - إلى قوله تعالى - خالصة لك من دون المؤمنين ثم قال تعالى ولا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج وقوله تعالى يا ايها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم
وقوله تعالى يا أيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبى فيهم
فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين
وهي الطريق الموصل والهادى الأعظم
الا ترى إلى قوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان(169/29)
ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا فهو عليه الصلاة والسلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان
ثم من اتبعه فيه
والكتاب هو الهادى
والوحى المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدى والخلق مهتدون بالجميع
ولما استنار قلبه وجوارحه - عليه الصلاة والسلام - وباطنه
وظاهره بنور الحق علما وعملا صار هو الهادى الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاء أوليا لا من جهة كونه بشرا عاقلا - مثلا - لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ولا لكونه من قريش - مثلا - دون غيرهم وإلا لزم ذلك في كل قرشى ولا لكونه من بنى عبدالمطلب ولا لكونه عربيا ولا لغير ذلك بل من جهة اختصاصه بالوحى الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن حتى قيل فيه وإنك لعلى خلق عظيم وإنما ذلك لأنه حكم الوحى على نفسه حتى صار في علمه وعمله على وفقه فكان الوحى حاكما وافقا قائلا مذعنا ملبيا نداءه
واقفا عند حكمه
وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر وبالنهى وهو منته
وبالوعظ وهو متعظ وبالتخويف وهو أول الخائفين
وبالترجية وهو سائق دابة الراجين
وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه
ودلالة له على الصراط المستقيم الذي صار عليه السلام
ولذلك صار عبد الله حقا
وهو اشرف اسم تسمى به العباد
فقال الله تعالى سبحان الذي اسرى بعبده ليلا - تبارك الذي نزل الفرقان على عبده - وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه فيها بصحة العبودية(169/30)
وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون بها إلى الحق وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولا واعتقادا وعملا لا بحسب عقولهم فقط ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط لأن الله تعالى إنما أثبت الشرف بالتقوى لا غيرها لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله اتقاكم فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها فالشرف إذا إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة
ثم نقول بعد هذا إن الله سبحانه شرف أهل العلم ورفع أقدارهم وعظم مقدارهم ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله وأنهم المستحقون شرف المنازل وهو مما لا ينازع فيه عاقل
واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم وأعظمها أجرا عند الله يوم القيامة ولا علينا أسامحنا بعض الفرق في تعيين العلوم - أعنى العلوم التي نبه الشارع على مزيتها وفضيلتها - أم لم نسامحهم بعد الاتفاق من الجميع على الأفضلية وإثبات الحرية
وأيضا فإن علوم الشريعة منها ما يجرى مجرى الوسائل بالنسبية إلى السعادة الأخروية ومنها ما يجرى مجرى المقاصد والذي يجرى مجرى المقاصد أعلى
مما ليس كذلك - بلا نزاع بين العقلا أيضا - كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقه فإنه كالوسيلة فعلم الفقه أعلى(169/31)
وإذا ثبت هذا فأهل العلم اشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ودل على ذلك وقوع الثناء عليهم مقيدا بالاتصاف به فهو إذا العلة في الثناء ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم ومن ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين قضاء او فتيا أو إرشادا - لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق فليسوا بحكام من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع غيرهم كالقدرة والإرادة والعقل وغير ذلك إذ لا مزية في ذلك من حيث القدر المشترك لاشتراك الجميع فيها وإنما صاروا حكاما على الخلق مرجوعا إليهم بسبب حملهم للعلم الحاكم فلزم من ذلك انهم لا يكونون على الخلق إلا من ذلك الوجه كما أنهم ممدحون من ذلك الوجه أيضا فلا يمكن أن يتصفوا بوصف الحكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الحاكم إذ ليسوا حجة إلا من جهته فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا حكام هذا محال
وكما أنه لا يقال في العالم بالعربية مهندس ولا في العالم بالهندسة عربى فكذلك لا يقال في الزائغ عن الحكم الشرعي حاكم بالشرع بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نحو ذلك فلا يصح أن يجعل حجة في العلم الحاكم
لأن العلم الحاكم يكذبه ويرد عليه وهذا المعنى ايضا في الجملة متفق عليه ولا يخالف فيه أحد من العقلاء
ثم نصير من هذا إلى معنى آخر مرتب عليه وهو أن العالم بالشريعة إذ اتبع في قوله وانقاد إليه الناس في حكمه فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها لا من جهة أخرى فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
المبلغ عن الله عز وجل فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ او على غلبة الظن بأنه بلغ لا من جهة كونه منتصبا للحكم مطلقا إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة وإنما هو ثابت للشريعة ا لمنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم(169/32)
وثبت ذلك له عليه الصلاة والسلام وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعل حق
فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلت
فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث يحكم بمقتضاها حتى يساوى النبى في الانتصاب للحكم بإطلاق بل إنما يكون منتصبا على شرط الحكم بمقتضى الشريعة
بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم لم يكن حاكما
إذا كان - بالفرض - خارجا عن مقتضى الشريعة الحاكمة
وهو أمر متفق عليه بين العلماء ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردها إلى الشريعة حيث يثبت الحق فيها
لقوله تعالى فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول الآية
فإذا المكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة أحدها أن يكون مجتهدا فيها فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها لأن اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة
دون ما ظهر لغيره
من المجتهدين فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب
بدليل أنه لا يسعه فيما اتضح فيه الدليل إلا اتباع الدليل دون ما أداه إليه اجتهاده
ويعد ما ظهر له لغوا كالعدم
لانه على غير صوب الشريعة الحاكمة
فإذا ليس قوله بشىء يعتد به في الحكم
والثانى أن يكون مقلدا صرفا
خليا من العلم الحاكم جملة
فلا بد له من قائد يقوده
وحاكم يحكم عليه
وعالم يقتدى به
ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم
والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من اهل ذلك العلم لم يحل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه
بل لا يصح أن يحظر بخاطر العامى ولا غيره تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر
كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا أن يكون فاقد العقل وإذا كان كذلك فإنما ينقاد إلى المفتى من جهة ما هو عالم بالعلم الذي يجب الأنقياد إليه(169/33)
لا من جهة كونه فلانا أيضا وهذه الجملة ايضا لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا
والثالث أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه فلا يخلو إما أن يعتبر ترجيحها أو نظره أولا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه
والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه
متوجه شطره فالذي يشبهه كذلك وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامى
والعامى إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم
فكذلك من نزل منزلته
ثم نقول إن هذا مذهب الصحابة
أما النبى صلى الله عليه وسلم
فاتباعه للوحى أشهر من أن يذكر
وأما أصحابه فاتباعهم له في ذلك من غير اعتبار بمؤالف أو مخالف شهير عنهم
فلا نطيل الاستدلال عليه
فعلى كل تقدير لا يتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلا وأنه من وجد متوجها غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكما ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة
فيجب إذا على الناظر في هذا الموضع أمران إذا كان غير مجتهد أحدهما أن لا يتبع العالم إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه ومن حيث هو طريق إلى استفادة ذلك العلم إذ ليس لصاحبه منه إلا كونه مودعا له ومأخوذا بأداء تلك الأمانة حتى إذا علم أو غلب على الظن أنه مخطىء فيما يلقى او تارك لإلقاء تلك الوديعة على ما هي عليه أو منحرف عن صوبها بوجه من وجوه الانحراف - توقف ولم يصر على الاتباع إلا بعد التبيين إذ ليس كل ما يلقيه العالم يكون حقا على الإطلاق لإمكان الزلل والخطأ وغلبة الظن في بعض الأمور وما أشبه ذلك(169/34)
أما إذا كان هذا المتبع ناظرا في العلم ومتبصرا فيما يلقى إليه كأهل العلم في زماننا فإن توصله إلى الحق سهل لأن المنقولات في الكتب إما تحت حفظه وإما معدة لأن يحققها بالمطالعة أو المذاكرة
وأما إن كان عاميا صرفا فيظهر له الإشكال عند ما يرى الاختلاف بين الناقلين للشريعة فلا بد له ها هنا من الرجوع آخرا إلى تقليد بعضهم إذ لا يمكن في المسألة الواحدة تقليد مختلفين في زمان واحد لأنه محال وخرق للإجماع فلا يخلو أن يمكنه الجمع بينهما في العمل أو لا يمكنه فإن لم يمكنه بهما كان عمله بهما معا محالا وإن أمكنه صار عمله ليس على قول واحد منهما
بل هو قول ثالث لا قائل به
ويعضد ذلك أنه لا نجد صورة ذلك العمل معمولا بها في المتقدمين من السلف الصالح فهو مخالف للإجماع
وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحدا فكل واحد منهما يدعى أنه اقرب إلى الحق من صاحبه ولذلك خالفه وإلا لم يخالفه والعامى جاهل بمواقع الاجتهاد فلا بد له ممن يرشده إلى من هو أقرب إلى الحق منهما وذلك إنما يثبت للعامى بطريق جملى وهو ترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية
ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين الذين لا يخفى عليهم مثل ذلك لأن الأعلمية تغلب على ظن العامى أن صاحبها أقرب إلى صوب العلم الحاكم لا من جهة أخرى - فإذا لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكما بالعلم الحاكم
والأمر الثاني أن لا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا وذلك أن العامى ومن جرى مجراه قد يكون متبعا لبعض العلماء - إما لكونه أرجح من غيره أو عند أهل قطره وإما لأنه هو الذى اعتمده أهل قطره في التفقه في مذهبه دون مذهب غيره(169/35)
وعلى كل تقدير فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادى على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه لأن تعصبه يؤدى إلى مخالفة الشرع أولا ثم إلى مخالفة متبوعة أما خلافه للشرع فبالعرض وأما خلافه لمتبوعه فلخروجه عن شرط الاتباع لان كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعة بالتصميم على تقليده
ومن معنى كلام مالك رحمه الله ما كان في كلامى موافقا للكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه
هذا معنى كلامه دون لفظه
ومن كلام الشافعى رحمه الله الحديث مذهبى فما خالفه فاضربوا به الحائط أو كما قال قال العلماء وهذا لسان حال الجميع
ومعناه أن كل ما تتكلمون به على تحرى أنه طابق الشريعة الحاكمة فإن كان كذلك فبها ونعمت وما لا فليس بمنسوب إلى الشريعة ولا هم أيضا ممن يرضى أن تنسب إليهم مخالفتهم
لكن يتصور في هذا المقام وجهان ان يكون المتبوع مجتهدا فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى ما اجتهد فيه وهو الشريعة - وأن يكون مقلدا لبعض العلماء كالمتأخرين الذين من شأنهم تقليد المتقدمين بالنقل من كتبهم والتفقه في مذاهبهم فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى صحة النقل عمن نقلوا عنه وموافقتهم لمن قلدوا أو خلاف ذلك لأن هذا القسم مقلدون بالعرض فلا يسعهم الاجتهاد في استنباط الأحكام إذ لم يبلغوا درجته فلا يصح تعرضهم للاجتهاد في الشريعة مع قصورهم عن درجته
فإن فرض انتصابه للاجتهاد فهو مخطىء آثم اصاب أم لم يصب لانه أتى الأمر من غيره وانتهك حرمة الدرجة وقفا ماليس له به علم
فإصابته - إن اصاب - من حيث لا يدرى وخطؤه هو المعتاد فلا يصح اتباعه كسائر العوام إذا راموا الاجتهاد في أحكام الله ولا خلاف أن مثل هذا الاجتهاد غير معتبر وأن مخالفة العامى كالعدم(169/36)
وأنه في مخالفته لأهل العلم آثم مخطىء فكيف يصح - مع هذا التقرير - تقليد غير مجتهد في مسألة أتى فيها باجتهاده قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) إلى آخر ذلك مما في معناه فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحق تابع لهم ولم يلتفتوا إلى أن الحق هو المقدم
والثانى رأى الإمامية في اتباع الإمام المعصوم - في زعمهم - وإن خالف ما جاء به النبى المعصوم حقا وهو محمد صلى الله عليه وسلم
فحكموا الرجال على الشريعة ولم يحكموا الشريعة على الرجال وإنما أنزل الكتاب ليكون حكما على الخلق على الإطلاق والعموم
والثالث لاحق بالثانى وهو مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت بل جعلوا اكثر ذلك أنفحة في عقد إيمانهم من خالفها كفروه وجعلوا حكمه الكافر الاصلى وقد تقدم من ذلك أمثلة
والرابع رأى المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير وفوقوا إليه سهام النقد وعدوه من الخارجين عن الجادة والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل بل بمجرد الاعتياد العامى(169/37)
ولقد لقى الإمام بقى بن مخلد حين دخل الأندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف الأمرين حتى أصاروه مهجور الفناء مهتضم الجانب لأنه من العلم بما لا يدى لهم به إذ لقى بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ولقى ايضا غيره حتى صنف المسند المصنف الذي لم يصنف في الإسلام مثله وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك بحيث أنكروا ما عداه وهذا تحكيم الرجال على الحق والغلو في محبة المذهب وعين الإنصاف ترى أن الجميع أئمة فضلاء فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه لان الجميع سالك على الطريق المكلف به فقد يؤدى التغالى في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره
والخامس رأى نابته متأخرة الزمان ممن يدعى التخلق بخلق أهل التصوف المتقدمين أو يروم الدخول فيهم يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب من الأحوال الجارية عليهم أو الأقوال الصادرة عنهم فيتخذونها دينا وشريعة لأهل الطريقة وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح لا يلتفتون معها إلى فتيا مفت ولا نظر عالم بل يقولون إن صاحب هذا الكلام ثبتت ولايته فكل ما يفعله أو يقوله حق وإن كان خالفا فهو أيضا ممن يقتدى به والفقه للعموم وهذه طريقة الخصوص
فتراهم يحسنون الظن بتلك الأقوال والأفعال ولا يحسنون الظن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم
وهو عين اتباع الرجال وترك الحق مع أن أولئك المتصوفة الذين ينقل عنهم لم يثبت أن ما نقل عنهم كان في النهاية دون البداية ولا علم أنهم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم لا وايضا فقد يكون من أئمة التصوف وغيرهم من زل زلة يجب سترها عليه فينقلها عنه من لا يعلم حاله ممن لم يتأدب بطريق القوم كل التأدب(169/38)
وقد حذر السلف الصالح من زلة العالم وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين فإنه ربما ظهرت فتطير في الناس كل مطار فيعدونها دينا وهي ضد الدين فتكون الزلة حجة في الدين
فكذلك أهل التصوف لا بد من في الاقتداء بالصوفى من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها هل هي من جملة ما يتخذ دينا أم لا والحاكم هو الشرع وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا وأقل ذلك في الصوفى أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالما بالفقه كالجنيد وغيره رحمهم الله
ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضا إذ قال إمامهم سهل بن عبد الله التسترى مذهبنا مبنى على ثلاثة اصول الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم
في الأخلاق
والأفعال والاكل من الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال
ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف
وحاشاهم من ذلك بل اتباع الرجال شأن أهل الضلال
والسادس رأى نابتة في هذه الازمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين اخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ أو التغافل من المأخوذ عنه
ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال
ونسبوا إليهم ما نسبوا به من الخطأ أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال عن تحقيق المسألة المروية وردوا جميع ما نقل عن الأولين مما هو الحق والصواب كمسألة الباء الواقعة في هذه الأزمنة فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء - وهم أهل صناعة الأداء والنحويون ايضا - وهم الناقلون عن العرب - على انها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشان(169/39)
وإنما الباء التي يقرأ بها - وهي الموجودة في كل لغة فصيحة - الباء الشديدة فأبى هؤلاء من القرأءة والإقراء بها بناء على أن التى قرأوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء فلو كانت خطأ لردوها علينا
وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأسا تحسين ظن الرجال وتهمة للعلم فصارت بدعة جارية - أعنى القراءة بالباء الرخوة - مصرحا بأنها الحق الصريح فنعوذ بالله من المخالفة
ولقد ولج بعضهم حين أوجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا فكان القرشى المقرى أقرب مراما منهم
حكى عن يوسف بن عبدالله بن مغيث أنه قال أدركت
بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشى وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد فرد عليه القرشى تحيد بالتنوين فراجعه القارىء - وكان يحسن النحو - فلج عليه المقرىء وثبت على التنوين فانتشر الخبر إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيرى الزاهد - وكان صديقا لهذا المقرى - فنهض إليه فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد إنه بعد عهدى بقراءة القرآن على مقرىء فاردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه فقال أريد أن ابتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات فقال المقرىء ما شئت
فقرأ عليه من أول المفصل فلم بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له ابن مجاهد لا تفعل ما هي إلا غير منونة بلا شك فلج المقرى فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له يا أخى إني لم يحملنى على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها التنوين فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال له ابن مجاهد بينى وبينك المصاحن فأحضر منها جملة فوجودها مشكولة بغير تنوين فرجع المقرىء إلى الحق
انتهت الحكاية ويا ليت مسألتنا مثل هذه
ولكنهم عفا الله عنهم ابوا الانقياد إلى الصواب(169/40)
والسابع رأي نابته أيضا يرون أن عمل الجمهور اليوم - من التزام الدعاء بهيئة الاجتماع بإثر الصلوات والتزام المؤذنين التثويب بعد الأذان - صحيح بإطلاق من غير اعتبار بمخالفة الشريعة أو موافقتها وأن من خالفهم بدليل شرعى اجتهادي أو تقليدى خارج عن سنة المسلمين بناء منهم على أمور تخبطوا فيها من غير دليل معتبر فمنهم من يميل إلى أن هذا العمل المعمول به في الجمهور ثابت عن فضلاء وصالحين علماء
فلو كان خطأ لم يعملوا به
وهذا مما نحن فيه اليوم
تتهم الأدلة وأقوال العلماء المتقدمين ويحسن الظن بمن تأخر وربما نوزع بأقوال من تقدم فيرميها بالظنون واحتمال الخطإ ولا يرمى بذلك المتأخرين الذين هم أولى به بإجماع المسلمنين وإذا سئل عن أصل هذا العمل المتأخر هل عليه دليل من الشريعة لم يأت بشىء أو يأتى بأدلة محتملة لا علم له بتفصيلها كقوله هذا خير أو حسن وقد قال تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أو يقول هذا بر وقال تعالى وتعاونوا على البر التقوى
فإذا سئل عن اصل كونه خيرا أو برا وقف وميله إلى أن ظهر له بعقله أنه خير وبر فجعل التحسين عقليا وهو مذهب أهل الزيغ وثابت عند أهل السنة أنه من البدع المحدثات
ومنهم من طالع كلام القرافى وابن عبد السلام في أن البدع خمسة أقسام فنقول هذا من المحدث المستحسن
وربما رشح ذلك بما جاء في الحديث ما رآه المسلمون حسنا فهو عندالله حسن وقد مر ما فيه
وأما الحديث فإنما معناه عند العلماء أن علماء الإسلام إذا نظروا في مسألة مجتهد فيها
فما رأوه فيها حسنا فهو عند الله حسن لأنه جار على اصول الشريعة والدليل على ذلك الاتفاق
على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إلى استحسان حكم شرعى لم يكن عند الله حسنا حتى يوافق الشريعة
والذين نتكلم معهم في هذه المسألة ليسوا من المجتهدين باتفاق منا ومنهم فلا اعتبار بالاحتجاج بالحديث على استحسان شىء واستقباحه بغير دليل شرعى(169/41)
ومنهم من ترقى في الدعوى حتى يدعى فيها الإجماع من أهل الأقطار وهو لم يبرح من قطره ولا بحث عن علماء أهل الأقطار ولا عن تبيانهم فيما عليه الجمهور ولا عرف من أخبار الأفطار خبرا فهو ممن يسأل عن ذلك يوم القيامة
وهذا الاضطراب كله منشؤة تحسين الظن بأعمال المتأخرين - وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك - والوقوف مع الرجال دون التحري للحق
و الثامن رأى قوم ممن تقدم زماننا هذا - فضلا عن زماننا - اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم وأهواء من داناهم ومن رغب إليهم في ذلك فإذا عرفوا غرض بعض هؤلاء في حكم حاكم أو فتيا تعبدا وغير ذلك بحثوا عن اقوال العلماء في المسألة المسئول عنها حتى يجدوا القول الموافق للسائل فأفتوا به زاعمين أن الحجة في ذلك لهم قول من قال اختلاف العلماء رحمة ثم ما زال هذا الشر يستطير في الأتباع وأتباعهم حتى لقد حكى الخطابى عن بعضهم أنه يقول كل مسألة ثبت لاحد من العلماء فيها القول بالجواز - شذ عن الجماعة أولا - فالمسألة جائزة وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب الموافقات والحمد لله
والتاسع ما حكى الله عن الاحبار والرهبان قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فخرج الترمذى عن عدى بن حاتم قال أتيت النبى صلى الله عليه وسلم
- وفي عنقى صليب من ذهب - فقال يا عدى اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه حديث غريب
وفي تفسير سعيد بن منصور قيل لحذيفة ارايت قول الله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال حذيفة أما أنهم لم يصلوا لهم
ولكنهم كانوا ما أحلوا لهم من حرام استحلوه وما حرموا عليهم من حلال حرموه فتلك ربوبيتهم
وحكى عند الطبرى عند عدى مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم
وهو قول ابن عباس ايضا وأبى العالية(169/42)
فتأملوا يا اولى الألباب كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال من غير تحر للدليل الشرعى بل لمجرد العرض العاجل عافانا الله من ذلك بفضله
والعاشر راى أهل التحسين والتقبيح العقليين فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين بحيث إن الشرع إن وافق آرءهم قبلوه وإلا ردوه
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعى المطلوب شرعا ضلال وما توفيق إلا بالله وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره
ثم نقول إن هذا مذهب اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم على ذلك علما يقينا
الا ترى اصحاب السقيفة لما تنازعوا في الإمارة - حتى قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأن الأئمة من قريش اذعنوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبأوا برأى من رأى غير ذلك لعلمهم بأن الحق هو المقدم على آراء الرجال
ولما اراد أبو بكر رضى الله عنه قتال مانعى الزكاة احتجوا عليه بالحديث المشهور فرد عليهم ما استدلوا به بغير ما استدلوا به وذلك قوله إلا بحقها فقال الزكاة حق المال - ثم قال والله لو منعونى عقالا أو عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه
فتأملوا هذا المعنى فإن فيه نكتتين مما نحن فيه إحداهما أنه لم يجعل لأحد سبيلا إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجرى في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان بتأويل لان من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلا وفي هذا القسم وقع النزاع بين الصحابة لا فيمن ارتد رأسا
ولكن أبا بكر لم يعذر بالتاويل والجهل ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال والله لو منعونى عقالا إلى آخره(169/43)
مع ان الذين اشاروا عليه بترك قتالهم إنما اشاروا عليه بأمر مصلحى ظاهر تعضده مسائل شرعية وقواعد أصولية لكن الدليل الشرعى الصريح كان عنده ظاهرا فلم تقو عنده آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر فالتزمه ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديما للحاكم الحق وهو الشرع
والثانية أن أبا بكر رضى الله عنه لم يلتفت إلى ما يلقى هو والمسلمون في طرق طلب إذ لما امتنعوا صار مظنة للقتال وهلاك من شاء الله من الفرقتين ودخول المشقة على المسلمين في الأنفس والأموال والأولاد ولكنه رضى الله عنه لم يعبتر إلا إقامة الملة على حسب ما كانت قبل فكان ذلك اصلا في انه لا يعبتر العوارض الطارئة في إقامة الدين وشعائر الإسلام نظير ما قال الله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
وإن خفتم عيله فسوف يغنيكم الله من فضله الآية
فإن الله لم يعذرهم في ترك منع المشركين خوف العيلة فكذلك لم يعد أبو بكر ما يلقى المسلمون من المشقة عذرا يترك به المطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت في زمان النبى صلى الله عليه وسلم
وجاء في القصة ان الصحابة اشاروا عليه برد البعث الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع أسامة بن زيد - ولم يكونوا بعد مضوا لوجهتهم - ليكونوا معه عونا على قتال أهل الردة فأبى من ذلك وقال ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فوقف مع شرع الله ولم يحكم غيره
وعن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه قال إنى أخاف على أمتى من بعدى من أعمال ثلاثة
قالوا وما هي يا رسول الله قال اخاف عليكم من زلة العالم ومن حكم حائر ومن هوى متبع
وإنما زلة العالم بأن يخرج عن طريق الشرع فإذا كان ممن يخرج عنه فكيف يجعل حجة علىالشرع هذا مضاد لذلك(169/44)
ولقد كان كافيا من ذلك خطاب الله لنبيه واصحابه فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول الآية مع أنه قال تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وقوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الآية ولذلك قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنه كان يقول أغد عالما أو متعلما
ولا تعد إمعة فيما بين ذلك
قال ابن وهب فسالت سفيان عن الإمعة فقال
الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال
وعن كميل بن زياد أن عليا رضى الله عنه قال يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق - الحديث إلى أن قال فيه اف لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه باول عارض من شبهة لا يدى أين الحق إن قال أخطأ وإن أخطا لم يدر مشغوف بما لا يدرى حقيقته فهو فتنة لمن فتن به وإن من الخير كله فاعر الله دينه وكفى أن لا يعرف دينه
وعن على رضى الله عنه قال إياكم والاستنان بالرجال فغن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار فيموت وهو من اهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء - واشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
واصحابه الكرام وهو جار في كل زمان يعدم فيه المجتهدون
وعن ابن مسعود رضى الله عنه ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر
وهذا الكلام من ابن مسعود بين مراد ما تقدم ذكره من كلام السلف وهو النهى عن اتباع السلف من غير التفات إلى غير ذلك(169/45)
وفي الصحيح عن ابى وائل قال جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال جلس إلى عمر في مجلسك هذا قال هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت ما أنت بفاعل
قال لم قلت لم يفعله صاحباك
قال هما المرآن اهتدى بهم يعنى النبى صلى الله عليه وسلم
وأبا بكر رضى الله عنه
وعن ابن عباس رضى الله عنهما في حديث عيينة بن حصن حين استؤذن له على عمر قال فيه فلما دخل قال يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه فقال الحر بن قيس يا أمير المؤمنين إن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله
وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلاة والسلام فاما المؤمن - أو المسلم - فيقول محمد جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا فيقال نم صالحا قد علمنا أنك موقن
وأما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدرى سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
وحديث مخاصمة على والعباس عمر في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقوله للرهط الحاضرين هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لا نورث ما تركناه صدقة فأقروا بذلك - إلى ان قال لعلي والعباس افتلتمسان منى قضاء غير ذلك فوالله الذي باذنه تقوم السماء والأرض لا اقضى فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة - إلى آخر الحديث
وترجم البخارى في هذا المعنى ترجمة تقتضى أن حكم الشارع إذا وقع وظهر فلا خيرة للرجال ولا اعتبار بهم وأن المشاورة إنما تكون قبل التبيين
فقال
باب قول الله تعالى وأمرهم شورى بينهم وشاورهم في الأمر وأن المشاروة قبل العزم والتبيين لقوله تعالى فإذا عزمت فتوكل على الله فإذا عزم الرسول الله لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله وشاور النبى صلى الله عليه وسلم(169/46)
أصحابه يوم أحد في المقام والخروج فرأوا له الخروج فلما لبس لامته قالوا أقم فلم يمل إليهم بعد العزم وقال لا ينبغى لنبى يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله وشاور عليا واسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة رضى
الله عنها فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن حكم بما أمره الله وكانت الأئمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم
يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمرو المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وقع في الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم
ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمرت أن قاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم تابعه بعد عمر
فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثابتا في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبى صلى الله عليه وسلم
من بدل دينه فاقتلوه وكان القراء اصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا وكان وقافا عند كتاب الله
هذ جملة ما قال في جملة تلك الترجمة مما يليق بهذا الموضع مما يلد على أن الصحابة لم يأخذوا أقوال الرجال في طريق الحق إلا من حيث هم وسائل للتوصل إلى شرع الله لا من حيث هم اصحاب رتب أو كذا أو كذا وهو ما تقدم
وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينارعن ابن القاسم عن مالك انه قال ليس كل ما قال رجل قولا وإن ان له فضل يتبع عليه لقول الله عز وجل الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه
فصل
إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه
انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى
هذا ما جاء في آخر النسخة المخطوطة التي وجدت في مكتبة الشنقيطى(169/47)
وقد تم نسخها في 25 المحرم سنة 1295 من هجرة النبى - صلى الله عليه وسلم -
واعتبروا بمعان شرعية ترجع في التحصيل إلى الكتاب والسنة وإن لم يكن ذلك بالنص فإنه بالمعنى
فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أتم الوجوه
وننتقل منه إلى معنى آخر وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرءا عن الاختلاف والتضاد ليحصل فيه كمال التدبر والاعتبار فقال سبحانه وتعالى أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فدل معنى الآية على أنه برىء من الاختلاف فهو يصدق بعضه بعضا ويعضد بعضه بعضا من جهة اللفظ ومن جهة المعنى
فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه متواترة مطردة بخلاف كلام المخلوق
فإنك تراه إلى الاختلاف ما هو فيأتى بالفصل من الكلام الجزل الفصيح فلا يكاد يختمه إلا وقد عرض له في أثنائه ما نقص من منصب فصاحته وهكذا تجد القصيدة الواحدة منها ما يكون على نسق الفصاحة اللائقة ومنها ما لا يكون كذلك
وأما جهة المعنى فإن معانى القرآن على كثرتها أو على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على حفظ وبلوغ غاية في إيصالها إلى غايتها من غير إخلال بشىء منها ولا تضاد ولا تعارض على وجه لا سبيل إلى البشر أن يدانوه ولذلك لما سمعته أهل البلاغة الأولى والفصاحة الاصلية - وهم العرب - لم يعارضوه ولم يغيروا في وجه إعجازه بشىء مما نفى الله تعالى عنه وهم أحرص ما كانوا على الاعتراض فيه والغض من جانبه ثم لما اسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا في غرائبه لم يزدهم البحث إلا بصيرة في أنه لا أختلاف فيه ولا تعارض والذي نقل من ذلك يسير توقفوا فيه توقف المسترشد حتى يرشدوا إلى وجه الصواب أو توقف المتثبت في الطريق.(169/48)
كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
الإمام محمد بن عبدالوهاب
الفهرس
وقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1) وقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (2) الآية. وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (3) الآية. وقوله: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) (4) الآية. وقوله: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) (5) الآيات.…6
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وقول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) (13) الآية.…7
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب وقول الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (14). وقال: (وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) (15).…7
باب الخوف من الشرك وقول الله عز وجل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) (16)…7
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله وقوله الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (19) الآية.…7(170/1)
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)(20) الآيه وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) (21) الآية. وقوله: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ)(22) الآية. وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ) (23) الآية.…7
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه وقول الله تعالى: (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)(27) الآية.…7
باب ما جاء في الرقي والتمائم…7
باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما وقول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (29) الآيات.…7
باب ما جاء في الذبح لغير الله وقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ) (32) الآية، وقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (33).…7
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله وقول الله تعالى: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) (34) الآية.…7
باب من الشرك النذر لغير الله وقول الله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (36) وقوله: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ) (37).…7
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وقول الله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (38).…7(170/2)
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره وقوله تعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) (39) الآية. وقوله: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ)(40) الآية. وقوله: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ) (41) الآيتان. وقوله: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (43).…7
باب قول الله تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا) (45) الآية. وقوله: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ) (46) الآية.…7
باب قول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ )(51).…7
باب الشفاعة وقول الله تعالى: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ)(53) وقوله: (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (54) وقوله: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)(55) وقوله: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) (56) وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ )(57) الآيتين.…7
باب قول الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (59) الآية.…7(170/3)
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين وقول الله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) (64).…7
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده…7
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله…7
باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك وقول الله تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم) (67) الآية.…7
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان وقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) (68) وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )(69) وقوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)(70).…7
باب ما جاء في السحر…7
باب بيان شيء من أنواع السحر…7
باب ما جاء في الكهان ونحوهم…7
باب ما جاء في النشرة…7
باب ما جاء في التطير وقول الله تعالى: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (73) .وقوله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (74).…7
باب ما جاء في التنجيم…7
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء وقول الله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (75) .…7(170/4)
باب قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ)(78) الآية. وقوله: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ). إلى قول تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) (79) الآية.…7
باب قول الله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(81). وقوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ)(82) الآية.وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) (83) الآية.…7
باب قول الله تعالى: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (84) . وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (85) الآية وقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (86) وقوله (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (87) .…7
باب قول الله تعالى: (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (90) وقوله: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) (91).…7
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله وقول الله تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (92).…7
باب ما جاء في الرياء وقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (93) الآية.…7(170/5)
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا وقول الله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)(94) الآيتين.…7
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله…7
باب قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) (97) الآيات. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (98) وقوله: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا )(99) الآية. وقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)(100) الآية.…7
باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات وقول الله تعالى: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (105) الآية.…7
باب قول الله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (107).…7
باب قول الله تعالى: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (108) .…7
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله…7
باب قول: ما شاء الله وشئت…7
باب من سب الدهر فقد آذى الله وقول الله تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)(109) الآية.…7
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه…7
باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك…7(170/6)
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول وقول الله تعالي: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (110) الآية.…7
باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)(111) الآية.…7
باب قول الله تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) (114) الآية.…7
باب قول الله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ) (117) الآية…7
باب لا يقال: السلام على الله…7
باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت…7
باب لا يقول: عبدي وأمتي…7
باب لا يرد من سأل الله…7
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة…7
باب ما جاء في الّلو وقول الله تعالى: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا) (118). وقوله: (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)(119) الآية.…7
باب النهي عن سب الريح…7
باب قول الله تعالى: (أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (1) الآية. وقوله: (وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) (120) الآية.…7
باب ما جاء في منكري القدر…7
باب ما جاء في المصورين…7
باب ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ) (121).…7
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقول الله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (122) الآية.…7
باب ما جاء في الإقسام على الله…7
باب لا يستشفع بالله على خلقه…7(170/7)
باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك…7
باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(123) الآية.…7
الحواشي…7
وقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1) وقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (2) الآية. وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (3) الآية. وقوله: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) (4) الآية. وقوله: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) (5) الآيات.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة فليقرأ قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) – إلى قوله – (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا..) (6) الآية.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟" فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله? ولا أنتم عابدون ما أعبد)(7).
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمَّت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.(170/8)
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت؛ ففيه معنى قوله: ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله000 ) (8) الآية.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبِد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف. وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: (لا تجعل مع الله إلهاً ءاخر فتقعد مذموماً مخذولاً)(9)؛ وختمها بقوله: (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً)(10)، ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) (11).
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) (12).
الثانية عشرة:التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله تعالى علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وقول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) (13) الآية.(170/9)
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). أخرجاه. ولهما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: يا موسى: قل لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله الله في كفة، مالت بهن لا إله الله) [رواه ابن حبان، والحاكم وصححه].
وللترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم؛ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية (82) التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: (لا إله إلا الله) وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسموات.
الحادية عشرة: أن لهن عماراً.
الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافاً للأشعرية.(170/10)
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: (على ما كان من العمل).
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب وقول الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (14). وقال: (وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) (15).(170/11)
عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدِغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: (أنت منهم) ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: (سبقك بها عكاشة).
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يكن من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه، عليه الصلاة والسلام.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.(170/12)
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: (أنت منهم) علم من أعلام النبوة.
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
باب الخوف من الشرك وقول الله عز وجل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) (16)
وقال الخليل عليه السلام: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) (17) وفي حديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، فسئل عنه فقال: (الرياء) وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) [رواه البخاري]. ولمسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار).
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة: قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) (18).
العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري.(170/13)
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله وقوله الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (19) الآية.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ـ وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله ـ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتى به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم). يدوكون: يخوضون.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه صلى الله عليه وسلم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: كونه تنزيهاً لله تعالى عن المسبة.
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.(170/14)
السادسة: وهي من أهمها – إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى: (أن يوحدوا الله)، معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: (لأعطين الراية) إلخ. علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: (على رسلك).
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: (أخبرهم بما يجب عليهم).
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله تعالى في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يده رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا.(170/15)
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)(20) الآيه وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) (21) الآية. وقوله: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ)(22) الآية. وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ) (23) الآية.
وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل).
وشرح هذا الترجمة: ما بعدها من الأبواب.
فيه أكبر المسائل وأهمها: وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة، وبيَّنَها بأمور واضحة.
منها: آية الإسراء، بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ومنها: آية براءة، بيَّن فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحداً، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لادعائهم إياهم.
ومنها قول الخليل (عليه السلام) للكفار: (إنني برآء مما تعبدون * إلا الذي فطرني) (24) فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) (25).
ومنها: آية البقرة: في الكفار الذين قال الله فيهم: (وما هم بخارجين من النار)(26) ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف لمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله؟!.(170/16)
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) وهذا من أعظم ما يبيِّن معنى (لا إله إلا الله) فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، وياله من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع.
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه وقول الله تعالى: (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)(27) الآية.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: (ما هذه)؟ قال: من الواهنة. فقال: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبداً) رواه أحمد بسند لا بأس به. وله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك). ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (28).
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر(3).
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر، لقوله: (لا تزيدك إلا وهناً).
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وكل إليه.
السابعة : التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.(170/17)
الثامنة : أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر بن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة، أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له، أي لا ترك الله له.
باب ما جاء في الرقي والتمائم
في (الصحيح) عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) [رواه أحمد وأبو داود]. وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه). [رواه أحمد والترمذي].
(التمائم): شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن، فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
و(الرقى): هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
و(التولة): شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع! لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمداً بريء منه).
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) [رواه وكيع]. وله عن إبراهيم (1) قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقي والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.(170/18)
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين، من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً.
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.
باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما وقول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (29) الآيات.
عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) (30) (لتركبن سنن من كان قبلكم). [رواه الترمذي وصححه].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: (الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم) فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا) (31).
التاسعة: أن نفي هذا معنى (لا إله إلا الله)، مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.(170/19)
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافاً لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية، لقوله (إنها السنن).
الثامنة عشرة: أن هذا عَلم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما (من ربك)؟ فواضح، وأما (من نبيك)؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما (ما دينك)؟ فمن قولهم: (اجعل لنا إلهاً) إلخ.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يُؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقولهم: ونحن حدثاء عهد بكفر.
باب ما جاء في الذبح لغير الله وقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ) (32) الآية، وقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (33).
عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن ووالديه. لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض) [رواه مسلم].(170/20)
وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب) قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما قرب قال: ليس عندي شيء أقرب قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة) [رواه أحمد].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير (إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي).
الثانية: تفسير (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدثاً وهو الرجل يحدث شيئاً يجب فيه حق لله فيلتجيء إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك في الأرض وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعيّن، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل، ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً لم يقل: (دخل النار في ذباب).
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك).
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله وقول الله تعالى: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) (34) الآية.(170/21)
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد)؟ قالوا: لا. قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم)؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) [رواه أبو داود، وإسنادها على شرطهما].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) (35).
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البيِّنة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
باب من الشرك النذر لغير الله وقول الله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (36) وقوله: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ) (37).
وفي (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وقول الله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (38).(170/22)
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) [رواه مسلم].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء استدلوا به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به مصلحة دنيوية من كف شر أو جلب نفع – لا يدل على أنه ليس من شرك.
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره وقوله تعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) (39) الآية. وقوله: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ)(40) الآية. وقوله: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ) (41) الآيتان. وقوله: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (43).
وروي الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل).
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: (ولا تدع من دون ا لله ما لا ينفعك ولا يضرك) (44)
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً.(170/23)
السابعة: تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: أن هذه الأمور سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله عز وجل.
باب قول الله تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا) (45) الآية. وقوله: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ) (46) الآية.(170/24)
وفي (الصحيح) عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: (كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم)؟ فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (47) وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: (اللهم العن فلاناً وفلاناً) بعدما يقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) فأنزل الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (47) الآية وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال: (يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار. منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (48).
السابعة: قوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (49) فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعنه المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(50).(170/25)
الثانية عشرة: جدّه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: (لا أغني عنك من الله شيئاً) حتى قال: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً) فإذا صرح صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس الآن ـ تبين له التوحيد وغربة الدين.
باب قول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ )(51).
وفي (الصحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ـ ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء).(170/26)
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة خوفاً من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجداً. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصاً من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: (رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (52).
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبريل هو الذي يجيبهم بعد ذلك بقوله: (قال كذا وكذا).
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل.
السابعة: أن يقول لأهل السماوات كلهم، لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً.
الثالثة عشرة: إرسال الشهب.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟!.
التاسعة عشرة: كونهم يلقي بعضهم إلى بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة.(170/27)
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي كانا خوفاً من الله عز وجل.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً.
باب الشفاعة وقول الله تعالى: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ)(53) وقوله: (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (54) وقوله: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)(55) وقوله: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) (56) وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ )(57) الآيتين.
قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (58) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفع.
وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.(170/28)
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يسجد، فإذا أذن الله له شفع.
السادسة: من أسعد الناس بها؟.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
باب قول الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (59) الآية.
وفي (الصحيح) عن ابن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: (يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله عز وجل(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ) (60) الآية. وأنزل الله في أبي طالب: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (61).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (62).
الثانية: تفسير قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ) (63) الآية.
الثالثة: وهي المسألة الكبرى – تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (قل: لا إله إلا الله) بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال للرجل: (قل لا إله إلا الله). فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جدّه صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.(170/29)
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك، لاستدلال أبي جهل بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين، لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم، اقتصروا عليها.
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين وقول الله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) (64).
وفي (الصحيح) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (65) قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت).
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) [أخرجاه].
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو).
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً.
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث على وجه الأرض أنه بشبهة الصالحين.(170/30)
الثالثة: أول شيء غيّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين، والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة: النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده(170/31)
في (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما عنها قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال ـ وهو كذلك ـ : ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، [أخرجاه].
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن ـ وهو في السياق ـ من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبْنَ مسجد، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجداً، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً). ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد) [رواه أبو حاتم في صحيحه].
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك.(170/32)
الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك. كيف بيّن لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده صلى الله عليه وسلم تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلّة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
روى مالك في (الموطأ): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى )(66) قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. [رواه أهل السنن].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
الثانية: تفسير العبادة.(170/33)
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: وهي من أهمها – معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية.
التاسعة: لعنه زَوَّارَات القبور.
العاشرة: لعنه من أسرجها.
باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك وقول الله تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم) (67) الآية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات.
وعن علي بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم). [رواه في المختارة].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة.
الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.
الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.(170/34)
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان وقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) (68) وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )(69) وقوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)(70).
عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن)؟ أخرجاه، ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضًا)، ورواه البرقاني في صحيحه، وزاد: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئة من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء.
الثانية: تفسير آية المائدة.(170/35)
الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع؟: هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟.
الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين.
السادسة: وهي المقصود بالترجمة – أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.
الثامنة: العجب العجاب خروج من يدّعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق وفيه أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال، وإخباره بأنه أعطي الكنزين، وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة، وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بإهلاك بعضهم بعضاً وسبي بعضهم بعضاً، وخوفه على أمته من الأئمة المضلين، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون من العقول.
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
باب ما جاء في السحر(170/36)
وقول الله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)(71) وقوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)(72).
قال عمر: (الجبت): السحر، (والطاغوت): الشيطان. وقال جابر: الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
وعن جندب مرفوعاً: (حد الساحر ضربه بالسيف) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.
وفي (صحيح البخاري) عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر.
وصح عن حفصة رضي الله عنها: أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت، وكذلك صح عن جندب. قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت، والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟
باب بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت).
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض والجبت، قال: الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، المسند منه.(170/37)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد) [رواه أبو داود] وإسناده صحيح.
وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل أنبئكم ما الغضة؟ هي النميمة، القالة بين الناس) [رواه مسلم]. ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً).
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: أن العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتىعرَّافاً فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود.
وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن (أبي هريرة من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود موقوفاً.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً: "ليس منا من تَطير أو تُطير له أو تَكهن أو تُكهن له أو سَحر أو سُحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه البراز بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: "ومن أتى.." الخ.(170/38)
قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقيل: هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
وقال ابن عباس –في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم -: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
فيه مسائل:
الأولى: …لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية: …التصريح بأنه كفر.
الثالثة: ذكر من تُكهن له.
الرابعة:…ذكر من تُطير له.
الخامسة:…ذكر من سحر له.
السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد.
السابعة:…ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
باب ما جاء في النشرة
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: "هي من عمل الشيطان" رواه أحمد بسند جيد. وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
وفي "البخاري" عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. أ.هـ.
وروى عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.
قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
إحداهما:…حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، ويبطل عمله عن المسحور.
والثاني:…النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز.…
فيه مسألتان:
الأولى:…النهي عن النشرة.
الثانية:…الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الأشكال.
باب ما جاء في التطير وقول الله تعالى: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (73) .وقوله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (74).(170/39)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر) أخرجاه. زاد مسلم: (ولا نوء، ولا غول).
ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل) قالوا: وما الفأل؟ قال: (الكلمة الطيبة).
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا(3) ، ولكن الله يذهبه بالتوكل" رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: (من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك) قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: (أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك).
وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك.
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ) (1) مع قوله: (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (2).
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصفر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقوله من وجده.
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. أ.هـ.(170/40)
وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء وقول الله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (75) .
عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب). رواه مسلم.
ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ ) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب). ولهما من حديث ابن عباس بمعناه وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (76) إلى قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (77).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع من أمر الجاهلية.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة.
الخامسة: قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) بسبب نزول النعمة.(170/41)
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: (لقد صدق نوء كذا وكذا).
التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها، لقوله: (أتدرون ماذا قال ربكم؟).
العاشرة: وعيد النائحة.
باب قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ)(78) الآية. وقوله: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ). إلى قول تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) (79) الآية.
عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) أخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى .. ) إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا. رواه بن جرير، وقال ابن عباس في قوله تعالى: ( وتقطعت بهم الأسباب ) (80) قال: المودة.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال.
الرابعة: أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.(170/42)
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) (80) .
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً.
العاشرة: الوعيد على من كانت الثمانية أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ نداً تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.
باب قول الله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(81). وقوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ)(82) الآية.وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) (83) الآية.
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: (إن من ضعف اليقين: أن ترضى الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على مالم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره).
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) رواه ابن حبان في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.(170/43)
باب قول الله تعالى: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (84) . وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (85) الآية وقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (86) وقوله (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (87) .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) (88). قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(89) رواه البخاري والنسائي.
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم في الشدائد.
باب قول الله تعالى: (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (90) وقوله: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) (91).
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر، فقال: ( الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله ).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.(170/44)
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله وقول الله تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (92).
قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت).
ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).
وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضي، ومن سخط فله السخط) حسنه الترمذي.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.
الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضي بالبلاء.
باب ما جاء في الرياء وقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (93) الآية.
عن أبي هريرة مرفوعاً: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). رواه مسلم.
وعن أبي سعيد مرفوعاً: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: (الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزيّن صلاته، لما يرى من نظر رجل). رواه أحمد.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.(170/45)
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب، أنه تعالى خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه.
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا وقول الله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)(94) الآيتين.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ).
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم: عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله (تعس وانتكس).
السادسة: قوله: (وإذا شيك فلا انتقش).
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله
وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!(170/46)
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (95) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) (96) الآية. فقلت له: إنا لسنا نعبدهم قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلّون ما حرم الله، فتحلونه؟) فقلت: بلى. قال فتلك: عبادتهم) رواه أحمد، والترمذي وحسنه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغيّر الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
باب قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) (97) الآيات. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (98) وقوله: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا )(99) الآية. وقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)(100) الآية.(170/47)
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح.
وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة؛ فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد ـ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ـ وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود ـ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة – فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) (101) الآية.
وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعببن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ) (102) .
الثالثة: تفسير آية الأعراف (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) (103) .
الرابعة: تفسير: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (104) .
الخامسة: ما قاله الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات وقول الله تعالى: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (105) الآية.
وفي صحيح البخاري قال علي: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟).(170/48)
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رأى رجلاً انتفض ـ لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات، استنكاراً لذلك ـ فقال: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه) انتهى.
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر: (الرحمن) أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (106) .
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك، وأنه هلك.
باب قول الله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (107).
قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي.
وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا.
وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا.
وقال أبو العباس – بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: (إن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر.. ) الحديث، وقد تقدم ـ وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به.
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جارٍ على ألسنة كثير.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.
باب قول الله تعالى: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (108) .(170/49)
قال ابن عباس في الآية: الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل؛ وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً هذا كله به شرك) رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً.
وعن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان) رواه أبو داود بسند صحيح.
وجاء عن إبراهيم النخعي، أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر بأنها تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقاً، فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ.
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض. ومن لم يرض فليس من الله)، رواه ابن ماجه بسند حسن.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.
الثالثة: وعيد من لم يرض
باب قول: ما شاء الله وشئت(170/50)
عن قتيلة، أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: (ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء ثم شئت) رواه النسائي وصححه.
وله أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: (أ جعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده).
ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. قال: (هل أخبرت بها أحداً؟) قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد؛ فإن طفيلاً رأى رؤيا، أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده).
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أ جعلتني لله نداً؟) فكيف بمن قال:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك . . . .
والبيتين بعده.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: (يمنعني كذا وكذا).
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.
السادسة: أنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام.
باب من سب الدهر فقد آذى الله وقول الله تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)(109) الآية.(170/51)
في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته أذى لله.
الثالثة: التأمل في قوله: (فإن الله هو الدهر).
الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه.
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله).
قال سفيان: مثل (شاهان شاه).
وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه). قوله (أخنع) يعني أوضع.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك.
الثانية: أن ما في معناه مثله، كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لإجلال الله سبحانه.
باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك
عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحكم، وإليه الحكم) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين فقال: (ما أحسن هذا فمالك من الولد؟) قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: (فمن أكبرهم؟) قلت: شريح، قال: (فأنت أبو شريح)، رواه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول وقول الله تعالي: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (110) الآية.(170/52)
عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة – دخل حديث بعضهم في بعض - : أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القرّاء ـ فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه – وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب – فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) ما يتلفت إليه وما يزيده عليه.
فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا فهو كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله.
الخامسة: أن من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل.
باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)(111) الآية.
قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي.
وقوله: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (112) قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف.(170/53)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر ـ شك إسحاق ـ فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً؛ فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئت ودع(170/54)
ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك) أخرجاه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)(113) .
الثالثة: ما معنى قوله: (أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)(113).
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
باب قول الله تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) (114) الآية.
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبَّد لغير الله؛ كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب.
وعن ابن عباس رضي الله عنه في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن ـ يخوفهما ـ سِّمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) (115) رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته. وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: ( لئن آتيتنا صالحاً ) (116) قال: أشفقا ألا يكون إنساناً، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبّد لغير الله.
الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة، والشرك في العبادة.
باب قول الله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ) (117) الآية(170/55)
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ): يشركون. وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها.
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.
باب لا يقال: السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير السلام.
الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله.
باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له).
ولمسلم: (وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.
الثالثة: قوله: (ليعزم المسألة).
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
باب لا يقول: عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضىء ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ.(170/56)
باب لا يرد من سأل الله
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى ترون أنكم قد كافأتموه). رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.
الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: (حتى ترون أنكم قد كافأتموه).
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.
باب ما جاء في الّلو وقول الله تعالى: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا) (118). وقوله: (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)(119) الآية.
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران.
الثانية: النهي الصريح عن قول: لو، إذا أصابك شيء.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك وهو العجز.
باب النهي عن سب الريح(170/57)
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به) صححه الترمذي.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح.
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.
باب قول الله تعالى: (أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (1) الآية. وقوله: (وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) (120) الآية.
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو الظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.(170/58)
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة……وإلا فإني لا إخالك ناجياً
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). رواه مسلم.
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: (يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) يا بني سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني).
وفي رواية لأحمد: (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة).
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار).(170/59)
وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: (لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما اصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار). قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيدبن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان به.
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار بأن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة.
السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل الشبهة، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
باب ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة). أخرجاه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله).
ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم).
ولهما عنه مرفوعاً: (من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ).
ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي عليّ: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).
فيه مسائل:(170/60)
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله لقوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: (فليخلقوا ذرة أو شعيرة).
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
باب ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ) (121).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب) أخرجاه.
عن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن).
وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته).
قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.(170/61)
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة، أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقول الله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (122) الآية.
عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: (اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فآيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري، أتصيب حكم الله فيهم أم لا) رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه، وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً.
الثالثة: قوله: (اغزوا بسم الله في سبيل الله).(170/62)
الرابعة: قوله: (قاتلوا من كفر بالله).
الخامسة: قوله: (استعن بالله وقاتلهم).
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا.
باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا اغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته.
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله (إن الرجل ليتكلم بالكلمة) الخ..
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
باب لا يستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! سبحان الله!) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) وذكر الحديث. رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليك.
الثانية: تغيره تغيراً عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله).
الرابعة: التنبيه على تفسير (سبحان الله).
الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء.
باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك(170/63)
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: (السيد الله تبارك وتعالى). قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً؛ فقال: (قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) رواه أبو داود بسند جيد.
وعن أنس رضي الله عنه، أن ناساً قالوا: يا رسول الله: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: (يا أيها الناس، قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل). رواه النسائي بسند جيد.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا.
الثالثة: قوله: (ولا يستجرينكم الشيطان) مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي).
باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(123) الآية.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (124) الآية.
وفي رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه.(170/64)
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: (يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون.
وروي عن ابن عباس، قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم).
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض).
وعن ابن مسعود قال: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم). أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمه عن عاصم عن زر عن عبدالله ورواه بنحوه عن المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟) قلنا: الله ورسوله أعلم قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم). أخرجه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(125) .(170/65)
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى، والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: ( كخردلة في كف أحدكم ).
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماوات.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشر: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشر: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشر: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشر: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشر: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشر: كثف كل سماء خمسمائة عام.
التاسعة عشر: أن البحر الذي فوق السماوات بين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة سنة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحواشي
سورة الذاريات، الآية: 56,
سورة النحل، الأية: 36.
سورة الإسراء، الآية: 23.
سورة النساء، الآية: 36.
سورة الأنعام، الآيات، 151 ـ 153.
سورة الأنعام، الآية: 153.
سورة الكافرون، الآيتان: 3 ، 5.
سورة البقرة، الآية: 256.
سورة الإسراء، الآية: 22.
سورة الإسراء، الآية: 39.
سورة النساء، الآية: 36.
سورة الأنعام، الآية: 82.
سورة النحل، الآية: 120.
سورة المؤمنون، الآية: 59.
سورة النساء، الآية: 48.
سورة إبراهيم، الآية: 35.
سورة إبراهيم، الآية: 36.
سورة يوسف، الآية: 108.
سورة الإسراء، الآية: 57.
سورة الزخرف، الآيتان: 26 ، 27.
سورة التوبة، الآية: 31.
سورة البقرة، الآية: 165.(170/66)
سورة الزخرف، الآيتان: 26 ، 27.
سورة الزخرف، الآية: 28.
سورة البقرة، الآية: 167.
سورة الزمر، الآية: 38.
سورة يوسف، الآية: 106.
من مجموعة التوحيد النجدية (ط مكة المكرمة 1391هـ): أكبر الكبائر.
في فتح المجيد (ص 133): هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي.
سورة النجم، الآية: 19.
سورة الأعراف، الآية: 138.
سورة الأعراف، الآية: 138.
سورة الأنعام، الآيتان: 162 ، 163.
سورة الكوثر، الآية: 2.
سورة التوبة، الآية: 108.
سورة الدهر، الآية: 7.
سورة البقرة، الآية: 270.
سورة الجن، الآية: 6.
سورة يونس، الآيتان: 106 ، 107.
سورة العنكبوت، الآية: 17.
سورة الأحقاف، الآيبة: 5.
سورة النمل، الآية: 62.
سورة يونس، الآية: 106.
سورة الأعراف، الآيتان: 191 ، 192.
سورة فاطر، الآية: 13.
سورة آل عمران، الآية: 128.
سورة الشعراء، الآية: 214.
سورة آل عمران، الآية: 128.
سورة الشعراء، الآية: 214.
سورة سبأ، الآية: 23.
سورة سبأ، الآية: 23.
سورة الأنعام، الآية: 51.
سورة الزمر، الآية: 44.
سورة البقرة، الآية: 255.
سورة النجم، الآية: 26.
سورة سبأ، الآية: 22.
سورة الأنبياء، الآية: 28.
سورة القصص، الآية: 56.
سورة التوبة، الآية: 113.
سورة النساء، الآية: 171.
سورة نوح، الآية: 23.
سورة النجم، الآية: 19.
سورة التوبة، الآية: 128.
سورة النساء، الآية: 51.
سورة المائدة، الآية: 60.
سورة الكهف، الآية: 21.
سورة البقرة، الآية: 102.
سورة النساء، الآية: 51.
بياض في الأصل. والساقطة منه اسم الصحابي، وهو أبو هريرة رضي الله عنه. أ هـ من التعليق على مجموعة التوحيد النجدية (ط مكة المكرمة 1391هـ) ص 35.
سورة الأعراف، الآية: 131.
سورة يسن، الآية: 19.(170/67)
في الحديث حذف يعرف بالقرينة، أي إلا ويقع في نفسه شيء من التأثير بحسب العادة والوراثة، ولكن الله يذهبه من قلب المؤمن لإيمانه بأن حركة الطير لا تأثير لها في سير المقادير. أ هـ من مجموعة التوحيد النجدية (ط مكة المكرمة 1391هـ) ص 37.
سورة الأعراف، الآية: 131.
سورة يسن، الآية: 19.
سورة الواقعة، الآية: 82.
سورة الواقعة، الآية: 75.
سورة الواقعة، الآية: 82.
سورة البقرة، الآية: 165.
سورة التوبة، الآية: 24.
سورة البقرة، الآية: 166.
سورة البقرة، الآية: 166.
سورة آل عمران، الآية: 175.
سورة التوبة، الآية: 18.
سورة العنكبوت، الآية: 10.
سورة المائدة، الآية: 23.
سورة الأنفال، الآية: 2.
سورة الأنفال، الآية: 64.
سورة الطلاق، الآية: 3.
سورة آل عمران، الآية: 173.
سورة الأعراف، الآية: 99.
سورة الحجر، الآية: 56.
سورة التغابن، الآية: 11.
سورة الكهف، الآية: 110.
سورة هود، الآيتان: 15 ، 16.
سورة النور، الآية: 63.
سورة التوبة، الآية: 31.
سورة النساء، الآية: 61.
سورة البقرة، الآية: 11.
سورة الأعراف، الآية: 56.
المائدة، الآية: 50.
سورة النساء، الآية: 60.
سورة البقرة، الآية: 11.
سورة الأعراف، الآية: 56.
سورة المائدة، الآية: 50.
سورة الرعد، الآية: 30.
سورة النحل، الآية: 83.
سورة البقرة، الآية: 22.
سورة الجاثية، الآية: 24.
سورة التوبة، الآية: 65.
سورة فصلت، الآية: 50.
سورة القصص، الآية: 78.
سورة فصلت، الآية: 50.
سورة القصص، الآية: 78.
سورة الأعراف، الآية: 190.
سورة الأعراف، الآية: 189.
سورة الأعراف، الآية: 180.
سورة آل عمران، الآية: 154.
سورة آل عمران، الآية: 168.
سورة آل عمران، الآية: 154.
سورة الفتح، الآية: 6.
سورة المائدة، الآية: 89.
سورة النحل، الآية: 91.
سورة الزمر، الآية: 67.
سورة الزمر، الآية: 67.(170/68)
كتاب حقيقة الصوفية في ضوء الكتاب والسنة / على الإنترنت
---
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخواني أهل السنة والجماعة أقدم لكم هذا الكتاب الذي قمت بكتابته لكي ينزل على الانترنت وأسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب: حقيقة الصوفية في ضوء الكتاب والسنة.
المؤلف: الدكتور محمد بن ربيع هادي المدخلي، المدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد فهذه محاضرة قمت بإلقائها على طلبة دار الحديث المكية عام 1401 هـ وهي بعنوان"حقيقة الصوفية في ضوء الكتاب والسنة".
وقد طلب مني بعض المخلصين طبعها ونشرها لتعم بها الفائدة فلبيت رغم ضيق الوقت لديّ ، وقد راعيت عند إعدادها مدارك الطلاب الذين ألقيت عليهم، فجاءت بحمد الله مبسطة مع شمولها لجوانب الموضوع.
وأسأل الله أن ينفع بها كل طالب للحق والله وراء المقصد .
المؤلف، مكة المكرمة في 6/3/1404هـ .
تمهيد:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى خلقنا في هذه الحياة لحكمة عظيمة يحبها ويرضاها ألا وهي عبادته وحده لا شريك له كما قال تعالى:?وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون?،[الذاريات:45].
وقد ميّز الله الإنسان من بين سائر المخلوقات بأن منحه العقل الذي يستطيع أن يعرف به ربه ويستطيع أن يميز بين ما ينفعه ويضره، ومن رحمته سبحانه بعباده لم يكلهم في معرفة الخير والشر إلى العقل وحده، بل أرسل الرسل وأنزل إليهم الكتب التي تشتمل على أوامر الله ونواهيه وأحكامه التي فيها سعادة البشر في الدنيا والآخرة .(171/1)
وبعد إرسال الرسل لا تبقى حجة أو عذر لضال أو زائغ عن طريق الله، بل يكون مستحقاً للعذاب، قال تعالى:?رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل?،[النساء:194].
وقد ختم الله الرسل بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو خاتم الرسل وأفضلهم . وقد أنزل عليه أفضل الكتب فكانت شريعته أكمل وأجمل الشرائع، ولم يلتحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حتى أكمل الله الدين وأتم النعمة كما قال تعالى في الآية التي أنزلت قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عرفة وهو بالموقف في حجة الوداع ?اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً?،[المائدة:4].فلم يبقى مجال لأحد كائنا من كان أن يبتدع في الدين شيئاً أو يزيد فيه أو ينقص منه. وكان أول ما دعا إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام هو التوحيد المتمثل في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وقد مكث في مكة بعد البعثة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى هذه الكلمة ولم يدع إلى شيء غيرها، وقد أطبقت الرسل على الدعوة إلى هذه الكلمة، فما منهم من أحد إلا افتتح دعوته لقومه بقوله: ?اعبدوا الله مالكم من إله غيره? فالتوحيد هو زبدة الرسالات وغايتها وقطب رحاها ترتكز كلها عليه وتستند في وجودها إليه ولنستشهد ببعض الآيات في ذلك:
قال الله تعالى: ?ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين?،[النحل:36].
وقال تعالى: ?لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم?،[الأعراف:59].
وقال تعالى: ?وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض?،[هود:61].وقال تعالى: ?وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره?،[هود:84].(171/2)
إلى غير ذلك من الآيات التي تنص على أن الدعوة إلى التوحيد هي أول ما يفاتح به الرسل قومهم لأن التوحيد هو أساس الإسلام الذي هو دين الرسل ولأنبياء جميعاً فإذا ثبت الأساس يبنى عليه غيره من العبادات والأحكام.
وليس معنى هذا أن يستهين الدعاة بفروع الإسلام الأخرى، ولكن من المتفق عليه أنه لا يصح عمل ولا يقبل ما لم تكن عقيدة صاحب هذا العمل مستقيمة وصحيحة.
كما انه لا يصح أن نبني داراً قبل أن نثبت الأساس الذي تبنى عليه، و إلا فإن البناء سرعان ما ينهار ويسقط؛ ويؤكد هذا أن الشرك: هو ضد التوحيد أعظم إثماً وجرماً مما سواه من الذنوب ولذلك أخبر الله تعالى أنه من مات على الشرك لا يغفر الله له.
قال تعالى: ?إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك ما يشاء?[النساء:116]. وكل ذنب يقترفه الإنسان دون الشرك بالله والكفر به هناك رجاء أن يغفره الله ويدخل صاحبه الجنة إذا كان سالماً من أوضار الشرك. أما من مات على الشرك بالله ولو كان يدعي الإسلام فمصيره المحتوم هو النار أجارنا الله وإياكم منها .
لذلك أيها الأخوة وأيها الدعاة يجب أن ننتبه لهذا الأمر الجليل فندعو الناس إلى التوحيد ونحذرهم من الشرك بالله ونجعل ذلك في رأس قائمة ما ندعو إليه.(171/3)
وحينما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمين ليدعوهم إلى الله علمه كيف يبدأ دعوته حيث أرشده إلى الأهم فالمهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له : إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا غله إلا الله – وفي رواية أن يوحدوا الله – فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله أفترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك و كرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب " – متفق عليه - .
والشاهد من الحديث هو إرشاده صلى اله عليه وسلم معاذاً كيفية الدعوة وأن يبدأ بالدعوة إلى التوحيد قبل كل شيء فمتى دخلوا في التوحيد يدعوهم إلى الشرائع الأخرى بادئاً بالصلاة التي هي رأس العبادات، فينبغي أن يكون لكل داعية في رسول الله أسوة حسنة .(171/4)
أيها الأخوة.. وإذا علم هذا فإن خناك دعوات هدامة قامت في صفوف المسلمين زعزعت العقيدة في قلوب كثير من المسلمين وعكرت صفاء العقيدة الإسلامية وتدرجت في مدارجها حتى بلغت مبلغاً خطيراً أدى إلى تفرق المسلمين إلى شيع وأحزاب حيث يصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة ". رواه أحمد وأبو داود وحسنه الحافظ ولا شك أن كل فرقة من هذه الفرق تزعم نفسها أنها هي الفرقة الناجية، وأنها على الصواب، وأنها تتبع الرسول دون غيرها، علماً بأن طريق الحق هو طريق واحد، وهو المؤدي إلى النجاة وما سواه فهي طرق ضلال تؤدي إلى الهلاك كما وردت في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " خط لنا رسول الله خطاً بيده: وقال هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمينه وشماله ثم قال هذه السبل ليس منها إلا سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ : ?وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله?-رواه مسلم-
فطريق الحق هو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفتهما كما ورد في الحديث:"تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض"-صحيح رواه الحاكم-
وقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء طائفة من أمته على الحق إلى يوم القيامة فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة"-رواه مسلم-.(171/5)
أيها الأخوة: كان ذلك تمهيداً للموضوع الذي سأتطرق إليه وهو: " الصوفية في ضوء الكتاب والسنة " ذلك لأن الصوفية قد لعبت دوراً كبيراً في حياة المسلمين منذ القرن الثالث الهجري إلى يومنا هذا وقد بلغت أوج مجدها في القرون المتأخرة. وقد أثرت تأثيراً بالغاً في عقائد المسلمين وغيرتها عن مسارها الصحيح الذي جاء به القرآن الكريم والسنة المطهرة وكان ذلك هو أخطر جانب من جوانب الصوفية حيث اقترن بالفكر الصوفي التعلق بالأولياء والمشايخ والمبالغة في تقديس الأموات كما اقترن بها القول بالحلول و وحدة الوجود، إضافة إلى ما أفسدت الصوفية من الجوانب الأخرى. حيث يتسم أتباعها بالتواكل والرهبنة كما أنها عطلت الروح الجهادية في الأمة الإسلامية إذ اشتغلوا عن الجهاد الإسلامي الذي هو القتال في سبيل الله –حيث يسمونه الجهاد الأصغر-مستندين إلى حديث" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس"
وهو حديث باطل مما أتاح للدول الاستعمارية الفرصة في القرنين الماضيين باحتلال أغلب ديار المسلمين ولا تزال الصوفية ضاربة أطنابها في جميع أرجاء بلاد المسلمين .
تعريف الصوفية:
لمَ سميت بهذا الاسم؟
إن كلمة الصوفية مأخوذة من كلمة يونانية "صوفيا" ومعناها الحكمة . وقيل إنه نسبة إلى لبس الصوف-وهذا هو المعنى الأقرب للصحة-لأن لبس الصوف كان علامة على الزهد. ويقال إن ذلك تشبهٌُ بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى(1) عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف فقال : إن قوما يتخذون الصوف يقولون إنهم يتشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدى نبينا أحب إلينا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يلبس القطن وغيره.
تاريخ ظهور الصوفية:
أما تاريخ ظهور الصوفية، فإن لفظ "الصوفية" لم يكن معروفا على عصر الصحابة بل لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة المفضلة. وإنما اشتهر بعد القرون الثلاثة الأول(2).(171/6)
ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أول ظهور الصوفية من البصرة بالعراق، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة ما لم يكن في سائر الأمصار(3).
ــــــــــــــ
1-الفتاوى 11/7.
2-الفتاوى 11/5.
3-الفتاوى 11/6.
كيف نشأت الصوفية:
وعند نشأة التصوف لم يكن هناك تميز كامل للمتصوفة بل كان الأمر مقتصراً على المبالغة في الزهد وملازمة الذكر والخوف الشديد عند الذكر الذي قد يؤدي إلى الإغماء أو الموت عند سماع آية وعيد كقصة زرارة بن اوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر?فإذا نقر في الناقور? فخرّ ميتاً.
وقصة أبي جهر الأعمى الذي قرأ عليه صالح المرى فمات . وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن.يقول شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على ذلك: "ولم يكن الصحابة من هذا الحال . فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين.. لأنهم رأوا ذلك بدعة مخالفاً لما عرف من هدي الصحابة"(1).
ويقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس:
"والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلي ثم ترخص المنتسبون إليه بالسماع والرقص. فمال إليهم طلاب الآخرة من العوام لما يظهرونه من التزهد ومال إليهم طلاب الدنيا لما يرون عندهم من الراحة واللعب"(2).
ويقول الشيخ أبو زهرة رحمه الله في بيان سبب ظهور التصوف والينابيع التي استقى منها: "نشأ التصوف من ينبوعين مختلفين تلاقيا:
1. "الينبوع الأول: هو انصراف بعض العباد المسلمين إلى الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة وقد ابتدأ ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فكان من الصحابة من اعتزم أن يقوم الليل مجتهداً ولا ينام، ومنهم من يصوم ولا يفطر.
ومنهم من ينقطع عن النساء. فلما بلغ أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: مابال أقوام يقولون كذا وكذا. لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني .-متفق عليه-(171/7)
ولقد نهى القرآن عن بدعة الرهبنة فقال:?ورهبانية ابتدعوها?[الحديد:27] ؛ ولكن بعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ودخل الإسلام ناس كثيرون من أهل الديانات السابقة.. كثر الزهاد الذين غالوا في الزهادة في الدنيا ونعيمها.. وفي وسط تلك النفوس وجد التصوف مكانه غذ وجد أرضاً خصبة.
2. والينبوع الثاني: الذي وجه النفوس هو ما سرى إلى المسلمين من فكرتين إحداهما فلسفية والأخرى من الديانات القديمة، وهما:
الفكرة الأولى: فهي فكرة الإشراقيين من الفلاسفة وهم الذين يرون أن المعرفة تقذف في النفس بالرياضة الروحية والتهذيب النفسي.
والفكرة الثانية: فكرة الحلول الإلهي في النفوس الإنسانية أو حلول اللاهوت في الناسوت وتلك الفكرة قد ابتدأت تدخل في الطوائف التي كانت تنتمي كذباً إلى الإسلام في الصدر الأول عندما اختلط المسلمون في النصارى، وقد ظهرت تلك الفكرة في السبئية وبعض الكيسانية ثم القرامطة ثم في بعض الباطينة ثم ظهرت في لونها الأخير في بعض الصوفية".
"وهناك معين آخر أخذت منه فيما يظهر النزعات الصوفية وهو كون النصوص والأحكام-أي نصوص الكتاب والسنة-لها ظاهر وباطن... ويظهر أن المتصوفة قد استفادوا واستعاروا ذلك التفكير من الباطنية..."(3).
وهكذا اختلطت تلك المنازع كلها من مغالاة في الزهد إلى فتح الباب لأفكار الحلول ثم وحدة الوجود، ثم كان من إختلاطها ذلك التصوف الذي ظهر في الإسلام واشتد في القرن الرابع والخامس، ثم بلغ أقصى مداه فيما بعد ذلك، بعيداً كل البعد عن هدى القرآن الكريم والسنة المطهرة حتى بلغ أن المتصوفة يسمون من يتبع القرآن والسمة أهل الشريعة وأهل الظاهر ويسمون أنفسهم أهل الحقيقة وأهل الباطن .
مذاهب الصوفية:
يمكن تقسيم الغلاة من الصوفية إلى ثلاثة أقسام:
1. القسم الأول : أهل المذهب الإشراقي:(171/8)
وهو الذي غلبت فيه الناحية الفلسفية على ما عداها مع الزهد، والمقصود بالمذهب الإشراقي، الإشراق النفسي الذي يفيض في القلب بالنور، والذي يكون نتيجة للتربية النفسية والرياضة الروحية وتعذيب الجسم لتنقية الروح وتصفيتها ومكن أن تكون هذه الصفة يشترك فيها جميع الصوفية وأهل هذا القسم توقفوا عند هذا الحد ولم يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من القائلين بالحلول ووحدة الوجود ولكن هذا الأسلوب مخالف لتعاليم الإسلام وهو مأخوذ من الديانات المنحرفة كالبوذية وغيرها .
2. المذهب الثاني: مذهب الحلول:
وهم القائلون بأن الله يحل في الإنسان-تعالى الله عن ذلك- وقد نادى بعض الغلاة من الصوفية كالحسين بن منصور الحلاج الذي أفتى العلماء بكفره وقتله. وقد قتل وصلب سنة309 هـ وقد نُسب إليه قوله:
ــــــــــــــ
1-الفتاوى 11/6.
2-تلبيس إبليس ص 161.
3-كتاب "ابن تيمية" لأبي زهرة ص 197-198.
سبحان من أظهر ناسوته *** سِرَّسنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراً *** في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه *** كلحظة الحاجب بالحاجب(1)
وقوله:
أنا من أهوى ومن أهوى*** أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته*** وإذا أبصرته أبصرتنا
فالحلاج حلولي يؤمن بثنائية الحقيقة الإلهية، فيزعم أن الإله له طبيعتان: هما اللاهوت والناسوت. وقد حل اللاهوت في الناسوت فروح الإنسان هي لاهوت الحقيقة الإلهية وبدنه ناسوته.
ورغم أنه قتل لزندقته فقد تبرأ منه بعض الصوفية وأما بعضهم فقد عدوه من الصوفية وصححوا له حاله ودونوا كلامه ومنهم أبو العباس بن عطاء البغدادي ومحمد بن خفيف الشيرازي وإبراهيم النصراباذي(2) كما نقل ذلك الخطيب البغدادي.
3. المذهب الثالث: القول بوحدة الوجود:(171/9)
وهو يقرر أن الموجود واحد في الحقيقة وكل ما نراه ليس إلا تعينات للذات الإلهية وزعيم هذه الطائفة ابن عربي الحاتمي الطائي المدفون بدمشق والمتوفى سنة 638 هـ ويقول في ذلك في كتابه الفتوحات المكية:
العبد رب والرب عبد*** يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك حق*** أو قلت رب أنّى يكلف(3)
ويقول أيضاً في الفتوحات:
"إن الذين عبدوا العجل ما عبدوا غير الله" (4) .
وابن عربي هذا يلقبه الصوفية بالعارف بالله، والقطب الأكبر، والمسك الأذفر، والكبريت الأحمر، مع قوله بوحدة الوجود وغيرها من الطامات، فإنه يمدح فرعون ويحكم بأنه مات على الإيمان. ويذم هارون على إنكاره على قومه عبادة العجل مخالفاً بذلك نص القرآن، ويرى أن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا عيسى بألوهية ولو عمموا لما كفروا(5).
ومن هذه الطائفة ابن بشيش الذي يقول: اللهم انشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في بحر الوحدة وزج بي في الأحدية حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس إلا بها .
تقديس المشايخ عند الصوفية:
فهذه أيها الأخوة مذاهب الصوفية أبسطها الرهبانية التي نهى عنها الإسلام وأفظعها القول بالحلول ووحدة الوجود وقد بالغت جميع الطوائف الصوفية في تقديس المشايخ وإذلال التلميذ المسمى-المريد-لشيخه، فيكون المريد مطيعاً لشيخه طاعة مطلقة لا اعتراض فيها حتى يكون في يد الشيخ كالميت في يد الغاسل .
ويقول محمد عثمان الصوفي صاحب الهبات المقتبسة عند ذكر آداب المريد: " ومنها أن تجلس جلوس الصلاة عنده، وأن تفنى فيه، وألا تجلس فوق سجادته وألا تتوضأ بإبريقه ولا تتكئ على عكازته واسمع إلى ما قال بعض الأصفياء: من قال لشيخه لِمَ ؟ لَمْ يفلح !! .
وقد نظمها مصطفى البكري في " بُلغة المريد " بقوله:
وسلم الأمر له لا تعترض *** ولو بعصيان أتى إذا فرض
وكن لديه مثل ميت فانى *** لدى مغسل لتمس دانى
ولا تطأ له على سجادة *** ولا تنم له على وسادة(6)(171/10)
ففرضت الصوفية على التلميذ أن يكون مستعبد الفكر والبدن لشيخه سليب الإدارة كجثة الميت في يد الغاسل حتى لو رآه يرتكب معصية أو مخالفة فلا يجوز له حتى الاستفسار عن سبب و إلا طر من رحمة شيخه ولم يفلح وهذا من أسباب انحراف الصوفية لأنهم قد ألغوا النهي عن المنكر حتى أصبح المنكر معروفاً عندهم بل قربة وكرامة.
ــــــــــــــ
1-الطواسين للحلاج ص 130.
2-تاريخ بغداد:8/112.
3-الفتوحات المكية، ص43.
4-عزاه ابن تيمية في الفتاوى جـ 11 إلى الفتوحات لابن عربي، وانظر تنبيه الغبي للبقاعي ص124-127.
5-مع كل ضلالات ابن عربي وتكفير ابن عربي له فهو لا يزال مقدساً عند الصوفية وغيرهم من الناس الذين لا يميزون بين الحق و الباطل، والمعرضين عن قبول الحق مع وضوحه كالشمس، ولا تزال كتبه المليئة بالزندقة كالفتوحات المكية وفصوص الحكم متداولة وله تفسير في القرآن سماه "تفسير الباطن"، لأن كل آية عنده ظاهراً وباطناً، فظاهرها لأهل التفسير وباطنها لأهل التأويل. أنظر مقدمته للتفسير المذكور طبع بيروت.
6-عزاه الوكيل إلى بلغة المريد.
أما تعاليم الإسلام الصحيحة فإنه لا تجوز الطاعة في المعصية كما قال صلى الله عليه وسلم " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " – صحيح رواه أحمد – وحتى الوالدين اللذين لهما حق أكبر من كل أحد لا يجوز طاعتهما في معصية الله كما قال تعالى: ?وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا? [لقمان:15].
الفرق بين الزهد والتصوف:
أيها الأخوة: إن دين الإسلام يأمر بالاعتدال والتوسط في كل شيء فلا إفراط ولا تفريط والإسلام بالنسبة للزهد في الدنيا وسط بين جشع اليهود وإفراطهم في حب الدنيا وبين أهل الرهبانية من النصارى الذين فرطوا في الأخذ بالأسباب وقعدوا عن العمل والاكتساب.(171/11)
والزهد إذا كان في حدود الإتباع فهو ممدوح في الإسلام ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أول الزاهدين في متاع الدنيا وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وكثير من الصحابة.
ولم يكن زهدهم إهمال الكسب والعكوف في الأربطة لانتظار ما يجود به عليهم الناس بل كانت الدنيا تأتيهم فينفقونها في وجوه الخير ولم يكونوا يتركون الطيبات إلا حينما تتعذر عليهم، فإذا وجدت تمتعوا بها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب النساء والطيب ويأكل اللحم ويصوم ويفطر، ويقوم، وينام، ويعمل، ويجاهد، ويحكم بين المسلمين ويعلمهم القرآن والخير.
ووجد في الأئمة زهاد على الطريقة التي كان عليها، رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الزهد الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ليس واجباً على المسلمين بدليل أنه لم يرد في القرآن ولا في السنة الأمر به، وبدليل أن الصحابة فيهم من كان يشتغل بالتجارة ويجمع المال الكثير كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وكان الأنصار لهم بساتين يشتغلون بها فلم يمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بل ورد في الحديث " نعم المال الصالح للعبد الصالح " – رواه أحمد - .
ودعا صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس بن مالك وكان في آخر دعائه " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له " – صحيح البخاري كتاب الدعوات، رقم(6344) – .
وأما زهد الصوفية... فهو ترك التكسب من الحلال والعمل النافع والعكوف في الأربطة لانتظار ما يجود به الناس أو التكفف والاستجداء أو غشيان الحكام والتجار والتدجيل عليهم... ومدحهم لينالوا من فتات موائدهم.
وكذلك التكلف في الظهور بمظهر الفاقة في ملابسهم بلبس المرقعات البالية إظهاراً للتزهد والصلاح والولاية.(171/12)
وبعضهم قد يكون صادقاً في تقشفه فيمكث الأيام الكثيرة لا يأكل أو يأكل الخبز الناشف بالملح وهو قادر على أن يأكل من الطيبات. مخالفاً لسنته صلى الله عليه وسلم وقد قال: " فمن رغب عن سنتي فليس مني " – متفق عليه - ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم ويحب الذراع من الشاة . وبعض الصوفية يبالغ فيما يضره فقد يأكل بعضهم الرماد والتراب ويتعمد شرب الماء العكر ويتجنب الماء الصافي والبارد بحجة أنه لا يستطيع أن يؤدي شكره.
وهذه حجة واهية، فهل إذا ترك الماء البارد يكون قد أدى الشكر لله على بقية النعم، كالبصر والسمع والصحة وغير ذلك ؟ بل من يفعل ذلك فهو آثم لأنه فعل ما يضر بجسمه ويؤدي به إلى الهلاك والله تعالى يقول: ?ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً?، وقال تعالى: ?يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر?، وقد أباح للمسلم أن يفطر في رمضان إذا كان مسافراً أو مريضاً رحمة بنا فلله الحمد والمنة.
وقد كان التقشف المشار إليه في أوائل المتصوفة أما المتأخرون فصارت همتهم المأكل والمشرب يقول ابن الجوزي في تلبيس إبليس بعد أن انتقد الصوفية في تقشفهم وخروجهم عن الاعتدال في الزهد إلى حد تعذيب أنفسهم ثم قال:"وهذا الذي نهينا عنه من التقلل الزائد في الحد قد انعكس في صوفية زماننا –أي في القرن السادس- فصارت همتهم في المأكل كما كانت همة متقدميهم في الجوع، لهم الغداء والعشاء والحلوى وكل ذلك أو أكثره حاصل من أموال وسخة، وقد تركوا الكسب في الدنيا وأعرضوا عن التعبد وافترشوا فراش البطالة فلا همة لأكثرهم إلا الأكل والشرب واللعب".
وما حكاه ابن الجوزي هو حال صوفية زماننا، بل زادوا عليه أضعافاً. أيها الأخوة... ولا يتسع المجال لذكر وقائع من أفعال الصوفية في ذلك .
نماذج من شطحات غلاة الصوفية:(171/13)
أيها الأخوة: ليس القصد من بيان حال الصوفية الشماتة أو التندر، بل المقصود تحذير كل مسلم من الاغترار بشيء من ترهاتهم أو الانخداع بحيلهم ومغالطاتهم.
وقد صنف علمائنا قديما وحديثا الكتب للرد على ضلالات الصوفية ومن ذلك كتاب تلبيس إبليس للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي المتوفى سنة 597 وقد خصص منه زهاء ثلاثمائة صفحة لنقد مسالك الصوفية في عقائدهم وعاداتهم وملابسهم وترخصهم في السماع والأغاني والرقص ومصاحبتهم الأحداث والمردان وغير ذلك .
وكذلك اعتنى بالرد عليهم بل وأعلن حربه عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد تعرض على أيديهم للأذى والسجن حتى مات في السجن رحمه الله، وألف العلامة برهان الدين البقاعي المتوفى سنة 885 كتابين في الرد على المتصوفة وهما:
1. تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي .
2. تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد .
وهما مطبوعان ضمن كتاب واحد بتحقيق الشيخ عبد الرحمن الوكيل -رحمه الله- وسماه "مصرع التصوف" .
وقد نقل البقاعي أقوال العلماء في تكفير ابن عربي وابن الفارض كما استشهد بأقوالهم وأشعارهم التي كفرهما العلماء بسببها .
أيها الأخوة:يقول العلامة برهان الدين البقاعي في بيان عقيدة ابن عربي في أول كتابه "تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي" : "ينبغي أن يعلم أولاً أن كلامه-أي ابن عربي-دائر على الوحدة المطلقة وهي أنه لا شيء سوى هذا العالم. وأن الإله أمر كلى لا وجود له إلا في ضمن جزئياته" .
واستمعوا إلى قول ابن عربي في معنى اسم الله تعالى (العلي) على من ؟ وما ثم إلا هو!! فهو العلي لذاته أو عن ماذا ؟ وما هو إلا هو، فعلوّه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات...إلى أن قال عن الله: "فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من يبطن عنه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز"!!
"وغير ذلك من أسماء المحدثات"(1)(171/14)
فكل شيء عند ابن عربي هو الله، وصرح بأن الله هو أبو سعيد الخراز وأبو سعيد الخراز صوفي من بغداد توفى سنة 277 هـ .
أليس هذا الكلام أيها الأخوة أعظم من قول النصارى في الله ؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
قال الإمام زين الدين العراقي في جواب من سأله عن حال ابن عربي: "وأما قوله فهو عين ما ظهر وعين ما بطن فهو كلام مسموم في ظاهره القول بالوحدة المطلقة وأن جميع مخلوقاته هي عينه ويدل على إرادته لذلك صريحاً قوله بعد ذلك ؟ " وهو المسمى أبا سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات...وقائل ذلك والمعتقد له كافر بإجماع العلماء.(2)
وحدة الأديان عند ابن عربي:
وابن عربي يقر جميع المشركين والوثنيين أنهم على حق لأن الله كل شيء فمن عبد صنماً أو عبد حجراً أو شجراً أو إنساناً أو كوكباً فقد عبد الله، فيقول في ذلك:
"والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه ولذلك سموه كلهم إلهاً مع اسمه الخاص بحجر، أو شجر، أو حيوان، أو إنسان، أو كوكب أو ملك"(3). فابن عربي يصوب عبادتهم لأن كل ما عبدوه ليس إلا رباً تجلى في صورة إنسان أو شجر أو حجر .
أيها الأخوة: فإذا كفرت الصابئة لأنهم عبدوا الكواكب وكفرت اليهود لأنهم عبدوا العجل وكفرت النصارى لأنهم عبدوا عيسى وكفرت قريش قبل الإسلام لعبادتهم الأصنام. فكيف لا يكفر من يدعو إلى عبادة كل هذه الأشياء(4)؟ .
ويعترف ابن عربي بإيمانه بوحدة الأديان وأن قلبه يتسع لكل ملة ودين فيقول في كتابه ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي*** إذا لم يكن ديني إلى دينه دانى
لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ*** فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائفٍ*** وألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت*** ركائبه فالدين ديني و إيماني(5)(171/15)
ويحذر ابن عربي أتباعه أن يؤمنوا بدين خاص ويكفروا بما سواه فيقول في الفصوص: " فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى-أي قابلا لصور المعتقدات كلها- فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فالكل مصيب وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضى عنه(6).
ولذلك فابن عربي يحكم بنجاة فرعون موسى ويقول معقباً على قوله تعالى: ? قرة عين لي ولك? : " فيه قرت عينها-أي امرأة فرعون- بالكمال الذي حصل لها، وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق فقبضه طاهراً مطهّرا ليس فيه شيء من الخبث "(7) فهو يحكم لفرعون بالإيمان مخالفاً لنص القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ?فأخذه الله نكال الآخرة والأولى?.
ويقول عبد الكريم الجيلي المتوفى سنة 830 هـ مبيناً عقيدته بوحدة الأديان وذلك في كتابه الإنسان الكامل:
وأسلمت نفسي حيث أسلمني الهوى*** ومالي عن حكم الحبيب تنازع
فطوراً تراني في المساجد راكعاً*** و إني طورا في الكنائس راتع
إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً*** فإنّي في علم الحقيقة طائع(8)
ــــــــــــــ
1-رواه البقاعي ص 63-64 ، وعزاه الوكيل إلى الفصوص – ص 76-77 لابن عربي .
2-كتاب البقاعي ص 66 .
3-الفصوص 1/195 ، الوكيل: هذه هي الصوفية ص 38 .
4-انظر: هذه هي الصوفية ص 38 .
5-ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق لابن عربي .
6-هذه هي الصوفية ص 94 ، وعزاه إلى الفصوص ص 191 .
7-هذه هي الصوفية ص 95 ، وعزاه إلى الفصوص ص 201 .
8-هذه هي الصوفية ص 96 ، وعزاه إلى الكتاب المذكور 1/69 .
فلا فرق عند الجيلي بين المسجد والكنيسة وأنه وإن كان عاصياً لأمر الله في ظاهر الشرع-على حد زعمه-فإنه في الباطن مطيع لأنه أطاع إرادة الله .
واستمع إلى ابن الفارض في تقرير أن الله هو عين خلقه، تعالى الله عن ذلك فهو يقول:(171/16)
أممت أمامي في الحقيقة فالورى*** ورائي وكانت حيث وجهت وجهتي
ولا غرو أن صلى الأنام إلى أن*** ثوت بفؤادي و هي قبلة قبلتي
لها صلواتي بالمقام أقيمها*** واشهد فيها أنها لي صلت
وما كان لي صلى سواي ولم تكن*** صلاتي لغيري في أدا كل ركعةِ
ولابن الفارض ديوان كامل يخاطب الله فيه بتاء التأنيث على هذا المنوال .
ولا يتسع المجال أيها الأخوة لنقل الشواهد على إيمان معظم الصوفية بوحدة الوجود ووحدة الأديان من كلام أقطابهم كابن الفارض والجيلي وابن عجيبة وحسن رضوان وابن عامر والنابلسي والصدر القوني وابن مشيش والدمرداش، وغيرهم ومن شاء الوقوف على ذلك فليطلع على كتاب "هذه هي الصوفية" لعبد الرحمن الوكيل رحمه الله .
كرامات الصوفية:
لقد بالغ الصوفية في تقديس مشايخهم حتى رأوا أن كل ما يصدر عن الشيخ الصوفي حق وصواب بل فضل وكرامة وقد سجلوا في كتبهم كرامات شيوخهم وهي أنواع حيث تعلو حتى تبلغ إلى حد إحياء المواتى وقد تهبط إلى حد يستحى من ذكره .
إحياء الموتى :
واستمع إلى ما يرويه عبد الرءوف المناوي من أنواع الكرامات فيقول:
" النوع الأول: إحياء الموتى وهو أعلاها فمن ذلك أن أبا عبيد اليسرى غزا ومعه دابة فماتت فسأل الله أن يحييها فقامت تنفض أذنيها...وأن مفرج الدماميني أحضر له فراخ مشوية فقال: طيري بأذن الله تعالى فطارت ..
ووضع الكيلاني يده على عظم دجاجة أكلها وقال لها قومي بإذن الله فقامت ..
ومات لتلميذ أبي يوسف الدهماني ولد فجزع عليه فقال له الشيخ : قم بإذن الله فقام وعاش طويلاً "(1).
فلم تعد هذه كرامات بل معجزات كمعجزات نبي الله عيسى عليه السلام وهي خاصة به.
الكلاب أولياء الصوفية:(171/17)
ويحدثنا الشعراني عن كرامات العجمي فيقول: "وقعت عينه على كلب فانقادت إليه جميع الكلاب وصار الناس يأتون إليه لقضاء حوائجهم فلما مرض ذلك الكلب اجتمع حوله الكلاب يبكون. فلما مات أظهروا البكاء والعويل وألهم الله بعض الناس فدفنوه فكانت الكلاب تزور قبره، حتى ماتوا فهذه نظرة إلى كلب فعلت ما فعلت فكيف لو وقعت على إنسان" (2) ؟.
ويدعي الشعراني أن سيده أحمد البدوي يتصرف في الوجود وهو في قبره فاسمع إليه يقول: " عن شيخي أخذ عليّ العهد في القبة تجاه وجه سيدي أحمد البدوي وسلمني إليه بيده، فخرجت اليد الشريفة من القبر وقبضت على يدي. فقال سيدي الشناوي: يكون خاطرك عليه وأجعله تحت نظرك فسمعت سيدي أحمد يقول من القبر نعم.
ثم يقول: " وتخلفت عن حضوري للمولد وكان هناك بعض الأولياء فأخبرني أن: سيدي أحمد البدوي كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح " ويقول: " أبطأ عبد الوهاب ما جاء "(3) .
وينازع المرء الحياء أن ينقل كرامات أو جرائم الصوفي التي تتعلق بإتيان البهائم علانية في الطرقات وغيرها وزعمهم بأن ذلك من الكرامات. ونسوق هذه الكرامة للشيخ إبراهيم العريان. فيقول الشعراني: " ومنهم الشيخ إبراهيم العريان كان يطلع المنبر ويخطبهم عرياناً فيقول: تأملوا خطبته... السلطان ودمياط وباب اللوق .. وجامع طولون، الحمد لله رب العالمين "... قال " فيحصل للناس بسط عظيم "(4) .
وحتى السرقة... تعتبر كرامة صوفية.
واستمع إلى الدباغ وهو قطب صوفي: "أن الولي صاحب التصرف يمد يده إلى جيب من يشاء فيأخذ منه ما شاء من الدراهم، وذو الجيب لا يشعر"(5) .(171/18)
وهذا صوفي يزعم أن رؤية شيخه أنفع من رؤية الله: قال أبو تراب لصديقه يوماً: لو رأيت أبا يزيد البسطامي فقال إني مشغول فقد رأيت الله فأغناني عن أبا يزيد. فقال أبا تراب ويلك تفتخر بالله عز وجل، لو رأيت أبا يزيد مرة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة (6) . يقول الغزالي فأمثال هذه المكاشفات لا ينبغي للمؤمن أن ينكرها.
أيها الأخوة: وتدلنا هذه الأخبار أن أقطاب الصوفية لم يكتفوا باستحلال ما حرم الله من السرقة والفواحش بل جعلوا ذلك من علامات الولاية. إن في ذلك لمصادمة واضحة لتعاليم الإسلام وكفر صريح بنصوص القرآن الكريم والسنة
ــــــــــــــ
1-هذه هي الصوفية ص 116 ، الكواكب الدرية لعبد الرءوف المناوي ص 11.
2-هذه هي الصوفية ص 113 ، الطبقات 2/61 ترجمة الشيخ العجمي.
3-هذه هي الصوفية ص 113.
4-هذه هي الصوفية ص 103 ، الطبقات 2/129.
5-هذه هي الصوفية ص 124 ، الإبريز للدباغ 2/12.
6-نقلاً باختصار عن أحياء علوم الدين للغزالي 4/356.
المطهرة. وقد أجمع العلماء في الإسلام عن أن من استحل حراماً معلوماً بالضرورة فهو كافر.. فكيف بمن يرى ارتكاب الكبائر ولاية وكرامة ؟
ثم إن الظاهرة الخطيرة عند الصوفية هي دعاء غير الله من الأموات.. هذا هو الشرك الأكبر الذي حذر منه القرآن الكريم ?ولا تدع من دون الله م لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين? -أي المشركين- .
يقول البوصيري شاعر الصوفي يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به*** سواك عند حدوث الحادث العمم
ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به*** إلا و نلت جوازاً منه لم يضم
* * * *(171/19)
أيها الأخوة : قد يقول قائل ولماذا تهتم بشأن الصوفية هذا الاهتمام وتنقل عبارات ابن العربي وابن الفارض وغيرهم بعد أن مضى على وفاتهم مئات السنين وكان الأولى أن تشن الغارة على الشيوعيين والملحدين وعلى الذين يحكِّمون القوانين ويتركون شريعة الله وأحكامه ولماذا لا تتكلم عن الفرق الضالة كالقاديانية والبهائية والنصيرية .
وأقول في الجواب:
إنه يجب على كل مسلم وخصوصا طاب العلم والداعية إلى الله أن يعمل جاهداً لمحاربة جميع المخالفين لشريعة الإسلام من شيوعيين أو ملحدين ومن قبوريين وصوفيين. وإنني ألاحظ أن كثيراً من الدعاة الذين لهم جهد مشكور في الدعوة إلى الإسلام يهتمون ببعض الجوانب ويتركون البعض الآخر.. بل يتناسونه فلم أجد أحداً يهتم بتحذير المسلمين من ضلالات الصوفية وخزعبلاتهم إلا قليلا وربما أخذ بعضهم الحنق على من يدعو إلى تحقيق العقيدة ويحذر من الصوفية ومن دعاة الأولياء بحجة أن ذلك يسبب فرقة المسلمين . بل وجدنا كبار الدعاة من يجدد الدعوة إلى إتباع التصوف ويؤلف كتاباً سماه " تربيتنا الروحية " أو " تصوف الحركة الإسلامية " وقد أظهر هذا الكتاب مدى حبه للصوفية وإيمانه بمخاريقهم وكراماتهم فاستمع إليه وهو يتحدث عن كرامات أصحاب الطريقة الرفاعية فيقول ص 217 : " فإنكار أصل الكرامة لطبقات الصوفية إنكار غير علمي وليس في محله، وأهم ما ينصب عليه الإنكار ما يحدث لأهل الطريقة الرفاعية من كون النار لا تؤثر فيهم ومن كون يضربون أنفسهم بالرصاص أو بالسيوف ولا يؤثر ذلك فيهم وهذه قضية منتشرة ومشتهرة محسة فقد تتبعها الكثير من المنكرون فرجعوا عن الإنكار، والواقع المشاهد أن ما يحدث لهؤلاء لا يمكن أن يكون سحراً لأن السحر جزء من عالم الأسباب و ههنا لا تجد لعالم الأسباب محلاً كما أنه لا يمكن أن يكون من باب الرياضة الروحية لأن هؤلاء قد تحدث للواحد منهم هذه الخوارق دون رياضة روحية أصلاً.. بمجرد أن يأخذ البيعة عن(171/20)
الشيخ. بل أحياناً بدون بيعة وقد حدثني مرة نصراني عن حادثة وقعت له شخصياً وهي حادثة مشهورة معلومة جمعني الله بصاحبها شخصياً، بعد أن بلغتني الحادثة من غيره، وحدثني أنه حضر حلقة ذكر، فضربه أحد الذاكرين بالشيش (سيخ حديد) في ظهره فخرج الشيش من صدره حتى قبض عليه بيده ثم سحب الشيش منه، ولم يكن لذلك أثر أو ضرر " .
ثم يحتاط المؤلف –سعيد حوى- من أن يحتج عليه بأن من يفعل ذلك غالبا ما يكون فاسقاً غير تقي فكيف ينال الكرامة غير تقي فيقول:
" إن الحجة الرئيسية لمنكرى هذا الموضوع هي أن هذه الخوارق تظهر على يد فساق من هؤلاء كما تظهر على يد الصالحين وهذا صحيح، والتعليل لذلك هو أن الكرامة ليست لهؤلاء بل هي للشيخ الأول الذي أكرمه الله عز وجل بهذه الكرامة وجعلها مستمرة في أتباعه ".
فاعجبوا أيها الأخوة من عالم تنطلي عليه هذه المخاريق الشيطانية فيصدقها وهو محسوب من قادة الدعوة الإسلامية..
إنه يعترف بأن كرامات الصوفية حقيقة لا يسع أحداً إنكارها.. ونحن نقول ما يمنع أن تكون هذه الكرامات بسبب تعاطي السحر أ بسبب تعاطي بعض الحيل كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين تحدى الطرق الصوفية وأبطل دعاويهم الكاذبة وطلب من طائفة من أن يغسلوا أجسامهم بالخل والماء الحار قبل أن يسموا النار فامتنعوا وخافوا لأنه كشف حيلتهم حيث عرف أنهم يطلون أجسامهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر النَّارنج وحجر الطلق وغير ذلك من الحيل المعروفة .(171/21)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقد يكون ذلك من فعل شياطينهم فهم قوم اقترنت بهم الشياطين كما يقترنون بإخوانهم فإذا حضروا سماع المكاء والتصدية أخذهم الحال فيزبدون ويرغون كما يفعله المصروع ويتكلمون بكلام لا يفهمونه هم ولا الحاضرون وهي شياطينهم تتكلم على ألسنتهم عند غيبة عقولهم كما يتكلم الجني على لسان المصروع. فإذا كان لبعض الناس مصروع أو نحوه أعطاهم شيئاً فيجيئون ويضربون لهم بالدف والملاهي، ويحرقون ويوقدون ناراً عظيمة مؤججة ويضعون الحديد العضيم حتى يبقى أعظم من الجمر وينصبون رماحاً فيها أسنًَة ثم يصعد أحدهم يقعد فوق أسنة الرماح قدام الناس ويأخذ ذلك الحديد المحمي ويمره على يده وأنواع ذلك ويرى الناس حجارة يُرمى بها ولا يرون من رمى بها، وذلك من شياطينهم الذين يصعدون بهم فوق الرمح(1) وهم الذين يباشرون النار وأولئك قد لا يشعرون بذلك كالمصروع الذي يضرب ضرباً وجيعا وهو لا يحس بذلك لأن الضرب يقع على الجني
ــــــــــــــ
1-وهذه الأحوال نراها عند المشركين وعند البوذيين وعند أصحاب السيرك كما نراها عند أصحاب الطريقة الرفاعية، وأقول إن كانت هذه الأفعال من الرحمن-وليست من الشيطان- فلماذا لا يُجّهز أصحاب الطريقة الرفاعية كتيبة من الرفاعيين ثم يذهبون للقتال في سبيل الله ، ونحن بأمسّ الحاجة لمثل هؤلاء الجنود الذين لا تؤثر فيهم أنواع الأسلحة !!.(171/22)
فكذا حال أهل الأحوال الشيطانية. ولهذا كلما كان الرجل أشبه بالجن والشياطين-أي في أعمالهم- كان حاله أقوى ولا يأتيهم الحال إلا عند مؤذن الشيطان وقرآنه فمؤذن الشيطان المزمار وقرآنه الغناء، لا يأتيهم الحال عند الصلاة والذكر والدعاء والقراءة، فلا لهذه الأحوال فائدة في الدين ولا في الدنيا. وهؤلاء أهل الأحوال الشيطانية في التلبيس يمحقون البركات ويقوون المخافات ويأكلون أموال الناس بالباطل لا يأكرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ولا يجاهدون في سبيل الله(1) .
أيها الأخوة الكرام: ليس التباهي بالكرامات في شعار الصالحين من الصحابة والتابعين ولا من أئمة الإسلام وعلماء المسلمين، فلم نسمع عن أحد من الصحابة ولا من كبار التابعين أو الأئمة الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين... لم نسمع أحداً منهم كانت له أحوال ولا كان يدخل نفسه في نار ولا يضرب أحداً بشيش ولا سكين ثم يحييه، ولا كذلك من العلماء المعاصرين ومنهم الشيخ عبد العزيز بين باز والشيخ عبد الله بن حميد ولا توجد هذه المخاريق إلا في دائرة الصوفية قديماً وحديثاً، ولاشك أن ذلك أكبر دليل على أنها أحوال شيطانية لا رحمانية.(171/23)
وأعود فأقول لما رأيت أكثر الدعاة غافلين عن أهم شيء في اإسلام ألا وهو الدعوة إلى توحيد الله وإلى تصفية العقيدة وتخليصها من الشرك الذي يتمثل في عبادة الأولياء والعكوف على المقابر ودعاء الأموات والغائبين كما يسكتون عن ضلالات الطرق الصوفية المعاصرة المنتشرة في البلاد الإسلامية بكثرة كاثرة وكل من يخرج خارج هذه البلاد يلمس سيطرة الطرق الصوفية على أذهان المسلمين في مصر وبلاد الشام والسودان والمغرب وأفريقيا السوداء والهند من طريقة رفاعية إلى تيجانية إلى أحمدية إلى قادرية إلى برهامية إلى شاذلية إلى كتانية إلى درقاوية إلى نقشبندية وغير ذلك مما يصعب عده و إحصاؤه.. لما رأيت ذلك أحببت التنبيه والتذكير بأمر أعتقد أنه أمر مهم جداً كما أحببت أن يكون لدى إخواني طلاب دار الحديث الموقرة وهم من بلاد إسلامية مختلفة يوجد بها كثير من الطرق الصوفية أحببت أن يكون لديهم معرفة وحصانة من مرض الصوفية الفتاك. فكما أن للأجسام أمراضاً تفتك بها فإن للأرواح والقلوب أمراضاً معنوية تفتك بها. فينبغي أن يهتم العلماء والدعاة بتحصين القلوب كما يهتم الأطباء بتحصين الأبدان.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
* * * *
ــــــــــــــ
1-فتاوى ابن تيمية 11/495-496.
تم الكتاب
عقيدة المسلم
إن كان تابعُ أحمدٍ متوهِّبا*** فأنا المقرُّ بأنني وهَّابي
أنفي الشريك عن الإله فليسَ لي*** ربٌُّ سوى المتفرد الوهاب
لا قبةٌُ ترجى و لا وثنٌُ و لاَ*** قبرٌُ له سببٌُ من الأسباب
كلا ولا حجر، ولا شجر و لا*** عين(1) و لا نُصُبٌُ من الأنصاب
أيضاً و لست مُعَلِّقاً لتميمة(2)*** أوحلقة، أو وَدعة أو ناب
لرِجاء نفع ، أو لدفع بليةٍ*** الله ينفعني، ويدفعُ ما بي
و الابتداع و كل أمر مُحدثٍ*** في الدين ينكره أولو الألباب
أرجو بأني لا أقاربُه و لاً*** أرضاه ديناً، وهو غير صواب
و أعوذ من جهمية(3) عنها عتتْ*** بخلاف كل مُؤَوِّل مُرتاب(171/24)
والاستواء(4) فإن حسبي قدرةٌُ*** فيه مَقال السادةِ الأنجاب
الشافعي ومالكٍ وأبي حنيـ*** ـفةَ و ابن حنبل التقى الأواب
و بعصرنَا من جاء معتقداً به*** صاحوا عليه مُجسّم وهَّابي
جاء الحديث بغربة الإسلام فَلْـ*** ـيَبكِ المحب لِغربة الأحباب
فالله يحمينا، و يَحفظ ديننا*** مِن شَرّ كل مُعاندٍ سَبَّاب
ويُؤيِّد الدينَ الحنيف بعصبة*** مُتمسكينَ بسنة و كتاب
لا يأخذون برأيهم و قياسهم*** و لهم إلى الوحْيَين خير مآب
قد أخبر المختار عنهم أنهم*** غُرباءُ بين الأهلِ والأصحاب
سلكوا طريق السالكين إلى الهدى(5)*** ومشوا على مِنهاجهم بصواب
من أجل ذا أهلُ الغُلُوِّ تنافروا*** عنهم فقلنا ليس ذا بعجاب
نفر الذين دعاهم خيرُ الورى*** إذ لَقبوه بساحرٍ كذاب
معَ علمهم بأمانةٍ وديانةٍ*** فيه ومكرمة، و صدق جواب
صلى عليه الله ما هبَّ الصبا*** وعلى جميع الآل والأصحاب
الشيخ مُلا عُمران
ــــــــــــــ
1-عين ماء يغتسلون بها للتبرك والشفاء.
2-التميمة: الخرزة ونحوها توضع للحماية من العين.
3-الجهمية: فرقة ضالة تنكر أن الله في السماء، وتقول: إن الله في كل مكان.
4-الاستواء: هو العلو والارتفاع.
5-هم الصحابة والتابعين لهم بإحسان-أي يفهمون الدين كما فهمه الصحابة والتابعين لهم بإحسان-.(171/25)
كَشْفُ السِّتْرِ عَمَّا وَرَدَ
فيِ السَّفَرِ إِلىَ القَبْرِ
لمحدِّث المدينة النبوية
شيخ حماد بن محمد الأنصاري
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد فقد ورد إليّ سؤال صورته:
وقع بين شخصين نزاع، هل يجوز لشخص أن ينوي السفر لمجرد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون المسجد أفتونا والله يحفظكم؟
والجواب:
إن زيارة القبور كان منهيا عنهاً في أول الإسلام لقرب الناس آنذاك من عبادة الأصنام، ثم نسخ ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ))(1).
وأبيحت الزيارة للرجال دون النساء وبقيت في حق النساء محرمة إلى يوم القيامة لحديث ابن عباس(2) رضي الله عنهما عند أبي داود والترمذي وغيرهما:
((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور)) الحديث(3)
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم 977)، وأبو داود (رقم 3235)، والترمذي (رقم 1054)، والنسائي (4/89)، وأحمد (5/356)، وغيرهم من حديث بريدة.
(2) قال الشيخ: حديث صحيح من طريق أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح هذا؛ قيل: باذام مولى أم هانئ، وقيل: ميزان البصري، فعلى كلا من القولين فالحديث صحيح، لأن باذام إذا روى عنه محمد بن جحادة فحديثه صحيح، وهذه الرواية من روايته عنه، بخلاف ما إذا روى عنه الكلبي وأمثاله، وأما على القول بأن أبا صالح هذا هو ميزان البصري فلا خلاف في صحة هذه الرواية، لأنه ثقة، وليس في سنده انقطاع، ولا تدليس، ولا إرسال. (كذا في هامش الطبعة السابقة).
(3) أخرجه أبو داود (رقم 3236)، والترمذي (رقم 320)، والنسائي (4/95)، وابن ماجه (رقم 1575)، من طريق أبي صالح عن ابن عباس مرفوعا.
وأبو صالح هذا: قيل: هو باذام مولى أم هانئ.
وله شاهدان أحدهما حديث أبي هريرة: أخرجه الترمذي (رقم 1056)، وابن ماجه (رقم 1576) عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عنه مرفوعا: (لعن الله زوارات القبور).
وحديث حسان بن ثابت: أخرجه ابن ماجه (رقم 1574)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/29)، وأحمد (3/442ـ443)، وابن أبي شيبة (3/345) من طريق عبد الرحمن بن بهمان عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور).(172/1)
.
كما أن شدّ الرحل إلى قبر مخصوص محرّم لحديث أبي هريرة في الصحيحين: (( لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد …))(1) الحديث.
وفي هذا الحديث الأخير مشروعية شد الرحل إلى أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
وأما ما سوى هذه المساجد الثلاثة فقد دل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز شدّ الرحل إليه بمجرده، وذلك إذا كان يقصد الزائر مجرد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون المسجد، وأما إذا قصد المسجد ثم زار القبر الشريف فهذا مشروع لما تقدم من مشروعية زيارة القبر للرجال.
ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص صحيح في جواز شد الرحال إلى قبر مخصوص سواء كان قبره - صلى الله عليه وسلم - أو قبر غيره، فمن ثَمَّ لم ينقل عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين لهم بإحسان أنه شد رحلاً لمجرد قصد زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - ولا لمجرد زيارة قبر غيره.
وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))(2)، فالخير في اتباع السلف والشر في ابتداع الخلف.
هذا وقد استدل بعض المتأخرين ممن ينتمي إلى العلم على مشروعية مجرد قصد زيارة القبر الشريف أو غيره ـ بأدلة إما موضوعة أو ضعيفة جداً لا تثبت بمثلها الأحكام الشرعية كما هو معلوم عند أهل التحقيق والمعرفة بالحديث، أذكرها مع بيان بطلانها أو ضعفها بما قاله أئمة الشأن، فأقول بعد الاستعانة بالله:
أدلة المجيزين لشد الرحل وعدم قابليتها للاستدلال بها على دعواهم
أربعة عشر حديثا
1ـ (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )).
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم 1189)، ومسلم (رقم 1397).
(2) أخرجه مسلم (رقم 1718).(172/2)
أخرجه أبو الشيخ وابن أبي الدنيا، عن ابن عمر، وهو في صحيح ابن خزيمة، وأشار إلى تضعيفه(1)، وقال: "في القلب من سنده شيء، وأنا أبرأ إلى الله من عهدته"(2).
قلت: فيه مجهولان:
أ ـ عبد الله بن عمر العمري، قال أبو حاتم: مجهول.
ب ـ موسى بن هلال البصري العبدي، قال أبو حاتم: مجهول(3).
وقال العقيلي: لا يصح حديثه، ولا يتابع عليه، يعني هذا الحديث(4).
وقال الذهبي: وأنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر … فذكر هذا الحديث(5).
وفي رواية: (( (من زار قبري حلت له شفاعتي )).
2ـ (( من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي )).
أخرجه الطبراني والبيهقي(6)، عن ابن عمر.
وفيه حفص بن سليمان القاري:
وقال الإمام أحمد بن حنبل: متروك الحديث(7).
وقال البخاري: تركوه(8).
وقال ابن خراش: كذاب يضع الحديث.
وذكر الذهبي هذا الحديث من منكراته بما لفظه: " وفي ترجمته في كتاب "الضعفاء" للبخاري تعليقاً: ابن أبي القاضي حدثنا سعيد بن منصور حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا: (( من حج وزارني بعد موتي…)) الحديث"(9).
3ـ (( من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)).
أخرجه البيهقي عن أنس(10).
وفيه أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي:
قال الذهبي: متروك.
وقال أبو حاتم: منكر الحديث(11).
__________
(1) انظر: المقاصد الحسنة (رقم1125).
(2) انظر: التلخيص الحبير (2/267)، لسان الميزان (6/135).
(3) الجرح والتعديل (8/166).
(4) الضعفاء (4/170).
(5) ميزان الاعتدال (4/226).
(6) الطبراني في معجمه الكبير (12/406)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/246)، وشعب الإيمان (8/92ـ93).
(7) العلل (2298).
(8) التاريخ الكبير (2/363).
(9) ميزان الاعتدال (1/559).
(10) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (8/95)، من طريق سليمان بن يزيد عن أنس.
(11) الجرح والتعديل (4/149).(172/3)
وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به(1).
4ـ (( من حج ولم يزرني فقد جفاني )).
قال السخاوي في "المقاصد"(2): "لا يصح، أخرجه ابن عدي في "الكامل"، وابن حبان في "الضعفاء"، والدارقطني في "العلل"، و"غرائب مالك"، عن ابن عمر مرفوعاً.
وقال الذهبي في "الميزان"(3): "بل هو موضوع".
5ـ (( من زار قبري ـ أو قال: من زارني ـ كنت له شفيعاً أو شهيداً، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة )).
أخرجه أبو داود الطيالسي(4) في مسنده عن عمر بن الخطاب.
وفيه مجهول، وسنده كما يلي:
قال أبو داود: حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول… الحديث.
6ـ (( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة )).
أخرجه الدارقطني في سننه، وابن عساكر عن حاطب(5).
وفيه هارون أبو قزعة أو ابن أبي قزعة:
قال البخاري: لا يتابع على هذا الحديث(6).
وشيخ أبي قزعة أيضاً مجهول.
وقد ذكر الذهبي في "الميزان"(7) حديث حاطب هذا، وحديث عمر الذي قبله من منكرات هارون بن أبي قزعة.
7ـ (( من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد دخل الجنة )).
قال النووي في المجموع(8): "حديث موضوع، لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث".
8ـ (( من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة )).
__________
(1) المجروحين (3/151).
(2) المقاصد الحسنة (رقم 1178).
(3) ميزان الاعتدال (4/265).
(4) مسند أيي داود الطيالسي (رقم 65).
(5) أخرجه الدارقطني في سننه (2/278)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/278)، من طريق هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب.
(6) انظر: الضعفاء للعقيلي (4/363)، الكامل لابن عدي (7/2577).
(7) ميزان الاعتدال (4/285).
(8) المجموع شرح المهذب (8/261).(172/4)
أخرجه ابن النجار في "الدرة الثمينة في تاريخ المدينة"(1)، والدارقطني(2).
وفيه مسلمة بن سالم:
قال الذهبي في "ديوان الضعفاء"(3): "فيه تجهم".
وقال ابن عبد الهادي: مجهول الحال لم يعرف بنقل العلم، ولا يحل الاحتجاج بخبره، وهو شبيه موسى بن هلال العبدي المتقدم(4).
9ـ (( من لم يزر قبري فقد جفاني )).
رواه ابن النجار في "تاريخ المدينة" بلا سند بصيغة التمريض، ولفظه: "ورُوي عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : … الحديث"(5).
قال ابن عبد الهادي: هذا الحديث من الموضوعات المكذوبة على علي بن أبي طالب(6).
قلت: وفي سنده النعمان بن شبل الباهلي، كان متهماً.
وقال ابن حبان: يأتي بالطامات(7).
وذكره الذهبي في "الميزان"(8).
وفي سنده أيضاً: محمد بن الفضل بن عطية المديني، كذاب مشهور بالكذب، ووضع الحديث.
قال الذهبي في "الميزان"(9): قال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب(10).
وقال ابن معين: الفضل بن عطية ثقة، وابنه محمد كذاب(11).
وقال الذهبي: مناكير هذا الرجل كثيرة، لأنه صاحب حديث(12).
وقال أيضاً: قال الفلاس: كذاب(13).
وقال البخاري: سكتوا عنه، رماه ابن أبي شيبة بالكذب(14).
__________
(1) الدرة الثمينة (ص143)، من طريق مسلمة بن سالم عن عبد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن أبيه مرفوعا.
(2) في الأفراد والغرائب (كما في أطرافه 3/376).
(3) ديوان الضعفاء (ص385).
(4) الصارم المنكي (ص36).
(5) الدرة الثمينة (ص144).
(6) الصارم المنكي (ص151).
(7) المجروحين (3/73).
(8) ميزان الاعتدال (4/65).
(9) ميزان الاعتدال (4/6).
(10) العلل (2/549).
(11) انظر: الجرح والتعديل (8/75).
(12) ميزان الاعتدال (4/7).
(13) ميزان الاعتدال (4/6).
(14) انظر: التاريخ الكبير (1/208)، ميزان الاعتدال (4/6).(172/5)
وقد رُوي هذا الحديث عن علي مرفوعاً(1) بسند فيه عبد الملك بن هارون بن عنترة، وهو متهم بالكذب، ووضع الحديث.
قال يحيى: كذاب(2).
وقال أبو حاتم: متروك ذاهب الحديث(3).
وقال السعدي: كذاب(4).
وقال الذهبي: واتهم بوضع حديث: (( من صام يوماً من أيام البيض عُدِل عشرة آلاف سنة )) (5).
ولهذا الكذاب ـ أعني عبد الملك بن هارون ـ له بلايا كثيرة تراجع في "الميزان"(6) للذهبي.
10ـ (( من أتى زائراً لي وجبت له شفاعتي … )) الحديث.
أخرجه يحيى الحسيني عن بكير بن عبد الله مرفوعاً.
وقال ابن عبد الهادي: "هذا حديث باطل، لا أصل له، مع أنه ليس فيه دليل على محل النزاع، وهو السفر إلى القبر"(7).
11ـ (( من لم تمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل )).
قال ابن عبد الهادي: "هذا من الأحاديث المكذوبة والأخبار الموضوعة، وأدنى من يعدّ من طلبة العلم يعلم أنه حديث موضوع، وخبر مفتعل مصنوع، وإن ذكر مثل هذا الكذب من غير بيان لحاله لقبيح بمن ينتسب إلى العلم"(8).
12ـ (( من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى عليَّ في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه )) (9).
رواه أبو الفتح الأزدي في الجزء الثاني من فوائده بسنده إلى أبي سهل بدر بن عبد الله المصيصي عن الحسن بن عثمان الزيادي.
قال الذهبي: حديث بدر عن الحسن بن عثمان الزيادي باطل ـ يعني هذا الحديث ـ، وقد رواه عنه النعمان بن هارون(10).
هذا مع أن أبا الفتح الأزدي ضعيف.
__________
(1) انظر: الصارم المنكي (ص151 ـ 152).
(2) تاريخ الدوري (2/376).
(3) الجرح والتعديل (5/374).
(4) انظر: ميزان الاعتدال (2/666).
(5) ميزان الاعتدال (2/667).
(6) ميزان الاعتدال (2/666ـ667).
(7) الصارم المنكي (ص 153).
(8) الصارم المنكي (ص53).
(9) انظر: الصارم المنكي (ص139 ـ141).
(10) ميزان الاعتدال (1/300).(172/6)
وقال ابن الجوزي: كان حافظاً ولكن في حديثه مناكير، وكانوا يضعفونه(1).
وقال الخطيب: متهم بوضع الحديث(2).
ضعفه البرقاني، وأهل الموصل لا يعدونه شيئاً(3).
13ـ (( من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال شفيعا )).
أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(4) عن ابن عباس مرفوعا، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر.
هذا حديث موضوع على ابن جريج.
قال ابن عبد الهادي: "قد وقع تصحيف في متنه وإسناده، أما التصحيف في متنه فقوله: (( من زارني ))، من الزيارة، وإنما هو (( من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي ))، هكذا في كتاب العقيلي في نسخة ابن عساكر (( من رآني))، من الرؤيا، فعلى هذا يكون معناه صحيحاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( من رآني في المنام فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل بي )).
وأما التصحيف في سنده فقوله: "سعيد بن محمد الحضرمي"، والصواب "شعيب بن محمد"، كما في رواية ابن عساكر.
فعلى كل حال فهذا الحديث ليس بثابت، سواء كان بلفظ الزيارة أو الرؤيا، لأن راويه فضالة بن سعيد ابن زميل المزني شيخ مجهول، لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به، ولم يتابع عليه"(5).
وقال الذهبي: "قال العقيلي: حديثه غير محفوظ، حدثناه سعيد بن محمد الحضرمي، حدثنا فضالة، حدثنا محمد بن يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: (( من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي)).
وقال الذهبي: هذا موضوع على ابن جريج"(6).
14ـ (( ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر)).
أخرجه ابن النجار في "تاريخ المدينة" عن أنس(7).
وفيه سمعان بن المهدي:
__________
(1) الضعفاء لابن الجوزي (2/53).
(2) تاريخ بغداد (2/244).
(3) انظر: ميزان الاعتدال (3/523).
(4) الضعفاء للعقيلي(3/457).
(5) الصارم المنكي (ص150).
(6) ميزان الاعتدال (3/348ـ349).
(7) الدرة الثمينة لابن النجار (ص143ـ144).(172/7)
قال الذهبي: سمعان بن المهدي عن أنس بن مالك حيوان لا يعرف،ألصقت به نسخة مكذوبة رأيتها قبّح الله من وضعها(1).
قال ابن حجر في "اللسان"(2): وهذه النسخة من رواية محمد بن المقاتل الرازي، عن جعفر بن هارون الواسطي، عن سمعان، فذكر النسخة، وهي أكثر من ثلاث مائة حديث اهـ.
قلت: هذه أربعة عشر حديثاً يستدل بها القائلون على جواز شدّ الرحل إلى القبر، وهذا جملة ما احتج به من أجاز شدّ الرحل إلى زيارة القبر الشريف بمجرده.
فقد تبين لك أن جميع هذه الأخبار ليس فيها حديث صحيح، ولا حسن، بل كلها ضعيفة جداً، أو موضوعة لا أصل لها كما تقدم لك عن أئمة هذا الشأن مفصلاً، فلا تغتر بكثرة طرقها وتعددها، فكم من حديث له طرق أعاف هذه الطرق التي سردناها عليك، ومع ذلك فهو موضوع عند أهل الباب، لأن الكثرة لا تفيد إذا كان مدارها على الكذابين، أو المتهمين، أو المتروكين، أو المجهولين كما سمعت في هذه الأحاديث، فإنها لا تخلو من كذاب، أو متهم، أو متروك، أو مجهول لا يعرف أبداً، ومثل هذا لا يصلح للتقوية كما هو معلوم عند أهل هذا الفن، هذا إذا لم يكن من الصحيح ما يُبطلها، فكيف وهو موجود ومعلوم في الصحيح كما تقدم مِنْ منع شدّ الرحل إلى غير المساجد الثلاثة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم"(3):
__________
(1) ميزان الاعتدال (2/234).
(2) لسان الاعتدال (3/114).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (2/772ـ773).(172/8)
"لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا أهل الصحيح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره، وأجل حديث روي في ذلك حديث رواه الدارقطني، وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بالأحاديث المروية في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - كقوله: (( من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة))، و (( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي))، و (( من لم يحج ولم يزرني فقد جفاني )) ، ونحو هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة".
قلت: هذا هو الصواب الذي يجب أن يدان الله به، ومن كان عنده حديث صحيح في هذا الموضوع ـ أعني في جواز شدّ الرحل إلى قبر مخصوص ـ فعليه البيان.
وأما هذه الأحاديث فهي كما قدمت إما أحاديث موضوعة مكذوبة، وإما أحاديث ليست في شدّ الرحل بل هي في الزيارة المشروعة المجمع عليها.
وفي هذه الزيارة نصوص صحيحة صريحة تغني عن هذه البواطل، التي لا يصح الاحتجاج بها في ثبوت حكم من الأحكام الشرعية كائنا ما كان، بل ولا تجوز روايتها إلا مع بيان أنها موضوعة أو ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها لئلا يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حدّث عني بحديث يُرى انه كذب فهو أحد الكاذبين)) عند مسلم وغيره عن المغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب مرفوعا بألفاظ متعددة(1).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/9) من حديث المغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب.(172/9)
كَشْفُ السِّتْرِ عَمَّا وَرَدَ
فيِ السَّفَرِ إِلىَ القَبْرِ
لمحدِّث المدينة النبوية
الشيخ حماد بن محمد الأنصاري
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد فقد ورد إليّ سؤال صورته:
وقع بين شخصين نزاع، هل يجوز لشخص أن ينوي السفر لمجرد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون المسجد أفتونا والله يحفظكم؟
والجواب:
إن زيارة القبور كان منهيا عنهاً في أول الإسلام لقرب الناس آنذاك من عبادة الأصنام، ثم نسخ ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ))(1).
وأبيحت الزيارة للرجال دون النساء وبقيت في حق النساء محرمة إلى يوم القيامة لحديث ابن عباس(2) رضي الله عنهما عند أبي داود والترمذي وغيرهما:
((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور)) الحديث(3)
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم 977)، وأبو داود (رقم 3235)، والترمذي (رقم 1054)، والنسائي (4/89)، وأحمد (5/356)، وغيرهم من حديث بريدة.
(2) قال الشيخ: حديث صحيح من طريق أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح هذا؛ قيل: باذام مولى أم هانئ، وقيل: ميزان البصري، فعلى كلا من القولين فالحديث صحيح، لأن باذام إذا روى عنه محمد بن جحادة فحديثه صحيح، وهذه الرواية من روايته عنه، بخلاف ما إذا روى عنه الكلبي وأمثاله، وأما على القول بأن أبا صالح هذا هو ميزان البصري فلا خلاف في صحة هذه الرواية، لأنه ثقة، وليس في سنده انقطاع، ولا تدليس، ولا إرسال. (كذا في هامش الطبعة السابقة).
(3) أخرجه أبو داود (رقم 3236)، والترمذي (رقم 320)، والنسائي (4/95)، وابن ماجه (رقم 1575)، من طريق أبي صالح عن ابن عباس مرفوعا.
وأبو صالح هذا: قيل: هو باذام مولى أم هانئ.
وله شاهدان أحدهما حديث أبي هريرة: أخرجه الترمذي (رقم 1056)، وابن ماجه (رقم 1576) عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عنه مرفوعا: (لعن الله زوارات القبور).
وحديث حسان بن ثابت: أخرجه ابن ماجه (رقم 1574)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/29)، وأحمد (3/442ـ443)، وابن أبي شيبة (3/345) من طريق عبد الرحمن بن بهمان عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور).(173/1)
.
كما أن شدّ الرحل إلى قبر مخصوص محرّم لحديث أبي هريرة في الصحيحين: (( لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد …))(1) الحديث.
وفي هذا الحديث الأخير مشروعية شد الرحل إلى أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
وأما ما سوى هذه المساجد الثلاثة فقد دل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز شدّ الرحل إليه بمجرده، وذلك إذا كان يقصد الزائر مجرد زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - دون المسجد، وأما إذا قصد المسجد ثم زار القبر الشريف فهذا مشروع لما تقدم من مشروعية زيارة القبر للرجال.
ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص صحيح في جواز شد الرحال إلى قبر مخصوص سواء كان قبره - صلى الله عليه وسلم - أو قبر غيره، فمن ثَمَّ لم ينقل عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين لهم بإحسان أنه شد رحلاً لمجرد قصد زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - ولا لمجرد زيارة قبر غيره.
وعن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))(2)، فالخير في اتباع السلف والشر في ابتداع الخلف.
هذا وقد استدل بعض المتأخرين ممن ينتمي إلى العلم على مشروعية مجرد قصد زيارة القبر الشريف أو غيره ـ بأدلة إما موضوعة أو ضعيفة جداً لا تثبت بمثلها الأحكام الشرعية كما هو معلوم عند أهل التحقيق والمعرفة بالحديث، أذكرها مع بيان بطلانها أو ضعفها بما قاله أئمة الشأن، فأقول بعد الاستعانة بالله:
أدلة المجيزين لشد الرحل وعدم قابليتها للاستدلال بها على دعواهم
أربعة عشر حديثا
1ـ (( من زار قبري وجبت له شفاعتي )).
__________
(1) أخرجه البخاري (رقم 1189)، ومسلم (رقم 1397).
(2) أخرجه مسلم (رقم 1718).(173/2)
أخرجه أبو الشيخ وابن أبي الدنيا، عن ابن عمر، وهو في صحيح ابن خزيمة، وأشار إلى تضعيفه(1)، وقال: "في القلب من سنده شيء، وأنا أبرأ إلى الله من عهدته"(2).
قلت: فيه مجهولان:
أ ـ عبد الله بن عمر العمري، قال أبو حاتم: مجهول.
ب ـ موسى بن هلال البصري العبدي، قال أبو حاتم: مجهول(3).
وقال العقيلي: لا يصح حديثه، ولا يتابع عليه، يعني هذا الحديث(4).
وقال الذهبي: وأنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر … فذكر هذا الحديث(5).
وفي رواية: (( (من زار قبري حلت له شفاعتي )).
2ـ (( من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي )).
أخرجه الطبراني والبيهقي(6)، عن ابن عمر.
وفيه حفص بن سليمان القاري:
وقال الإمام أحمد بن حنبل: متروك الحديث(7).
وقال البخاري: تركوه(8).
وقال ابن خراش: كذاب يضع الحديث.
وذكر الذهبي هذا الحديث من منكراته بما لفظه: " وفي ترجمته في كتاب "الضعفاء" للبخاري تعليقاً: ابن أبي القاضي حدثنا سعيد بن منصور حدثنا حفص بن سليمان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا: (( من حج وزارني بعد موتي…)) الحديث"(9).
3ـ (( من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة)).
أخرجه البيهقي عن أنس(10).
وفيه أبو المثنى سليمان بن يزيد الكعبي:
قال الذهبي: متروك.
وقال أبو حاتم: منكر الحديث(11).
__________
(1) انظر: المقاصد الحسنة (رقم1125).
(2) انظر: التلخيص الحبير (2/267)، لسان الميزان (6/135).
(3) الجرح والتعديل (8/166).
(4) الضعفاء (4/170).
(5) ميزان الاعتدال (4/226).
(6) الطبراني في معجمه الكبير (12/406)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/246)، وشعب الإيمان (8/92ـ93).
(7) العلل (2298).
(8) التاريخ الكبير (2/363).
(9) ميزان الاعتدال (1/559).
(10) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (8/95)، من طريق سليمان بن يزيد عن أنس.
(11) الجرح والتعديل (4/149).(173/3)
وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به(1).
4ـ (( من حج ولم يزرني فقد جفاني )).
قال السخاوي في "المقاصد"(2): "لا يصح، أخرجه ابن عدي في "الكامل"، وابن حبان في "الضعفاء"، والدارقطني في "العلل"، و"غرائب مالك"، عن ابن عمر مرفوعاً.
وقال الذهبي في "الميزان"(3): "بل هو موضوع".
5ـ (( من زار قبري ـ أو قال: من زارني ـ كنت له شفيعاً أو شهيداً، ومن مات بأحد الحرمين بعثه الله من الآمنين يوم القيامة )).
أخرجه أبو داود الطيالسي(4) في مسنده عن عمر بن الخطاب.
وفيه مجهول، وسنده كما يلي:
قال أبو داود: حدثنا سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي، قال: حدثني رجل من آل عمر، عن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول… الحديث.
6ـ (( من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة )).
أخرجه الدارقطني في سننه، وابن عساكر عن حاطب(5).
وفيه هارون أبو قزعة أو ابن أبي قزعة:
قال البخاري: لا يتابع على هذا الحديث(6).
وشيخ أبي قزعة أيضاً مجهول.
وقد ذكر الذهبي في "الميزان"(7) حديث حاطب هذا، وحديث عمر الذي قبله من منكرات هارون بن أبي قزعة.
7ـ (( من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد دخل الجنة )).
قال النووي في المجموع(8): "حديث موضوع، لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث".
8ـ (( من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة )).
__________
(1) المجروحين (3/151).
(2) المقاصد الحسنة (رقم 1178).
(3) ميزان الاعتدال (4/265).
(4) مسند أيي داود الطيالسي (رقم 65).
(5) أخرجه الدارقطني في سننه (2/278)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/278)، من طريق هارون أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب.
(6) انظر: الضعفاء للعقيلي (4/363)، الكامل لابن عدي (7/2577).
(7) ميزان الاعتدال (4/285).
(8) المجموع شرح المهذب (8/261).(173/4)
أخرجه ابن النجار في "الدرة الثمينة في تاريخ المدينة"(1)، والدارقطني(2).
وفيه مسلمة بن سالم:
قال الذهبي في "ديوان الضعفاء"(3): "فيه تجهم".
وقال ابن عبد الهادي: مجهول الحال لم يعرف بنقل العلم، ولا يحل الاحتجاج بخبره، وهو شبيه موسى بن هلال العبدي المتقدم(4).
9ـ (( من لم يزر قبري فقد جفاني )).
رواه ابن النجار في "تاريخ المدينة" بلا سند بصيغة التمريض، ولفظه: "ورُوي عن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : … الحديث"(5).
قال ابن عبد الهادي: هذا الحديث من الموضوعات المكذوبة على علي بن أبي طالب(6).
قلت: وفي سنده النعمان بن شبل الباهلي، كان متهماً.
وقال ابن حبان: يأتي بالطامات(7).
وذكره الذهبي في "الميزان"(8).
وفي سنده أيضاً: محمد بن الفضل بن عطية المديني، كذاب مشهور بالكذب، ووضع الحديث.
قال الذهبي في "الميزان"(9): قال أحمد: حديثه حديث أهل الكذب(10).
وقال ابن معين: الفضل بن عطية ثقة، وابنه محمد كذاب(11).
وقال الذهبي: مناكير هذا الرجل كثيرة، لأنه صاحب حديث(12).
وقال أيضاً: قال الفلاس: كذاب(13).
وقال البخاري: سكتوا عنه، رماه ابن أبي شيبة بالكذب(14).
__________
(1) الدرة الثمينة (ص143)، من طريق مسلمة بن سالم عن عبد الله بن عمر عن نافع عن سالم عن أبيه مرفوعا.
(2) في الأفراد والغرائب (كما في أطرافه 3/376).
(3) ديوان الضعفاء (ص385).
(4) الصارم المنكي (ص36).
(5) الدرة الثمينة (ص144).
(6) الصارم المنكي (ص151).
(7) المجروحين (3/73).
(8) ميزان الاعتدال (4/65).
(9) ميزان الاعتدال (4/6).
(10) العلل (2/549).
(11) انظر: الجرح والتعديل (8/75).
(12) ميزان الاعتدال (4/7).
(13) ميزان الاعتدال (4/6).
(14) انظر: التاريخ الكبير (1/208)، ميزان الاعتدال (4/6).(173/5)
وقد رُوي هذا الحديث عن علي مرفوعاً(1) بسند فيه عبد الملك بن هارون بن عنترة، وهو متهم بالكذب، ووضع الحديث.
قال يحيى: كذاب(2).
وقال أبو حاتم: متروك ذاهب الحديث(3).
وقال السعدي: كذاب(4).
وقال الذهبي: واتهم بوضع حديث: (( من صام يوماً من أيام البيض عُدِل عشرة آلاف سنة )) (5).
ولهذا الكذاب ـ أعني عبد الملك بن هارون ـ له بلايا كثيرة تراجع في "الميزان"(6) للذهبي.
10ـ (( من أتى زائراً لي وجبت له شفاعتي … )) الحديث.
أخرجه يحيى الحسيني عن بكير بن عبد الله مرفوعاً.
وقال ابن عبد الهادي: "هذا حديث باطل، لا أصل له، مع أنه ليس فيه دليل على محل النزاع، وهو السفر إلى القبر"(7).
11ـ (( من لم تمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل )).
قال ابن عبد الهادي: "هذا من الأحاديث المكذوبة والأخبار الموضوعة، وأدنى من يعدّ من طلبة العلم يعلم أنه حديث موضوع، وخبر مفتعل مصنوع، وإن ذكر مثل هذا الكذب من غير بيان لحاله لقبيح بمن ينتسب إلى العلم"(8).
12ـ (( من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة، وصلى عليَّ في بيت المقدس لم يسأله الله فيما افترض عليه )) (9).
رواه أبو الفتح الأزدي في الجزء الثاني من فوائده بسنده إلى أبي سهل بدر بن عبد الله المصيصي عن الحسن بن عثمان الزيادي.
قال الذهبي: حديث بدر عن الحسن بن عثمان الزيادي باطل ـ يعني هذا الحديث ـ، وقد رواه عنه النعمان بن هارون(10).
هذا مع أن أبا الفتح الأزدي ضعيف.
__________
(1) انظر: الصارم المنكي (ص151 ـ 152).
(2) تاريخ الدوري (2/376).
(3) الجرح والتعديل (5/374).
(4) انظر: ميزان الاعتدال (2/666).
(5) ميزان الاعتدال (2/667).
(6) ميزان الاعتدال (2/666ـ667).
(7) الصارم المنكي (ص 153).
(8) الصارم المنكي (ص53).
(9) انظر: الصارم المنكي (ص139 ـ141).
(10) ميزان الاعتدال (1/300).(173/6)
وقال ابن الجوزي: كان حافظاً ولكن في حديثه مناكير، وكانوا يضعفونه(1).
وقال الخطيب: متهم بوضع الحديث(2).
ضعفه البرقاني، وأهل الموصل لا يعدونه شيئاً(3).
13ـ (( من زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال شفيعا )).
أخرجه العقيلي في "الضعفاء"(4) عن ابن عباس مرفوعا، ومن طريقه أخرجه ابن عساكر.
هذا حديث موضوع على ابن جريج.
قال ابن عبد الهادي: "قد وقع تصحيف في متنه وإسناده، أما التصحيف في متنه فقوله: (( من زارني ))، من الزيارة، وإنما هو (( من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي ))، هكذا في كتاب العقيلي في نسخة ابن عساكر (( من رآني))، من الرؤيا، فعلى هذا يكون معناه صحيحاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( من رآني في المنام فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل بي )).
وأما التصحيف في سنده فقوله: "سعيد بن محمد الحضرمي"، والصواب "شعيب بن محمد"، كما في رواية ابن عساكر.
فعلى كل حال فهذا الحديث ليس بثابت، سواء كان بلفظ الزيارة أو الرؤيا، لأن راويه فضالة بن سعيد ابن زميل المزني شيخ مجهول، لا يعرف له ذكر إلا في هذا الخبر الذي تفرد به، ولم يتابع عليه"(5).
وقال الذهبي: "قال العقيلي: حديثه غير محفوظ، حدثناه سعيد بن محمد الحضرمي، حدثنا فضالة، حدثنا محمد بن يحيى، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: (( من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي)).
وقال الذهبي: هذا موضوع على ابن جريج"(6).
14ـ (( ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني فليس له عذر)).
أخرجه ابن النجار في "تاريخ المدينة" عن أنس(7).
وفيه سمعان بن المهدي:
__________
(1) الضعفاء لابن الجوزي (2/53).
(2) تاريخ بغداد (2/244).
(3) انظر: ميزان الاعتدال (3/523).
(4) الضعفاء للعقيلي(3/457).
(5) الصارم المنكي (ص150).
(6) ميزان الاعتدال (3/348ـ349).
(7) الدرة الثمينة لابن النجار (ص143ـ144).(173/7)
قال الذهبي: سمعان بن المهدي عن أنس بن مالك حيوان لا يعرف،ألصقت به نسخة مكذوبة رأيتها قبّح الله من وضعها(1).
قال ابن حجر في "اللسان"(2): وهذه النسخة من رواية محمد بن المقاتل الرازي، عن جعفر بن هارون الواسطي، عن سمعان، فذكر النسخة، وهي أكثر من ثلاث مائة حديث اهـ.
قلت: هذه أربعة عشر حديثاً يستدل بها القائلون على جواز شدّ الرحل إلى القبر، وهذا جملة ما احتج به من أجاز شدّ الرحل إلى زيارة القبر الشريف بمجرده.
فقد تبين لك أن جميع هذه الأخبار ليس فيها حديث صحيح، ولا حسن، بل كلها ضعيفة جداً، أو موضوعة لا أصل لها كما تقدم لك عن أئمة هذا الشأن مفصلاً، فلا تغتر بكثرة طرقها وتعددها، فكم من حديث له طرق أعاف هذه الطرق التي سردناها عليك، ومع ذلك فهو موضوع عند أهل الباب، لأن الكثرة لا تفيد إذا كان مدارها على الكذابين، أو المتهمين، أو المتروكين، أو المجهولين كما سمعت في هذه الأحاديث، فإنها لا تخلو من كذاب، أو متهم، أو متروك، أو مجهول لا يعرف أبداً، ومثل هذا لا يصلح للتقوية كما هو معلوم عند أهل هذا الفن، هذا إذا لم يكن من الصحيح ما يُبطلها، فكيف وهو موجود ومعلوم في الصحيح كما تقدم مِنْ منع شدّ الرحل إلى غير المساجد الثلاثة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم"(3):
__________
(1) ميزان الاعتدال (2/234).
(2) لسان الاعتدال (3/114).
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (2/772ـ773).(173/8)
"لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا أهل الصحيح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره، وأجل حديث روي في ذلك حديث رواه الدارقطني، وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بالأحاديث المروية في زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - كقوله: (( من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة))، و (( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي))، و (( من لم يحج ولم يزرني فقد جفاني )) ، ونحو هذه الأحاديث مكذوبة موضوعة".
قلت: هذا هو الصواب الذي يجب أن يدان الله به، ومن كان عنده حديث صحيح في هذا الموضوع ـ أعني في جواز شدّ الرحل إلى قبر مخصوص ـ فعليه البيان.
وأما هذه الأحاديث فهي كما قدمت إما أحاديث موضوعة مكذوبة، وإما أحاديث ليست في شدّ الرحل بل هي في الزيارة المشروعة المجمع عليها.
وفي هذه الزيارة نصوص صحيحة صريحة تغني عن هذه البواطل، التي لا يصح الاحتجاج بها في ثبوت حكم من الأحكام الشرعية كائنا ما كان، بل ولا تجوز روايتها إلا مع بيان أنها موضوعة أو ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها لئلا يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حدّث عني بحديث يُرى انه كذب فهو أحد الكاذبين)) عند مسلم وغيره عن المغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب مرفوعا بألفاظ متعددة(1).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
__________
(1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/9) من حديث المغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب.(173/9)
كشف الشبهتين
تأليف الشيخ العالم العلامة
سليمان بن سحمان النجدي الحنبلي
1266 هـ - 1349 هـ
تم تنزيل هذه المادة من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد..
فإنه بلغنا عن بعض الإخوان الساكنين بالساحل من أرض عُمان أن في جهتهم جهميةً، وأباضيةً، وعباد قبور متظاهرين بمذاهبهم وعقائدهم، مظهرين العداوة للإسلام وأهله.وذكروا أنه كان لديهم أناس ممن ينتسب إلى العلم والطلب يجادلون عنهم، ويوالونهم، ويفرون إليهم، ويأخذون جوائزهم وصلاتهم، ويأكلون ذبائحهم.
وهؤلاء الجهمية الذين كانوا بالساحل من أرض عمان قد شاع ذكرهم وانتشر خبرهم، وظهر أمرهم من قديم الزمان.
وكذلك الأباضية كانوا بهذا الساحل معروفين مشتهر أمرهم لا يخفى على أحد.
وقد راسلنا بعض الإخوان في هؤلاء الذين يوالونهم، ويجادلون عنهم، فظننا أن الأمر ليس كما زعموا وأحسنا الظن بمن هناك من طلبة العلم فلم نُنعِم الإخوانَ بجواب، ولم نسمح لهم بخطاب، إلا نحضهم على الصبر على الأذى، وتحمل المشقة والبلوى، وبذل النصيحة لهم، والتلطف في الدعوة لهم، والدعاء لهم بالهداية، حتى رأينا لهم رسالة طبعها لهم بعض الغزاونة أولاد عبد الله الغزنوي رحمه الله، ونسبوها إلى رجل يقال له : يوسف بن شبيب الكويتي.
وهذا الرجل لم يكن معروفاً بالعلم والدارية، ولا بالمعرفة والرواية، بل كلامه وتركيبه يدل على جهله، وعدم معرفته.
وقد قيل إن الذي ألفها غيره ممن يترشح للعلم والمعرفة.(174/1)
وقد نقل هذا المؤلف عن شيخ الإسلام ابن تيميه قدّس الله روحه نقولاً يلبس بها على العوام الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام، ولا دراية لهم بموارد الأفهام.ويوهمهم أن هذه النقول التي نقلها عن شيخ الإسلام ابن تيميه تدل على ما ذهب إليه من عدم تكفير الجهمية الخارجين عن شريعة الإسلام، ويظن أن هذه النقول له وهي عليه لا له، كما سنبينه إن شاء الله تعالى، وننقض استدلاله، وما ذاك إلا أنه ليس له إلمام بهذه الصناعة، ولا متجر له في هذه البضاعة.
وقبل الجواب على كلامه وسوء مرامه نذكر من كلام غلطهم وسوء فهمهم، وعدم معرفتهم بكلام أهل العلم فنقول :
اعلم وفقك الله لطاعته أن أصل مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصائبين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام، أعني أن الله سبحانه ليس على العرش حقيقة، وإنما استوى بمعنى استولى، ونحو ذلك.أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بد درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه.
وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن إبان بن سمعان، وأخذها من طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أرض حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم.والنمرود هو ملك الصابئة الكلدانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر والنجاشي ملك الحبشة النصارى، فهذا اسم جنس، لا اسم علم فكانت الصابئة إلا قليلاً منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئي قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كفاراً أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل.(174/2)
ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب أنه ليس إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها (1). وهم الذين بعث ابراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم إليهم، فيكون الجعد قد أخذها من الصائبة والفلاسفة.
وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئة تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضاً فيما ذكره الإمام أحمد وغيره لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات.فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين.
ثم لما عربت الكتُب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء، مع ما ألقى الشيطانُ في قلوب الضلال ابتداء، من جنس ما ألقاها في قلوب أشباههم، ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته .
وكلاك الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمهم وتضليلهم انتهى من كلام شيخ الإسلام بن تيمية (2) .
__________
(1) 1 الصفات السلبية التي يثبتها هؤلاء هي : ما كان مدلولها عدم أمر لا يليق بالله عز وجل مثل قولهم : إن الله واحد بمعنى أنه مسلوب عنه القسمة بالكم أو القول ومسلوب عنه الشريك.
والإضافية هي التي لا يوصف الله بها على أنها صفة ثابتة له ولكن يوصف بها باعتبار إضافتها إلى الغير كقولهم عن الله : إنه مبدأ وعلة.فهو مبدأ وعلة باعتبار أن الأشياء صدرت منه لا باعتبار صفة ثابتة له هي البداء والعلية .
والمركبة منها هي : التي تكون سليبة باعتبار أنه مسلوب عنه الحدوث إضافية باعتبار أن الأشياء بعده.
(2) من الحموية ، 1 / 436 من الرسائل الكبرى لشيخ الإسلام .(174/3)
فإذا كان أصل هذه المقالة مقالة التعطيل والتأويل مأخوذ عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود فكيف تطيب نفس مؤمن أو عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أو ينصب نفسه هدفاً دونهم بالمجادلة عنهم، والاعتذار لهم بأنواع من التمويه والسفسطة، والقيام في نحر من أظهر عداوتهم وبغضهم، والتنفير عنهم وعن مجالستهم، أفلا يستحي من يدعي الإسلام، ويتظاهر به بين الأنام أن يكون في جملة أعداء الله ورسوله بالذب عنهم، وتجهيل من ضللهم وأمر بهجرهم والبعد عنهم.
فإذا تبين لك ما ذكره أهل العلم في أصل مقالة هؤلاء الجهمية.فاعلم أن مذهبهم أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ويصلى له ويسجد، ولا لله في الأرض من كلام، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأجيبه، هل من مستغفر فأغفر له، وأنه لا يرى في الآخرة، ولا يقوم به فعل البتة، وأنه لا خارجَ العالم ولا داخله ولا متصلاً ولا منفصلاً ولا محايث له إلى غير ذلك من أقوالهم المتضمنة لتعطيله عن عرشه وعلوه على خلقه، وجحد أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وهذا هو الكفر والإلحاد الصريح نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.
فصل(174/4)
ولنذكر من كلام الأئمة الذين هم القدوة وبهم الأسوة الذين هم ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، الذي بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحى من يطلب المقابلة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله (1) : وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع بن عبد الله البلخي قال : سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال : لا تكفرن أحداً بذنب، ولا تنف أحداً به من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطئك لم يكن ليصبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توال أحداً دون أحد.إلى أن قال : قال أبو حنيفة عمن قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر لأن الله يقول:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) وعرشه فوق سبع سماوات، قلت : فإن قال إنه على العرش استوى، ولكنه يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال : هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل – وفي لفظ – سألت أبا حنيفة عمن يقول : أعرف ربي في السماء أم في الأرض قال : قد كفر .قال لأنه الله يقول:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) وعرشه فوق سبع سماوات.قال فإنه يقول على العرش استوى لكن لا يدري العرش في الأرض أم في السماء.قال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
__________
(1) كما في مجموع الفتاوى – الرسالة الحموية - 5/46 .(174/5)
ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه أنه كفر الواقف الذي يقول : لا اعرف ربي في السماء أم في الأرض، فكيف يكون النافي الجاحد الذي يقول ليس في السماء ولا في الأرض ؟ واحتج على كفره بقوله : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) قال وعرشه فوق سبع سماوات.
وبين بهذا أن قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) أن الله فوق السماوات فوق العرش، ثم أردف ذلك بتكفير من قال إنه على العرش استوى ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض.قال : لأنه أنكر أنه في السماء لأن الله في أعلا عليين، وأنه يدعى من أعلا لا من أسفل.
وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله في أعلا عليين، وأنه يدعى من أعلا لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلا لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحاً عنه بذلك فقال : إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر، وروى هذا اللفظ بالإسناد عنه شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق.
قال (1) وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام، سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال : إنما يحاولون أن يقولوا : ليس في السماء شيء.
وروى ابن أبي حاتم في كتاب (( الرد على الجهمية )) عن سعيد بن عامر الضبعي – إمام أهل البصرة علماً وديناً من شيوخ الإمام أحمد – أنه ذكر عنده الجهمية فقال : هم أشر قولاً من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم : ليس على شيء .
__________
(1) أي شيخ الإسلام في الرسالة المذكورة – الحموية – ص 52/5 .(174/6)
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة : من لم يقل إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة.ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح.
وروى ابن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام الواسطي – إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد – قال : كلمت بِشراً المريسي وأصحاب بِشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء .
وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أن قال : ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا : ليس في السماء شيء، أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا.
وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب (( الرد على الجهمية )) عن عبد الرحمن بن مهدي قال : أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء، وإن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا.
وعن الأصمعي قال : قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين.فقال رجل عندها : الله على عرشه ؟ فقالت : محدود على محدود.قال الأصمعي : كفرت بهذه المقالة.
وعن عاصم بن علي بن عاصم شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما قال : ناظرت جهمياً فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء رباً.انتهى.
وقال شيخ الإسلام أيضاً في أُثناء كلام له : والبدعة التي يُعَدَّ بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا : أصول البدعة إثنتان وسبعون فرقة هي أربع : الخوارج والروافض والمرجئة والقدرية، قيل لابن المبارك فالجهمية، قال : ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .(174/7)
والجهمية نفات للصفات الذين يقولون : القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة، وإن محمداً لم يعرج به إلى الله، وإن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم.
وقد قال عبد الرحمن بن مهدي هما صنفان، فأحدهما الجهمية والرافضة فهذان الصنفان شرار اهل البدع ومنهم دخلت القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الإتحادية فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية، والرافضة في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية، فإنهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة، ثم يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية ونحوهم من أهل الزندقة والاتحاد انتهى كلامه رحمه الله.
فهذا كلام شيخ الإسلام الصحيح الصريح في تكفير الجهمية وإخراجهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما ينقله هؤلاء المشبهون الملبسون فإنهم إنما نقلوا كلامه في عموم أهل الأهواء والبدع، لا في خصوص الجهمية، وأوهموا أنه لا يكفر الجهمية فالله المستعان.
وفي كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد قال حدثني أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال : سمعت أبي يقول : سمعت معاذ بن معاذ يقول : من قال القرآن مخلوق فهو كافر.
حدثني الحسن بن عيسى مولى بن المبارك عن حماد بن قيراط سمعت إبراهيم بن طهمان يقول : الجهمية كفار والقدرية كفار.
حدثني الحسن بن عيسى قال كان ابن المبارك يقول : الجهمية كفار.
قال الحسن بن عيسى من قول نفسه : ومن يشك في كفر الجهمية ؟ انتهى .
وقال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في جواب سؤال ورد عليه من ساحل عمان قال فيه : ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين، وهو أنه ينسب عن شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى أنه ذكر عن الإمام أحمد رحمه الله أنه كان يصلي خلف الجهمية.(174/8)
وجواب هذا لو سلم من أوضح الواضحات عند طلبة العلم، وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر، وعد اللالكائي رحمه الله تعالى منهم عدداً يتعذر ذكرهم في هذه الرسالة، وكذا ابن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة.
وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم رحمه الله في كافيته عن خمسمائة من أئمة المسلمين.
والصلاة خلفهم لا سيما الجمعة لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم.
والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس.
وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهوراً ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد، كيف لا وَقَولُهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به العقول السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والألوهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدماً لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل وبالضرورة من دين الإسلام عند من عرفه وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات.(174/9)
ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحاداً من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره، وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها.
وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كان لهم شوكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم على أماكنها ومظانها، وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم. انتهى.
فصل
إذا تمهد واتضح لك ما قدمناه من كلام أئمة الإسلام فاعلم أن هذا الرجل ابتدأ كلامه في فاتحة رسالته بالحضِّ على إفراد الرب سبحانه بجميع أنواع العبادات، ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا سعادة للعبد ولا فلاح له في الدارين إلا بمتابعة هدى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين إلى آخر كلامه.
وهذا حق لو وفق له، وعمل به إن كان قد علم به، ولكنه نكب عن هذه الطريقة ولم يسر على منهج هذه الحقيقة، فوضع الكلام في غير موضعه، وحرف كلام العلماء بمفهومه الساقط، وتأويله القاسط، وقد كان من المعلوم أنه لا يجتمع في قلب عبد موالاة أعداء الله ورسوله، ومحبتهم، والجدال عنهم، وحماية حماهم، مع محبة الله تعالى، ومحبة أوليائه، ومعاداة أهل الإسلام المبغضين لأعداء الله ورسوله، المنابذين لهم، الناهين عن متابعتهم، ومجامعتهم، ومجالستهم، والرد عليهم، وتجهيلهم، وتضليلهم.
قال ابن القيم رحمه الله :
أتحب أعداء الحبيب وتدعي……حبا له ما ذاك في إمكان
وكذا تعادي جاهداً أحبابه ……أين المحبة يا أخا الشيطان(174/10)
وهذا مما ينافي ما قدمه في مقدمة رسالته، فإن الحب في الله، والبغض في الله، والمعاداة فيه، والموالاة فيه من كمال الإيمان، والمتحقق به من أهل ولاية الرحمن.
وهؤلاء تظاهروا بالرد والتشنيع على من أظهر عداوة الجهمية، والإباضية، وعباد القبور، وسموا هؤلاء الملاحدة من الجهمية وغيرهم من المسلمين، وزعموا أن قصدهم النصيحة للمؤمنين عن تكفير المسلمين، أفلا يستحي من صنع هذا الصنيع، ورتع في هذا المرتع الفظيع، ممن يقف على كلامه السامج الساقط، وعلى غاية مرام قصده المارج القاسط، حيث قام في نحر من يظهر عداوة أعداء الله ورسوله، ويتظاهر بالرد عليهم، وتجهيلهم، وتضليلهم بغير دليل من كتاب الله، وسنة رسوله، وكلام أهل التحقيق من أهل العلم، بل بما سنح له من مفهومه، وتخيله في معلومه.
أقلوا عليهم لا أباً َ لأبيكموا……من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك هم خير وأهدى لأنهم……عن الحق ما ضلوا وعن ضده صعدوا
وعادوا عُداة الدين من كل ملحد……وقد حذروا منهم وفي بغضهم جَدّوا
فعاديتموهم من سفاهة رأيكم…… وشيدتموا ركناً من الغي قد هدوا
بتكفيرهم جهميةً وأباضية… وعباد أجداث لناولكم ضِدّوا
وقد كفر الجهمية السلفُ الأولى…… وما شك في تكفيرهم من له نقد
ولا من له علم ولكن لبعضهم…… كلام على جهالهم ولهم قصد
وقد كان هذا في خصوص مسائل…… عليهم بها يخفى الدليل ولا يبدوا
وأنتم لهم وآليتموا من غبائكم…… على أنهم سِلم وأنتم لهم جند
وما كان هذا الأمر إلا تَعَنُّتاً…… وإلا فما التشنيع يا قوم والرد
إذا لم يكن هذا الذي قد صنعتموا…… لمرضاة من شاد والردى بل له شدوا
ألا فأفيقوا لا أباً لأبيكموا…… من اللوم يا قومي فقد وضح الرشد
فصل
قال المعترض في جوابه : (( فلما رأينا ناساً في هذا الزمان جعلوا همتهم وسعيهم في تكفير المسلمين، وإيذائهم، وتفسيقهم، وضيعوا أوقاتهم، ونَفّروا المسلمين عن الصراط المستقيم )) .(174/11)
والجواب أن نقول لهذا المعترض : قد كان من المعلوم، عند ذوي المعارف والعلوم، أن من جعل عمته وسعيه في تكفير الجهمية الخارجين عن شريعة الإسلام، وإيذائهم أنه قد اتبع سبيل المؤمنين، وسار على الصراط المستقيم، وجانب طرق أصحاب الجحيم، بدليل ما تقدم من كلام العلماء أئمة الإسلام، وهداة الأنام، فما الدليل على أن الجهمية هم المسلمون، وأن من كفرهم وبذل جهده في عداوتهم والتنفير عن طريقتهم أنه لم يكن على صراط مستقيم، ولم يكن له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ولم يكن على منهج أهل السنة والجماعة، أفكان رسوله الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يعادون المشركين والمنافقين، ولا يكفرونهم، هذا لا يقوله إلا مكابر في الحسيات، مباهت في الضروريات، لكن كان عليه الصلاة والسلام في حالة ضعف الإسلام وأهله، قد أُمر باللين والرفق، وترك أذى الكافرين والمنافقين، كما قال تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم) (الأحزاب: من الآية48) فلما قويت شوكة الإسلام، وأهله أنزل الله عليه : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم) (التحريم: من الآية9) وقد قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (الفتح: من الآية29) فكان في حال جهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم يبذل النصيحة لعموم الخلق، ويرحمهم، ويشفق عليهم، لكن رحمته ولطفه وشفقته بالمؤمنين كما قال تعالى : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128) فأخبر أن رأفته ورحمته بالمؤمنين لا بالكفار والمنافقين، بل كان عليهم غليظاً شديداً، بل كان المقصود من إقامة الحدود هو رحمتهم وردعهم من الوقوع في المحرمات والمنهيات.(174/12)
فهذا التلطف والشفقة والرحمة لا يجوز أن يعامل بها من ينكر علو الله على خلقه، ويعطل أسماءه وصفاته، بل يعامل بالغلظة والشدة والمعاداة الظاهرة، وكذلك لا يعامل بها من أشرك بالله وعدل به سواه.
وأما قول هذا المعترض : (( ولا يقول يا كافر ويا مشرك ويا جهمي ويا فاسق ويا مبتدع )) ونحو ذلك.
فأقول : أما في حالة الدعوة إلى الله فلا ينبغي أن يكافحهم بهذه الألفاظ ابتداء، بل الواجب أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأما كون المسلم دائماً مع أعداء الله ورسوله في لين وتلطف فهذا لا يقوله من عرف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه، كما قدمنا أن ذلك منهم قد كان مبدأ الأمر، وحال الضعف، وأما مع قوة شوكة المسلمين ودولتهم، وبعد قيام الحجة، وبلوغ الدعوة فحاشا وكلا بل قد قال صلى الله عليه وسلم لليهود : (( يا إخوان القردة والخنازير )) وكيف يكون اللين والتلطف دائماً مستمراً وقد قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون2:1) إلى آخر السورة وقال تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) (يونس: من الآية104) الآية وقال تعالى عن خليله إبراهيم إمام الحنفاء الذي قال الله فيه : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَه) (البقرة: من الآية130) وقال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:123) (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) (الزخرف: من الآية27:26) وقال تعالى : (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(174/13)
*فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:77) وقال تعالى : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (مريم: من الآية48) وقال تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: من الآية4) قال ابن جرير رحمه الله تعالى ما ملخصه : فكذلك أنتم أيها المؤمنون بالله فتبرؤوا من أعداء الله المشركين، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرؤوا من عبادة ما سواه، وأظَهِروا لهم العداوة والبغضاء.
وقوله :( كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ ) على كفركم بالله، وعبادتكم ما سواه، ولا صلح بيننا، ولا مودة (1) حتى تؤمنوا بالله وحده.
فصرح الإمام ابن جرير أن الله خاطب المؤمنين بأن يتبرؤوا من أعداء الله المشركين، وأن يظهروا لهم العداوة والبغضاء، وأن يبادوهم بذلك، وإظهار العداوة والبغضاء والبراءة منهم ومما يعبدون من دون الله هو الإنكار باللسان، بدليل قوله ( إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ) لأن عداوة القلب وبغضه لا تسمى إظهاراً لأنها أعمال قلبية، فلا بد من إظهار ما في القلوب من العداوة والبغضاء والبراءة من الشرك وأهله بالقول والعمل.
__________
(1) 5 في تفسير ابن جرير 28/66 (( ولا هوادة )).وقد نقل الشيخ كلام ابن جرير بتصرف يسير.(174/14)
وقال البغوي رحمه الله على هذه الآية في آخر الكلام عليها : قال مقاتل : فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار، عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين، فأظهروا لهم العداوة والبراءة، فلما علم الله شدة وجد المؤمنين بذلك أنزل الله عز وجل (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) (الممتحنة: من الآية7) انتهى.
وقال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في رده على ابن منصور : والهجرة إلى الحبشة، ومقام أبي بكر الصديق يتلوا القرآن، ويظهر دينه كل هذا يؤيد كلام الشيخ وينصره في وجوب التصريح بالعداوة، وأنه لا رخصة مع الإستطاعة، ولولا ذلك لم يحتاجوا إلى الهجرة، ولو تركوها في بلد النجاشي لم يحتاجوا إلى نصرته، وأن يقول : أنتم سيوم بأرضي، ولكان كل مسلم يخفي إيمانه ولا يبادر المشركين بشيء من العداوة، فلا يحتاج حينئذ إلى هجرة، بل تمشي الحال على أي حال كما هي طريقة من لا يعرف ما أوجب الله من عداوة المشركين، وإظهار دين المرسلين، ولولا التصريح بالعداوة من المهاجرين الأولين، ومباداة قومهم بإظهار الإسلام، وعيب ما هم عليهم من الشرك وتكذيب الرسول ،وجحد ما جاء به من البينات والهدى، لما حصل من قومهم من الأذية والابتلاء والامتحان ما يوجب الهجرة، واختيار بلد النجاشي، وأمثالها من البلاد التي تؤمن فيها الفتنة والأذية.
فالسبب المقتضي لهذا كله ما أوجبه الله من إظهار الإسلام ومباداة أهل الشرك بالعداوة والبراءة، بل هذا مقتضى كلمة الإخلاص، فإن نفي الآلهة عما سوى الله صريح في البراءة منه، والكفر بالطاغوت، وعيب عبادتهم، وعداوتهم، ومقتهم، ولو سكت المسلم ولم ينكر كما يظنه هذا الرجل لألقت الحرب عصاها، ولم تدر بينهم رحاها كما هو الواقع ممن يدعي الإسلام وهو مصاحب معاشر عباد الصالحين والأوثان والأصنام، فسحقاً للقوم الظالمين، انتهى.(174/15)
وإذا كان أعداء الله الجهمية، وعباد القبور قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة، منذ أعصار متطاولة، لا ينكر هذا إلا مكابر، فكيف يزعم هؤلاء الجهلة أنه لا يقال لأحدهم : يا كافر، ويا مشرك، ويا فاسق، ويا متعور، ويا جهمي، ويا مبتدع وقد قام به الوصف الذي صار به كافراً، أو مشركاً، أو فاسقاً، أو مبتدعاً وقد بلغته الحجة، وقامت عليه، مع أن الذي صدر من القبورية الجهمية هؤلاء لم يكن من المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على الإنسان فَيُتَوقَّف في حال أحدهم، لكن قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن من جحد علوا الله على خلقه، وأنكر صفاته ونعوت جلاله أنه كافر معطل لا يشك في ذلك مسلم، فكيف يظن بالإخوان أنهم يقولون للمسلم يا سني : يا جهمي، وليس كذلك، أو يا كافر أو يا مبتدع.
وقد قال الإمام مالك لما سأله رجل عن الاستواء : الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، وأمر به فأخرج عن مجلسه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه وهو في السجن لما طلب منه أعداؤه أن يوافقهم على أمر كتبوه في ورقة، وقالوا : المطلوب منه أن يعتقد هذا، فأبى عليهم، فأعادوا عليه الجواب، فأبى وأغلظ لهم في الجواب قال : فرفعت صوتي وقلت : يا زنادقة يا كفار يا مرتدين أو كلاماً نحو هذا ذكره في التسعينية.
وأما قوله : (( وفي هذا الزمان مع أنهم لا يقول لهم أحد شيئاً، بل يتعوذون منه شرهم، ولكن لم يتركوا أحداً، بل قالوا لبعضهم : يا كافر، ولبعضهم يا مشرك، ولبعضهم يا مبتدع، ويا جهمي، ويا متعور، وبعضهم لا يُسَلِّمون عليه، وبضعهم لا يردون عليه السلام )).(174/16)
فأقول : هذا جواب جاهل مُتَمَعْلِم، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فإنه لا يتوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومباداة أعداء الله ورسوله وأعداء دينه بالعداوة والبغضاء على كون أعداء الله ورسوله لا يقولون لأحد شيئاً، بل يتعوذون من شرهم لأن مباداة أعداء الله بالعداوة والبغضاء هو الواجب، وترك ذلك من المداهنة، وللشيطان وأعوانه غرض في الطائفتين قال تعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9) .
وثمود لو لم يدهنوا في ربهم……لم تدم ناقتهم بسف قدار
وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرٌّ كما يقوله هذا الجاهل.
فإن كان الكلام مع جهمي ينكر علوا الله على خلقه، ويعطل أسمائه وصفاته، كان هذا الفعل خيراً محضاً لا شر فيه وتسميته شراً يوقع في الفتنة التي توبق صاحبها، وتحلق بأهل الوعيد، نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، وكذلك لو كان هذا مع أباضي، أو مع عباد القبور، والأمر أشد من ذلك وأعظم.
فإن كان مع من يواليهم، ويجالسهم فقوله لأحدهم : يا كافر أو يا جهمي خطأ، فإنه لا يقال هذا إلا لكافر أو جهمي قد قامت عليه الحجة وبعد ذلك كابر وعاند، ومن والاهم وجادل عنهم بعدما تبين له الحق، واتضح له كلام العلماء في تكفيرهم، وتحققوا أنه قد بلغتهم الحجة، وقامت عليهم بإنكار أهل الإسلام عليهم، وإن لم يفهموا الحجة، ثم كابر وعاند فإن كان عن تأويل فلا أدري ما حاله، وأمره شديد، ووعيده أشد وعيد إن كان غير ذلك، فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ومن لم يجعل الله نوراً فما له من نور.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى : ولنذكر من كلام الله تعالى، وكلام رسوله، وكلام أئمة العلم جملاً في جهاد القلب واللسان، ومعاداة أعداء الله، وموالاة أوليائه، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك.(174/17)
فنقول : باب وجوب عداوة أعداء الله من الكفار المرتدين والمنافقين، وقول الله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُم) (النساء: من الآية140) وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: من الآية51) إلى قوله : ( كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: من الآية4) .
وقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (المجادلة: من الآية22) وقال الإمام الحافظ محمد بن وضاح أخبرني غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات : اعلم أخي أنا ما حملني على الكتب إليك إلا ما ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك للناس، وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بك، وصاروا ببدعتهم مستترين، فأبشر يا أخي بثواب ذلك، واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى، وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة )) فمتى يدرك أجر هذا شيء من عمله ؟
وذكر أيضاً (( أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً لله يذب عنها وينطق بعلامتها )).(174/18)
فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه قال : (( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من كذا وكذا )) وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك، وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك إلفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونون أئمة بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة، كما جاء في الأثر، فاعمل على بصيرة، ونية، وحسبة، فيرد الله بك المبتدع المفتون، الزائغ الحائر، فتكون خلفاً من نبيك صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تلق الله بعمل يشبهه.
وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ، أو جليس، أو صاحب فإنه جاء الأثر (( من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام )).
وجاء (( ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى )) وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، ولا فريضة ولا تطوعاً، وكلما زادوا اجتهاداً أو صوماً وصلاة ازدادوا من الله بعداً، فارفض مجالسهم، وأذلهم وأبعدهم، كما أبعدهم الله، وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة الهدى بعده، انتهى كلامه رحمه الله.
واعلم رحمك الله أن كلامه وما يأتي من أمثاله من السلفة في معاداة أهل البدع والضلالة ضلالة لا تخرج عن الملة، لكنهم شددوا في ذلك وحذروا منه لأمرين :
الأول : غلظ البدعة في الدين في نفسها، فهي عندهم أجل من الكبائر، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون أهل الكبائر، كما تجد في قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم ولو كان عالماًً عابداً أبغض وأشد ذنباً من السني المجاهر بالكبائر.
والأمر الثاني : أن البدعة تجر إلى الردة الصريحة، كما وجد في كثير من أهل البدع.(174/19)
فمثال البدعة التي شددوا فيها مثل تشديد النبي صلى الله عليه وسلم فيمن عَبَدَ الله عند قبر رجل صالح، خوفاً مما وقع من الشرك الذي يصير به المسلم مرتداً.
فمن فهم هذا فهم الفرق بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة ومجاهدة أهلها، والنفاق الأكبر، ومجاهدة أهله، وهذا هو الذي نزل فيه الآيات المحكمات مثل قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (المائدة: من الآية54) وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ) (التوبة: 73-74) .
قلت فتأمل أيها المنصف ما ذكره هذا المعترض من قوله : (( فلما رأينا ناساً في هذا الزمان جعلوا همتهم وسعيهم في تكفير المسلمين وإيذائهم وتفسيقهم، وضيعوا أوقاتهم، ونفروا المسلمين عن الصراط المستقيم )) وهؤلاء المسلمون عندهم كالجهمية، والإباضية، وعباد القبور، كما ذكره الإخوان عنهم، ويدل على ذلك قوله : (( بل قالوا لبعضهم : يا كافر ولبعضهم يا مشرك، ولبعضهم يا مبتدع، ويا جهمي )).
ثم تأمل ما ذكره الإمام أسد بن موسى فيما كتبه إلى أسد ابن الفرات وقوله : (( مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم، والطعن عليهم، فأذلهم الله بك، وصاروا ببدعتهم مستترين )).(174/20)
وهذا الجاهل المعترض، وأصحابه الذين وازروه، وقاموا معه فإنهم ينكرون على من أظهر عداوة الجهمية، والأباضية، وعباد القبور، ويشنعون عليهم ويصنفون في الرد عليهم، والذب عن هؤلاء الكفرة ويسمونهم المسلمون، ويعيبون على أهل الإسلام بأنهم جعلوا عمتهم وسعيهم في تكفير من أنكر علوا الله على خلقه، وعطل أسماءه وصفاته، وأنهم بهذا نفروا المسلمين عن الصراط المستقيم.
والصراط المستقيم عند هؤلاء هو : التطلف بهم، والنصيحة لهم، واللين معهم، لأن هذا بزعمهم هو دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته.وما علم هؤلاء أن هذا كان في بدء الأمر قبل أن تنزل آية السيف والجهاد، ثم نسخ هذا كله، وأمر أن يجاهدهم حتى يكون الدين كله لله.
وتأمل أيضاً ما ذكره أسد بن موسى من قوله : (( وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ، أو جليس، أو صاحب فإنه جاء في الأثر (( من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام )).
ثم تأمل قيام هؤلاء في نحر طلبة العلم الذين يحذرون عن مجالسة الجهمية، ومواكلتهم، وأكل ذبائحهم، والركون إليهم.
ثم انظر إلى كلام الشيخ محمد رحمه الله تعالى من أن هذا الكلام، وما يأتي من الكلام بعده من كلام السلف أنه في معاداة أهل البدع والضلال الضلالة التي لا تخرج عن الملة، فكيف الكلام في الجهمية الذين كفرهم السلف كما قال ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية :
ولقد تقلد كُفرَهُم خمسون في ……عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم …… بل قد حكاه قبله الطبراني
وذكر أيضاً أن كل أهل السنة أثنوا على خالدٍ بقتل جعداً قال رحمه الله :
شكر الضحية كل ناصر سنة…… لله درك من أخي قربان
وكذلك عباد القبور فإنهم ليسول من أهل الأهواء والبدع، بل يسميهم السلف : الغلاة، لمشابهتهم النصارى في الغلو في الأنبياء، والصالحين.(174/21)
ثم قال الشيخ رحمه الله : قال ابن وضاح في البدع والحوادث بعد حديث ذكره سيقع في هذه الأمة الكفر وفتنة الضلالة قال رحمه الله : إن فتنة الكفر هي الردة، يحل فيها السبي والأموال، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي والأموال.
وقال رحمه الله أيضا أخبرنا أسد أخبرنا رجل عن ابن المبارك قال : قال ابن مسعود : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه، يذب عنها وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن، وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلاً.
ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : (( لأن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إلي من اعتكاف شهر )) أخبرنا أسد عن أبي إسحاق الحذاء عن الأوزاعي قال : (( كان بعض أهل العلم يقولون : لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياماً ولا صدقة ولا جهاداً ولا صرفاً ولا عدلاً، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم، وتشمئز منهم قلوبهم، ويحذرون الناس بدعتهم.قال : ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس، ما كان لأحد أن يهتك ستراً عليهم، أو يظهر منهم عورة، الله أولى بالأخذ بها، وبالتوبة عليها، فأما إذا جهروا فنشر العلم حياة، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة يعتصم بها على مصر ملحد.
ثم روى بإسناده قال : جاء رجل إلى حذيفة وأبو موسى الأشعري قاعد فقال : أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضباً لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار ؟ فقال أبو موسى : في الجنة.فقال حذيفة : استفهم الرجل وأفهمه ما تقول – حتى فعل ذلك ثلاث مرات – فلما كان من الثالثة قال : والله لا أستفهمه، فدعا به حذيفة فقال : رويدك إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع، فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق، ولم يوفقه الله للحق فهو في النار.ثم قال : والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا.
ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك.(174/22)
ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخل النار، وإما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموا، وإني واثق بنفسي فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه.
وبإسناده عن بعض السلف قال : من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام.
اخبرنا أسد بن موسى قال أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب قال قال أبو قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإن لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليك ما تعرفون.
قال أيوب : وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب.
أخبرنا أسد بن موسى قال أخبرنا زيد عن محمد بن طلحة قال : قال إبراهيم : لا تجالسوا أهل البدع، ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم.
وذكر الشيخ كلاماً طويلاً في هذا المعنى في إفادة المستفيد.
وروى الحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله عنه تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والقوهم بوجوه مكفهرة، والتمسوا رضى الله عنكم بسخطهم.
قال المناوي رحمه الله في شرح الجامع الصغير على هذا الحديث : تقربوا إلى الله أي اطلبوا رضاه ببغض أهل المعاصي من حيث إنهم أهل المعاصي لا لذواتهم، فالمأمور ببغضه في الحقيقة إنما هو تلك الأفعال المنهية، والقوهم بوجوه مُكفَهِرَّة أي عابسة قاطبة فعسى أن ينجح ذلك فيهم، فينزجروا، والتمسوا أي اطلبوا ببذل الجهد رضي الله عنكم بسخطهم فإنهم أعداء الدين، وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم، فإن مخالطتهم سم قاتل، وفيه شمول للعالم العاصي.ورواه ابن شاهين في كتاب الأفراد عن ابن مسعود بإسناد ضعيف.قال المناوي : وإسناد الأول واهٍ .(174/23)
والمقصود ما قاله المناوي رحمه الله من أن مخالطتهم سم قاتل، وأن أهل المعاصي أعداء الدين، فكيف بمخالطة أهل الكفر بالله من دعاة الأنبياء والأولياء والصالحين، والجهمية، والإباضية أعداء الدين، الخارجين عن طريقه المسلمين، والمجادلة عنهم والذب، وتضليل من نفر عن مجالستهم، وتجهيلهم وآل به الجهل بطبع مقالته، ونشرها في البلاد والعباد، سبحان من طبع على قلوب أكثر الناس.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : القسم الرابع من مخالطته الهلكة، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لآكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء.
وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الداعون إلى خلافها، فيجعلون السنة بدعة، والبدعة سنة، إن جَرَّدت التوحيد قالوا تنقصت الأولياء والصالحين، وإن جردت المتابعة للرسول قالوا أهدرت الأئمة المتبوعين، وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصف به رسوله، من غير غلو، ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله به رسوله من المعروف، ونهيت عن المنكر قالوا أنت من المفتنين، وإن اتبعت السنة، وتركت ما خلفهم قالوا أنت من الملبسين، وإن تركت ما أنت عليه، واتبعت أهواءهم فأنت عند الله من الخاسرين، وعندهم من المنافقين، فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله ورسوله بإغضابهم، وأن لا تبالي بذمهم وغضبهم فإنه عين كمالك انتهى.
قلتُ ما أشبه الليله بالبارحه، فانظر إلى مقالة هؤلاء في دعواهم على طلبة العم أنهم نفروا المسلمين عن الصراط المستقيم، ثم انظر كلام ابن القيم رحمه الله ترى العجب العجاب.
وأما قول المعترض : (( وبعضهم لا يسلمون عليه، وبعضهم لا يردون السلام )).(174/24)
فالجواب أن يقال : فرض هذا من الإخوان فيمن دون الجهمية، والإباضية، وعباد القبور، ممن يواليهم أو يجادل عنهم، وحينئذ فيقال : إن ترك السلام ابتداء ورداً على من أحدث حدثاً حتى يتوب منه كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون، ولنا في رسول الله أسوة حسنة فإنه صلى الله عليه وسلم هجر كعب بن مالك رضي الله عنه وصاحبيه وكانا من أهل بدر، لما تخلفوا عن الغزو معه عام تبوك، من الكلام والسلام، والحديث بذلك في صحيح البخاري، وقد كان هؤلاء المهجورين من الأفاضل الكرام، وذوي الهيئات والاحترام، فهجرهم عن السلام والكلام، لما أحدثوا حدثاً أوجب لهم التعزير والتأديب والإهتضام، حتى تاب الله عليهم فتابوا ورجعوا إليه، وأنابوا.
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة : وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح.
فبين رحمه الله أن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله، فكان في الهجر إذا كان فيه مصلحة من الدعوة إلى الله، ومن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته فحسن.
وكذلك لما سلم عليه عمار بن ياسر رضي الله عنه، وقد خلقه أهله بزعفران فلم يرد عليه السلام وقال : اذهب فاغسل عنك هذا.
وكذلك لم يرد السلام على من أعلى بنيان بيته، حتى هدمه.ومن لبس بُرداً أحمر مصمتاً كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : مر بالنبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه بردان أحمران فسلم، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي الأدب المفرد للبخاري رحمه الله عن علي رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم فيهم رجل متخلق بخَلُوق، فنظر إليهم، وسلم عليهم، وأعرض عن الرجل، فقال الرجل أعرضت عني ؟ قال : (( بين عينيك جمرة )).(174/25)
وفيه أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : (( ولا تسلموا على شراب الخمر )) .
وفيه عن قتادة عن الحسن (( ليس بينك وبين الفاسق حرمة )).
وقال ابن شهاب رحمه الله : أقام أخي أبو الخطاب معي في الدار عشرين سنة ما كلمته، وأشار أنه كان ينسب إلى الرفض.
وكان أبو حفص لا يكلم رافضياً إلى عشرة.
وقال القاضي أبو حسين : قرأت في بعض كتب أصحابنا أن ابن رجاء كان إذا مات بعكبر رجل من الرافضة فبلغه أن بزازاً باع له كفناً، أو غاسلاً غسله، أو حمالاً حمله، هجره على ذلك.
وقال المهلب : ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية.
وقال في الفتح : وألحق بعض الحنفية بأهل المعاصي من يتعاطى خوارم المروءة ككثرة المزاح، واللهو، وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمر من النساء، ونحو ذلك.
ولو ذهبنا نذكر أقوال العلماء لطال الكلام، والمقصود التنبيه على أن هذا من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدى أصحابه والتابعين لهم بإحسان هجر أهل المعاصي والبدع، ودرج على ذلك أفاضل العلماء من الأئمة الأعلام، فمن أخذ بهديهم، وسار بسيرتهم فقد سار على الصراط المستقيم.
وقد ذكر المعترض في أول رسالته أن يجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، فإذا تبين لك أن ما ذكرناه من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدى أصحابه، ومن سيرته وشأنه، ومع هذا كله قام في نحر من قام به، واتبع هديه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وسار بسيرته، وجهلهم وضللهم، وزعم أنهم نفروا المسلمين عن الصراط المستقيم، تبين لكل منصف أنه هو ممن نكب عن هذه الطريقة، ولم يسر على منهاج هذه الحقيقة، وأنه من المحرومين لا من المقلين ولا من المستكثرين، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.(174/26)
وأما قوله : (( بالله عليك أيها المنصف هكذا تكون الدعوة إلى الله، وهكذا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم )) إلى آخر كلامه.
فأقول : نعم هكذا تكون الدعوة إلى الله، وهكذا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن كان له إطلاع، ومعرفة بكلام الله، ورسوله، وكلام العلماء يعرف ما ذكرناه أنه من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، وسيرة السلف الصالح، وأما من جهل ذلك ولم يكن لديه معرفة ولا إلمام فإنه ينكر هذا، ويظن أنه خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته ودعوته.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي النبوي : وفي نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف دليل على صدقهم، وتكذيب الباقين، فأراد هجر الصادقين، وتأديبهم على هذا الذنب، وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق، ولا فائدة فيه، هكذا يفعل الرب بعباده في عقوبات جرائمهم، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة، فلا يزال مستيقظاً حذراً، وأما من سقط من عينه، وهان عليه فإنه يخلي بينه وبين معاصيه، وكلما أحدث ذنباً أحدث الله له نعمة، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة، وأنه يريد به العذاب الشديد، والعقوبة، التي لا عافية معها، كما في الحديث المشهور : (( إذا أراد الله بعبده خيراً عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده شراً أمسك عنه عقوبته في الدنيا فيرد القيامه بذنوبه ))، إلى آخر كلامه.فانظر إلى كلام ابن القيم رحمه الله وإلى ما قدمناه من كلام أهل العلم مما ذكره الحافظ محمد بن وضاح من سيرتهم، ومعاداتهم أهل البدع، ومقتهم، وعيبهم لهم والتحذير عن مجالستهم، إذا تأمله المنصف الخالي عن ثوبي الجهل والتعصب عرف سيرة السلف الصالح، والصدر الأول، وتحقق ما هم عليه من الغير لله، ولدينه، وتبين له جهل هؤلاء المتعارضين.(174/27)
والمقصود أن الإخوان كانوا على طريق مستقيم من هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته، وسيرة أصحابه فكفروا من كفره الله ورسوله، وأجمع على تكفيره أهل العلم، وهجروا من السلام من لم يكفرهم، ووالاهم، وذب عنهم، لأنهم حملوهم على الجهل وعدم المعرفة، وأنه قد قام معهم من الشبهة والتأويل ما أوجبهم الجدال عنهم، لأن هذا عندهم من الدعوة إلى الله، فلذلك ما عاملوهم إلا بالهجر من السلام ابتداءً ورداً، فإذا كان هذا هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الصادقين المخلصين لما اقترفوا هذا الذنب اليسير، وتركه هجر المنافقين لأن جرمهم لا ينجع فيه التأديب بالهجر، فقبل عذرهم، ووكل أمرهم إلى الله، وإنما تركهم عليه الصلاة والسلام من المعاقبة لأنه خاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لا لأن جرمهم لا يحتمل هذا الأمر، وقد بسط الكلام على هذا شيخ الإسلام ابن تيميه قدس الله روحه في الصارم المسلول على شاتم الرسول، فالاعتراض والتشنيع على طلبة العلم بهجر أهل المعاصي فضلاً عن هجر أعداء الله ورسوله النافين لعلو الله على خلقه والجاعلين معه آلهة أخرى من دونه خطأ عظيم، واعتراض ذميم وخيم، وجهل مفرط جسيم .
وأما قوله : (( ومن أجل هؤلاء ساء الظنون بالناصحين، فإذا قال بعض الناس لمن يريدوا نصيحتهم يقولون : لا تقبلوا نصيحتهم إنهم يكفرون الناس، لا تقبلوا لهم نصيحة، وسبب ذلك جهل جهال بعض البله أن ما لنا في أسمائهم حاجة، الحر تكفيه الإشارة، يزعمون أنهم دعاة إلى الله، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإفسادهم أكثر من إصلاحهم )) .(174/28)
فأقول سبحان الله ما أعظم شأنه، وأعز سلطانه، كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون، كيف استرسل من يترشح للعلم مع الشيطان إلى أن بلغ به إلى هذه الغاية، فإن الشيطان قد فتح لكثير من الناس أبواباً من الشُّبَه في إسقاط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألقى على ألسنتهم هذه الشبهة ليتوصل بذلك إلى أن يترك الناس الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن في ذلك تنفيراً للناس عن قبول النصيحة، ويظنون أ، هذا من جهل الآمر والناهي، وأن العقل لا يسوغ هذا، وهذا العقل هو حظ كثير من الناس، بل أكثرهم وهو عين الهلاك، وثمرة النفاق، فإن أربابه يرون أن العقل إرضاء الناس جميعهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم، وشهواتهم، واستجلاب مودتهم ويقولون أصلح نفسك بالدخول مع الناس، والتسلك معهم، ولا تبغض نفسك عندهم، فلا يقبلوا لك نصحاً، وهذا هو إفساد النفس وإهلاكها، وفاعل ذلك قد التمس رضا الناس بسخط الله وصار الخلق في نفسه أجل من الله، ومن التمس رضى الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، فمن نصح نفسه وأراد نجاتها فليلتمس رضا الله بمعاداة أعداء الله ورسوله، ويعلم أن أصل الأصول لا استقامه له، ولا ثبات إلا بمقاطعة أعداء الله، وجهادهم، والبراءة منهم والتقرب إلى الله بمقتهم، وعيبهم، وقد قال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ(174/29)
فَاسِقُونَ) (المائدة:78-81) .
وأكثر الناس إنما يتعبد بما يحسن في العادة، ويثنى عليه به، وما فيه مقاطعة ومجاهدة وهجر في ذات الله ومراغمة لأعدائه فذاك ليس منه على شيء، بل ربما ثبَّط عنه، وقدح في فاعله، وهذا كثير في المنتسبين إلى العادة، والمنتسبين إلى العلم والدين، والشيطان أحرض شيء على ذلك منهم، لأنهم يرونه غالباً ديناً وحسن خلق فلا يتاب منه ولا يستغفر، ولأن غيرهم يقتدي بهم، ويسلك سبيلهم فيكونون فتنةً لغيرهم، ولهذا حذر الشارع من فتنة من فسد من العلماء والعباد وخاف على أمته، فالمؤمن إذا حصل له ظهر بحقائق الإيمان، وصار على نصيب من مرضاة الملك الرحمن، فقد حصل له الحظ الأوفى، والسعادة الكبرى، وإن قيل ما قيل.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى : أصل الدين وقاعدته أمران :
الأول : الأمر بالعبادة لله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
الأمر الثاني :الإنذار عن الشرك في عبادة الله تعالى، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله.انتهى.
فلا بد من تكفير من فعل الشرك، والإنذار عنه والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وكذلك موالاة من أمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، وتكفير من ترك عبادة الله.ونسأل الله أن يهدينا، وإخواننا المسلمين لسلوك صراطه المستقيم.
وقوله : (( ينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليماً فقيهاً حليماً صبوراً )).
فأقول : هذا حق وهو الواجب، ولكن لا يدفع هذا في نحر من أظهر عداوة أعداء الله الجهمية، والأباضية، والمرتدين، وإن كان المعادي لهم ليس بعالم ولا فقيه ولا حليم، بل على المسلم أن يعادي أعداء الله بحسب علمه وفهمه، وأن لا يتجاوز المشروع، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( من رأى منكم منكراً فليغره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )).(174/30)
وأما قوله : (( أما تكفيكم هذه الآية : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: من الآية125) آي بالترغيب والترهيب، وجادلهم بالتي هي أحسن، أي جادلهم بالبراهين المسلمة التي يُقِرُّ بها كل واحد، هكذا في الحسبة لشيخ الإسلام )).
فأقول : هذا حق لا مرية فيه، وليس فيه أنه إذا دعاهم إلى الله بما ذكر من الموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، ولم يرتدعوا، ولم ينتهوا أنه لا يقاطعهم، وينابذهم، ولا يبرأ إلى الله منهم.
وإذا كان ذلك كذلك فلا يخلو أمر هؤلاء الجهمية والإباضية والمرتدين من عباد القبور من إحدى ثلاث أمور :
إما أن يكونوا قد دعوتموهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلتموهم بالبراهين التي يُقِرُّ بها ويسلمها كل أحد، فقبلوا ما دعوتموهم إليه من الهدى، ودين الحق، فرجعوا عن ضلالتهم، وتابوا وأنابوا والتزموا بما كان عليه أهل السنة والجماعة، وحينئذ يكون المعادي لهم والمعترض عليكم وعليهم مخطاً ظالما ً متعدياً.
وإما أن يكونوا لم يقبلوا ما دعوتموهم إليه من الهدى، ودين الحق، وطريقة أهل السنة والجماعة، بل كابروا، وعاندوا، وتمردوا، وشَرَدُوا على الله شِراد البعير على أهله، فتكون الحجة قد قامت عليهم، وحينئذ فلا مانع من تكفيرهم، وإظهار عداوتهم، والبراءة منهم، وبغضهم، والتنفير عنهم ومباعدتهم، ومقاطعتهم، لأن الحجة قد بلغتهم، وقامت عليهم.(174/31)
وإما أن يكونوا لم تدعوهم أنتم، ولم تناصحوهم، فتكونوا أنتم حينئذ من أنصارهم، وأعوانهم، والذابين عنهم قبل دعوتهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإقامة الحجة عليهم : ( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ) (النساء:109) وجعلتم أنفسكم دونهم هدفاً، تصنفون في الرد على من عاداهم، وغلبهم، ومقتهم، ونشر عورتهم، وخزيهم وضلالهم، أفلا تتقون يوماً ترجعون فيه إلى الله.
وأما قوله : (( فإذا كان هذا الأمر لسيد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بل لكل نبي، وأمرهم الله بالصبر في مواضع القرآن، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة )).
فأقول : هذا حق، لكن هذا كان في أول الإسلام وقد قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في المواضع التي نقلها من السيرة، وتكلم عليها قال : الموضع الثاني أنه صلى الله عليه وسلم لما قام ينذرهم عن الشرك، ويأمرهم بضده وهو التوحيد، لم يكرهوا ذلك، واستحسنوه، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه، إلى أن صرح بِسَبِّ دينهم، وتجهيل علمائهم، وتسفيه آرائهم، فحينئذ شمروا له، ولأصحابه عن ساق العداوة، وقالوا : سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وشتم آلهتنا، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتم عيسى، وأمه ولا الملائكة، والصالحين، لكن لما ذكر أنهم لا يُدْعَوْنَ، وأنهم لا ينفعون، ولا يضرون جعلوا ذلك شتماً.(174/32)
فإذا عرفت هذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحّد الله، وترك الشرك إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة، والبغضاء كما قال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (المجادلة: من الآية22) الآية فإذا فهمت هذا فهماً جيداً عرفت أن كثيراً من الذين يدعون الدين لا عَرَفَهَا ولا فَهِمَهَا، وإلا فما الذي حمل المسلمين على الصبر على ذلك العذاب، والأسر، والضرب، والهجرة إلى الحبشة، مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، ولو وجد لهم رخصةً لأرخص لهم، كيف وقد أُنْزِلَ عليه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) (العنكبوت: من الآية10) فإذا كانت هذه الآية فيمن وافقهم بلسانه ذا أو ذي فكيف بغير ذلك، انتهى.
فتبين أن هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، فلما أُنْزِلَ عليه : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94) بادأهم بسب دينهم، وتسفيه آرائهم، شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة، إذاً فإن من عادى أعداء الله ورسوله، وصرح بتكفيرهم، والبراءة منهم عادوه وآذوه ولا بد، فهذه كانت حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته، ودعوته إلى الله، ومع ذلك فهو أرحم الناس، وأحسنهم تلطفاً، ودعوة إلى الله، ولنا في رسول الله أسوة حسنة كما قد بيناه فيما مضى.
وأما قوله : (( فأمرهم بالصبر في مواضع من القرآن والأحاديث )).(174/33)
فأقول : هذا حق وهو خلاف ما تدعون، فإنه أمرهم بالصبر على الأذى، وعلى الدعوة إلى الله، وتحمل المشاق، ولم يأمرهم بالصبر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى التسلك مع الناس، والتطلف لهم، مع الإصرار على معاصي الله، لأن في نهيهم، وأمرهم بما أمر الله به ورسوله تنفيراً لهم عند هؤلاء الجهال، وقد تقدم من كلام الأئمة ما يكفي ويشفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومن المعلوم أن الصبر من صفات عباد الله المخلصين، كما شاع وذاع، وفي صفى الإمام أحمد رحمه الله (( عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها )) وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) فبالصبر تترك الشهوات، وباليقين تدفع الشبهات، كما قال تعالى : ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: من الآية3) وقوله : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (صّ:45) وفي بعض المراسيل (( إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات )).(174/34)
فمن جادل عن أهل البدع فضلاً عن أهل الكفر بالله فقد خالف طريقة السلف الذين أمرهم الله بالصبر على أذى أعداء الله ورسوله : (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35) وليس الصبر المحمود المأمور به أن يكون الإنسان مع أعداء الله، وأعداء رسله، ودينه دائماً في تطلف وتملق، مع الإغضاء على ركوب المحارم، والإصرار عليها، والعلم اليقين أنهم على ما كانوا عليه في المعتقد، ثم يتلطف الشيطان له بأن يزين له أنه إذا ناصحه عما كان عليه تعذيراً لهم، أنه قد صبر على الأذى، وعلى الدعوة إلى الله، ثم إذا كان من الغدِ آكله وشاربه وانبسط إليه ففي المسند والسنن عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن من كان قبلكم إذا عمل العامل بالخطيئة جاءه الناهي تعذيراً فإذا كان الغد جالسه، وواكله، وشاربه كأن لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بضعكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم )).(174/35)
فالتسلك مع الناس، وإرضاؤهم بسخط الله، والتلطف لهم، وترك أذاهم عند مخالفة أمر الله ورسوله، ودعوى أن هذا من الصبر على الدعوة إلى الله، هذا الذي يحوم حوله هؤلاء الجهال وهو عين مخالفة أمر الله ورسوله، مع أن هذا لو سلم لهم كان فرضه في أهل المعاصي والذنوب من أهل الإسلام مع مجاهدتهم وهجرهم، فأما الجهمية، والأباضية، وعباد القبور، فالرفق بهم، والشفقة عليهم، والإحسان، والتلطف، والصبر، والرحمة، والتبشير لهم، مما ينافي الإيمان، ويوقع في سخط الرحمن، لأن الحجة بلغتهم منذ أزمان، وقال الله (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) (المجادلة: من الآية22) الآية وهذا يكفي في جواب ما بقي من كلامه بما هو داخل في هذا المعنى.
وأما ما ذكره عن بعض الجهال أنهم إذا رأوا أحداً يأمر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم أو يفعلها أنكروا عليه، مثل أن يفعل جلسة الاستراحة، والتسبيح بيده اليمنى، أو صلى في بعض الأوقات في نعاله ما رأينا مشايخنا يفعلون ذلك.
فأقول هذا لا يصدر إلا من جاهل ليس عنده علم بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله مما ليس من خصائصه، أو أمر به فهو الحق، وعلى كل مسلم أن يقبل ذلك، ولا يعارضه بقول أحد كائناً من كان، وقد أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحدٍ كائناً من كان، وليس هذا خاصاً بالسنن المذكورة فقط، بل هذا في كل سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بها أو فعلها ليقتدى به فيها، لكن جلسة الاستراحة مما تنازع فيها العلماء، هل هي من سنن الصلاة، أو سنة للحاجة إليها كما سنبينه إن شاء الله تعالى.(174/36)
والنزاع في هذا أسهل في جنب ما أسلفناه، فقد أوضحنا فيما تقدم وجوب معاداة أعداء الله، وأعداء رسوله، فإن هذا من الواجبات الدينية، وأما جلسة الاستراحة والصلاة في النعلين، وغيرهما من السنن فليس هي من الواجبات، بل من فعلها فقد أحسن، ومَن لا فلا حرج عليه، وقد ذكرنا فيما تقدم أقوال أئمة الإسلام من السلف والخلق في تكفير الجهمية، وعباد القبور، وأنه قد بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجة، وذكرنا أقوالهم في التحذير عن سائر أهل الأهواء والبدع، وعدم مجالستهم، والسلام عليهم ووجوب هجرهم، والبعد عنهم، فمن أوهم العامة الذين لا معرفة لهم بمقالات الطوائف بأن هؤلاء الجهمية، وعباد القبور، والأباضية حكمهم وما يقال فيهم حكم أهل الفترات، ومن ليس عندهم من آثار الرسالة والنبوات ما يعرفون به الهدى، ممن لم تقم عليه الحجة ببلوغ الدعوة، وحكم من أخطأ في المسائل التي تنازع فيها أهل القبلة مما قد يخفى دليله فقد لبّس الحق بالباطل وفتح باب المغالطة، وأوقع العامة في الشر، فالواجب عليكم أن تقوموا لله مثنى وفرادى، وأن تنظروا بعين البصيرة في كلام أئمة الإسلام، وأن لا تأخذكم العزة بالإثم، وتنظروا وتناظروا، فإن من شأن المسلمين والمؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا وأطعنا، فإن أشكل عليكم شيء مما ذكرناه فاطلبوا الدليل وعلينا أن نجيبكم إلى ذلك، والحق ضالة المؤمن.
وأما الأباضية فهم فيما نعلم أنهم من جنس الخوارج أو طائفة منهم أتباع عبد الله بن أباض، وأتباع حفص بي أبي المقدام، وأتباع يزيد بن نسية، وأتباع أبي الحارث، فعقيدتنا فيهم ما ذكره الإمام أحمد في كتاب السنة.(174/37)
وأما هؤلاء فأظن أنهم ليسوا على مذهب أوائلهم وأسلافهم، بل قد بلغنا عنهم أفعال في الصلاة وغيرها لا يفعلها يؤمن بالله واليوم الآخر، وهم مع ذلك فيما بلغنا أنهم ممن يعتقد بالأولياء والصالحين فيكونون من جملة عباد القبور، وهم يكفرون بالذنوب، وينفون الحوض، والشفاعة، ويفسقون الصدر الأول من الصحابة، ويعتقدون عقيدة المعتزلة في نفي الصفات، ومن كان بهذه المثابة فلا شك في كفره وهجره وعدم موالاته، ومن والاهم، وذب عنهم فقد جهل طريق الحق وسبيل السلف.
وأما ما ذكر في الفصل الأول من النصيحة فحق لا مرية فيه، والذي ظهر لنا أنما يفعله الإخوان من طلبة العلم في عُمان أنه من النصح لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم في معاداتهم للجهمية، وعباد القبور، والأباضية، وتحذير الناس عنهم، وعن مجالستهم، وترك السلام عليهم، وعلى من والاهم، وجالسهم.
وكذلك ما ذكره في الفصل الثاني من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الواجبات، وما فعله الإخوان فهو من الواجب عليهم، واللين والرفق والتلطف فرض، وتقديره فيما هو دون تعطيل الصانع سبحانه عن أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وجحد علوه على خلقه، وأنه لا قدرة له، ولا مشيئة، ولا حياة، ولا علم، ولا يقوم بفعل البتة، وفيما دون الشرك الأكبر من عبادة غير الله، وصرفها لمن أشركوا به مع الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، فإن هذا لا يعذر أحد في الجهل به، بل معرفته والإيمان به من ضروريات الإسلام، فعلى كل مسلم معاداة أهله، ومقتهم، وعيبهم، والطعن عليهم، ومصلحة إنكاره راجحة على مفسدة ترك ذلك من كل وجه، فلا يدخل تحت ما دونه من المحرمات والذنوب والمعاصي، ولا يُلَبِّس بذلك إلا رجل مفتون مغموص بالنفاق، أو جاهل جهله مركب لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، أو رجل يبيع دينه بعرض من الدنيا.
وأما قول المعترض : (( الفصل الثالث في الذب عن تكفير المسلمين )).
فنقول :(174/38)
أولا : من تعني بهؤلاء المسلمين الذين تذب عن تكفيرهم، فإن كانوا الجهمية، وعباد القبور، فما أولئك بالمسلمين الذي يجب على المسلم أن يذب عنهم، بل هم أعداء الله وأعداء رسله، وشرعه ودينه، وقد بينا فيما مضى من كلام أئمة الإسلام ما يكفي ويشفي لمن كان له قلب أو أذن أو واعية.
ومن ذلك ما أجاب به الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في جواب السؤال الذي ورد عليه من ساحل عُمان، وقد تقدم لكن نعيده هاهنا لأن هؤلاء يزعمون أنه ما قامت عليهم الحجة، ولم تبلغهم الدعوة، إما مكابرة وعناداً، أو لغرض من الأغراض الدنيوية قال فيه :
( ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين وهو أنه ينسب عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه كان يصلي خلف الجهمية .(174/39)
وجواب هذا السؤال لو سلم من أوضح الواضحات عند طلبة العلم، وأهل الأثر وذلك أن الإمام وأمثاله من أهل العلم والحديث لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر من صنف في السنة في تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر وعد اللالكائي رحمه الله منهم عدداً يتعذر ذكره هنا في هذه الرسالة، وكذا ابن الإمام أحمد في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة في كتاب السنة له، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم ونقله عن أساطين الأئمة، وقد حكة كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته عن خمسمائةٍ من أئمة المسلمين وعلمائهم، والصلاة خلفهم لا سيما صلاة الجمعة لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة غيره، والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها وبين ملا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهوراً ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد كيف لا وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات والكفر بما أتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدماً لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون على الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من دين الإسلام عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات، ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عن الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحاداً من بعض كلام هؤلاء الضلال، ومع ذلك(174/40)
فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي، أو غيره، وقد صرّح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كانت لهم شوكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم على أماكنها ومظانها، وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم)، انتهى.
فإن كان هؤلاء هم المسلمون عندكم فهذا كلام الأئمة في تكفيرهم، وإن كانوا غير هؤلاء سيأتي الجواب عنه.
وأما قوله : (( قال تفي الدين ابن تيمية في الفتاوى بعد أن سئل عن رجلين تكلما في مسألة التكفير فأجاب : إنما أصل التكفير للمسلمين من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين، لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه من الدين، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من يترك قوله بخطأ أخطأه يكفر، ولا يفسق، ولا يؤثم، فإن الله قال في دعاء المؤمنين : (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة: من الآية286) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله : (( قد فعلت )) إلى أن قال : (( ومن المعلوم أن المنع عن تكفير علماء المسلمين الذين تكلموا في هذه الباب، بل رفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطئوا هو من أحق الأغراض الشرعية، حتى لو فرض أن القائل رفع التكفير عمن يعتقد أنه ليس بكافر حماية لأخيه المسلم لكان غرضاً شرعياً، وهو إذا اجتهد في ذلك فأصاب له أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، فبكل حال هذا القائل محمود على ما فعل، مأجور على ذلك مثاب إذا كانت له فيه نية حسنة، والمنكر له أحق بالتعزير منه ))، انتهى.(174/41)
فالجواب أن يقال كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حق وصواب لا يمتري فيه عاقل فضلاً عن العالم، وهذا هو الدين الذي ندين الله به ونعتقده، فإن كان الكلام في الجهمية وعباد القبور والأباضية وأنهم داخلون تحت كلام الشيخ فقد تقدم الجواب عن هذا، فإنهم عند أهل السنة والجماعة كفار، ولكن قد كان من المعلوم بالضرورة أن إدخالهم في كلام الشيخ من الإفك الفاضح، والبهتان الواضح، الذي لا يشك فيه من عرف يمينه من شماله، فمن كفرهم لا يكون في عداد الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسلمين لما يعتقدون أنهم أخطئوا فيه، فإن الجهمية، وعباد القبور، والأباضية، ليسوا من أئمة المسلمين، بل قد ذكر شيخ الإسلام عن الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه لما سئل عن الجهمية فقال : ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ أيضاً : من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، قاله في الإقناع وشرحه. بل من كفرهم، وأظهر عداوتهم، وعيبهم، ومقتهم، يكون من جملة أهل السنة والجماعة الذين ينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر.
وإن كان الكلام فيمن يذب عنهم، ويجادل بالباطل دونهم خطأ فالذي بلغنا عن الإخوان من أهل عمان أنهم يبرؤون إلى الله من تكفير هؤلاء الذابين والمجادلين، وعن أنهم لا يكفرون بالعموم كما يزعم الخصوم، ولا عندكم عليهم شهود بنثر القول ومنظوم، كما عندهم عليكم من الحجة المشهورة ما بين طبعٍ ونظمٍ، ويقولون إنما الكلم في الجهمية، وعباد القبور، والأباضية، ويقولون لم يصدر من على من جادل عنهم إلا الإنكار عليهم، وهجرهم، وترك السلام عليهم، فإذا كان ذلك كذلك كان الرد والتشنيع بالباطل على الإخوان من الصد عن سبيل الله، ومن الإتباع للهوى والعصبية.(174/42)
وغاية مرامهم أن تمشي الحال مع من هب ودرج، وأن لا يكون في ذلك من عار ولا حرج، هذا إن أحسنا الظن بهؤلاء الذابين عمن خرج عن سبيل المؤمنين، وأنه صدر ذلك منهم عن شبهة عرضت لهم أن هؤلاء الجهمية وعباد القبور والأباضية داخلون في كلام الشيخ – أعني شيخ الإسلام ابن تيمية – وأنه لم تبلغهم الدعوة، ولم تقم عليهم الحجة، مع أن هذا إن كان هو الشبهة العارضة لهم فهو من أبطل الباطل، فإنه لا يشك أحد عرف الإسلام، وما يجب لله فيه على المسلمين، وما حرمه الله تعالى من موالاة أعداء الله المشركين، والمعطلين لأسماء الله وصفاته ونعوت جلاله أن هؤلاء الجهمية قد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة منذ أعصار متطاولة، وأنه قد جرى بينهم وبين أهل الإسلام مخاصمة ومجادلة عديدة، كما قدمناه من سؤالهم مشايخ الإسلام وجوابهم، وعندنا جملة رسائل، وأجوبة مسائل في الرد عليهم وتبين ضلالهم وزيغهم وإدحاض حججهم بالبراهين والدلائل من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الأمة، فليس لهم بعد هذا من عذر، ولا حجة يحتجون بها إلا المكابرة والعناد، نعوذ بالله من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.(174/43)
ثم قال المعترض : (( فائدة منقولة من كلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه في جواب له في الطائفة القدرية. قال : كل من كان من المتنسكة، والمتعبدة، والمتفقهة، والمتقعرة، والأغنياء، والكتاب، والحساب، والأطباء، والعامة خارجاً عن دين الهدى، ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، ولا يوجب ما أوجبه الله ورسوله، ولا يحرم ما حرمه الله ورسوله، أو يدين بدين يخالف الدين الذي بعث الله به رسوله ظاهراً أو باطناً، مثل أن يعتقد أن شيخه يرزقه، أو ينصره، أو يهديه، أو يعينه، أو كان يعبد شيخه ويدعوه ويسجد له، لو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقاً، أو مقيداً في شيء من الفصل الذي يقرب إلى الله، أو كان يرى أنه هو وشيخه مستغن عن متابعة الرسول، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا ذلك، ومنافقون إن لم يظهروه، وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذا الزمان فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وآثار النبوة ما يعرفون به الهدى , وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، وفي أوقات الفترات، وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل، ويعفوا الله فيه لمن لم تقم عليه الحجة، ما لم يغفره لمن قامت عليه الحجة، كما جاء في الحديث المعروف : (( يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاةً ولا صياماً ولا حجاً ولا عمرة ً إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون أدركنا آباءنا وهم يقولون : لا إله إلا الله، فقيل لحذيفة بن اليمان : ما تغني عنهم لا إله إلا الله، قال تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار )).(174/44)
وأصل ذلك أن المقالات التي هي كفر بالكتاب والسنة والإجماع يقال هي كفر مطلقاً، كما دل على ذلك الدليل الشرعي، فإن الإيمان والكفر من أحكام المتعلقات عن دين الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه مثل إن قال : إن الزنا والخمر حلال لقرب عهده بالإسلام والنشأة ببادية بعيدة، أو سمع كلاماً أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، أو كما كان الصحابة رضي الله عنهم يشكون في شيء مثل رؤية الله تعالى فيسألون عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل الذي قال : إذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من العالمين، فأمر الله البرّ برد ما أخذ منه، والبحر برد ما أخذ منه، وقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : خشية منك يا رب، فغفر له .
فهذا يشك في قدرة الله في المعادة، بل ظن أنه لا يعود، وأنه لا يقدر عليه إذا فعل ذلك، فغفر له، وهذه مسائل مبسوطة في غير هذا الموضع، وهذا الحديث في الصحيح فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية، كما قال تعالى : ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (النساء: من الآية165) عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وقد أشبعنا الكلام في القواعد، انتهى.(174/45)
والجواب أن نقول : سبحان من طبع على قلوب كثير من الناس حتى قلبوا الحقائق، فإن من زعم أن حكم من نشأ بين أهل الإسلام كجهمية دبي وأبي ظبي الذين بلغتهم دعوة أهل الإسلام يبينون لهم، ويجادلونهم ومع هذا كله يكابرون، ولا يرعوون عما كانوا عليه من الضلال، حكمهم وما يقال فيهم حكم من كان قريب العهد بالإسلام، ومن نشأ ببادية بعيدة، فهل لأهل هذا القول حظ من النظر والدليل، أو هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل، وكلام شيخ الإسلام الذي أورده هؤلاء الجهلة في القلندرية لا في القدرية، وهذا الكلام قد أورده داود بن جرجيس طاغية العراق فيما اعترض به على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومراد هؤلاء الجهال أن هؤلاء القلندرية، ومن حذى حذوهم ممن ذكره شيخ الإسلام، ممن هو خارج عن دين الهدى، ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، الذين لا يقرون بجميع ما أخبر الله على لسان رسوله، ولا يوجبون ما أوجبه الله ورسوله، ولا يحرمون ما حرمه الله ورسوله، أو يدينون بدين يخالف الدين إلى آخر كلامه، أنه إذا وجد أحد من هؤلاء ممن لم تقم عليه الحجة.ولم تبلغه الدعوة، لا يكفر حتى تقام عليه الحجة.أن حكم الجهمية، وعباد القبور والأباضية وغيرهم من طوائف الكفر ممن قد نشأ في الإسلام، وبين أظهر المسلمين، ويسمعون كتاب الله وسنة رسوله ويقرؤون فيهما.وكتب أهل الفقه وأهل الحديث قد انتشرت اليوم في جميع الأقطار أشد الانتشار، ويعرفون ما عليه أهل الإسلام، ثم يخالفونهم عمداً على علم ومعرفة إلى عليه أسلافهم الماضين من الملاحدة والمشركين، حكم أحد هؤلاء القلندرية، ومن حذى حذوهم، ممن لم تبلغه الدعوة، ولم تقم عليه الحجة، وقد أجاب على هذه الشبهة شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى، ثم اعلم أن لكل قوم وارث.
واعرف مواردهم تعرف مصادرهم……وخذ قياسك تعليلاً وتشبيهاً(174/46)
قال الشيخ رحمه الله : والجواب أن يقال : هذا العراقي يتكثر بما ليس له ويخرج عن محل النزاع، ويوهم الجهال أنه قد أفاد وأجاد، وهو في ظلمات لا تنقشع ولا تكاد، وهذا الكلام الذي حكاه عن الشيخ صريح في تكفير من خرج عن الهدى، ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، أو لا يقر بجميع ما أخبر الله به على لسان رسوله، أو لا يوجب ما أوجبه الله ورسوله، أو لا يحرم ما حرمه الله ورسوله، أو كان يدين بدين يخالف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً أو باطناً مثل أن يعتقد أن شيخه يرزقه أو ينصره أو يهديه أو يعينه، أو كان يعبد شيخه، أو يسجد له، أو يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقاً أو مقيداً، أو كان يرى أنه هو أو شيخه مستغن عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال : فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، منافقون إن أبطنوا.
فجزم بكفرهم، وقرره، وهذا عين كلامنا، ولم نزد على الشيخ حرفاً واحداً، بل كلامه أبلغ، ويدخل تحته من التكفير بالجزئيات ما هو دون مسألة النزاع بكثير.
وأما قوله : (( وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمنة، فلقلة دعاة العلم، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة، وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغه ذلك وفي أوقات الفترات.وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من العلم، ويغفر له ما لم تقم الحجة عليه ما لا يغفر لمن قامت عليه الحجة، إلى آخر كلامه )).
فهذا هو الذي تمسك به العراقي أعني هذا الكلام الأخير فظن أنه له لا عليه، وهذا غلط ظاهر، وجهل مستبين، فإن النزاع فيمن قامت عليه الحجة، وعرف التوحيد، ثم تبين في عداوته ومسبته ورده، كما فعل هذا العراقي، أو أعرض عنه فلم يرفع به رأساً كحال جمهور عباد القبور، أو لم يعلم لكن تمكن من العلم ومعرفة الهدى فأخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يلتفت إلى ما جاءت به الرسل ولا اهتم به.(174/47)
وكان شيخنا محمد بن عبد الوهاب يقرر في مجالسه ورسائله أنه لا يكفر إلا من قامت الحجة الرسالية، ومن عرف دين الرسول بعد معرفته تبين في عداوته ومسبته، وتارة يقول : وإن كنا لا نكفر من يعبد قبة الكوافر، ونحوه لعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يهاجر إلينا.
ويقول في بعضها : وأما من أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فلا أدري ما حاله.
وإذا كان هذا شيخنا – رحمه الله -، وهذه طريقته، فكيف يلزمه العراقي، وينسب إليه التكفير بالعموم، ويحتج عليه بقول الشيخ : إن أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الدعوة ليغفر لهم ما لا يغفر لغيرهم، والعراقي لبّس الحق بالباطل، وافترى على الشيخ، ونسب إليه ما ليس من مذهبه، وما لم يقل وألزمه ما هو بريء منه، انتهى.
والمقصود أن هؤلاء أوردوا كلام الشيخ ابن تيمية رحمه الله في القلندرية، وأشباههم الذين ليس عندهم من آثار الرسالة، وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى، وكثير منهم لم يبلغهم ذلك، كما أورد ذلك داود وشبّه به، فما أشبه الليلة بالبارحة.
والإخوان من طلبة العلم في عُمان إنما كلامهم في الجهمية، وعباد القبور، وفي الأباضية، وهؤلاء بين أظهر المسلمين، وفي أوطانهم، ويتظاهرون بالإسلام، ويناظرون على مذاهبهم، ويجادلون أهل الإسلام فقد قامت عليهم الحجة، وبلغتهم الدعوة، ولم يكونوا في أماكن بعيدة عن أماكن أهل الإسلام، ولا في أوقات فترات، ولا نشؤوا ببادية بعيدة عن أهل الإسلام، وعندهم من آثار النبوة، وكتب الحديث ما لا يمكن جحده، ومع ذلك كله قاموا في عداوة الدين، وأهله، ولم يرفعوا بهذا الدين رأساً ولم يلتفتوا إلى ما كان عليه أهل السنة والجماعة، بل كابروا، وعاندوا، وأصروا على مذاهبهم، واعتقادهم الخبيثة، وأخلدوا إلى الأرض، واتبعوا أهواءهم.(174/48)
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في جواب له : فمسألة تكفير أهل الأهواء والبدع متفرعة على هذا الأصل، ثم ذكر مذاهب الأئمة في ذلك، وذكر تكفير الإمام أحمد للجهمية، وذكر كلام السلف في تكفيرهم، وإخراجهم من الثلاث والسبعين فرقة، وغلّظ القول فيهم، وذكر الروايتين في تكفير من لم يكفرهم، وذكر أن أصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية، ثم أطال الكلام في عدم تكفير هذه الأصناف، واحتج بحديث أبي هريرة قال : وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض المسائل إما أن يلحق بالكفار من المشركين وأهل الكتاب مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، وإذا كان لابد من إلحاقه – أي المخطئ – بأحد الصنفين، فإلحاقه بالمؤمنين المخطئين أشد شبهاً من إلحاقه بالمشركين وأهل الكتاب، مع العلم بأن كثيراً ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، وأولئك في الدرك الأسفل من النار.
فتبين بهذا مراد الشيخ، وأن كلامه في طوائف مخصوصة وأن الجهمية غير داخلين فيه، وكذلك المشركون، وأهل الكتاب لم يدخلوا في هذه القاعدة، فإنه منع إلحاق المخطئ بهذه الأصناف، مع مباينته لهم في عامة أصول الإيمان.
قال شيخنا رحمه الله : وهذا هو قولنا بعينه، فإنه إذا بقيت معه أصول الإيمان، ولم يقع منه شرك أكبر، وإنما وقع في نوع من البدع فهذا لا نكفره، ولا نخرجه من الملة، وهذا البيان ينفعك فيما يأتي من التشبيه بأن الشيخ لا يكفر المخطئ والمجتهد، وأنه مسائل مخصوصة.
وبين أن الإيمان يزول بزوال أركانه وقواعده الكبار، كالحج يفسد بترك أركانه، وهذا عين قولنا، بل هو أبلغ من مسألة النزاع.(174/49)
قال : وحدث الرجل الذي أمر أهله بتحريقه كان موحداً، ليس من أهل الشرك، فقد ثبت من طريق أبي كامل عن حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة (( لم يعمل خيراً قط إلا التوحيد )) فبطل الاحتجاج به على مسألة النزاع.
وأما الخطأ في الفروع والمسائل الاجتهادية إذا اتقى المجتهد ما استطاع فلم نقل بتكفير أحد بذلك ولا بتأثيمه، والمسألة ليست من محل النزاع فإيراد العراقي لها هنا تكثراً بما ليس له، وتكبيراً لحجم الكتاب بما ليس يغني عنه فتيلاً.
قلت وإيراد المعترض لكلام شيخ الإسلام ليس هو في محل النزاع أيضاًَ، فإن الإخوان لم ينازعوا في هذه المسائل ولم يكفروا بها أحداً حتى يستدل عليهم بكلام شيخ الإسلام، لأن كلام الشيخ إنما هو في مسائل مخصوصة، وفيما قد يخفى دليله في المسائل النظرية الخفية الاجتهادية، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وأما جحد علو الله على خلقه، واستوائه على رعشه بذاته المقدسة على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه مباين لمخلوقاته، وكذلك نفي صفات كماله، ونعوت جلاله فهذا لا يشك مسلم في كفر من نفى ذلك، لأنه من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، ومما فطر الله عليه جميع خلقه إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، وأدلة ذلك من الكتاب والسنة معلومة مشهورة مقررة لا يخفى ذلك إلا على من أخلد إلى الأرض وابتع هواه، وأضله الله على علم، وختم على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله.(174/50)
ثم قال الشيخ : وهل أوقع الاتحادية والحلولية فيما هم عليه من الكفر البواح، والشرك العظيم، والتعطيل لحقيقة وجود رب العالمين إلا خطأهم في هذه الباب الذي اجتهدوا فيه فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وهل قَتل الحلاج باتفاق أهل الفتوى على قتله إلا بضلال اجتهاده، وهل كفر القرامطة، وانتحلوا ما انتحلوه من الفضائح الشنيعة، وخلع ربقة الشريعة إلا اجتهادهم فيما زعموا، وهل قالت الرافضة ما قالت، واستباحت ما استباحت من الكفر والشرك وعبادة الأئمة الإثني عشر وغيرهم، ومسبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين إلا باجتهادهم فيما زعموا هؤلاء، هؤلاء سلف العراقي في قوله : إن كل خطأ مغفور، وهذا لازم لهم لا محيص عنه، فقف هنا واستصحب ما ذكر هنا في رد ما يأتي.
والمقصود أن هؤلاء الجهال أوردوا كلام شيخ الإسلام ظناً منهم أن كل اجتهاد وكل خطأ مغفور، وأن الجهمية المنكرين لعلوا الله على خلقه، وعباد القبور المتخذين الأنداد والآلهة من دونه داخلون في هذا الكلام، وأنه مغفور لهم خطأهم.سبحانك هذا بهتان عظيم.
واعلم أن هذا المعترض قد حذف من كلام شيخ الإسلام أوله فقال :
فائدة منقولة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في جواب له في الطائفة القدرية، وكلام شيخ الإسلام ليس في الطائفة القدرية بل في القلندرية، فلم يفرق الناقل بين اللفظين، والطائفتين فإن مذهب هؤلاء غير مذهب هؤلاء.
والكلام المحذوف من جواب شيخ الإسلام هو قوله :(174/51)
(( وأما قول هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى فمن أهل الضلالة، وأكثرهم كافر بالله ورسوله لا يرون وجوب الصلاة، ولا الصيام، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى، وليسوا من أهل الملة، ولا من أهل السنة، وقد يكون فيه من هو مسلم لكنه مبتدع ضال، أو فاجر فاسق إلى أن قال : تجب عقوبة جميعهم ومنعهم من هذا الشعار الملعون، كما يجب ذلك في كل معلن ببدعة وفجور، وليس ذلك مختصاً بهم، بل كان من كان من المتفقهة والمتعبدة والمتكلمة ))، فانظر ماذا أراد بحذف هذا، وما ملخصه فيه فإن من كان من المتنسكة والمتفقهة إلى آخر كلامه ليسوا من الطائفة القلندرية.
فصل(174/52)
ثم نقل نقلاً آخر فقال : قال رحمه الله في موضع آخر بعد كلام ذكره : وحقيقة الأمر في ذلك أن القول يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، فهذا كما في نصوص الوعيد أن الله تعالى قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10).فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، يعني لا يقال هذا من أهل النار، فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد يكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وكذلك الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد يكون بلغه ولم يثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق فإن الله تعالى يغفر له خطأه كائناً من كان، سواء كان في المسائل النظرية والعملية، هذا الذي عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة المسلمين من أهل السنة، انتهى كلام شيخ الإسلام باختصار.(174/53)
والجواب أن يقال أما كلام شيخ الإسلام في عدم تكفير المعين فالمقصود به في مسائل مخصوصة قي يخفى دليلها على بعض الناس كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية من أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنفس النص، أو بدلالته فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها، ولذلك ذكر هذا في الكلام على بدع أهل الأهواء، وقد نص على هذا فقال في تكفير أناس من أعيان المتكلمين بعد أن قرر هذه المسألة قال : وهذا إذا كان في المسائل الخفية فقد يقال بعدم التكفير، وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله.
وبهذا تعلم غلظ هؤلاء المشبهين بكلام شيخ الإسلام، وجهلهم، وعدم معرفتهم، ولبسهم الحق بالباطل لدى العامة أو شبيهاً بالعامة، فإن هاتين البلدتين قد بلغتهم الحجة، والحجة القرآن والحديث وعقائد الأئمة الأربعة، وناظروهم مرات عديدة علماؤنا ولم يزدادوا إلا تمرداً وعناداً، إلى الإصرار على التجهم، ودعوة غير الله، والذبح لغير الله كما هو مشهور منهم من أعوام متطاولة.
قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في رده شبهات داود ابن جرجيس : والجواب أن شيخنا رحمه الله قال في مثل هذه الشبه التي يوردها المبطلون من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية : إن من تأمل كلامه رحمه الله وجده يصله بما يفصل النزاع ويبين المراد، وقد بين في هذا النقل بياناً يقطع النزاع بقوله : إلا إذا علم أنه قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى.(174/54)
وهذا البيان كاف فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لا يكفر أحداً قبل قيام الحجة، وهذا يأتي على جميع ما ساقه العراقي بالرد والدفع، فسياق هذه العبارات المتحدة المعاني والتشبيه بها وكثرة عددها مجرد تخيل وهوس.
قلت تأمل رحمك الله أيها المصنف ما قاله الشيخ رحمه الله أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى قال في إدخال هذه الشبهة التي يوردها المبطلون من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية إلى آخره : إن من شبه بها كان مبطلاً، لأنه ما عرف كلام شيخ الإسلام حيث وضعه في غير موضعه، وشيخ الإسلام قد وصله بما يفصل النزاع، ثم تأمل ما يأتي بعد هذا من كلام تلميذه ابن القيم رحمه الله.
قال الشيخ وقال في موضع آخر : قال ابن القيم رحمه الله في طبقات المكلفين بعد أن ذكر الطبقة السادسة عشر وأطال الكلام فيها، ثم ذكر الطبقة السابعة عشر فقال : الطبقة السابعة عشر طبقة المقلدين، وجهال الكفرة، وأتباعهم، وحميرهم الذين معهم تبع ما يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة، ولنا أسوة بهم، ومع هذا فهم مسالمون لأهل الإسلام غير محاربين لهم كنساء المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاء نور الله وعدم دينه، وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب، وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار، وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاء بالنار، وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين ولا الصحابة، ولا التابعون، ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث في الإسلام.(174/55)
إلى أن قال : والإسلام هو توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله، واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد توحيد الله تعالى، وكذب رسوله إما عناداً، وإما جهلاً وتقليداً لأه العناد، فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله تعالى في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار وأن الأتباع مع متبوعيهم، فإنهم يتحاجون في النار، وإن الأتباع يقولون : ( رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ) (لأعراف: من الآية38) .
وذكر آيات نحو هذه ثم قال : نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم، ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد ل يتمكن من ذلك، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المعرض تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان : -
أحدهما : مريد للهدى، مؤثر له، محب له، غير قادر عليه، ولا على طلبه لعدم مرشد، فهذا حكمه أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني : معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول : يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به، وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي، ونهاية معرفتي.
والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز، ولهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق.
فالأول كم طلب الدين في الفترة فلم يظفر به فعدل عنه بعد استغراقه الوسع في طلبه عجزاً أو جهلاً.(174/56)
والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب، وعجز المعرض فتأمل هذا الموضوع والله يقضي بين عباده يوم القيامة بعدله وحكمته، ولا يعذب إلا من قامت عليه الحجة بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليهما الحجة أم لا فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وعباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول، هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله تعالى، وحكم هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم.
وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول :(174/57)
أحدها : أن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الاسراء: من الآية15) وقال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (النساء: من الآية165) وقال تعالى : ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) (الملك: من الآية9:8) وقال : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:11) وقال : (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) (الأنعام:130) وهذا كثيرا في القرآن يخبر تعالى أنه إنما يعذب من جاءه الرسول أو قامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه، وقد قال تعالى : (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (الزخرف:76) والظالم من عرف ما جاء به الرسول، أو تمكن من معرفته ثم خالفه، وأعرض عنه، وأما من لم يكن عنده الرسول خبر أصلاً، ولا تمكن من معرفته بوجه، وعجز عن ذلك فكيف يقال إن ظالم.
الأصل الثاني : أن العذاب يُسْتَحَقّ بشيئين : أحدهما الإعراض عن الحجة وعدم إرادته لها وبموجبها.الثاني العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها.فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا هو الذي نفى الله التعذيب عليه، حتى تقوم حجته بالرسل.(174/58)
الأصل الثالث : أن تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه لكونه لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً، ولا يتمكن من التفهم وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما.
الأصل الرابع : أن أفعال الله سبحانه تابعة لحكمته التي لا يخل بها، وأنها مقصودة لذاتها المحمودة، وعواقبها الحميدة، تبنى مع تلقي أحكامها من نصوص الكتاب والسنة، لا من آراء الرجال وعقولهم، ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقة إلا من عرف ما في كتب الناس، ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب، وانتهى إلى غاية مرامهم ونهاية إقدامهم والله تعالى الموفق للسداد الهادي إلى الرشاد إلى آخر كلامه رحمه الله.
قال شيخنا فقف هنا وتأمل هذا التفصيل البديع فإنه رحمه الله لم يستثن إلا من عجز عن إدراك الحق مع شدة طلبه وإرادته له، فهذا الصنف هو المراد في كلام شيخ الإسلام وابن القيم وأمثالهما من المحققين.
وأما العراقي وإخوانه المبطلون فشبهوا بأن الشيخ لا يكفر الجاهل، وأنه يقول هو معذور، وأجملوا القول ولم يفصلوا، وجعلوا هذه الشبهة ترساً يدفع بها الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وصاحوا على عباد الله الموحدين كما جرى لأسلافهم من عباد القبور والمشركين وإلى الله المصير وهو الحاكم بعلمه بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، انتهى.(174/59)
فتبين أن فرض كلام الشيخ شيخ الإسلام فيما نقله هؤلاء الجهال أنه في غير ما يعلم من الدين بالضرورة، وفي غير المفرط في طلب العلم والهدى وكما تقدم فيما نقلناه من طبقات المكلفين، وأنه في المسائل التي قد يخفى دليلها، فإذا عرفت هذا تبين لك أنه لا حجة لهم في كلام الشيخ بل هو عليهم لا لهم، وإيرادهم إياه مجرد هوس وتلبيس وتمويه وسفسطة على عامة ساكني ساحل عمان .
والله الهادي إلى الرشاد والموفق للسداد.
فصل
في الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة
قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله : وينبغي أن يعلم الفرق بين قيام الحجة، وفهم الحجة، فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة إذا كان على وجه يمكن معه العلم، ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء به الرسول، فافهم هذا يكشف عنك شبهات كثيرة في مسألة قيام الحجة، قال الله تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان:44) وقال تعالى : (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة) (البقرة: من الآية7) انتهى.(174/60)
قلت ومعنى قوله رحمه الله : (( إذا كان على وجه يمكن معه العلم )) فمعناه أن لا يكون عديم العقل والتمييز كالصغير والمجنون، أو يكون ممن لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجك له، ونحو هؤلاء فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، قال الله تعالى : (ُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام: من الآية19) وقال تعالى : ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ً) (النساء: من الآية165) فلا يعذر أحد في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك في كفرهم، وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر، والشك هو التردد بين شيئين كالذي لا يجزم بصدق الرسول ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريمه، وهذا كفر بإجماع العلماء، ولا عذر لمن كان حاله هكذا لكونه لم يفهم حجج الله وبيناته لأنه لا عذر له بعد بلوغها لكونه لم يفهمها، وقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم يفهموا فقال : ( وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرا) (الأنعام: من الآية25) وقال : ( إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (لأعراف: من الآية30) فبين سبحانه أنهم لم يفقهوا، فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح هذا الجنس من الكفار كما في قوله تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ(174/61)
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف من الآية: 103-104-105 ) الآية.
فإذا تبين لك هذا واتضح فاعلم أن هؤلاء الذين شبهوا بكلام شيخ الإسلام وأجملوا ولم يفصلوا لبسوا الحق بالباطل، وشيخ الإسلام رحمه الله قد وصل كلامه بما يقطع النزاع، ويزيل الإشكال، فذكر أن ذلك في المقالات الخفية، والمسائل النظرية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس وأما مسألة توحيد الله وإخلاص العبادة له فلم ينازع في وجوبها أحد من أهل الإسلام لا أهل الأهواء ولا غيرهم، وهي معلومة من الدين بالضرورة كل من بلغته الرسالة وتصورها على ما هي عليه عرف أن هذا زبدتها وحاصلها وسائر الأحكام تدور عليه، وكذلك الجهمية الذين أخرجهم أكثر السلف من الثنتين والسبعين فرقةً.
قال شيخ الإسلام في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيراً قال : (( وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال فيها إنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر منهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث بها، وكفر من خالفها مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذه أظهر شعائر الإسلام، مثل إيجاب الصلوات الخمس، وتعظيم شأنها، ومثل تحريم الفواحش والزنا والخمر والميسر، ثم تجد كثيراً من رؤساهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرازي.قال : وهذه ردة صريحة، انتهى.(174/62)
فالشخص المعين إذا صدر منه ما يوجب كفره من الأمور التي هي معلومة من ضروريات دين الإسلام، مثل عبادة غير الله سبحانه وتعالى ومثل جحد علوا الله على خلقه، ونفي صفات كماله ونعوت جلاله الذاتية والفعلية، ومسألة علمه بالحوادث والكائنات قبل كونها، فإن المنع من التكفير والتأثيم بالخطأ في هذا كله رد على من كفر معطلة الذات، ومعطلة الربوبية، ومعطلة الأسماء والصفات، ومعطلة إفراد الله تعالى بالإلهية، والقائلين بأن الله لا يعلم الكائنات قبل كونها كغلاة القدرية، ومن قال بإسناد الحوادث إلى الكواكب العلوية، ومن قال بالأصلين النور والظلمة، فإن من التزم هذا كله فهو أكفر وأضل من اليهود والنصارى.
وكلام شيخ الإسلام إنما يعرفه ويدريه من مارس كلامه، وعرف أصوله فإنه قد صرح في غير موضع أن الخطأ قد يغفر لمن لم يبلغه الشرع، ولم تقم عليه الحجة في مسائل مخصوصة، إذا اتقى الله ما استطاع، واجتهد بحسب طاقته، وأين التقوى وأين الاجتهاد الذي يدعيه عباد القبور، والداعون للموتى والغائبين، والمعطلون للصانع عن علوه على خلقه، ونفي أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، كيف والقرآن يتلى في المساجد والمدارس والبيوت، ونصوص السنة النبوية مجموعة مدونة معلومة الصحة والثبوت.
وكذلك ابن القيم رحمه الله لما ذكر طبقات المكلفين قال في الطبقة السابعة عشر : وأما كون زيد بنفسه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وعباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر.فإنه فَصَلَ النزاع، وأزال الإشكال بهذا وبقوله : وإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله تعالى وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر.(174/63)
فبين رحمه الله أن هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأنه لا يجوز لأحد أن يحكم على إنسان بعينه أن الله يعذبه ويعاقبه على ما صدر منه قبل قيام الحجة عليه بالرسول، وأما أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهرها، ومَثَّلَ ذلك بأطفال الكفار ومجانينهم، بأنهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم، وقد تقدم كلام الشيخ في الرازي وتصنيفه في دين المشركين، وأنها رِدَّة صريحة، وهو معين، وتقدم في كلام الشيخ عبد اللطيف رحمه الله حكاية أجماع العلماء على تكفير بشر المريسي، وهو رجل معين، وكذلك الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وكذلك الطوسي نصير الشرك، والتلمساني، وابن سبعين، والفارابي، أئمة الملاحدة، وأهل الوحدة، وأبي معشر البلخي، وغيرهم وفي إفادة المستفيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في تكفير المعين ما يكفي طالب الحق والهدى.
فصل
وأما ما ذكره من أن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلون الجمع والأعياد والجماعات إلى آخره.(174/64)
فالجواب : أن هذا من المعلوم بالضرورة لا ينكره إلا مكابر، وهذا فيمن كانت بدعته لا تخرجه عن الملة، أو كان فاسقاً أو فاجراً، وليس الكلام في هذا وإنما الكلام والنزاع في الصلاة خلف عباد القبور، وخلف الجهمية الذين ينكرون علو الله على خلقه، وقد تقدم في جواب الشيخ عبد اللطيف رحمه الله بعد أن ذكر أقوال الأئمة، وأنهم لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة.قال : والصلاة خلفهم لا سيما صلاة الجمعة لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القوم يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهوراً ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد.
إلى أن قال رحمه الله : ولبشر المريسي وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحاداً من بعض كلام هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيرهم، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره، وقد صرح الإمام أحمد فيما نقل عنه ابن عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كان لهم شوكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، انتهى.
وفي كتاب السنة لعبد الله بن أحمد رحمه الله قال حدثني إسحاق بن بهلول قال قلت لأبي ضمرة أنس بن عياض : أُصَلِّي خلف الجهمية ؟ قال : لا ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين .
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال حدثنا إبراهيم بن نعيم البابي السجستاني سمعت سالم بن أبي مطيع يقول : الجهمية كفار لا أصلي خلفهم، انتهى.(174/65)
فإذا تبين هذا فالتلبيس والتشبيه على الناس بجواز الصلاة خلف أهل البدع والأهواء، وأهل الفجور والفسق والمعاصي، وإدخال الجهمية وعباد القبور في جملتهم لبس للحق بالباطل، وصد عن سبيل الله، وافتراء على الأخوان، فإن هذا فرض فيمن لم تخرجه بدعته من الملة، وأما عباد القبور والجهمية فقد تقدم كلام الأئمة فيهم، والمؤمن من يخاف الله ويتقيه لا يلبس الحق بالباطل، ويوقع الناس في الشبهات لملاحظة الشهوات، والله الهادي إلى الصواب، وإليه المرجع والمآب.
فصل
وأما ما ذكره عن شيخ الإسلام رحمه الله من ذكره طائفة من المصنفين في الرقائق والفضائل في الصلوات الأسبوعية إلى آخر كلامه.(174/66)
فالجواب أن يقال ما ذكره شيخ الإسلام حق وصواب، وهو خارج عن محل النزاع، ومن المعلوم أن هؤلاء العلماء إنما صنفوا في فضائل هذه الأعمال لما ظنوا صحة ما بلغهم فيها، فعملوا به، فهم مأجورون على حسن قصدهم، لا على مخالفتهم للسنة، وكَونُه لم يبدعهم ولم يفسقهم ولم يجهلهم فما ذاك إلا لكونهم عملوا بما بلغهم، ولم يتعمدوا مخالفة السنة، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، وهذا بخلاف من يعلم أن هذا الأمر مخالف للسنة، أو يعلم أن هؤلاء القوم مثلاً أهل بدع مخالفون لما عليه أهل السنة، فإذا أنكر عليه أحد من المسلمين بدعتهم وضلالتهم قام في نحره، وجادل عن أهل البدع، ونصب نفسه هدفاً دونهم، وأنهم لا يبدعون ولا يفسقون ولا يجهلون بفعل البدع والفسوق لكون أهل العلم لم يبدعوا ولم يفسقوا ولم يجهلوا من العلماء ممن علموا أنهم مجتهدون فأخطؤوا في اجتهادهم، فإن أهل العلم مغفور لهم ما أخطؤوا فيه باجتهادهم، وهؤلاء متعمدون في ردع أهل الحق دون أهل الباطل، وهم يعلمون أنهم أهل بدع فكيف إذا كان النزاع في عباد القبور، ومعطلة الصانع سبحانه عن علوه على خلقه، واستوائه على عرشه، ونفي صفات كماله، ونعوت جلاله، فقياس هؤلاء الملاحدة على أولئك من أفسد القياس وأبطل الباطل، وليس لصاحب هذا القول والقياس حظ من النظر والدليل، بل هو سفسطة وضلال عن سواء السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما ما ذكره المعترض من أنه لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة إلى آخر ما ذكر.
فالجواب أن يقال هذا حق وصواب لا مرية فيه، ولا يكفر بالذنوب إلا الخوارج والروافض كما تقدم ذكره عن شيخ الإسلام، فأصل التكفير إنما هو من الخوارج الذين يكفرون أئمة المسلمين فيما أخطؤوا فيه، وبما ظنوه خطأ وليس بخطأ في نفس الأمر، وهم عشرون فرقة.(174/67)
المُحَكِّمَة وهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عن التحكيم، وكفروه، وكفروا عثمان رضي الله عنه وأكثر الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا إثنا عشر ألفاً، وكانوا أهل صلاة وصيام وقراءة.
ومنهم البيهسية قالوا من وقع في شيء لا يعلمه أحلال أم حرام فهو كافر.
ومنهم الأزرقية أصحاب نافع بن الأزرق كفروا علياً بالتحكيم، وكفروا عثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الله بن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، والمسلمين، وحكموا بالخلود في النار.
ومنهم النجدية أصحاب نجدة بن عامر.
ومنهم العاذرية الذين عذروا الناس في الجهالات إلا في الفروع.
ومنهم الأصفرية أصحاب زياد بن الأصفر.
ومنهم الأباضية أصحاب عبد الله بن أباض كفروا علياً وأكثر الصحابة، وافترقوا سبع فرق.
ومنهم الحفصية أصحاب حفص بن أبي المقدام.
ومنهم اليزيدية أصحاب يزيد بن نسيئة قالوا يبعث نبياً من العجم بكتاب يكتب في السماء ويترك ملة محمد ويختار ملة الصابئة.
ومنهم الحارثية أصحاب أبي الحارث الأباضي خالفوا في القدر .
ومنهم العجاردة أصحاب عبد الرحمن بن عجرد وهم أربع فرق كلها معلومة بالمحال مشهورة بالضلال.
فإذا تبين لك هذا من حالهم ومقالهم تبين لك طريقة أهل السنة والجماعة في عدم تكفير المسلمين بالذنوب، أو تكفير من أخطأ خطأ لا يخرجه من الملة، فأما تكفير الجهمية، وعباد القبور فليس من هذا القبيل، ولا على منهاج هذا السبيل، فإن الجهمية قد أخرجهم أكثر السلف من اثنتين وسبعين فرقة كما تقدم عن عبد الله بن المبارك لم سئل عن الجهمية فقال : ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .(174/68)
وأما عباد القبور فهم عند أهل السنة والجماعة يسمون الغالية لمشابهتهم النصارى في الغلو في الأنبياء والأولياء والصالحين، فمن كفرهم، وأظهر عداوتهم، وبغضهم، وحذر عن مجالستهم، وبالغ في التنفير عنهم فقد اتبع سبيل المؤمنين واقتفى آثار الأئمة المهتدين، وخالف ما انتحله الخوارج والروافض من تكفير المسلمين، فمن جعل تكفير هؤلاء كتكفير هؤلاء فهو من الملبسين، ومن الصادين عن سبيل الله، والباغينها عوجاً، نعوذ بالله من رين الذنوب، وانتكاس القلوب.
فصل
قال المعترض : (( الفصل الأول في بيان جواز المسبحة، ثم قال بعد الخطبة : عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) رواه البخاري , قال ابن رجب رحمه الله في عرض كلامه على هذا الحديث : فمن تقرب إلى الله عز وجل بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة فعمله باطل مردود عليه، انتهى باختصار.
قلت : فالقربة كل عمل يرجو عامله عليه من الله الثواب، وترك ما يرجو تاركه من الله الأجر، ويخشى على فعله العقاب، والمسباح ليس من ذلك إنما يتخذ آلة لحفظ العدد المحصور في الحديث المشهور (( من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )) وما أشبه ذلك من الأذكار الواردة على مثل ذلك، فالمسباح آلة لا قربة، فكيف يصير متخذه مبتدعاً، والآلات ليست من القربات، ولم يردع الشرع بتحريمها إذا لم يستعين بها على المعاصي، وقد علمت أن الجهاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومن بعدهم من الصحابة رضي الله عنهم كان بالرمح والسيف والنبل، فلما حدثت المدافع والبنادق اتخذها المسلمون آلة في الجهاد يقاتلون في سبيل الله ولم ينكرها أحد من علماء الملة المحمدية، وكذلك الساعات )) إلى آخر كلامه.(174/69)
فالجواب أن يقال : أمر المسباح والكلام فيه أمر جزئي في جنب ما تقدم من المسائل، والكلام فيه من أسهل ما يكون لقلة الفائدة، لأن مسألة المسباح مسألة خلافية بين العلماء المتأخرين، وللعلماء فيه كلام منهم من أجازه خفيةً على الوجه المباح كما سنبينه، ومنهم من منع ذلك وقال : إن السبحة بدعة محدثة ورياء وسمعة، ولو لم يكن في المنع منها إلا سد الذريعة عن محظورات الشريعة، وسد الذريعة أصل أصيل، ومذهب جليل، فمن اتخذ المسباح فقد خالف ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر به ولم يشرعه لأمته لوم يفعله، ولو أمر به، وسنه لأمته، وشرعه، وكان فيه فضل لكان أسبق الناس إلى فعله واتخاذه، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأفاضل الصحابة رضي الله عنهم لا سيما عبد الله بن عمر فإنه كان يتحرى ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان يصلي في المكان الذي يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبول في المكان الذي كان يبول فيه، وكان عمر رضي الله عنه وسائر الصحابة يخالفون في ذلك، وينهون عن تتبع آثار الأنبياء، فإذا وضح لك هذا فمن أجازه فإنما أجازه على سبيل القياس، والقياس يخطئ ويصيب، وقد علمت أن منه ما هو صحيح، ومنه ما هو سقيم، ومنه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، وأيضاً فقد نقل هذا المعترض عن ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث قوله : (( فمن تقرب إلى الله عز وجل بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة فعمله باطل مردود عليه )) فأين في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الأمر باتخاذ المسابيح المحدثة سبحانك هذا بهتان عظيم، فليس في الحديث الصحيح ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه، ولا في كلام ابن رجب ما يدل على ذلك بل يناقضه أشد المناقضة، ويخالفه أشد المخالفة، راجع شرحه لهذا الحديث في كتابه تجد غلط هؤلاء، وتصحيفهم(174/70)
عليه، فالحديث حجة عليهم لا لهم.
وأما قول القائل : إنها ليست بقربة إنما هي آلة لحفظ العدد المحصور في الحديث المشهور، والمسباح آلة فكيف يصير متخذه مبتدعاً إلى آخر كلامه.
فأقول اعلم وفقك الله لطاعته أن هذا القياس من أبطل القياس، وأوهنه بلا التباس ،وهو منقوض عليه فإن المدافع والبنادق والصمع من جنس السلاح، فالبندق من جنس النبل يرمى بها كما يرمى بالنبل بل هي أشد نكاية في العدو، والمدفع من جنس المنجنيق يرمى به كما يرمى بالمنجنيق بل هو أشد نكاية وأعظم إرهاباً للعدو، والكل آلة للجهاد، ولا يشك في ذلك من كان له أدنى ممارسة وانتقاد، وكذلك الخيل والركاب والدروع آلاتٌ يستعان بها في جهاد الكفار، واقتناؤها وشراؤها واستعمالها في الجهاد من أفضل القربات وقد حَبَسَ الصحابة وأوقفوا من ذلك في الجهاد، وفي سبيل الله ما هو معلوم مشهور، مقرر في محاله ومظانه، ولا يتغير الحكم لكون هذه نبلاً وهذا سيف ورمح أو منجنيق إذا حدث من جنسه ما هو أنكأ في العدو منه كالمدفع والبندق والصمع، فلو أوقف مسلم في جهاد الكفار مدافع وبنادق لكان هذا قربة إلى الله، وعمل صالح لا يشك في ذلك مسلم، كمن وقف خيلاً وركاباًً ودروعاً في سبيل الله لا فرق، ومن فرق فعليه الدليل، فإنه لا يقول من له أدنى معرفة إن هذه الآلات ليست من القربات، ومن قال ذلك فقد كابر المنقول والمعقول.
قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة على قوله صلى الله عليه وسلم : (( فإنكم تظلمون خالداً وقد احتبس أدراعه وعتاده في سبيل الله )) قال : العتاد ما أعد الرجل منه السلاح والدواب وآلات الحرب، انتهى، وهذا لا إشكال فيه.(174/71)
وأما الساعات والجداول والروزنامات فليس لها جنس معهود في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اعتماد عليها، والمعتمد في ذلك ما شرعه الله ورسوله من معرفة ما حدّ في المواقيت، فلا اعتداد بالساعات والجداول، فلا يقاس بها ولا عليها، وليست من القرب في شيء، وإذا كان المسباح قد أقررتم أنه ليس بقربة كما هو كذلك وقد وضح لك أن قياسه على ما ذكر هذا المعترض ممنوع عقلاً ونقلاً فكان بدعةً محدثةً لأنه ليس بمشروع، ولا قيس على فعل مشروع فيكون باطلاً بل قياسه على النوى والحصى والخيط المعقود لو كان مشروعاً أولى من قياسه على ما ذكره من النبل والرمح والسيف، وعلى ما حدث بعد هذا من آلات الحرب، لكن التسبيح بالنوى والحصى ليس بمشروع، ومن أجازه اشترط الإخفاء به، فاتخاذ السبحة على هذا الوجه الذي يفعله الناس اليوم بدعة لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا اتخذه، ولا رآه بأبي هو وأمي، ولا اتخذه أحد من أصحابه لا ظاهراً ولا باطناً فليس من الدين في شيء لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وفي لفظ (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) أي مردود عليه.(174/72)
ولا يخل ناقل المسباح من أحد أمرين : إما أن يتخذ ذلك زاعماً أنه يسبح به فيكون قد رآء الناس بهذا العمل، ومن رآء الناس بعمله فقد أشرك، أو لا يريد به التسبيح وإنما يتخذه ملهاً يلهو به، ويلعب به كما هو الواقع المشاهد من كثير من الناس اليوم، أو ينزلها منزلة العصى فيكون مخالفاً للسنة، ومن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله تعالى لم يأذن في اللهو واللعب، ولم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولا كان ذلك ديناً ينسب إليه، وإلى رسله ودينه وشرعه، إلا ما خصه الدليل من اللهو بالقوس والفرس والمرأة، ولو كان مشروعاً لكان أسبق الناس إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف يكون المسباح أمراً مشروعاً محبوباً لله ويفوز بقصب السبق إليه هؤلاء الخلوف ويُحرمه أفاضل الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أصحابه _ رضي الله عنهم _ هذا ما لا يكون أبداً، ومع كونه محدثة في الدين، لم يتخذه ويستعمله من الناس في الغالب إلا أهل الغفلة، والمرائين بأعمالهم، وفساق الناس الذين لا يذكرون الله إلا قليلاً، فإذا جاء أحدهم إلى مجامع الناس أو مساجدهمم ومجالسهم أو أسواق المسلمين رأيت المسباح في يده.
وقد قال شيخ الإسلام قدس الله روحه بعد كلام له : وإنما مثلهم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر ومخالفة الشرع ما يفسد حال صاحبها إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
إذا عرفت هذا وعرفت أن اتخاذه على هذا الوجه ليس من الدين في شيء، وأنه بدعة ورياء محدثة، ومن جوزه من العلماء فإنما قاسه على الحصى ونحوها.(174/73)
وبلا نزاع أن التسبيح بالأصابع وعقدها في كاعة الله هو السنة المحمدية الثابتة من قوله وفعله، وفعل خلفائه وصحابته، وفي هديهم كفاية لكل مقتدي، ولكن شرط من أجازه من متأخري العلماء بأن يتخذه الإنسان في محل ورده ومصلاه الذي يخلو العبد فيه بربه حيث لا يراه أحد ولا ينظرون إليه، وأما ما يفعله الناس اليوم فحاشا وكلا بل هو إلى الريا والسمعة أقرب منه إلى السنة، وكونه بهذا الوجه بدعة محدثة أوضح من الشمس في رابعة النهار، وإذا كان ذلك كذلك فما وجه الاعتراض والتشنيع على من نهي عنه، وسماه بدعة، بل الذي أجازه مطلقاً قد فتح للناس باباً من الريا والسمعة.(174/74)
ومما يوضح لك ما نقلناه أن العمل إذا كان على غير الوجه المشروع يكون بابَ ضلالة ما رواه الدارمي قال أخبرنا الحكم عن ابن المبارك قال أخبرنا عمرو بن يحيى قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال : كما نجلس على باب ابن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاء أبو موسى فقال : أَخَرَجَ عليك أبو عبد الرحمن بعد ؟ قلنا : لا.فجلس معنا فلما خرج قال : يا أبا عبد الرحمن إني رأيت آنفاً شيئاً في المسجد أنكرته والحمد لله، ولم أر إلا خيراً.قال : فما هو ؟ فقال : إن عشت فستراه.قال : رأيت في المسجد حلق خيرٍ جلوس ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول لهم : كبروا مائة، فيكبرون مائة فيقول : هللوا مائة، فيهللون مائة،.فيقول : سبحوا مائة، فيسبحون مائة.قال : فماذا قلت لهم ؟ قال : ما قلت لهم شيئاًَ أنتظر رأيك.فقال : أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يفوت من حسانتهم من شيء، ثم مضى حتى أتى حلقة منهم فقال : ما هذا ؟ قالوا : حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح.قال : فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يفوت من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بينكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى ملة محمد، أو مفتحوا باب ضلالة ؟ قالوا : والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير.قال : وكم من مريد الخير لن يصبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا : (( إن قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم )) وأيم الله لا أدري لعل أكثرهم يكون منكم.
قال عمرو بن سلمة : رأيت عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوراج.
وذكر محمد بن وضاح في كتابه ما هو هذا وزيادة كنحو قوله لهم : (( لقد ركبتم بدعة ظلماء، أو فضلتم أصحاب محمد علماً )).(174/75)
وثم ذكر ابن وضاح أن أبان بن عياش سأل الحسن عن العد بالحصى والنوى فقال : (( لم يفعل العد أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا المهاجرات )) .
قال محمد بن وضاح حدثنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن بهرام قال مرّ ابن مسعود رضي الله عنه بامرأة معها تسبيح تسبح به، فقطعه وألقاه، ثم مرّ برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال : لقد ركبتم بدعة ظلماء، أو لقد غلبتم أصحاب محمد علماً.اهـ من كتابه.
فانظر رحمك الله إلى هذا العمل المشروع المطلوب المحبوب لله المندوب إليه لمّا كان على غير عمل الصحابة، ولم يكونوا يفعلون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أحد من الصحابة بعد وفاته، أنكره علماء الصحابة وأفاضلهم كعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري حتى قال عبد الله بن مسعود : (( والذين نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، مفتحوا باب ضلالة )).
فتبين بهذا أن هذا بدعة وضلالة وأنه ليس من هدى الرسول وملته، وهم إنما يعدون التكبير والتهليل والتسبيح بالحصى، وأنهم إنما يتخذونه آلة لحفظ العدد المحصور في الحديث المشهور، فاتبع هؤلاء في الابتداع من كان من سلفهم على عهد الصحابة في استحسان البدع الذين كان آخر أمرهم يطاعنون الصحابة يوم النهروان، والمنكرون لهذا الابتداع اتبعوا سلفهم في إنكار ما هو محدث في الدين، كعبد الله بن مسعود، وأبي موسى، وحذيفة، والحسن البصري ولكل قوم وارث.
فإذا علمت أن هذا العمل الصالح لما كان يفعله بعض الناس ظاهراً في المسجد أو المجلس ونحوه، بالحصى أو المسباح أنه على غير عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه كان فاعله مفتتحاً باب ضلاله، وعلى غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم في العمل، وأن الصحابة رضي الله عنهم لم يتخذوا المسابيح لا ظاهراً ولا خفاءً، تبين لك أن هذا العمل محدث.(174/76)
فإن قيل : قد فعل العد بالحصى ونحوه بعض السلف والخلف، ومستندهم حديث سعد بن أبي وقاص أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على المرأة، وإنما دلها على ما هو أفضل وأيسر عليها، وهذا يدل على الجواز.
قيل : نعم صدر ذلك عن بعض منهم بوجه الخفاء، والمرأة رجعت لما هو أيسر وأفضل متابعة لما دلّها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما أبو هريرة رضي الله عنه فكان لا يستعمله إلا في داره عند نومه، وتلك حالة لا يشاهده فيها أحد ولا يراه الناس، وفعل الصحابي الواحد ليس بحجة عند أهل الحديث ونحوهم، ومن فعل منهم فإنما يفعله في مصلاه، وكان السلف أحرص الناس على إخفاء العمل كما هو معروف مشهور عنهم.
فإذا فهمت هذا علمت أن الذي يفعله الناس على خلاف مذهب من أجازه من العلماء.
فصل
وأما ذكره بعد هذا عن شيخ الإسلام من أن جنس المفضول قد يكون أفضل من الفاضل.
فأقول : هذا حق لا ريب فيه، لكن إذا كان المفضول مشروعاً وإدخال هذا في مسألة المسباح جهل، وتلبيس، وتكثر بما ليس هو في مشروعيته وكونه فاضلاً أو مفضولاً، فإن من نهى عنه إنما هو لكونه بدعة محدثة في طرف لم يعرفونه منذ أعصار متطاولة، حتى ما دعوتم وألفتم في رسائل، ومن نهى عن مراده سداً للذريعة المفضية إلى الرياء والمشابهة، وعدم فعل السلف له، وأما كونه يسبح الله أو يهلله ويحمده بعقد الأصابع، أو بغير عقدها، ويستعمل هذا الورد وهذا الذكر ويدع قراءة القرآن فهذا يكون المفضول بعد الفجر والعصر أفضل من الفاضل، أو يدع قراءة القرآن، ويتابع المؤذن مثلاً وهكذا في سائر ما مثل به شيخ الإسلام من تقديم المفضول على الفاضل.
فأما كون المسباح المبتدع وإن كان مفضولاً مثلاً أفضل من عقد الأصابع أو التسبيح أو التحميد والتهليل والتكبير من غير عقد أصابع فحاشا وكلا، ولا يدخل تحت كلام الشيخ هذا، ولا يقول هذا عالم، بل هذا من تحسين البدع، وإدخالها في المشروع المطلق بنوع من المشروع المقيد .(174/77)
وأما قوله : (( وينبغي للفقيه أن يفرق بين البدعة الشرعية واللغوية )).
فأقول : البدعة في اللغة كل ما فعل ابتداء من غير مثالٍ سبق.والبدعة الشرعية هي ما لم يدل عليه دليل شرعي، فإذا علمت ذلك فالمسباح ليس هو من البدع اللغوية التي كان لها أصل في الشرع على هذا الوجه الذي يفعله الناس اليوم، بل أنكره ابن مسعود وغيره من الصحابة كما ذكره الدارمي ومحمد ابن وضاح، واتخاذه في اليد بحيث يعلمون به الناس مما لم يكن له أصل في الشرع، ولم يكن ذلك من شعار الصحابة كما ذكره شيخ الإسلام فيكون محدثاً مبتدعاً، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل، ولم يكن يفعل العد بالحصى في الخلوات إلا القليل على طريق الاستحسان لا على أنه مشروع، ولو كان فيه فضل لكان أولى الناس به، أسبقهم إلى كل خير أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
فصل
وأما قوله في أول كلامه : (( فالقربة كل عمل يرجو عامله من الله الثواب، وترك ما يرجو تاركه على تركه من الله الأجر ويخشى على فعله العقاب )).
فأقول هذا لا يسلم على الإطلاق بل كل عمل يتقرب به العبد إلى الله مما هو مشروع على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يكن كذلك فليس بقربة، ولو أن كل عمل يرجو عامله من الله الثواب يكون قربة لكانت الصلوات الأسبوعية والحولية كصلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والإربعاء والخميس والجمعة المذكورة في كتاب أبي طالب وأبي حامد وعبد القادر وغيرهم، وكصلاة الألفية التي في أول رجب، والنصف من شعبان، والصلاة الإثنا عشرية التي في أول رجب، والتي في ألو تسع وعشرين من رجب، وصلوات أخرى تذكر في الأشهر الثلاثة، وصلاة ليلة العيدين، وصلاة يوم عاشوراء، وأمثال ذلك من الأوراد الأسبوعية، ونحوها مما يروى وضعها والعامل بها يرجو ثواب الله في فعلها أتكون قربة كما قسته ؟ ولما كان هذا على خلاف السنة وخلاف المشروع كان بدعة محدثة، وأصل الصلاة مشروع محبوب لله، فتأمل ذلك، ودع بنيات الطريق.(174/78)
وأما استدلاله بحديث : (( نعم المذكر السبحة )) على المسباح المتخذ من الخرز ونحوه فهذا غلط بالاتفاق، وخطأ على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يمدح المسباح قط ولا رآه، بل هذا الحديث بعينه عند صاحب مسند الفردوس في سبحة الضحى لا غير، وقد أورده السيوطي في باب مندوبات الصلاة في جمع الجوامع، وكذا أورده في الثبت الشيخ العالم عبد القادر المصري الشهير بالأمير المالكي قال : لم يصح هذا إلا في سبحة الضحى.
فصل
ثم ذكر هذا المعترض فصلاً في بيان رفع اليدين للدعاء بعد صلاة المكتوبة، ثم ذكر الأدعية الواردة في ذلك على العموم منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هوي موضوع على مؤلفه.
وأما تخصيص رفع اليدين بعد الصلوات المكتوبة فلم يذكر فيه إلا ما ليس بصحيح لا يعتمد عليه في العبادات وجميع الأدعية التي ذكرها في الأحاديث التي أوردها إنما هي في الأدعية العامة، وأما بعد الصلوات فليس فيها إلا ما ذكره عن أنس والحديث الذي ذكره بعده وكلاهما ضعيف.
وأما قوله : (( لكنه يعمل به في الفضائل إلى آخر ما قال )) فقال شيخ الإسلام رحمه الله وقول أحمد إذا جاء الترغيب تساهلنا في الإسناد، إنما أراد به إذا كان الأمر مشروعاً، أو منهياً عنه بأصل معتمد، ثم جاء حديث فيه ترغيب في المشروع، أو ترهيب في المنهي لا يعلم أنه كذب، وما فيه من الثواب والعقاب قد يكون حقاً ولو قدر أنه ليس كذلك فلا بد من ثواب وعقاب وما يرويه مع علمه أنه كذب فمعاذ الله لا يجوز ذلك إلا مع بيان حاله، ولا يستند إليه في تريب ولا غيره، وكذلك لا يجوز أن يثبت به حكم شرعي من ندب أو كراهة أو فضيلة، ولا عمل مقدر في وقت معين بحديث لم يعلم حاله أنه ثابت، فلا بد من دليل ثابت في الحكم الشرعي وإلا كان قولاً على الله بغير علم عياذاً بالله، انتهى.
فهذا الحديث الذي ذكره عن أنس وما بعده في وقت معين، ولا نعلم حاله أنه ثابت فالاعتماد عليه قول على الله بغير علم.(174/79)
قال ابن مفلح في الآداب : قال احمد بن الحسن الترمذي : سمعت أبا عبد الله فذكر أحاديثاً.ثم قال : وقال أيضاً : من شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها، ولا يعتمد عليها.
وقال ابن المبارك : لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه.
وقال ابن مهدي : لا ينبغي للرجل أن يشغل نفسه بكتابة الحديث الضعيف فأقل ما في ذلك أن يفوته من الصحيح بقدره، انتهى.
ثم قال المعترض : (( وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : فصل وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين فلم يكون ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن )) ثم قال المعترض إلى آخر ما قال وأسقط من كلام ابن القيم رحمه الله قوله : (( وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فلم يفعل ذلك هو، ولا أحد من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنة بعدهما والله أعلم )).
فلا أدري ما الحامل له على حذف هذا الكلام، وأظن ذلك أنه لما وقع بينه وبين من أنكر عليه رفع اليدين بعد الصلاة المكتوبة أن ذلك كان بعد صلاة الفجر والعصر فلذلك أسقط هذا الكلام، أو لأن الحديث الذي أورده برفع اليدين بعد صلاة الفجر كما ذكره عن الحافظ أبي بكر بن أبي شيبة في مصنفه مما لا يصح رفعه، ولا يثبت كما نفاه ابن القيم رحمه الله.(174/80)
ثم ذكر كلام ابن القيم رحمه الله ولم ينسبه إليه بل أبهم فقال : وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلم منها انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه، والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته، والقرب منه، والإقبال عليه، ثم يسأل إذا انصرف عنه، ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي، إلا أن ههنا نكتة لطيفة وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته وذكر الله وهلله وسبحه وحمده، وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم استحب له الدعاء عقب ذلك كما في حديث فضالة بن عبيد (( إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء )).قال الترمذي حديث صحيح.
والجواب أن نقول ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى حق وصواب، ولكن الشأن كل الشأن في فهم كلامه ووضعه في موضعه، ومن تأمل كلام ابن القيم رحمه الله تعالى علم أن كلامه قطعاً إنما هو جائز أحياناً على الانفراد من غير رفع اليدين، وأما بعد المكتوبة فقد ذكر أنه لم يكن ذلك من هديه أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وأن من خص ذلك بصلاتي الفجر والعصر فإنما هو استحسان ورأي رآه من أتباع الأئمة، ولا مستند له في ذلك، وإنما يجوز ذلك في الصلوات المكتوبة فيها، وبعدها أحياناً بعد الذكر المشروع، وأما المداومة على ذلك فليس بمشروع بل مكروه كما سيأتي كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فالتمويه بأن ابن القيم أجاز ذلك بعد الصلوات المكتوبة من غير تفصيل لبسٌ للحق بالباطل.(174/81)
وتوضيح ما ذكرناه قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما سئل عما يفعله الناس بعد الصلوات الخمس.فقال : الجواب الحمد لله، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو هو، ولا المأمون عقيب الصلوات الخمس كما يفعله الناس عقيب الفجر والعصر، ولا نقل ذلك عنه أحد، ولا استحب ذلك أحد من الأئمة، ومن نقل عن الشافعي أنه استحب ذلك فقد غلظ عليه، ولفظه الموجود في كتبه ينافي ذلك، لكن طائفة من أصحاب أحمد، وأبي حنيفة، وغيرهما استحبوا الدعاء بعد الفجر والعصر قالوا : لأن هاتين الصلاتين لا صلاة بعدهما فتعوض بالدعاء عن الصلاة، واستحب طائفة من أصحاب الشافعي، وغيره الدعاء عقيب الصلوات الخمس، وكلهم متفقون على أن من ترك الدعاء لم ينكر عليه، ومن أنكر عليه فهو مخطئ باتفاق العلماء، فإن هذا ليس مأموراً به لا أمر إيجاب، ولا أمر استحباب في هذا الموطن، بل الفاعل أحق بالإنكار، فإن المداومة على ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه في الصلوات الخمس ليس مشروعاً، بل مكروه، كما لو داوم على الدعاء عقب الدخول في الصلوات، أو داوم على القنوت في الركعة الأولى في الصلوات الخمس، أو داوم على الجهر بالاستفتاح في كل صلاة، ونحو ذلك، فإنه مكروه، وإذا كان القنوت في الصلوات الخمس قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، وكان عمر بن الخطاب يجهر بالاستفتاح أحياناً، وجهر رجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك فأقره عليه، فليس كلما شرع فعله أحياناً تشرع المدوامة عليه، ولو دعا الإمام والمأموم أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لم يعدّ هذا مخالفة للسنة، كالذي يداوم على ذلك، والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو دبر الصلاة قبل السلام، ويأمر بذلك كما قد بسطنا الكلام على ذلك، وذكرنا ما في ذلك من الأحاديث، وما يظن أن فيه حجة للمنازل في غير هذا الموضع، وذلك لأن الداعي يناجي ربه، فإذا انصرف مُسَلَماً انصرف عن مناجاته،(174/82)
ومعلوم أن سؤال السائل لربه حال مناجاته هو الذي يناسب دون سؤاله بعد انصرافه، كما أن من يخاطب ملكاً أو غيره فإن سؤاله له وهو مقبل على مخاطبته أولى من سؤاله بعد انصرافه عنه، انتهى.
فتبين من كلام شيخ الإسلام أن هذا في الصلوات الخمس، وأن فعل ذلك أحياناً عقيب الصلاة لأمر عارض لا يعد فاعله مخالفاً للسنة، فأما المداومة على ذلك، أو لغير عارض فهو مكروه، وهو أحق بالإنكار لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاعل ذلك إلا لعارض، ولم يكن يداوم على ذلك، فكلام شيخ الإسلام يفسر الأخير من كلام ابن القيم، ويزيل الإشكال عمن لا تمييز عند بمدارك الأحكام، فيستدل فيما هو مشروع في العموم بالتنصيص على موطن لم يكن يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه، ولا نقل جوازه عن أحد من الأئمة.
بقي مسألة وهي ما إذا فعل الإنسان ذلك أحياناً لعارض هل يرفع يديه بالدعاء في الموطن أو لا ؟ والصحيح أنه في هذا الموطن لا يرفع يديه، فإن الأحاديث التي وردت بالأدعية دبر الصلاة سواء كان ذلك قبل التشهد، أو بعد السلام بعد الأذكار المشروعة لم يذكر فيها رفع اليدين لا بلفظ الأمر ولا بحكاية الفعل، وإنما ذلك في الأدعية العامة، فأما في هذا الموطن فلم ينقل ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، والذي اختاره شيخ الإسلام أن عامة الأدعية المأثورة كانت قبل السلام : ولا يجوز أن تشرع سنة بلفظ مجمل يخالف السنة المتواترة، أو بحديث ضعيف، أو مكذوب بالألفاظ الصريحة والله أعلم.
فصل
وأما جلسة الاستراحة فقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : فصل ثم كان صلى الله عليه وسلم ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمداً على فخذيه، كما ذكر عنه وائل وأبو هريرة، ولا يعتمد على الأرض بيديه، وقد ذكر عنه مالك بن الحويرث أنه كان لا ينهض حتى يستوي جالساً، وهذه هي التي تسمى جلسة الاستراحة.(174/83)
واختلف الفقهاء فيها هل هي من سنن الصلاة، فيستحب لكل أحد أن يفعلها، أو ليست من السنن، وإنما يفعلها من احتاج إليها ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد رحمه الله قال الخلال رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة، وقال أخبرني يوسف بن موسى أن أبا أمامة سئل عن النهوض فقال على صدور القدمين على حديث رفاعة، وفي حديث ابن عجلان ما يدل على أنه كان ينهض على صدور قدميه، وقد روي عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الجلسة، وإنما ذكرت في حديث أبي حميد، ومالك بن الحويرث، ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائماً لذكرها كل واصف لصلاته صلى الله عليه وسلم، ومجرد فعله صلى الله عليه وسلم لها لا يدل على أنها من سنن الصلاة، إلا إذا علم أنه فعلها سنة يقتدى به فيها، وأما إذا قُدِّر أنه فعلها للحاجة لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة، فهذا من تحقيق المناط في هذه المسألة، انتهى.
وقال في كتاب الصلاة : ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم فعلها، ولكن هل فعلها على أنها من سنن الصلاة وهيئاتها كالتجافي وغيره، أو لحاجة لمّا أسن وأخذه اللحم ؟ وهذا الثاني أظهر لوجهين :
أحدهما أن فيه جمعاً بينه وبين حديث وائل بن حجر، وأبي هريرة أنه كان ينهض على صدور قدميه.
الثاني أن الصحابة الذين كانوا أحرص الناس على مشاهدة أفعاله وهيئات صلاته، كانوا ينهضون على صدور أقدامهم، فكان عبد الله بن مسعود يقوم على صدور قدميه في الصلاة ولا يجلس.رواه البيهقي عنه، انتهى.(174/84)
فتأمل رحمك الله قوله : وقد روي عن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الجلسة، وإنما ذكرت في حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث، ولو كان هديه صلى الله عليه وسلم فعلها دائماً لذكرها كل واصف لصلاته صلى الله عليه وسلم، ومجرد فعلها لا يدل على أنها من سنن الصلاة إلى آخره.وكذلك ما ذكره في كتاب الصلاة من أنه صلى الله عليه وسلم إنما فعلها للحاجة لما أسن وأخذه اللحم بوجهين أظهرهما هذا، ولأ، فيه جمعاً بين حديث وائل وحديث أبي هريرة، فإذا عرفت ذلك فمن فعلها للحاجة فلا إنكار عليه، ومن لم يفعلها فقد عمل بالسنة فيكون من فعلها للحاجة فقد فعل سنة مشروعة للمحتاج، ومن قوي على تركها ولم يحتج إليها فالمسنون في حقه أن ينهض على صدور قدميه، ولا يجلس جلسة الاستراحة والله أعلم.
فصل(174/85)
ثم ذكر المعترض فصلاً في زيارة القبور وما ذكره في هذا الفصل حق لا شك فيه ولا مرية، ولكن بلغنا أن الناس في تلك الأماكن إذا فرغوا من صلاتي العيدين نهضوا من مصلاهم إلى المقبرة يزورون أهل المقابر، وأن بعض الإخوان أنكر عليهم ذلك، وأنهم عارضوه بهذه الأحاديث في استحباب زيارة القبور، فإن كان ما نقل إلينا حقاً وهم يحضون الناس على اتباع السنة والمحافظة وترك آراء الرجال، فيأتونا على ذلك حديثاً عن المعصوم صلى الله عليه وسلم صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً أنه كان صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه إذا انصرف من صلاتي العيدين يمضي إلى المقابر فيزورهم، ويسلم عليهم، ويدعو لهم، فيكون هذا سنة عائدة بعود السنة في كل عام، وإن لم يكن معهم دليل إلا هذه الأحاديث التي في عامة استحباب الزيارة فالاستدلال بها كاستدلال من يَلْبس من الرجال ما حرم الله عليه من الذهب، والحرير، وأكل ما حرم عليه بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: من الآية32)، فتخصيص زيارتها بعد صلاتي العيدين يحتاج إلى دليل، ولو كان ذلك مستحباً أو مندوباً إليه لو توفرت الهمم والدواعي على نقله، ولكان أسبق الناس إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى صلى الله عليه وسلم في أول الأمر عن زيارة القبور، فلما استقر الإسلام في قلوبهم، وأمن المحذور قال صلى الله عليه وسلم : (( إني قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولاتقولوا هجراً )) وفي حديث آخر (( فزوروها فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة )) فإذا تقرر هذا فتخصيص زيارتها بيوم من السنَة معلوم مما لم يشرعه الله ورسوله، فيكون بدعة محدثة في الإسلام.
والله أعلم
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه تسليما كثيراً إلى يوم الدين
تم تنزيل هذه المادة من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com(174/86)
http://www.alsunnah.info(174/87)
كشف اللثام
عن دين العرب قبل الإسلام
ومقارنتها بأحوال الطَّغام
تأليف
الشيخ منصور بن سليمان الحمدوني
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد أما بعد:
نبذة عن دين العرب في الجاهلية(175/1)
إنّ الصوفية عندما يسلبون الله حقه في تصريف شؤون مملكته وتدبير أمورها ويعطلونه عن صفة القيوميّة ويجعلونها لأوليائهم حتى يقول أحدهم: "هؤلاء الأبدال مسؤولون عن قرار العالَم، إيش في شيء يحدث في هذا العالَم هم مسؤولون عنه. الأولياء في كل زمان ومكان يقولون للشيء كن فيكون" فإنّ الواحد من الصوفية عندما يقول هذه الأقوال ونحوها يكون قد أشرك بالله شركاً أربى به على شرك أبي جهلٍ وأبي لهب، فإنّ مشركي العرب في الجاهليّة لم يكونوا يشركون في أفعال الرب من تدبير وخلق وغيرها بل كانوا يعتقدون أنّ الله هو مدبر الأمور، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم، كما حكى الله عنهم: "قلْ مَنْ يرزقكم من السماء والأرض أمّنْ يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ ومن يُدبِّر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون" أي طالما أنّكم مقرّون معترفون أنّ الله هو الخالق الرازق المالك المدبر فلماذا لا تتقونه فتعبدونه وحده دون شركاء؟ فشركهم إنّما كان في العبادة، فقد كانوا يدعون أصنامهم(التي هي صور رجال صالحين) مع الله وبدون الله ويذبحون لها ويلهجون بذكرها فيحلفون بها ويتقربون إليها بأنواع القربات يزعمون أنّها تشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه، قال تعالى: "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى"، وقال سبحانه: "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله". فهم كما ترى يعتقدون أنّ الله هو الذي يدبر الأمر وليس أولياءهم، وأنّه هو المسؤول عن قرار العالم وما يحدث فيه لا يجعلون لأوليائهم من ذلك شيء خلاف ما يعتقد الصوفية. ولكي نعرف طبيعة شرك العرب الذي بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لإزالته ينبغي أخذ فكرة في هذه العجالة عن أحوال العرب الدينية قبل الإسلام، ومن أين دخل عليهم الشرك؟ عسى أن يكون في هذا عبرة للمسلم فيحذر اتّباع سبيلهم فلا يقع فيما وقعوا فيه.(175/2)
فنقول وبالله التوفيق: إنّ العرب هم إمّا من سلالة إسماعيل(العرب المستعربة) أو من القبائل اليمنية(العرب العاربة كجرهم) كانوا على الإسلام موحدين لله مخلصين له الدين فإنّ إسماعيل عليه السلام كان مبعوثاً فيهم نبياً ورسولاً في مكة وما حولها بعد أن بنى هو وأبوه الكعبة وأذّنا في الناس للحج إليها، قال تعالى: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّاً"(مريم: 54)، وقال تعالى: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركع السجود"(البقرة: 125)، ودعا إسماعيل وأبوه عليهما السلام فقالا: "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك"(البقرة: 128) ثم بقي العرب من ذرية إسماعيل وغيره على الإسلام على دين إبراهيم وإسماعيل من الحنيفية السمحة يعظّمون البيت ويحجُّون إليه ويعبدون الله وحده، ويعملون بشرائع الإسلام إلى أن طال عليهم الأمد فابتدعوا بدعاً عكّرت نقاء دين إبراهيم وكان أول مَنْ غيَّر دين إبراهيم منهم عمرو بن لحي الخزاعي وهو الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ عمرو بن عامرٍ الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول مَنْ سيّب السوائب وغيّر دين إبراهيم"رواه البخاري برقم3521. وكان عمروٌ هذا فيما ذُكِر قد أجلى جرهم عن مكة واستولى عليها مع قومه خزاعة في أواسط القرن الثاني للميلاد وبقيت مكة في يد خزاعة إلى أن استولت عليها قريش بقيادة قصي ابن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم حوالي عام 440م، فإذا كان زمن إسماعيل عليه السلام فيما يُذكر يُقدَّر بعشرين قرناً قبل الميلاد(1) فتكون مدّة بقاء العرب على التوحيد الخالص والحنيفية ملّة إبراهيم حوالي واحد وعشرين قرناً ونصف القرن تقريباً، وإذا عرفنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أُنزل عليه الوحي وبعث عام 610لميلاد المسيح عليه
__________
(1) راجع الرحيق المختوم البحث الفائز بجائزة رابطة العالم الإسلامي لبحوث السيرة للمباركفوري.(175/3)
السلام وإلى أن حُطِّمت الأصنام في فتح مكة سنة ثمان للهجرة الموافق لعام 631ميلادية فتكون مدّة ضلال العرب وشركهم وانحرافهم عن ملّة إبراهيم أقل من خمسة قرون، وهي أطول مدّة انحرفوا فيها بعد إسماعيل على أبعد تقدير. يقول الشهرستاني في كتابه الملل والنحل(2/233): "وأول مَنْ وضع فيه الأصنام(أي البيت) عمرو بن لحي لما سار قومه إلى مكة واستولى على أمر البيت ثمّ صار إلى مدينة البلقاء بالشام فرأى هناك قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا: هذه أربابٌ اتخذناها على شكل الأشخاص البشرية والهياكل العلوية نستنصر بها فنُنصر ونستسقي بها فنُسقى ونستشفي بها فنُشفى فأعجبه ذلك وطلب منهم صنماً من أصنامهم فدفعوا إليه (هبل) فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين فدعا الناس إلى تعظيمها والتقرب إليها والتوسل بها إلى الله تعالى وكان ذلك في أول ملك شابور ذي الأكتاف إلى أن أظهر الله الإسلام فأُخرجت وأُبطلت"إهـ. وذكروا في السِيَر أنّ عمرو بن لحي كان له رئيٌ من الجن فأخبره بأنّ أصنام قوم نوح ودّاً وسواعاً ويغوثَ ويعوق ونسراً مدفونة بجدّة فأتاها فاستثارها ثمّ أوردها تهامة فلمّا جاء الحج دفعها إلى القبائل فذهبت بها إلى أوطانها حتى صار لكل قبيلة صنم. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أمّا وَدٌّ فكانت لكلب بدومة الجندل، وأمّا سُواعٌ فكانت لهذيل وأمّا يغوثُ فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأمّا يعوقُ فكانت لهمدان، وأمّا نَسرٌ فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح"(البخاري4920) إه. وإذْ ألِف العرب هذه الانحرافات وهذه الضلالات وتلقوها عن آبائهم عدّة أجيال فلمّا بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يظنّون أنّهم على دين إبراهيم وعدّوا النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً أي مائلاً عن دينهم لأنّه أتاهم بقولٍ لم(175/4)
يألفوه ودينٍ لم يعرفوه فلذلك عادوه وآذوه وأتباعَه وكان العرب حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنون بالله (إيمان المشركين إيماناً مع شرك)، ويؤمنون بالملائكة وبعض الرسل، وكان منهم مَنْ يؤمن بالبعث واليوم الآخر وكانوا يثبتون لله صفات كثيرة صحيحة منها أنّه الخالق الرازق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي والذي يجيب المضطر إذا دعاه وأنّه في السماء مستو على عرشه ويثبتون له سبحانه تدبير الأمور وعلم الغيب والقدرة والمُلْك، وكانوا يعظمون الكعبة بيت الله، ويحجون ويعتمرون ويصلون -وإن كانت صلاتهم مبتدعة- ويصومون، وينذرون لله أيضاً ويذبحون له ويتقربون إليه ويدعونه لا سيما في الشدائد والجدب، وكان بعضهم يحرِّم الخمر على نفسه تعبّداً، وكانوا يحرِّمون أشياء نزل القرآن بتحريمها وأقرهم عليها فكانوا لا ينكحون الأمهات، ولا البنات، ولا العمّات، ولا الخالات، وأكثر زواجهم كان شرعياً، وكانوا يُطلِّقون ثلاثاً، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم، وكانوا يغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم، وكانوا يداومون على الطهارات الفطرية من قص شاربٍ وتقليم ظفر وحلق عانة وسواك ونحوها، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق وربّما صلبوا قاطع الطريق، أمّا أخلاقهم الفاضلة -في الجملة- وخصالهم الحميدة مثل الوفاء بالعهد وإكرام الجار والضيف والأمانة والشجاعة فحدِّث ولا حرج. إلا أنّهم مع كل هذا كانوا يشركون بالله فيجعلون للملائكة ولرجالهم الصالحين الأموات أمثال اللات وود وسواع نصيباً من عبادتهم فيدعونهم مع الله ومن دون الله، ويذبحون لهم ويطوفون بقبورهم ومقاماتهم وتصاويرهم وتماثيلهم ويتقربون إليها بأنواعٍ من القربات يرجون بذلك شفاعة هؤلاء الصالحين، وربّما أسموه توسلاً لعلهم يقربونهم إلى الله-بزعمهم- بسبب كرامتهم عنده سبحانه، وهم مع ذلك لا يجعلون لهؤلاء الصالحين شيئاً من الخلق أو التدبير بل يعتقدون(175/5)
أنّ هؤلاء الأصنام الصالحين مخلوقون مملوكون لله ولذلك كانت قريشٌ تقول في طوافها: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لكْ إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملكْ. فصرْفُ أنواع العبادة لهؤلاء الصالحين مع الله هو الشرك الذي بعث الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لإزالته حتى يُعبد الله وحده دون شركاء فلا يُدعى إلا هو ولا يُذبح إلا له ولا يُتقرّب إلا إليه ولا يُصرف من العبادة شيء دقّ أو جلّ إلا له سبحانه وهذا الشرك والانحراف عن ملّة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هم مؤاخذون فيه محاسبون عليه وليسوا هم ممّن لم يُبعث لهم نبيٌ حتى تشملهم آية(وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً) لأنّ الله تبارك وتعالى قد بعث لهم إسماعيل رسولاً نبيّاً قال تعالى: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّاً). ولم يمُت إسماعيل حتى بيّن الله على يده شريعة كاملة قال تعالى: "وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة" ولم يُنسخ دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فأقرّ التوحيد ملّة إبراهيم وإسماعيل وزاد في الشرائع فأكمل الله به للناس دينهم وفضّله على غيره من الأنبياء بأشياء وفضّل أمته على الأمم أيضاً بأشياء(1) أمّا موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكانوا مبعوثين إلى أقوامهم خاصّة، وكذلك عيسى عليه السلام فإنّه بُعث إلى بني إسرائيل خاصّة ولا تشمل دعوته العرب ولا هم مطالبين باتباعه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان النّبي يُبعث إلى قومه خاصّة وبُعثت إلى الناس عامّة"متفق عليه. فلا يصحّ أن يكون أهل الجاهلية ممّن قيل فيهم: (وما كنّا معذبين حتى نبعث
__________
(1) وقوله تعالى: (لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك) ونحوها من الآيات أي من بعد إسماعيل وفيها إشارة إلى أن موسى وعيسى وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل لم يكونوا منذرين للعرب.(175/6)
رسولاً) إذ قد بُعث لهم إسماعيل رسولاً، ولا يضرّ تقادم السنين فهل ينتظرون أن يبعث الله لهم كلّ مئة سنة رسولاً؟ والمدّة بين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام هي قرابة ألفين وستمئة سنة كما قيل وليست هي بالأمد البعيد لا سيما إذا عرفنا أنّ عبادتهم للأوثان بدأت في عصر عمرو بن لحي الخزاعي قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأقلّ من خمسة قرون فقط. وليس طول الزمن بحجّة لهم إذْ لو كان حجّةً لكان هذا وارداً على بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً، فقد صار له صلى الله عليه وسلم منذ توفي إلى الآن أكثر من ألف وأربعمئة سنة. فهل هذه المدّة حجّة لمن انحرف من هذه الأمة واتبع سبيل الأمم الهالكة؟ فمثلاً هل للمبتدعة الآن كالصوفية أن يقولوا: نحن معذورون في بدعتنا لأنه قد طال علينا الأمد وبعُد عهدنا ببعثة نبينا؟
العرب في الجاهلية ليسوا من أهل الفترة ممن لا يُعذَّب(175/7)
وقد دأب بعض المتأخرين على استخدام لفظة أهل الفترة كمصطلح على أهل الجاهلية وفهم منها أنّ العرب في الجاهلية لم يكن ثمّة رسول مبعوثاً إليهم، وكأن الله سبحانه قد تركهم هملاً وبالتالي فهم غير مؤاخذين ولا معذبين لقوله تعالى: (وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولاً) وهذا خطأ فادح فإنّه وإن كان بَعْثُ الرسل قد فتر قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهذا لا يعني أنّ أهل الأرض -ومنهم العرب- في تلك الفترة غير مؤاخذين ولا معذبين إذْ قد بعثَ الله لهم رسلاً فيما سبق(وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) ثمّ لا زالت دعوتهم سارية حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال منهم أناسٌ موحدين لله مخلصين له الدين كالحنفاء. ثمّ إنّ كلمة: (فترة) لم ترد في القرآن كله إلا مرة واحدة مخاطباً بها أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في قوله تعالى من سورة المائدة: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترةٍ من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) فلوكانت كلمة الفترة تنفع أحداً لنفعت اليهود والنصارى إذْ هم المخاطبون بها، بل هم أجدر مَنْ تَسمّى بأهل الفترة استناداً لهذه الآية. فهل يقول مسلم: اليهود والنصارى غير مؤاخذين بشركهم وانحرافهم عن ملّة موسى وعيسى قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لأنّهم من أهل الفترة؟ فإذا صحّ أنّ اليهود والنصارى لا يقال لهم أهل فترة مع أنّ لفظة الفترة جاءت في سياق خطابهم فكذلك لا يُعدّ العرب المشركون من أهل الفترة، أو على الأقل أكثرهم لا يُعدّ كذلك، وقد ألمعنا آنفاً أن ليسوا هملاً لم يُبعث لهم رسول أصلاً، بل هم من أمّة إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وعندما بُعث نبينا صلى الله عليه وسلم كانوا متألِّهين، ولا يزال معهم بقايا عبادات يصرفونها لله، وسنبيّن لاحقاً جملةً من اعتقاداتهم الصحيحة وعباداتهم التي ورثوها عن دين إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ومن هنا فهم مؤاخذون بانحرافهم عن ملّة نبيهم(175/8)
إسماعيل صلوات الله عليه. ولعلّ هؤلاء المتألِّهين هم السواد الأعظم منهم، وربّما كان منهم طائفة -لاسيما المنعزلين في الصحارى البعيدة-لم تصلهم دعوة أحد من الأنبياء ولم تقم عليهم الحجة لا سيما في الأعصار المتأخرة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة. بينما الحجة كانت مقامة على أكثرهم -خصوصاً أهل المدن- فلا زال فيهم دعاة إلى التوحيد أمثال زيد بن عمرو بن نفيل وغيره من الحنفاء (1)
__________
(1) إن هؤلاء الحنفاء -مثل زيد- لم يكن لهم تأثير يذكر على أقوامهم لأنهم كانوا قد فقدوا معالم الدين فضلاً عن تفاصيله حتى إنهم لم يكونوا يعرفون كيف يسجدون -كان زيد يسجد على راحته- وما ذلك إلا لبعد عهدهم بنبيهم إسماعيل وكثرة البدع في العرب بحيث لم يبق من دين إبراهيم وإسماعيل إلا بقايا يُستدل بها على أن ثمة ديناً سماوياً كان يسود يوماً وحين بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان الناس -عربيهم وعجميهم وكتابيهم- في ضلال تام، فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم إيذاناً بانتشار نور الإيمان وانبلاج فجر السعادة على البشرية، وإزاحة ظلام الشرك الذي عم الأرض. فإذا كان أهل الكتاب -الذين لم يمض على وفاة نبيهم ستة قرون- قد= =ضلُّوا بأجمعهم فما بالك بالعرب الذين مات أبوهم إسماعيل النبي المرسل إليه منذ أكثر من خمسة وعشرين قرناً، وفي القرون الأخيرة منها تعاقبت أجيال منهم على الكفر والضلال حتى صار الدين الحق دين إبراهيم وإسماعيل غريباً، وصارت أمة العرب فضلاً عن أمم الأرض بحاجة إلى نذير يأتي بدين كامل يستنقذ البشرية من المهوى السحيق الذي انحدرت فيه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقذ المرتقب والرحمة المنتظرة يقول عليه الصلاة والسلام: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) رواه مسلم145 يقول الحافظ ابن رجب في كتابه (كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة) صفحة 11: " قوله صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريباً) يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم2865: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب"اهـ. ويقول الكاتب المعاصر أبو الحسن الندوي في بيان ما كان عليه الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء. وكان النور الضعيف الذي يتراءى في هذا الظلام المطبق من بعض الأديرة والكنائس أشبه بالحباحب(حشرة تصدر وميضاً في الليل) الذي يضيء في ليلة شديدة الظلام فلا يخترق الظلام ولا ينير السبيل، وكان الذي يخرج في ارتياد العلم الصحيح وانتجاع الدين الحق يهيم على وجهه في البلاد، ترفعه أرض وتخفضه أخرى، حتى يأوي إلى رجال شواذ في الأمم والبلاد فيلجأ إليهم كما يلجأ الغريق إلى ألواح سفينة مكسرة هشمها الطوفان، يدل على ندرتهم خبر سلمان الفارسي أكبر الرواد الدينين في القرن السادس، الذي شرّق وغرّب في الفحص عنهم، ولم يزل ينتقل من الشام إلى الموصل، ومن الموصل إلى نصيبين، ومن نصيبين إلى عمورية، ويوصي به بعضهم إلى بعض، حتى أتى على آخرهم فلم يجد لهم خامساً، وأدركه الإسلام في هذا الظلام" اهـ من كتاب(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)ص/72/.(175/9)
كما سنبيّن بعد قليل. ولعلّ القلّة المذكورين الذين لم تبلغهم دعوة إسماعيل لطول العهد ولانقطاعهم في البراري هم مَنْ يصدق عليهم صفة أهل الفترة مع أنني في شك من ذلك، ولعلّ هذا الضرب إن وجد يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأمّا الأصمّ فيقول: ربِّ لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً. وأمّا الأحمق فيقول: ربِّ جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، والصبيان يحذفونني بالبعر. وأمّا الهرم فيقول: ربِّ لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً. وأمّا الذي مات في الفترة فيقول: ربِّ ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سُحب إليها" أخرجه أحمد(4/24) وغيره، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة(1434).ومما يحملني على استبعاد دخول أيٍ من العرب تحت حكم الحديث السابق قوله صلى الله عليه وسلم (ورجل مات في فترة) فأطلق العبارة ولم يقل ورجل من العرب مات في فترة فلا ينبغي الاستدلال بهذا الحديث على أن العرب من أهل الفترة لأنه لا علاقة لهم به ولا ذكر لهم فيه وإنما ذكرته تنزلاً والله أعلم. واعلم أن القول بأن أهل الفترة يُمتحنون في عرصات القيامة بنار يأمرهم الله سبحانه وتعالى بدخولها فمن دخلها طائعاً كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها فقد عصى الله تعالى، فيدخله فيها معذباً= هو قول السلف وجمهور الأئمة وحكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة وهو اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام ابن كثير والإمام ابن حجر العسقلاني والإمام ابن حزم والشيخ محمد أمين الشنقيطي وغيرهم للحديث السابق وغيره مثل حديث أنس عند أبي يعلى والبزار قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة، بالمولود والمعتوه وبمن مات في الفترة وبالشيخ(175/10)
الفاني، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار ابرزي فيقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلاً من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، قال: ويقول لهم ادخلوا هذه، ويقول من كتب عليه الشقاء: أنّى ندخلها ومنها كنا نفر !؟ فيقول الله: فأنتم لرسلي أشد تكذيباً قال: وأما من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء إلى النار". وحديث أبي سعيد الخدري عند البزار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يؤتى بالهالك في الفترة والمعتوه والمولود، فيقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب ولا رسول، ويقول المعتوه: أي رب لم تجعل لي عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً، ويقول المولود: لم أدرك العمل قال: فيرفع لهم النار فيقال ردوها، أو قال ادخلوها فيدخلها من كان في علم الله سعيداً أن لو أدرك العمل، قال: ويمسك عنها من كان في علم الله شقياً أن لو أدرك العمل، فيقول الله تبارك وتعالى: "إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب" واعلم أن في هذا الامتحان نوعاً من التكليف وبهذا قال كثير من العلماء المحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية(مختصر الفتاوى المصرية646) والإمام ابن القيم (طريق الهجرتين695) وابن حجر(الفتح3/486) وابن كثير(التفسير3/35) وابن حزم (الملل والنحل4/60) فذهب هؤلاء العلماء وغيرهم إلى أن الدار الآخرة وإن كانت دار جزاء فلا مانع أن يحصل فيها نوع تكليف قبل استقرار الناس في الجنة أو النار يقول الحافظ ابن حجر في الفتح (11/451): (قد ثبت بأحاديث صحيحة بأن الله سبحانه وتعالى يكلف عباده يوم القيامة في عرصات الآخرة، وأن التكليف في دار الدنيا، وأما ما يقع في القبر وفي المواقف فهي آثار ذلك التكليف) ونقل عن الطيبي :(لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء، والآخرة دار جزاء أن لا يقع في أحدهما ما يختص بالأخرى، فإن القبر أول منازل الآخرة وفيه ابتلاء وفتنة بالسؤال وغيره)إهـ.واستدل هؤلاء العلماء بالأحاديث السابقة في(175/11)
امتحان صاحب الفترة وغيره واستدلوا بقوله تعالى(يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون)الآية. فيها أن الله سبحانه وتعالى يدعو أقواماً إلى السجود يوم القيامة وهذا تكليف واستدلوا بحديث آخِر من يخرج من النار ويدخل الجنة عند البخاري، وفيه أن الله تبارك وتعالى يأخذ المواثيق من هذا الرجل بعد أن يخرجه من النار ويدنيه من الجنة أن لا يسأله غيره ثم لا يلبث أن ينقض عهده ويسأل ربه دخول الجنة فيدخله إياها، فأخْذه سبحانه المواثيق والعهود من هذا الرجل يعدُّ تكليفاً، واعلم أن تكليف من مات في فترة ومن معه بدخول النار يوم القيامة لامتحانهم فإن دخلها طائعاً كانت عليه برداً وسلاماً وإلا شقي وسُحب إلى العذاب هذا التكليف ليس هو تكليف ما لا يطاق فإذا كان دخول النار سبباً في النجاة فلا مانع من التكليف بدخولها وسيحصل هذا في الدنيا قبل الآخرة إذ ثبت مثل ذلك من حديث الدجال في آخر الزمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدجال يخرج وإن معه ماء وناراً فأما الذي يراه الناس ماءً فنارٌ تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً، فماءٌ بارد عذب، فمن أدركه منكم، فليقع في الذي يراه ناراً، فإنه ماء عذب طيب)متفق عليه فإذا تقرّر أن من مات في فترة يُمتحن في عرصات يوم القيامة فمن الذي يصدق عليه أنه من أهل الفترة ؟ قد رأيتُ تعاريف لبعض الأصوليين لأهل الفترة لم أرتضها تأمَّلتُها فوجدتها كلها متأثرة بأن العرب أهل فترة وكأنها وضعت للدلالة على العرب فحسب ذهاباً منهم إلى أن العرب في الجاهلية أهل فترة وأكثر التعاريف تحوم حول ذلك منها قول السبكي في جمع الجوامع (1/63): (الفترة هي ماكانت بين رسولين لم يُرسل إليه الأول ولم يدرك الثاني)إه. وهذا التعريف في الحقيقة ينطبق على العرب في الجاهلية فهو يريد أن يقول: أهل الفترة هم الذين لم يُرسل إليهم عيسى ولم يدركوا محمداً صلوات الله عليهم وأكثر المؤلفين بعده عدلوا عن تعريفه إلى(175/12)
هذا الذي ذكرته من أن الفترة هي ما كان عليه العرب في المدة مابين عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام وأبعد منه قول الشربيني في الحاشية على جمع الجوامع: (أهل الفترة هم العرب من انقطاع رسالة سيدنا إسماعيل إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم). وهذا القول أصرح في تخصيص أهل الفترة بالعرب مع أنه لم يبين متى انقطعت رسالة سيدنا إسماعيل عليه السلام وأنّى له أن يبيِّن ورسالة إسماعيل عليه السلام لم تنقطع أصلاً إلا ببعثة نبينا محمد خاتم النبيين صلوات الله عليه فانهار تعريفه من أساسه والحق أن أهل الفترة : (هم الذين لم تبلغهم دعوة نبي أصلاً في أي زمن كان، أو هم الذين تراخى زمنهم عن زمن نبي ما فلم تبلغهم دعوته فهم بمثابة من لم يُرسل إليهم رسول أصلاً). وهذا هو التعريف المَرْضي لأن صاحب الفترة يقول يوم القيامة لربه عز وجل كما ثبت في الحديث: (ما أتاني لك رسول). فكل من لم يأته رسول أو تبلغه دعوته في أي زمان كان فهو في فترة ويُمتحن في عرصات يوم القيامة، ولو أنه تُرك وفطرته لوحّد الله بالفطرة ولكن أبويه يضلانه أو من يُقيَّض له. والعرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث لهم رسولٌ أصلاً هو إسماعيل عليه السلام وقد بلغتهم دعوته بل لا زالوا متمسكين ببقايا من شريعته وفيهم من هو على ملته لم يشبها بشرك كالحنفاء فليسوا أهل فترة والأحاديث التي تثبت أنهم في النار عدا أفراد منهم أكثر من أن تحصر مما يدلك دلالة جازمة أنهم مؤاخذون وليسوا بأهل فترة ممن يُمتحن يوم القيامة بل مصيرهم معروف في النار بخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم . وقد تَرِد هنا في مسألة الفترة إشكالات نجيب عنها منها: إذا كان الواحد من الأنبياء فيما سبق يبعث إلى قومه خاصة فموسى عليه السلام الذي بعث إلى بني إسرائيل كما قال الخضر(موسى بني إسرائيل!!) ما بال السحرة الذين آمنوا به وما بال فرعون؟ وهل كان موسى يرضى من فرعون أن يرسل معه قومه بني إسرائيل(175/13)
الذين استعبدهم ليأخذهم إلى الأرض المقدسة المكتوبة لهم فقط ؟ والجواب: إن وجود قوم مع قوم النبي صاحب الدعوة يجعلهم تبعاً لقوم النبي مثاله القبط مع بني إسرائيل في مصر(زمن موسى) وكذلك في زمن يوسف عليه السلام فالصحيح أن رسالة يوسف تنتظم القبط الذين كان فيهم، قال مؤمن آل فرعون في سورة غافر لقومه : (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا) الآية. فالذي يظهر من هذه الآية أن يوسف كان مبعوثاً إلى القبط مع إخوته وبنيهم وأن القبط لم يؤمنوا برسالته حقاً وإن كانوا تظاهروا بذلك بل لا زالوا في شك مما جاءهم به. فإذا كان النبي يبعث إلى قومه خاصة فمن قومه هل هم عشيرته خاصة؟ أم القوم المجتمعون في قرية أو قرى؟ والجواب : إذا بُعث نبي إلى قوم بخصوصهم فإن دعوته تشمل من كان ساكناً فيهم كدعوة موسى شملت بني إسرائيل أصالة والقبط تبعاً ويدل على ذلك قوله تعالى : (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا)، والمؤتفكات عدة قرى. وقد يرد سؤال عمن طال عليه الأمد من أتباع نبي سابق هل هم مطالبون باتباع نبي آخر غير مبعوث إليهم مهما تراخى زمن النبي السابق؟ والجواب: ليسوا مطالبين باتباع نبي لم يرسل إليهم وإن كانوا مطالبين بالإيمان بكل رسل الله لكن يُطالبون باتباع شريعة نبيهم مهما تراخى زمنه حتى لو تمسّكوا بلا إله إلا الله وحسب فإنهم يكونون بذلك محسنين كحال الحنفاء من العرب مثل زيد بن عمرو الذين بقوا على أصل ملة ابراهيم وإسماعيل ولم يدخلوا في أديان الأنبياء الذين بُعثوا إلى أقوام آخرين بعد إسماعيل كموسى وعيسى عليهم السلام فهم غير مطالبين باتباعهم وإلا للزم موسى وعيسى دعوة العرب وغيرهم ولم يُعهد عن موسى أو عيسى أنهم جاؤوا إلى العرب ودَعَوهم بخلاف خاتم النبيين صلوات الله عليه الذي ما إن انتشرت دعوته في جزيرة العرب حتى بدأ يبعث الرسائل إلى الملوك(175/14)
والأمراء في أصقاع الأرض يدعوهم إلى الإسلام ولم يمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى عمّت دعوته جزيرة العرب بأكملها وقبل أن يفارق الدنيا كان الجيش الذي جهزه يتهيّأ لغزو الشام إشارة إلى أن دعوته شاملة لكل أهل الأرض ولهذا بشَّر أمته بالسناء والرفعة والتمكين في الأرض وأن مُلْكها سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها ومن هنا تعلم خطأ النَّظّام المعتزلي الذي كان يرى كما نقل عنه ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث صـ18) : (أن كل نبي بعثه الله إلى جميع الخلق) إهـ. ولكن لو أنَّ أحداً من أتباع نبي سابق تراخى زمنه اتبع شريعة نبي آخر بُعث إلى غيره فلا حرج في ذلك بل يكون محسناً كحال ورقة بن نوفل الذي تنصّر واتبع دين المسيح مع أنه على دين إبراهيم أصلاً علماً أن ورقة هذا كان أقرّ موقناً أن محمداً هو النبي الخاتم المبعوث عندما عرضتْ عليه ابنة عمه خديجة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما جاءه الملَك ولم ينشب أن مات قبل أن يصدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين)رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو في صحيح الجامع للألباني. وعن عائشة أن خديجة سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ورقة بن نوفل: فقال: (قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض) قال ابن كثير في السيرة(1/397): هذا إسناد حسن. وإذا استقرَّ أن الأنبياء قبل نبينا صلوات الله عليهم جميعاً كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة ولا يُكَلَّفون الذهاب إلى الأمم المجاورة فالتبشير (أو التنفير) الذي يقوم به النصارى هو خلاف دينهم لأن دين عيسى خاص ببني إسرائيل وفي الإنجيل عندهم (إنجيل متى) قول عيسى: (لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة). فاليهود-أخزاهم الله- من هذه الناحية أصح موقفاً من النصارى ليس لهم دعوة إلى اليهودية بل لا يقبلون(175/15)
داخلاً جديداً في دينهم وكذلك الشيعة بنبغي أن تقتصر دعوة التشيع عليهم فقط لأن إمامهم جعفراً أبا عبد الله نهاهم عن دعوة الناس كما يزعمون ففي أصول الكافي من كتبهم باب في ترك دعاء الناس أورد فيه مؤلفه الكليني حديثاً عن أبي عبد الله زعم يقول: (ما لكم وللناس، كفُّوا عن الناس ولا تدعوا أحداً إلى أمركم) وفي حديث آخر-عندهم- أن أحدهم قال: قلت لأبي عبد الله: ندعوا الناس إلى هذا الأمر (يعني التشيع)؟ فقال: لا). فيؤخذ منه أنه لا ينبغي للشيعة دعوة غيرهم للدخول في مذهبهم لنهي إمامهم أبي عبد الله عن ذلك ومنه يُعلم أن سعيهم الخاسر في ظل حكومة خميني ومن بعده لتشييع الناس باطلٌ لا يصح عندهم كيف وقد رأيتَ نهي أبي عبد الله الصريح؟! وقد علموا أن مخالفة أوامر أبي عبد الله وغيره من الأئمة لا تجوز لأنهم –عندهم- معصومون أليس هو القائل زعموا: (إذا أمرتكم بشيء فافعلوا) أصول الكافي (1/ 169). فما أضل سعيهم وأشد خسرانهم، ثم إن الشيعة الآن يُشَبَّهون بأهل فترة لو جرينا معهم بخرافة مهدي السرداب ورفْعِ القرآن من حين غاب حتى يخرج، فيكفيهم الآن أن يقولوا: لا إمام حق إلا علي والأئمة الأحد عشر من ولده (بدل لا إله إلا الله). ثم ما شأن أهل السنة الذين لم يأتهم المهدي المزعوم إلى الآن هل هم أيضاً أهل فترة؟ ينبغي أن يكونوا كذلك في نظر الشيعة. واعلم أن من أفحش الخطأ قول من زعم أن المرسلين الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورين في سورة يس هم رسل المسيح، وذلك أن المسيح عليه السلام إنما أرسل لبني إسرائيل خاصة والله سبحانه وتعالى يقول عن رسل القرية: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعزّزنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون)..(ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) الآيات، فهم أنبياء مرسلون وليسوا دعاة من أتباع المسيح لا سيما وقد أُهلكت القرية قال تعالى: (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) وليس المعهود في زمن عيسى عليه السلام(175/16)
إهلاك القرى وإلا لأُهلك اليهود الذين كذّبوا عيسى وهمُّوا بقتله، وقد ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم بل أمرَ المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين، ذكروه عند قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون الأولى)، ولا يخفى أن هلاك فرعون وقومه قبل نزول التوراة على موسى. وقد ردَّ الحافظ ابن كثير في تفسيره من وجوه كثيرة على من زعم أن الرسل أتباع المسيح إلى إنطاكية. وقد يرد سؤال ماحال الأمم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم التي تطاول عليها الزمن وبعُد عهدها بأنبيائها؟ والجواب: أنها مطالبة على الجملة باتِّباع نبيها وحجة الله قائمة على كل حال (ولله الحجة البالغة) ولو بما معها من الفطرة حتى لو ضيعت أحكام وشرائع دين أنبيائها ولذلك نجا أحناف العرب كزيد بن عمرو بما بقي معهم من لا إله إلا الله فنفعتهم يوماً من دهرهم وكذا المسلمون في آخر الزمان لا يعرفون لا صلاة ولا صياماً إلا كلمة لا إله إلا الله ومع ذلك تنفعهم كما في حديث حذيفة الشهير لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) والأمم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم الواحدة منها بعد طول عهدها بنبيها ليست مطالبة باتباع نبي قوم آخرين لم يُرسل إليها بل يطالبون بأصح ما بقي معهم ولو بالفطرة ومع ذلك لو اتبعوا نبياً مبعوثاً لغيرهم فلا حرج بل هو حسن كحال ورقة بن نوفل وعدي بن حاتم وغيرهم واعلم أن حجة الله قائمة على العباد، أما هذه الأمة المحمدية فلا تمر بفترة أبداً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهده الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) متفق عليه. أما الأمم الأخرى فالحجة قائمة عليهم ببعثة النبي صلى(175/17)
الله عليه وسلم والآن الخبر بدين الإسلام يعمُّ الأرض ووسائل الإعلام في كل بيت فالإسلام وصل إلى كل بقعة ويكفي أن يسمع بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشترط تفصيلها للمدعو وذلك لما معه من الفطرة فالحجة قائمة فالعبرة بالتمكن وسماع الدعوة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم. نقل الشيخ صالح المقبلي اليماني في كتابه العَلَم الشامخ صفحة(264)عن الغزالي في سياق أن من لم تبلغه الدعوة معذور قوله: (وكذلك عندي رجل نشأ في الروم إنما يسمع بساحر ظهر في العرب ادَّعى النبوة وانقاد له العوالم حتى صار شأنه هذا الشأن في الأقطار أو قريباً من هذا اللفظ) فقال الشيخ المقبلي: "وهذا من تخبطاته (أي الغزالي) فإن الله قد أظهر دين الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون وهذا كان في جميع الكفرة في قاصي الأرض ودانيها ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحرير أدلة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع بُلْه الناس ونسائهم فضلاً عن الأذكياء بل كان يغير عليهم بعد انتشار الإسلام من دون تجديد دعوة وهكذا شأن المسلمين إلى يوم الدين واليهود الآن ينشأ مولودهم ويربُّون في قلبه أن محمداً صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فيعطونه التفاحة والرمانة ونحو ذلك ثم يسرقونها عليه ويقولون أخذها محمد صلى الله عليه وسلم فيكبر لا يفرق بينه وبين الشيطان، رفع الله شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ هذه السنة السيئة -فيما يُذكر- الرافضة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والتمذهبات كلها لها شبه بهذا النحو وإن اختلفت شدّة وخفّة فالمعتبر عند المعتبرين إنما هو التمكن وذلك يحصل بأن يسمع بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:(لأنذركم به ومن بلغ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي(175/18)
نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولانصراني) الحديث وقد أردف الله سبحانه كل حجة عقلية، بحجج جمّة سمعية؛ (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً - وإن من أمة إلا خلا فيها نذير - ولقد أرسلنا إلى كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله) وفي جامع المسانيد لابن الجوزي في مسند أبي رزين لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي رضي الله عنه في آخر حديث طويل فقلت: يارسول الله هل لأحد فيما مضى من خير في جاهليتهم؟ قال: (قال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار) قال فلكأنه وقع حَرٌ بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس فهممت أن أقول وأبوك ياسول الله ثم إذا الأخرى أجمل قلت: يا رسول الله وأهلك؟ قال: وأهلي -لعمر الله- ما أتيتَ عليه من قبر عامري أو قرشي أو دوسي يشرك فقل أرسلني إليك محمد أبشرك بما يسوؤك تُجَرّ على وجهك وبطنك في النار) قال قلت: يا رسول الله ما فعل بهم ذاك وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه وكانوا يحسبون أنهم مصلحون؟ قال: (ذلك بأن الله تعالى بعث في آخر كل سبع أمم نبياً فمن عصى نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين). فهذا الحديث موافق للقرآن فأهل الفترات محجوجون بالعقل والسمع كما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعني الذين تراخى زمنهم عن زمن النبوة مع قيام حجة الله عليهم سمعاً وعقلاً)اهـ من العلم الشامخ للشيخ صالح المقبلي اليماني توفي سنة(1108هـ). قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في شرح حديث لقيط بن عامر هذا : "قوله صلى الله عليه وسلم (حيث مررت بقبر كافر فقل أرسلني إليك محمد) فيه دليل على أن من مات مشركاً فهو في النار وإن مات قبل البعثة لأن المشركين كانوا قد غيّروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به وقُبْحُه والوعيدُ عليه بالنار لم يزل معلوماً من دين الرسل كلهم من أولهم إلى أخرهم(175/19)
وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرناً بعد قرن فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلوهيته (يعني عبادته) وإنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر وإن كان سبحانه لا يُعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم" وقد يوجد في بعض المناطق كمجاهيل أفريقية وفي مناطق أمريكا الجنوبية وغيرها من المناطق النائية أناس لم تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء إذا ماتوا قبل وصول الدعوة إليهم كانوا أهل فترة وامتُحنوا يوم القيامة كما سبق. وبنبغي التفريق بين قيام الحجة وفهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وقيام الحجة وبلوغها نوع وفهمهم إياها نوع آخر فحجة الله القرآن فمن سمع بالرسول وبلغه القرآن فقد بلغته الحجة قال بعض العلماء: إن قيام الحجة ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا عن ما يُعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى: (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) وقوله: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) إهـ فمن بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة فإن أعرض عنها ولم يدخل دين الإسلام فقد حق عليه العذاب في الآخرة وشرع للمسلمين قتله والغارة عليه دون تجديد دعوة. أما من لم تبلغه الدعوة أصلاً -وهذا نادر- فلا يجوز قتله حتى يعرض عليه الإسلام فليس لأحد لقي أحداً لم تبلغه الدعوة قتله حتى يقيم الحجة عليه والله أعلم. ومن الأدلة على أنّ مشركي الجاهلية في فترة(175/20)
انحرافهم(التي هي أقل من خمسة قرون) قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم مؤاخذون ولا تنفعهم حجة وجدانهم آباءهم على ذلك الضلال ومتابعتهم إياهم وأنّهم ليسوا من أهل الفترة(بمفهوم الصوفية) بل من أهل النار ما رواه الطبراني في المعجم الكبير(1/91/1) بسندٍ صحيح عن سعد رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟ قال: في النار، فكأنّ الأعرابي وجد من ذلك فقال: يا رسول الله ! فأين أبوك؟ قال: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار). قال فأسلمَ الأعرابي بعد، فقال: لقد كلّفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً ما مررت بقبر كافر إلا بشّرته بالنار"اهـ.(1) وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مررتم بقبورنا وقبوركم من أهل الجاهلية فأخبروهم أنّهم من أهل النار"رواه ابن السني في"اليوم والليلة"برقم 587 بسند حسن.(2) وأصرح من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه(347/1): عن أنسٍ رضي الله عنه: "أنّ رجلاً قال: يا رسول الله ! أين أبي؟ قال: في النار، فلمّا قفّى دعاه فقال: إنّ أبي وأباك في النار". قال النووي شارح مسلم في شرح هذا الحديث: "فيه أنّ من مات على الكفر؛ فهو في النار، ولا تنفعه قرابة المقربين، وفيه أنّ من مات على الفترة -على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان- فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة؛ فإنّ هؤلاء
__________
(1) قال الملا علي القاري الحنفي في كتابه(معتقد أبي حنيفة الإمام في أبوي الرسول عليه السلام): (في هذا التعميم في هذا الحديث دلالة واضحة وإشارة لائحة بأن أهل الجاهلية كلهم كفار إلا ما خُصّ منهم بالأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم).
(2) حكى القرافي في شرح التنقيح الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود. قاله العلامة الشنقيطي في أضواء البيان ج/صـ302.(175/21)
كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم".اهـ. ومن الأدلة أيضاً على أنّ مشركي الجاهلية قبل النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا من أهل الفترة –ممن لا يُعذَّب- بل من أهل النار ما رواه الإمام أحمد(3/201) بسند صحيح على شرط الشيخين عن أنس: "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بنخلٍ لبني النجّار، فسمع صوتاً فقال: "ما هذا؟". قالوا: قبر رجل دُفن في الجاهليّة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني". وقد أخرجه أحمد أيضاً من طريق ابن عدي وزاد بعد قوله"في الجاهلية": "فأعجبه ذلك". وهي عند النسائي(1/290) بلفظ: "فسُرَّ بذلك". وله شاهد من حديث جابر قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً نخلاً لبني النجّار فسمع أصوات رجال من بني النجّار ماتوا في الجاهلية يُعذّبون في قبورهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فأمر أصحابه أن تعوّذوا من عذاب القبر"أخرجه أحمد(3/295) بسندٍ صحيح متصل على شرط مسلم، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني(292/1). وفي سنن أبي داود عن سلمة بن قيس الأشجعي قال أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وأنها وأدتْ أختاً لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال: (الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم). قال ابن كثير في تفسيره(3/32): إسناده حسن. ومن الأدلة أيضاً أنّه لازال في العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ هو على دين إبراهيم موحّداً لله يُسَفِّه آراء قومه في شركهم وابتداعهم البدع في دين إبراهيم فكان يدعوهم ويقيم عليهم الحجج ولكن لا يلتفتون إليه مثل زيد بن عمرو بن نفيل –أبو سعيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وابن عم ّ عمر بن الخطاب بن نفيل-فقد كان على ملّة إبراهيم من الحنيفية لا يدعو الأصنام ولا يذبح(175/22)
لها ولا يأكل ما يذبحه قومه على الأنصاب قال ابن هشام في السيرة: قال ابن اسحاق: "فارق(زيدٌ) دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تُذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموؤدة وقال أعبد ربَّ إبراهيم. وبادى قومه بعيب ما هم عليه. قال ابن اسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً مسنداً ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحدٌ على دين إبراهيم غيري، ثمّ يقول: اللهم لو أنّي أعلم أيّ الوجوه أحبّ إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه ثم يسجد على راحته. قال ابن اسحاق: وَحُدِّثتْ أنّ ابنَه سعيدَ بن زيد وعمر بن الخطاب ابن عمه. قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتستغفر لزيد بن عمرو؟ قال: نعم، فإنّه يُبعث أمّة وحده"إهـ انظر سيرة ابن هشام(1/225). ونقل الشهرستاني في الملل والنحل(2/241) عن زيد بن عمرو أنّه "كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا أيها الناس هلموا إليّ فإنّه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري". وسمع أميةَ بن أبي الصلت يوماً ينشد:
كل دين يوم القيامة عند
ججج ... الله إلا دين الحنيفة زورُ
فقال له: صدقت. وقال زيد أيضاً:
فلن تكون لنفسٍ منك واقية
ججج ... يوم الحساب إذا ما يُجمع البشر
اهـ انظر الملل والنحل. وكان زيد ينهى عن عبادة غير الله من الأصنام وهو القائل:
أربّاً واحداً أم ألفَ ربٍّ
تركت اللات والعزى جميعاً
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
ولا هبلاً أزور وكان ربّاً ... أدينُ إذا تقسَّمت الأمورُ
كذلك يفعل الرجل البصيرُ
ولا صنمي بني غنم أزور
لنا في الدهر إذْ حُلمي يسير
وكان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال:
لبيك حقاً حقاً ... تعبدّاً ورقّاً
عذت بما عاذ به إبراهيم. وكان يقول:
أسلمت وجهي لمن أسلمتْ
دحاها فلمّا رآها استوت
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ
ج ... له الأرض تحمل صخراً ثقالا(175/23)
على الماء أرسى عليها الجبالا
له المزن تحمل عذباً زلالا
انظر سيرة ابن هشام(1/230). فلأجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله عز وجلّ لزيد بن عمرو ورحمه فإنّه مات على دين إبراهيم"رواه ابن سعد في طبقاته عن سعيد بن المسيب مرسلاً. وقد سئل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن زيدٍ هذا فقال: (يحشر ذاك أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم). قال ابن كثير: إسناده جيد حسن. وقال صلى الله عليه وسلم: "دخلتُ الجنة، فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين" رواه ابن عساكر وحسّن الألباني إسناده في الصحيحة(1406). فإذا كان زيد في الجنة فغيره من أترابه ممّن عارضه من المشركين في النار كما هو مفهوم الحديث كما لا يخفى. وكذلك كان قس بن ساعدة الإيادي متألهاً متعبداً، موحداً لله نابذاً لما سواه، ومن قوله: "يا معشر إياد، أين ثمود وعاد؟ وأين الآباء والأجداد؟ أين المعروف الذي لم يشكر، والظلم الذي لم ينكر، قسم قسٌّ قسماً بالله إنّ لله ديناً هو أرضى له من دينكم هذا". ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسَّاً إنّه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم"رواه الطبراني عن غالب بن أبجر رضي الله عنه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسَّاً كأنّي أنظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام له حلاوة ولا أحفظه"رواه الأزدي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
عقائد طوائف مشركي العرب في الجاهلية(175/24)
فهؤلاء الموحدون ممّن كانوا على دين إسماعيل وإبراهيم كزيد بن عمرو ولم يشوبوا توحيدهم بشرك كانوا طائفة قليلة(1)إذا ما قورنت بالكثرة الكاثرة من المشركين، على أنّ المشركين كانوا يتفاوتون في
__________
(1) ومن العرب قبل الإسلام من كان ينكر عبادة الأوثان، لأنها تخالف العقل والفطرة وإن لم يدرِ كيف يعبد الله وإن لم يكن عنده تصور لشرع لكنه كان بفطرته ينكرها منهم عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجلٍ في مكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرآء عليه قومه، فتلطّفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت: ما أنت؟ قال: أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله. قلت: فبأي شيء؟ قال: أرسلني بصلة الرحم، وكسر الأوثان، وأن يوحَّد الله ولا يشرك به شيء. قلت: فمن معك على هذا؟ فقال: حر وعبد(أي أبو بكر وبلال) فقلت: إني متبعك) الحديث رواه مسلم(832). ويلاحظ من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينبرِ ليثبت لعمروٍ وجود الله وأنه خالق لأن هذه المسألة بدهية معلومة عندهم وليسوا هم أشاعرة وماتريدية ليحتاجوا إثبات ذلك وتحصيل حاصل ما هنالك. ولكن المفقود عند العرب توحيد الرب وإفراده بالعبادة وعدم الإشراك به فهذا الذي يحتاجونه ومن أجله بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال لعمرو: (أرسلني الله بكسر الأوثان وأن يُوحد الله ولا يشرك به شيء). ولم يقل أرسلني لأثبت وجوده وأنه الخالق. وقد ذكر الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في التلقيح تسمية من رفض عبادة الأصنام في الجاهلية فذكر منهم أبا بكر الصديق وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث وأبا قيس بن صرمة ورباب بن البراء اهـ. وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق الشعبي عن شيخ من جهينة أن عمرو بن حبيب ترك الشرك في الجاهلية.(175/25)
اعتقاداتهم فمنهم طائفة آمنت بوجود الله وبأنّه خالق كل شيء وخالقهم ابتداءً ولكنها أنكرت الخلق من جديد بعد موت الأجساد، فأنكرت البعث والإعادة وأنكرت اليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء، قال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل(2/235): "وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع وأنكروا البعث والإعادة(1) وهم الذين أخبر عنهم القرآن: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) فاستدل عليهم بالنشأة الأولى، إذْ اعترفوا بالخلق الأول فقال عزّ وجلّ: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة). وقال: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبسٍ من خلقٍ جديد)"اهـ. أي لديهم لبس وشك في خلق وبعث جديد، أماّ الخلق الأول فلا لبس فيه عندهم لأنّهم مقرُّون به. وإلى هذه الطائفة أشار القرآن حاكياً قولهم: (وكنّا نكذب بيوم الدين)/مدثر-41/. يقولونه في النار جواباً لسؤال: ما سلككم في سقر؟ أي كانوا لا يدينون باليوم الآخر، وهم المقصودون بقوله تعالى: "أئذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئِنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون" وغيرها من آيات كثيرة(2)
__________
(1) قال صاعد: كان جمهورهم ينكر ذلك الميعاد لا يصدق بالمعاد ولا يقول بالجزاء، ويرى أن العالم لا يخرب ولا يبيد وإن كان مخلوقاً مبتدعاً، وكان فيهم من يقر بالمعاد، ويعتقد إن نُحرت ناقته على قبره يحشر راكباً، ومن لم يفعل ذلك يحشر ماشياً. إهـ من كتاب الأصنام صـ44. قلت: أشار صاعد إلى أن العرب متفقون على أن الله خالقهم ومبدعهم ولكن اختلفوا في إعادتهم بعد الموت فأنكره جمهورهم. لكن ذهب الشهرستاني وغيره كما سترى إلى أن جمهور العرب في الجاهلية يثبت المعاد. فالله أعلم.
(2) لعل هذا الضرب هو المقصود بقوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) الآية. وربما كانوا طائفة منه قائمة بذاتها، على أن بعض المعاصرين ذهب إلى أن الدهريين ليسوا من العرب أصلاً والله أعلم.(175/26)
وكانت هذه من أعظم شبهاتهم وعبّروا عنها في أشعارهم فقال بعضهم:
حياة ثم موت ثم نشر
جج ... حديث خرافة يا أم عمرو
وقال شداد بن الأسود في مرثية أهل بدر من المشركين:
فماذا في القليب قليب بدر
يخِّبرنا الرسول بأن سنحيا ... من الشيزى تكلّل بالسنام
وكيف حياة أصداء وهام !!؟
وإنّما جزمنا أنّ هؤلاء المنكرين للبعث يؤمنون بالله وأنّه ربُّ السماوات والأرض مالك كل شيء لأنّا رأينا الله سبحانه وتعالى بعد حكاية قولهم بإنكار البعث يستدل لإثبات ما أنكروه بإقرارهم بقدرته –سبحانه- وعظمته ونحوها من الصفات، قال تعالى في سورة المؤمنون(82-89): "قالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثونO لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين O قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون O سيقولون لله قل أفلا تذكرون O قل من ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيمO سيقولون لله قل أفلا تتقون O قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمونO سيقولون لله قل فأنّى تسحرون). أماّ الدهماء من العرب فكانوا مقرِّين بالخالق وابتداء الخلق ونوع من البعث والحساب إجمالاً. قال الشهرستاني في الملل والنحل(2/236): "وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام، وزعموا أنّها شفعاؤهم عند الله في الدار الآخرة، وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا وقربوا القرابين، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر وأحلّوا وحرّموا، وهم الدهماء من العرب إلا شرذمة منهم"إه. قوله: وأنكروا الرسل يشير إلى إحدى شبه العرب في إنكارهم بعث الرسل في الصورة البشرية كأنّهم نزّهو ا الله أن يبعث رسولاً إلا من الملائكة جهلاً منهم كقوله تعالى: "وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام"الآية، وقوله حاكياً عنهم: "أبعث الله بشراً رسولاً". على أنّ هذه ليست عقيدة غالبيتهم فربما كانوا أقلية، بل كثيرٌ منهم يؤمنون بالرسل(175/27)
إجمالاً ويعرفون أفراداً منهم لا سيما إبراهيم وإسماعيل فقد كانت صورهم مصورة داخل البيت جعلوا إبراهيم فيها يستقسم بالأزلام فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت في فتح مكة. وكثيرٌ من العرب كذّب النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة حسداً له، وإليهم أشار القرآن: "وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم". وكانوا بحكم مجاورتهم لليهود والنصارى يؤمنون بأنّ موسى وعيسى أنبياء مرسلون لأقوامهم، ومِن العرب مَنْ يعرف أسماء الرسل الآخرين كنوح وهود وصالح وغيرهم كما يظهر ذلك في أشعارهم . بل كان بعضهم يتوقع بعثة نبي جديد، ولذلك سارع الأنصار من الأو س والخزرج إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لِما كانوا يسمعونه من اليهود. قال ابن هشام في السيرة(1/429): "قال ابن اسحاق فحدثني عاصم عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم(أي النفر الستة) قال لهم: مَنْ أنتم؟ قالوا نفر من الخزرج. فقال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم. قال أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال: وكان ممّا صنع الله بهم في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا قد عَزّوْهم في بلادهم فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إنّ نبياً مبعوثٌ الآن قد أظلّ زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عادٍ وإرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلَّموا والله إنّه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام"اهـ. والمقصود بيان ما كان عليه العرب من عقائد صحيحة تليق بالله وأخرى لا تليق به وبيان طبيعة شركهم، وهل معناه أنّهم لا يؤمنون بوجود الله مثلاً أو يجحدون كونه خالقاً ونحوها من(175/28)
الصفات؟ ولن يتبين معنى الشرك حتى نسوق الأدلّة على ما أجملناه في البداية من إيمانهم (الجزئي)بالله وصفاته وملائكته ورسله والحساب والجزاء وغيرها من العقائد الصحيحة(المجتزأة) والشرائع التي ورثوها عن إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام ثم ننظر بعدها ما الذي نقم الله عليهم فيه وسمّاه شركاً؟ . فنقول وبالله التوفيق:
إيمان عرب الجاهلية بالله وإثباتهم صفات لائقة به سبحانه مع أنهم مشركون(1)
__________
(1) وينبغي ألا يخطر ببالك أننا نمدح المشركين بإيراد هذه الأشياء وإنما غرضنا بيان أن هؤلاء المشركين مع إيمانهم بما سنذكر عنهم لا ينفعهم ذلك لمّا كانوا يشركون بالله فكذلك حال من يشرك من هذه الأمة وإنما توسعتُ فيها للفائدة العلمية لأني رأيتها تخفى على كثيرين مع ما فيها من الرد على المتكلمين الذين حصروا التوحيد بالربوبية فضلاً عن توكؤ الصوفية على مصطلح أهل الفترة للحكم بإسلام عبد المطلب وأبوي النبي صلى الله عليه وسلم بل حكموا بإيمان أبي طالب الذي جمع إلى شرك أسلافه عدم الإيمان بالنبي وقد أدركه وبلغته دعوته وأحسب أنني فصلت في عقائد المشركين وعباداتهم وأحوالهم مستدلاً على ذلك بالكتاب والسنة وشعر العرب بما لا تجده في كتاب آخر إن شاء الله.(175/29)
أمّا إيمانهم بوجود الله وأنّه هو الخالق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض وخلق كلّ شيء فهذه عندهم مسلّمة، ولذلك يحتجّ الله عزّ وجلّ عليهم كثيراً بإقرارهم بذلك على إفراده بالعبادة، ومن هذه الآيات قوله تعالى في سورة الزخرف/87: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنَّ الله". وقوله في سورة لقمان/25: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله". وقوله في الزخرف/9: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ خلقهنّ العزيز العليم"، وفي هذه الآية أثبتوا لله اسمين من أسمائه الحسنى هما العزيز والعليم وما يتضمّناه من صفات تليق به سبحانه من العزّة والعلم. قال تعالى : (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) قال ابن عباس وغيره: "تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون الله، وهم مع هذا يعبدون غيره"اهـ. وقوله تبارك وتعالى في سورة العنكبوت/16: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخّر الشمس والقمر ليقولنّ الله". وفي هذه الآية اعتقادهم بأنّ الشمس والقمر مسخّرات بأمره سبحانه، ولإقرارهم بخلق الله للسماوات والأرض استدل عليهم سبحانه بهذا على إحياء الموتى فقال سبحانه: "أوَ لم يروا أنّ الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر على أن يحيي الموتى". وأثبتوا لله أنّه الرزّاق المالك الذي يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي وأنّه الذي يدبّر الأمور قال تعالى في سورة يونس/31: "قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون". فهم من هذه الناحية خير ممّن يقول من الصوفية إنّ الأولياء يدبّرون الأمر ويرزقون ويتصرفون، ولذلك قال الله لهم كما في سورة فاطر/3: "ياأيُّها النّاس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنّى تؤفكون". احتجّ عليهم بما هم به مُقِرُّون من نسبة(175/30)
الخلق والرزق إليه سبحانه على توحيده ثم عجب منهم كيف هم بعد ذلك يصرفون العبادة من دعاء وذبح وغيرها إلى سواه والحال أنّه هو خالقهم ورازقهم كما يعرفون فهو المستحِق للعبادة وحده دون غيره من أوليائهم ممّن لا يخلق ولا يرزق! قال تعالى: "أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون"؟، وقال سبحانه: "ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً"الآية. ومن هنا تعرف خطأ مَنْ اعتقد أنّ المشركين لم يقرّوا بأنّ الله خلقهم وخلق السماوات والأرض كحال الأشاعرة الذين أجهدوا أنفسهم في تقرير ذلك وإثبات أنّ الله موجود وخالق فمعنى لا إله إلا الله عندهم لا خالق إلا الله مع أنّ المشركين لم يكونوا ينازعون في هذا الأمر وإنّما كان النزاع في إفراد الله بالعبادة فهذا معنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحقٍّ إلا الله ولذلك لا تجد في الجوهرة أو شرحها عند الأشاعرة شيئاً يُذكر عن توحيد العبادة التي هي لبُّ التوحيد ومخُّه مع أنّه إذا أقرّ الإنسان بأنّ الله خالق مالك رازق...إلخ(وهذا ما يسميه العلماء توحيد الربوبية) فلا ينفعه ذلك إذا لم يُوحِّد الله في العبادة فلا يصرف منها شيئاً لغير الله سبحانه(وهذا يسميه العلماء توحيد العبادة أو توحيد الألوهية) وهو موطن النزاع بين الرسل جميعاً وأقوامهم، فقوم نوح لم يكونوا يُنازعون بوجود الله وبأنّه خالق وإنّما كان نزاعهم في صرف شيء من العبادة كالدعاء والذبح لأوليائهم الصالحين أمثال ود وسواع لاعتقادهم أنّ هؤلاء الصالحين يشفعون لهم إلى الله وهذا من جهلهم بما يليق به سبحانه من الصفات ومن ظنّهم الفاسد في الله وقدرته ورحمته، وكذلك غيرهم من الأمم كقوم هود الذين قالوا كما في سورة الأعراف/70: "أجئتنا لنعبد الله وحده" فهم مؤمنون بالله ولكن لا يخصُّونه بالعبادة وحده لشبهاتٍ عندهم باطلة، وهذا كقول مشركي العرب: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيء عجاب" وتجد مصداق ما قلناه من أنّ مشركي العرب كانوا(175/31)
مقرِّين بأنّ الله هو الخالق كما حكى القرآن عنهم في كثيرٍ من أشعارهم في الجاهلية ومن ذلك قول عبد طابخة بن ثعلب بن وبرة من قضاعة:
وأدعوك ربي بالذي أنت أهله
وأنت القديم الأول الذي
وأنت الذي أحللتني غيب ظلمةٍ ... دعاء غريق قد تشبّث بالعصمْ
تبدّأت خلق الناس في أكثم العدمْ
إلى ظلمة من صلب آدم في ظلم.
ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
خَلَق الليلَ والنّهار فكلٌّ
ثمّ يجلو النّهار ربٌّ رحيمٌ
جج ... مستبينٌ حسابه مقدور
بمهاة شعاعها مبشور(175/32)
وهذا الذي انتقدناه على الأشاعرة إنّما وقعوا فيه لأنّهم أخذوا عقيدتهم عن الفلاسفة كأرسطو وأضرابه الذين تُرجمت كتبهم في عصر الخليفة المبتدع المأمون الذي احتفل بها وظهرت في عصره بدعة المعتزلة(1)وغيرها، ولمّا كان غاية إيمان الفلاسفة وعلمهم أن يثبتوا أنّ الله موجود وخالق للعالم فحسب سرت هذه العقيدة إلى أتباعهم المتكلمين كالأشاعرة فجعلوه غاية التوحيد ومعنى لا إله إلا الله دون الاعتداد بما يستحقه سبحانه من إفراده بالعبادة وبما يليق به من صفاتٍ نفَوها عنه وعطّلوه منها قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإقرار المرء بأنّ الله ربُّ كلِّ شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقرارٌ بأنّه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة إلا هو وأنّ محمداً رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر.. وقد أخبر الله سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأنّ الله خالق المخلوقات -وذكر آيات كثيرة في هذا المعنى- ثم قال: وبهذا وغيره يُعرف ما وقع من الغلط في مسمّى التوحيد؛ فإنّ عامة المتكلِّمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال وهو أنّ خالق العالم واحد...ويظنّون أنّ هذا هو التوحيد المطلوب وأنّ هذا هو معنى قولنا: (لا إله إلا الله)، حتى يجعلوا معنى الإلهيةِ القدرةَ على الاختراع، ومعلوم أنّ المشركين من العرب الذين بُعث إليهم رسول
__________
(1) أصل هذه الفرقة واصل بن عطاء المولود80هـومات131هـ وهم غلاة في نفي صفات الله عز وجلّ وسموا بالمعطلة وينكرون رؤية الله بالأبصار في الآخرة وأن كلام الله محدث والله غير= =خالق لأكساب العباد وأن الفاسق في منزلة بين المنزلتين وكل هذا ناتج عن استعمال العقل فيما لا مجال للعقل فيه.(175/33)
الله صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يُقِرُّون بأنّ الله خالق كل شيء، حتى إنّهم كانوا يُقِرُّون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون"اهـ. قال الآلوسي في محاكمة الاحمدين ص521: "إن كثيراً من أهل النظر يزعمون دليل التمانع هو قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن العظيم ودعت إليه الرسل. و ليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وأن خالق السموات والأرض واحد، كما أخبر عنهم سبحانه بقوله (ولئن سألتهم) الآية. ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة له سبحانه في خلق العالم، لكنهم يعتقدون أنها تماثيل قوم صالحين من الأنبياء وغيرهم، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله تعالى. وهذا كان أصل شرك العرب" إلخ ما قال رحمه الله. وإذا كان أهل الجاهلية يقولون مُطرنا بنوء كذا ونوء كذا فإنّهم أساساً يعتقدون أنّ الله هو الذي يُنزل المطر قال تعالى في سورة العنكبوت/63: "ولئن سألتهم من نزَّل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها ليقولنّ الله"، وتجد طلب السقيا من الله كثيراً في أشعارهم مثل قول أحد الصعاليك:
سقى اللهُ ذات الغمر وبلاً ويمةً
ج ... وجادت عليها البارقات اللوامع
ج
وفي مسند أحمد بسند صحيح(5/64) عن رجل من بلهجيم قال: "قلت: يا رسول الله إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده الذي إن مسَّك ضرٌ دعوته كشف عنك والذي إن ضللت بأرض قفرٍ دعوْتَه ردَّ عليك والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت عليك"اهـ. وكانوا يعتقدون أنّ الله بيده ملكوت كل شيء: "قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فأنّى تُسحرون"الآيات من سورة المؤمنون، حتى كانوا يعتقدون أنّ أصنامهم مملوكة لله كقول قريش في طوافها:(175/34)
لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك
ولمّا كانوا يعتقدون أنّ الله مالك كل شيء فقد كانوا يعتقدون أنّه هو المعطي، قال النابغة الذبياني في ممدوحه:
ألم ترَ أنّ الله أعطاك سورةً ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وكانوا يُسمُّون أولادهم عبد الله وهذا كثير كعبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن الصمة أخو دريد بن الصمة الذي رثاه بقوله:
تنادَوا فقالوا أرْدت الخيلُ فارساً
جج ... فقلت أعبد الله ذلكم الردي؟
ج
وإنّما عبَّدوا أولادهم لله لإيمانهم به فهم في هذه خير من الشيعة الذين يُسمُّون أولادهم: عبد الحسين أو عبد الرسول، ونحوها، وهو من الشرك الظاهر. ومثله تعبيد الصوفية أولادهم لغير الله، أو نسبتهم لسواه، كما يفعل صوفية الهند فيُسمُّون أولادهم: هبة فلان، ومعناه: أنّ الشيخ هو الذي وهب لهم الولد، ذكر الشيخ أبو الحسن الندوي في ترجمته لكتاب التوحيد لإسماعيل الشهيد أنّ من أسمائهم(بير بخش)؛ أي هبة الشيخ بير. وكان مشركو العرب في الجاهلية يُثبتون علم الغيب لله. قال زهير بن أبي سلمى في معلقته:
فلا تكتمنّ الله ما في نفوسكم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
ولكنني عن علم ما في غدٍ عمِ
ومن ذلك قول أمية بن أبي الصلت:
ألا أيُّها الإنسان إيّاك والرَدى
ج ... فإنّك لا تخفى من الله خافيا
وإذا كان المشركون ينفون وينكرون كثيراً من أسماء الله كالرحمن كما حكى القرآن عنهم(وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) فإنّهم يُثبتون له سبحانه أسماء أُخر كالعزيز والعليم، قال تعالى في سورة الزخرف/9: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ خلقهنّ العزيز العليم". وتجد في أشعارهم تسميته -سبحانه- بأسماء أُخر كالأول؛قال عبد طابخة بن وبرة كما في(الملل والنحل:2/243):
وأنت القديم الأول الذي
ججج ... تبدّأت خلق الناس في أكثم العدمْ
ج(175/35)
وكانوا يُثبتون لله اسم الملِك أيضاً، قال عمرو بن الحارث الجرهمي ملك جرهم يذكر مكة(1/115 الملل):
فأخرجَنا منها المليكُ بقدرةٍ
ج ... كذلك ياللناس تجري المقادر.
وقال عبد المطلب بن هاشم:
يا رب أنت المليك
جج ... وأنت ربي المبدئ والمعيد
من عندك الطارف والتليد (الملل 2/240)
ويُثبتون له سبحانه اسم الإله. قال نفيل بن حبيب كما في سيرة ابن هشام(1/53):
أين المفرُّ والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال بعضهم:
لعن الإلهُ تعلّة بن مسافر ... لعناً يُشنُّ عليه من قُدَّام
ج
وورد في شعرهم تسمية الله بالرحيم، قال أمية بن أبي الصلت:
ثمّ يجلو النهارُ ربٌّ رحيم ... بمهاةٍ شعاعها مبشور
(سيرة ابن هشام 1/60)، ووصف بعضهم الله بذي الطول؛ قال عبد طابخة كما في الملل للشهرستاني(2/243):
لأنّك أهل الحمد والخير كله
جج ... وذو الطول لم تعجل بسخطٍ ولم تلم
وسمّاه قس بن ساعدة(أحد الحنفاء) بالواحد:
كلا بل هو الله إلهٌ واحدٌ
ججج ... ليس بمولود ولا والد(175/36)
(الملل 2/242). وقد مرَّ بيتُ عبد المطلب(وأنت ربي المبدئ والمعيد)، فسمّى الله مبدئاً ومُعيداً. وكان عرب الجاهلية إذا كتبوا كتاباً بدؤوه: باسمك اللهمّ. كما في قصة كتابة صلح الحديبية. وعلى الجملة فقد كان مشركو الجاهلية يُثبتون لله أسماء كثيرة تليق به وصفات كثيرة(1)-كما سيمر أثناء هذا البحث- ولعلهم من هذه الناحية أفضل من المعطلة من هذه الأمة كالمعتزلة، وكالأشاعرة الذين لا يُثبتون لله إلا الصفات السبع المعروفة. وكانوا يدعون الله ويسألونه، قال عبيد بن الأبرص في معلقته:
من سأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيبُ
ج
وقال النابغة الذبياني:
ونحن لديه نسأل الله خلده ... يردَّ لنا ملكاً وللأرض عامرا
ج
وكانوا مع سؤاله سبحانه يحمدونه في أشعارهم مثل قول عكرمة بن عامر كما في السيرة(1/51):
لاهمّ أخزِ الأسود بن مقصود
فضمّها إلى طماطم سود ... الآخذ الهجمة فيها التقليد
أخفره يارب وأنت محمود
ج
ومن ذلك قول عبد طابخة بن ثعلب(الملل 2/243):
وأدعوك ربي بالذي أنت أهله
لأنّك أهل الحمد والخير كله
ج ... دعاء غريق قد تشبّث بالعِصَمْ
وذو الطول لم تعجل بسخطٍ ولم تلم
ومن أحسن ثنائهم على الله قول لبيد بن ربيعة أحد أصحاب المعلقات:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
جج ... وكل نعيم لا محالة زائل
__________
(1) وكذلك مشركو الأمم السابقة كانوا مع شركهم بالله يؤمنون به ويثبتون له أسماء وصفات صحيحة فمثلاً قالت امرأة العزيز المشركة: "وما أبرِّئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم" فهي تؤمن بربوبية الله ورحمته ومغفرته ولكنها لا توحِّده بالعبادة= =والراجح أن هذا القول لها لا ليوسف كما ذهب بعض المفسرين، ولا يُستغرَب من هذه المرأة أن تستغفر الله قائلةً إن ربي غفورٌ رحيم لأنهم كانوا مع شركهم يستغفرون الله ألم يقل لها زوجها قبل ذلك: (واستغفري لذنبكِ إنكِ كنتِ من الخاطئين)؟!.(175/37)
حتى إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"رواه البخاري(برقم 3841). وكانوا إذا دعوا على أحد دعوا عليه بلعنة الله مثل قول أحدهم:
لعن الإله تعلّة بن مسافر
جج ... لعناً يُشنُّ عليه من قُدَّامِ
وقول عبد قيس بن خفاف البرجمي يهجو النعمان بن المنذر:
لعن الله ثمّ ثنّى بلعنٍ
ج ... ابن ذا الصائغ الظلوم الجهولا
ج
وقال عروة بن الورد العبسي:
لحى الله صعلوكاً إذا جنّ ليله
ج ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزر
جج(175/38)
وكانوا مع حلفهم بأصنامهم يحلفون بالله؛ قال تعالى في سورة فاطر/42: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم"الآية وحتى من لم يؤمن منهم بالبعث كان يؤمن بالله ويقسم به قال تعالى في سورة النحل/38: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت"الآية وفي حديث إسلام أبي ذر رضي الله عنه عند البخاري برقم(3522) لما بعث أخاه ليأتيه بخبر الرجل الذي خرج من مكة يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ماعندك؟ فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر" الحديث فهذا أخو أبي ذر يحلف بالله وهو مشرك. بل ثبت أنّ مشركي الأمم السابقة كانوا يحلفون بالله، كقوم صالح، قال تعالى عن الرهط منهم: "قالوا تقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله ثمّ لنقولنّ لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنّا لصادقون"/النمل 49/. وهذا يدل على إيمانهم بالله مع الشرك به، وفي حديث دخول إبراهيم أرض مصر لما أرسل الملك الكافر إلى سارة ومد يده إليها فقُبِضت ثلاث مرات فقال لها في الثالثة: "ادعي الله أن يطلق يدي فلكِ الله أن لا أضرك، ففعلت وأطلقت يده"الحديث في الصحيحين. فهذا الملك الكافر يقسم بالله فيقول لسارة: فلك الله أن لا أضرك. وقد كثر في شعر العرب ونثرها -على السواء-الحلف بالله، مثل قول عامر بن الظرب(أحد الذين حرَّموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية):
أقسمت بالله أسقيها وأشربها
جج ... حتى يفرق ترب الأرض أو صالي
ج
وكقول امرئ القيس:
فقالت يمين الله مالك حيلة
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي
جج(175/39)
ومن ذلك قول قس بن ساعدة: (أقسم قسٌّ بالله... إلخ). ومن أشهر الأيمان عندهم وأجلها الحلف برب الكعبة كقولهم: (كلا وربّ الكعبة، لا وربّ هذه البنية...إلخ). ولا ينسبون الكعبة إلا إلى الله. ولا أدلّ على إيمانهم بالله -في الجملة- وبقدرته على حماية بيته من أشعارهم الكثيرة التي خلّدوا فيها هزيمة أبرهة الحبشي وجيشه لما راموا هدم الكعبة. فقال نفيل بن حبيب الجاهلي يذكر يوم الفيل يوم أُلقيت الحجارة على جيش أبرهة من السماء (السيرة 1/53):
حمدت الله إذ أبصرت طيراً ... وخِفْتُ حجارةً تُلقى علينا
وقال أبو قيس بن الأسلت:
فقوموا فصلُّوا ربكم وتمسّحوا
فعندكم منه بلاء مصدّقٌ
فلمّا أتاكم نصر ذي العرش ردَّهمْ
فَوَلَّوا سراعاً هاربين ولم يؤبْ
ج ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
جنودُ المليك بين سافٍ وحاصب
إلى أهله ملْحبش غير عصائب اهـ
فصلوا ربكم أي ادعوه. قال ابن هشام: (غداة أبي يكسوم يعني أبرهة كان يكنى أبا يكسوم) وانظر السيرة(1/59). وفي هذا الشعر إثبات العرش لله كما يليق به سبحانه، وفيه اعتقادهم أنّ النصر من عند الله، ومن ذلك استفتاح أبي جهل يوم بدر فأخزاه الله(إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح). وقال طالب بن أبي طالب:
ألم تعلموا ما كان في حرب داحسٍ
فلولا دفاع الله لا شيء غيره ... وجيش أبي يكسوم إذ ملئوا الشِعبا
لأصبحتمُ لا تمنعون لكم سربا
ج
وقال أبو الصلت الثقفي وتروى لابنه أمية:
إنّ آيات ربنا ثاقباتٌ
حبَس الفيل بالمغمس حتى
خلَّفوه ثمّ ابْذَعَرُّوا جميعاً
ج ... لا يماري فيهنّ إلا الكفورُ
ظلّ يحبو كأنّه معقورُ
كلهم عظم ساقه مكسورُ
ج
وكان عبد المطلب لمّا جاء أبرهة أخذ بحلقة باب الكعبة وقال:
لاهُمّ(أي اللهمّ) إنّ العبد يمنع رحله
لا يغلبن صليبهم
إن كنت تاركهم وقبلتنا
جج ... فامنع حِلالك
ومحالهم غدواً محالك
فأمرٌ ما بدا لك(175/40)
وعبد المطلب هذا كان مشركاً لأنّ أبا طالب ابنه قال عند موته: هو على ملّة عبد المطلب، فمات كافراً وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب بالنار. ومن أشعارهم يوم الفيل قول نفيل بن حبيب:
أين المفر والإله الطالب
ج ... والأشرم المغلوب ليس الغالب؟
(الأشرم: أبرهة). وكانوا يعتقدون أنّ الله في السماء على عرشه فوق مخلوقاته، فينزِّهونه –سبحانه- عن الحلول بذاته في كل مكان خلافاً لأهل البدع من المسلمين كالجهمية(1)والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية. يقول عنترة:
يا عبل أين من المنية مهربي
ج ... إن كان ربي في السماء قضاها؟
ج
وقال لبيد:
لله نافلة الأجلّ الأفضل
سوّى فأعلى دون غرفة عرشه
والأرض تحتهمُ مهاداً راسياً ... وله العلى وأثبت كل مؤثلِ
سبعاً طباقاً دون فرع المعقل
ثبتت جوانبها بصمِّ الجندل
(انظر اجتماع الجيوش الإسلامية لابن قيم الجوزية/233). وقال عبد الله بن الزبعرى في الجاهلية يذكر مكّة:
كانت بها عاد وجرهم قبلهم
ج ... والله من فوق العباد يقيمها
ج
فأثبت لله الفوقية كما يليق به سبحانه وهذا يشبه معنى قوله تعالى: "وهو القاهر فوق عباده" وقال الجاهلي عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي يذكر مكة لمّا أجلتهم عنها قريش:
فأخرَجَنَا منها المليكُ بقدرةٍ
أقول إذا نام الخليُّ ولم أنم ... كذلك ياللناس تجري المقادرُ
أذا العرش لا يبعد سهيلٌ وعامرُ
__________
(1) أصحاب جهم بن صفوان ظهرت بدعته بترمذ وقد غلا في التعطيل حتى نفى الأسماء والصفات جميعاً وقد استعظم السلف مقالة الجهم وعدُّوها كفراً شنيعاً. وقد جمع هذا الخبيث بين شناعات التعطيل والجبر والإرجاء وهكذا صار جهم بهذه الضلالات رأس فتنة كبرى لمن جاء بعده من فرق الزيغ والانحراف لولا قيام السلف الصالح بدحض مفترياته والذب عن حما الإسلام العظيم. قُتل الجهم سنة 128هـ على يد الوالي سلم بن أحوز.(175/41)
فوصف الله بالملِك ووصفه بالقدرة ووصفه بذي العرش فتأمّلْ أيها الأشعري! وقد سمعتَ قول ابن الأسلت:
فلمّا أتاكم نصر ذي العرش ردّهمْ ... جنود المليك بين سافٍ وصاحب
وقال أمية بن أبي الصلت:
مَجِّدوا الله فهو للمجد أهل
بالبناء الأعلى الذي سبق الخلق ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
وسوّى فوق السماء سريرا
وهذه العقائد الصحيحة فيما يليق به سبحانه لا سيما إثبات فوقية الله على خلقه وأنّه على عرشه في السماء ممّا ورثوه عن دين إسماعيل ثمّ إنّ اعتقاد أنّ الله في السماء فوق ممّا فطر الله عليه عباده جميعاً فهذه المسألة لا تحتاج إلى علم وبرهان ولذلك تجد الإنسان إذا أراد أن يدعو اتجه بقلبه ضرورة إلى السماء لاعتقاده أنّ الله فيها، ومنها تنزّل الرحمات والبركات وليس من السُّفل ولم يعارض في هذا أحدٌ حتى الفلاسفة إلا أرسطو وطائفة معه قال عنهم ابن القيم في إغاثة اللهفان(2/669): (وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة) اهـ كلامه. فإله الفلاسفة هؤلاء -أرسطو وأتباعه- فكرة مطلقة لا يوصف بشيء فهو أشبه بالعدم لا يوجد إلا في أذهانهم ولمّا ترجم المأمون كتبهم سرت هذه اللوثة إلى بعض هذه الأمة مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لتركبنّ سنن من كان قبلكم" فعطّلوا الله من صفاته اللائقة به وفوقيته على عباده كالمعتزلة والجهمية والأشاعرة، وصار ربّ العزّة –عندهم- أشبه بالمعدوم بل هو بوصفهم معدوم. يقول الأشاعرة -وهم فرقة ضالّة مبتدعة وإن سمَّوا أنفسهم أهل السنة والجماعة-: (الله لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا داخل العالم ولا خارجه)، وزاد المحشِّي: (ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه) "انظر تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد/55". وهذه في الحقيقة صفة المعدوم الذي لا يوجد، حتى لو أنّك أجهدت نفسك في وصف الشيء المعدوم لما استطعت وَصْفه بأحسن من هذا الوصف الذي وصف به الأشاعرة ربّهم(1)
__________
(1) قد يكون مقصودهم من هذا الوصف أن الله هو هذا العالم ليس غير. كما هو قول أهل وحدة الوجود، لا سيما أن اللقاني صاحب جوهرة التوحيد كان يتغزّل بالحلاج ويتندم على قتله فربما كان منهم، وكذلك فإن أرباب العقيدة الأشعرية في الأعصار المتأخرة الذين راجت عندهم هذه المقالة لا سيما أصحاب شروحها وتعليقاتها كثير منهم من المتصوفة الغلاة المعظمين لابن عربي فغير بعيد أن يكون صاحب هذا الوصف المعتمد للرب عندهم قَصَد به رب ابن عربي وابن الفارض لا سيما أن الصوفية يحرصون على ترديد هذه الصفة مع قولهم: الله في كل مكان فيمكن صياغة كلامهم كما يلي: (الله هو هذا العالم وليس هو داخل العالم ولا خارجه ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل به ولا منفصل عنه بل هو عينه) وكذلك قولهم الآخر: الله في كل مكان. معناه ولازمه أن الله هو العالم نفسه، لأنه لايوجد شيء لا يسمى مكاناً= =فالأجسام مكوَّنة من خلايا وجزيئات وذرات والخلية مكونة من نواة والنواة مكونة من نوية والذرة مكونة من إلكترونات إلخ إلخ وكل هذه أمكنة، والله - على حد قولهم - فيها، وكل هذا الوجود هو في الحقيقة مكان فلم يبقَ إلا أن يكون الله هو المكان نفسه لأنه سبحانه - حسب عقيدتهم - في كل مكان. فنتج من قولهم أنه سبحانه هذا العالم وهو قول أهل وحدة الوجود وليس بعيداً أن جهماً بن صفوان الذي هو سلف الأشاعرة كان يقصد هذه العقيدة فقد روى ابن أبي حاتم وغيره -بسند صحيح كما قال الألباني- أنه قيل لجهم: صف لنا ربك الذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج منه، ثم خرج إليهم بعد أيام، فقال: (هو هذا الهو اء مع كل شيء، وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء) إهـ.(انظر مختصر العلو/163) فإن لم يكن المقصود بهذا الكلام عقيدة الحلول ووحدة الوجود فهو يؤدي إليها. وكأنه لذلك قال الإمام يحيى بن معاذ الرازي توفي عام 258 ه: (إن الله على العرش بائن من خلقه، أحاط بكل شيء علماً، لا يشذ عن هذه المقالة إلا جهمي يمزج الله بخلقه) اهـ. ومن هنا تعرف أهمية اعتقاد أن الله عز وجل في السماء على عرشه بائنٌ من خلقه عالم بأحوالهم ومتصرف فيهم من فوق عرشه مع بعد المسافات وبه يعرف عظم الربوبية وفضلها. وبهذه العقيدة تنزه الذات الإلهية عن مشابهة المخلوقات، ويُحفظ المسلمون من الانحراف والتردي في حمأة عقائد الحلول والوحدة الباطلة. قال الشيخ ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية ت792ه: "إن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد كجهم بن صفوان، ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة، فإن إثبات ذات مجردة من جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل وهذا القول أفضى بقومٍ إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى، فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات. ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان عارفون بالله على الحقيقة. ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله لا غيره. ومن فروعه: أنه لا فرق في التحليل والتحريم بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، الكل من عين واحدة، لا بل هو العين الوحدة. ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا على الناس تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً"اهـ من شرح الطحاوية صـ78. وهكذا ظهرت العلاقة واضحة والصلة القوية بين= =ما يسمى علم الكلام والعقائد الضالة الأخرى كوحدة الوجود، حتى إن بعض الباحثين ذهب إلى أن فكرة وحدة الوجود ناشئة أصلاً عن علم الكلام. يقول الباحث محمد فهر الشقفة: "إنها(أي فكرة وحدة الوجود) -فيما نعتقد- راجعة في أصل نشأتها إلى تفكير كلامي بحت، وليست، كما يقول بعض المستشرقين وليدة عامل خارجي كالفلسفة الهندية، فقد بدأ المسلمون يبحثون في عقيدة التوحيد، فوقعوا من حيث لا يعلمون في القول بوحدة الوجود بدأوا ببحث معنى الوحدانية فقالوا بنفي الشرك والضد والند والشبيه والمثيل، وفسروا الله الواحد الواجب الوجود بمعنى أنه ينفرد بالوجود الحقيقي وأن كل ما عداه عدم محض، لأن كل ما عداه ممكن الوجود أي وجوده من غيره لا من ذاته. ثم فسروا "واجب الوجود" بأنه الفاعل الحقيقي والقادر الحقيقي والمريد الحقيقي. سئل الجنيد عن التوحيد فقال: "هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك له" ثم توسعوا في معنى التوحيد فلم يقفوا عند نفي الشريك لله بل نفوا وجود كل ماسوى الله وأنكروا الكثرة وعدوها من فعل الخيال والوهم، كما ذهب إليه ابن عربي. وهكذا انتهى بهم الأمر إلى أن يقولوا بدلاً من(لا إله إلا الله): (لاموجود على الحقيقة إلا الله)، أو ما شاكل ذلك من العبارات الصريحة الدالة على وحدة الوجود. وسموا عقيدة التوحيد الأصلية توحيد العوام، ووحدة الوجود توحيد الخواص، وأوردوا لكل منهما تعريفات. يقول الجنيد في تعريف توحيد العوام: (هو إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته) وفي تعربف الخواص(إنه الخروج من ضيق الرسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية"اهـ من كتاب التصوف بين الحق والخلق صـ15. قلت: لا شك أن ما يسمى علم الكلام ساهم إلى حد كبير في إذكاء هذه العقائد الفاسدة ولكن قصر فكرة وحدة الوجود عليه فقط فيه تقصير، ثم يقال وهل علم الكلام إلا ناشئ عن الفلسفة الإغريقية والهندية وغيرها من زبالات الأمم البائدة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لتركبن سنن من كان قبلكم. ولكن وحدة الحال بين الفريقين -فريق وحدة الوجود وفريق علم الكلام- واضحة على كل حال -لا سيما هذه الأيام- وتكاد أن تكون عباراتهم متحدة من مثل قولهم: إن إرادة العبد مجازية وفعله ليس منه وإنما هو فعل الله على الحقيقة فالفاعل الحقيقي -عندهم- هو الله، فإذا زنا الزاني فالزاني -عندهم- على الحقيقة هو الله وهكذا يستخدم الصوفية عبارات علماء الكلام الضالة لزرع عقيدة وحدة الوجود في أذهان أتباعهم وربما زادوا ألفاظاً في بعض الأحاديث الصحيحة ليستقيم لهم= =قولهم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري جواباً لسؤال أهل اليمن عن أول هذا الأمر: "كان الله ولم يكن شيء غيره" اهـفإنهم زادوا على الحديث زيادة باطلة وهي قولهم(وهو الآن على ما عليه كان) قال الحافظ ابن حجر: وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث. وكذا نبّه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ومقصودهم من عبارة (وهو الآن على ما عليه كان) أي أن الله لم يكن شيءٌ غيرَه لا في أول الأمر ولا الآن، فالمخلوقات المشاهدة هذه هي الله لا غير وليست خارجة عنه. واعلم أيها القارئ الفطن أن علم الكلام والفلسفة من أكبر عوامل انحطاط الأمم والشعوب فضلاً عن المسلمين ولا تقوم لمجتمع أخذ بها قائمة، يقول الباحث أبو الحسن الندوي في كتابه/ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين صـ100: "وهذه الفلسفة اليونانية قد عرفت بواجب الوجود في سلوب ليست فيها صفة مثبتة من صفات القدرة والربوبية والإعطاء والمنع والرحمة، ولم تثبت له إلا الخلق الأول، ونفت عنه الاختيار والعلم والإرادة، ونفت الصفات وقررت كليات كلها حط من قدر الخالق وقياس على الخلق، والسلوب إذا اجتمعت لم تفد فائدة إيجاب واحد، ولم نعلم مدنية واحدة ولا مجتمع ولا نظام ولا عمل ولا بناية قامت على مجرد سلوب، فتجردت الديانة في أوساط الفلسفة الإغريقية عن روح الخشوع والاستكانة لله والالتجاء إليه في الحوادث ومحبته بكل القلب"إهـ. قلت وهذا الذي حصل للمسلمين أهل الكلام فإنهم لما رفضوا أن يقروا أن الله في السماء أساؤوا به الظن فانتكست فطرهم فلجأوا إلى الحُفَر حيث الموتى يستغيثون بهم ويسألونهم الحاجات. ولقد كان اجتماع الصوفية وعلم الكلام على الدولة العثمانية من أهم أسباب زوالها واندثارها يقول أبو الحسن الندوي في كتابه السابق نقلاً عن أحد الباحثين: "إن فكرة علماء تركية والبلاد الإسلامية الأخرى هذه ليست من الدين في شيء، إن الفلسفة الإلهية أو علم الكلام الذي كان عند المسلمين أو النصارى، إنما كان مبنياً على فلسفة الإغريق وكان الغلبة فيه لأفكار أرسطاطاليس الذي كان فيلسوفاً وثنياً"إ ه. (المرجع السابق صـ164) قلت: فليس عجيباً أن تتضافر أقوال علماء السلف محذرين من علم الكلام، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: (حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد ويُحملوا على الإبل ويُطاف بهم في العشائر والقبائل ويُنادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام).(175/42)
ثمّ هم مع هذا يجعلون عقيدتهم هذه أعلم وأحكم من عقيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، يقولون: (عقيدة السلف أسلم ولكن عقيدة الخلف أعلم وأحكم) هكذا ! وهذا غاية الضلال، فهل عقيدة الجهمية والمعتزلة والأشاعرة أذناب الفلاسفة اليونانيين أعلم وأحكم من عقيدة الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر والصحابة والتابعين والقرون الفاضلة الأولى؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، بل عقيدة السلف أعلم وأحكم وأسلم وعقيدة الخلوف المبتدعين أجهل وأضلّ وأظلم. ولكن كيف العمل مع مَنْ أخذ عقيدته عن اليونان؟ وليس لهم سلفٌ في ذلك إلا فرعون الذي أنكر أن يكون في السماء إله، قال تعالى: "وقال فرعون يا هامان ابنِ لي صرْحاً لعلِّي أبلغ الأسبابO أسبابَ السماوات فأطّلِعَ إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذباً". قال أبوسعيد الدارمي: في كتابه الردُّ على الجهمية: "أقرَّت هذه العصابة بهذه الآيات بألسنتها وادّعَوْا الإيمان بها ثم نقضوا دعواهم بدعوى غيرها فقالوا: (الله في كل مكان لا يخلو منه مكان)(1)
__________
(1) اعلم أن اعتقاد أن الله في كل مكان -الذي هو اعتقاد الجهمية والمعتزلة أصلاً- صار الآن اعتقاد كافة الأشاعرة والماتريدية وكل من التقيته منهم يعتقد بذلك وآخرهم الدكتور الحلبي محمود الزين المدرس في معهد الكلتاوية الذي قال بكل وقاحة: الله في كل مكان. وبعد أخذٍ وردٍ قلت: طالما أنك تعتقد أن الله في كل مكان فهل يجوز أن نشير إلى الله أسفل منا؟ فقال نعم ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فانظر كيف بلغ بهم الضلال لما أنكروا أن يكون الله في السماء!! فاستدلاله بهذا الحديث في هذا الموضع حسب فهمه الفاسد يدل على أنه يعتقد أن الله أسفل منه وليس أعلى لاعتقاده أن القرب المذكور في الحديث قرب مكاني وليس قرب إجابة كما هو المتبادر لكل مسلم كقوله صلوات الله عليه في الحديث الآخر: وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ(أي خليقٌ) أن يستجاب لكم. ولا شك أن فهمه هذا من أبطل الباطل وهو من قبيل الزندقة وتحريف الوحي. مع أنّ السلف -رحمهم الله- كانوا يستدلون على علو الله على خلقه بقول المصلي في سجوده: سبحان ربيَ الأعلى. وللأسف الشديد صار الآن محمود الشين هذا يُدَرِّسُ هذه الضلالات على أبناء جزيرة العرب في دُبَي بعد أن استقدمه وآواه مَنْ لا يتقي الله وراح ينفث سمومه في رؤوس الطلاب السُّذَّج دون نكير ولا حول ولا قوة إلا بالله= =والواقع أن دُبَي صارت مباءة لمشايخ الصوفية يصولون ويجولون فيها يتسلّمون الوظائف الدينية ويستقدمون المزيد من أتباعهم من بلاد الشام وغيرها في خُطّة مدروسة -على مايبدو- على حين غفلةٍ من أهل التوحيد مع أن اللائق بهؤلاء الصوفية الضُّلّال والواجب في حقهم أن يُنْفَوا من أرض جزيرة العرب الطاهرة ولا يُمَكَّنوا من دخولها وتدنيسها بأفكارهم القذرة. ونذكِّر مَنْ يأويهم ويُمَكِّن لهم في هذه البلاد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).(175/43)
قلنا: قد نقضتم دعواكم بالإيمان باستواء الربِّ على عرشه إذْ ادَّعيتم أنّه في كل مكان؟ فقالوا تفسيره عندنا أنّه استولى عليه وعلاه قلنا: فهل من مكان لم يستول عليه ولم يعله حتى خصّ عرشه من بين الأمكنة بالاستيلاء عليه؟ ثم قال الدارمي بعد إيراد قول فرعون لهامان: (ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى): ففي هذه الآية بيان بيِّن ودلالة ظاهرة على أنّ موسى كان يدعو فرعون إلى معرفة الله بأنّه فوق السماء، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إليه ويمتحن به إيمانهم. واستدَلَّ بحديث معاوية بن الحكم السلمي الذي أخرجه مسلم إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: مَنْ أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنّها مؤمنة. قال أبو سعيد: ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أنّ الرجل إذا لم يعلم أنّ الله -عز وجل-في السماء دون الأرض فليس بمؤمن ألا ترى أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم جعل أمارة إيمانها هو معرفتها أنّ الله في السماء؟ والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه وعن التابعين ومن بعدهم أكثر من أن يحصيها كتابنا هذا غير أنّنا قد اختصرنا من ذلك ما يستدلُّ به أولو الألباب أنّ الأمّة كلّها والأمم السالفة قبلها لم يكونوا يشكُّون في معرفة أنّ الله فوق السماء بائن من خلقه غير هذه العصابة الزائغة"اهـ. قال الإمام أبو بكر بن خزيمة ت311هـ (الموصوف بإمام الأئمة، فقيه الآفاق، المجتهد المطلق) في كتابه العظيم التوحيد ص68 "باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى الفعال لما يشاء على عرشه فكان فوقه وفوق كل شيء عالياً كما أخبرنا الله جل وعلا في قوله: (الرحمن على العرش استوى) وقال ربنا: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش) وقال في تنزيل السجدة: (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة(175/44)
أيام ثم استوى على العرش) وقال الله تعالى: (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) فنحن نؤمن بخبر الله جل وعلا أن خالقنا مستوٍ على عرشه لا نبدِّل كلام الله ولا نقول قولاً غير الذي قيل لنا كما قالت المُعطِّلة الجهمية أنه استولى على عرشه لا استوى فبدّلوا قولاً غير الذي قيل لهم كفعْل اليهود لما أُمروا أن يقولوا حطّة فقالوا حنطة مخالفين لأمر الله جل وعلا كذلك الجهمية. -ثم ذكر أخباراً منها الحديث الصحيح- : (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلا الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجَّر أنهار الجنة) قال: فالخبر يصرح أن عرش ربنا جل وعلا فوق جنته وقد أعلمنا جل وعلا أنه مستوٍ على عرشه فخالقنا عالٍ فوق عرشه الذي هو فوق جنته -ثم قال ص73- باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه عليه السلام وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين علماؤهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وأناثهم، بالغوهم وأطفالهم، كل من دعا الله جل وعلا فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى الله إلى أعلاه لا إلى أسفل. قال أبو بكر: قد ذكرنا استواء ربنا على العرش في الباب قبل فاسمعوا الآن ما أتلو عليكم من كتاب ربنا الذي هو مسطور بين الدفتين مقروء في المحاريب والكتاتيب مما هو مصرح في التنزيل أن الرب جل وعلا في السماء لا كما قالت الجهمية المعطلة أنه في أسفل الأرضين فهو في السماء عليهم لعائن الله اليانعة. قال الله تعالى: (أأمنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض) وقال الله تعالى: (أم أمنتم مَن في السماء أن يرسل عليكم حاصباً) أفليس قد أعلمنا -يا ذوي الحجا- خالق السموات والأرض وما بينهما في هاتين الآيتين أنه في السماء -وذكر آيات أخرى مثل- (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) أليس إنما يُرفع الشيء من أسفل إلى أعلا لا من أعلا(175/45)
إلى أسفل (بل رفعه الله إليه) ومحال أن يهبط الإنسان من ظهر الأرض إلى بطنها أو إلى موضع أخفض منه وأسفل فيقال رفعه الله إليه لأن الرفعة في لغة العرب الذين بلغتهم خوطبنا لا تكون إلا من أسفل إلى أعلا. (وهو القاهر فوق عباده) (يخافون ربهم من فوقهم) فأعلمنا الجليل جلا وعلا أن ملائكته يخافون ربهم الذي فوقهم والمعطلة تزعم أن معبودهم تحت الملائكة (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) أليس معلوم في اللغة السائرة بين العرب التي خوطبنا بها وبلسانهم نزل الكتاب أن تدبير أمر السماء إلى الأرض إنما يدبره المدبر وهو في السماء لا في الأرض كذلك مفهوم عندهم أن المعارج المصاعد قال الله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) وإنما يعرج الشيء من أسفل إلى أعلا وفوق لا من أعلا إلى دون وأسفل فتفهَّموا لغة العرب لا تغالطوا (سبح اسم ربك الأعلى) فالأعلى مفهوم في اللغة أنه أعلا كل شيء وفوق كل شيء . والله قد وصف نفسه في غير موضع من تنزيله وأعلمنا أنه العلي العظيم أفليس العلي -يا ذوي الحجى- ما يكون عالياً لا كما تزعم المعطلة الجهمية أنه أعلا وأسفل ووسط ومع كل شيء وفي كل موضع من أرض وسماء وفي أجواف جميع الحيوان ولو تدبروا الآية من كتاب الله لعقلوا أنهم جهال لا يفهمون ما يقولون وبان لهم جهل أنفسهم وخطأ مقالتهم. -ثم ذكر أحاديث كثيرة منها- (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟) الحديث ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا أمين من في السماء) ومنها أحاديث عروج النبي إلى السماء إلى ربه ثم قال الإمام ابن خزيمة: فتلك الأخبار كلها دالة على أن الخالق الباري فوق سبع سموات لا على ما زعمت المعطلة أن معبودهم هو معهم في منازلهم وكُنُفهم (مراحيضهم) على ما هو على عرشه قد استوى. وقال ص75: قال الله تعالى لما سأله(175/46)
كليمه موسى عليه السلام أن يريه ينظر إليه (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) إلى قوله (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) أفليس العلم محيطاً -يا ذوي الألباب- إن الله عز وجل لو كان في كل موضع ومع كل بشر وخلق كما زعمت المعطلة لكان متجلياً لكل شيء وكذاك جميع ما في الأرض لو كان متجلياً لجميع أرضه سهلها ووعرها وجبالها براريها ومفاوزها ومدنها وقراها وعمارتها وخرابها وجميع ما فيها من نبات وبناء (لجعلها دكاً) كما جعل الله الجبل الذي تجلى له دكاً قال الله تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) اهـ من كتابه التوحيد. وقال عبد الله بن المبارك: (نعرف ربّنا بأنّه فوق سبع سماوات على العرش استوى بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية. وفي لفظ آخر قال: في السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما قالت الجهمية). قال الأوزاعي: (كنّا والتابعون متوافرون نقول: إنّ الله عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته). قال حماد بن زيد: (الجهمية إنّما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء). وروى البخاري في كتاب(خلق أفعال العباد) عن يزيد بن هارون قوله: (مَنْ لا يوقن أنّ الرحمن على العرش استوى كما تقرّر في قلوب العامة فهو جهمي)، ومثله قال القعنبي شيخ البخاري ومسلم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والذي تقرّر في قلوب العامة هو ما فطر الله تعالى عليه الخليقة من توجهها لربها تعالى عند النوازل والشدائد والدعاء والرغبات إليه تعالى نحو العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، من غير موقف وقفهم عليه، لكنّ فطرة الله التي فطر الناس عليها وما من مولود إلا وهو يولد على هذه الفطرة حتى يجهِّمه وينقله إلى التعطيل من يُقيض له) اهـ. قلت: فالعوام محسوبون على مذهب السلف في هذه المسألة إلا منْ لقَّنه الأشاعرة بدعتهم. قال الحافظ القطعي رحمه الله: (آخر كلام الجهمي أنّه ليس في السماء إله). وقال يحيى بن معاذ الرازي: (إنّ الله على العرش بائن(175/47)
من خلقه أحاط بكل شيء علماً لا يشذُّ عن هذه المقالة إلا جهمي يمزج الله بخلقه) وضرب -رحمه الله- قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم وهو يقول: (لا، حتى تقول: الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه). وقال وهب بن جرير رحمه الله: (إنّما تريد الجهمية أنّه ليس في السماء شيء). وقال إمام أهل البصرة على رأس المئتين سعيد بن عامر الضبعي: (الجهمية شر قولاً من اليهود والنصارى، وقد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أنّ الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء). وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري في قوله تعالى"وهو معكم": (معناه لا يخفى عليه خافية بعلمه، ألا ترى إلى قوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" أراد أن لا يخفى عليه خافية. قال البخاري: سمعته يقول: مَنْ شبّه الله تعالى بخلقه فقد كفر ومَنْ أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس ما وصف الله تعالى به نفسه ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم تشبيهاً). وقال الحافظ الآجري: (فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم" قيل له: علمه معهم، والله عز وجل على عرشه وعلمه محيط بهم كذا فسّره أهل العلم والآية تدلُّ أولها وآخرها على أنّه العلم وهو على عرشه فهذا قول المسلمين). قال أبو عيسى الترمذي صاحب السنن: (عِلْمُ الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش) وقال علي بن المديني رحمه الله وقد سُئِل عن قوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم": (إقرأ ما قبله، يعني علم الله) رواه البخاري في(خلق الأفعال) قال أبو نصر السجزي: (وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون على أنّ الله فوق العرش بذاته وأنّ علمه بكل مكان). وقال البوشنجي الحافظ: (إنّ الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وعلمه وقدرته وسلطانه بكل مكان)، وقال قتيبة بن سعيد: "ربنا -سبحانه- في السماء السابعة على عرشه).(175/48)
قال الخلال في(كتاب السنة): قيل للإمام أحمد: (ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال نعم لا يخلو شيء من علمه). (وقيل لأحمد: ما معنى قوله تعالى(وهو معكم) ؟ قال: علمه محيط بالكل وربنا على العرش). وقال الإمام أحمد أيضاً: (إنّ الله على عرشه فوق السماء السابعة يعلم ما تحت الأرض السفلى وأنّه غير مماسّ لشيءٍ من خلقه، هو تبارك وتعالى بائن من خلقه وخلقه بائنون منه. ثمّ قال: معنى قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) يقول: هو إلهُ مَنْ في السماوات وإلهُ مَنْ في الأرض وهو على العرش وقد أحاط علمه بما دون العرش لا يخلو من علمه مكان). وقال الإمام أحمد عن الجهمية: (كلامهم كله يدور على الكفر). قال الدارمي رحمه الله في كتابه: (النقض على بشر المريسي): (وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أنّ الله تعالى فوق عرشه فوق سماواته لا ينزل قبل يوم القيامة إلى الأرض، ولم يشكُّوا أنّه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم وتشقق السماوات يومئذ لنزوله وتنزل الملائكة تنزيلاً ويحمل عرش ربك فوقهم يومئد ثمانية). وقال في موضع آخر: (وإنّما يُعرف فضل الربوبية وعظم القدرة بأنّ الله من فوق عرشه ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض يعلم ما في الأرض) اهـ. وقال خارجة بن مصعب: (الجهمية كفّار: أبلغْ نساءهم أنّهنّ طوالق لا يحللن لهم لا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم). وقال عباد بن العوام عنهم: (أرى والله ألا يُناكحوا ولا يُوارثوا). وروى المقدسي عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنّه قال: (من أنكر أنّ الله عز وجل في السماء فقد كفر). وقال البلخي: (سألت أبا حنيفة عمّن يقول لا أعلم ربي في السماء أم في الأرض؟ قال: إذا أنكر أنّه في السماء فقد كفر لأنّ الله تعالى يقول: الرحمن على العرش استوى). وروى الذهبي في العلو: لمّا قدمت امرأة الجهم: قال رجل(175/49)
عندها: الله على عرشه. فقالت: محدود على محدود؟ فقال الأصمعي: هي كافرة بهذه الكلمة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: (الجهمية أرادوا أن ينفوا أنّ الله كلّم موسى وأن يكون على العرش أرى أن يُستتابوا فإن تابوا وإلا ضُربت أعناقهم). وقال إمام الأئمّة ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد: (مَنْ لم يقر أنّ الله -عز وجل- على عرشه بائن من خلقه فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه). وقال ابن بطة العكبري: (أجمع الصحابة والتابعون أنّ الله تعالى فوق السماوات بذاته مستوٍ على عرشه). ولذلك قال الطبري: (وحسْب امرئ أن يعلم أنّ ربه هو الذي على العرش فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر) اهـ. وللمزيد انظر العلو للذهبي واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم.(175/50)
وقد تبيّن لنا من هذه النصوص أنّ الخلاف بين السلف والخلف ليس هيناً كما يزعم بعض المبتدعة كالبوطي وأمثاله بل القول بقول الجهمية والأشاعرة يبيح سفك دم قائله، وتكفيره وخروجه من الملّةكما أفتى غير واحد من السلف كما رأيت، وبناءً عليه ينبغي على ولي أمر المسلمين أن يستتيب مَنْ لم يقر بأنّ الله في السماء على عرشه بائن من خلقه عالم بأحوالهم فإن تاب وإلا قُتل، وهذا يليق بمن ردّ آيات القرآن وخالف ما اعتقده الرسول وقرّره، وخالف عقيدة الصحابة والتابعين الذين هم أهل السنة والجماعة حقاً لا الخلوف المبتدعين الذين يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. ومَنْ خالف الرسول والصحابة والتابعين وحاد عن سبيل المؤمنين وسفّه عقيدتهم وعدّ عقيدة الفلاسفة اليونانيين أعلم وأحكم فما أحراه بالقتل!(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ). قال الإمام ابن القيم في(إغاثة اللهفان 2/669): (إنّ الفلاسفة(1)اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها. وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل بزعمه وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو وهم المشّاؤون خاصة وهم الذين هذَّب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها وهي التي يعرفها بل لا يعرف سواها المتأخرون من المتكلمين(الأشاعرة وأضرابهم) وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة ومقالتهم واحدة من مقالات القوم حتى قيل: إنه ليس فيهم من يقول بقِدم الأفلاك غير أرسطو وشيعته فهو أول من عرف أنه قال: بقدم هذا العالَم. والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه وإثبات الصانع ومباينته
__________
(1) يقول أبو الحسن الندوي في كتابه النبوة والأنبياء صـ136،137 ما نصه "تعاونت الفلسفة والشرك على إضعاف هذا الإيمان وإضعاف رابطة العبد وربه( أما الأول فبالإلحاح الشديد على نفي الصفات وأما الثاني فبصرف هذه الصفات إلى المخلوقات)"إه(175/51)
للعالم وأنه فوق العالم وفوق السماوات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم: أبو الوليد بن رشد في كتابه(مناهج الأدلة) فقال فيه: القول في الجهة: وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وحتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي الجويني ومن اقتدى بقوله-إلى أن قال-: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأنّ منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأنّ من السماوات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك. ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول وبيَّن بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها المعتزلة والجهمية ومن وافقهم إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع. فقد حكى لك هذا المطّلع على مقالات القوم الذي هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه إجماع الحكماء على أنّ الله سبحانه في السماء، فوق العالم. والمتطفلون في حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك إما جهلاً وإما عمداً وأكثر من رأيناه يحكي مذاهبهم ومقالات الناس يتطفل. وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال وحدوث العالم وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه كما ذكره فيلسوف الإسلام في وقته أبو البركات البغدادي وقرّره غاية التقرير. وقال: "لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلّا بذلك وأنّ نفي هذه المسألة ينفي ربوبيته"إهـ. وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى (ثم استوى على العرش) من سورة الأعراف: "وقد كان السلف الأول -رضي الله عنهم- لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافَّة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف(175/52)
استواءه على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء"إهـ.
وكان مشركو العرب في الجاهلية يعتقدون أنّ الله سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء، قال تعالى في سورة البقرة/118: "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية". فهم في هذه خير من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية الذين نفوا عن الرب صفة الكلام التي تليق به، أما المعتزلة فنفوها رأساً، وأما الأشاعرة فإنهم لم يثبتوا لله إلا ما أسموه الكلام النفسي القديم، وهو في الواقع نفس كلام المعتزلة الذين يقولون: كلامه علمه. والخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في هذا الباب لفظي لا حقيقة له. والفريقان متفقون على أنّ القرآن ليس كلام الله، بل هو لفظ جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم ومن إنشاء أحدهما، فمثلاً يعتقد الأشاعرة أن هذا القرآن الذي بين أيدينا ليس كلام الله وإنما هو لفظ جبريل أو محمد مفهو م من كلام الله النفسي القديم، أو عبارة أو حكاية عنه. ولسنا بحاجة للرد عليهم لوضوح بطلان قولهم بل كفرهم، ونكتفي لتفنيد بدعتهم في الكلام النفسي بالحديث الصحيح المتفق عليه فيما يرويه النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث القدسي: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم". فأنت تلاحظ في هذا الحديث أنه فرّق بين الكلام النفسي والكلام المسموع كما يليق به سبحانه.
وكان مشركو العرب يعتقدون إمكانية رؤية الله بالأبصار، ولكنهم اشتطوا فسألوها في الدنيا، قال تعالى في سورة الفرقان الآية21: "وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أُنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا" الآية. فهم أيضاً في هذه خير من المعتزلة والأشاعرة الذين نفوا إمكانية رؤية الله سبحانه وتعالى يوم القيامة بالأبصار. مع أنّ الآيات متوافرة والأحاديث متواترة في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بأبصارهم لا يضامّون في ذلك ولا يضارّون.(175/53)
عقيدة مشركي العرب بالملائكة
لقد بيّنا فيما سبق عقيدة المشركين في الجاهلية وإيمانهم بالله وببعض ما يليق به -سبحانه- من صفات، والمراد بيان أنهم مؤمنون بالله مشركون به مؤاخذون بشركهم لأنهم لا زالوا من أمة إسماعيل عليه السلام قبل أن يُنسخ دينه ببعثة محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، وبيَّنا أن الصحيح من هذه العقائد التي كانت عندهم هي ما بقي معهم من دين إسماعيل وأشرنا أنهم بإيمانهم ببعض الصفات التي تليق بالله عز وجلّ يتفوّقون-من هذه الناحية- ويُفضلون على كثير من أهل البدع من المسلمين كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية في هذا الجانب. ولنبين إيمانهم المجمل بالملائكة ثم نبين أن ذلك لا ينفعهم لأنهم كانوا مشركين، ثم نبين بعدها نوع شركهم لنَحْذَره فلا نقع فيه. وقد أكد القرآن إيمانهم بالملائكة. قال تعالى: (وقالوا لولا أُنزل عليه ملَك) 18: الأنعام. وقال سبحانه: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) 21: الفرقان. فهؤلاء المكذبون بالآخرة يؤمنون بوجود ربهم ووجود الملائكة. وقال تعالى حاكياً قولهم: (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين)7:الحجر. فكان رد الله عليهم: (ما نُنَزِّل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً منظرين). والآيات التي تدل على إيمانهم بالملائكة كثيرة. وليس هذا مختصاً بمشركي العرب بل ثبت أن مشركي الأمم السابقة كانوا يؤمنون بوجود الله ووجود الملائكة، قال تعالى في سورة المؤمنون:24 حاكياً قول قوم نوح: (ما هذا إلا بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة). وكذلك قوم هود وقوم صالح قال تبارك وتعالى في سورة فصلت13-14: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ. إذ جاءتهم الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفهم ألَّا تعبدوا إلّا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكةً فإنا بما أرسلتم به كافرون). وهذا يدل على إيمانهم بالله وملائكته إلّا(175/54)
أنهم مع تكذيبهم للرسل يشركون بالله في العبادة. وهكذا القوم الذين كان فيهم يوسف عليه الصلاة والسلام، ألم تسمع قول النسوة: (وقلن حاش لله ما هذا بشراً إنْ هذا إلا ملَكٌ كريم) فهم مؤمنون بالله وملائكته إيمان المشركين إيماناً مع شرك واسمع قوله تعالى يحكي قول النسوة أيضاً: (قلن حاشَ لله ما علمنا عليه من سوء)ولهذا قال يوسف لأهل السجن: (أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار)؟ أمَرهم أن يصرفوا العبادة لله وحده، ولا يكونوا كالعبد الذي يشترك في ملكه عدة أرباب فهو يسعى بينهم ويخدمهم جميعاً فالأفضل لهذا أن يكون عبداً لواحد منهم، فيريح نفسه من خدمة الآخرين. وكذلك الإنسان الأَولى به ألا يعبد إلا الله المالك الوحيد له، الذي وحده يرزقه ويدبر أموره ويرعاه..إلخ معاني الربوبية. على أن مشركي العرب كانوا مع إيمانهم بالملائكة يعتقدون فيهم عقائد سيئة فكان كثير منهم يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله. قال تعالى: (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون) الصافّات:15. وقال عز من قائل: (وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين. أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بُشر أحدهم بما ضرب لله مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. أو من ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويُسألون) الزخرف. ولما اعتقد المشركون أن الملائكة بنات الله عبدوهم من دون الله كحال النصارى الذين عبدوا عيسى لاعتقادهم أنه ابن الله وكحال اليهود الذين عبدوا عزيراً لاعتقادهم أنه ابن الله. فكانت تتمثل لهم الشياطين فتأمرهم وتنهاهم فيظنونها الملائكة كحال من يدعو شيخه من الصوفية فيتمثل له وإنما هو شيطان تمثّل له ليضله. وربما تمثل الشيطان لأحدهم بصورة رجل صالح وأخبره أنه الخضر ونحو هذا مما يحدث كثيراً. قال تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء(175/55)
إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) سبأ. قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في الإغاثة(2/652): "هذا عامٌّ في كل عابد ومن عبده من دون الله"اهـ. وقال تعالى: "ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل، قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً، فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفاً ولا نصراً ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً"الفرقان، قال مجاهد: هذا خطاب لعيسى وعزيز والملائكة. قال ابن القيم: هذا الجواب يحسن من الملائكة والمسيح وعزيز، ومَن عبدهم المشركون من أولياء الله، ولهذا قال ابن جرير الطبري: يقول تعالى قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله(ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء) نواليهم، بل أنت ولينا من دونهم"اهـ. على أنّ مِن مشركي الجاهليّة مَن يعتقد في الملائكة عقيدة صحيحة وأنهم عباد الله قال الشيخ النسفي في تفسير قوله تعالى من سورة الأنعام(وخرقوا له بنين وبنات): كقول بعض العرب في الملائكة إهفأشار بذلك أن هذه ليست عقيدة كل العرب بل بعضهم(قيل هم خزاعة وكنانة)، فهذا أميّة بن أبي الصلت أحد المشركين الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آمن شعره وكفر قلبه) رواه الفاكهي وابن منده وفيه ضعف، وروى مسلم في الصحيح عن الشريد قال: (ردفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أميّة؟ قلت: نعم، فأنشدته مائة بيت فقال: لقد كاد أن يسلم في شعره)، يقول أميّة في صفة العرش وعكوف الملائكة حوله:
مجدوا لله فهو للمجد أهل
بالبناء الأعلى الذي سبق الخلق
شرجعاً ما يناله بصر العين
ج ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
وسوَّى فوق السماء سريرا
ترى دونه الملائك صورا
ج(175/56)
شرجعاً: أي طويلاً، وصور: جمع أصور وهو المائل العنق، يعني أن الملائكة حول العرش راكعون ساجدون متذللون لله، وهذا المعنى يشبه معنى قوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم). ومن شعره عن صفة الملائكة:
وساجدهم لا يرفع الدهر رأسه
ج ... يعظم رباً فوقه ويمجّدُ
جج
وهذا المعنى شبيه بمعنى قوله تعالى في صفتهم: (يخافون ربهم من فوقهم) بل ثبت أن من مشركي العرب من يؤمن بالملكين الكاتبين قال الأعشى وهو جاهلي:
فلا تحسبنَّي كافراً لك نعمةً ... على شاهدي يا شاهد الله فاشهد
قال الإمام ابن قتيبة: يريد: على لساني، يا ملَك الله، فاشهد بما أقول(انظر تأويل مختلف الحديث صـ112)
إيمان مشركي العرب في الجاهلية ببعض الأنبياء السابقين والرد على طه حسين
وكان مشركو الجاهلية -أو بعضهم- يؤمنون أن لله رسلاً ويعرفون أسماء كثير منهم، وإن أنكر بعضهم أن يكون الرسول بشراً كما قال السيوطي في الدر المنثور: "أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما بعث الله تعالى محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك أوْ مَن أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد فأنزل الله تعالى: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجلٍ منهم)يونس2 وقال: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم. فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) الأنبياء7 يعني فاسئلوا أهل الكتب الماضية أبشراً كان الرسل التي أتتكم أم ملائكة أتتكم وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون رسولاً ثم قال ( وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى ) أي ليسوا من السماء كما قلتم"اهـ. ولكن ثبت أن كثيراً من مشركي العرب يؤمنون بنبوّة بعض الأنبياء السابقين في الجملة يقول سلامة بن جندل في وصف درع(كما في الأصمعيات/150):
مداخلة من نسج دواد شكَّها
جج ... كحَبِ الجَنا من أُبْلُمٍ مُتَفَلِّقِ(175/57)
فهو يصف هذه الدرع بالمتانة كأنّ داود قد نسجها أو هي منسوجة وفق نسج داود للدروع، ونسبة نسج الدروع إلى داود صحيحة قال تعالى: (وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحن والطير وكنا فاعلين. وعلمناه صنعة لبوسٍ لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون)الأنبياء:80: أي أن داود هو أول من صنع الدروع واستخدمها والله أعلم، وقال النابغة الذبياني في معلقته يمدح النعمان بن المنذر:
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه
إلّا سليمان إذ قال الإله له
وخيّس الجن إني قد أذنت لهم ... ولا أحاشي من الأقوام من أحد
قم في البرية فاحددها عن الفند
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
ج
وقال معتذراً إلى النعمان:
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي
فألفيت الأمانة لم تخنها
ج ... على خوفٍ تظنّ بي الظنون
كذلك نوح لا يخون(175/58)
وقد استغربَ ذكرَ الأنبياء في هذا البيت والأبيات قبله الملحدُ طه حسين تبعاً للمستشرقين الذين شككوا حتى في القرآن، وتبع طه حسين على هذا شوقي ضيف في كتابه العصر الجاهلي فقالوا: العرب أمة وثنية فمن أين لهم معرفة بأسماء الأنبياء؟ وفات طه حسين وأتباعه أن العرب ليسوا أمة وثنية أصلاً وإنما طرأت عليهم الأوثان طروءاً إذ كانوا على دين إبراهيم وإسماعيل حتى حرّفوا ذاك الدين وأشركوا مع الله الأوثان، ولكن بقي معهم أمور وأشياء صحيحة ورثوها من دين إسماعيل مثل تعظيم الكعبة والحج إليها والإيمان المجمل بالله ونحن بصدد بيان تلك الأشياء التي بقيت عندهم من دين إسماعيل عقائد كانت أو عبادات، ومن ذلك معرفتهم ببعض الأنبياء وإيمانهم ببعثتهم وورود ذلك في أشعارهم كالذي مرّ فلا يُستغرب ذلك منهم مع ما قدّمناه عنهم، ولا أدل على معرفتهم بالأنبياء السابقين مما رواه البخاري في صحيحه -وحسبك به صحّة- عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قدم مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما من الأزلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط) الحديث رقم 4288/8. وقد وردت أحاديث صحيحة أخرى وفيها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دعا بماء فمحا صورة إبراهيم المرسومة على جدار الكعبة داخلها، فلا ينبغي بعد أن ثبت هذا في صحيح البخاري أن تُنفى معرفة العرب بالأنبياء لاسيما إبراهيم وإسماعيل، وقد كانوا يؤمنون بنبوة موسى وعيسى، ولكن هؤلاء لم يكونوا مبعوثين إلى العرب، فليس العرب من أهل دعوتهم بل من أهل دعوة إسماعيل عليه السلام حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم كما بيّنا أنفاً، ومما يدل على معرفة العرب وإيمانهم بنبوة عيسى عليه السلام أنهم كانوا صوَّروه هو وأمه في جوف الكعبة جنباً إلى جنب مع صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة(175/59)
والسلام. (وانظر فتح الباري"8/21"). وربما كان غيرهم من الأنبياء مصوّرين في الكعبة لم يصلنا خبرهم فإنهم كانوا صَوّروا في الكعبة صوراً كثيرة حتى إنهم صوروا الملائكة كما في سيرة ابن هشام فمحيت جميعاً في فتح مكة وما كان منها مجسماً كسر أيضاً وأخرج. أما موسى عليه السلام فقد ورد في إحدى الآيات المكية قوله تعالى: (قالوا لولا أو تي مثل ما أو تي موسى) الآية من سورة القصص. فلعل هذا قول مشركي العرب، وربما كان قول اليهود والله أعلم. ونجد الإيمان بنبوة موسى واضحاً في شعر أمية بن أبي الصلت فاسْمعه يقول:
رضيت بك اللهم رباً فلن أُرى
وأنت الذي من فضل مَنٍّ ورحمةٍ
فقلت له يااذهب وهارون فادعوا ... أدين إلاهاً غيرك الله ثانيا
بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
ج
إلى أن قال:
وأنت بفضلٍ منك نجيَّتَ يونساً
ج ... وقد بات في أضعاف حوتٍ لياليا
(انظر سيرة ابن هشام 1/228). ويظهر في هذه الأبيات إيمانه بموسى وهارون ويونس عليهم السلام ومعرفته تفاصيل عنهم. ولا شك أن هذه المعلومات ورثوها عن دين إسماعيل وحفظها عقلاؤهم وتناقلوها، فيذكرونها أحياناً في أشعارهم.
إيمان بعض عرب الجاهلية بالبعث والحساب والجنة والنار
وكان مِن العرب مَنْ يؤمن بيوم القيامة والحساب والجنّة والنار، الحنفاء وغيرهم، قال الشهر ستاني: (ومن العرب مَنْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر) إهـ(من الملل والنحل2/241). يقول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
يؤخَّر فيوضع في كتابٍ فيدّخَر
ج ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
ليوم حسابٍ أو يعجل فينقم
وقال زهير أيضاً من قصيدة أخرى تجدها في ديوانه:
تزوَّدْ إلى يوم الممات فإنه ... ولو كرهته النفس آخر موعد
وقال علّاف بن شهاب التميمي:
ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة
وعلمت أن الله جازٍ عبده ... فأخذت منه خطَّة المقتال
يوم الحساب بأحسن الأعمال
ج(175/60)
وظاهرٌ إيمانه بالله واليوم الآخر. وقال النابغة الذبياني:
فَعِلَّتُهمْ ذات الإله ودينهم ... قويمٌ فما يرجون غير العواقب
ج
(قال الشهر ستاني: أراد بذلك الجزاء بالأعمال). وقال ابن الأسلت قبل أن يسلم يخاطب قريشاً:
فذكِّرْهمُ بالله أول وهلة
فبيعوا الحراب مِلْمحارب واذكروا ... وإحلال إحرام الظباء الشواذب
حسابكم والله خير محاسب
انظر سيرة ابن هشام 1/285
أما الحنفاء فتجد ذكر اليوم الآخر والحساب في شعرهم كثيراً من ذلك قول زيد بن عمرو بن نفيل:
فلن تكون لنفسٍ منك واقيةٌ ... يوم الحساب إذا ما يجمع البشر
وقال قس بن ساعدة يذكر الله:
أعاد وأبدى
ج ... وإليه المآب غدا
ج
وأنشد في معنى الإعادة:
يا باكي الموت والأموات في جدثٍ
دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم
حتى يجيئوا بحال غير حالهم
منهم عراة ومنهم في ثيابهم
ججج ... عليهم من بقايا بزهم خرق
كما يُنبَّهُ من نومانه الصعق
خلقٌ مضى ثمّ هذا بعد ما خَلِقوا
منه الجديد ومنه الأزرق الخلق
قال الشهر ستاني في: (الملل والنحل 2/244): "(كان بعض العرب إذا حضره الموت يقول لولده: ادفنوا معي راحلتي حتى أُحشر عليها، فإن لم تفعلوا حُشِرْتُ على رجليّ). قال جريبة ابن الأشيم الأسدي في الجاهلية وقد حضره الموت يوصي ابنه سعداً:
يا سعد إمّا أهلكنّ فإنني
لا تتركن أباك يعثر راجلاً
واحمل أباك على بعير صالحٍ
ولعلّ لي مما تركت مطيّة ... أو صيك إن أخا الوصاة الأقرب
في الحشر يُصرع لليدين ويُنكبُ
وابغِ المطيّة إنه هو أصوب
في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا
ج
وقال عمرو بن زيد بن المتمنِّي يوصي ابنه عند موته:
أبنيّ زودني إذا فارقتني
للبعث أركبها إذا قيل اظعنوا
من لا يوافيه على عشرائه
جج ... في القبر راحلة برحلٍ قاتر
متساوقين معاً لحشر الحاشر
فالخلق بين مُدَفَّعٍ أو عاثر
ج(175/61)
وكانوا يربطون الناقة معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي ظهرها أو مما يلي كلكلها وبطنها ويأخذون وليَّة فيشدون وسطها ويقلدونها عنق الناقة ويتركونها حتى تموت عند القبر ويسمون الناقة بلِيَّة، والخيط الذي تشد به وَلِيَّة، وقال بعضهم يشبِّه رجالاً في بلية: (كالبلايا في أعناقها الولايا)."اهـ كلام الشهر ستاني. ولا زالت بعض القبائل في البادية تعتقد ببعض هذا فتذبح عن الميت ذبيحة بعد وفاته في ذي الحجة يظنون أن الميت يركبها يوم القيامة يسمونها"أضحية الحفرة"؛ قال عنها الشيخ ابن عثيمين في(الضياء اللامع): لا أصل لها في الدين. اهـ كلامه. ولم يثبت في ركوب الرجل أضحيتَه في المحشر حديث؛ ومما روي في ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (استفرهو ا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم). أخرجه الديلمي في مسند الفردوس بسند قال عنه الألباني: (ضعيف جداً). (انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/173). وثمّة أناس يعملون بهذا إلى الآن، فقد أخبرني رجل متديِّن من البدو أن والده أوصاه أن يضحيَ عنه جملاً لعله يركبه يوم الحشر أسوةً بأقاربه من البدو وأنفة من أن يركب شاة أو بقرة. قال الرجل: فلمّا مات والدي أنفذت وصيته وضحيت عنه بجمل ضخم.فتأَمّل. أمَّا ركوب بعض الناس للدواب في الحشر فهو صحيح ثابت لكنه لا يرتبط بالأضحية بل هو مرتبط بالإيمان والأعمال الصالحة مطلقاً فقد روى البخاري(برقم 6522) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين وراهبين، واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير، ويحشر بقيتَهم النارُ) الحديث؛ وأخرجه مسلم وغيره. وأخرج البزار من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم) الحديث؛ (انظر الفتح 8/631). وأخرجه البيهقي من وجه آخر بلفظ: (ثلاثاً على الدواب وثلاثاً ينسلون على(175/62)
أقدامهم وثلاثاً على وجوههم) ويؤيده ما أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي من حديث أبي ذر: (حدثني الصادق المصدوق أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج: فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم) الحديث وانظر فتح الباري(11/462) وعلى هذا فمنهم من يؤمن بالجنة والنار؛ قال النابغة الذبياني:
ونحن لديه نسأل الله خلده ... يرد لنا ملكاً وللأرض عامرا
وقال زيد بن عمرو-أحد الحنفاء-:
ترى الأبرار دارهم جنان
وخِزْيٌ في الحياة وإن يموتوا
ج ... وللكفار حامية سعير
يُلاقوا ما تضيق به الصدور
إيمان مشركي العرب في الجاهلية بالقدر(175/63)
وقد كان مشركو العرب يؤمنون بالقضاء والقدر في الجملة قال تعالى في سورة الأنعام: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) الآية. ولكنهم أخطأوا هنا فاستدلوا بمشيئة الله العامة على شركهم، فمن أين لهم أن شركهم محبوبٌ لله مرضيٌّ له؟ فإن الشيء يكون مراداً لله ولكن قد لا يكون محبوباً له. فالشرك مرادٌ لله الإرادة الكونية فلا يقع في ملكه سبحانه إلا ما يشاء، ولا يعصى قهراً وكرهاً، ولكن لا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً. ويبدو أنهم مضطربون في هذه المسألة كثيراً، بل ورد ما يدل على عدم إيمانهم -أو بعضهم- بالقدر من أساسه فقد أخرج مسلم في صحيحه(4800) عن أبي هريرة قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت (يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر إنّا كل شيء خلقناه بقدر)" قال النووي في شرحه: (المراد بالقدر ها هنا القدر المعروف وهو ما قدّر الله وقضاه وسبق به علمه وإرادته. وأشار الباجي إلى خلاف هذا وليس كما قال)اهـ. ولم أقف على كلام الباجي فليُنظر ما هو. والمتبادر من الحديث إنكارهم القدر ولكن قد تكون مخاصمتهم في معناه واستدلالهم به على رضا الله عن دينهم وشركهم وإقراره لهم كما في الآية السابقة إذ ثمّة أدلة تدل على إيمانهم بالقدر في الجملة، منها قول عنترة:
يا عبل أين من المنية مهربي ... إن كان ربي في السماء قضاها
ج
وقال لبيد يثني على الله تبارك وتعالى:
لا يستطيع الناس محو كتابه
ج ... أنَّى وليس قضاؤه بمبدَّل
وقال عمرو بن الحارث الجرهمي بعدما أُخرجوا من مكة:
فأخْرَجَنا منها المليك بقدرة ... كذلك ياللناس تجري المقادر
وقال بعض الرجّاز في الجاهلية:
أيها المضمر هماً لا تُهَمْ
ولو علوتَ شاهقاً من العلَم
ج ... إنك إن تُقْدر لك الحمّى تُحَمْ
كيف تَوَقِّيْك وقد جفّ القلمْ
ج
وقال آخر:(175/64)
هي المقادير فلمْني أو فَذَرْ ... إن كنتُ أخطأتُ فما أخطا القَدَر
ج
وقال النابغة الذبياني:
وليس امرؤٌ نائلاً من هو ا ... هُ شيئاً إذا هو لم يُكْتَبِ
قال ابن قتيبة في كتابه مشكل القرآن راداً على نفاة القدر من مبتدعة المسلمين –كما في كتاب القرطين(1/154) لابن مطرف الكناني توفي454هـ في الجمع بين كتابي مشكل القرآن وغريبه لابن قتيبة-: "روى عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرة قال كنت عند قتادة فسئل عن القدر فقال: ما زالت العرب تثبت القدر في الجاهلية والإسلام قال وحدثني سهل بن محمد عن الأصمعي قال قلت لدرواس الأعرابي ما جعل بني فلان أشرف من بني فلان؟ قال: الكتاب يعني القدر ولم يقل المكارم والفعال وكان الأصمعي ينشد من الشعر في إثبات القدر ذكرها وغيرها قال أنشدني عيسى بن عمر لبدوي:
كل شيء حتى أخيك متاع ... وبقدْرٍ تفرُّقٌ واجتماعُ
وقال المرار:
ومَنْ سَابق الأقدار إذ دأبت به ... ومن قائل شيئاً إذا لم يُقَدَّرِ
وقال:
أقدر أمراً لست أدري أناله ... وما يقدر الإنسان والله أقدر
وفي أخرى -فالله قادر- وقال ابن الدمينة:
زورا بنا اليوم سلمى أيها النفر ... ونحن لمَّا يُفَرِّق بيننا القدر
وقال القس:
قد كنت أعزل في السفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنما ... سبل الغواية والهدى أقسام
وقال الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل
يقول هم موقنون بأن ما قُدر وحتم لا يدفع بحيلة فهم موطنون أنفسهم عليه وقال أفنون التغلبي:
لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
وقال لبيد:
إنَّ تقوى ربنا خيُر نَفَلْ ... وبإذن الله ريثي وعجل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل(175/65)
(وذكر أبو محمد بن قتيبة أدلة أخرى إلى أن قال): هذا مذهب العرب في القدر وهو مذهب كل أمة وأن الله تبارك وتعالى في السماء ما تُركت على الجبلّة والفطرة ولم تُنقَل عن ذلك بالمقاييس والتلبيس" اهـ. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه أن العرب في الجاهلية كانت تؤمن بالقدر. قلت: وكأن القرون السابقة كانت تؤمن بالقدر قال تعالى في شأن قوم نوح وإيمانهم بمشيئة الله العامة: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضَّل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكةً ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين)الآية24من سورة المؤمنون. وكذلك شأن قوم هود وقوم صالح قال تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثلَ صاعقة عادٍ وثمودَ. إذ جاءتهم الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكةً فإنا بما أرسلتم به كافرون)الآيتان13-14من سورة فصلت. وهذه الآيات تشير إلى إيمانهم بربوبية الله ولكن لا يألهونه وحده سبحانه.
إيمان مشركي العرب في الجاهلية بالجن والكلام على المس وعلاجه(175/66)
وكان مشركو العرب يؤمنون بوجود الجن، وهو من المسلمات عندهم، فكان أحدهم إذا نزل وادياً استعاذ بسيد الوادي من الجن، قال تعالى في سورة الجن: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً)، ولذلك كثرت عندهم الكهانة والاتصال بالجن. وقوله تعالى في سورة الأنعام: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلَقَهم)، أي أنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله.أو جعلوا الجن شركاء لله، فعبدوهم وعظموهم، كما عبدوه وعظموه. وعلى أية حال فهم بإيمانهم بوجود الجن خير -من هذه الناحية- ممن شذّ من أهل البدع من المسلمين فأنكر الجن رأساً وأوَّل الآيات التي فيها ذكرهم بزعمه، وإنما هو تحريف يخرج معتقده من ملّة الإسلام. والإيمان بوجود الجن والشياطين هو شأن مشركي الأمم جميعاً أو أكثرهم وهو ناتج عن إيمانهم بوجود الله أصلاً ولا يخفى أنَّ هذا بقية ماتناقلوه عن أنبيائهم الذين بعد عهدهم بهم (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم بسندهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله. قوله(إني سقيم) وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبّار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي، يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار آتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأُتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه، لم يتمالك أن بسط يده إليها، فَقُبِضَتْ يده قبضةً شديدة. فقال: ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرّك. ففعلت، فعاد. فقُبضتْ أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك. ففعلت، فعاد. فقبضت أشد من القبضتين(175/67)
الأوليين، فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فَلَكِ الله أن لا أضرك، ففعلت وأُطلقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان!! فأخْرِجْها من أرضي وأعطِها هاجر. قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال: مهيم !؟ قالت: خيراً، كفّ الله يدَ الفاجر، وأخدم خادماً"اهـ. فأنت ترى هذا الجبار المشرك يؤمن بوجود الله فيقسم به لسارة: (ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله أن لا أضرك). ويؤمن أيضاً بوجود الشياطين فيقول للذي أتاه بسارة: (إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان). وقد علمنا أن هذا الجبار مشرك فاجر بدليل قول إبراهيم لسارة: (لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك). ومن هنا تعلم أن الشرك ليس هو عدم الإيمان بوجود الله، ومنه تعلم نقصان عقل وعلم الأشاعرة والماتريدية الذين غاية توحيدهم إنما هو إثبات وجود الله، وهذا مما لم ينازع فيه المشركون كما رأيت. بل مجرد قصد ذلك من السخافات. لأنه تحصيل حاصل وكان الأولى بهؤلاء المتفلسفة أن ينصرف قصدهم إلى تعليم الناس إفراد العبادة وتجريدها لهذا الرب الموجود فعلاً والمقرّ به أصلاً. وهذا هو التوحيد المنشود. ونقيضه من عدم إفراد الله بالعبادة هو الشرك كما سيأتي بيانه إن شاء الله. فوضْع وجود الله موضع الشك ومحاولة إثبات وجوده وتدريس ذلك على المسلمين بدعة شنيعة لا يستفيد منها الطلاب إلا الشبهات ثم هي ضرب من العبث وجهل بالتوحيد ولهذا لم يبعث الله الرسل ليثبتوا وجوده -سبحانه- بل بُعثوا ليُوحَد الله بالعبادة وليُعَرِّفوا الناسَ بصفاته الجليلة وآلائه العظيمة العديدة. وهذا القرآن من أوله إلى آخره يقرر ذلك: (ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وكل الرسل قالوا لقومهم: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). وما أحسن ما قال بعضهم: إلهي كيف يُستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ! متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل(175/68)
يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!! ويحسن بي هنا نقل كلام استحسنته لشيخ الأزهر الأسبق عبد الحليم محمود في كتابه(الإسلام والعقل) وهو في صدد نقده لبني جلدته أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية في تكلفهم إثبات وجود الله سبحانه وتعالى يقول/صـ81 وما بعدها/: "يخلط كثير من الناس بين التوحيد وإثبات وجود الله، وهما أمران بان في وضوح اختلافهما واختلاف موقف الإسلام منهما، إذ أن الإسلام استفاض استفاضة كثيرة في إثبات التوحيد، وقد عمى عنه الوسط الذي كان بجزيرة العرب فأشركوا بالله. أما موقف الإسلام بالنسبة لإثبات وجود الله فإنه مختلف كثيراً عن موقفه بالنسبة لإثبات التوحيد. إن القرآن لم يتحدث عن إثبات وجود الله. إن الله في العرف الإسلامي وفي أعراف أصحاب الفطر السليمة موجود ووجوده لا يتمارى فيه اثنان(ثم ذكر آيات كالتي سبقت وقال:) إلام تشير هذه الآيات؟ إنها لا تتحدث عن إثبات وجود الله وإنما تتحدث عن الشرك، أي الاعتقاد في آلهة كثيرة. ولقد كانت الثورة ضد الشرك وتحطيم الأصنام من المهام الكبرى في الرسالة الإسلامية، والأديان جميعها تشترك في مبدأ التوحيد وكل نبي بشّر بالتوحيد ولكن الإنسانية كانت تنحرف بالعقيدة بعد موت الرسول من التوحيد إلى الشرك، والشرك إسراف خاطئ في الإيمان. وما كان للإلحاد وجود قط فيما قبل الحضارة اليونانية القديمة. إن محاولة الاستدلال على وجود الله محاولة خاطئة. إن المسألة أقدس من أن توضع هذا الوضع وأوضح من أن تحتاج إلى برهان. بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشِّر بالتوحيد وحارب من أجله"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"الحديث ومضت السنون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ماضٍ في رسالته(لا إله إلا الله) لا يحيد عن ذلك ولا يتنازل. وكان خصومه يقولون في سذاجة: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجيب) ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يتحدث - مستدلاً أو(175/69)
مبرهناً- عن وجود الله. ولم يسأله أحد من الصحابة سواءً أكان من أصل عربي أم من أصل غير عربي عن إثبات وجود الله. مضى على ذلك العهدان المكي والمدني. أما القرآن فإنه استفاض في إثبات التوحيد وكان إثبات التوحيد هدفاً من الأهداف الكبرى للقرآن كان يوجه الإنسان إلى التوحيد في العقيدة والتوحيد في العبادة والتوحيد في الاستعانة ولكنه لم يجعل إثبات وجود الله هدفاً من أهدافه. إنني لأعلم أننا ألفنا أن نقول: إن القرآن يثبت وجود الله عن طريق دليل العناية أو عن طريق دليل الخلق أو عن طريق الأثر والمؤثر. ونذكر على ذلك الاستشهاد من القرآن الكريم. إن في القرآن من الآيات التي تتحدث عن العناية والتي تتحدث عن الخلق الشيء الكثير ولكن القرآن لم يأتِ بذلك مستدلاً أو مبرهناً(يعني على وجود الله) وإنما أتى بها متحدثاً عن نعم الله الكثيرة التي يفيضها على الإنسان ومتحدثاً عن قدرة الله وعظمته وعن أنه منعم رحيم ودود وقاهر. إن هذه الآيات تتحدث عن صفات الله في جلالها وفي جمالها ولم تأتِ قط مبرهنة على الإثبات أو رادّة على منكر، إن العقيدة الإسلامية مصدرها القرآن والسنة ولم تكن مسألة إثبات وجود الله موضع مناقشة لدى المسلمين إلى أن ترجم المأمون كتب فلاسفة اليونان فجعلت هذه الفلسفة مسألة وجود الله مسألة قابلة للأخذ والرد والإنكار والإثبات وأخذ الناس شيئاً فشيئاً يألفون هذه البدعة فبدت-مع الوقت- وكأنها طبيعية"اهـ باختصار. قلت: وكان العرب في جاهليتهم يعتقدون بمس الجن للإنسان -وهو الحق- الأمر الذي ينكره كثير من المسلمين جهلاً وقصوراً ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إن ضماداً قدم مكة وكان من أزدشنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاءَ من مكة يقولون: إن محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله يشفيه على يديّ، قال: فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟(175/70)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد"قال: فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فمروا بقومه فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد). أخرجه مسلم(3/12) وغيره. وفي هذا الحديث أن العرب قبل الإسلام كانت تعتقد بمس الجن، ويسمونه(الريح)، وجاء الإسلام فأقره قال الله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس) الآية. وأن من العرب من كان يرقي من مس الجن رقية صحيحة يقرها الإسلام بل كانوا يرقون من كافة الأمراض ففي صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي-رضي الله عنه- قال كنا نرقي في الجاهلية. فقلنا: يا رسول الله. كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليّ رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك"أخرجه مسلم وأبو داود. وكانت عندهم أنواع من الرقى صحيحة كالرقية من العين والعقرب وغيرها ففي صحيح مسلم -أيضاً- عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله. إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقى قال: فعرضوها عليه، فقال: "ما أرى بأساً. من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه"أخرجه مسلم وابن ماجه. وعن حفصة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل(175/71)
عليها وعندها امرأة يقال لها الشفاء. ترقي من النملة(قروح تخرج في الجنب) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علميها حفصة"أخرجه أحمد بسند صحيح. وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة عامة في الرقى بقوله: (لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك). قال الحافظ في الفتح(10/206): "أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: 1-أن يكون الكلام بكلام الله تعالى أو أسمائه وصفاته 2-وباللسان العربي أو بما يُعرف معناه من غيره 3-وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. وقد دل الحديث أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك ويمنع احتياطاً"اهـ. وحاصل ما يقال في مسألة المس: إن الجني قد يمس الإنسي بسحر أو بدونه كأن يؤذيه الإنسي مثلاً أو يظلمه كما يظلم الإنس بعضهم بعضاً فيدخل فيه فعلاجه الشرعي النافع يكون بقراءة القرآن مثل الفاتحة وآية الكرسي والمعوذات وسورة البقرة وكل القرآن نافع وما ثبت من الرقى في السنة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقما) متفق عليه. وقوله: (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك). أخرجه مسلم. وغير ذلك من الأدعية الصحيحة. وقراءة القرآن على الممسوس الأفضل أن تكون بصوت مسموع في أذن المريض مع النفث فيخرج الجني ويبطل السحر ويشفى المريض بإذن الله ولا يتم ذلك-بعد توبة المريض وأهله- إلا إذا كان المعالج سليم العقيدة موحِّداً مستقيماً على طاعة الله. أما الذهاب إلى السحرة والصوفية والدجالين لفك السحر وعلاج الممسوس فهو من أكبر الكبائر بل قد يصل إلى الكفر والعياذ بالله ويعرف الساحر بأمور منها طلب اسم أم المريض أو التمتمة بكلام غير مفهوم أو يأخذ أثراً من آثار المريض(ثوباً أو منديلاً..) أو يطلب حيواناً بصفات معينة(175/72)
ليذبحه كدجاجة سوداء أو نعجة سوداء لا يخالطها بياض كما هو الشأن لدى المُجَلِّي طواغيت قبيلة عنزة في شمال سورية أو إعطاء المريض حجاباً يحتوي على مربعات بداخلها حروف أو أرقام وربما خلطها بعض السحرة بشيء من القرآن. أو يعطي المريض أشياء يدفنها في الأرض أو يعمل له نوبة دفوف ويضربه بالشيش. وقد علم بالتتبع والتجربة أن أكثر شيوخ الطرق الصوفية إن لم يكن كلهم سحرة أو ممسوسون بنسب مختلفة. وتكفي نظرة في كتاب الطبقات الكبرى للشعراني لتتأكد أن الصوفية ممسوسون وملبَّس عليهم. وإن من أكبر الأدلة أنهم إذا طلب منهم بعض الجهلة الاستخارة لشأن من شؤونهم كزواج أو تجارة فإنهم يطلبون اسم أم المستخير وهذا قطعاً لتعاونهم مع الجن، هذا مع أن طلب الاستخارة من أحد بدعة شنيعة وإنما ينبغي على الشخص أن يستخير لنفسه لأن دعاء الاستخارة كالدواء يأخذه محتاجه وقد قال جابر رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها) فكان يعلمهم الاستخارة ليستخيروا لأنفسهم ولا يستخير لهم صلوات الله وسلامه عليه. وإذا عُلم هذا فإن هؤلاء الشيوخ الصوفية كهنة لادِّعائهم علم الغيب. وإتيانهم لهذا الغرض حرام بل قد يصل إلى الكفر قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد"رواه أحمد(2/429) وهو من صحيح الجامع للألباني. فهؤلاء الذين يستخيرون لمريديهم بعد طلب اسم أم المستخير ثم يخبرون الشخص بأشياء غيبية مثل أن زواجك من فلانة موافق حسب الاستخارة أو إنه سيجرُّ لك الشر ونحو ذلك فيحول ينه وبين الزواج ممن يكون خطبها، وهذا بلا شك من التنجيم والكهانة والعرافة. والصوفية يفتخرون بذلك مثل افتخار أحد شيوخهم في حلب بشيخه النبهاني الزنديق المخرِّف الذي كان يدافع عن فرعون ويكذب بالقرآن زاعماً أنه لا يوجد فيه نص على أن فرعون في جهنم ونحو ذلك من ضلالاته فقد افتخر الحوت(175/73)
مراراً بأن شيخه يعلم الغيب ولا يخفى عليه شيء ويستخير للناس بعد طلب اسم أم المستخير ثم يعطيهم النتيجة بعد استخارة شياطينه. فلا شك أن هذا وأمثاله من أهل الكشف الشيطاني. أما ضاربو الشيش من الرفاعية والقادرية وغيرهم فلا يشك عاقل أنهم سحرة وممسوسون بالجن فلهذا يضربون أجسادهم بالسيوف ويبعجون وجوههم وخواصرهم بالشيش ويدخلون النيران فعل كفار الهند والبوذيين والمجوس وإذا اتفق أن جاءهم ممسوس فإنهم لا يتلون عليه قرآناً أو رقية شرعية بل يضربون عليه الدفوف ويستغيثون بالمخلوقين والشياطين من دون الله فتحضرهم ويضربون المريض بالسيف أويطعنونه بالشيش فربما اتفق شفاؤه ليكون فتنة له ولغيره كما هي سنة الله في المبطلين وربما كان سبب ذلك تسلط شياطينهم على الجني الماس للإنسان فيخيفونه فيخرج خوفاً ويشفى المريض فتنةً فتزداد عطايا الناس وهباتهم لهؤلاء الدجالين مع خوفهم ورهبتهم بالغيب. وربما أرسلوا شياطينهم إلى أفراد الناس ليمسوا بعضهم فيضطروا لجهلهم إلى اللجوء إلى هؤلاء الدجالين والله المستعان. فهؤلاء بعيدون كل البعد عن الرقية الشرعية المأذون فيها بل هم حريصون على عدم قراءة القرآن أثناء نوبتهم. ومن حديث ضماد السابق يتبين أن بعض رقاة العرب قبل الإسلام خير من هؤلاء الصوفية المجرمين ولا يخفى أنهم ورثوا هذه الأمور الصحيحة عن أنبيائهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقول ضماد قبل أن يسلم في الحديث السابق: (إن الله يشفي على يدي من شاء) اعتقاد صحيح منه أن الله هو الشافي وأن الرقية سبب في الشفاء. ففي هذا أكبر دليل على أن قول ضماد مأثور من بقية دين إبراهيم وإسماعيل وفيه رد على الأشاعرة والماتريدية والمتفلسفة الذين غاية توحيدهم إثبات الخالق مع أن المشركين الذين نزل القرآن فيهم يؤمنون بذلك بل أكثر من ذلك كما ترى.(175/74)
وبهذا نكون قد بيّنّا اعتقادات المشركين في الجاهلية بالله عز وجل والملائكة والجن والرسل واليوم الآخر والقدر التي ورثوا بعضَها (صحيحَها) عن دين إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
عبادات المشركين في الجاهلية وأهمها دعاء الله في الشدة والجدب والرد على البوطي في مسألة دعاء النبي صلّى الله عليه وسلم والاستغاثة به من دون الله
أمّا العبادات؛ فقد كان العرب أمة متعبدة متألهة في الجملة، غاية عباداتها طلب رضا الله والتقرب إليه حتى إنهم عندما يصرفون أنواع العبادة لأوليائهم إنما غايتهم التقرب إلى الله بزعمهم يقولون:(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)،(هؤلاء شفعاؤنا عند الله).وأهم تلك العبادات الدعاء، فمع دعائهم لأوليائهم فقد كانوا يدعون الله، وقد ذكرنا آنفاً أدلة على ذلك. على أن هؤلاء المشركين الذين يشركون أوليائهم مع الله في الدعاء في حال الرخاء والأمن كانوا في حال الشدة والاضطرار يلجؤون إلى الله وحده ويخلصون له الدين، كما حكى عنهم القرآن في كثير من الآيات، قال تعالى في سورة العنكبوت: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). وقال في سورة لقمان: (وإذا غشيهم موجٌ كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين). وقال في الزمر: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه ننسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار). وفي مسند أحمد(5/64) بسندٍ صحيح عن رجل من بلْهجيم(أي من بني الهجيم) قال: "قلت: يا رسول الله إلامَ تدعو؟ قال أدعو إلى الله وحده الذي إنْ مسّك ضر دعوته كشف عنك والذي إنْ ضللت بأرض قفر دعوته ردَّ عليك والذي إنْ أصابتك سنة أنبت عليك"إهـ. وهذا الرجل هو جابر بن سليم. والحديث رواه أبو داود والترمذي عنه بلفظ: "قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرٌّ فدعوته كشفه(175/75)
عنك، وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة، فضلّتْ راحلتك، فدعوته ردّها عليك"الحديث. ومن عجائب الزمان التي لا يكاد المسلم يتصوَّر وقوعها أن رجلاً من شيوخ دمشق المشهورين المعاصرين(هو الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي) ذكر الحديث بهذا اللفظ الأخير، واستدلّ به على جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ فهم من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرٌّ فدعوته كشفه عنك) أن الضمير يعود إلى الرسول، أي أنّ الرسول هو الذي يُدعى فيكشف الضر وينبت الزرع، وهذا من أشنع الأمور التي لا تكاد تخفى على أجهل الناس. فمع أن الضمير في هذا الحديث يعود إلى أقرب مذكور كما هو معروف في اللغة، وهو هنا "الله" فإن هذا الحديث بعينه رواه أحمد باللفظ الأول الذي ذكرناه والذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضرٌّ دعوته كشف عنك.. الخ) وإنما أتي هذا البوطي من جهله بعقائد أهل الجاهلية -فضلاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة- وكأنهم عنده لا يؤمنون بوجود الله أصلاً، ومن هنا تظهر أهمية هذه الأبحاث التي تتعلق ببيان عقائد المشركين، والتي لا يعرفها إلا أهل السنة والجماعة، وتخفى على المبتدعة، فإذا كان هذا فهم عالمهم البوطي فما ظنك بجاهلهم. وصدق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال: (تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية). ولو أن البوطي إذ فهم هذا الفهم السقيم رجع إلى نص الحديث في مسند أحمد لبان له الصواب، مع أنه -في اللفظ الآخر- بَيِّنٌ، ولنجا من جرم تحريف الكلم عن مواضعه، لا سيما إذا كان هذا الفهم يعني الشرك بعينه، إذ غير خاف أن دعاء الرسول وطلب كشف الضر منه من الشرك الأكبر الذي دعا إليه البوطي المذكور، والله المستعان.(1)
__________
(1) وقد سُئل العلَّامة النحوي الدكتور فخر الدين قباوة الحلبي عمّن يفهم هذا الفهم -الذي فهمه البوطي- من الحديث، وهل يسوغ ذلك في اللغة؟ فأجاب: هذا رجل جاهل. فلمّا أُخبر بأنه= =البوطي. قال: البوطي جاهل باللغة اهـ. ولقد حام البوطي هذا في كتابه (هذا والدي) حول وحدة الوجود وسمّاها وحدة الشهود وحسّنها للجمهور بكلام مضطرب ومراوغ ثم دافع عن ابن عربي وابن الفارض وسوّغ كلامهم وتأوله-زعم- وجادل عنه بالباطل، وحاصل كلامه إغراء الناس صراحة على هذا الضلال ودعوتهم إليه. وفي ختام كتابه المذكور(صـ180) بعد أن جزم بإيمان أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ أباه النقشبندي الهالك في كراهة قراءة سورة(تبتْ يدا أبي لهب) إكراماً لرسول الله بزعمه لأن أبا لهب عمه، ولم يدرِ المسكين أن من إكرام النبي صلى الله عليه وسلم قراءة هذه السورة وترديدها لا العكس، لأن الله أنزلها كذلك. ثم تبين لي أن الصوفية يكرهون هذه السورة ولا يقرؤونها إلا في الختم ويوصون مريديهم بعدم قراءتها في الصلوات الجهرية، ولذلك لا تكاد تسمع في حلب –مثلاً- منْ يقرأ بهذه السورة في صلاة جهرية، فلا أدري إن كانوا يعدُّون أبا لهب من المؤمنين، بينما هم متفقون على إيمان أبي طالب ونجاته، وقد صرح الحوت( أحد شيوخهم) مراراً بأن أبا طالب -رضي الله عنه- مؤمن كامل الإيمان، ضارباً عرض الحائط بالأحاديث الصحيحة القاضية على أبي طالب بالنار، وهذا موافقة منهم للشيعة. ولعل كل ذلك من بركات وحدة الوجود التي دافع عنها البوطي حتى إنه كره سورة من سور القرآن الكريم، وكأنه لم يقرأ قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) وليس دفاعهم عن أبي لهب وأبي طالب عجيباً بعد أن ناضلوا عن فرعون -كما رأيت- والله المستعان. ومن الطرائف بل المصائب التي بلغتني بعد انتشار فتوى البوطي بكراهة قراءة سورة تبت يدا أبي لهب أن لجنة أحد المساجد في أحد الأحياء في بعض مدن سورية استقدموا شاباً ليكون إماماً راتباً لمسجدهم فلمَّا صلى بهم صلاة المغرب -وكانت أول صلاة له- قرأ بـ تبت فأَعظمَ أعضاءُ اللجنة ذلك وطردوه من منصبه وقالوا هذا لا يصلح !!.(175/76)
ولا شك أن الرجل الهجيمي قبل أن يسلم كان إذا اضطر دعا الله وحده فاستجاب له، ولهذا ذكَّره النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يوحِّد هذا الرب -الذي إذا دُعي استجاب- في كل الأحوال، وأن لا يشرك به شيئاً وأن يتّبع رسوله. فهل نقول إن فطرة هذا الرجل الجاهلي خير مما حاك في صدور كثير من المشايخ المتأخرين؟ ويشهد للحديث السابق ما رواه أحمد في المسند، والترمذي(برقم 3479) عن حصين بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا حصين، كم تعبد؟ قال: سبعة؛ ستة في الأرض وواحد في السماء قال: فمن الذي تعدُّ لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: أسلِمْ حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها، فأسلَمَ". الحديث. ويشهد لما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً؛ فإنه ليس دونها حجاب"رواه أحمد(3/153) بسند صحيح وفي رواية أخرى: "إياكم ودعوة المظلوم وإن كانت من كافر فإنه ليس لها حجاب دون الله عز وجل"انظر صحيح الجامع للألباني. فهذا يدعو الله بإخلاص في بعض الأحيان ومع ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم كافراً، أليس هذا دليل على أن الكفر والشرك ليس هو عدم الإيمان بوجود الله وإنما هو اتخاذ الشفعاء والوسطاء، ومن الأدلة على أن الكفار يؤمنون بوجود الله ويدعونه بل يخلصون له الدعاء أحياناً مع كونهم مشركين قصة الملك الكافر عند البخاري برقم3358 الذي مد يده إلى سارة زوج إبراهيم عليه السلام فقبضت يده ثلاث مرات وفي كل مرة يقول لها"ادعي الله لي ولا أضرك"فهذا الملك الكافر يؤمن بوجود الله وأن دعاءه ينجي من الشدائد ولكنه وإن أخلص هذه المرة فإنه ملتزم للشرك في غيرها.
بيان أن المشركين كانوا يستغفرون الله وقوله تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)(175/77)
وكان من شأن أهل الجاهلية أنهم يستغفرون الله عز وجل، ومن أجل هذا الاستغفار صُرف عنهم العذاب العام، قال تعالى في سورة الأنفال/33/: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). أخرج البخاري في صحيحه(9/378) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فنزلت: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان معذبهم وهم يستغفرون وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) الآية إهـ. وروى ابن جرير الطبري بسنده(9/235) عن ابن عباس: (أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون: لبيك لا شريك لك لبيك فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قد قد) فيقولون: لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ويقولون: (غفرانك غفرانك) فأنزل الله: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله والاستغفار قال: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار: (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون). قال: فهذا عذاب الآخرة قال: وذاك عذاب الدنيا) إه. قال العلامة مقبل بن هادي الوادعي اليماني في كتابه(الصحيح المسند من أسباب النزول/116): "هذا حديث حسن" اهـ. والواقع إن استغفار الله ليس من شأن مشركي العرب وحدهم بل كذلك مشركي الأمم السابقة ورد ما يدل على أنهم مع شركهم بالله كانوا يستغفرونه فقد قال عزيز مصر لامرأته لما راودت يوسف عن نفسه وتأكَّد له كيدها وخطيئتها: (واستغفري لذنبكِ إنكِ كنتِ من الخاطئين). والمقصود أن الشرك ليس معناه عدم الإيمان بوجود الله بل هو شيء آخر. وإنْ كان المشرك لا يُسمى مؤمناً بالله لأنه لو آمن بالله حقاً ما أشرك به.(175/78)
بيان أن عرب الجاهلية مع شركهم كانوا ينذرون لله ويذبحون له في الحج ويعقُّون عن مواليدهم ويذبحون الفرع والعتيرة
وكان مشركو العرب في الجاهلية ينذرون لله تعبداً، روى البخاري(6697) ومسلم(1656) عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: فأو فِ بنذرك) إهـ.ومن ذلك ما رواه أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وأن هشام بن العاص نحر حصَّته خمسين بدنة، وأن عَمْراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: أمّا أبوك، فلو كان أقر بالتوحيد فصُمْتَ وتصدقتَ عنه نفعه ذلك) إهـ. وكانوا يعتقون الرقاب ويعينون المحتاج تعبداً يتحنّثون بذلك ويتقرّبون إلى الله، فقد روى البخاري في صحيحه(برقم 2538): (أنّ حكيم بن حزام رضي الله عنه أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير. فلما أسلم حمل على مئة بعير وأعتق مئة رقبة. قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت أشياء كنت أصنعها في الجاهلية كنت أتحنّث بها -يعني أتبرر بها- قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمتَ على ما سلف لك من خير) إهـ. وكانوا يحلفون بالله كما قدمنا آنفاً. وكانوا يذبحون الأنعام لله تعبداً، وأقرهم على ذلك الإسلام. فقد كانوا يهدون الهدايا في الحج، وكانوا يعقّون عن مواليدهم، أما ذبح الهدايا في الحج فمتواتر عنهم، وأما العقيقة فقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: (كانوا في الجاهلية إذا عقّوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا رأس الصبي وضعوها على رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوا مكان الدم خلوقاً) إهـ. وكذلك لأبي داود و الحاكم من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (كنّا في الجاهلية) فذكر نحو حديث عائشة قال: (فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه(175/79)
ونلطخه بزعفران) إهـ. ولهذا كره جمهور العلماء التدمية للمولود، واستحبّها آخرون(وانظر الفتح9/741). ومن ذبائحهم التي أقرّهم الإسلام عليها الفرع والعتيرة. والفرع: هو أول نتاج الإبل والغنم، أو إذا بلغت سائمة الرجل مائة ذبح منها واحدة رجاء البركة من الله. والعتيرة: ذبيحة كانوا يذبحونها قي رجب، وهي كالأضحية في ذي الحجة. أخرج أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمرو قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع قال: الفرع حق، وأن تتركه حتى يكون بنت مخاض أو ابن لبون فتحمل عليه في سبيل الله أو تعطيه أرملة خير من أن تذبحه يلصق لحمه بوبره وتُولِّهَ ناقتك) إهـ. حسّنه الألباني في إرواء الغليل(1181). وللحاكم عن أبي هريرة من قوله: "الفرعة حق؛ ولا تذبحها وهي تلصق في يدك ولكن أمكنها من اللبن حتى إذا كانت من خيار المال فاذبحها"إهـ. قال الحافظ في الفتح(9/745): "قال الشافعي فيما نقله البيهقي من طريق المزني عنه: الفرع شيءٌ كان أهل الجاهلية يذبحونه يطلبون به البركة في أموالهم فكان أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم استحباباً أن يتركوه حتى يحمل عليه في سبيل الله. وقوله: (حق) أي ليس باطل، وهو كلام خرج على جواب السائل، ولا مخالفة بينه وبين الحديث الأخر "لا فرع ولا عتيرة" فإن معناه: لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة. وقال النووي: نص الشافعي على أن الفرع والعتيرة مستحبان" اهـ. وقد أخرج أبو داود وابن ماجه وصححه عن نبيشة قال: "نادى رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتِّر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان. قال: إنا كنا نفرع في الجاهلية. قال: في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه، فإن ذلك خير" وفي روايه أبي داود: "السائمة مئة"اهـ ولكن أخرج(175/80)
البيهقي بسند صحيح عن عائشة: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرعة في كل خمسين واحدة"اهـ. وأخرج أصحاب السنن(وحسّنه الترمذي) عن مخنف بن سليم قال: "كنا وقوفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: ياأيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي يسمونها الرجبية"اهـ(انظر الفتح 9/746).
صلاة المشركين المبتدعة وقوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية) ومقارنتها ببدع الصوفية في الذكر(175/81)
ومن عباداتهم الصلاة. ولكنها مبتدعة. قال تعالى في سورة الأنفال:35: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية". روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عمر أنه قال: "كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون"اهـ(وانظر تفسير ابن كثير 2/307). وقد ورد تفسيران للمكاء والتصدية وأنهم كانوا يفعلون ذلك وهم يطوفون البيت. فعن ابن عباس: كان ذلك عبادة في ظنهم، والمكاء الصفير والتصدية التصفيق، وعن قتادة قال: المكاء ضرب بالأيدي والتصدية صياح. قال القرطبي: وعلى التفسيرين ففيه رد على الجهال من الصوفية الذين يرقصون ويصفقون وذلك كله منكر يتنزه عن مثله العقلاء ويتشبه فاعله بالمشركين فيما كانوا يفعلونه عند البيت. اهـ وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل اهـ. وكان الحنفاء منهم وبعض المشركين يسجدون على راحات أيديهم، كزيد بن عمرو بن نفيل كما في سيرة ابن هشام(1/225). ولا زال الصوفية يسجدون على أيدي شيوخهم فتجد أحدهم ينحني فيقبل يد شيخه ثم يضع عليها جبهته ساجداً تعظيماً له دون أن يشعروا أن السجود لا يجوز إلا لله فضلاً عن أن سجودهم هذا من بقايا عيادات المشركين. ولكن ثبت أن المشركين ربما سجدوا على الأرض أحياناً، ففي البخاري(3972) عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قرأ والنجم فسجد بها وسجد مَنْ معه غير أن شيخاً أخذ كفاً من تراب فرفعه إلى جبهته فقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافراً" قلت: هو أمية بن خلف كما في رواية أخرى للبخاري. وكان هذا السجود بمكة فقد روى النسائي بإسناد صحيح عن المطلب بن أبي وداعة قال: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فسجد وسجد مَنْ عنده) وكانت هذه السورة أوّلَ سورة استعلن بها رسول الله صلى الله(175/82)
عليه وسلم وأول سورة قرأها على الناس(انظر فتح الباري 8/791). وفي صحيح البخاري أيضاً(1071) عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والأنس". اهـ. ولكن بعض حنفائهم ربما اجتهد فصلّى لله كأبي ذرٍ الغفاري رضي الله عنه كما في صحيح مسلم برقم(4520) عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: يا ابن أخي صلّيتُ سنتين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قال: قلتُ: فأين كنتَ توجَّهُ؟ قال: حيث وجَّهني الله واقتص الحديث. وفي رواية أخرى: صليتُ يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاث سنين. قلتُ: لمن؟ قال: لله. قلت: فأين توجّه؟ قال: أتوجَّهُ حيث يوجهني ربي أصلي عشاءً حتى إذا كان من آخر الليل أُلقيتُ كأني خفاء(أي كساء) حتى تعلوني الشمس.اهـ
الخلوات عند المشركين والصوفية
وكان العرب في الجاهلية يَخْتَلُون في أماكن بعيدة عن العمران يعبدون الله فيها ويتحنّثون الليالي ذوات العدد، ومن أشهر هذه الأماكن عندهم غار حراء، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الوحي أول ما جاءه في هذا الغار حين كان مختلياً فيه يتحنث على عادة قومه، قال ابن هشام في السيرة(1/235): "قال ابن اسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير الليثي: حدِّثْنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة، حين جاءه جبريل عليه السلام؟ قال: فقال عبيد-وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده من الناس-: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنّثُ به قريش في الجاهلية. والتحنث التبرر. قال ابن إسحاق: وقال أبوطالب:
وثَوْرٍ ومَنْ أرسى ثبيراً مكانه ... وراقٍ ليرقى في حراء ونازل"اهـ(175/83)
فلما جاء الإسلام ألغى هذه الخلوات، وصارت من نسك الجاهلية، فلم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اختلى بعد أن بعثه الله عزّ وجل ولم يختلِ أصحابه أيضاً ولم يكن هذا من شأنهم، ولم يختل التابعون ولا تابعوهم، وإنما حدثت هذه الخلوات المبتدعة عند الصوفية المتأخرين اتِّباعاً لسنن المشركين وزادوا عليها أشياء أدخلوها في هذه الخلوات نقلوها عن الأمم الضالة كالبوذية والنصرانية، ثم إن هدفهم منها هو بذاته ضلالٌ بعيد إذ الغاية عندهم من هذه الخلوات تَجَلِّي الله عليهم ومشاهدتهم له بالعين المجردة وتلقِّي الأمر والوحي عنه كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي أُنزل عليه الوحي لما كان مختلياً لكن الذي جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما هو جبريل الملَك وهم يطمعون بمشاهدة الله رأساً دون وساطة، واعتقدوا أن هذا الأمر يتأتى لهم بشيء من المجاهدات وتعذيب الجسد كالجوع والسهر والسكوت ومنع النور والهواء. ويتخلل الخلوة ويرافقها دائماً الشرك بالله فكل صوفي مختل ينبغي عليه أن يتصور شيخه بين عينيه ويربط به قلبه ويستغيث به من دون الله ويستمد منه طيلة فترة الخلوة حتى يتجلَّى الله عليه. وهذا في كافة الطرق الصوفية. يقول محمد أمين الكردي -لسان حال الطريقة النقشبندية- في كتابه تنوير القلوب: "اعلم أنه لا يمكن الوصول لمشاهدة المحبوب(يعني الله) إلا بالخلوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخلّى بغار حراء حتى جاءه الأمر"اهـ من صـ524 فالغاية إذاً من الخلوة عند النقشبندية مشاهدة المحبوب كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختلى حتى أتاه الوحي. وفي كتاب الطريقة القادرية(الفيوضات الربانية صـ73) يوصى المريد إذا تجلى الله عليه في الخلوة بما يلي: "فإذا تجلَّى له في خلوته صورة وقالت له أنا الله فليقل في جوابها سبحان الله بل أنت بالله فإنها تنطمس إن كانت للابتلاء فإنْ ثبت صحّ أنه التجلِّي الإلهي" اهـ. ومن شروط الخلوة عند(175/84)
النقشبندية: 1-تقديمه عليها العزلة وتعوُّد السهر والجوع بحيث تألف نفسه هذه الأشياء قبل دخوله. 2-أن يقول حين دخوله: اللهم كن لي كما كنت لمحمد صلى الله عليه وسلم !!. وهذا اعتداء كبير في الدعاء، فلا يجوز للمسلم أن يسأل ربه أن يكون له كما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم فالنبوة لا تأتى لأحد من بعده صلى الله عليه وسلم. وواضح من قوله(كن لي كما كنت لمحمد) أنه يقصد أن يتجلى عليه ويوحي إليه كما أوحى لمحمد صلى الله عليه وسلم 3-أن يقول عند دخوله في الخلوة: اللهم امح نفسي بجذبات ذاتك. وتفوح من هذه الألفاظ رائحة عقيدة وحدة الوجود الضالة. 4 –أن لا يسند ظهره إلى جدار ما دام في الخلوة. 5-أن لا ينام إلا عن غلبة نوم ولا ينام لراحة البدن بل إن قدر أن لا يضع جنبه على الأرض وينام جالساً فعل. (وهذان البندان مأخوذن عن البوذية والهندوسية وما يسمى باليوغا). 6-السكوت(وهو من نسك الجاهلية). 7-أن يلازم صورة شيخه بين عينيه. وهذا شرك 8-أن يرى كل نعمة حصلت له إنما هي من شيخه(وهذا كفر صريح. قال تعالى: وما بكم من نعمةٍ فمن الله)9-أن لا يفتح الباب لمن يريد التبرك به إلا لشيخه. 10 -إذا خرج لضرورة غطى رأسه إلى رقبته ناظراً إلى الأرض. (انظر تنوير القلوب 525). وتكون مدة هذه الخلوة غالباً أربعين يوماً. ومن شروطها أيضاً كما في(الفيوضات الربانية) للقادري: "يصوم النهار ويسير الليل ولا رخصة له بالنوم ويجتهد في طرد النوم بالقيام والمشي وفي أول الأربعين يفطر على ربع المقدار الذي يعتاده أولاً ويؤخر ثلاثة أرباع للسحور إلى عشرة أيام ثم أول العشرة الثانية ينقص الربع إلى سبعة أيام فإذا بقي ثلاثة أيام طوى الثلاثة لا يأكل طعاماً إلا أنه يفطر على الماء القليل ومن الآداب أن لا يكلم أحداً فإن احتاج إلى خطاب الخادم فليفهمه بالإشارة أو بالكتابة وإذا خرج إلى الوضوء فليغطِ رأسه عن الهو اء ويسدّ(في مكان الخلوة) كل ما يدخل منه النور(175/85)
ويستر الباب إن احتاج إلى الستر لئلا يدخل النور. ويكون بعيداً عن الأصوات فإن لم يجد مكاناً بين السكان بعيداً عن الأصوات فليسدّ أذنيه بغطاء وعند الذكر يغمض عينيه ويكون ابتداء الخلوة من أول حلول الشمس في برج الجدي (وهو أول الشتاء) اهـ من الفيوضات الربانية/74/. إذاً فالقوم لا يحبون النور. وإنما يعيشون في ظلمة دامسة طامسة. بل لا يحبون الهواء فإذا خرجوا غطوا رؤوسهم منه، ولايحبون سماع الأصوات فإذا سمعوها سدوا آذانهم بالقطن وجعلوا أصابعهم فيها واستغشوا ثيابهم! فهل هذا من دين الإسلام؟ أم من دين الظلام؟ ومن شروط الخلوة أن لا يأكل اللحم(كما في الوثنية الهندية) وأن لا يقرب النساء(كما في رهبنة النصارى) المعارف المحمدية للصيادي صـ63/. ومن الشروط الهامة أن يشرك بالله فيستغيث بشيخه الميت أو الغائب عند دخول ظلام الخلوة الحالك وعند خروجه من هذه المهالك وفيما بين ذلك فيقول الرفاعي -مثلاً- عند دخول الخلوة: "دستور يا أنبياء، دستور يا أولياء، دستور يا سيدي أحمد يا أبا العلمين مدد"(المرجع السابق). ومن الشروط أن يذكر المختلي أذكاراً مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان فذكر الرفاعي في اليوم الثاني -مثلاً-: "اللهم اسقني من خمر المشاهدة"(قلادة الجواهر للصيادي 288) والطعام خلال الأربعين يوماً على قلته يكون من صنف معين، فبينما هو ماء وتمرات معدودات طيلة الخلوة عند بعض الصوفية تجده عند آخرين حبة حمص واحدة فقط لكل يوم، وعند الرفاعية: "يكون فطوره في الأربعين يوماً على خبز الشعير وماء السكر واللوز"انظر المعارف المحمدية125 للصيادي الرفاعي. وقدمنا أن الصيادي هذا شيخ السلطان العثماني عبد الحميد. ثم مع هذا يتساءل الناس عن سبب زوال ملك العثمانيين؟!!. وقد اعترف أبو حامد الغزالي في كتابه(إحياء علوم الدين) أن الخلوات من شأن رهبان النصارى ورهبان الأمم الضالة السابقة فقال: "ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السابقة(175/86)
عن الخلق وانحازوا إلى قلل الجبال وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله وألزموا أنفسهم المجاهدات الشاقة"انظر الإحياء 1/266. ولكن فات أبا حامد أن الإسلام متميز عن كل الملل وأنه ناسخ لما عداه وفاته أن لا رهبانية في الإسلام وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذمّ الرهبنة ونهى عنها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة) رواه الطبراني، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) رواه أبويعلى وصححه الألباني في الصحيحة. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) رواه البخاري والنسائي. وفات أبا حامد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله) رواه أبويعلى ورواه أحمد بنحوه. وقال صلوات الله وسلامه عليه: (عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام) رواه أحمد. ولذلك لما فات أبا حامد هذا لم يجعل في كتابه(الإحياء) باباً عن الجهاد ولم يحتفل به ويلتفت إليه البته بينما تجده لم يغفل أن يضع في كتابه كثيراً من الجمل التافهة الضالة بل المكفرة لمن اعتقد ببعضها مثل قوله في الجزء الرابع صـ356: (لئن رأيت أبا يزيد مرة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة). وقوله: (قوم رأو ا الله سبحانه وحده ثم رأوا الأشياء به فلم يروا في الدارين غيره ولا اطلعوا في الوجود على سواه)ج5/صـ30 وهذه أخذها من مشكاة وحدة الوجود. وقوله في أداب الخلوة: (ويخلو بنفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض والرواتب ولا يقرن همه بقراءة القرآن ولا بتأمل في تفسير ولا يكتب حديثاً)؟!!(انظر الإحياء 3/19) ولذلك أنكر عليه علماء عصره ومن بعدهم وأحرق كتابه هذا لما ورد قرطبة حاضرة الأندلس بإجماع من علمائها. ثم متى كان التوحش حسناً(175/87)
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) ؟ رواه أحمد والترمذي وغيرهم. ولهذا لم يعتزل النبي صلى الله عليه وسلم طيلة فترة نبوته ولم يختل هذه الخلوات المبتدعة وهو القائل: (من رغب عن سنتي فليس مني). ومن هنا فليست هذه الخلوات من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أُثرت عن الصحابة ولا التابعين ولا هي من سبيل المؤمنين. وقد أبدلنا الله في الإسلام خيراً من الخلوات المبتدعة، فشرع لنا الاعتكاف في المساجد فقط دون غيرها لقوله(2: 187): "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" فقيَّد الاعتكاف بالمساجد، بل ورد ما يقيد هذه الآية بالمساجد الثلاثة فقط وهي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، وممن ذهب إلى ذلك حذيفة بن اليمان من الصحابة وغيره.وفي هذا الاعتكاف يستحب له أن يكثر من تلاوة القرآن وذكر الله وغيرها من القربات كمدارسة العلم وتعلمه وتعليمه(1) ولا يخفى أن هذا الاعتكاف مختلِفٌ عن الخلوات المبتدعة التي أُخذت شروطها من غير ملة الإسلام كما بينا آنفاً، ويكفيك على ذلك أن أهم شرط لديهم أن تكون الخلوة بعيداً عن العمران وبعيداً عن المساجد التي لا يصح الاعتكاف إلا فيها.
اعتكاف المشركين في الكعبة تعبداً وحديث عمر في ذلك
__________
(1) قالت عائشة رضي الله عنها: (السنة في المعتكف أن لا يخرج إلا لحاجته التي لا بد منها ولا يعود مريضاً، ولا يمس امرأته، ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة، والسنة فيمن اعتكف أن يصوم). رواه البيهقي بسند صحيح، وأبو داود بسند حسن.(انظر الإرواء/966/للألباني)(175/88)
على أن مشركي العرب في الجاهلية كانوا يعتكفون في المسجد الحرام وأقرهم الإسلام على ذلك فقد صح في البخاري(4/237) ومسلم(1656) أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يارسول الله إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام؟ قال: فأو فِ بنذرك فاعتكَفَ ليلة.."إهـ.
صلاة المشركين على موتاهم وقيامهم للجنازة
وكان مشركو الجاهلية يصلون على الميت -بصورة الدعاء- بعد غسله وتكفينه، قال الشهرستاني: "وكانوا يغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم. قال الأفوه الأودي:
ألا عللاني واعلما أنني غرر
وما قلت يجديني ثيابي إذا بدت
وجاءوا بماء بارد يغسلونني
جج ... فما قلت ينجيني الشقاق ولا الحذر
أو صالي وقد شخص البصر
فيا لك من غسل سيتبعه كبر
وكانوا يكفنون موتاهم ويصلون عليهم، وكانت صلاتهم إذا مات الرجل حُمل على سريره، ثم يقوم وليه فيذكر محاسنه كلها ويثني عليه ثم يدفن، ثم يقول: عليك رحمة الله وبركاته. وقال رجل من كلب في الجاهلية لابن ابنٍ له:
أعمرو إن هلكت وكنت حياً
وأجعل نصف مالي لابن سامٍ
ج ... فإني مكثر لك في صلاتي(أي دعائي)
حياتي إن حييت وفي مماتي
ج
"اهـ. انظر الملل 2/249. قلت: وكانوا يقومون للجنازة إذا رأوها، ففي صحيح البخاري(برقم 3837) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان أهل الجاهلية يقومون لها يقولون إذا رأوها "كنت في أهلك ما أنت مرتين"اهـ. وهذا القيام للجنازة مما أقره الإسلام أولاً ثم نسخ بعد ذلك على خلاف بين العلماء فمنهم المجوز له ومنهم الكاره ومنهم المستحب بل نُقل عن بعضهم الوجوب.
صدقات المشركين في الجاهلية وقوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) ومقارنتها ببعض أحوال الصوفية(175/89)
أما الصدقات فقد صارت عند أهل الجاهلية مبتدعة، وهي أشبه بالأوقاف منها بحق المال وإذا ما جعلوا لله جزءاً من الزرع أو الأنعام فإنهم يجعلون لأوثانهم وأوليائهم أكثر منه. ونصيب أوثانهم في كل الأحوال مقدم على الحق الله. قال تعالى في سورة الأنعام/136: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون"(1) وقد دأب بعض الضالين من هذه الأمة على مجاراة المشركين ومضاهأتهم، فتجد أحدهم
__________
(1) في هذه الآية ظاهرٌ إخلاصهم لله في التصدق لله بجزء من أموالهم ولكن لما أشركوا به سبحانه أحبط عملهم. فالكافر والمشرك قد يخلص أحياناً بعض الأعمال لله ولكن لما كان ملتزماً للشرك فإن عمله حابط ولا ينفعه في الآخرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه(5022): "إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يُعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنةٌ يُجزى بها"إه. ففي هذا الحديث الصحيح أن الكافر قد يفعل بعض الحسنات قاصداً بها وجه الله ولكنه لكفره وشركه لا ينتفع بهذه الحسنات في الآخرة. وهذا الحديث حجة وأصل فيما قررناه من أن الكفر والشرك ليس معناه عدم الإيمان بوجود الله وربوبيته-كما قد يفهمه بعض الناس- وإنما هو الإتيان بنواقض التوحيد والإخلاص لله كصرف العبادة لغيره سبحانه فإذا أطلق الشرك والكفر عُني به هذا. ومن الأدلة على أنهم كانوا يتصدقون في الجاهلية يطلبون بذلك الأجر من الله ما رواه البخاري في صحيحه(برقم1346) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنّث بها في الجاهلية من صدقةٍ أو عتاقة وصلة رحم، فهل فيها من أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أسلمتَ على ما سلف من خير"إه.(175/90)
يسمي جزءاً من ماشيته للشيخ الفلاني حياً كان أو ميتاً أو يوقف شيئاً من زرعه أو ماله لسدنة قبته تذللاً له لنيل رضاه أو لكفِّ بلاه، وربما جعلوا حول قبره ووثنه حرماً لا يعتضد شوكه ولا يختلى خلاه.
صيام المشركين لعاشوراء وصوم الصمت عندهم وعند الصوفية
أما الصيام فكانوا يعرفونه، فيصومون -مثلاً- يوم عاشوراء، روى البخاري(3831) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان كان من شاء صامه ومن شاء لا يصومه"إه. وكان لديهم نوع آخر من الصيام، صار الآن محرماً، وهو السكوت عن الكلام مدة من الوقت، يوماً أو ليلة أو أكثر ففي صحيح البخاري(3834): "دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تكلم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة. قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت"اهـ. وروى أبو داود بسند حسن عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُتْمَ بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل". قال الخطابي في شرحه: "كان من نسك أهل الجاهلية الصمت فكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة ويصمت فنُهوا عن ذلك وأمروا بالنطق بالخير"اهـ. . ولعل صوم الصمت كان مشروعاً في الأمم السابقة كقول مريم: (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً) ثم نسخ في دين الإسلام. قال ابن قدامة في المغني : ليس من شريعة الإسلام الصمت عن الكلام وظاهر الأخبار بتحريمه"اهـ. فما تفعله بعض الدول والأحزاب من الوقوف دقيقة صمت هو من أعمال الجاهلية ومن نسك وعبادات الكفار فليحذر المسلم من فعل ذلك، ومن تكثير سواد فاعليه. وللأسف الشديد تجد الصوفية تبعوا المشركين حتى في هذه؛ فمن الطقوس المتبعة لديهم الصمت في الخلوات وفي بعض الأوقات لا سيما أول دخول الطريقة كما هو الحال لدى الخزنوية(175/91)
النقشبندية(في الجزيرة السورية) فبعد أن يبايع الشيخ وفق صيغة معروفة لديهم يؤمر السالك الجديد بالسكوت يوماً أو ليلة، فربما تسبب ذلك في مشاكل أسرية لا تحمد عقباها، ولقد بلغني أن رجلاً من تلك النواحي جاء من عمله مجهداً فكلم زوجته كثيراً وهي معرضة فلما رآها ساكتة لا ترد عليه همّ بضربها وحصل بينهما شر حتى أُخبر أنها ساكتة تعبداً بأمر الشيخ الخزنوي الصوفي.
الحج عند أهل الجاهلية
ومن أشهر عبادات أهل الجاهلية الحج وهو عنهم متواتر. قال الشهرستاني: "وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون. قال زهير: وكم بالقيان من محل ومحرم. ويطوفون بالبيت سبعاً. ويمسحون الحجر ويسعون بين الصفا والمروة. قال أبو طالب:
وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورةٍ وتخايل
ج
وكانوا يلبُّون، إلا أن بعضهم(قريش) كان يشرك في تلبيته في قوله: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ويقفون المواقف كلها، قال العدوي:
فأقسم بالذي حجت قريش
جججج ... وموقف ذي الحجيج على اللآلي
ج
وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ويحرمون الأشهر الحرم فلا يغزون ولا يقاتلون فيها...وكانوا يكرهون الظلم في الحرم وقالت امرأة منهم تنهى ابنها عن الظلم:
أَبُنَيَّ لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير
ج ... أبني من يظلم بمكة يلق أطراف الشرور
جج(175/92)
(انظر الملل والنحل 2/247). قلت: ويُذكر هنا حلف الفضول الذي حضره النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية بمكة في دار عبد الله بن جدعان ومدحه بعد ذلك قائلاً:(شهدت حلف المطيَّبين مع عمومي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النَّعم وأني أنكثه) رواه أحمد برقم"1567". قال الحافظ في الفتح عند شرح حديث(5619): "وحلف المطيَّبين كان قبل المبعث بمدة. ذكره ابن إسحاق وغيره وكان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين الناس ونحو ذلك من خِلال واستمر ذلك بعد المبعث"اهـ.وكانوا إذا أحرموا بالحج اعتزلوا النساء ماداموا محرمين. قال النابغة الذبياني:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا
مشمرين على خوص مزنمة ... لهو النساء وإن الدين قد عزما
نرجو الإله ونرجو البر والطعما.
ج
الدين هنا الحج، أي أنهم عزموا على الحج محرمين قاصدين البيت الحرام، ولا يخفى أنهم ورثوا الحج عن دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
بعض الشرائع الصحيحة عند مشركي العرب في الجاهلية
وكان عند العرب سنن وشرائع صحيحة أقرها الإسلام، فمن ذلك أن بعضهم كان يحرم الخمر على نفسه كعامر بن الظرب العدواني، وهو القائل:
أقسمت بالله أسقيها وأشربها
جج ... حتى يفرق ترب الأرض أوصالي
ج
أي لا أسقيها ولا أشربها ما دمت حياً. وممن كان حرم الخمر على نفسه في الجاهلية: أبو بكر وعثمان بن مظعون رضي الله عنهما أخرج الفاكهي بسند البخاري كما في فتح الباري(7/328) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الحاهلية"إهومنهم قيس بن عاصم التميمي، وصفوان بن محرث الكناني، وعفيف بن معدي كرب الكندي، وقالوا فيها أشعاراً. وكان بعضهم يحرم على نفسه الزنا قال الأسلوم اليالي وقد حرم الخمر والزنا على نفسه:
وتركت شرب الراح وهي أثيرة
جج ... والمومسات وترك ذلك أشرف
ج(175/93)
وقد ذكر ابن حبيب في"المُحَبَّرصـ238"أن زهير بن أبي سلمى ممن حرموا على أنفسهم في الجاهلية الخمر والأزلام. ونقل الشهرستاني في كتابه أن العرب في جاهليتهم "كانت تحرم أشياء نزل القرآن بتحريمها كانوا لا ينكحون الأمهات ولا البنات ولا العمات ولا الخالات(1) وكان أقبح ما يصنعون أن يجمع الرجل بين الأختين أو يختلف إلى امرأة أبيه وكانوا يسمون من فعل ذلك الضيزن. قال أوس بن حجر التميمي يعير قوماً من بني قيس بن ثعلبة تناوبوا على امرأة أبيهم ثلاثة، واحداً بعد الأخر(بعد موت أبيهم):
والفارسية فيكم غير منكرة
جج ... وكلكم لأبيه ضيزن سلف
قال: وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو أخيها أو عمها أو بعض بني عمها(قلت: وأكثر نكاح الجاهلية صحيح أقره الإسلام عدا الشغار والزنا). قال: وكانوا يطلقون ثلاثاً على التفرقة. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أول من طلّق ثلاثاً على التفرقة إسماعيل عليه السلام. وكان العرب يفعلون ذلك فيطلقها واحدة وهو أحق الناس بها حتى إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها ومنه قول الأعمش حين تزوج امرأة فرغب قومها عنه فأتوه فهددوه بالضرب أو يطلقها:
أيا جارتي بِيني فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غاد وطارقه
قالوا ثنّه، فقال:
وبيني فإن البين خير من العصا ... وأن لا تري لي فوق رأسك بارقه
قالوا: ثلث، فقال:
وبيني حصان الفرج غير ذميمة ... وموموقة قد كنت فينا ووامقه
__________
(1) روى ابن جرير بسند صحيح وذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى من سورة النساء: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) الآية عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا= =امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)(وأن تجمعوا بين الأختين) قال الشيخ مقبل الوادعي في تحقيق تفسير ابن كثير(2/192):حديث صحيح.(175/94)
قال: وكانوا يداومون على طهارات الفطرة التي ابتلي بها ابراهيم عليه السلام فإنهن خمس في الرأس وخمس في الجسد فأما اللواتي في الرأس: فالمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والفرق والسواك وأما اللواتي في الجسد: فالاستنجاء وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان. فلما جاء الإسلام قررها سنة من السنن، وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق، وكانت ملوك اليمن وملوك الحيرة يصلبون الرجل إذا قطع الطريق، وكانوا يوفون بالعهود ويكرمون الجار ويكرمون الضيف. قال حاتم الطائي:
إلههم ربي وربي إلههم
ج ... فأقسمت لا أرسو ولا أتعذر
ج
"إهـ من(الملل والنحل2- 249). ومن الأشياء التي كانت عند أهل الجاهلية ثم أقرها الإسلام وحكم بها: القَسامة، وهي أن يحلف خمسون رجلاً من أولياء القتيل-عند عدم وجود البينة- على اتهام مشتبه به من قبيلة أو قرية أو مُعَيَّن فيستحقون القود أو الدية. أو أن يحلف خمسون من أولياء المتهم(أو المتهمين) على البراءة فتبرأ ساحتهم. ففي صحيح مسلم عن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن القسامة كانت في الجاهلية وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ماكانت عليه من الجاهلية وقضى بها"الحديث. وانظر فتح الباري12/283الحديث6899 وكذلك الحديث3845. ثم إن الدية وهي مئة من الإبل مما كان عند العرب قبل وأقرها الإسلام.
زِي العرب هو زِي المسلمين إلى قيام الساعة(175/95)
ومن الأشياء التي ورثوها عن نبيهم إسماعيل عليه السلام الزِي واللباس فلما جاء الإسلام أقرهم، وجعل لباس العرب لباساً للمسلمين إلى قيام الساعة، حتى يتميزوا عمن سواهم من الأمم الضالة، ولهذا كان من سنن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحث على الالتزام بزي العرب عند أن كثرت الفتوحات واختلط المسلمون الأعاجم . فقد كتب رضي الله عنه يوصي مَنْ بأذربيجان من المسلمين: "فأتزروا وارتدوا وانتعلوا وألقوا الخفاف وألقوا السراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعُّم وزي العجم". أخرجه علي بن الجعد في مسنده(1030) وأبو عوانة(5/456) بإسناد صحيح. وأصل الحديث في البخاري (5828). ولا يخفى أن التقيد بلباس العرب من الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس هو من المباحات -كما يزعم مقلدو أوربا المنهزمون ممن يلبس البنطال والكرافت- وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم". أخرجه أبو داود(4/44) وغيره، وهو صحيح. وقد رضي الله لنبيه والمسلمين زي العرب كما رضي لهم لغتهم، فمن الحديث السابق ومن أمر عمر الخليفة الراشد الذي أمرنا باتباع سنته يؤخذ إلزام المسلمين بزي العرب -رجالاً ونساء- وقد كان غير المسلمين من أهل الذمة في عهد عمر والخلفاء بعده -لهم زي يختلف عن زي المسلمين حتى يعرفوا فيذلوا فيلجؤوا إلى أضيق الطريق، ولا يبدؤوا بالسلام ونحوها من شروط أُخذت عليهم، وكان لنسائهم زي غير زي نساء المسلمين. ولباس المسلمين هو عمامة ومعها إما قميص أو رداء وإزار (حلّة) وربما لبسوا الجبة الشامية إذ هي من لباسهم والبردة وغير ذلك مما هو مختص بهم أو عادتهم لبسه.ومن الأدلة الحاسمة على أن زي العرب سيبقى زي المسلمين إلى قيام الساعة هو أن نبي الله عيسى عليه السلام عندما ينزل من السماء في آخر الزمان يكون لابساً لباس العرب ولا يكون لابساً لباس غيرهم من الأمم كبنطالٍ أو كرافيت ونحوه ففي قصة(175/96)
نزوله في صحيح مسلم (برقم5228) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فينزل-أي عيسى- عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق بين مهرودتين واضعاً كفَّيه على أجنحة ملَكين" الحديث. قال النووي في شرحه: (لابس مهرودتين أي ثوبين مصبوغين بورس ثم بزعفران، وقيل: هما شقتان، والشقة نصف الملاءة)اهـ. ولا يفوتني هنا التنبيه على أن ما يسمى العمامة التي يلبسها الفقهاء في الشام ومصر الآن ويكوِّرونها فوق آذانهم(1) هي بدعة ابتدعها أحد الملوك المتأخرين ليتميز العلماء عن العوام -زعم- اتباعاً لسبيل اليهود والنصارى وتقليداً لهم، وهذه ليست من عمائم العرب بل هي من عمائم العجم الذين نُهينا عن التشبه بهم كما مر معك في حديث عمر رضي الله عنه، وعمائم العرب هي ما عمَّ الرأس وكانت مُحَنَّكَة أي مدارة تحت الحنك وإذا كانت كذلك فيجوز المسح عليها دون نزعها كما هو معروف في كتب الفقه، أما هذه العمائم المقتعطة فلا يجوز المسح عليها كما نص عليه الفقهاء لأنها لا تعم الرأس فلا تغطِّي الأذنين ولا يمكن التلحي بها ولا إدارتها تحت الحنك، فكفى بها رزية أنها حرمت لابسها من سنة المسح على العمامة. وممن نص على كراهة هذه العمائم المبتدعة الإمام أحمد رحمه الله وفي متون الحنابلة:
وعمّة مخلٍّ حلْقَه من تحنُّكِ ... مكروهة لدى أحمد بتأكُّدِ
__________
(1) لقد أخذ الأوروبيون من واقع حياة اليهود مثلاً يقول: (المسوح هي التي تصنع الراهب) فالعمائم والجبب هي التي تصنع الشيوخ عندنا اقتداءً بالحاخامات والكهنة اليهود. راجع بتوسع= =مجلة الفيصل العدد/233/عام1996صفحة19–20–21–22-23.(175/97)
والعمامة التي كان يعتم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هي ما تسمى اليوم بالكوفية أو الشماغ أو المحرمة أو الحطة التي لا زال أهل البادية يلبسونها، ويلبسها كذلك أهل جزيرة العرب وهي تختلف عن اللفَّة (العمامة المبتدعة) التي يلبسها الفقهاء في الشام ومصر وبلاد العجم التي ورثوها عن الدولة المملوكية ثم العثمانية. فلا هي عمامة ولا هي قلنسوة. أما العذَبة المصطنعة التي يصلونها باللفة فليست مشروعة ولا تغني عن العمامة الشرعية التي كان يلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرخي طرفيها بين منكبيه كما في صحيح مسلم عن عمر بن حريث قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء وقد أرخى طرفيها بين منكبيه). فاللفة ليست هي العمامة المقصودة التي تعم كل الرأس وتزيد فتتدلى أطرافها بين المنكبين أو على الصدر.قال ابن الأثير في النهاية: ( الاقتعاط : أن لا يجعل تحت الحنك من العمامة شيء ، والتلحي: جعل بعض العمامة تحت الحنك ) إه قال الجوهري في الصحاح: (الاقتعاط: شد العمامة على الرأس من غير إدارة تحت الحنك، والتلحي: تطويف العمامة تحت الحنك )إهوروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط. رواه أبو عبيد. وروي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً ليس تحت حنكه من عمامته شيء فحنَّكه بكور منها وقال: ما هذه الفاسقية. انظر المغني (1/220) وقال الامام أبو بكر الطرطوشي: (اقتعاط العمائم: هو التعميم دون حنك، وهو بدعة منكرة، وقد فشت في بلاد الإسلام ) إه.وقال ابن حبيب في الواضحة: (إن ترك الالتحاء من بقايا عمائم قوم لوط ) إه. وقال مالك: ( أدركت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين محنكاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت المال لكان أميناً)إه. وقال القاضي عبد الوهاب في كتاب (المعونة ): (ومن المكروه ما يخالف زي العرب، وأشبه زي العجم، كالتعمم بغير حنك) إه.وقال القرافي: (ما(175/98)
أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكاً، وقد روى التحنك عن جماعة من السلف، وروي النهي عن الاقتعاط عن جماعة منهم، وكان طاووس ومجاهد يقولان: إن الاقتعاط عمامة الشيطان) إه.وكان من عادة العرب التلثم والتقنُّع بالعمامة، قال الحجاج بن يوسف الثقفي في خطبته المشهورة لما ورد العراق (وكان قد أدرك بعض الصحابة):
أنا ابن جلا وطلَّاع الثنايا
ج ... متى أضع العمامة تعرفوني
ج
ومن هنا كُره للمصلي أن يتلثم في صلاته لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطيَ الرجل فاه. أخرجه ابن خزيمة (1/379) وأبو داوود(1/174) والترمذي وهو صحيح، وكذلك كره ابن عمر التلثم في الصلاة. وانظر المغني(1/419). فلو لم تكن عمائمهم تدار تحت الحنك -كالتي يلبسها الأعراب الآن- ما كان لهذا النهي معنى! وهي قطعاً غير عمائم فقهاء الشام والعجم هذه الأيام كما هو ظاهر، فالمأمور به في الصلاة أن تدار تحت الحنك فقط ولا يتلثم بها لئلا تغطي الفم. ومنه تعلم أن ما يفعله –كذلك- جماعة التبليغ من لف قطعة قماش على رؤوسهم دون التلحي بها وزعْم ذلك من السنة ما هو إلا جهل وغفلةٌ منهم عن السنة وتقليد لشيوخهم الأعاجم في الهند. قال الشاعر يمدح بعض العرب:
إذا لبسوا عمائمهم طوَوْها
ج ... على كَرَمٍ وإنْ سَفَروا أناروا(175/99)
أي أن من عادة الكرام التلثم والتقنع بالعمامة فإذا ما أرخوا هذه العمائم أسفروا عن وجوه بيض جميلة. ولهذا قال الجاحظ في البيان والتبيين( صـ436): (والقناع من سيما الرؤساء، وكان من عادة فرسان العرب في المواسم والجموع وفي أسواق العرب كأيام عكاظ وذي المجاز وما أشبه ذلك التقنع، والمقنع الكندي الشاعر كان الدهر مقنعاً. قال والدليل على أن القناع من سيما الرؤساء، والشاهد الصادق، والحجة القاطعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يكاد يرى إلا مقنعاً). اهـ كلام الجاحظ. وعندما ذكر البخاري في صحيحه في كتاب اللباس -باب العمائم- لم يذكر إلا التقنع فقال: باب التقنع ثم ذكر بسنده عن عائشة حديث الهجرة وفيه: (فبينما نحن يوماً جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً متقنعاً) الحديث. ثم ذكر الحافظ في الفتح عند شرح الحديث أنه على تقدير أن يؤخذ منه أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقنع إلا لحاجة. قال: يردُّ عليه حديث أنس: (كان صلى الله عليه وسلم يكثر التقنع) وقد ثبت أنه قال :(من تشبه بقوم فهو منهم).
ما بقي عند مشركي الجاهلية من كلام الأنبياء دون تحريف
ومن الحكمة التي بقيت عند أهل الجاهلية من كلام الأنبياء السابقين -لا سيما إبراهيم وإسماعيل- بلفظها ولم تتغير، وأقرها الإسلام، وفيها الحث على الحياء، قولهم: (إذا لم تستحِ فافعل ما شئت). أخرج الإمام أحمد(5/405) وأبو نعيم في الحلية(4/371) وغيرهم بسند صحيح عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن آخر ما تعلّق به أهل الجاهلية من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فافعل ما شئت". والحديث أخرجه البخاري(6120) عن أبي مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحيْ فاصنع ماشئت"إه.(175/100)
شهادات بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين على إيمان العرب في الجاهلية بالله وهم مشركون
لقد تبين لنا مما أوردناه أن المشركين من العرب في الجاهلية كانوا يؤمنون بالله الخالق لا بل يثبتون له سبحانه صفات كثيرة صحيحة، ويصرفون له عبادات متنوعة، ولكنهم أساءوا الظن بالله فتوسلوا وتقربوا إليه بعبادة الأوثان والقبور والأولياء والملائكة والجن، فأشركوهم معه في العبادة مع إدخالهم البدع في دينهم وتضييعهم لمعالم ومفردات شريعة النبوة الأولى(شريعة إبراهيم وإسماعيل). فاستحقوا لذلك سخط الله. إلا أفراداً منهم -كزيد بن عمرو- ظلوا محافظين على كلمة لا إله إلا الله ومحققين لها ما استطاعوا. فنفعتهم يوماً من دهرهم. وسنذكر الآن شهادات بعض العلماء من المتقدمين والمتأخرين لتأييد ما قررناه لك من إيمان مشركي العرب بالله ونحو ذلك لتعلم مدى ضحالة عقول وفهوم أتباع الفلسفة اليونانية من المتكلمين كالأشاعرة والماتريدية وغيرهم من المبتدعة الذين حصروا التوحيد في إثبات أن الله خالق وموجود وأرهقوا أنفسهم في أمر لم يكن ينازع فيه عتاة المشركين في الجاهلية، وكان الأَولى بهم أن يصرفوا عنايتهم في تحقيق معنى لا إله إلا الله وإفراد الله بالعبادة والدعوة إلى ذلك مما تمس حاجة البشر إليه، وأنزل الله كتبه، وأرسل نبيه والأنبياء قبله لشأنه. أما مسألة أن الله خالق وموجود فهذه لا يكاد ينازع فيها أحد من الكفار السابقين واللاحقين، لأن الله جبل الناس جميعاً على أنه ربهم وأخذ عليهم العهد بذلك(1) فكانت أكثر دعوة الأنبياء إفراد هذا الرب بالعبادة واتباع شرعه المنزل على رسله، قال تعالى في سورة الأعراف: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم
__________
(1) ولكن البشر وإن كانوا بأجمعهم مقرين بوجود الله (وإن نفاه بعضهم جحوداً كفرعون وأشباهه) فإن أكثرهم عصى الله فأشرك به وخالف رسله ولم يقم بمقتضى العهد الذي أُخذ عليه في الأزل.(175/101)
ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون). يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ثم ذكر أثرين عن عباس وابن عمرو: أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم مسح على ظهره، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه وكلمهم، وأخذ عليهم الميثاق وأن لا يشركوا به شيئاً كما جاء في أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما وذكرها الحافظ ابن كثير ثمّة فانظرها. وكل إنسان يولد على الفطرة حتى يُقَيض له من يصرفه إلى الباطل مثل أبويه كما ثبت في الحديث، ولعل هذه الفطرة أثر ذلك الميثاق. وأهم هذه الشهادات التي نذكرها في مسألة دين العرب في الجاهلية هي ما قاله إمام أهل السنة وخطيبهم في عصره أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري في كتابه القيم (تأويل مختلف الحديث)صـ111في رده على المبتدعة الذين زعموا التناقض في بعض الأحاديث النبوية. فنحن -للفائدة- نذكر قول المبتدعة ثم نذكر رد أبي محمد ابن قتيبة كما جاء في كتابه المذكور: "قالوا-أي المبتدعة- رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"ما كفر بالله نبي قط، وأنه بعث إليه ملكان فاستخرجا من قلبه -وهو صغير- علقة ثم غسلا قلبه، ثم رداه إلى مكانه" ثم رويتم(أي يا أهل الحديث)، أنه كان على دين قومه، أربعين سنة، وأنه زوَّج ابنتيه عتبة بن أبي لهب، وأبا العاص بن الربيع، وهما كافران. قالوا: وفي هذا تناقض واختلاف، وتنقص لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس لأحد فيه، بنعمة الله، متعلّق ولامقال، إذا عرف معناه، لأن العرب جميعاً، من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، خلا اليمن. ولم يزالوا على(175/102)
بقايا من دين أبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك حج البيت وزيارته، والختان، والنكاح، وإيقاع الطلاق، إذا كان ثلاثاً، وللزوج الرجعة في الواحدة والاثنتين، ودية النفس، مائة من الإبل، والغسل من الجنابة، واتباع الحكم في المبال في الخنثى، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر والنسب، وهذه أمور مشهورة عنهم. وكانوا -مع ذلك- يؤمنون بالملكين الكاتبين . قال الأعشى، وهو جاهلي:
فلا تحسبنِّي كافراً لك نعمة
... على شاهدي ياشاهد الله فاشهد
يريد: على لساني، ياملَك الله، فاشهد بما أقول. ويؤمن بعضهم بالبعث والحساب؛ قال زهير بن أبي سلمى وهو جاهلي لم يلحق الإسلام في قصيدته المشهورة التي تعد من السبع:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ج ... ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
وكانوا يقولون في البلية، وهي الناقة تُعقل عند قبر صاحبها فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت"إن صاحبها يجيء يوم القيامة راكبها، وإن لم يفعل أولياؤه ذلك بعده، جاء حافياً راجلاً" وقد ذكرها أبو زبيد فقال:
كالبلايا رؤوسها في الولايا ... ماناحات السموم حرّ الخدود
ج
والولايا: البراذع. وكانوا يقوِّرون البرذعة، ويدخلونها في عنق تلك الناقة. وقال النابعة:
مَحلَّتُهم ذات الإله ودينهم
ج ... قويم فما يرجون غير العواقب(175/103)
يريد الجزاء بأعمالهم، ومحلتهم الشام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين قومه يراد على ما كانوا عليه من الإيمان بالله، والعمل بشرائعهم في الختان، والغسل، والحج، والمعرفة بالبعث، والقيامة والجزاء، وكان -مع هذا- لا يقرب الأوثان وقال:"بغضت إلي"غير أنه كان لا يعرف فرائض الله تعالى، والشرائع التي شرعها لعباده، على لسانه، حتى أوحي إليه. وكذلك قال تعالى(ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدك ضالاً فهدى) يريد: ضالاً عن تفاصيل الإيمان والإسلام وشرائعه، فهداك الله عز وجل وكذا قوله تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) يريد: ما كنت تدري ما القرآن، ولا شرائع الإيمان. ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار، لأن آباءه الذين ماتوا على الكفر والشرك، كانوا يعرفون الله تعالى، ويؤمنون به، ويحجون له، ويتخذون آلهة من دونه، يتقربون بها إليه تعالى وتقربهم فيما ذكروا منه، ويتوقَّون الظلم، ويحذرون عواقبه، ويتحالفون على أن لا نبغي على أحد، ولا نظلم. وقال عبد المطلب لملك الحبشة، حين سأله حاجته فقال: "إبل ذهبت لي" فعجب منه، كيف لم يسأله الانصراف عن البيت. فقال: إن لهذا البيت من يمنع منه" أو كما قال. فهؤلاء كانوا يقرون بالله تعالى، ويؤمنون به، فكيف لا يكون الطيب المطهر قبل الوحي، يؤمن به؟! وهذا لا يخفى على أحد ولايذهب عليه أن مراد الله تعالى في قوله(ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) أن الإيمان، شرائع الإيمان. ومعنى هذا الحديث، أنه كان على بقايا دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقومه هؤلاء، لا أبو جهل وغيره، من الكفار، لأن الله تعالى حكى عن إبراهيم(فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم). وقال نوح: (إنه ليس من أهلك) يعني: ابنه، لما كان على غير دينه. وأما تزويجه ابنتيه كافرين، فهذا أيضاً من الشرائع التي كان لا يعلمها. وإنما تقبح الأشياء، بالتحريم، وتحسن بالإطلاق والتحليل. وليس في تزويجهما كافرين، قبل أن(175/104)
يحرم الله تعالى عليه إنكاح الكافرين، وقبل أن ينزل عليه الوحي، ما يلحق به كفراً بالله تعالى"اهـ.(1)
__________
(1) لقد ذهب بعض المبتدعة الشيعة (لا سيما شيعة الهند المتأخرين) أبعد من ذلك ، فأنكروا أن تكون رقية و زينب وأم كلثوم بنات النبي صلى الله عليه وسلم حقاً من زوجته خديجة. وقالوا: هن بناته بالتبني وليس حقيقة. وآخر من اجترَّ هذا الكلام المسمى عبد الحميد المهاجر الداعية الرافضي المشهور، وما ذلك إلا لينكروا هذا الفضل لعثمان ذي النورين وأبي العاص بن الربيع رضي الله عنهما. ونقول: إن إنكاح النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه قبل نزول تحريم مناكحة المشركين صحيح، وهو كنكاح عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم وآمنة، وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : ما ولدت من سفاح.(175/105)
وقال الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري(ت310هـ) في تفسيره(1/126) عند تأويل قوله تعالى من سورة البقرة (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) ذكْر من قال عنى بهذه الآية جميع عبدة الأوثان من العرب وكفار أهل الكتابين التوراة والإنجيل ثم روى بسنده عن ابن عباس: نزل في الفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين. ثم قال أبو جعفر: وإنما عنى بقوله فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون: أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه ثم روى بسنده عن قتادة في قوله (وأنتم تعلمون) أي تعلمون أن الله خلقكم وخلق السماوات والأرض ثم تجعلون له أنداداً. ثم روى بسنده عن مجاهد(وأنتم تعلمون) يقول وأنتم تعلمون أنه لا ندَّ له في التوراة والإنجيل. قال أبو جعفر الطبري: وأحسب أن الذي دعا مجاهداً إلى هذا التأويل وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم الظن منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانية ربها وإشراكها معه في العبادة غيره وإن ذلك لقول ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقر بوحدانيته غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها فقال جل ثناؤه: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. وقال: قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. فالذي هو أولى بتأويل قوله وأنتم تعلمون إذ كان ما كان عند العرب بوحدانية الله وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله وأنتم تعلمون أحد الحزبين بل خرج مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم لأنه تحدى الناس كلهم بقوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم(175/106)
أن يكون تأويله ما قال ابن عباس وقتادة من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله وأنه لا شريك له في خلقه يشرك معه في عبادته غيره كائناً من كان من الناس عربياً أو أعجمياً كاتباً أو أمياً"إه.
وقال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله(ت1386هـ) في كتابه/القائد إلى تصحيح العقائد صـ143/: "كان العرب الذين خوطبوا بالقرآن والسنة أولاً كغيرهم من الناس يعتقدون بعقولهم الفطرية وما توارثوه عن الشرائع أن الله عز وجل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). فكانوا يعلمون أنه سبحانه ليس بحجر ولا شجر ولا كوكب ولا إنسان ولا طائر ولا جني ولا ملك ولا مخلوق من المخلوقات التي عرفوها والتي لم يعرفوها بل هو رب كل شيء وخالقه. وقد شهد لهم القرآن بأنهم كانوا يعتقدون وجود الله عز وجل وربوبيته، وأنه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الميت من الحي، ويدبر الأمر كله، له الأرض وما فيها، رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السماوات والأرض وهو العزيز العليم إلى غير ذلك. وكانوا كغيرهم من أصحاب العقول الفطرية يعقلون أن الله سبحانه وتعالى ذات قائمة بنفسها، ولم يكن ذلك موجباً أن يتوهموا أنه من جنس ما يرونه ويلمسونه، ولا مماثلاً لشيء من ذلك فقد كانوا يعتقدون وجود الجن والملائكة، وأنها قد تكون بحضرتهم وهم لا يرونها، ولا يسمعون كلامها ولا يحسون بمزاحمتها لهم، ويعلمون أن الله عز وجل أعلى وأجل وأبعد عن مماثلة ما يرونه ويلمسونه، وكانوا كغيرهم من الناس يعلمون أن الموجود القائم بنفسه حقيقة لا يمكن أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه، لا متصلاً به ولا منفصلاً عنه لا قريباً من غيره من الذوات ولا بعيداً عنها، فكانوا يعتقدون أن الله(175/107)
سبحانه وتعالى فوق عرشه الذي فوق سماواته. ولم يكونوا إذا قيل لهم: يد الله، مثلًا ليفهموا من ذلك يداً كأيديهم، فإنهم يعلمون أن المضاف يختلف باختلاف المضاف إليه، مع ما قدمنا أنهم كانوا يعلمون أنه تعالى ليس بإنسان ولا جني ولا ملك ولا مماثل لشيء من ذلك ولا لغيرها من مخلوقاته، وأنه أعلى وأجل وأكبر من ذلك كله، وأنهم كانوا يعتقدون وجود الجن والملائكة وأنها قد تكون بحضرتهم لا يرونها ولا يسمعون كلامها ولا يدركون لها حساً ولا أثراً ويعلمون أن الله تبارك وتعالى أعلى وأجل وأبعد من مماثلة المحسوسات، والإنسان إذا كان يعرف المضاف إليه أو مثله أمكنه تصور المضاف تحقيقاً أو تقريباً يتأتى معه أن يقال: مثل، أو شبيه، فإذا كان المضاف إليه هو الله عز وجل لم يتصور من يده مثلاً إلا مايليق بعظمته وجلاله وكبريائه فلا يلزم أن تكون يده يد المخلوق ولا شبيهة بها بمقتضى لسان العرب الفطري. فينبغي استحضار هذا لئلا يُتوهم أن العرب كانوا يعتقدون أن لله عز وجل يدين يدي إنسان أو مثلهما أو يجوزون ذلك، أو فهموا ذلك من قول الله تعالى: (خلقته بيدي) وقس على هذا...وليست جميع النصوص المتعلقة بالعقائد موافقة لما كان عليه العرب، فقد كانوا ينسبون إلى الله تعالى الولد وينكرون البعث، إلى غير ذلك مما ردّ عليهم القرآن"إهـ كلام الشيخ وهو نفيس. وقوله: العرب كانوا ينكرون البعث. فقد بيّنا أنّ من العرب مَنْ كان يؤمن بالبعث والمعاد أو بشيء من ذلك.(175/108)
وقال الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص62): "كان الشرك هو دين العرب العام والعقيدة السائدة، كانوا يعتقدون في الله أنه إله أعظم، خالق الأكوان ومدبر السماوات والأرض، بيده ملكوت كل شيء، فلئن سئلوا: من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم. ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. ولكن ما كانت حوصلة فكرهم الجاهلي تسع توحيد الأنبياء في خلوصه وصفائه وسموه، وما كانت أذهانهم البعيدة العهد بالرسالة والنبوة والمفاهيم الدينية تسيغ أن دعاء أحد من البشر يتطرق إلى السماوات العلى ويحظى عند الله بالقبول مباشرة بغير واسطة وشفاعة، قياساً على هذا العالم القاصر وعاداته وأوضاع الملوكية الفاسدة ومجاري الأمور فيها فبحثوا لهم عن وسطاء توسلوا بهم إلى الله وأشركوهم في الدعاء، وقاموا نحوهم ببعض العبادات، ورسخت في أذهانهم فكرة الشفاعة حتى تحولت إلى عقيدة قدرة الشفعاء على النفع والضرر، ثم ترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة، واعتقدوا أن لهم مماثلة ومشاركة في تدبير الكون، وقدرة ذاتية على النفع والضر، والخير والشر، والإعطاء والمنع، فإذا كان الأولون يعترفون لله بالألوهية والربوبية الكبرى، ويكتفون بالشفعاء والأولياء كان الآخِرون يشركون آلهتهم مع الله ويعتقدون فيهم قدرة ذاتية على الخير والشر والنفع والضر والإيجاد والإفناء مع معنى غير واضح عن الله كإله أعظم ورب الأرباب"إه.
المبشرون بالنار من أهل الجاهلية(175/109)
فقد ظهر مما سبق من الآيات البينات والأحاديث الواضحات الصحيحات والأشعار الكثيرات والنقولات المستفيضات أن الكفار من العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بقيت معهم أشياء صحيحة من دين إسماعيل وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وتبين أنهم ليسوا ممن لم يبعث لهم رسول بادئ أمرهم بل هم أصلاً على دين إسماعيل ومن أهل دعوته صلوات الله عليه، لكنهم حرَّفوا ذاك الدين وابتدعوا فيه البدع وأشركوا بالله مالم ينزل به عليهم سلطاناً(1) وهم مؤاخذون في ذلك، فمن لم يكن منهم حنيفاً فهو من أهل النار، وعليه فمن لم نعرفه منهم مبشراً بالحنة(2)
__________
(1) إن من يشرك بالله وإن كان يؤمن بوجود الله فهو الكافر، فيعدُّ الإنسان كافراً إذا ما أشرك بالله شيئاً في العقائد أو العبادات أو إذا كذّب رسل الله -أو بعضهم- أو إذا لم يؤمن بالبعث واليوم الآخر وغير ذلك من العقائد التي تحشر صاحبها في زمرة الكافرين كحال مشركي العرب وكحال أهل الكتاب ولهذا قال جل ثناؤه في شأنهم: "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها"الآية. وقال في شأن أهل الكتاب خاصة: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً"الآية.
(2) قد ذكرنا من المبشرين بالجنة من عرب الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة ومن المبشرين بالجنة -كذلك- تُبَّع فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم"رواه أحمد(5/340) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(5/252) وقد كان تبع هذا على دين إبراهيم قيل أنه توفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بـ700سنة. وروى ابن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال: (مات عدنان وأبوه وابنه معدّ وربيعة ومضر وقيس وتميم وأسد وضبّة على الإسلام على ملة إبراهيم) وروى الزبير بن بكار من وجه آخر عن ابن عباس: (لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين) ولابن سعد من مرسل عبد الله بن خالد رفعه: "لا تسبُّوا مضر فإنه كان قد أسلم"انظر فتح الباري(6/656).(175/110)
كان من أهل النار، لأن الأصل فيهم الشرك لقوله صلى الله عليه وسلم(يعنيهم): "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار" ويصدق هذا القول –إن شاء الله- على كل أهل الجاهلية بعد عصر عمرو بن لحي الخزاعي الذي بدَّل دين إبراهيم إلا مااستثناه الدليل. وقد نقل الشيخ محمد أمين الشنقيطي في أضواء البيان(2/302) عن القرافي في شرح التنقيح: الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود إه. وقد خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم أفراداً منهم بالنار سماهم تنبيهاً على غيرهم. ومن هؤلاء المبشرين بالنار عمرو بن لحي الخزاعي، وقد مر حديثه آنفاً، وامرؤ القيس بن حجر الكندي الشاعر المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار) رواه أحمد عن أبي هريرة وهو ضعيف. وقال عليه الصلاة والسلام: (امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار لأنه أول من أحكم قوافيها) رواه أبو عروبة في كتاب الأوائل وابن عساكر في تاريخه عن أبى هريرة أيضاً. ومنهم(أخو بني دعدع) الذي كان يسرق الحاج بمحجنه، وحابسة الهرة. قال صلوات الله وسلامه عليه: (اطلعت فرأيت أكثر أهلها النساء ورأيت فيها ثلاثة يعذَّبون: امرأة من حمير طوالة ربطت هرة لها لم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض فهي تنهش قبلها ودبرها، ورأيت فيها أخا بني دعدع الذي كان يسرق الحاج بمحجنه فإذا فُطن له قال إنما تعلق بمحجني) الحديث رواه ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو. ومن هؤلاء المبشرين بالنار عبد الله بن جدعان. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان -وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام- هل ينفعه ذلك؟ فقال: لا إنه لم يقل يوماً من الدهر، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" رواه مسلم (1/136). و هذا يدل على أن عبدالله بن جدعان لم يكن يؤمن بالله و اليوم الآخر ، و لم يكن حنيفاً، لأنه لم يكن يقول: (رب اغفر لي(175/111)
خطيئتي يوم الدين) الذي هو أصلاً قول إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام ولكن عبد الله ابن جدعان -على أية حال- يؤمن بوجود الله هو وأبوه بدليل أن اسمه عبد الله. وممن يلحق بالمبشرين بالنار أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وحديثهما في صحيح مسلم الأول برقم(302) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: (إن أبي وأباك في النار). وقال النووي في شرحه: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين إلخ. والحديث الآخر برقم(1621) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي). قال النووي: فيه النهي عن الاستغفار للكفارإهـ. ويشهد لهذا مارواه الحاكم في مستدركه وصححه أنه صلى الله عليه وسلم قال لابني مليكه:(أمكما في النار) فشقّ عليهما فدعاهما فقال: "إنَّ أمي مع أمكما" وكذا ما أخرجه أحمد في مسنده عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أين أمي؟ قال: "أمك في النار" قلت: فأين من مضى من أهلك؟ قال: "أما تَرضى أن تكون أمك مع أمي". إهوممن يلحق بالمبشرين بالنار أيضاً عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طالب عند موته وعنده أبو جهل وابن أبي أمية قائلين أترغب عن ملة عبد المطلب فقال: أنا على مِلَّة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فنزل(إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء). قال العلامة ملا علي القاري: "فهذا يقتضي أن عبد المطلب مات على الشرك بلا شك(ومن مات على الشرك فمصيره النار) ويشهد له ما في مسند البزار وكتاب النسائي من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها وقد عزّت قوماً من الأنصار عن ميتهم: "لعلكِ بلغتِ معهم الكدى" فقال: "لو كنت بلغتِ معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك". وأما ما ورد من(175/112)
قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فمحمول على أنه ليس من باب الافتخار في الانتساب بالآباء الكفار بل لإظهار الجلادة والشجاعة والاشتهار وأما ما حكاه ابن سيد الدنيا أن الله أحياه بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى آمن به وأسلم ثم مات فهو مردود لأنه لا دليل عليه من حديث ضعيف ولا غيره وإنما حكوه عن بعض الشيعة وخلافهم غير معتبر عند أهل السنة وكذا قول القرطبي أن الله أحيا أبا طالب حتى آمن، باطل موضوع بإجماع أهل الحديث ومخالف لمذهب الحق على أنه سبق أن لا ينفع الإيمان بعد البيان بل أقول لا يُتصور هذا البيان إذ قال الله تعالى: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) ولا خلْف في أخباره سبحانه وتعالى. ثم شنَّع الملا علي القاري على السيوطي باستدلاله بحديث مكذوب رواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ أن الله أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به ثم ماتا ونقل اتفاق المحققين من علماء الحديث على وضعه قال: مع منافاته للقواعد الشرعية من عدم قبول الإيمان بعد مشاهدة الأحوال الغيبية بالإجماع. وكذا سفّه قول من زعم أن أبا إبراهيم مؤمن وأن المذكور في القرآن إنما هو عمه لا أباه قال: قال الله تعالى في كلامه القديم ما يدل على كفر أبي إبراهيم والأصل في حمل الكلام على الحقيقة ولا يعدل إلى المجاز إلا حال الضرورة عند دليل صريح ونقل صحيح يُضطر معه إلى ارتكاب المجاز فبمجرد قول إخباري أو تاريخي يهودي أو نصراني كما عبر عنه يقبل أن آزر لم يكن والد إبراهيم بل كان عمه كيف يعدل عن آيات مصرحة فيها إثبات أبوه منها قوله تعالى(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصنام آلهة) وهو عطف بيان ويدل بناء على أنه اسمه أو لقب له أو نعت بلسانهم نحو ذلك ومنها قوله تعالى(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار(175/113)
إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) ومنها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام(يا أبت) مكرراً ومنها قوله تعالى(إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) الآية. وأقول زيادة على ذلك وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان مبيناً للكتاب ممهداً لطريق الصواب فلو كان المراد بأبي إبراهيم عمه لبينه ولو في حديث للأصحاب ليحملوا الأب على عمه بطريق المجاز في هذا الباب ثم نقل عن أحد أئمة التفسير صاحب التيسير لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبشير المؤمنين وإنذار الكافرين كان يذكر عقوبات للكفار فقام رجل فقال يا رسول الله: أين والدي؟ فقال: (في النار فحزن الرجل فقال عليه السلام: إن والدك ووالدي ووالد إبراهيم في النار) فنزل قوله تعالى: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) قال: والحاصل أن عامة المفسرين كالمجمعين على أن سبب نزول الآية هو نهي للرسول صلى الله عليه وسلم من السؤال عن حال أبويه وأنهما من أصحاب الجحيم. قال وأما دعوى أن آباء الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا كفاراً تحتاج إلى برهان واضح ودليل واضح فاستدلال بعضهم بقوله تعالى(وتقلبك في الساجدين) بناء على ما في غاية من السقوط. كما يُعلم من قول سائر المفسرين في الآية فقد ذكر البيضاوي وغيره في تفاسيرهم أن معنى الآية وترددك في تصفح أحوال المتهجدين كما روي أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة بيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصاً على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت الزنابير لِما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى ونقل عن الإمام أبي حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى(وتقلبك في الساجدين): أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى(وتقلبك في الساجدين) وبما روي في حديث(لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين). قال القاري: الشيعة بأجمعهم مقرون بأن هذا قاعدة مذهبهم وتبين أن هذا الحديث المكذوب عن إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم(175/114)
هو من موضوعات الرافضة" انتهى المقصود من كلام علي القاري في رسالته القيمة(أدلة معتقد أبي حنيفة الإمام في أبوي الرسول عليه السلام) ونقل فيه إجماع المتقدمين على كفر أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلودهم في النار وأن أبا حنيفة نصَّ عليه في الفقه الأكبر. ومن هنا تتبين لنا قيمة قول المناوي في شرح الجامع الصغير عند كلامه على حديث(رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار) قال: (وهذا بلغته الدعوة، وأهل الفترة الذين لا يعذبون هم من لم يُرسل إليهم عيسى عليه السلام، ولا أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم، كذا قال. وهو خطأ ظاهر، لأن حكم المشركين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حكم عمرو بن لحي فقد بلغتهم الدعوة، وكان فيهم حنفاء علماً أن عمراً هذا كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة قرون ونصف فقط، فالذي ينوبه ينوب المشركين بعده. ثم أيّ كلام يبقى بعد ثبوت قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم لأحد أصحابه: (إن أبي وأباك في النار) ؟ والمشركون الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وبلغتهم دعوته فعارضوها جمعوا إلى الشرك الذي كان عليه أسلافهم تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. وسنعرض لنوعية الشرك الذي وجدهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي كان وحده سبباً لدخول أسلافهم النار فبعد أن تبين بما سقناه من الأدلة أن أهل الجاهلية كانوا يؤمنون بالله ويثبتون له صفات صحيحة كثيرة ينفيها كثير من أهل البدع من المسلمين، ويؤمنون بالملائكة والرسل، وفيهم من يؤمن بالبعث والحساب، وأنهم يحجون ويصومون ويعتكفون وينذرون لله، وعندهم كثير من العقائد والشرائع الصحيحة التي أقرها الإسلام ومع كل هذا سماهم الله مشركين. فما هو هذا الشرك؟
بيان طبيعة شرك عرب الجاهلية وأهم العبادات التي كانوا يصرفونها لأوليائهم(175/115)
إذا تقرر ما بيَّناه من إيمان المشركين بربوبية الله في الجملة وببعض صفاته وغيرها من العقائد وبعض الشرائع الصحيحة التي كانوا يدينون بها فيمكن القول أن شركهم إنما هو اتخاذ الشفعاء والوسطاء من المخلوقين ليتقربوا بهم إلى الله(مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)،(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله). وتكون صورة هذا الشرك تقديم بعض العبادات لهؤلاء الأولياء كدعائهم والنذر لهم والحلف بهم وغيرها من أصناف القربات، ولعلنا نذكر منها جملة فيما بعد. وإنما أُتي المشركون من اعتقادهم أن هؤلاء الأولياء الصالحين أمثال اللات ووَدٍّ وإخوانه لهم سلطان يشفعون لهم إلى الله فعبدوا صورهم وعكفوا على قبورهم. وظنوا أن التقرب إلى هؤلاء الصالحين ودعاءهم لا يغضب الله بل هو تعظيم لله -بزعمهم- طالما أنهم يُعظِّمون رجال الله زعموا كالذي يعظم وزير الملِك وخادمه فأشبه أن يكون تعظيماً للملِك نفسه. وإن كان هذا المثال غير صحيح في الواقع فإن الملك إذا رأى الناس قد صرفوا وجوهم إلى الوزير يعظمونه ويقصدونه في حاجاتهم من دونه غضب -بلا شك- وسخط عليهم بل ربما تسبب هذا في تنحية الوزير أو سجنه أو قتله كما هو مشاهد وهم مع ذلك شبَّهوا الله بملكٍ ظالم لا يُتوصل لنيل خيره ومعروفه إلا بواسطة أحد أعوانه أو خاصته أو مَن له دَلٌّ عليه لشدة تجبره وعدم علمه بأحوال رعيته لبعده عنهم وانشغاله بالعرش فهو يقبل شفاعة وزيره أو أحد قوّاده وأعوانه لحاجته إلى تأليف هذا التابع كي يستظهر به على أعدائه ويشد به أسر مملكته ويقوِّي نفوذه. وهذا لا يليق بإله السماوات والأرض القريب المجيب الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء الرؤوف الرحيم الجبار اللطيف الخبير الغني الواحد القهار. فإن الإنسان يكفر لو شبَّهه بملك عادل فكيف لو شبَّهه بملك ظالم لا يُتوصل إلى عطائه إلا بالوسائط؟ تعالى الله عن ذلك علواً(175/116)
كبيراً، ولذلك كفَّرهم سبحانه ونفى أن يكون لأحد من مخلوقاته قول مع قوله أو أن أحداً يستطيع أن يتقدَّم بين يديه بأمر لا يريده أو يشفع لأحد لا يرضى عنه فهو سبحانه غني بنفسه لا يحتاج لمعين أو ظهير أو من يعرِّفه بحال عباده بل هو أجلُّ من ذلك، وفوق ما يخطر ببالك. (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شركٍ وما له منهم من ظهير). وقال عز من قائل: (قل لله الشفاعة جميعاً). ولذلك إذا أراد الله سبحانه وتعالى رحمة عباده المؤمنين يوم القيامة أذن في الشفاعة، وعندها تحل الشفاعة ولا تكون إلا بعد أن يأمر الله بها فيقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (اشفعْ تُشَفََّعْ). فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في عصاة الموحدين من هذه الأمة، وكذلك يشفع الملائكةُ والأنبياء والشهداء وصالح المؤمنين، ولا تكون هذه الشفاعات إلا من بعد أن يأذن الله بها: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه). ولا تنفع هذه الشفاعات كل الناس بل هناك أناسٌ(لا تنفعهم شفاعة الشافعين) الآية. وإنما تنال الموحدين الذين لا يشركون بالله شيئاً واقترفوا بعض الكبائر فهؤلاء يُغفر لهم وتكون الشفاعة سبباً للعفو عنهم، قال عليه السلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو صحيح. ولكن ما دون الشرك فإن كبيرة الشرك لا تغفر(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) رواه البخاري. فإذا كان الأمر كله بيد الله، وهو مالك الملك، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وله الشفاعة جميعاً، وبيده الخير والضر والنفع وهو على كل شيء قدير، فلِمَ يصرف الإنسان وجهه إلى سواه وهو المستحق للعبادة؟ كيف وهو الذي خلقه وصوَّره وشق سمعه وبصره؟! فمن الظلم -والحال ما وصفنا- أن يلجأ إلى(175/117)
غيره من المخلوقات(إن الشرك لظلم عظيم). فينبغي للإنسان أن يتقي الله ولا يشرك به أحداً من مخلوقاته، وليُنِطْ بالله جميع حاجاته، فإن الله سبحانه لا يعجزه شيء وخزائنه لا تنفد، فلا يسأل إلا الله ولا يعوِّل على سواه، فإذا أراد أن يأذن الله في الشفاعة فيه فليقل مثلاً: اللهم ارزقني شفاعة نبيك يوم الحساب، أو : اللهم شفعْه فيّ، ومن أسباب ذلك كثرة الصلاة عليه وسؤال الوسيلة له فضلاً عن طاعته والعمل بسنته هذا مع أن شفاعته صلوات الله عليه نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمته كما ثبت في الحديث. أما أن يطلب من المخلوق كأن يقول: ياجبريل اشفع فيّ، أو يامحمد اشفع فيّ فهذا عين الشرك والمحادَّة لله ولرسوله فإن محمداً صلى الله عليه وسلم عبد من عباد الله فقير إليه سبحانه لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراً(قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله)،(قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً). وليعلم المرء أن اتخاذ الشفعاء والأولياء أصل شرك الأمم من لدن نوح إلى قيام الساعة، ومن تأمل القرآن عرف ذلك فانظر مثلاً حال أصحاب القرية المذكورة في سورة يسن فإن قول صاحبهم الآية(23) (أأتخذ من دونه آلهةً إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا يُنقذون) يدل على أنهم كانوا يتخذون شفعاء إلى الله يعبدونهم على ذلك.ولا شك أن في كل أمة من الأمم أولياء وصديقين وصالحين يجلهم الناس ويعظمونهم التعظيم اللائق بهم فيقتدون بأمرهم ويأخذون بهديهم، ولكن لما كان العمل بطريقة هؤلاء الصالحين والاقتداء بقولهم وفعلهم يصعب عل بعض ضعاف النفوس فإنهم يستروحون إلى ما هو أيسر لهم من ذلك فيسول لهم الشيطان الغلو (1)
__________
(1) الغلو: هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد. يقول الإمام ابن تيمية: "فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل علي رضي الله عنه أو عدي بن مسافر أو نحوه. أو فيمن يعتقد فيه الصلاح كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القتي ونحوهم، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي. أو يعبده بالسجود له، أو لغيره أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجِرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قُتل"اهـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام.(175/118)
في هؤلاء الصالحين أحياء وأمواتاً فينسبون إليهم أفعالاً وصفات لا تليق إلا بالله ثم ينقلهم الشيطان إلى أن تعظيم هؤلاء الصالحين والتوسل بهم كافٍ وحده في نجاحكم وفلاحكم طالما أنهم كاملون واصلون فيتوجهون بهمتهم إليهم ويتوسلون بهم إلى الله ثم لا يلبثون أن يخشوهم بالغيب ويخافوا سطوتهم فيجأرون إليهم بالدعاء رغبة ورهبة، وينيطون بهم حاجاتهم ويتقربون إليهم بأنواع القربات لنيل رضا هؤلاء الصالحين لأن رضا الله –زعموا- مرهون برضاهم. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان 2/663: "قال المشركون من الصابئة: "لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه، وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية، وعن القوى الجسدانية بل قد جبلوا على الطهارة فنحن نتقرب إليهم ونتقرب بهم إليه، فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة. فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهو ات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، وتتصل أرواحنا بهم فحينئذ نسأل حاجتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلههم. وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات. وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات: من الصلوات والزكوات وذبح القرابين، والبخورات والعزائم، إلى أن قال: وليس هذا مختصاً بمشركي الصابئة بل هو مذهب المشركين من سائر الأمم"إه. وهذا حال عبَّاد القبور الذين يستشفعون بأصحابها ويستمدون منهم ويقولون يسري فيض من روحانية صاحب القبر إلى نفس الزائر. وهو معتقد الزنديق ابن سينا وأتباعه الإسماعيلية والصوفية. وإنما فعلوا ذلك لاعتقادهم أن لهؤلاء الصالحين نوع شراكة مع الله من تصرف وتوكيل. قال الإمام الشهيد إسماعيل(175/119)
بن عبد الغني الدهلوي في كتابه(التوحيد) بعد أن ذكر قوله تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل فأنى تُسحرون): "قد تحقق من هذه الآية الكريمة أن الكفار في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يرون لله عديلاً يساويه في الألوهية والقدرة، وفي الخلق، ولكنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم والأصنام التي كانوا يعبدونها، هم وكلاؤهم عند الله، وبذلك كفروا، فمن أثبت في عصرنا هذا لمخلوق التصرفَ في العالم، واعتقد أنه وكيله عند الله ثبت عليه الشرك، ولو لم يعدله بالله، ولم يثبت له قدرة تساوي قدرة الله" وذكر قوله تعالى: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً) ثم قال: "قد حذّر الله في هذه الآية المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أن تغرهم نفوسهم فيقولوا: إن نبينا له دالَّةٌ عند الله، يضر وينفع، ويدفع ويمنع، ويفعل ما يشاء، ونحن في أمته، فنحن نأوي إلى ركن شديد، وحرز حريز، فإن وكيلنا عند الله، وشفيعنا إليه، من الله بمكان ليس لأحد، فلا خوف علينا ولا خطر وبذلك يسترسلون في الخيال، ويتوسعون في الأماني ويستخفُّون بالعمل ولذلك أمر الله نبيه بأن يخبر الناس أنه لا يملك لهم ضراً ولا رشداً، وأنه -وهو سيد الأنبياء- لن يجيره من الله أحد، فكيف يستطيع أن يجيرهم من الله، ويمنعهم من عذاب الله وعقابه؟ وبذلك ظهر ضلال أؤلئك العامة، والغوغاء من الناس الذين ينسون الله، ويستخفون بأحكامه، معتمدين على نصرة المشايخ والشهداء، فإذا كان نبي الله يخاف الله، ولا يرى له ملجأ إلا رحمة الله، فكيف بمن هو دونه من أفراد أمته وأتباعه"إه(التوحيد بترجمة أبي الحسن الندوي صـ43). قلت: ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من اتخذ بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويستنصر بهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً)إه. فاتخاذ الوسائط هو أصل شرك قوم نوح وأقوام(175/120)
الأنبياء بعده وهو أصل شرك عرب الجاهلية وهو كذلك أصل صوفية هذه الأمة وغلاتها. فإن وداً وسواعاً وإخوانه كاللات وغيره كانوا رجالاً صالحين ولم يكونوا حجارة فإن الناس لا يمكن أن تتعلق بالحجارة مجردة بل كانت الحجارة تماثيل ورموز لرجال صالحين هذه أسماؤهم كما ذكر المفسرون كابن جرير وغيره. وهذه الحجارة إما مقامات أو قبور عكفوا عليها بعد موت هؤلاء الصالحين، ففي صحيح البخاري(4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن وداً وسواعاً ويغوث ونسراً: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أؤلئك وتنسّخ العلم عبدت"إه.(175/121)
ثم عبدهم العرب بعد ذلك كما مر معنا آنفاً. وقال أبو جعفر محمد الباقر: "كان وَدٌّ رجلاً مسلماً، وكان محبباً في قومه فلما مات عسكروا حول قبره"/انظر الدر المنثور للسيوطي6/269/. وقال غير واحد من السلف: "كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح عليه السلام فلما ماتوا عكفوا على قبورهم". وفي صحيح البخاري(برقم4859) عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله(واللات والعزى): "كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج"إه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضاً: "كان يلتُّ السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه". وهذه من كراماته رحمه الله فهو رجل صالح بشهادة صحابة رسول الله كما في هذا الحديث وروى الفاكهي عن ابن عباس: "أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتاً" وكان اللات بالطائف./انظر فتح الباري8/787/. ثم صُرفت لهؤلاء الأولياء الصالحين رحمهم الله ورضي عنهم أنواع العبادات من دعاء وتوكل ورهبة ورغبة وخشية بالغيب وحلف ونذر وذبح وتوسل وطواف بتماثيلهم ورموزهم من قبور ومقامات ومزارات وأنصاب وغيرها. ولا يخفى أن الدعاء هو أهم هذه العبادات التي صرفت لهؤلاء الصالحين. لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل العبادة الدعاء) رواه الحاكم(1/491) وهو حديث حسن. وروى الترمذي وابن ماحه والبخاري في الأدب المفرد(712) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) وهو حديث حسن. وفي (الأدب المفرد 713)-بسند فيه ضعف والمعنى صحيح- عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أشرف العبادة الدعاء). بل إن الدعاء هو العبادة فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة). ثم قرأ(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). أخرحه الترمذي وأبو داود وغيرهم. ومعناه أن الدعاء معظم العبادة وأهمها كقوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، أي أن(175/122)
الوقوف بعرفة أهم أركان الحج، وكذلك الدعاء أفضل وأهم ما يعبد به الله، والحديث السابق موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه من لم يسأل الله يغضب عليه) رواه الترمذي وصححه هو والألباني. وروى الترمذي أيضاً –بسند فيه ضعف والمعنى صحيح- قوله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة). فإذا كان الدعاء أفضل العبادة وأشرفها وهو مخ العبادة بل هو العبادة فلا ينبغي أن تصرف هذه العبادة لغير الله لما تقرر أن صرف العبادة لغير الله شركٌ وكفرٌ به سبحانه، فكيف إذا كانت العبادة المصروفة أفضلَ العبادات وأشرفها وأكرمها؟ فلا شك أن صرفها يكون أسوأ الشرك، يهون أمامه صرف الصلاة والصوم والزكاة والذبح لغير الله. ولهذا أكثر ما نعى الله سبحانه وتعالى على المشركين في القرآن إشراكهم في الدعاء لأهميته وشدة خطره. مثل قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). وقوله: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون). وقوله(وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي يستكبرون عن دعائي ومسألتي وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (من لا يدع الله يغضب عليه)رواه الحاكم. وقوله صلى الله عليه وسلم(من لم يسأل الله يغضب عليه). وكذلك قوله تبارك وتعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير). وقوله: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) وقوله: (فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء) وقوله: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) الآية. وقوله: (ويوم يقول نادوا شركائيَ الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) وقوله: (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً) وقوله: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي) وقوله: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا(175/123)
يضرك) وقوله: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر) وقوله: (أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون). وقوله: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء). وغيرها آيات كثيرة في هذا المعنى تُبيّن أن الشرك في الدعاء والطلب من غير الله من الأموات والغائبين هو الشرك الحقيقي كما أن دعاء الله هو العبادة الحقيقية، فإذا أطلق الشرك عني به شرك الدعاء والاستغاثة بالغيب. فكانت صورة دعاء المشركين أن يقولوا: يا لات أغثنا، يا ود وياسواع أعينونا، انصرونا، اشفعوا لنا إلى الله، يارجال الله المدد، يا يغوث نحن في جيرتك وحمايتك، أنت يا يعوق حامينا وإليك مفزعنا يا أولياء الله الغوث الغوث أدركونا. وربما استغاثوا بالجن أيضاً مثل قولهم: يا سيد هذا الوادي أجرنا من أتباعك من الجن، أو الحماية يا رئيس الجن، نعوذ بسيد هذا الوادي، ونحوها من الاستغاثات والابتهالات والاستعاذات. وعلى هذا المنوال مضى الضالون من هذه الأمة فتجد أحدهم ينادي: يا دسوقي، يا بدوي المدد، يا شيخ عبد القادر أغثنا، يا رجال الله نظرة، يا ابن علوان، ومن ذلك قول أحد ضلال صوفية حلب(هو الحوت الصوفي) يستغيث بشيخه الميِّت:
يا ابن نبهان يا ابن نبهان
ج ... أدرك عُبَيْدَكَ من مواتِ
ج(175/124)
ولعل مشركي الجاهلية أحسن حالاً من ضُلّال زماننا من هذه الناحية ذلك أن الجاهليين يستغيثون بمن ثبت صلاحهم كما في شهادة ابن عباس رضي الله عنه وغيره من السلف. في حين أن الصوفية يستغيثون بمن لا يُعرف حاله ولا يدرى صلاحه من أمثال البدوي والدسوقي ممن لا يعرف هل هو من الناجين عند الله المقبولين، أم من الضالين المقبوحين؟(1)ثم إن مشركي الجاهلية كانوا لا يستغيثون بأوليائهم إلا في الأمن والرخاء أما في الشدة والاضطرار فكانوا يستغيثون بالله وحده ويخلصون له الدعاء كما حكى القرآن عنهم: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)،(فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) أما الضالون في زماننا فإنهم يستغيثون بأوليائهم في الشدة والرخاء، فيوجهون وجوههم في المهمات إليهم، ويجعلون همتهم عليهم.
حادثة طريفة عن الشرك من الواقع
__________
(1) أثناء حواري مع أحد المدرِّسين في المعاهد الشرعية بحلب –وهو صوفي يجيز الاستغاثة بالأموات قلت: إذا كانت الاستغاثة بالأموات الصالحين عندكم جائزة فالأولى بكم -معشر الصوفية- أن تستغيثوا باللات وود وسواع ممن ثبت صلاحهم وجاههم عند الله (قائلين المدد يا لات دستور يا ود ويا سواع) بدلاً من الاستغاثة بهؤلاء النكرات المجهولين!فقال: إن ثبت صلاحهم جاز لنا أن نستغيث بهم.فتدبرْ.(175/125)
حدث أن جماعة من الناس كانوا يركبون سيارة كبيرة فبينا هي تسير مسرعة إذ انخلعت إحدى عجلاتها فمالت السيارة بشكل مرعب، وأصيب الناس بالهلع وأيقنوا بالهلاك فحملهم الشيطان على الشرك وأنساهم ذكر الله فاستغاثوا بالأولياء فقال بعضهم: ياشيخ عبد القادر. وقال آخرون: ياشيخ شبلي. بينما صاح بعضهم: يا أبا عابد. وكان معهم في السيارة رجل من أهل السنة الموحدين ومن الدعاة إلى الله لا تأخذه في الله لومة لائم -فيما نحسبه- فلم يقدر الشيطان أن ينسيه ذكر ربه بل لم يمنعه ما هو فيه أن ينكر على هؤلاء الجهلة الضُّلال إذ لما حملهم الشيطان على الاستغاثة بهؤلاء الأموات من دون الله ردَّ عليهم هذا الرجل على الفور : خسئوا أو يخسئون قولوا يا الله كي تموتوا على التوحيد والسنة. فلما حُدِّثتُ بهذه الواقعة تعجبت من كيد الشيطان بهؤلاء حتى رام لشدة عدائه أن يميتهم مشركين ففتنهم حتى استغاثوا بغير الله أحوج ما كانوا إلى الله وأعجبني صنيع هذا الرجل الموحد الذي اعتاد على توحيد الله والاستغاثة به والتعويل عليه في الرخاء فلما وقع البأس ما استطاع الشيطان اللعين أن يفتنه عن ربه لأنه ما اعتاد الاشراك به فطوبى له وبارك الله فيه فما أحرى هذا أن يثبت أمام فتنة منكر ونكير ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وتذكرت كيف أنّ دأب المؤمنين المخلصين الاستغاثة بالله واللجوء إليه عند الشدائد. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بدر حين برزوا وهم الفئة القليلة أمام خيل قريش وخيلائها وكثرتها وهي تريد استئصال رسول الله وأصحابه فما كان منهم إلا أن استغاثوا بربهم كما هو الظن بهم وكما هو شأن المؤمنين في كل زمان ومكان: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) فكان عاقبة هذه الاستغاثة أن أمدهم الله بملائكته، وأنزل عليهم نصره، وأذهب عنهم رجز الشيطان، وثبت أقدامهم، وألقى في قلوب أعدائهم الرعب، فضربوا أعناقهم وأطاروا بنانهم. ومن(175/126)
المعلوم أن المشركين يسمون هذا الشرك توسلاً إلى الله. وهذا غير صحيح فلو أنهم لا يعتقدون نفع أوليائهم وضرهم ما استغاثوا بهم كما هو ظاهر، وحتى لو اعتقدوا أن نفع هؤلاء الأولياء مرهون برضا الله فهو شرك أيضاً إذ هذا معتقد المشركين فقد كانوا كانوا يقولون عن أوليائهم: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ومع ذلك سمّاه الله شركاً وكفّرهم وإنما كان شركاً لأنهم صرفوا عبادة الدعاء التي هي أجلُّ العبادات إلى أوليائهم باسم التوسل. ويقال لهؤلاء الضالين: هل يجوز السجود لهؤلاء الأولياء باسم التوسل بهم إلى الله؟ وهل يجوز الصوم لهؤلاء الأولياء؟ وهل يجوز النذر والذبح لهم باسم التوسل؟ فإذا كان لا يجوز صرف هذه العبادات لغير الله ومن فعل ذلك كان مشركاً فكيف بصرفِ أفضل العبادات وأشرفها وأكرمها على الله؟!! إنها لا تعمى الأبصار! وفي محاكمة الأحمدين لنعمان الآلوسي ص450في الرد على مجيزي الاستغاثة المستهينين بالألفاظ الذين لا يفرقون بين التوسل والاستغاثة: "أما قولكم: إن ليس مقصودهم إلا التوسل والتشفع وإن تكلموا بما يفيد غيره؛ فإنه يدل على أن الشرك لا يكون إلا اعتقادياً، وأن اللفظ لا يكون كفراً إلا إذا طابق الاعتقاد. وهذا يقتضي سد أبواب الشرائع، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الردة لا سيما ما ذكرته الحنفية من التكفير بألفاظ يذكرها بعض الناس من غير اعتقاد ؛ كيف وأن الله سبحانه يقول: (ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) والكلمة التي قالوها كانت على جهة المزح مع كونهم في زمن رسوله صلى الله عليه وسلم وكانوا يجاهدون ويصلون، ويفعلون جميع الأوامر، وقال تعالى: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذورا قد كفرتم بعد إيمانكم) وقد ذكر المفسرون: أنهم قالوها على جهة المزح، وكذلك العلماء كفّروا بألفاظ سهلة جداً، وبأفعال تدل على ما هو دون ذلك؛ لا سيما الحنفية كما لا يخفى على من تتبع كتبهم. ولو قلنا: إن الألفاظ لا(175/127)
عبرة بها، وإنما العبرة للاعتقاد لأمكن لكل من تكلم بكلام يحكم على قائله بالردة اتفاقاً أن يقول: لم تحكمون بردتي!؟ فيذكر احتمالاً ولو بعيداً يخرج به عما كفر فيه، ولما احتاج إلى توبة ولا توجه عليه لوم أبداً. وهذا ظاهر البطلان، ولساغ لكل أحد أن يتكلم بكل ما أراد، فتنسدّ الأبواب المتعلقة بأحكام الألفاظ" إهـ.هذا مع العلم أن هؤلاء الأولياء الأموات والغائبين لا يسمعون نداء المستغيثين لأنهم لا يعلمون الغيب فاعتقاد المستغيث أنهم مطلعون على حاله لا يخفى أمره عليهم هذا وحده كفر لأنه لا يعلم الغيب إلا الله: (قل لا من يعلم مَنْ في السماوات والأرضِ الغيبَ إلا الله) وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية: (من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر) إه.
بيان معنى التوسل وأنواعه والفرق بينه وبين الاستغاثة وأنّ مذهب الحنفية تحريم التوسل بحق النبي أو جاهه(175/128)
الواقع إن الاستغاثة بالمخلوقين الأموات أو الغائبين ليس توسلاً -كما يدعي المشركون- فالتوسل شيء آخر وهو أيضاً على أنواع منه المشروع الطيب بل الواجب المتعين ومنه المبتدع المحرم. والتوسل المبتدع بالمخلوق إلى الله وإن كان يقود إلى الشرك فهو أقل شراً من دعاء المخلوق نفسه والاستغاثة به من دون الله وصورة هذا التوسل الممنوع أن يتوسل إلى الله بجاه خلقه أو كرامتهم عنده أو بحقهم ونحو ذلك كأن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بجاه النبي أو بجاه الصالحين أو كرامة للخضر أن تغفر لي أو ترزقني ونحو ذلك. فهذا التوسل محرم وهو مبتدع لم يأذن به الله، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ولا أرشد إليه ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعون كلا ولا تابعو التابعين بل قد نصوا على المنع منه. قال القدوري في(شرح كتاب الكرخي): "قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، قال وأكره أن يقول: بحق فلان، وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام"إهـ. وقال ابن بلدجي في(شرح المختار): "ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه"اهـ قال الإمام ابن القيم في الإغاثة(247): "ما يقول فيه أبوحنيفة وأصحابه: (أكره كذا) عند محمد بن الحسن حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب" ومنه يُعلم أن التوسل بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه كأن يقول: اللهم بجاه النبي ارزقني أو اللهم بحق النبي وفقني =محرمٌ عند الحنفية قولاً واحداً، وهو من الأمور التي اتفق عليها أئمة الحنفية الثلاثة وهو أصل مذهبهم ومنصوص جميع كتبهم وإن خالفه أكثر متأخريهم واستهانوا بقول أئمتهم مع أنهم في العادة لا يخرجون عن قول واحد من أئمتهم ولو اختلفوا فكيف إذا اتفقوا. جاء في كتاب ردود على أباطيل لمحمد الحامد(175/129)
الحنفي الحموي صـ139تحت حكم الدعاء: اللهم إني أسألك بحق فلان: "وبعد: فشكراً لكم على ما أهديتموني من كتاب التوسلات الكافية رحم الله مؤلفها الشيخ محمداً الكافي التونسي ورضي عنه، وقد كانت لي به معرفة شخصية وكنت أكبره وأكبر علمه وصلابته في الحق وصراحته فيه، فأنا من المعترفين بفضله ونبله، هذا إلى اعترافي بصلاحه ونسكه، والذي ذكره من عدم جواز(اللهم إني أسألك بحق فلان)، هو ما عليه متون مذهبنا نحن الحنفية وشروحها. جاء في(متن تنوير الأبصار)، وشرحه(الدر المختار) مايلي: وكره قوله "بحق رسلك وأنبيائك وأوليائك أو بحق البيت لأنه لا حق للخلق على الخالق إهوقد كتب عليه العلامة المحقق الشيخ ابن عابدين في حاشيته المشهورة(رد المحتار) فقال: قوله: وكره قوله بحق رسلك إلخ...(ثم ذكر ابن عابدين أقوالاً لبعض متأخريهم أوردوا على ألفاظ أئمتهم احتمالات متأولين لها ولم يرتضِها ابن عابدين) وقال: أقول لكن هذه كلها احتمالات مخالفة لظاهر المبادر من هذا اللفظ، ومجرد إيهام اللفظ ما لا يجوز كاف في المنع كما قدمناه، فلا يعارض خبر الآحاد فلذا والله أعلم أطلق أئمتنا المنع على إرادة هذه المعاني مع هذا الإيهام فيها الاقسام بغير الله تعالى وهو مانع آخر. تأمل. اهـ كلام ابن عابدين. ثم قال محمد الحامد: وهو كما ترى سائر مع المتن والشرح وأصل المذهب في المنع عن هذه الصيغة في الدعاء" إهـ أما مذهب الحنابلة في هذا التوسل المبتدع فمعروف أنهم يمنعون من ذلك ويبالغون فيه لاسيما في هذه الأزمان وقد نقل الآلوسي في جلاء العينين ص452عن الحنابلة في أصح القولين: أنه مكروه كراهة تحريم وهذا إذا كان الداعي متوجهاً إلى ربه متوسلاً إليه بغيره؛ مثل أن يقول: أسألك بجاه فلان عبدك، أو بحرمته أو بحقه. وأما إذا توجه إلى ذلك الغير فطلب منه كما يفعله كثير من الجهلة فهو شرك. اهـ ولا يخفى قول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. قال الشيخ الألباني(175/130)
رحمه الله في كتابه: (التوسل) تحت عنوان(دفع توهم): "هذا ولا بد من بيان ناحية هامة تتعلق بهذا الموضوع وهي أننا حينما ننفي التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاه غيره من الأنبياء والصالحين فليس ذلك لأننا ننكر أن يكون لهم جاه، أو قدر أو مكانة عند الله، كما أنه ليس ذلك لأننا نبغضهم وننكر قدرهم، ومنزلتهم عند الله ولا تشعر أفئدتنا بمحبتهم كما افترى علينا الدكتور البوطي في كتابه(فقه السيرة صـ354) فقال في نصه: (فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته). كلا ثم كلا، فنحن ولله الحمد من أشد الناس تقديراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم حباً له، واعترافاً بفضله صلى الله عليه وسلم وإن دل هذا الكلام على شيء فإنما يدل على الحقد الأعمى الذي يملأ قلوب أعداء الدعوة السلفية على هذه الدعوة وعلى أصحابها حتى يحملهم على أن يركبوا هذا المركب الخطير الصعب، ويقترفوا هذه الجريمة البشعة النكراء، ويأكلون لحوم إخوانهم المسلمين دونما دليل اللهم إلا الظن الذي هو أكذب الحديث كما قال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم:(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). متفق عليه. ولا أدري كيف سمح هذا المؤلف الظالم لنفسه أن يصدر مثل هذا الحكم الذي لا يستطيع إصداره إلا الله عز وجل المطلع وحده على خفايا القلوب ومكنونات الصدور، كما نقول له أخيراً: ترى هل دريت يا هذا بأنك حينما تقول ذاك الكلام فإنك ترد على سلف هذه الأمة الصالح، وتكفر أئمتها المجتهدين ممن لا يجيز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره بعد وفاتههم كالإمام أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى، وقد قال أبو حنيفة: أكره أن يتوسل إلى الله إلا بالله"إهـ. وفي فتاوى العز بن عبد السلام: "أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم"اهـ. ولعل الاعتداء المذكور(175/131)
في قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين)، وما يوافقه من قوله صلى الله عليه وسلم: ( سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء) -لعله- ينطبق على الأدعية والاستغاثات والتوسلات المتبدعة. وشيء لم يفعله رسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون ولا هو من سبيل المؤمنين لا شك أن تركه خير من فعله، فكيف وقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم عموماً يستفاد ذلك من أحاديث كثيرة؟ ونهى عنه الأئمة الأعلام الذين عليهم مدار الإسلام؟ ولم يُعرف هذا التوسل وينتشر إلا عند المتأخرين الضالين حاشا المؤمنين المتبعين لسنة سيد المرسلين. ويغني عنه التوسل المشروع الذي شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله وعمل به الخلفاء الراشدون ومن تبعهم من المحسنين، وهو التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا والتوسل بالإيمان والأعمال الصالحة المخلَصة، فهذا هو الطيب المرغب فيه مثل قوله تعالى: "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها"،"ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين"،"وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين)(وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) إلخ إلخ. ولذلك كان دعاء الأنبياء إنما هو الافتقار إلى الله والتوسل إليه بأسمائه وصفاته. فمن دعاء موسى عليه السلام: (رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) فتوسل بأرحم الراحمين أي توسل بصفة الرحمة التي تليق به سبحانه، وقال في آية آخرى: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا) فتوسل إليه سبحانه بقدرته على الهداية والإضلال وتقديره لكل شيء وبأنه ولي المؤمنين دون الكافرين فأحرى أن يغفر لأوليائه، وهذا غاية التلطف في الدعاء، وكان قبل ذلك قد توسل إلى الله بتنزيهه والتوبة إليه عندما قال: (سبحانك تبت إليك). وكذلك أيوب عليه السلام توسل إلى الله بصفة الرحمة فقال: (أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)، ولذلك روي في الحديث أن من(175/132)
قال: يا أرحم الراحمين ثلاثاً قال له الملك الموكل: إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسلْ اهـ. وكذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتوسل إلى الله برحمته مثل قوله: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" وتوسل يونس عليه السلام إلى ربه بوحدانيته قال: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) فاستجاب له ونجاه من بطن الحوت، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يتوسل إلى الله بوحدانيته يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت) الحديث فقال عليه الصلاة والسلام: لقد دعا الله باسمه الأعظم. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) اهـ رواه الترمذي وغيره. فلم يقل يونس مثلاً: اللهم نجني بجاه جبريل أو بجاه إبراهيم أو بحق خاتم المرسلين محمد أو بحق مخلوق آخر بل توسل إلى الله بالله، كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك)، وكذلك شرع الله لنا التوسل إليه بتوبتنا كقول موسى عليه السلام: (سبحانك تبت إليك)، وكقول آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا) الآية. وشرع لنا كذلك التوسل بأعمالنا الصالحة التي هي خالصة لله كما في حديث الثلاثة الذين انسد عليهم الغار في الجبل فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم التي قصدوا بها وجه الله من بر الوالدين والعفاف عن الزنا مع القدرة عليه وإعطاء الأجير حقه فنجاهم الله سبحانه وتعالى وفرج عنهم، ولم يتوسل هؤلاء المخلصون بذوات المخلوقين أو بجاههم لأنه شنيع غير جائز ولا مشروع، ولوكان جائزاً وفيه فضيلة للجؤوا إليه وهم المضطرون. بل توسلوا إلى الله بما يحبه سبحانه ويرضاه من صالح الأعمال الخالصة له. فهم على عكس الضالين المبتدعين من هذه الأمة الذين أفضل دعائهم التوسل بجاه المخلوقين وأجسامهم، وهذا غفلة(175/133)
عما يحبه الله ورسوله ومعاندة لما شرعه الله ورسوله. وكذلك مما شرعه الله ومضى عليه الصحابة والتابعون التوسل إلى الله بدعاء الحي الصالح والتأمين على دعائه ومن ذلك لجوء الصحابة رضوان الله عليهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ليدعو لهم، كحال الأعمى الذي لجأ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يدعو له لعل الله يرد عليه بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئتَ أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئتَ دعوتُ. قال: فادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك(أي بدعائه) نبي الرحمة يا محمد يارسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في وشفعني فيه" فردَّ الله عليه بصره. رواه الترمذي وغيره(1) وهذه من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم والحديث وإن ضعّفه بعض العلماء فقد صححه آخرون، وهو صريح بالتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فأجاب الله دعاءه ورد على الرجل بصره(2)
__________
(1) قال بعض المدرسين: إذا أريد إعمال هذا الحديث الآن. فليأت طالب الدعاء إلى رجل يظن به الصلاح ثم ليطلب منه الدعاء ويمكن لذلك الصالح أن يجيبه بقوله: إن شئتَ صبرتَ فهو خير لك، وإن شئتَ دعوتُ. فإن أصر على طلب الدعاء فليأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم ليقل: اللهم إني توجهت إليك بعبدك فلان في حاجتي الفلانية. اللهم فشفعه في وشفعني فيه. ويدعو له ذلك الصالح. وهو توسل بالدعاء واقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فيرجى له الإجابة.
(2) تنبيه:هذا الحديث الذي رواه عثمان بن حنيف رضي الله عنه صحيح دون القصة التي ذكرها الطبراني وفيها أن عثمان بن حنيف علَّمها رجلاً له حاجة عند عثمان بن عفان لا يَلتفِت إليه -زعم- قال الألباني في كتابه (التوسل صـ95): "هذه القصة ضعيفة منكرة لأمور ثلاثة: ضعف حفظ المتفرد بها والاختلاف عليه فيها ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث"اهـ. وثمّة شبهات وردت في أحاديث غير ثابتة يلهج بها أهل الأهواء مثل حديث: من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك إلخ رواه أحمد وابن ماجة ضعيف لأنه من رواية عطية العوفي وعطية ضعيف كما قال النووي في الأذكار والذهبي وابن تيمية والهيثمي والبوصيري والألباني وغيرهم. قال الذهبي في الضعفاء(1/88): مجمع على ضعفه.وقال البوصيري في مصباح الزجاجة(2/52): "هذا إسناد مسلسل بالضعفاء: عطية وفضيل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء"اهـ ومع ضعف هذا الحديث فليس فيه التوسل بالمخلوقين وإنما حق السائلين على الله أن يجيبهم وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم(حق العباد على الله أن لايعذبهم)؛يعني إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئاً، وكقوله تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين). وكذلك حديث دعائه صلى الله عليه وسلم لأم علي فاطمة بنت أسد الذي رواه الطبراني وفيه: اغفر لأمي فاطمة بنت أسد بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي؛ فإن راويه المتفرد به روح بن صلاح قال عنه الألباني: اتفقوا على تضعيفه. وكذا حديث توسل آدم بحق محمد صلى الله عليه وسلم لمّا اقترف الخطيئة الذي رواه الحاكم والطبراني من طريق عبد الرحمن بن زيد قال الذهبي: موضوع. وقال في الميزان: خبر باطل. وكذا قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان(3/360). وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف دعاء آدم وحواء لما اقترفا الخطيئة: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). أما الأثر الذي ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح(2/397) وعزاه لابن أبي شيبة -قال- بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار-وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأُتي الرجل في المنام فقيل له : ائت عمر ..الحديث. فهذا الأثر غير= =صحيح من أصله وإذا كان صحيحاً إلى الراوي أبي صالح السمان-كما قال الحافظ- فمالك الدار الذي روى عنه أبو صالح القصة مجهول فكان ماذا؟! قال الألباني في كتابه التوسل صـ131: (مالك الدار غير معروف العدالة والضبط وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في المصطلح) اهـ وقال الحافظ المنذري في الترغيب 2/41: (مالك الدار لا أعرفه). وكذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/125. وكذلك الرجل الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأى المنام المزعوم غير معروف وتسمية سيف بن عمر التميمي له –بأنه بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة- لا تساوي شيئاً لأن سيفاً هذا متهم بوضع الحديث ومتفق على ضعفه عند المحدثين كما قال الألباني؛ قال ابن حبان: (يروي الموضوعات عن الأثبات, وقالوا: إنه كان يضع الحديث). ثم إن هذه القصة تخالف ما استقر عند المسلمين أن الدين قد أكمله النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته وعلّمهم إذا أصابهم القحط أن يخرجوا إلى المصلى ويستسقوا ويدعوا ربهم كما فعل هو في حياته صلوات الله عليه. فهل يحتاج هذا الأمر أن يذهب هذا الرجل إلى القبر ليعلم النبي أمته ماذا يفعلون؟! وهل كان عمر رضي الله عنه غافلاً عن السنة وعما يصلح الرعية إلى هذا الحد؟! لا نملك إلا أن نقول :سبحانك هذه القصة لا تصح بمرة , لا من جهة الشرع ولا من ناحية الصناعة الحديثية وبالله التوفيق.(175/134)
ولا شك أن ردّ بصر الرجل كان بدعاء النبي لا بدعاء الرجل -وإلا لشفي كل أعمى دعا بهذا الدعاء- ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم هذا الرجل الدعاء أن يربطه بالله ويعلق قلبه عليه ويجعله يثق به سبحانه ويرشده إلى أهمية الدعاء لا أن يكون متواكلاً وهذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم لربيعة بن كعب الأسلمي لما سأله مرافقته في الجنة: (أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود).رواه مسلم754 فوجَّهَه إلى العمل والتقرب إلى الله والثقة به مع أن حصوله على هذه الخصلة –مرافقة النبي في الجنة- هي بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا بكثرة سجوده والله أعلم. ولا يخفى أن طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون في حياته -سواء في الدنيا أو بعد بعث الناس يوم القيامة عندما يفزعون إليه ليدعو الله يُرِيحهم من الموقف- أما بعد وفاته فقد انتفى هذا الأمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وللموت حكم آخر، فلا يطلب من الميت شيء. ولهذا كان الصحابة إذا أهمَّهم أمر أو نابتهم نائبة ذهبوا إلى خيارهم وأفاضلهم الأحياء يتوسلون إلى الله بدعائهم وشفاعتهم كما روى البخاري أن عمر رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس فقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون". وقد بيّن الزبير بن بكار في الأنساب –كما في الفتح3/150- صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة لما استسقى به عمر قال: (اللهم إنه لم يَنزل بلاء إلا بذنب ولم يُكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث). قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. اهـ(1)
__________
(1) قال الآلوسي في محاكمة الأحمدين ص453: "لفظ أتوجه إليك بنبيك في حديث الأعمى كقول عمر في حديث العباس كنا نتوسل إليك بنبيك . فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد ولذا قال في آخره: اللهم فشفعه في إذ شفاعته لا تكون إلا بالدعاء لربه قطعاً. ولو كان المراد بذاته الشريفة فقط، لم يكن لذلك التعقيب معنى. إذ التوسل بقوله بنبيك كاف في إفادة هذا المعنى وكذلك قول الأعمى (فادعه) دليل واضح، وبرهان راجح على أن التوسل كان بدعائه لا بنفس ذاته المطهرة عليه الصلاة والسلام. وقوله(يا محمد إني توجهت بك إلى ربي) قال الطيبي: الباء في بك للاستعانة؛ أي استعنت بدعائك إلى ربي"اهـ(175/135)
وكذلك فعل أهل الشام في عهد معاوية رضي الله عنه وعهد الضحّاك بعده عندما توسَّلوا بدعاء الرجل الصالح يزيد بن الأسود واستسقوا به أي قدَّموه يدعو لهم كما روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق 8/151/1(بسند صحيح كما قال الألباني في كتابه التوسل صـ45) عن التابعي الجليل سليم بن عامر الخبائري: "أن السماء قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية على المنبر قال:أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فناداه الناس فأقبل يتخطى الناس فأمره معاوية فصعد على المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس، وهبّت لها ريح، فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم" وروى ابن عساكر أيضاً بسند صحيح "أن الضحاك بن قيس في ولايته -بعد ذلك-خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضاً: قم يا بكّاء. زاد في رواية: فما دعا إلا ثلاثاً حتى أُمطروا مطراً كادوا يغرقون منه". والتوسل بالمخلوق إلى الله إما توسل بجسم هذا المخلوق وشحمه ولحمه وهذا لا يقول به عاقل فضلاً عن مسلم وإما توسل بعمله وهذا غير مشروع وغير معقول لأنّ عمل الصالح ينفعه وحدَه ولا يفيد غيرَه قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى). وإما توسل بدعائه وهو حي أما بعد موته فممتنع حتى لو كان الميتُ رسولَ الله وقدوتُنا في ذلك الخلفاء الراشدون وجميع الصحابة الذين عدلوا عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى غيره وهم القوم. ومع ذلك فهذا النوع من الدعاء أي الطلب من الله متوسلاً إليه بذوات الصالحين وجاههم وإن كان مبتدعاً ومحرماً فهو أخف ضرراً من الطلب من الميت أو الغائب لأن هذا النوع الأخير إنما هو دعاء للمخلوق لا لله وهو شرك أكبر حتى لوكان قصده من الطلب من(175/136)
الميت رضا الله ليشفع له إلى الله ويقربه إليه إذ هذا معتقد المشركين(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي ما ندعوهم وما نذبح لهم ومانقرب لهم صنوف العبادات التي أفضلها الدعاء إلا ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا إليه(ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله). وأفضل عبادتهم دعاؤهم كما قدمنا. كقول الضالين من هذه الأمة: (يا شيخ فلان أغثني، يا رسول الله غوثاً ومدداً، يارسول الله انصرنا، وكقول البوصيري:
ومن تكن برسول الله نصرته
ج ... إن تلقه الأسد في آجامها تجم(175/137)
فهذا من الشرك الأكبر إذ النصر من عند الله لا من عند رسوله، وإذا لم ينزل الله نصره فإن المسلمين يُهزمون حتى لو كان رسول الله قائدهم كما حدث في غزوة أحد. (وما النصر إلا من عند الله) ومن ذلك قولهم: يا نبي الله سقتك على ربك، يا بدوي، أو يا متبولي، سقتك على جدك، وسقت جدك على ربك، يا آل بيت النبي، يا آل طه عليكم حملتي حسبت، يا رجال الله نحن في حسبكم نحن في جيرتكم، راعونا يا أسيادي، ومثله قول النصارى: يا أمنا الحنون، ياعيسى إلخ...) كل ذلك مما يستتاب فاعله ومعتقده فإن تاب وإلا قتل. قال الشيخ محمد بن أحمد بن محمد بن عبد السلام خضر رحمه الله من علماء الأزهر في كتابه(القول الجلي في حكم التوسل بالنبي والولي): "ينقسم التوسل إلى خمسة أقسام: الأول: التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله وبما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الطاعات، والأعمال الصالحات، وتحريم المعاصي، وهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. الثاني: التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته، وهذا يكون في حياته بطلبنا الدعاء منه، أو دعائه بدون طلب ويكون يوم القيامة بما ورد من طلب الناس منه أن يشفع لهم فيجيب، ويدعو فيجاب. (قلت: وكذلك التوسل بدعاء صالح حي حاضر عندك تطلب منه الدعاء جائز) الثالث: بحق النبي أو الولي، أو بجاهه أو بركته أو بحق قبره أو قبته، وهذا مذموم منهي عنه محرم بلا نزاع. قال شارح الإحياء وغيره: وكره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك إذ ليس لأحد على الله حق وفي متون الحنفية: إن قول الداعي المتوسل بحق الأنبياء والرسل، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام مكروه كراهة تحريم اهـ . الرابع: أن يقال للميت من الأنبياء أو الصالحين، ادع الله لي، أو سله، أو سقتك على فلان، وسقت فلاناً على الله في كذا كذا، وكل هذا(175/138)
مما لا يشك عالم بشريعتنا المطهرة أنه قطعاً من البدع المحرمة التي لا يشهد لها كتاب ولا سنة، وهي تجر صاحبها شيئاً فشيئاً إلى نداء ودعاء صاحب القبر نفسه، فيكفر والعياذ بالله. والخامس: النداء والاستغاثة بغير الله، كأن يقول : يا سيدي فلاناً أغثني أدركني، انصرني على عدوي، أو على من ظلمني، مدد يا سيدي، شيء لله يا أهل الله نظرة إلينا بعين الرضا، فهذا شرك وكفر بالله تعالى. قال: وحديث: (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) مكذوب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس له أصل قطعاً في كتاب من الكتب المعتمدة، ومثله حديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور -أو- فاستغيثوا بأهل القبور" (1)
__________
(1) ونحن نقول سبحان الله بل إذا أعيتكم الأمور فعليكم بالعزيز الغفور(بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وكما قال الشاعر:
وإذا رُميت من الزمان بريبةٍ
ج
أو نالك الأمرُ الأشقُّ الأصعبُ
فاضرع لربك إنه أدنى لمن
يرجوه من حبل الوريد وأقربُ
وقال آخر:
اللهَ أسألُ أن يفرج كربنا
ج
فالكرب لا يمحوه إلا اللهُ
وقال آخر:
لذ بالإله ولا تلذ بسواهْ
ج
من لاذ بالملك الجليل كفاهْ
ج(175/139)
موضوع مختلق لم يروه أحد من العلماء ولم يوجد في شيء من كتب الدين الصحيحة. كما قاله شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم في غير موضع وكذا حديث(إن الله يوكل ملَكاً على قبر كل ولي يقضي حوائج الناس) من أفرى الفري، وأكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا(الحكاية) المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر. فإياك يا ابن الإسلام أن تغتر بمثل هذه الترهات(وتوكل على الحي الذي لا يموت) فإنه قال(ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ولا تناد إلا الله ولا تلجأ إلا إلى الله ولا تستنجد ولا تستغيث إلا بالله(فلا تدعوا مع الله أحدا) واعلم أن الله أقرب إليك ممن تدعوهم ولا يستجيبون لك بشيء، وتنبه لقول ربك(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون). وقوله(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم). إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لواجتمعت على ضرك أو نفعك لا يضرونك ولا ينفعونك إلا بما كتبه الله لك أو عليك. قل(يا أرحم الراحمين ثلاثاً) بدل قولك: يا رسول الله أو يا سيدنا الحسين، أو يا شيخ العرب، فقد ورد أن من قالها(قال له الملك الموكل إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فسل) قل(يا ذا الجلال والإكرام) فقد ورد ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام بدل قولك -يا أم العوجز يا ست -يا حامي طنطا يا سيد -يا حامي القنديل يا أبا العلا -قل يا رب العالمين، قل يا حي يا قيوم، قل يا أكرم الأكرمين، قل يا بديع السماوات والأرض، قل يا علام الغيوب، قل يا خير المسؤولين، عند قيامك وقعودك وشدتك ورخائك بدل قولك يا سيدي فلاناً ويا سيدتي فلانة(قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)(لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً)(ولاتدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين)" اهـ من القول الجلي صـ28. فإذا كان دعاء الله(175/140)
والطلب منه عبادة فصرف هذا الدعاء لغيره صرف محض حقه تعالى وإعطائه لغيره سبحانه من العبيد والمخلوقين، وهو أشد أنواع الظلم(إن الشرك لظلم عظيم) وهذا الظلم أيضاً ظلم للنفس إذ ألجأها إلى من لا يملك لها ضراً ولا نفعاً، ولذلك تعجب الله سبحانه من أمثال هؤلاء فقال: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم)(1) وكل المدعوين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم أَمَرَه الله أن يقول: (قل لا أملك لكم ضراً ولا رشداًً) بل أمره أن يقول: (قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء)فإذا كان صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره ضراً ولا نفعاً فكيف يُدعى من دون الله، وكيف يطلب منه ما لا يطلب إلا من الله، كيف يُعصى
__________
(1) قد يقول قائل ما بالكم تنزلون هذه الآيات على بعض المسلمين وإنما نزلت في الكفار أصلاً؟ فالجواب: وما المانع من ذلك فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً فحيثما وجدت العلة وجب الحكم. والقرآن خالد لكل زمان ومكان ولم يستنفد أغراضه؟ ثم هل المسلمون معصومون بأجمعهم فهل يقول عاقل إن كل فرد منهم معصوم؟ ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أناساً من أمته سيتبعون سنن من كان قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع فهذا بلا شك حاصل واقع لصدق المخبِر وإن كان هذا لا يشمل كل الأمة كما لا يخفى لقوله صلى الله عليه وسلم(لا تجتمع أمتي على ضلالة)(لا تزال طائفة من أمتي على الحق). ومجرد الانتساب إلى هذه الأمة لا ينفع الواحد منها ما لم تستقم العقيدة ويسعفه العمل فهؤلاء العرب كانوا ينتسبون إلى دين إبراهيم ويتقربون إلى لله بعبادة الأوثان ومع ذلك لم يعذرهم الله سبحانه وتعالى وكفّرهم وأباح دمائهم وأموالهم وكذلك من ينتسب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لو تقرّب إلى الله بعبادة الأوثان كالقبور مثلاً فحكمه حكمهم.(175/141)
النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر أمته باللجوء إلى الله في الشدة والرخاء، وقد قال لابن عمه وأحب الناس إليه: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) لم يقل له إذا اضطُررت فاستغث بي واسألني ولا قال توسل بي بل قال: إذا سألت فاسأل الله. (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله؟). بل هو صلوات الله وسلامه عليه كغيره من العباد محتاج لرحمة الله ورضوانه فقد كان صلوات عليه يسأل ربه خيري الدنيا والآخرة وأمرنا أن نسأل الله له، فنحن دائماً نطلب له من الله الصلاة والبركات ورفع الدرجات فنقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة) رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لا يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة) رواه الطبراني في الأوسط وغيره. فلهذا نحن نقول بعد سماع الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته) فإذا كان هذا حال أفضل البشر صلوات الله عليه وسلامه عليه محتاجاً إلى رحمة ربه وفضله، وصلاتنا عليه إنما هي طلبنا له من الله فكيف ممن هو دونه ممن يعتقد فيهم العامة حتى ولا دليل من الله على صلاحهم أمثال البدوي والدسوقي وغيرهم؟ فلا يُدرى حالهم، أهم في الجنة أم في النار؟ ثم الأدهى من كل ذلك أن هؤلاء أموات غير أحياء بينهم وبين الدنيا برزخ فلا يسمعون الداعي ولاينبغي لهم أن يسمعوا(وما أنت بمسمعٍ من في القبور) وحتى لو سمعوا ما استطاعوا إجابة داعيهم قال تعالى(إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم) فانظر كيف سمى الله دعاءهم شركاً. فحكم الميت يختلف عن حكم الحي(وما يستوي الأحياء ولا الأموات)، فما أجهلهم وأضل سعيهم(175/142)
يعرضون عن دعوة القريب المجيب ويجأرون إلى الميت السليب.
انقطاع عمل الإنسان بموته وعدم علمه بعمل الأحياء بعده وقول الله يوم القيامة لنبيه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)
الميت انتهى تكليفه وانقطع عمله بموته وخُتم كتابه فلم يعد يستطيع نفع نفسه فضلاً عن غيره. وصار هو المحتاج لدعوة صالحة تلحقه من بعده. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم. فقد فات زمان النفع، وولّت تلك الأيام التي يستطيع فيها تحصيل الخير لنفسه ولغيره، وانقضت مدة اختباره في هذه الدنيا -يوم كان حراً -أما الآن فقد صارت نفسه ممسوكة حتى قيام الساعة: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الآخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). وهو الآن في غفلةٍ من كل هذا حتى إنه إذا بعث ظن أنه لم يلبث إلا عشية أو ضحاها(أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) فهو بعد أن يموت لايدري ما حدث بعده وهذا شأن البشر جميعاً حتى الأنبياء فإنهم إذا ماتوا صارت نفوسهم ممسكة عند الله وإن كانت حياتهم البرزخية أكمل من غيرهم ولكنها برزخية على أية حال حكمها يختلف عن حكم الدنيا التي خرجوا منها ولم يعودوا من أهلها (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قُبضت روحه وخرج من الدنيا فإنه لا يسمع أخبار أمته ولا يدري ما عملوا وما أحدثوا بعده روى البخاري في صحيحه(6582) ومسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليرِدَنَّ عليّ ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختُلجوا دوني فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا(1)
__________
(1) معنى أحدثوا أي ابتدعوا لأن كل محدثة بدعة. فلعل هؤلاء المطرودين عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم هم المبتدعة.(175/143)
بعدك؟) اهـ . وفي رواية أخرى للبخاري(برقم 6586) بلفظ : (إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك). اهـ . وهذا شأن الأنبياء جميعاً فإنهم إذا توفاهم الله وقُبضوا لم يدروا ما فعلت أممهم من بعدهم؟ فهذا عيسى عليه السلام يوضح هذا الأمر أوضح بيان -وهو يخاطب ربه يوم القيامة- متبرئاً من أعمال النصارى من بعده لأنه غير شاهد عليها ولا علم له بها: (وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم فلما توفيتني كنتَ أنت الرقيبَ عليهم وأنت على كل شيء شهيد). وهذه الآية بعينها استدل بها النبي صلى الله عليه وسلم على أنه لا يعلم ما يحدث بعده من أفراد أمته، وسيقولها يوم القيامة حينما يرى من أمته ما لم يكن رآه ففي صحيح البخاري(برقم 6526) عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه سيُجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي ! فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنتُ عليهم شهيدأً ما دمتُ فيهم -إلى قوله -الحكيم). اهـ وهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم منعَّمون في حياتهم البرزخية أكثر من غيرهم من المؤمنين، حتى إنهم يصلون في قبورهم. ولكنها أمور غيِّبت عنا فلا ندري طبيعة هذه الحياة. وكذلك الشهداء حياتهم البرزخية أفضل من غيرهم ولكنها في كل الأحوال برزخية أخروية تختلف عن حياتهم الدنيا التي خرجوا منها وصار بينهم وبينها حاجز وبرزخ(ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون). وما روي من عرض أعمال الأمة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى غيره من أقارب الميت لم يصح منه شيء، وإنما روي مرسلاً عن بكر بن عبد الله أحد التابعين رواه ابن سعد. ثم هو معارَض بالحديث السابق الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود ومالك وفيه قول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم حين يُذاد ناس من أمته عن حوضه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)،(إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك)، إذ لو كانت الأعمال تُعرض عليه لعلم بما أحدثوه ولم(175/144)
يفاجأ بها يوم القيامة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم تُعرض عليه أعمال الأمة في حياته فكيف بعد موته. وقد كان في المدينة منافقون لا يعرفهم فإن الله تبارك وتعالى عرّفه بعض المنافقين ولم يعرفه آخرين كما في سورة التوبة: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم). أما عرض الأعمال فهو من اختصاص الله سبحانه وتعالى، فمن المتفق عليه عند العلماء أن أعمال الناس تُعرض على الله سبحانه وتعالى كل أسبوع مرتين، كما في صحيح مسلم: (تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين: يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن، إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال اتركوا هذين حتى يفيآ). وفي لفظ آخر له: (تُعرض الأعمال في كل اثنين وخميس، فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً) الحديث. حتى هو صلى الله عليه وسلم كان عمله يُعرض على الله في هذين اليومين كغيره من الناس كما في الترمذي وغيره عنه صلى الله عليه وسلم: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم). اهـ(1)
__________
(1) هذا الرفع للأعمال إلى الله أسبوعي -كما ترى- وثمة رفع سنوي لها في شهر شعبان كما ثبت في شعب الإيمان للبيهقي من حديث أسامة عنه صلى لله عليه وسلم قال: (شعبان بين رجب وشهر رمضان، تغفل الناس عنه، تُرفع فيه أعمال العباد، فأحب أن لا يُرفع عملي إلا وأنا صائم). والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع وفي الصحيحة(898) وعزاه للنسائي وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان ليلة النصف من شعبان اطّلع الله إلى خلقه، فيغفر للمؤمنين، ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه) حسنه الألباني في الصحيحة(1143) وعزاه للطبراني وابن أبي عاصم والبيهقي في الشعب من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ولكن لا يُشرع إحياء ليلة النصف من شعبان أو صيام نهارها بخصوصها فإنه وإن كانت فضيلة هذه الليلة ثابتة فإن تخصيصها بهذه الأشياء من البدع التي لم يأذن بها الله ولا رسوله وقد نبّه على ذلك مَنْ كتب عن البدع من العلماء.(175/145)
وبعد أن كتبت هذا قرأت كلاماً متيناً لبعض علماء الشيعة الذين هداهم الله إلى الحق واتباع السنة هو الشيخ أبو الفضل البرقعي في كتابه كسر الصنم الذي ألفه في نقض كتاب أصول الكافي للكليني الرافضي فقال رداً على الكليني الذي بوَّب لعرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة أئمة الرافضة ذاكراً تحته أخباراً مكذوبة قال الشيخ البرقعي رحمه الله: "إن عرض الأعمال على النبي والأئمة يخالف مئات الآيات في القرآن. قال تعالى( ولا تجسسوا) وقال تعالى( وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً) وقد كررها في الآية 17من سورة الإسراء والآية 18من سورة الفرقان، والله ستّار على ذنوب عبيده ولا يرضى أن يعلم ذنوب عباده غيره تعالى يقول الله لرسوله في سورة التوبة الآية101: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) وقال تعالى في الآية43: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) وقال تعالى في الآية 204من سورة البقرة: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام) إذن، كيف يقول الرواة الكذابون إن الأئمة مطلعون على أعمال العباد خلافاً للقرآن. بالاضافة إلى أن النبي والأئمة في عالم آخر قال تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم) وقال تعالى: (ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون). وإذا عرض عليهم سوء أعمال الأمة مثلاً فإن ما يُعرض عليهم هو مدى إراقة الدماء ومدى العصيان والخيانة والجناية ومدى الكذب على المنابر على الله و رسوله وصدور الأحكام المخالفة للحق. هل يُعرض كل هذا على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحزن دائماً!! ولا فائدة من ذلك أيضاً، وسيبقى الناس على حالهم، هذه نتيجة البعد عن القرآن واتِّباع الخرافات التي يأتي بها الرواة، ألم يروا قوله تعالى في سورة المائدة الآية109بأن الأنبياء لا علم لهم بأعمال الأمة: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أُجبتم قالوا لا(175/146)
علم لنا) ألم يروا قول عيسى عليه السلام عندما قال رب لا علم لي بهم بعدما توفيتني(وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) الآية 117من سورة المائدة. ألم يروا قول نوح عليه السلام في سورة الشعراء الآيتين 112و113(ما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) ومئات الآيات الأخرى"إهمن كتاب كسر الصنم للبرقعي صـ172.
خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في قبره
وكما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيا خصوصيات، كذلك فإن له في قبره خصوصية، وهي أن الله سبحانه وتعالى يبلِّغه ويعرض عليه عن طريق الملائكة سلام أمته وصلاتهم عليه فقط دون باقي أعمال الأمة، كما في الحديث الصحيح: (إن لله تعالى ملائكة سيّاحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام) اهـ رواه النسائي وأحمد. فهو -أي السلام- يبلغه صلى الله عليه وسلم على أية حال ويكون رده لهذا السلام بأن يرد الله عليه روحه رداً برزخياً ليس كالحياة الدنيا فلا يجوز تشبيهه بالحياة الدنيا فيرد عندها السلام كما في حديث أبي داود: (ما من أحد يسلم علي إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) اهـ وكذلك تبلغه صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني) رواه أبو داود وغيره، فهي تبلغه بلاغاً عن طريق الملائكة -كما ترى- ولا يسمعها هو بنفسه، لأنه ميت صلوات الله عليه (وما يستوي الأحياء ولا الأموات). وقد جاء هذا صريحاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنّ لله تعالى ملَكاً أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي علي إلا أبلغنيها) اهـ . رواه الطبراني في الكبير والبخاري في التاريخ وأبو الشيخ وهو حسن ثابت وهو صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع تلك الصلاة، وإن الملك هو الذي يسمعها فيبلغها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سواء كان الذي يصلي ويسلم عليه قريباً عند قبره أو كان في آخر الدنيا فإن(175/147)
الملائكة يبلغونه في نفس الساعة: كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وكل بي ملكاً عند قبري فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة) وهو حديث حسن ثابت رواه الديلمي في الفردوس وهو من صحيح جامع السيوطي فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع صلاة الناس وسلامهم عليه بل الملائكة تبلغه، وهؤلاء الملائكة سواء الموكَل أو السيّاحون أعطاهم الله قدرة على سماع هذا السلام وهذه الصلاة من جميع نواحي الأرض، فيستوي والحالة هذه من كان عند قبره صلى الله عليه وسلم فسلم عليه أو كان في آخر الدنيا، وهذا ما فهمه السلف الصالح رضوان الله عليهم فقد روى سعيد بن منصور في السنن عن سهيل بن أبي سهيل قال: (رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال هلمّ إلى العشاء. فقلت: لا أريده فقال: ما لي رأيتك عند القبر فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلُّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم). ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء إهـ. وهو حديث صحيح رواه ابن أبي شيبة وابن خزيمة في(حديث علي بن حجر) ج 4/رقم 48/، وابن عساكر4/217/ وعبد الرزاق في مصنفه/3/577/ وإسماعيل القاضي في(فضل الصلاة على النبي)، قال الألباني في تخريجه: حديث صحيح.(1)
__________
(1) فائدة: لم يكن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر في المسجد فإنه صلى الله عليه وسلم دُفن في حجرة عائشة رضي الله عنها بتوقيف منه مثل قوله صلى الله عليه وسلم(ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه)، وقوله: (الأنبياء يدفنون حيث يموتون) حديث صحيح، شواهده كثيرة وانظر أحكام الجنائز/137/للألباني وإنما أدخلت الحجرة التي فيها قبره صلى الله عليه وسلم في المسجد يوم لم يكن أحد من الصحابة في المدينة حياً، فقد أدخلت في المسجد عند توسعته التي حدثت في عصر الوليد بن عبد الملك عام إحدى وتسعين كما ذكره غير واحد من المؤرخين والعلماء كابن شبَّة في(أخبار المدينة)، ومعلوم أن آخر الصحابة موتاً في المدينة هو جابر بن عبد الله وقد توفي في خلافة عبد الملك سنة ثمان وسبعين ومع ذلك فقد أنكر السلف ذلك فلم يلتفت الوليد لإنكارهم وأمر عامله بإنفاذ الأمر وقد ذكر ابن كثير في تاريخه(9/75) أن سعيد بن المسيب "أنكر إدخال الحجرة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ قبره صلى الله عليه وسلم مسجداً".(175/148)
ويشهد لحديث الحسن بن الحسن حديث آخر صحيح عن رجل آخر من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هو زين العابدين فقد روى أبو يعلى في مسنده(469) وابن أبي شيبة(2/83). والضياء المقدسي في المختارة(/154) وإسماعيل القاضي(20) عن علي بن الحسين(زين العابدين): (أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو. فنهاه، وقال: ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم، وصلُّوا عليّ، فإن صلاتكم وتسليمكم يبلغني أينما كنتم"اهـ . ومن الأدلة -أيضاً- على أن الصلاة على النبي تعرض عليه في قبره ولا يسمعها بنفسه ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضةٌ عليّ). فقالوا يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! قال: يقول: بليت، قال: (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء) اهـ. ومن أجل هذه الخصوصية -أعني إبلاغ الملائكة للنبي صلى الله عليه وسلم سلام أمته وصلاتهم عليه- شُرع للمصلي -حيثما كان- أن يقول في تشهده: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). أما غيره من الأموات فلا يبلغه السلام. وما روي من أنه(ما من مسلم يمر على قبر أخيه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) فهو حديث متفق على ضعفه، ما رواه أحد ممن يروي الصحيح، فلم يرِد في الكتب الستة أو كتب الحديث المعتمدة، وإنما رواه الديلمي في الفردوس من رواية عبد الرحمن بن زيد قال ابن الجوزي: (أجمعوا على ضعفه). ولم يصح في هذا الباب شيء وما روي فيه عن الثقات شيء وإنما روي عن الكذابين والمتروكين. أما ما ورد من سماع الأموات في حالات خاصة فهذا مرتبط بعلة معينة زال زوالها. مثل خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل القليب من كفار قريش يوم بدر وقوله: هل(175/149)
وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ الحديث، فهو معجزة له صلى الله عليه وسلم وخرق للعادة. وهذا ما فهمه راوي الحديث التابعي قتادة راويه عن أنس رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري قال قتادة: (أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً). (انظر صحيح البخاري رقم الحديث 3976). والأصل عدم سماع الأموات، وهذا الأصل كان مستقراً عندهم ولذلك أنكر عمر هذا وقال: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم أنهم الآن يسمعون فقط، ولفظه كما في الحديث ابن عمر: "إنهم الآن يسمعون ما أقول"(انظر صحيح البخاري برقم 3980) فقيّد سماعهم بلفظ (الآن). فهي حالة خاصة. وكذلك ما ورد أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين إذا انصرفوا عنه، لأنه في هذه اللحظة تعاد روحه إلى جسده لسؤال الملكين منكر ونكير كما جاءت بذلك الآثار الصحيحة، فهي حالة واضحة الخصوصية، ومن أراد المزيد حول هذا الموضوع فليراجع(الآيات البينات في عدم سماع الأموات) للعلامة الآلوسي. أما السلام على أهل القبور فهو دعاء لهم، وهو من لفظه يختلف عن السلام على الحي الذي يسمع فيجيب لذلك كانت صيغة السلام على الأحياء: السلام عليكم ورحمة الله. بينما السلام على الأموات الذين لا يسمعون ولا يتأتى منهم إجابة فصيغته مختلفة: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، السلام عليكم أهل الديار، وهذا جابر بن سليم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: عليك السلام يا رسول الله. فقال: "لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى". رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح. فهذا السلام دعاء لهم، ولا يعني السلام على من يسمع. ومن الجائز في لغة العرب مخاطبة ما لا يعقل، كمخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لمكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"رواه الترمذي. وكذلك خاطب عمر رضي الله عنه الحجر الأسود قائلاً:(175/150)
(لولا أني رأيت رسول الله قبَّلك ما قبلتك). رواه البخاري فهذا السلام على الأموات من جنس الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة فإن من معاني السلام الرحمة والأمن ونحوها. كأنك تدعو لهم تقول: المغفرة والسلام والرحمة عليكم، وهو كقولك اللهم اغفر لهم. والله أعلم. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم لا يسمع شيئاً بعد موته ولا يدري ما حدث بعده، فكيف ممن هو دونه، ممن مات وفات، وصار من جملة الرفات!؟ كيف يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماوات؟(ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وهم عن دعائهم غافلون). وحتى لو قلنا إن الميت يسمع سلام المسلِّم عليه ويرد عليه فلا يُشرع لك طلب شيء منه لأن حكم الميت غير الحي بهذا جاء الشرع واتفق عليه السلف (إن تدْعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) وغاية الأمر أن يكون حال الأموات في السماع كحال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز دعاؤه صلوات الله عليه ولا طلب شيء منه بعد موته والسلام.
من صفات المدعوِّ المسؤول(175/151)
من المعلوم أن كل من يُدعا ويُصمد إليه ويُسأل ينبغي أن يتصف بصفات تليق به كمسؤول متى فقدها أو فقد بعضها لا يجوز بعدها أن يُطلب منه ويقصد، ومن ذلك أن يكون المطلَبُ في مقدوره، فإذا كان السؤال بالغيب انحصر الأمر بالله قطعاً، ذلك أنه لا أحد يعلم الغيب لا البشر وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا الملائكة، ولا الجن ولا غيرهم،(قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله)، فمن العبث إذاً أن يسأل غيره. كذلك ينبغي أن يكون المسؤول فضلاً عن علمه بالغيب سميعاً بالغيب بحيث يسمع كل شيء مهما بعدت المسافات ودقت الهمسات، وهذا مختص بالله وحده، لأن من أسمائه وصفاته السميع فلو اعتقدنا أن أفضلَ البشرِ محمداً صلى الله عليه وسلم يسمع دعاءنا لكنّا قد أشركنا بالله، إذ يصبح هنالك سميعان والحال أن السمع بالغيب من صفات الله وحده: (والله هو السميع العليم)،(إنه هو السميع العليم). وإذا كان هو السميع لا غيره فهو وحده الذي يسمع دعاء عباده فيجيبهم قال زكريا عليه السلام: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء). كذلك من صفات المسؤول أن يبصر بالغيب فلا يخفى عليه شيء وهذا أيضاً خاصٌّ بالله الذي يرى النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء. (إن الله هو السميع البصير) أي لا أحد غيره يسمع ويبصر بالغيب. وكذلك ينبغي أن يكون المسؤول مالكاً، يعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويضر وينفع، وهذا خاصٌّ بالله إذ هو الملك وهو المالك: (لله ملك السماوات والأرض)،(ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)، وأمر نبيه أن يقول: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً) ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأقرب الناس إليه؛ ابنته فاطمة: (لا أملك لك من الله ضراً ولا نفعاً) رواه مسلم. وكذلك ينبغي أن يكون هذا المالك المسؤول مستغنياً بنفسه عمن سواه وهذا مختصٌّ بالله لأن العباد كلهم فقراءٌ إليه، فكيف يُطلب(175/152)
من الفقير؟ قال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد). ومن صفات المدعو أن يكون حيّاً غالباً على أمره قائماً عليه، وهذا مختص بالله، إذ المدعوُّون الآن موتى، قال تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون)، ومن العبث أن تطلب من ميت بينما الله الحي القيوم على عرشه يسمعك ويراك(هو الحي لا إله إلاّ هو فادعوه مخلصين له الدين). وينبغي أن يكون من صفات المسؤول أنّ خزائنه لا تنفد -مع كثرة السائلين-وأنه يفعل ما يريد، ولا يعجزه شيء، وهذا كله منتفٍ عن البشر بالكلية ومختصٌّ بالله وحده.
صفات الداعي والعلاقة بين الشحاذة والاستغاثة بغير الله وتأويل رؤيا النبهاني في كتابه شواهد الحق(175/153)
كما أن للمدعو المسؤول صفات تليق به، كذلك فإن للداعي والسائل صفات لا تنفكُّ عنه حال سؤاله منها التذلل والانكسار للمدعو بالقلب واللسان والجوارح، ومنها خفض الجناح، والرغبة والرهبة إليه، ومنها رجاؤه، وتعلّق القلب به، وجعل الهمّة عليه، ومنها التوكل عليه، وجماع هذه الخصال يُنتج العبودية التي لا تجوز إلاّ لله. وأنت لو تفطّنتَ لهذه الخصال التي تقوم بالداعي والخصال التي يتميز بها المدعو حسب اعتقاد الدّاعي والتي أقلها ما ذكرناه علمتَ لِمَ سمّى الله الدعاء عبادة، وجعله أفضل العبادة، ومخ العبادة، وأشرف العبادة، وأكرم شيء على الله؟ . ومن أجل بعض هذه الخصال التي يتلبّس بها الدّاعي والسائل -حال دعائه وسؤاله- حَرُم في دين الإسلام سؤال الناس أموالهم التي يقدرون عليها وما ذلك إلاّ لأجل خصال السائل التي أقلها التذلل والهوان الذي لا يليق بمؤمن وقد ذمّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسألةَ ونهى عنها وحذّر منها أشدّ التحذير، من ذلك قوله: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم).متفق عليه. وقال: (من سأل الناس تكثُّراً فإنما يسأل جمراً، فليستقلّ أو ليستكثر). رواه مسلم. وفي صحيح مسلم أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم لقبيصة: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل) الحديث.(1)
__________
(1) اعلم أن سؤال الناس بالغيب والاستغاثة بهم مع أنه شرك فهو نوع من الشحاذة والاستجداء والمناسبة بينهما واضحة فالحاجة والفقر لكل شيء يُشتكى إلى الله ومن أطرف ما وقفت عليه من المناسبة والعلاقة بين الاستغاثة بغير الله وسؤال الناس أموالهم أي الشحاذة وضرْب الأخير مثلاً على الأول ما ورد في خاتمة كتاب شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق يعني النبي صلى الله عليه وسلم لمؤلفه يوسف بن إسماعيل النبهاني(مات سنة 1350هـ) فإنه بعد كتابة هذا الكتاب رأى النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول وهذه الرؤيا في الحقيقة تنسف كتابه من أساسه وضُربت له مثلاً= =لكنه لم يفقهها وسأذكر رؤيته بتمامها ثم تأويلي لها قال النبهاني في خاتمة كتابه المذكور صـ561: "رأيته صلى الله عليه وسلم في منامي سحر ليلة الاثنين الثالث من جمادى الأولى سنة1321هـ وكأني جالس في مجلسه الشريف وأني من جماعته، فجاء ناس يسألونه عن أمورهم وهو يجيبهم صلى الله عليه وسلم. فأجاب واحداً منهم عن مطلوبه. ثم أراد أن يجيب الثاني وهو يريد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشحاذة: أي سؤال الناس لأنه هو شحاذ وكان جالساً في جانبي، فاستفهم صلى الله عليه وسلم منه عن مسألته أهي عن الشحاذة؟ فقال الرجل نعم فقبل أن يجيبه مد يده الشريفة صلى الله عليه وسلم إلى حصير كان جالساً عليها فقطع منها خيطاً، وفهمت أنا مراده من ذلك فهماً يقينياً كأني كان لي علم بذلك، وهو أن مراده من قطع الخيط أن يعدّ عليه عيوب الشحاذة ويعقد عند ذكر كل عيب عقدة لكثرتها ولعلمي بذلك أردت أن أبين للرجل مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الخيط حين اشتغل بقطعه عن جواب السؤال ثم لم أبين له ذلك تأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يشرح له عليه الصلاة والسلام تلك العيوب انتبهت من النوم"إهـ قلت: هذا مَثَلٌ ضُربَ للمؤلف لم يفقهه، فالمؤلف من الذين يسألون البشر ويستغيثون بهم من دون الله أي من الشحّاذين وما وضع كتابه إلا لتقرير هذا الشأن والحث عليه فالرؤيا بينت أن الشيخ منهم لأنه كان في جانب الشحاذ أي على طريقته ومذهبه فبينتْ الرؤيا أن ذلك قبيح إذ لمّا كان سؤال الناس أموالهم قبيحاً ومذموماً فسؤالهم بالغيب أقبح سيما إذا كانوا أمواتاً ولكن المؤلف لم يفهم الرؤيا وكذلك قطْعه صلوات الله عليه في هذه الرؤيا من الحصير فيه إشارة قوية إلى أن هذه الاستغاثات التي يلهج بها المؤلف وأشباهه من الفتن المضلة والبدع والأهواء التي إنْ أُشربها القلب صار مُجَخِّياً كالكوز كما قال عليه الصلاة والسلام: " تُعرض الفتن على القلوب عرضَ الحصير عوداً عوداً، فأيّ قلبٍ أُشربها نُكتتْ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا، لاتضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربدَّاً كالكوز مُجَخِّياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه" رواه مسلم. ودلّت الرؤيا أن المؤلف من أهل الأهواء وأنه ربما بيَّن له بعضُ أتباع النبي صلى الله عليه وسلم عيوب الاستغاثة بغير الله فهمّ أن يذعن للحق ولكنه أبى تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم بزعمه وإنما هو متبع لهواه وبيّنتْ الرؤيا أنه لم يستطيع تخليص= =نفسه من هذا الهوى مع أنه عرف عيوب الاستغاثة بغير الله حتى همّ أن يبين للناس خطر الشرك الذي يدعو إليه فلم يفعل حتى انتبه يعني حتى مات لأن الناس إذا ماتوا انتبهوا كما ورد في بعض الأقوال. علماً أن النبهاني هذا لم يأت في كتابه إلا بشبهات وضلالات نعم نقل عن بعض المتأخرين أشعاراً فيها الاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يأت بحرف واحد عن القرون الأولى لا شعراً ولا نثراً يؤيد ما ذهب إليه مع حرصه على جمع كل ما يخص الموضوع مع سعة اطلاعه ففي هذا أكبر دليل على أن هذه التوسلات والاستغاثات التي راجت عند المتأخرين وأنكرها العلماء الربانيون كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره لم تكن معهودة عند السلف المتقدمين ولهذا لم يوفق النبهاني إطلاقاً في العثور على شيء منها، وأنى له ذلك والمنصوص عليه عند القوم تحريم التوسل إلاّ بأسماء الله وصفاته والتوسل بالإيمان والأعمال الصالحة المخلصة لله. فمن الثابت عن أبي حنيفة رحمه الله تحريم التوسل بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه وهذا محل اتفاق بين أئمة الحنيفة الثلاثة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن لا اختلاف بينهم كما هو ثابت في متون الحنفية كالدر المختار وغيره. ومن العجيب أن الشيوخ المقلِّدين الجامدين لا يسمحون لأحد بمخالفة أئمة المذهب في مسائل فقهية حتى لو كانت مخالفة للسنة وإذا بهم يخالفون الأئمة في مسائل هي من العقيدة مثل هذه المسألة مدَّعين لأنفسهم الاجتهاد مع أنهم في غيرها جامدون ويحرمون الخروج على أقوال الأئمة بل ربما يعدُّون الخروج من المذهب كالخروج من الإسلام. ولهذا لا تجد هؤلاء الشيوخ يذكرون هذا الأمر للناس إطلاقاً ولا يعرفوهم بأن تحريم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كما هو دارج الآن إنما هو قول أئمة الحنفية على الأقل بل تجدهم يشنعون على المخالف وينبزونه بالوهابي وأنه لا يعترف بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من افتراءاتهم حتى استقر عند العوام في بعض البلدان أن هذا الأمر لا ينكره إلا المسمّون بالوهابيين فيلزمهم أن يعدُّوا أئمة الحنفية أبا حنيفة وصاحبيه وهابية إذاً وأنهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم لا يجيزون التوسل بحقه أو جاهه كما يفتري الضالون ويبهتون مخالفهم. ويتجلّى للناظر في كتاب النبهاني دعوته إلى الشرك الصريح بل إنكاره الاستغاثة بالله وحده وإنه لا بد له من واسطة حتى يجيبه الله تعالى الرب عن ذلك علواً كبيراً وسأضرب مثلاً واحداً من كتابه على ما أقول مما لا يُتصور وقوعه من مسلم موحد؛ نقل في كتابه صـ447حكاية عن سيده محمد الحنفي قال: يُحكى أن سيدي= =محمداً الحنفي قدس الله سره فرش سجادته على البحر، وقال لمريده قل: يا حنفي وامش فمشى المريد خلفه فخطر له لم تقول يا حنفي هلا قلت يا ألله؟ فلما قالها غرق فأمسك الشيخ بيده وقال له: أنت الحنفي تعرفه فكيف بالله؟ فإذا عرفت الله فقل يا ألله فقال النبهاني معقباً على القصة: يشير إلى أن الوسائط لا بد منها، فالوسائط ينادُون من مكان قريب فيُجابون، والمريد من مكان بعيد فلا يُجاب فلهذا قيل لولا الواسطة لذهب الموسوط انتهى كلام النبهاني. فتأمل -هداك الله- هذا الشرك الصريح وسوء الظن بالله من هذا القبيح فإذا قال يا ألله واستعان به وحده غرق وإذا استعان بغيره مشى على الماء أيّ باطل هذا؟ فبدل أن يربط هذا المريد بربه ويعرفه بصفاته الجليلة ويجعله يحسن الظن بالله وأنه رؤوف بعبده رحيم سواءً كان مريداً أو أميراً وأنه قريبٌ مجيب(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)(وقال ربكم ادعوني استجب لكم)(أليس الله بكافٍ عبده) إذا به يوسوس له بأن ربه بعيد لا يردُّ عليه حتى يستغيث بغيره ويستعين بسواه ثم قارن بين هذا التعليم والاعتقاد الفاسد وبين تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لمريده ابن عباس: (يا غلام إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) لم يقل له كما قال ذاك الشيخ المشرك: إذا استعنت فاستعن بي وإذا استغثت فاستغث بي حاشاه صلوات الله عليه بل ربط الغلام بربه وأرشده إلى الاستعانة بخالقه وهذا شأن الرسل جميعاً صلوات الله عليهم يربطون الناس ببارئهم(اعبدوا الله مالكم من إله غيره) دون وسائط كما يفتري الصوفية المنحرفون المشركون فهم بهذه القصص الملفَّقة والكرامات المكذوبة يريدون أن يجعلوا الشرك راسخاً في قلوب المريدين ليعبدوهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.(175/154)
بل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال الناس ما يقدرون عليه من إعانة ونحوها مطلقاً حتى مناولة السوط، فقد روى أبو داود بإسناد صحيح عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تكفّل لي أن لا يسأل الناس شيئاً، وأتكفل له بالجنة؟ فقلتُ: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً) إهـ. وروى مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً، فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس وتطيعوا، وأسرَّ كلمة خفيّة: (ولا تسألوا الناس شيئاً) فلقد رأيتُ بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه) إهـ. وروى أحمد بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (لا تسأل الناس شيئاً ولا سوطك وإن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه) إهـ. فإذا كان سؤال ما يقدر عليه الناس الحاضرون حراماً تارةً ومكروهاً أخرى، فكيف بسؤال الأموات والغائبين ما لا يقدر عليه إلاّ الله، مما لا مجال للأسباب فيه، كإعطاء العقيم الأولاد، وجعل المرأة التي تلد الإناث تلد الذكور، ودفع الأعداء، وصد السباع والضباع، وشفاء المريض، وإحياء الميت، وإماتة الحي، وإنزال المطر، وتحريك الساكن وتسكين المتحرك، وما أشبه ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ الله الذي يقول للشيء كن فيكون؟ فكل من دعوته لشيء من ذلك حيّاً أو ميتاً فقد عبدته. والعجب كيف أنهم دفنوا الميت، وقرؤوا على روحه الفاتحة وأهدوها له زعموا ثم بعدها يسألونه الحاجات وتفريج الكربات!!
تحريم البناء على قبور الصالحين وغيرهم(175/155)
ولمّا علم الضالُّون المُضِلُّون من هذه الأمة أن الناس -بفطرتها- لا تلتفت إلى الأموات دأبوا على تزويق القبور ورفعها، وإشادة القباب فوقها، مضاهاة لمن عبد اللات والعزّى. ثم بنوا عليها المساجد زيادة في الإضلال وتغريراً بالجهّال ليصرفوا وجوه الناس إليها مضاهاةً لليهود والنصارى، ومحادّة لله ورسوله، مع علمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد ولعن فاعله وعدّه شر الخلق عند الله، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا مرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية -وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا الحبشة- فذكرن من حسنها وتصاويرها، قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، ثمّ صوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة). قال الحافظ ابن رجب: (هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرّم على انفراده؛ فتصوير صور الآدميين يحرم، وبناء المساجد على القبور بانفراده يحرم، كما دلت عليه نصوص أُخر إلخ كلامه) ذكره في الكواكب الدراري. وروى مسلم وغيره عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: (ألا إنّ مَنْ كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك) إهـ. وروى البخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قالت: فلولا ذاك أُبرز قبره غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجداً. إهـ.تعني عائشة رضي الله عنها بقولها فلولا ذاك أبرز قبره أنه لولا خشية(175/156)
اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم مسجداً ووثناً يعكف عليه الجهّال حال بروزه لهدم الصحابة رضوان الله عليهم جدران حجرة عائشة التي دُفِن فيها صلوات الله عليه حتى يجعلوا قبره بارزاً دون ساتر، ويتعيّن هذا التفسير لأن الصحابة لم يكونوا ليجتهدوا في مكان دفنه صلى الله عليه وسلم وقد احتجّ عليهم أبو بكر رضي الله عنه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قبض الله نبياً قط إلاّ ودفن حيث قبض روحه). وأنت خبير أن بيت عائشة الذي فيه دُفن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إذ ذاك في المسجد. وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذا المعنى عندما قال في نونيته:
ودعا بأن لا يُجعل القبر الذي
فأجاب رب العالمين دعاءه
حتى غدت أرجاؤه بدعائه
والله لولا ذاك أبرز قبره ... قد ضمّه وثناً من الأوثان
وأحاطه بثلاثة الجدران
في عزةٍ وحمايةٍ وصيان
لكنهم حجبوه بالحيطان
ج(175/157)
ولا حُجّة في هذا لمن يبنون القباب على قبور أوليائهم المزعومين لأن دفنه صلى الله عليه وسلم في مكانه ذاك بتوقيفٍ من الله ورسوله. والجدران كانت موجودة أصلاً، ولم يهدمها الصحابة خشية الفتنة بقبره صلى الله عليه وسلم وصيانة له من عكوف الناس عليه، على عكس ما بُني على قبور الأولياء فيما بعد فإنه قُصد به تعظيمهم وجلب الناس إلى قبورهم ومقاماتهم للافتتان بها والدعاء عندها زعموا، فكان فيها من الفتنة ما تعلم؛ من طواف بها، واستلامها وتمريغ الخدود على عتباتها، وإكسائها، والسجود عليها ولها، وطلب الحاجات من أصحابها، والنذر والذبح لهم، خوفاً من بطشهم واستجلاباً لعطفهم، فلا تعجب أن حصل هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر أمّته من دواعيه، فمنع رفع القبور وتجصيصها والكتابة عليها والصلاة إليها، وشد الرحال إليها، وغير ذلك، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم لا يُحذِّر إلاّ من شر فأطاعه المهتدون، وعصاه الضالون المنحرفون اتباعاً لسنن الهالكين من اليهود والنصارى تصديقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتتبعنّ سنن الذين كانوا من قبلكم، حذو النعل بالنعل حتى إن أحدهم لو دخل حجر ضب لدخلتموه). ثم الأصل أن الدفن في الصحراء(في الجبّانة)، فلا زال المسلمون يدفنون موتاهم في البرية الصحابة ومن بعدهم. ولم يكن السلف يحفلون بالقبور؛ من رفعها وتجصيصها بلْه البناء عليها والطواف بها والعكوف عليها، فإنهم رضوان الله عليهم كان دأبهم الجهاد والفتوحات، وكانت هممهم في السماء، فلمّا انتكست فطرة أكثر المتأخرين صارت همَّتهم في الحُفَر، فالتفَتوا إلى هذه الأجداث فأشادوها ورفعوها وزوّقوا بناءها ليفتنوا بها العوام، ويخدعوا أبناء الإسلام، حتى صار أحدهم يتمسّح بهذه الحجارة والأتربة ويرجو تلك الحفرة، مع أن صاحبها قد انقطع عمله بموته، وصار عظاماً نخرة -إلاّ من رحم ربي-فصاروا يطلبون منه وهو المحتاج، ويسألونه ولا يعلمون هل هو ناج!؟ فمنهم(175/158)
من يقول يا رفاعي وآخر يقول يا بدوي وثالث يقول يا جيلاني، والله يقول: (إنّ الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم). فانظر أيها القارئ الفطن بعين الإنصاف هل كان داعي تلك المفاسد إلاّ البناء على القبور، وتزويقها للعامة، واختلاق القصص والكرامات حولها للضحك عليهم؟ وأخْذ ما بجيوبهم؟ فإنا لله! وكيف لا يكون البناء على القبور، وتزويقها، وإشادة القباب فوقها مفسدةً وشراً والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذّر منه ونهى عنه أشد النهي، فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصّص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يُبنى عليه) وزاد أبو داود والترمذي(أو يُزاد عليه، أو يُكتب عليه) إهـ. وروى الطبراني في المعجم الكبير(18/262) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سَوُّوا القبور على وجه الأرض). ورواه أحمد(6/21) وغيره بلفظ: (سَوُّوا قبوركم بالأرض)، وهو حديث حسن وأصله في(مسلم). فالواجب على المسلمين -مَنْ يستطيع منهم- هدم هذه القباب، وتسوية تلك الأجداث، كما هو فعْل النبي صلى الله عليه وسلم وأمْره، ودأب خلفائه الراشدين، وأصحابه المكرمين؛ فعن عبد الله بن شرحبيل بن حسنة قال: رأيتُ عثمانَ بنَ عفان يأمر بتسوية القبور فقيل له: هذا قبر أم عمرو بنت عثمان! فأمر به فسوِّي. رواه ابن أبي شيبة في المصنَف(4/138) وأبو زرعة في تاريخه بسند صحيح.(175/159)
وأخرج مسلم في صحيحه(3/61) وأصحاب السنن عن أبي الهيّاج الأسدي قال: (قال لي عليُّ بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوَّيته). إهـ. ورى الطبراني في المعجم الكبير(19/352/823) بإسناد صحيح أن معاوية رضي الله عنه قال: (إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعتْ اليهود والنصارى فلا تشبهو ا بهما).إهـ. وروى مسلم في صحيحه(3/61) عن ثمامة بن شفي قال: كنّا مع فضالة بن عبيد رضي الله عنه بأرض الروم بـ"رودس"فتوفي صاحبٌ لنا فأمر فضالة بقبره فسوِّي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. إهـ(1) وثمة أدلة كثيرة، وأقوال كثيرة للسلف، ولأئمة الإسلام في هذا الباب يتبيّن منها أن رفع القبر والبناء عليه محرمٌ أشد التحريم لأنه يقود إلى الشرك بل إن مجرد البناء على القبر واعتياد الناس له، للتبرك به، والعبادة عنده،
__________
(1) من هذه الأدلة يتبين لك الخطأ والضلال الذي وقع فيه الصوفية حين قالوا يحرم البناء على قبور عامة المسلمين إلا الصالحين ويعنون بهم شيوخ الصوفية فهؤلاء يجوز البناء على قبورهم فنقول: وهل الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا صالحين حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوي قبورهم ويأمرهم بذلك؟ أم القضية أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأوامره إنما تتوجّه أصلاً إلى الصالحين الذين يعتنون بها ويعملون بها. وهل شيوخ الصوفية أنبياء حتى يُدفَنوا في مساجدهم فنقول: (الأنبياء يدفنون حيث ماتوا) ثم مسألة الصلاح مسألة غيبية لا يعلم حقيقتها إلا الله فلا يجوز الحكم على شخص بعينه أنه من أهل الجنة ومن الناجين دون دليل أصلاً. أم أن الولي الصالح مَنْ كان ثرياً واستطاع البناء على قبره. حتى صار تعريف الولي عند الصوفية هو الذي بُني على قبره قبّة أو دفن في المسجد، نقول نعم من فُعل به ذلك برضاه فهو ولي ولكن للشيطان.(175/160)
يُصيِّره وثناً حتى لو كانت العبادة التي تفعل عنده لله فكيف إذا انضاف إلى ذلك إسراجه وكسوته ووضع العمائم عليه وتبخيره؟ فكيف إذا بُني عليه مسجد؟ فكيف إذا عبده الناس فعكفوا عليه واستغاثوا به حتى قال قائلهم: يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر؟ فكيف إذا طافوا به يوم العيد سبعاً(كحال أتباع الشاذلي بمصر)؟ ولا يستغربن أحدٌ أنْ يُصبح القبر وثناً يُعبد بعد أنْ ثبت أنّ أوثان أهل الجاهلية اللات ووداً وسواعاً وأضرابه إنما هي قبور ومشاهد ومقامات وتماثيل لأولياء صالحين تلك أسماؤهم عكف عليها الضالُّون واستغاثوا بأصحابها وتبرّكوا بأحجارها وترابها، فلا فرق بين قبر اللات وقبر الشاذلي ولا بين قبر ود وقبر الجيلاني فالكل أوثان، فتلك عبادتهم وهذا شركهم الذي بعث الله نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم لإزالته. ولهذا منع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أول الأمر- زيارة القبور مطلقاً. وهدم المشرف منها، وسوّاها بالأرض. وما ذلك إلاّ للتنبيه على أن منشأ الشرك إنما هو اعتياد قبور الصالحين والاحتفاء بها ثمّ بعد أن استقرّ هذا عند الصحابة رضوان الله عليهم أذن في زيارتها –بشروط- وذلك للمصلحة الراجحة المرجوة من تلك الزيارة؛ من تذكرٍ الموت والآخرة، وترقيق القلب، والإحسان للميت بالدعاء والاستغفار له، ومع ذلك فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قيوداً وأرشد إلى أمور بشأن القبور وزيارتها لو التزم بها المسلمون لم يضلوا بعدها -من هذه الناحية- أبداً.
ضوابط الزيارة الشرعية للقبور(175/161)
فمن ذلك أنه جعل القبور خارج المدينة، ثم أمر بتسويتها، ومنع من رفعها وتجصيصها والبناء عليه، وما أشبه ذلك، حتى إنه منع الكتابة عليها، ثم منع بناء المساجد عليها كفعل النصارى وعدّ ذلك من أشنع الأمور كما رأيت ثم منع الصلاة عند القبور مطلقاً، وهذا باتفاق أئمة الدين المعتبرين، ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلى القبور"رواه مسلم 3/62، وقوله: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، وكذلك حديث أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور"رواه البزار(441) وغيره من طرق عن أنس وهو صحيح. ولهذا حكم السلف ببطلان الصلاة عند القبور، وتبعهم على ذلك أئمة الدين؛ قال الإمام أحمد: (من صلى في مقبرة أو إلى قبر أعاد أبداً)(انظر المحلى 4/27). حتى إن صلاة الجنازة-وهي التي لا ركوع فيها ولا سجود- ورد النهي عن أدائها بين القبور كما ثبت من حديث أنس رضي الله عنه: (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أنّ يُصلى على الجنائز بين القبور) أخرجه الطبراني في الأوسط(1/80/2)، وغيره وقال الهيثمي في المجمع(3/36): (إسناده حسن). والأفضل أن تكون في مصلى خاص بها-خارج البنيان- كما هو الحال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتجوز في المسجد. بل يجوز-لمن يحضر الصلاة على الجنازة- أن يصليها على الميت في قبره بعد أن يدفن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة وإنما جازت الصلاة على الميت في قبره لأنه ليس فيها ركوع ولا سجود فتكون مظنة تعظيم الميت وإنما هي دعاء له فحسب. وكما نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عند القبور نهى كذلك عن قراءة القرآن عندها كما في قوله: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" أخرجه مسلم(2/188) ويؤخذ من هذا الحديث كراهة قراءة القرآن في(175/162)
المقابر، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً" أخرجه البخاري(1/420) وترجم له بقوله: (باب كراهية الصلاة في المقابر). والكراهة في الموضعين كراهة تحريم، إذ لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ عند القبور شيئاً من القرآن البتة لا الفاتحة ولا غيرها، ولو أنه قرأ شيئاً من ذلك لنُقل إلينا فإنه ممّا تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل منه شيء دل على أن قراءة القرآن على الأموات غير جائزة، لأن ترْكه صلى الله عليه وسلم لشيء من القربات دينٌ، وفِعْله لشيء منها دين، فالواجب اتباعه صلى الله عليه وسلم في الحالين؛ في الترك والفعل، إذ الكل دين، وقد وصلنا الدين كاملاً محفوظاً، وليس منه قراءة القرآن للأموات عند القبور بل ولا في البيوت،(وما كان ربك نسياً). هذا وربما قال بعض الجهلة: قد علمنا أن قراءة القرآن للأموات ليست من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته ولكن قراءة حرف من القرآن حسنة والحسنة بعشر أمثالها فنحن نقرؤه للأموات رحمة لهم ! فيقال لهؤلاء وأضرابهم: قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أرحم الأمة بالأمة بل ما أُرسل إلا رحمة للعالمين، وقد علمتم أن الأموات في عهده بحاجة إلى الرحمة-مثل كل الناس- ومع ذلك لم يكن يقرأ لهم شيئاً من القرآن مع وجود المقتضى بل كان إذا ذهب إلى مقبرة البقيع دعا لهم بالمغفرة ونحوها، ولم يقرأ الفاتحة ولا غيرها، فهذا يدل على أحد ثلاثة أشياء؛ إما أنه صلى الله عليه وسلم مُقصِّرٌ، أو أنه لم يهتد إلى ما اهتديتم إليه أيها المبتدعون، أو أن هذا الأمر غير مشروع إذ لو كان مشروعاً لفعله إذ هو مبلغ هذا الدين ومبيّنه. والأمران الأوّلان منتفيان عنه صلى الله عليه وسلم بالضرورة، فلم يبق إلا أن هذا الأمر غير مشروع وهذا قول جمهو ر العلماء(1)
__________
(1) قال بعض علماء الأصول بعد ذكره قاعدة أصولية نفيسة: "قراءة القرآن على القبور رحمة بالميت، تركه النبي صلى الله عليه وسلم وتركه الصحابة مع قيام المقتضى للفعل، والشفقة للميت وعدم المانع منه، فبمقتضى القاعدة المذكورة يكون تركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة! وكيف يُعقل أن يترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً نافعاً لأمته يعود عليها بالرحمة ويتركه الرسول صلى الله عليه وسلم طول حياته ولا يقرؤه على ميت مرة واحدة فلنتأس به في الفعل كما نتأسى به في الترك"إه. واعلم أن هذا هو مذهب الجمهور فأكثر العلماء لا يجيزون قراءة الفاتحة وغيرها للميت ولنذكر بعض أقوال أئمة المذاهب والعجيب أن الشيوخ المقلدين يكتمون هذا العلم ولا يقولونه للناس؛ مذهب أبي حنيفة: قال في الفقه الأكبر للإمام ملا علي القاري الحنفي صـ110 ثم القراء ة عند القبور مكروهة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله في رواية لأنه محدث لم ترد به السنة وكذلك قال شارح الإحياء ج3ص280. مذهب الشافعي: قال الإمام ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)"ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولو كان خيراً لسبقوا إليه، وباب القُربات يُقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف منه بأنواع الأقيسة والآراء. فأما الدعاء والصدقة فذلك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما"إه. وقال النووي في شرح صحيح مسلم في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت: "والمشهور من مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها". وقال في شرح حديث(إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلخ): "وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت والصلاة عنه= =ونحوها فمذهب الشافعي وجمهور العلماء أنها لا تلحق الميت"إه. فانظر هذا الإمام النووي يحكي أن عدم قراءة الفاتحة وغيرها للميت هو مذهب الجمهور، أي إنها بدعة. وسئل العز بن عبد السلام عن ثواب القراءة المهدى للميت هل يصل أو لا؟ فأجاب بقوله: ثواب القراءة مقصور على القارىء ولا يصل إلى غيره. قال: والعجب من الناس من يثبت ذلك بالمنامات وليست المنامات من الحجج إه. مذهب المالكية: قال الشيخ ابن أبي جمرة: إن القراءة عند المقابر بدعة وليست بسنة. كذا في المدخل. وقال الشيخ الدردير في كتابه الشرح الصغير(1/180) وكره قراءة شيء من القرآن عند الموت وبعده وعلى القبور لأنه ليس من عمل السلف وإنما كان من شأنهم الدعاء بالمغفرة والرحمة والاتعاظ إه. وكذلك في حاشية العلامة العدوي على شرح أبي الحسن. مذهب الحنابلة: قال الإمام أحمد لمن رآه يقرأ على القبر: يا هذا إن قراءة القرآن على القبر بدعة. وهو قول جمهور السلف وعليه قدماء أصحابه. وقال أيضاً: والقراءة على الميت بعد موته بدعة. وقال: ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجوا تطوعاً أو قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى موتى المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف وأما حديث"اقرءوا على موتاكم يس" فهو حديث معلول مضطرب الإسناد مجهول السند. وعلى فرض صحته فلا دلالة فيه قطعاً فإن المراد من قوله"موتاكم" أي من حضرته مقدمات الموت(هذا مثل لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله أي مَنْ حضره الموت حتى تكون آخر كلامه). وقال في شرح الإقناع: (قال الأكثر: لا يصل إلى الميت ثواب القراءة وأن ذلك لفاعله) إه. قال الشيخ العلامة رشيد رضا في تفسير المنار عند قوله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) الآية 164من سورة الأنعام: "إن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقاف على ذلك بدع غير مشروعة ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ولو كان لها أصل في الدين لما جهلها السلف ولو علموها لما أهملوا العمل بها. وإن حديث قراءة سورة يس على الموتى غير صحيح وإن أُريد به من حضره الموت وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط كما قال بذلك المحدث الدارقطني. واعلم أن ما اشتهر وعمّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية، ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو= =الفرائض المحتّمة. قال: وخلاصة القول أن المسألة من الأمور التعبدية التي يجب فيها الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة وعمل الصدر الأول من السلف الصالح. ثم نقل عن الحافظ ابن حجر أنه سُئل عمن قرأ شيئاً من القرآن وقال في دعائه: اللهم اجعل ثواب ما قرأته زيادة في شرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال فأجاب بقوله: هذا مخترع من متأخري القراء لا أعرف لهم سلفاً" اهـ انظر حكم القراءة للأموات لمحمد أحمد بن عبد السلام من علماء مصر.قلت: ومن البدع الشنيعة قراءة القرآن على مكبرات الصوت في العزاء في بعض البلدان بحيث ما إن تسمع ذلك حتى تعلم بحدوث ميتة حتى صار بعض الناس يتشاءمون كلما سمعوا قرآناً عبر المكبرات والله المستعان.(175/163)
ويتعين ذلك تمشّياً مع منعه صلى الله عليه وسلم الصلاة عند القبور درءاً للمفسدة حتى لا تُتخذ القبور مساجد وأوثاناً، وهذا من الضوابط التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن القبور-وغفل عنها المبتدعة- ونحن بصدد بيان هذه الضوابط والقيود التي تحفظ على المسلمين عقيدتهم الصافية ودينهم القويم فلا يخوضوا كما خاض الذين من قبلهم فيهلكوا. ومن هذه الضوابط أنه لما كانت النساء ناقصات عقل ودين، ولا يتأتى منهن الصبر والتقوى غالباً بما يظهرن من النياحة والأقوال والأفعال التي تسخط الرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحداهن -وقد وجدها عند قبر تبكي-: (اتقي الله واصبري) رواه البخاري(3/115) ومسلم. فكيف لو وجدها تستغيث بصاحب القبر وتدعوه؟ أو وجدها تتمسح بالقبر وتلتزمه ترجو أن يُوهب لها الولد؟ أو وجدها تأخذ من ستائر القبر أو ترابه تميمة تتبرك به؟ فمن أجل ما يتوقع من فعْل مثل هذا -أو أقل من هذا- من النساء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوّارات القبور) وهو حديث مشهور، مروي عن جماعة من الصحابة، رواه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم. واختلف العلماء هل القصد منه منع النساء من زيارة القبور مطلقاً، أم اللعن يتوجه للمكثرات منها؟ على قولين. ومن القيود التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم للزائرين أن لا يقولوا عند زيارتها هجراً فقال: (زوروا القبور، ولا تقولوا هجراً) رواه ابن ماجة عن زيد ورواه مسلم(3/65)عن بريدة. ونهى كذلك عن أي قول -عندها- يسخط الرب سبحانه وتعالى فقال: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة، ولا تقولوا ما يسخط الرب) إهـ أخرجه احمد(3/38) والحاكم. ولا شك أن من أعظم الهجر، وأعظم ما يسخط الرب الاستغاثة بالميت وطلب الحاجات منه والتوسل به، ولا يخفى أن فعْل هذا مشاقة لله ورسوله، وانتكاس للفطرة التي فطر الله عليها العباد. ومن القيود التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم بشأن(175/164)
القبور تحريم الذبح عندها فقال عليه الصلاة والسلام: (لا عقْر في الإسلام) قال عبد الرزاق بن همام: كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة إه. أخرجه أبو داود(2/77) وأحمد وغيرهم. وهذا التحريم في حال كان الذبح هناك لله، أما إذا كان الذبح لصاحب القبر، فيصبح عندها شركاً وكفراً والعياذ بالله وتحرم الذبيحة في الحالين ولا يجوز أكل لحمها، لا سيما في الحالة الثانية حتى لو كان الذبح في البيوت لأنه مما أهل به لغير الله(أو فسقاً أهل لغير الله به) وهذا ما يفعله كثير من الضالين في هذا الزمن، يذبحون باسم الشيخ الفلاني ولوجهه، ومقصودهم التقرب إليه، لاكتفاء شره، ودفع ضره، أو ليقضي لهم بعض الحاجات المستعصية، أو نذراً له، وما أشبه ذلك، وربما ذبح أحدهم باسم الله، ولكن أهداها لله والشيخ؛ كأن يقول: لوجه الله ووجه الشيخ عبد القادر!! وربما لم يشرك الله مع الشيخ في الهدية بل يجعلها خالصة لوجه الشيخ تقرباً إليه بحيث لا يصل إلى الله منها شيء كحال مشركي الجاهلية، وكل هذه الأنواع من الذبائح شرك بالله وكفر به وفاعلها متعرض للعنة الله وسخطه؛ قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من ذبح لغير الله) أخرجه مسلم(6/84). ومن القيود التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن القبور حتى لا تصبح أوثاناً تعبد تحريم شد الرحل إليها واعتيادها، فقال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى) أخرجه البخاري وغيره. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وحيثما كنتم فصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني) أخرجه أبو داود(1/319) وأحمد بإسناد حسن وله شواهد كثيرة. فإذا نهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذ قبره -وهو أفضل القبور- عيداً فكيف بقبر غيره؟ واتخاذ القبر عيداً يتم باعتياد زيارته وكثرة الاختلاف إليه، والمجيء إليه في مواسم خاصة، يتجمع فيها الرجال(175/165)
والنساء حول ذلك القبر بل ربما كان موسمهم واعتيادهم للقبر في عيد الأضحى-يوم النحر- فيطوفون به سبعاً، ويكسونه، ويذبحون عنده الهدايا والنذور، ويبقون عنده كل أيام التشريق، كما هو حاصل في مصر عند قبر الشاذلي وغيره، وكما هو حاصل في بعض البلدان الأخرى ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الفوائد المرجوة من زيارة القبور
ومع الضوابط والقيود التي وضعها الله سبحانه وتعالى حول القبور وزيارتها تتحقق الفائدة المرجوّة من زيارة القبور، وتحصل الغاية التي من أجلها كانت الزيارة أصلاً وهي الاتعاظ والاعتبار، وتذكر الموت والآخرة، ثم الدعاء للميت المقبور، الذي انقطع عمله بموته، وصار بحاجة لدعوة صالحة تَلحقه من بعده، فلأجل هذه المصالح الراجحة أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالزيارة فقال: (إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة، ولْتزدكم زيارتها خيراً).رواه أحمد(5/350)، ورواه النسائي(1/285) وزاد: (فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا) إه. وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة، ولا تقولوا ما يسخط الرب). أخرجه أحمد(3/38) والحاكم وغيره. وقال أيضاً: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجراً) اهـ. رواه الحاكم(1/376) بسند حسن. ومما قاله صلى الله عليه وسلم أيضاً: (زوروا القبور فإنها تذكر الموت) أخرجه مسلم(3/65). فالفوائد المرجوة للزائر -وفق هذه الأحاديث- هي: 1-تذكر الموت. 2-تذكر الآخرة. 3-العبرة والعظة. 4-رقة القلب. 5-إدماع العين. 6-الازدياد خيراً بهذه الزيارة لعلها تكون حافزاً على فعل الخيرات، وترك المنكرات. فضلاً عن أنها طاعة لله ورسوله واتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. أما الفائدة المرجوة للميت من هذه الزيارة. فهي الإحسان إليه بالدعاء والاستغفار له، فعن عائشة رضي الله عنها: (أنّ النبي(175/166)
صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع، فيدعو لهم، فسألته عائشة عن ذلك؟ فقال: إني أُمرت أن أدعو لهم) أخرجه أحمد(6/252) بسند صحيح على شرط الشيخين. وروى مسلم(3/14) وغيره أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: (إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) إه.
ما يقوله زائر القبور
ولم يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم هملاً، يقولون ما يشاءون عند زيارة القبور، فبعد أن نهاهم عن الصلاة عندها وقراءة القرآن، ونهاهم عن الهجر وعمّا يسخط الرب من القول والفعل أمرهم أن يقولوا لدى الزيارة أشياء تنفع الميت، وتبدأ هذه الأقوال من لحظة الدفن فقد"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل". أخرجه أبو داود(2/70) والحاكم(1/370) وقال صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي ثم كان إذا زار ليلاً أو نهاراً قال وأمرهم أن يقولوا:
1-(السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) أخرجه مسلم(3/14).
2-(السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية) أخرجه مسلم(3/65) والنسائي وزاد بعد قوله لاحقون: (أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع) إه.
3-(السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا وإياكم وما توعدون غداً مؤجَّلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) أخرجه مسلم(3/63).(175/167)
4-(عليك السلام) تحية الموتى. رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح. قال الآلوسي المفسر صاحب روح المعاني كما ينقل ولده العلامة نعمان في محاكمة الأحمدين ص520 بعد ذكر بعض الأحاديث السابقة: (ويُعلم من ذلك أن الغرض من الزيارة المشروعة نفع الميت لا الانتقاع به من نحو فيض أو غيره كما يزعمه كثير من الناس. فقد قالوا من تمام الزيارة لقبور الصالحين أن يعلق الزائر همته وروحه بالميت؛ لينعكس إليه ما يفاض على روحه من الأنوار التي لم تزل تفاض على روحه القدسية. فإنه بواسطة هذا التعليق والربط تكون الروحان كمرآتين متقابلتين، ينعكس على إحداهما ما يشرق على الأخرى، وهذا زعم باطل لم يثبت بكتاب أو سنة، ولا نعلم أن أحداً من سلف الأمة ادعاه، ومن ادعى ذلك فعليه البيان كائناً من كان. بل قال بعض الأجلة: إنه لا ينبغي أن يدعو لغير الميت عند القبر، ولا يتوسل بصاحب القبر وإن جل فلم يكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفعلون ذلك وهم الذين ألزمهم الله تعالى كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع اهـ
وفيه رد على ما ذكر ابن سينا والرازي وغيره وإنما تلك الزيارة زيارة المشركين وما نحن بصدده زيارة المسلمين.
هدْي النبي صلى الله عليه وسلم هو المَنْجا من مظاهر الشرك والوثنية وسجود الصوفية لقبور شيوخهم(175/168)
هذا هو هدْي النبي صلى الله عليه وسلم بشأن القبور وزيارتها، جمع الخير من أطرافه، ففيه الحفاظ على عقيدة التوحيد، وفيه نفع المسلم حياً وميتاً، وإذا ما التزم المسلم بهذا الهدي، فإنه يضم إلى هذه الفوائد والمصالح العظيمة فائدة جليلة فيها الأجر العميم ألا وهي الإحسان إلى نفسه بمتابعة السنة، والوقوف عند أوامر الله ونواهيه، وإن أدنى مخالفة لهذا الهدي تُصيِّر القبر وثناً، كقبر اللات وإخوانه، وكقبور النصارى، وتجعل فاعل المخالفة واقعاً في الشرك. فبرفع القبر وتشييده ووضع الستور عليه يصبح ذلك القبر وثناً. ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد(1) لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.(2)
__________
(1) وقد استجاب الله سبحانه دعاء نبيه فحفظ قبره من أن يتخذه الجهال والغلاة وثناً ولهذا لم يهدم الصحابة رضوان الله عليهم -بتوفيقٍ من الله- جدران حجرة عائشة التي دُفن فيها صلوات الله عليه لئلا يبرز قبره فيعكف عليه الناس بل أبقوه مستوراً خلف الجدران لدرء الفتنة ومن أبين الأدلة على استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم تخصيصُ مَنْ يحرس قبره صلوات الله عليه في هذا العصر كما هو مشاهد الآن -والحمد لله- ومنع غلاة الناس وذوي الأهواء من التمسح به أو الطواف به والسجود له ونحو ذلك مما يفعله الضالون في غير قبره عليه السلام كما هو حاصل الآن في كثير من البلدان والله المستعان.
(2) اتخاذ القبر مسجداً بينه الحديث الآخر: (إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً) الحديث. رواه مسلم. فثبت منه أن مجرد بناء مسجد على القبر هو اتخاذ لذلك القبر مسجداً ويدخل في ذلك الصلاة في مثل هذا المسجد، حتى لو كان القبر في أقصى المسجد. وكذلك الصلاة والسجود عند القبر يعدّ اتخاذاً لهذا القبر مسجداً حتى لو لم يُبنَ عليه. أما السجود لصاحب القبر تعظيماً له فهذا أعظم من أن يحَّذر منه ولا يكاد يتصور وقوعه، ولم أكن لأصدق ذلك لولا أني رأيت بأم عيني أتباع النبهاني المدفون بحلب يسجدون له-عكس اتجاه القبلة- أسفل القبر المرتفع، مع تقبيل الأرض وتمريغ الوجه، وبعدها يطوف الواحد منهم بالقبر ثم يرجع القهقرى حتى لا يولي ظهره للشيخ الهالك. ولما ناظرتُ بعض شيوخهم ونصحته بالتوبة من هذا الشرك الصريح قال: إن هذا من التبرك. فقلت: الله أكبر! هذا كمن يشرب الخمر ويسميها مشروبات روحية. فإذا لم يكن السجود للقبر(وبعكس القبلة) شركاً فلا يوجد في الدنيا شرك. وإذا كان النبي صلى الله عليه= =وسلم قد نهى عن انحناء الرجل لأخيه في التحية وأمرهم بالمصافحة فكيف بالسجود؟! وقد علمتَ قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"الحديث. وقوله في حديث أنس: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر"/صحيح جامع السيوطي للألباني/. هذا مع أن الله سبحانه وتعالى لم يكلفنا في السجود له أن نقبل الأرض أو أن نمرغ خدودنا، بل السجود على الجبهة والأنف وحسب وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث الشفاعة- عندما يذهب إلى ربه قال: فإذا رأيت ربي سجدت له. ولم يقل أقبل الأرض أو أعفِّر وجهي وأمرِّغ خدي كما تفعلون أنتم عند إلهكم النبهاني الهالك(الذي كان يقول بوحدة الوجود وبإيمان فرعون ونجاته ويقول بعقيدة القطب الغوث المتصرف وغيرها من الزندقات والعقائد الكفرية التي لقنكموها)، ثمّ إن المصلي يكون الله في قبلته ومع هذا فإذا سلم من صلاته انصرف عن يمينه أو عن شماله، ولا يرجع القهقرى كما تفعلون أنتم عند قبر النبهاني، فأي شرك أعظم من هذا؟ بل تعظيمكم للنبهاني أشد من تعظيمكم لله وخشوعكم عند قبره لا يقاس بخشوعكم في الصلاة، هذا مع اعتقادكم أنه المتصرف فيكم بل في الكون كما تزعمون. وكنتُ رأيت وثناً في إحدى القرى يُطاف به سبع مرات، ذلك أن الشيطان تمثّل لبعض أهل القرية بصورة رجل صالح زعم وأمرهم أن يبنوا له مقاماً، فبادروا إلى نصب حجارة ونضدوها فوق بعضها على هيئة القبر وسوَّروها ثم نصبوا عند رأس المقام المزعوم رايات من القماش الأخضر الرخيص(وأسموا هذا الوثن مزاراً أو زيارة) فيأتي أهل القرية بقطعان الماشية فيطوِّفونها حول الوثن سبع مرات. قال لي بعض رعاتهم: ربما طافت النعجة من القطيع ونفرت ولم تكمل فنأتي بها ونطوِّفها حتى نكمل بها سبعاً. ثم يذبحون ذبيحة للوثن ويأخذون قطعاً من قماش راية الوثن تمائم وهكذا يدعون عنده ويطلبون حاجاتهم، وهم مع ذلك لا يصلي أكثرهم ولا مسجد عندهم مع أن القرية كبيرة. وكنت قد استأجرت هناك أرضاً للزراعة فلا زلت أدعوهم وأعظهم وأبين لهم التوحيد، وأحذرهم من الشرك، حتى قذف الله الحق في قلوبهم، فأذنوا بإزالة الوثن، وساعدوني بسيارة كبيرة، فحملنا تلك الحجارة، وكانت كثيرة تراكمت منذ سنين، حتى لم أغادر منها حجراً، وحين فرغت منها رفعت الأذان لئلا تقوم بعدها لهذا الوثن -إن شاء الله- قائمة، فأصبحتْ كأنْ لم تغن بالأمس. ثم حملت تلك الحجارة الكثيرة فوضعتها في وسط القرية أساساً لمسجد لم يلبثْ أن رُفع بفضل الله وعونه= =وأسأله سبحانه أن يوفق من يزيل وثن النبهاني ووثن الخزنوي وسائر الأوثان التي تعج بها كثير من البلاد والله المستعان. قال الشيخ أبو الحسن الندوي في تعليقاته على كتاب التوحيد للدهلوي صـ56: "قد اتفق علماء الإسلام قديماً وحديثاً، وكل من يحتج بقوله وعمله من الفقهاء والداعين إلى الله، على أن السجود-سواء سجود العبادة أو سجود التحية والتعظيم- لا يجوز إلا لله تعالى، هذا عدا الأحاديث الصحيحة التي بلغت حد الاستفاضة، وقد صرح فقهاء المذهب الحنفي وأئمته بحرمة سجود التحية، وأفتى بعضهم بكفر من يفعل ذلك، قال شمس الأئمة السرخسي في المبسوط: (من سجد لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر) وقال العلامة ابن عابدين في رد المحتار ج5 ص178: "يكفر بالسجدة مطلقاً"وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في الإعلام بقواطع الإسلام: "ما يفعله كثيرون من الجهلة الظالمين من السجود بين يدي المشايخ، فإن ذلك حرام قطعاً بكل حال، سواء كان للقبلة أو لغيرها، وسواء قصد السجود لله تعالى، أو غفل"إه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من دعا ميتاً أو طلب منه الرزق والنصر والهداية وتوكل عليه وسجد له فإنه يستتاب فإن تاب وإلا ضُربت عنقه"إه.(175/169)
رواه أحمد(2/246) وغيره بإسناد صحيح. ففي هذا الحديث أكبر الدليل على أن القبر قد يصبح وثناً يعبد، ويؤخذ منه أن قبور الأولياء ومشاهدهم التي بني عليها وزوِّقت إنما هي أوثان، وأن الذين يعتادونها للتبرك بها إنما هم مشركون وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون. يقول الشيخ إسماعيل بن عبد الغني بن ولي الله الدهلوي الشهيد: "إن الله سبحانه خصص بعض أعمال التعظيم لنفسه، وهي التي تسمى(عبادة) كالسجود والركوع، والوقوف بخشوع، وتواضع(مثلاً يضع يده اليمنى على اليسرى) وإنفاق المال باسم من يعتقد فيه الصلاح أو العظمة، والصوم له، وقصد قبره من أنحاء بعيدة، وشد الرحل إليه بوجه يعرف كل من رآه أنه يؤم قبره حاجاً زائراًَ، والهتاف باسمه في الطريق كالتلبية، والتجنب من الرفث والفسوق، والقنص وصيد الحيوانات، ويمضي بهذه الآداب والقيود، ويطوف بالقبر ويسجد إليه ويسوق الهدي إليه، وينذر النذور هناك، ويكسو ذلك القبر، كما تكسى الكعبة، والوقوف على عتبته، والإقبال على الدعاء والاستغاثة، والسؤال لتحقيق مطالب الدنيا والآخرة وبلوغ الأماني، وتقبيل حجر من أحجار هذا القبر والالتزام بجداره، والتمسك بأستاره، وإنارة السرج والمصابيح حوله تعظيماً وتعبداً، والاشتغال بسدانته، والقيام بجميع الأعمال التي يقوم بها السدنة من كنس وإنارة، وفرش وسقاية، وتهيئة أسباب الوضوء والغسل، وشرب ماء بئره تبركاً، وصبه على الجسم، وتوزيعه على الناس وحمله إلى من لم يحضر، واحترام الغابة التي تحيط به، والتأدب معها فلا يقتل صيدها ولا يعضد شجرها، ولا يختلي خلاها ولا يرعى ماشية في حماها. كل هذه الأعمال علّمها رب العالمين عباده، وأفردها لنفسه فمن أتى بها لشيخ طريقة، أو نبي، أو جني، أو لقبر محقَّق، أو مزوّر، أو لنصب، أو لمكان عبادة وعكف فيها أحد الصالحين على العبادة والذكر والرياضة، أو لبيت أو لقبر، أو لأثر من آثار أحد الصالحين، يتبرك به، أو شعار يعرف به،(175/170)
أو يسجد لتابوت أو يركع له، أو يصوم باسمه، أو يقف أمامه خاشعاً متواضعاً، واضعاً إحدى يديه على الأخرى، أو يقرِّب له حيواناً، أو يؤم بيتاً أو قبراً من هذه البيوت أو القبور من بعيد فيشدّ إليه الرحل، أويوقد السرج فيه تعظيماً وتعبداً، أويكسوه بكسوة(كما تكسى الكعبة) أو يضع على الضريح ستوراً، أو يغرز علماً، أو عوداً باسمه، وإذا رجع رجع على أعقابه، أو يقبِّل القبر، أو يحرك عليه المراوح، ليذب الذباب، كما يفعل الخدم مع أسيادهم الأحياء (صاروا الآن يضعون في هذه الأوثان المراوح الكهربائية أو المكيفات كما في مرقد الخزنوية الوثني)، أو ينصب عليه سرادقاً أو يقبِّل عتبته أو يضع اليمنى على اليسرى، ويتضرع إليه، أو يجلس على ضريح سادناً وقيماً، ويتأدب مع ما يحيط به من أشجار وآجام، وأعشاب، فلا يتعرض لها بإهانة أو إزالة، إلى غير ذلك من الأعمال والالتزامات، فقد تحقّق عليه الشرك، ويسمى(إشراكاً في العبادة) سواء اعتقد أن هذه الأشياء تستحق التعظيم بنفسها، وأنها جديرة بذلك، أو اعتقد أن رضا الله في تعظيم هذه الأشياء، وأن الله يفرِّج الكرب ببركة هذا التعظيم"إهـ من التوحيد صـ23 بترجمة الندوي. قلت ولا عجب أن يسمي النبي صلى الله عليه وسلم القبر المخالف لهديه وثناً، ولا عجب أن تسمى الأشياء التي تفعل عنده شركاً، فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من ذلك شركاً، فعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بالكفر، وللمشركين سدرة(أي شجرة من السدر) يعكفون عندها وينوطون(أي يعلقون) بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا يارسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر ! إنها السنن قلتم -والذي نفسي بيده-كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. لتركبن سنن من كان(175/171)
قبلكم"إه. رواه الترمذي(6/407) وصححه. وأحمد(5/218) وإسناده صحيح. قال الشيخ محمد تقي الدين الهلالي في كتابه(الحسام الماحق/22): "تأمّل أيها الموفق لاتباع كتاب الله وسنة رسوله، المحقق لتوحيد الله هذا الحديث تجد فيه مسائل: الأولى: أن من قلّ علمه ولو من أهل القرون الأولى المصاحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد يلتبس عليه الأمر وتخفى عليه بعض أنواع الشرك فلا يعصمه من الوقوع فيه إلا الاستنارة بأنوار السنة المحمدية والرجوع الى كتاب الله وبيان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعل أبو واقد وأصحابه فإنهم حين ظنوا أن التبرك بشجرة يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بأس به ولا ينافي التوحيد، ولا يتعارض مع قول(لا إله إلا اله) فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم مؤكداً إخبارهم بالقسم ومكبراً، استعظاماً لذلك الأمر: أنّ ما سألوه هو عين ما سأله قوم موسى، وهو الشرك الأكبر الموجب للخلود في جهنم. والثانية: أنه لا عبرة بالأسماء وإنما العبرة بالمسميات فإنهم لم يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا إلهاً نعبده من هذه الشجرة بتعليق أسلحتنا في أغصانها والتبرك بالجلوس عندها، بل قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط، فأخبرهم وأكد لهم أن ذلك اتخاذ لتلك الشجرة إلهاً(قلت: فكيف باتخاذ القبور أوثاناً) الثالثة: أن العبادة غير منحصرة في السجود والركوع والدعاء والاستغاثة والاستعاذة، بل كل قول أو عمل عظم به غير الله تعالى رجاء النفع، وإن كان من الأماكن التي مر بها نبي أو صالح، هو عبادة لذلك المكان، ولا ينفع عابده زعمه أنه يتبرك بمكان كان فيه نبي فضلاً عن غيره، فتقبيل التوابيت والقبور والطواف بها والتمسح بها وأخذ ترابها للشفاء كل ذلك عبادة وشرك بالله تعالى. الرابعة: فإن قيل هل أشرك أبو واقد وأصحابه لما خطر ببالهم ذلك؟ قلنا: لا لأن الله تعالى لا يؤاخذ على الخواطر وما وسوست به النفس(175/172)
مالم يعتقده الإنسان أو يتكلم به أو يعمله فإن قيل: لو أقدموا على ذلك ولم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل كانوا يشركون؟ فالجواب: أن ذلك مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم(قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى) ولكنهم أجلّ-ولوكانوا حديثي عهد بكفر-من أن يقدموا على مثل ذلك أو أقل منه بلا دليل قاطع من كتاب الله وسنة رسوله، فليعتبر بذلك الذين يسمون أنفسهم علماء ويبيحون اتخاذ المواسم والأعياد عند القبور والقباب، ويحضرونها بأنفسهم، ويأكلون من القرابين التي تذبح عندها، وهي مما أهلّ لغير الله به ويشاركون العوام في الابتهال والتضرع للأوثان فبعداً للقوم الظالمين فما تركوا للجهال إذاً !! الخامسة: من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم من قوله"إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم" أي لتتبعن طريقهم في بدعهم ومعاصيهم وشركهم وكفرهم، فنعوذ بالله من العصيان بعد الطاعة، ومن الخذلان وعمى البصيرة"اهـ.وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في(إغاثة اللهفان/246): "إن الشيطان بخفي كيده يحسِّن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده، وأوقات الأسحار، فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى: من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك(وذكر النصوص عن أبي حنيفة وغيره في تحريم ذلك ثم قال:) فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجع في قضاء حاجته، نقله درجةً أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله، ثم ينقله بعد ذلك درجةً أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً، ويعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به وتقبيله، واستلامه، والحج إليه، والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً وأن ذلك(175/173)
أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. قال شيخنا رحمه الله(يعني شيخ الإسلام ابن تيمية): وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب، أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس، قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل الشيطان لهم في صورة الميت، أو الغائب كما يتمثل لعبّاد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين، وأهل الكتاب، يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحياناً، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر، والتمسح به وتقبيله..إلخ"إهـ(1) فبعد الذي قدّمنا لا ينبغي أن يقال: إن الشرك لا مدخل له على أهل الإسلام بحال. فإن
__________
(1) وممن كفّر من العلماء الماضين هؤلاء القبوريين -كالخزنوية وأتباع قبر النبهاني الحلبي وغيرهم- شيخ الإسلام الإمام أبو الوفا بن عقيل قال: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهُلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي= =كذا وكذا وأخذ تربتها تبركاً وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها وإلقاء الخِرَق على الشجر اقتداءً بمن عبد اللات والعزى والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف ويتمسح بآجرّة مسجد الملموسة يوم الأربعاء ولم يقل الحمالون على جنازته: الصديق أبو بكر ، أو محمد أو علي أو لم يعقد على قبر أبيه أزجاً بالجص والآجرِّ ولم يخرق ثيابه إلى الذيل ولم يُرِق ماء الورد على القبر) إهـ نقله ابن القيم في إغاثة اللهفان صـ223وظهر منه أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم ينفرد بتحريم شد الرحل إلى القبور -كما يزعم بعضهم- بل سبقه إليه ابن عقيل -كما ترى- وكذلك سبقه ابن بطة في الإبانة الصغرى وغيرهم كما اعترف صاحب شواهد الحق.(175/174)
تهافت هذا القول وبطلانه ظاهر للعيان، ويكفي في رده قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم)، وقد علمتَ سننهم، وكيف صار إليها ناس من المسلمين، ثم إن الشيطان حي، يسعى على الدوام لإضلال الناس، وحملهم على الشرك، فالواجب على المسلمين الحذر منه، ومن تسويلاته، وأنت تلاحظ أن أكثر سكان الأرض هم مشركون، وقد علمتَ أن أوثان الأولين إنما هي قبور صالحيهم ورموزهم، لذا كان الواجب سد الطرق والذرائع المؤدية إلى الشرك، ولا يتم هذا إلا بالتقيد بالضوابط التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن القبور، وغيرها، والتي تحفظ على المسلمين عقيدتهم الصافية، ودينهم الحنيف(1)
__________
(1) ولنذكر آراء بعض المستشرقين في هذا الباب لترى أنهم أدركوا مالم يدركه كثير من علماء المسلمين وقد يصْدُق الشيطان وهو كذوب يقول جوتيه في كتابه المدخل صـ158: (وتقديس الأولياء إلى درجة قد تقرب من العبادة الذي نراه انتشر بعد في جميع الأقطار الإسلامية يشير في الحقيقة إلى رد فعل من الأمم والشعوب التي فتحها الإسلام ضد العقلية الإسلامية التي لا تسلم بوسطاء أو شفعاء لدى الله. إنه لم يَثُرْ ضد إجلال الأولياء والرسول إلى ما يقرب من العبادة أي ضد هذا التغيير الخطير في العقلية الإسلامية الأولى إلا طائفة الوهابية) إهـ.ويقول المستشرق لين في كتابه "المصريون المُحْدَثون" صـ167: (ويزور المصريون الأضرحة معتقدين أنهم سينزلون= =عليهم البركات، إما بقصد التماس البرء من مرض، أو طلب النسل، ويعتبر المسلمون أولياءهم المتوفين شفعاء لهم عند الله، ويقدمون لهم النذور . وقد جرت العادة أن يقوم المسلمون كما كان يفعل اليهود بتجديد بناء قبور أوليائهم وتبييضها وزخرفتها وتغطية التركيبة و التابوت أحياناً بغطاء جديد وأكثر هؤلاء يفعلون ذلك رياء كما يفعل اليهود) إهـ.ويقول جولدزيهر في كتابه(العقيدة والشريعة)صـ234: (بقي كثير من عناصر الديانات السابقة للإسلام، واستأنفت حياتها في المظاهر العديدة الخاصة بتقديس الأولياء، وفي الحق ليس من شيء أشد خروجاً على السنة القديمة من هذا التقديس المبتدع المفسد لجوهر الإسلام والماسح لحقيقته، وإن السني الصادق الحريص على اتباع السنة لا بد أن يعده من قبيل الشرك الذي يستثير كراهيته واشمئزازه..وأضرحة الأولياء والأماكن المقدسة الأخرى هي موضع عبادتهم التي يرتبط بها أحياناً ما يظهره العامة من تقديس وثني غليظ لبعض الآثار والمخلّفات، بل إن العامة تخصّ الأضرحة ذاتها بما لا يقل عن العبادة المحضة. ويخشى الواحد منهم أن يحنث في يمين حلف فيه باسم الولي أكثر مما يحمر خجلاً عندما يحلف بالله باطلاً)ويقول رونلدس في كتابه(عقيدة الشيعة) صـ266: (بالرغم من التوحيد المصرح به في القرآن فإن الأمم الإسلامية لا زالت تحتفظ بكثير من العادات الوثنية؛ فإن من أهم الصفحات في الحياة الدنيا للعوام في كثير من الأمم الإسلامية هو تقديسهم لقبور الصالحين، وفي هاتين القضيتين ساير العلماء المُحْدَثون اندفاع الرأي العام، وقد أصبح لكل قوم أئمة محليون يزورون قبورهم وآثارهم، فيفرح ذلك الإمام ويشفع لهم وينجيهم من الفقر والمرض) إه. ويقول نيكلسون في كتابه في التصوف الإسلامي صـ158: (إذا بحثنا في شخصية محمد، في ضوء ما ورد عنه في القرآن من آيات وما أُثر عنه من الحديث في الصدر الأول، وجدنا الفرق شاسعاً بين الصورة التي صُوِّر بها في ذلك العهد، وبين الصورة التي صَوَّر بها الصوفية أولياءهم، أو تلك الصورة التي صَوَّر بها الشيعة إمامهم المعصوم. وظهر من المقارنة أن صورة شخصية الرسول لا تفضل عند الموازنة صورة الولي الصوفي، أو صورة الإمام الشيعي، إن لم تكن دونهما، ذلك أن الولي الصوفي والإمام المعصوم، قد وُصِفا بجميع الصفات الإلهية، بينما وُصِف الرسول في القرآن بأنه بشر فيه كل ما للبشر من صفات، وأنه ينزل عليه الوحي من ربه بين آن وآخر، ولكنه لا يتلقاه مباشرة عن= =الله بل بواسطة الملَك، وأنه لم يرَ الله قط، أو يطَّلع على أسراره، وأنه لا يتنبأ بالغيب، ولا يفعل المعجزات أو خوارق العادات، بل هو عبد من عباد الله ورسول من رسله) إهـ .(175/175)
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) وهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره؛ ففيه فضيلة ظاهرة لأهل جزيرة العرب فهذا يكون ببعث المجددين، الذين يجددون للناس أمر دينهم، وقطع دواعي الشرك قبل استفحاله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"رواه أبو داود(4291) وغيره بسند صحيح. ولا شك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي رحمه الله هو أحد هؤلاء المجددين، فقد حفظ الله بدعوته نقاء الدين، وأعاد التوحيد غضّاً طرياً في جزيرة العرب، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تجد الآن في الحجاز وغالب الجزيرة من هذه القباب والأوثان شيئاً، فجزاه الله خير الجزاء. ومع ذلك فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان). رواه الترمذي(3/227) وصححه وأبو داود وغيره. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة). وكانت صنماً تعبدها دوس في الجاهلية بتبالة. رواه البخاري ومسلم. مع قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم) فالحذر الحذر-أيها المسلم- وليكن ديدنك إخلاص الدين لله، ونبذ مظاهر الشرك والوثنية من الأقوال والأفعال، وليكن من دعائك: (اللهم أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) كما ثبت عن النبي صلى الله وسلم.
دعوة القادرية الناسَ إلى عبادة شيخهم وطلب الحاجات منه والاستغاثة به من دون الله(175/176)
لقد غفل المبتدعة عن كل السنن والضوابط التي تحفظ لهم دينهم، وتقحّموا في مهاوي الضلال والوثنية، وليت أن الأمر وقف عندهم، بل عملوا على استدراج النساء والسذَّج والبسطاء من المسلمين، حتى أصلوهم في هذه المهالك، فبعد أن زوَّقوا أوثانهم، وأحكموا بناءها-ضاربين بتعاليم نبيهم عرض الجدار- دأب أرباب الطرق وسدنة القبور والأضرحة على دعوة الناس إليها بصنوف الترغيبات فنسبوا إلى هذه الأوثان خوارق العادات، وكواشف الملمات، ليغروا الناس بالقدوم إليها والعكوف عليها، ولا زالوا يغلون فيها حتى أضفوا على مقبوريهم صفات الربوبية، من تصرف وتدبير، وخفض ورفع، وإعطاء ومنع، وتنافست الطرق في إسباغ هذه الصفات على أربابها وأوثانهم فمن ذلك ما تنسبه الطريقة القادرية إلى شيخها عبد القادر الكيلاني، قوله في قصيدة سمّوها(الوسيلة):
ضريحي بيت الله من جاء زاره ... يهرول له يحظى بعزٍ ورفعة
وأمري أمر الله إن قلت كن يكن ... وكلٌ بأمر الله فاحكم بقدرتي
وعاينتُ إسرافيل واللوح والرضا ... وشاهدت أنوار الجلال بنظرتي
وشاهدت ما فوق السماوات كلها ... كذا العرش والكرسي في طي قبضتي
وناظرٌ ما في اللوح من كل آيةٍ ... وما قد رأيت من شهود بمقلةِ
ولولا رسول الله بالعهد سابقاً ... لأغلقت بنيان الجحيم بعظمتي
مريدي تمسَّكْ بيْ وكن بيَ واثقاً ... لأحميك في الدنيا ويوم القيامة
توسَّلْ بنا في كل هول وشدةٍ ... أغيثك في الأشياء طراً بهمتي
ثم يستمر الشيخ -فيما نسبوه إليه- في إضفاء صفات الله على نفسه، ثم يصرح بحلول الله فيه واتحاده به، ويبوح بوحدة الوجود، وأنه هو الله وأنه موجود منذ الأزل، فاسمعه يقول:
وسري سرُّ الله سارٍ بخلقه
ودُقتْ لي الكاسات في الأرض والسما
ذراعي من فوق السماوات كلها
وأعلم نبات الأرض كم هو نابت
وأعلم علم الله أحصي حروفه
ملكت بلاد الله شرقاً ومغرباً
ولي نشأةٌ في الحب من قبل آدم
أنا كنت في العليا بنور محمد(175/177)
أنا كنت مع نوح أشاهد في الورى
أنا كنت مع يعقوب في عشو عينه
أنا الذاكر المذكور ذكراً لذاكرٍ
أنا الواحد الفرد الكبير بذاته
ج ... فلذ بجنابي إن أردت مودتي
وأهل السما والأرض تعرف سطوتي
ومن تحت بطن الحوت أمددت راحتي
وأعلم رمل الأرض كم هو رملةِ
وأعلم موج البحر كم هو موجةِ
وإن شئتُ أفنيت الأنام بلحظتي
وسرِّي سرى في الكون من قبل نشأتي
وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة
بحاراً وطوفاناً على كف راحتي
وما برئت عيناه إلا بتفلتي
أنا الشاكر المشكور شكراً بنعمتي
أنا الواصف الموصوف شيخ الطريقة
ولديهم استغاثة بالشيخ تسمى الاستعانة، يظهر فيها جلياً اعتقادهم أن الشيخ هو الله: "يا سلطان العارفين، يا باز الأشهب، يا فارج الكرب، ياغوث الأعظم، يا واسع اللطف والكرم، يا كنز الحقائق، يا معدن الدقائق، يا صاحب الملك والملوك، يا هاوي النسيم، يا محيي الرميم، يا مبدي جمال الله(أي هو صورة الله المصغَّرة) يا راحم الناس، يا مذهب البأس، يا مفتح الكنوز، يا كعبة الواصلين، يا قوي الأركان، يا مجلي الكلام القديم، يا نار الله الموقدة(صح)، يا حياة الأفئدة يا مقصود السالكين، يا قاضي القضاة، يافاتح المغلقات، يا كافي المهمات، يا ضياء السماوات والأرضين، يا غافر الأوزار، يا إمام الأئمة، يا كاشف الغمة، يا من ظهر سره في الدنيا والآخرة، يا شاهد الأكوان بنظره، يا مبصر العرش بعلمه، يا قطب الملائكة والإنس والجن، ياقطب العرش والكرسي واللوح والقلم...إلخ هذا الكفر والهذيان"إهـ. انظر(الفيوضات القادرية/194).
دعوة الرفاعية الناسَ للحج إلى قبر شيخهم في قرية أم عبيدة
وكذلك الشأن مع الرفاعية، فإنهم عدّوا قبر شيخهم بيت الله أيضاً، وأن قريته البلد الحرام، ثم دعوا الناس إلى الحج إلى قبره، واللجوء إلى أعتاب وثنه، وأغروا الناس على الشرك، والاستغاثة به من دون الله، فنسبوا إلى الرفاعي قوله:
أنا الكعبة الغرا أنا البيت والحما(175/178)
أنا الدولة العظمى أنا السطوة التي
أنا الرفاعي طبولي في السما ضُربت
فالجأ بأعتاب عزي والتمس مددي
أنا الرفاعي ملاذ الخافقين فلذْ
إذا دعاني مريدي وهو في لججٍ
فلو ذُكرت بأرضٍ لا نبات لها
ولو ذكرت بنار قط ما لهبت
من لاذ فينا اكتفى عن غيرنا أبداً
جج ... أنا المسجد الأقصى لمن جاء بالذكر
تذل لها الأشياخ في البر والبحر
والأرض في قبضتي والأولياء خدمي
وطف ببابي وقف مستمطراً نعمي
بباب جودي لتُسقى الخير من ديم
من البحار نجا من حالة العدم
لأقبلتْ بصنوف الخير والنعم
ولو ذكرت ببحر غار من عظمي
وجاء في ركبنا بالأمن من ندم
جج(175/179)
انظر(قلادة الجوهر للصيادي/226) ثم جعلوا القرية التي دفن فيها بمنزلة البلد الحرام، وجعلوا قبره كعبة هي أفضل من كعبة مكة، وزعموا أن الله أمره أن يؤذن في الناس بالحج إلى قريته(أم عبيدة) التي فيها قبره: "قيل لي: قم فنادِ أهل المشرق والمغرب والسهل والجبل إلى زيارة هذه البقعة السعيدة" فقام الرفاعي وصار يشير بيده وهو واقف ويقول: "تعالوا إلى(أم عبيدة) تعالوا إلى هذه البقعة المباركة: كل شهر قوم، وكل سنة قوم، وكل وقت قوم، نعم، نعم" فلما سئل عن ذلك قال: "لما ناديت أجابوني بقدرة الله خلق كثير لا تحملهم هذه البقعة، فلما رأيت ذلك قلت: رويداً رويداً كل شهر قوم، كل سنة قوم"(قلادة الجواهر/43). وقرية الرفاعي هذه أفضل عندهم من الكعبة، حتى إن الكعبة تزورها وتحج إليها كما يقول أحمد الفاروثي في(إرشاد المسلمين 84)، ومن ميزات هذه القرية أنها: كعبة هموم المحققين، وحرم الأمان للطالبين، البيت المقدس الأمين، مهبط الرحمات، محط رحال العباد ومنها ينثر الخير إلى سائر البلاد، البقعة المقدسة، وزائرها يروح ويأتي تحت ظلال أجنحة الملائكة، ولا تأكله النار، ولا تضره(هذا ما لم يُضمن لزائر الكعبة فهي أفضل من الكعبة البيت الحرام) وزائرها تُقضى جميع حوائجه، ومن لزم قبة الشيخ الرفاعي قُضي دينه، وفني أعداؤه... إلخ !!(انظر بوارق الحقائق/229) للروّاس. والشيخ الرفاعي عندهم هو : "كعبة القاصدين، وقبلة أهل الحال، وكما أن الكعبة قبلة المصلين، وكما أن العرش قبلة أصحاب الهمم، فكذلك الشيخ قبلة المريدين، فالعرش قبلة الهمم، والكعبة قبلة الجباه، وأحمد قبلة القلوب(أي أنه أرفع من ذي العرش)، وهو غوث اليقين أي الذي تستغيث به الجن والإنس، بل إن النعجة تستغيث به إذا هاجمها الذئب وتقول بلسان فصيح: أدركني يا سيدي أحمد. وهو مجيب الدواعي، وأمان الخائفين، والمتحكم في ذرات الكون، والمتصرف في الكون، كشاف المدلهمات والكروب، والتمسك بأذياله من(175/180)
أسباب النجاة، وأن الله ختم به الولاية فهو"خاتم الأولياء"وأن كل الناس أجابوا ولايته، حتى الذر الذين لم يزالوا في أصلاب الآباء قد شهدوا بولايته، فبه تمطر السماء، وبه تخضرُّ الأرض، وبه يدر الضرع، وبه تنزل البركات، وبه ترفع الدرجات...إلخ إلخ"اهـ. انظر المعارف المحمدية/90 للصيادي وقلادة الجواهر وغيرها من الكتب).وانظر تهذيب الرفاعية للشيخ عبد الرحمن دمشقية.
عبادة النقشبندية لقبور مشايخهم ودعوة الناس إليها(175/181)
وهذا أيضاً دأب الطريقة النقشبندية في اتخاذ قبور أوليائهم أوثاناً تعبد، والغلو فيهم وإسباغ صفات الرب عليهم، ودعوة الناس للشرك بهم، يقول محمد أمين الكردي النقشبندي في كتابه(المواهب السرمدية/142): "لما مات الشيخ نقشبند بنى أتباعه على قبره قبّة عظيمة، وجعلوه مسجداً فسيحاً" وقال السنهوتي: "ولم يزل كذلك إلى يومنا هذا يُستغاث بجنابه، ويُكتحل بتراب أعتابه، ويُلتجأ إلى أبوابه" وقال الكردي في(تنوير القلوب/534): "وما يفعله العامة من تقبيل أعتاب الأولياء، والتابوت الذي يُجعل فوقهم فلا بأس به إن قصدوا بذلك التبرك، ولا ينبغي الاعتراض عليهم لأنهم يعتقدون أن الفاعل والمؤثر هو الله وإنما يفعلون ذلك محبة فيمن أحبهم الله تعالى"إه. وهذا إقرار منه للشرك ودعوة إليه، وفيه أن للأموات فعلاً وتأثيراً دلَّ عليه قوله: (لأنهم(أي العامة) يعتقدون أن الفاعل والمؤثر هو الله؛ أي أن تأثير الأموات بإذن الله وأمره، وهذا هو الشرك بعينه، وهي عقيدة مشركي الجاهلية، الذين كانوا يعتقدون أن الفاعل والمؤثر الحقيقي هو الله، ولكن أولياءهم الأموات يشفعون لهم إلى الله، ويقربونهم إليه(هؤلاء شفعاؤنا عند الله. ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله). وكان الكردي قد قال قبل ذلك صـ410: (إن الله يوكل بقبر الولي ملكاً يقضي الحوائج وتارة يخرج الولي من قبره ويقضيها بنفسه"فتأمل! وقال الكردي في(تنويره/500): "إن إمداد الشيخ نقشبند لأصحابه حاصل لهم في حياته وبعد موته فلا فرق بين حياته أو موته في إمداد أصحابه بكل شيء، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) إهوقد جمع كلامه إلى الشرك إشارته إلى الحقيقة المحمدية، وأن كل شيء خُلق من نور النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كل شيء محمد. فالوجود بأكمله برز من محمد، وجزئياته هي مظاهر محمد الذي هو من أكمل مظاهر الرب سبحانه وتعالى، وأن الشيخ نقشبند هو أكمل مظهر ظهر فيه محمد صلى(175/182)
الله عليه وسلم، لذلك لم يجد غضاضة أن يستدل بقوله تعالى: (أفإن مات أو قتل انقلبتم) كأن المعنيَّ بها الشيخ نقشبند ومريدوه، مع أن الآية التي خوطب بها الصحابة والمسلمون من بعدهم إلى يوم القيامة. لا تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم يمدّهم في حياته أو بعد موته، بل هي على العكس من ذلك تفيد قطع المدد إلا من الله، وعدم التعلق بسواه، وتفيد ربط المسلمين بالله وكمال التوكل عليه والتمسك بدينه، وتفيد أن هذا الدين لا يرتبط بالأشخاص يموت بموتهم حتى لو كان هذا الشخص رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قال أبو بكر يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تلا الآية(من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت). ثم إنّ المدد لا يطلب إلا من الله -في حياة النبي وبعد موته- إذ هو وحده سبحانه الذي يرسل المدد(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدُّكم) (يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة)(يمددكم بأموال وبنين)(كلا نمدُّ..)إلخ هذه الآيات التي تبين أن المدد لا يأتي إلا من الله، ولا يُطلب من سواه، فمن التمس المدد من غيره فقد أشرك وآبَ بالخسران المبين. ويؤكد الضال محمد الكردي هذه العقيدة الفاسدة فيقول في كتابه(المواهب السرمدية/178) عن شيخه محمد الخواجكي الأمكنكي النقشبندي: (فلا ذرة في العالم إلا وهو يمدها بالروحانية) إه. وينقل صـ173 عن الشيخ محمد القاضي النقشبندي أنه قال: لما التقى بشيخهم عبيد الله أحرار: "تيقنت أنه ما من خاطر إلا وقد اطَّلع عليه"إه. ولا يخفى أن يقينه هذا شرك صريح وكفر قبيح، لأنه جعل الشيخ عليماً بذات الصدور لا يخفى عليه شيء ثم يمضي الشيخ الكردي بسلب صفات الرب جل وعلا وإعطائها لشيوخه فيروي في"مواهبه/210": (أن أحد مريدي الشيخ(محمد المعصوم) كان راكباً على فرس فجفلتْ فسقط على الأرض وبقيت رجله معلقة في الركاب، وجعلت الفرس تعدو به حتى أيقن بالهلاك، فاستغاث(175/183)
بحضرة القيُّوم، قال: فرأيته حضر وأوقفها وأركبني إهـ. فانظر كيف جعل القيُّوم إنما هو الشيخ!! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. حتى عرش الرحمن لم يسلم منهم، بل سخروا منه وازدروه، وعلَوا فوقه زعموا، يقول الشيخ أحمد الفاروقي النقشبندي: "كثيراً ما كان يُعرج بي فوق العرش المجيد، ولقد عُرج بي مرة فلما ارتفعت فوقه بقدر ما بين مركز الأرض وبينه، رأيت مقام الإمام شاه نقشبند رضي الله عنه ورأيت فوق ذلك قليلاً مقامات بعض المشايخ...واعلم أني كلما أريد العروج يتيسر لي"إهـ(مواهب/184). وقد مرت فتوى القاضي عياض في كتابه الشفاء(2/298): "يكفر من ادعى مجالسة الله تعالى والعروج إليه ومكالمته، أو حلوله في أحد الأشخاص، كقول بعض المتصوفة"اهـ. ولعله ليس من العسير أن يدرك القارئ الفطن أن كل هذا الغلو في المشايخ، وإضفاء صفات الرب جل وعلا عليهم(1) إنما هو ناشئ عن عقيدة وحدة الوجود التي يدين بها القوم تلك العقيدة التي لا تدع فرقاً بين الخالق والمخلوق، بل يصبح -وفقها- البشر وباقي الكائنات أرباباً بنسبٍ متفاوتة، كما بيَّنا لك في صدر هذا البحث.وهي عقيدة ممتزجة بشغاف قلوبهم -كما يظهر دائماً في كلامهم- فلا يُظنُّ نزعها منهم إلا أن
__________
(1) بل ربما فضلوا شيوخهم على الله، فقد صرح الخزنوي أحد شيوخ الطرق الصوفية في الجزيرة= =السورية في أحد دروسه: إن محبة الشيخ مقدَّمة على محبة الله. وهو شرك صريح ومنافٍ للإيمان بالله والإخلاص له سبحانه وتعالى. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاثٌ من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) رواه البخاري برقم6941. فبعد هذا الكلام من هذا الرجل لا يُستغرب قول بعض ضُلَّالهم المتقدمين: لئن ترى أبا يزيد البسطامي مرة خير لك من أن ترى الله سبعين مرة.(175/184)
تقطَّع قلوبهم، أو تُنزع رقابهم كما فُعل بسلفهم الأبعد(الحلاج).
تلخيص عقائد الصوفية المُكَفِّرة
وقد ظهر بهذا أن النقشبنيدية وغيرهم من الصوفية زنادقة ضُلاّل. ومن لم يعتقد منهم بهذه العقائد الضالة فلا يسمى صوفياً، وإن تكن الصوفية في القرون الخالية في أول أمرها-يعبر بها-كما يدعي بعض الناس-عن تزكية النفوس والزهد، والإحسان زعموا، فإن الصوفية اليوم جميعاً دون استثناء غلاة زنادقة، ومن لم يكن كذلك فليس منهم، وهذا كشأن التشيّع الذي نشأ أولاً بتقديم وتفضيل علي على عثمان، ثم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، ثم غلوا إلى تكفير جمهور الصحابة، وتكذيب القرآن واعتقاد نقصانه وتحريفه، وغيرها من عقائدهم الضالة، كاعتقاد عصمة أئمتهم واستئناف نزول الوحي عليهم، والحج إلى قبورهم ومشاهدهم، فخرجوا بذلك عن جادة الإسلام، وإن كان غلاة الشيعة في غابر الأزمان طائفة منهم، فإن الشيعة اليوم كلهم غلاة وكذلك الشأن مع الصوفية فإنهم الآن-بمختلف طرقهم- غلاة باطنية ضُلَّال.ويمكن في هذه العجالة تعداد بعض عقائدهم الضالة، التي من اعتقد ببعضها كفر، فكيف بها مجتمعة!!؟ وقد ذكرنا الأدلة-من نصوصهم كما سبق- على معظمها، ونذكرها هنا لتكون عوناً لمن يريد محاججتهم أو محاكمتهم:
إيمانهم بالحلول والاتحاد والوحدة المطلقة -والقول بقدم العالم.
إيمانهم بالحقيقة المحمدية، التي هي الوجه الآخر لعقيدة وحدة الوجود. وما يستلزمه ذلك من:
تصحيح ديانات الكفار جميعاً كنتيجة لوحدة الوجود.
الدفاع عن إبليس(الحلاج في الطواسين صـ51، أبو الفتوح الغزالي، عبد الكريم الجيلي).
الدفاع عن فرعون(الحلاج، ابن عربي، النابلسي، الحوت..إلخ)
إلغاء الوعيد والعقاب، ثم إلغاء النار.
اعتقادهم تصرف الأولياء الأموات والأحياء في الكون، وعقيدة الديوان، ونحوها من العقائد المتعلقة بالتصرف والتدبير.(175/185)
القول بعصمة الأولياء وحفظهم(انظر -مثلاً- الباب الثالث والخمسين من فتوحات ابن عربي).
اعتقادهم نزول الوحي على أوليائهم، وهو على ضربين: إما عن طريق الملَك، ويسمونه طريقة أو عن طريق الاتصال المباشر بين الله والولي، ويسمونه حقيقة؛ وهذه أعلى مرتبة من النبوة(قال ابن عربي: مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي، وانظر اليواقيت والجواهر 2/83 للشعراني).
10-نسبتهم علم الغيب المطلق إلى أوليائهم بل معرفة كل ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، ومعرفة جميع الحوادث المستقبلية زعموا -بل كفروا- وهذا عنهم متواتر، وقد ذكرنا في بحثنا أدلة على هذا وللمزيد انظر(اليواقيت والجواهر للشعراني 2/84)، وكل كتب الصوفية تصلح أن تكون مراجع لهذا الكفر.
11-قولهم بالشريعة والحقيقة، والظاهر والباطن، وما يستلزم ذلك من مسخ نصوص الكتاب والسنة فهم من أخطر طوائف الباطنية.
12-الاستغاثة بالأولياء الأموات والغائبين، وسؤالهم مالا يقدر عليه إلا الله، ثم النذر والذبح لهم، وخشيتهم بالغيب، مع الرهبة والرغبة والتوكل والتوجه والتذلل والتضرع، وغيرها من خصال وأعمال المشركين، مع اعتقادهم أن أرواح المشايخ حاضرة تعلم.
13-اتخاذ القبور أوثاناً برفعها، وبناء القباب والمساجد عليها، وتنويرها، وتزويقها، وتعليق الستور عليها، والطواف بها، وشد الرحال إليها، واتخاذها عيداً، وغيرها من أعمال الشرك.
14-مشابهة المشركين كاليهود والنصارى والمجوس والبوذيين والهنادك في العقائد والعبادات، لا سيما بدعهم الكثيرة؛ من خلوات، وأوراد، وطقوس، مقرونة دائمة بممارسات شركية يتعذَّر إحصاؤها.(175/186)
15-اتخاذ الوسائط والشفعاء في الدين، واعتقاد أن الله القريب المجيب لا يقبل توبة أو دعوة عبده إلا بوساطة الولي أو النبي، واعتقاد أنّ الخير لا يأتي من الله إلى عبده مباشرةً إلا عن طريق الشيخ الميت أو الحي أو عن طريق قبره أو قبته، ونحو ذلك عياذاً بالله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من اتخذ بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويستنصر بهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً) اهـ.
فِهْرِس الكتاب
الموضوع الصفحة
مقدمة........................................................................1
نبذة عن دين العرب في الجاهلية.............................................134
إثبات أن العرب في الجاهلية ليسوا من أهل الفترة ممن لا يُعَذَّب.................139
عقائد طوائف مشركي العرب في الجاهلية....................................156
بيان إثبات إيمان عرب الجاهلية بالله وإثباتهم صفات لائقة به سبحانه مع أنهم مشركون..................................................................160
عقيدة مشركي العرب بالملائكة.............................................186
إيمان مشركي العرب في الجاهلية ببعض الأنبياء والرد على طه حسين...........189
إيمان بعض عرب الجاهلية بالبعث والحساب والجنة والنار......................192
إيمان مشركي العرب في الجاهلية بالقدر......................................195
إيمان مشركي العرب في الجاهلية بالجن والكلام على المس وعلاجه.............199
عبادات المشركين في الجاهلية وأهمها دعاء الله في الشدة والجدب والرد على البوطي في مسألة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به من دون الله...............207
بيان أن المشركين كانوا يستغفرون الله وقوله تعالى: "وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون"................................................................210(175/187)
بيان أن عرب الجاهلية مع شركهم كانوا ينذرون لله ويذبحون له في الحج ويعقُّون عن مواليدهم ويذبحون الفرع والعتيرة............................................211
صلاة المشركين المبتدعة وقوله تعالى: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية" ومقارنتها ببدع الصوفية في الذِكر...........................................214
الخلوات عند المشركين والصوفية............................................215
اعتكاف المشركين في الكعبة تعبداً وحديث عمر في ذلك......................220
صلاة المشركين على موتاهم وقيامهم للجنازة................................221
صدقات المشركين في الجاهلية وقوله تعالى: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً" ومقارنتها ببعض أحوال الصوفية......................................221
صيام مشركي الجاهلية عاشوراء وصوم الصمت عندهم وعند الصوفية..........222
الحج عند أهل الجاهلية......................................................224
بعض الشرائع الصحيحة عند مشركي العرب في الجاهلية......................225
زِي العرب هو زِي المسلمين إلى قيام الساعة..................................227
ما بقي عند مشركي الجاهلية من كلام الأنبياء دون تحريف....................231
شهادات بعض العلماء المتقدمين والمتأخرين على إيمان العرب في الجاهلية بالله وهم مشركون..................................................................232
المبشرون بالنار من أهل الجاهلية.............................................239
بيان طبيعة شرك عرب الجاهلية وأهم العبادات التي كانوا يصرفونها لأوليائهم....245
حادثة طريفة عن الشرك من الواقع...........................................254(175/188)
بيان معنى التوسل وأنواعه والفرق بينه وبين الاستغاثة وأن مذهب الحنفية تحريم التوسل بحق النبي أو جاهه..........................................................256
انقطاع عمل الإنسان بموته وعدم علمه بعمل الأحياء بعده وقول الله تعالى يوم القيامة لنبيه: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".......................................270
خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في قبره..................................275
من صفات المدعو المسؤول..................................................279
صفات الداعي والعلاقة بين الشحاذة والاستغاثة بغير الله وتأويل رؤيا النبهاني في كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق........................................281
تحريم البناء على قبور الصالحين وغيرهم وأدلة ذلك............................285
ضوابط الزيارة الشرعية للقبور...............................................290
الفوائد المرجوَّة من زيارة القبور.............................................296
ما يقوله زائر القبور........................................................297
هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو المَنْجا من مظاهر الشرك والوثنية وسجود الصوفية لقبور شيوخهم............................................................298
دعوة القادرية الناسَ إلى عبادة شيخهم عبد القادر الجيلاني وطلب الحاجات منه والاستغاثة به من دون الله...................................................308
دعوة الرفاعية الناسَ للحج إلى قبر شيخهم في قرية أم عبيدة....................310
عبادة النقشبندية لقبور مشايخهم ودعوة الناس إليها............................312
تلخيص عقائد الصوفية المكفِّرة..............................................315
خاتمة......................................................................328(175/189)
الفهرس...................................................................331(175/190)
كلام في الصوفية:الصوفية والعلم،الصوفية والإنحراف..ومسارات الإنحراف!!!
بسمه جل في عليائه،هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم،وأصلي على من بُعث بالهدى محمد عليه الصلاة والسلام،أما بعد:
فنكمل أقاويل هذا الأفاك مُريد صَرفِ الكلام عن مبانيه،والشغب في ما لا يعرفه ويفهمه،ويتبعه حثالة من القوم يصفقون لهُ تصفيق المجانين،وإذا أردت أن ترى ذلك فأنظر إلى من علق في السابق،كلام فارغ بعيد عن الحجة،فضلاً عن أن الحوار بيني وبين المدعو بـ(العسيري) لأنها إذا تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ.
قال:
اقتباس:
((((بشرى سارة)))
فقد زلت لسان المنهج ووقع فيما أقر به شيخه عباس من ان ثمّة تصوف صحيح لا ينكره حتى الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب حيث جاء في معرض كلام المنهج ما نصه:
(وهذا كلام الشيخ البديع أنه لا ينكر أن للصوفية -وخاصة السابقين- كان لهم جهد طيب في تنزيه الباطن من المعاصي ....) اما قوله (الا انهم لم يعملوا على وفق اوامر الله ومتابعة محمد صلى الله عليه و سلم) فان هذه العبارة من كلام المنهج و ليست من كلام الشيخ عبدالله فاتق الله يامحرف.
و جزاك الله خيرا ايها التلميذ النجيب , فماكان في وسعك الا ان تقلد ما كان يمليه عليك شيخك عباس.
بل أود منك ان تكحل مقلتيك بما ذكره ابن تيميه عن تمسك الصوفيه بالكتاب و السنه ما جاء في كتا الاستقامه الجزء الأول ص94 ما نصه :
"العلم" في لسان الصوفيه ووصايهم كثيرا ما يريدون به الشريعه كقول ابي يعقوب النهرجوري "أفضل الأحوال ما قارن العلم" و قول ابي يزيد "عملت في المجاهده 30 سنة فما وجدت اشد علي من العلم ومتابعته, ولولا اختلاف العلماء لبقيت و اختلاف العلماء رحمة الا في تجريد التوحيد.
و هكذا قول سهل بن عبدالله التستري : كل فعل تفعله بغير اقتداء طاعة او معصية فهو عيش النفس. و كل فعل تفعله بالاقتداء فهو عذاب على النفس.(176/1)
و قال ابو سليمان الداراني : ربما يقع في قلبي النكتة من نُكت القوم اياما فلا اقبل منه الا بشاهدين عدلين الكتاب و السنة.
و قال صاحبه احمد بن الحواري : من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله.
و قال الجنيد بن محمد : الطرق كلها مسدودة على الخلق الا من اقتفى اثر الرسول صلى الله عليه و سلم.
و قال ابي عثمان النيسابوري : والصحبة مع الله بحسن الأدب و المراقبة , والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم باتباع سنته و لزوم ظهر العلم.
و بعد كلما نقلته لك فان اجمل وصفااستطيع اناصفك (ايها المنهج )و اصف امثالك به في ذم كُل من اجتهد في طاعة معينة (كالعبادة ، اوالفقه، او التفسير). هو وصف شيخ الاسلام ابن تيميه عندما قال :-[ومن جعل كل مجتهد في طاعة اخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطء ضال مبتدع]ا. ه
هل فهمت (ايها المنهج )هذه العبارة النفيسة من كلام شيخ الاسلام ابن تيميه ؟ فاحذر حتى لا تكون ضال مبتدع.
و بعد هذا اللّت و العجن من الاستاذ !!! المنهج والذي ختم تعليقه التافه على الاقتباس المذكور آنفا و الذي جاء فيه (ان الصوفيه اخذوا بجانب العبادة و نسوا العلم) فقال ما نصه (و هذه هي فائدة جليلة اتمن ان يستفيد منها هل الاهواء في علاج امراضهم من كلمات الأئمة البليغه).
اقول و هذه عبارة ما اجملها فخذها وردها على نفسك بيديك حتى تشفى من مرض الأهواء و الكذب و التدليس و التحريف. )
قُلتُ:
عجباً والله لا نقضي ولو كان بشهر رجب!!!
فأنظر فهم الرجل حتى عد كلامنا الذين نكرره ونقوله [زلة] ؛وأقول لهُ لا ليست زلة بل هذا ما نقوله،ولكن في السابقين وهذا هو كلام شيخ الإسلام رحمه الله وأذكر أن الشيخ الفوزان يقول وأين أنتم من الجنيد والهروي..أولئك كانوا على قدر من العلم وأصحاب زهد،ولكن الموجود اليوم هم لا علم ولا سنة لكن الجهل أوبقهم!!!(176/2)
أقول:وأنظر إلى إضافة اسم الشيخ عباس في مناسبة وغير مناسبة وقوله زلة لتعلم أن الرجل ما يُريد إلا التشغيب بعيداً عن بحثٍ متجردٍ للحقيقة،وهذه لطيفة فتأملها!!
ثم علماء أهل السنة والجماعة رصدوا هذه الحركة منذ نشأتها الزهدية،وحتى تحولاتها الصوفية والتي بدأت تتخبط وتبتعد عن الهدي النبوي وتتشبه برهبانية النصارى،ومن أوائل من نقل هذا الفكر الرهباني النصراني مالك بن دينار رحمه الله،فلقد دعا بأمورٍ عجيبة،ليست -والله- من السنة،بل رهبانية ابتدعوها!!!
فمن آرائهم التجرد من الزواج،وكان يقول: "لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته أرملة ويأوي إلى مزابل الكلاب" سير أعلام النبلاء 8/156،حلية الأولياء 2/359،نقلاً عن محمد العبدة يقول الشيخ محمد: "وقد علق مُحقق السير الشيخ شعيب(يعني شعيب الأرناوط) على هذا الكلام فقال: "منزلة الصديقين لا تنال بهذا المسلك الأعجمي المخالف لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من ترك التبتل والرهبنة"
قلتُ: ومن لم يكن متبعاً لقدوتنا فلا خير في اتباع بدعه!!خاصة أن لنا سند في إنكار قول مالك بن دينار رحمه الله بعدد من الآيات والأحاديث!!وأخص بحديث الثلاثة نفر الذي قال أحدهم لا تزوج النساء لأنه يريد أن لا يجعلها أرملة!!لتفرغه للعبادة،وأنظر ما كتبه الشيخ محمد جميل غازي رحمه الله في الصوفية والوجه الآخر فقد أجاب عن وضع المرأة عند الصوفية بأنها كالأرملة!!-ولولا خشية الإطالة لأوردت بعض أقوالهم-.
يقول محمد العبدة: "وكثيراً ما يقول:قرأت في بعض الكتب!!قرأتُ في التوراة!! ويروي عيسى عليه السلام!!: (بحق أقول لكم،إن أكل الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس) أو وله: (أوحى الله إلى نبي من الأنبياء) أو (قرأتُ في الزبور ..) أنظر حلية الأولياء 2/357.(176/3)
فمن الواضح ومن خلال قراءة ترجمته في كتب الطبقات أنه متأثر بما ترويه الكت القديمة عن الزهاد والرهبان .. ومن الواضح أن هذه الكتب قد حُرفت ولسنا مأمورين بقرائتها بل منهيون عن الأخذ منهم وتقليدهم" الصوفية نشأتها وتطورها محمد العبدةوطارق عبدالحليم.
قلتُ:
أنظر وتأمل!!
فوالله إن هذا لكافي!!
"أمتهوكٌ فيها يا ابن الخطاب؟!!" لما رأى معه بعض الصفحات!!وأنظر هو يقرأها ويطبقها -أعني مالك- وهنا النهي ففي شرعنا كفاية!!
وهذا أكبر دليل بانحراف الزهاد والصوفية ونقاط التحول إلى بدعية رهبانية متأثره بالنصرانية!!
ومن أقطاب المرحلة الإنتقالية "ربما يكون عبدالواحد بن زيد ورابعة العدوية من أقطاب هذه المرحلة الإنتقالية،واستحدثت كلمة العشق للتعبير عن المحبة بين العبد والرب ويرددون أحاديث باطلة في ذلك مثل: (إذا كان الغالب على عبدي الإشتغال بي جعلت نعيمه وذكره ولذته في ذكري عشقني وعشقته!!!) .
وبدأ الكلام حول العبادة لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار،وإنما قصد الحب الإلهي،وهذا مخالف للآية الكريمة: {يدعوننا رغباً ورهباً} .
ومثل قول رابعة لرجلٍ رأته يضم صبياً من أهله ويقبله: "ما كنت أحسب أن في قلبك موضعاً فارغٌ لمحبة غيره تبارك اسمه!) [أنظر سير أعلام النبلاء 8/156] وهذا تعمقٌ وتكلف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُقبل أولا ابنته ويحبهم". الصوفية 21-22.
قلتُ:
هل تأملت هذا الضلال!!! هو مرحلة من مراحل التخبط والإنحراف..
وعلقت على الأخير،فهل هي متفوقة على روسل الله عليه السلام بموقفها هذا؟؟!!!أعوذ بالله من ذلك!وللمعلومية فإن رابعة العدوية "تكلم فيها أبو داود السجستاني [صاحب السنن أحد الكتب الستة] واتهمها بالزندقة!! ،فلعله بلغه عنها أمر،توفيت بالقدس سنة 185هـ.انظر ابن كثير/البداية والنهاية 10/186.(176/4)
قال ابن تيمية:قال بعضهم مَنْ عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق،ومَنْ عَبَدَ الله بالخوف وحده فهو حروري،ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ،ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن.انظر الفتاوى 10/81" المصدر السابق.
قلتُ:
وهذا كلام من أبي داود يجب أن يتأمل!!!
وكلام شيخ الإسلام نفيس!!!وهو مطرقة في رأسِ أهل الأهواء من الصوفية وغيرهم!!
وعد إلى كتاب د-محمد جميل غازي رحمه الله الصوفية والوجه الآخر الجولة الرابعة [يعني بالجولة الصحفية] رابعة العدوية الشخصية والأسطورة من ص46 إلى ص55 يقول الشيخ "لقد رووا عن رابعة نفسها: أن سفيان الثوري -على حد ما زعموا- سألها: (يا رابعة هل تكرهين الشيطان؟!! فقالت: ان حبي لله لم يترك في قلبي كراهية لأحد!!"أعوذ بالله ولا الشيطان الذي أمرنا ببغضه هو وأوليائه؟!!
"يقول ابن تيمية ملاحظاً هذا التطور:
(في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء:الرأي،والكلام ،والتصوف ،فكان جمهور الرأي في الكوفة، كان جمهور أهل الكلام والتصوف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وظهر أحمد بن علي الهجيمي [ "كان تلميذ شيخ البصرة عبدالواحد بن زيد(ذكر آنفاً في مرحلة البعد عن الهدي السني) وكان يتكلم في القدر،وقف داراً بالبصرة للمتعبدين.قال الدارقطني:متروك الحديث.قال الذهبي:ما كان يدري الحديث،ولكنه عبد صالح وقع في القدر نعوذ بالله من ترهات الصوفية.توفي سنة200هـ انظر سير أعلام النبلاء 9/408" من كتاب الصوفية22] وبنى دويرة للصوفية وهي أول ما بني في الإسلام (أي دار خاصة للإلتقاء على ذكر وسماع) وصار لهم من التعبد المحدث طريق يتمسكون به،مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع،وصار لهم السماع والصوت،وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل،وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين) الفتاوى 10/359.
كما لخص هذا التطور ابن الجوزي فقال:(176/5)
( وفي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلمة مؤمن ومسلم،ثم نشأت كلمة زاهد وعابد،ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها،هكذا كان أوائل القوم ولبَّس عليهم إبليس أشياء ثم على من بعدهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن) تلبيس إبليس 161."
قلتُ:
ووالله لما سبق في بيان كافي!!
تأمل رصد شيخ الإسلام وابن الجوزي رحمهما الله،رصد دقيق للإنحراف!!وتفريق للقوم وأنهم دركات(والدركة هي من السفل والبعد) فالبعض ضل،والبعض وقع في القدر والبعض كان في الغالب يعبد على المشروع(هؤلاء الأوائل!!فكيف بمن تلاهم؟؟!!فكيف بزماننا هذا؟؟!!الأغلب وفيهم هنات!!تأمل قوله "وصار لهم من التعبد المحدث طريق يتمسكون به"
وتأمل كلام ابن الجوزي رحمه الله حين قال: "،ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها،هكذا كان أوائل القوم ولبَّس عليهم إبليس أشياء ثم على من بعدهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن"
أقول لعل في هذا البيان كفاية -لمن تجرد طالباً الحق- لخط إنحراف الصوفية ونقول كما قال ابن الجوزي ولبَّس عليهم إبليس أشياء ثم على من بعدهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن
أما مسألة العلم فهي والله مضحكة!!فأي علمٍ تعني!!تفريقكم للشريعة والحقيقة،وهذا بلا شك مبثوث في كتب أهل العلم كشيخ الإسلام والشاطبي وغيرهم..
ثم ما العلم الذي تتبجح به!!!
أهو قول [الزنادقة من المتصوفة] حدثني قلبي عن ربي] أم هي [الكشوفات]!! لا أدري هل يسمى هذا علماً!!!!
أقول تأمل -يا منصف- كلام القرطبي التالي لتفسير الصوفية للعلم،يقول القرطبي رحمه الله في الجامع لأحكام القرآن (4/21) :
"لعل جُهّال المتصوفة وزنادقة الباطنية،يتشبثون بقوله تعالى:
{وهب لنا من لدنك رحمة} وأمثالها،فيقولون:
العلم ما وهبه الله ابتداءً من غير كسب،والنّظرُ في الكتب والأوراق حجاب.
وهذا مردود.
ومعنى الآية:(176/6)
هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة،لأن الرحمة راجعة إلى صفة الذات،فلا يتصور فيها الهبة."
وكذلك قال الإمام القرطبي مثل هذا في كتابه -سابق الذكر- (11/40-41) :
"أن من قال: يأخذ عن قلبه،وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى،وأنه يعمل بمقتضاه،وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة،فقد أثبت لنفسه خاصّة النبوة،فإن هذا نحو مما قاله عليه الصلاة والسلام: ((إن روح القدس نفثَ في روعي ..)) الحديث"
ولا أريد أن أطيل فأقول عد إلى كلام ابن الجوزي في صيد الخاطر وفي تلبيس إبليس فستجد أمراً عجباً..
يقول ابن الجوزي في الصيد ص231 وعد إليه ففيه خوف الشيطان من أهل العلم من الفقهاء وفرحه بالجهال!!وتلاعبه بالصوفية:
( وكان من أعجب تلاعبه أن حسن لأقوام ترك العلم ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به.
وهذا لو فهموه قدحٌ في الشريعة (أنظر ابن الجوزي يتعذر لهم بالجهل الذي أوردهم المهالك!!) فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بلغوا عني)) وقد قال له ربه عز وجل {بلغ} .
فإذا لم يتشاغل بالعلم فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق.
ولقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد كبشر الحافي،فإنه ال لعباس عبدالعظيم: لا تجالس أصحاب الحديث،وقال لإسحاق بن الضيف إنك صاحب حديث فأحب أن لا تعود إليّ.
ثم اعتذر فقال: إنما الحديث فتنة إلاّ لمن أراد الله به،وإذا لم يعمل به فتركهُ أفضل (!!!) .
وهذا عَجَب منه!!!
من أين له أن طلابه لا يردون الله به،وأنهم لا يعملون به؟
أوليس العمل به على ضربين:عمل بما يجب،وذلك لا يسع أحداً تركهُ،والثاني نافلة ولا يلزم.
والتشاغل بالحديث أفضل من التنفل بالصوم والصلاة (لأن نفع العلم متعدي) .
وما أظنه أراد إلا طريقه في دوام الجوع والتهجد،وذلك شيء لا يلام تاركه.
فإن كان يُريدُ أن لا يوغل في علوم الحديث فهذا خطأ لأن جميع أقسامهِ محمودة.
أفترى لو ترك الناس طلب الحديث كان بشرٌ يفتي.(176/7)
فالله الله في الالتفات إلى قول من ليس بفقيه،ولا يهولنك اسمه فالله يعفو عنه)
قلتُ:
عفا الله عن بشر الحافي فقد أخطأ وبرر خطأه بخطأ أفحش منه!!
وهذه مصيبة التعبد والتعمق وترك العلم حتى قد يُعبد الله على جهل وعلى غير هُدى!!
وتأمل نصيحة ابن الجوزي في مجانبة قول من ليس بفقيه ولا يهولنك اسمه!!!!
بشر أو غير بشر القياس على الكتاب والسنة!!
طلب الحديث أصبح فتنة!!والرسول يأمر بطلبه!!
لذلك كان شيخ الإسلام يتعقبهم كثيراً الذين يسمون (بالعارفين) أنظر مثلاً الفتاوى 11/384.يقول نقلاً عن الصوفية للعبدة وعبدالحليم:
(قال بعض العارفين:أول المعرفة حيرة وآخرها حيرة وذكروا حديثاً باطلاً "زدني فيك تحيراً" قال ابن تيمية:هذا حديث كذب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ربي زدني علماً".
أقول ولذلك دائماً ينتشر عند الصوفية الكذب على نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم نبي الهدى الذي حذر من الكذب عليه فقال: ((من كذب عليّ متعمداً فليتأبوا مقعده من النار)) وأنظر لأحاديث الكذب "لو أحسن أحدكم ظنهُ بحجر لنفعه" وهو كلام أهل الشرك يقول السوري محمد العبدة:"وقد سمعنا بعض مشايخ الصوفية في هذا العصر يحدث به ويعتقده" قلتُ: هذا واضحٌ جداً،وواقعٌ ملموس،وفي القصة السابقة للشيخ محمد جميل زينو مع الشاذلية -يوم أن كان شاذلياً- بينه في اعتقاد جواز وضع الأنداد لغير الله!!
والنماذج عديدة ولكن يكفي أن ذكرنا بعضها!
ولذا كان بعض أئمة بلاد المغرب يأمورن بإحراق كُتب للصوفية كالإحياء للغزالي ونقل هذا كثيراً..
لذلك قال أبو بكر الطرطوشي: "شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم،وما على بسيط الأرض أكثر كذباً منه شبكه بمذهب الفلاسفة ومعاني رسائل إخوان الصفا" الرسائل3/137.
وقد حرقه علي بن يوسف بن تاشفين وكان ذلك بإجماع الفقهاء الذين كانو عنده أنظر المعيار المعرب 12/185.(176/8)
نموذج آخر صاحب (قوت القلوب) أبو طالب المكي:
يقول ابن كثير: (كان رجلاً صالحاً لهُ كتاب قوت القلوب،ذكر فيه أحاديث لا أصل لها،بدّعهُ الناس وهجروه) البداية والنهاية 11/319.
تفسير أبو عبدالرحمن السلمي ،وقبل هذا فأنظر تفسيرات القوم عند محمد حسين الذهبي رحمه الله وتقبله الله شهيداً أحد أعلام مِصر فله كتاب نفيس اسمه [الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم دوافعها ودفعها] وهو صاحب المصنفات الرائعة كالتفسير والمفسرون وغيرها.
قال محمد الذهبي: "لهُ كتاب يُقال لهُ (حقائق التفسير) وليته لم يصنفه!! فإنه تحريف وقرمطه،ودونك الكتاب فسترى العجب" التفسير والمفسرون 2/386.
قال الواحدي: "فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر" المصدر السابق.
وقد نقل الذهبي في الاتجاهات المنحرفة كلاماً من تفسيراتهم الباطلة نقلها من السيوطي راجع 82:
"فمن ذلك الهراء ما نقله السيوطي في الإتقان ج2 ص184 عن بعض جهلة المتصوفة أنه فسر قوله تعالى في الآية255 من سورة البقرة {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فقال:معناه: (من ذل) من الذل (ذي) إشارة النفس، (يشف) من الشفاء(ع) من الوعي)."
وغيرها من الترهات والتفسير الإشاري ولهذا أشار إلى سوء صنيعهم عدد من أهل العلم،ومن ذلك الموضوع الذي وضعناهُ ومازلنا في إتمامه -اسأل اله أن يعيننا على ذلك، القرطبي والتصوف،فقد أشار إشارات إلى هذا الخلل الذي حرف القرآن ويحرفون الكلم عن مواضعه في أماكن عدة انتقى لنا الشيخ مشهور حسن آل سلمان من أبناء فلسطين مقاطع لكتاب القرطبي والتصوف،فليرجع إليه.
وهل تريد العلم الذي هو أذكارهم!!
هل تريد ورد التيجانية الذي يعدل القرآن!!
أم تريد خلوات الرفاعية!!
أم تريد غيرهم!!!
فهذا علم القوم وهذه كتبهم،أنظر إلى أبي يزيد عبدالرحمن بن محمد المعروف بان خلدون المالكي،يقول:(176/9)
"وأما حكم هذه الكتب المتضمنة لتلك العقائد المضلّة،وما يوجد من نسخها بأيدي الناس،مثل (الفصوص) و(الفتوحات) لابن عربي،و(البُدّ) لابن سبعين،و(خلع النعلين) لابن قيسي،و(عقد اليقين) لابن بَرَّجان،وما أجدر الكثير من شعر ابن الفارض،والعفيف التلمساني،وأمثالهما،أن تُلحق بهذه الكتب،وكذا شرح ابن الفرغاني للقصيدة التائية من نظم ابن الفارض،فالحكم في هذه الكتب كلها وأمثالها،إذهاب أعيانها متى وجدت بالتحريق النار والغسل بالماء،حتى ينمحي أثر الكتابة،لما في ذلك من المصلحة العامة في الدين،بمحو عقائد المضلة. " أنظر العقد الثمين للفاسي2/180-181.
وكذلك شرف الدين عيسى الزواوي المالكي المتوفى عام 743هـ قال:
"ويجب على ولي الأمر إذا سمع بمثل هذا التصنيف (أي مؤلفات ابن عربي كالفصوص والفتوحات المكية) البحث عنه وجمع نسخه حيث وجدها وإحراقها،وأدب من اتهم بهذا المذهب (يعني مذهب ابن عربي) "العقد الثمين2/176-177
وقد ألف الشيخ برهان الدين البقاعي (تنبيه الغبي لتكفير ابن عربي) وهو كتاب أنبأ عن ضلال الرجل وبيان مخالفاتهِ للإسلام!!والصوفية ما زالوا معظمين للرجل!!أنظر هذه هي الصوفية لمن اهتدى إلى السنة الشيخ عبدالرحمن الوكيل وكلامه عن الصوفية وأخص عن ابن عربي والصوفية..
وأخيراً نختم بأحد أعلام الصوفية (الحارث المحاسبي) رحمه الله -وكما بين ابن الجوزي رحمه الله في بشر نقول في الحارث "ولا يهولنك اسمه فالله يعفو عنه"
قال الحافظ أبو عثمان سعيد بن عمرو البردعي:
"شهدتُ أبا زرعة -وقد سُئل عن الحارث المحاسبي وكتبه- فقال للسائل:
إياك وهذه الكتب،هذه كتب بدع وضلالات،عليك بالأثر،فإنك تجد فيه ما يغنك عن هذه الكتب.قيل لهُ:في هذه الكتب عبرة.(176/10)
فقال:من لم يكن لهُ في كتاب الله عبرة فليس لهُ في هذه الكتب عبرة،بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟! هؤلاء خالفوا أهل العلم .. ثم قال:ما أسرع الناسِ إلى البدع" كتاب الضعفاء لأبي زرعة نقلاً عن أبي زرعة الرازي وجهود في السنة 2/561-562.
قال الذهبي مُعلقاً على كلام أبي زرعة في ميزان الاعتدال 1/431:
" وأين مثل الحارث؟فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب،وأين مثل القوت!كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم،وحقائق التفسير للسلمي لطار لُبُّه.
كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟!! (يعني كتاب أبو حامد الغزالي الطوسي الإحياء)
كيف لو رأى الغنية للشيخ عبدالقادر!كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟!
بلى لما كان لسان الحارث لسان القوم في ذلك العصر كان معاصره ألف إمام في الحديث،فيهم مثل أحمد بن حنبل وابن راهويه،ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميس،وابن حانه كان قطب العارفين كصاحب الفصوص وابن سفيان.نسأل الله العفو والمسامحة آمين."
قال الشيخ ربيع في منهج أهل السنة 135-136:
"رحم الله الإمام الذهبي كيف لو رأى مثل (الطبقات) للشعراني،وجواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض ابن عباس التيجاني لعلي ابن حزام الفاسي؟!
كيف لو رأى خزينة الأسرار لمحمد حقي النازلي؟!!
كيف لو رأى نور الأبصار للشنجلي؟!
كيف لو رأى شواهد الحق في جواز الاستغاثة بسيد الخلق وجامع الكرامات للنبهاني؟!
كيف لو رأى تبليغي نصاب وأمثاله من مؤلفات أصحاب الطرق الصوفية؟!
.... "
قلتُ:
رحم الله الأئمة كيف لو رأى حال صوفية اليوم الذي انجرفت بهم الطرق لأشد ما كان عليه سابقيهم..(176/11)
وهكذا البدعة يحبها الشيطان وينفخ فيها فتزل الأقدام عن الهدي،فتهوي في مستنقعٍ تغوص أقدامهم فلا يخرج منهم إلا من يعود للقرآن والسنة ويحكمهما!!وأنظر حديث السبل وتأمله!
قال ابن القيم في النونية،بعد ذكره لبعض أقوال أهل البدع:
"يا من يظن بأننا حفنا عليـ ..... ـهم كتبهم تنبيك عن ذا الشان
فانظر ترى لكن نرى لك تركها ... حذراً عليك مصائد الشيطان
فشباكها والله لم يَعْلَق بها .. من ذي جناح قاصر الطيرانِ
ألا رأيت الطير في قفص الرّدى .. يبكي له نوحٌ على الأغصان
ويظلّ يخبط طالباً لخلاصه .... فيضيق عنه فرجة العيدان
والنب ذنب الطير خلّى أطيب الثمـ ... ـرات في عالٍ من الأفنان
وأتى إلى تلك المزابل يبتغي الـ ... ـفضلات كالحشرات والديدان
يا قوم والله العظيم نصيحة ... من مشفق وأخٍ لكم معوان"
أنظر مثال في صيد الخاطر يقول ابن الجوزي واصفاً حال الصوفية مع العلم ص97 وهو كلام يصف واقع القوم:
"ليس في الوجود شيء أشرف من العلم،كيف لا وهو الدليل.فإذا عدم وقع الضلال.
وإن من خفيِّ مكائد الشيطان أن يُزين في نفس الإنسان التعبد ليشغله عن أفضل التعبد وهو العلم.
حتى أنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم ورموها في البحر.وهذا قد ورد عن جماعة!!وأحسن ظني بهم أن أقول:كان فيها شيء من رأيهم وكلامهم فما أحوا انتشاره.
وإلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه،كان رميها إضافة للمال لا يحل.
وقد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حملِ المحابر تلاميذهم.
وحتى قال جعفر الخالدي: لو تركني الصوفية جئتكم بإسناد الدنيا،كتبت مجلساً عن أبي العباس الدوري فلقيني بعض الصوفية فقال:دع علم الورق،وعليك بعلم الخرق.
ورأيت محبرة مع بعض الصوفية،فقال لهُ صوفي آخر: استر عورتك،وقد أنشدوا للشبلي:(176/12)
إذا طالبوني بعلمِ الورق .. برزت عليهم بعلم الخرق وهذا من خفي حيل إبليس {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} وإنما فعل وزينه عندهم لسببين:
أحدهما: أنه أرادهم يمشون في الظلمة.
والثاني: أن تصفح العلم كل يوم يزيد في علم العالم،ويكشف له ما كان خفي عنه ويقوي إيمانهُ ومعرفته،ويريه عيب كثير من مسالكه خصوصاً،إذا تصفح منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة.
فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة، فأظهر أن المقصود العمل،لا العلم نفسه،وخفي على المخدوع أن العلم عمل وأي عمل.
فاحذر من هذه الخديعة الخفية،فإن العلم هو الأصل الأعظم،والنور الأكبر.
وربما كان تقليب الأوراق أفضل من الصوم والصلاة والحج والغزو (يعين الشيخ التطوع منها وهذا ثابت أعني فضل العلم على صلاة النوافل عن عدد من الأئمة منهم مالك رحمه الله لأن العلم متعدي وتلك النافلة لازم!!ومن عرف معنى المتعدي واللازم عرف!!وأخص أن البعض قد يعمل الفروض-فضلاً عن النوافل- بغير هدى ولا سنة نظراً لأنه ما تعلم العلم اللازم المفروض عليه إذ لا يتعبد حتى يتعلم،فالصلاة يتعلمها ثم يصلي قل كذلك في الحج وغيره،ولا تطرأ شبهة كشبهة الذي نرد عليه بأن يأخذ العلم جملة ثم يعمل فهذه طامة في الفهم وقد كبرنا على عقله أربعاً،خاصة وأن العلم لا يُحاط بهُ ولكن الأصل أن تعلم المفروض عليك لتعمل به!!) .
وكم من معرضٍ عن العلم يخوض في عذاب الهوى في تعبده ، ويضيع كثيراً من الفرض بالنفل،ويشتغلُ بما يزعمهُ الأفضل عن الواجب.
ولو كانت عندهُ شُعلة من نور العلم لاهتدى، فتأمل ما ذكرت لك ترشد إن شاء الله تعالى".
أقول صدق ابن الجوزي في وصفهم..
وصدق ابن الجوزي في نصحهم..
وصدق ابن الجوزي في تعليقه..
وأختم بكلمة ذهبية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء.(176/13)
فما ظهر فيمن بعدهم مما يُظَنَّ أنّها فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة ، سواءً كانت من جنس العلوم أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات أو من جنس السياسة والملك؛بل خير الناس بعدهم أتبعهم لهم" الفتاوى 10/117.
ونكمل بإذن الله في وقتٍ آخر..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه أبو عمر المنهجي - شبكة الدفاع عن السنة(176/14)
اعترافات ..
كنت قبوريًا
للأستاذ : عبد المنعم الجداوي
((الخرافة )) عجوز متصابية تتعلق بصاحبها ... !…
(( التوحيد )) يهدم أولاً .. ثم يبني من جديد ..!…
ليس سهلاً أن يتراجع (( القبوري)) ..!…
(( التوحيد )) يحتاج إلى إرادة واعية ... !…
تردّدت كثيراً في كتابة هذه الاعترافات لأكثر من سبب .. ثم أقدمت على كتابتها لأكثر من سبب ، وأسباب الإحجام والإقدام واحدة .. فقد خشيت أن يقرأ العنوان بعض القراء ثم يقولون : ما لنا ولتخريف أحد معظِّمي القبور .. ولكن قد يكون بعض القراء في المنطقة النفسية التي كنت أعيشها قبل تصحيح عقيدتي .. فيقرأون اعترافاتي فيفهمون ، ويعبرون من ظلمة الخرافات إلى نور العقيدة - وفي ذلك وحده ما يقويني على الكشف عن ذاتي أمام الناس - ما دام ذلك سوف يكون سبباً في هداية بعضهم إلى حقيقة التوحيد .. ؟ …
ولقد كنت من كبار معظّمي القبور ، فلا أكاد أزور مدينة بها أي قبر أو ضريح لشيخ عظيم إلا وأهرع فوراً للطواف به ... سواء كنت أعرف كراماته أو لا أعرفها .. أحياناً أخترع لهم كرامات ... أو أتصورها .. أو أتخيلها.. فإذا نجح ابني هذا العام .. كان ذلك للمبلغ الكبير الذي دفعته في صندوق النذور ..وإذا شُفيت زوجتي ، كان ذلك للسمنة التي كان عليها الخروف الذي ذبحته للشيخ العظيم فلان ولي الله !..
وحينما التقيت بالدكتور جميل غازي ، وكان اللقاء لعمل مجلة إسلامية تقوم بالإعلان والنشر عن جمعية العزيز بالله القاهرية ، والتي تضم مساجد أخرى ، ورسالتها الأولى ((التوحيد ))، وتصحيح العقيدة ، وبحكم اللقاءات المتكررة .. كان لابد من صلاة الجمعة في مسجد العزيز بالله .. وهاجم (( الدكتور جميل )) في بساطة ، وبعقلانية شديدة هذا المنحنى المخيف في العقيدة ، وسماه : شركاً بالله ؛ وذلك لأن العبد في غفلة من عقله يطلب المدد والعون من مخلوق ميت!!..(177/1)
أفزعني الهجوم ، وأفزعتني الحقيقة .. وما أفزع الحقيقة للغافلين ... ولو أن (( الدكتور جميل )) اكتفى بذلك لهان الأمر .. لكنه في كل مرة يخطب لا بدّ أن يمس الموضوع بإصرار .. فالضّريح لا يضم سوى عبد ميت فقط .. بل قد يكون أحياناً خالياً حتى من العظام التي لا تنفع ولا تضرّ ..!
* في أول الأمر اهتززت .. فقدت توازني .. كنت أعود إلى بيتي بعد صلاة كل جمعة حزيناً .. شيء ما يجثم فوق صدري .. يقيد أحاسيسي ومشاعري .. أحاول في مشقة أن أخرج عن هذا الخاطر ... هل كنت في ضلالة طوال هذه الأعوام ؟ ..أم أن صديقي (( الدكتور )) قد بالغ في الأمر .. فأنا أعتقد أن كل من نطق بالشهادة لا يمكن أن يكون كافراً لهفوة من الهفوات أو زلةٍ من الزلات .. !
شيءآخر أشعل في فؤادي لهباً يأكل طمأنينتي في بطء ... إن الدكتور يضعني في مواجهة صريحة ضد أصحاب الأضرحة الأولياء ، والخطباء على المنابر صباح مساء .. يعلنونها صريحة : إن الذي يؤذي ولياً .. فهو في حرب مع الله سبحانه وتعالى ، وهناك حديث صحيح في هذا المعنى .. وأنا لا أريد أن أدخل في حرب ضد أصحاب القبور والأضرحة ؛ لأنني أعوذ بالله من أن أدخل في حرب معه - جل جلاله- ...!…
وقلت : إن أسلم وسيلة للدفاع هي الهجوم .. واستعدت قراءة بعض الصفحات من كتاب ((الغزالي)) (( إحياء علوم الدين )) ، وصفحات أخرى من كتاب (( لطائف المنن ))(لابن عطاء الاسكندري )،وحفظت عن ظهر قلب الكرامات ، وأسماء أصحابها ، ومناسبات وقوعها ، وذهبت الجمعة الثانية ، وكظمت غيطي وأنا أستمع إلى الدكتور ، فلما انتهى من الدرس وأصرَّ على أن يدعوني لتناول طعام الغداء، وبعدالغداء .. تسلمته هجوماً بلا هوادة ، معتمداً على عاملين :…
الأول : هو أنني حفظت كمية لا بأس بها من الكرامات .…(177/2)
والثاني : أنني على ثقة من أنه لن يتهور فيداعبني بكفيه الغليظتين ؛ لأنني في بيته ! وتناولت طعامه فأمنت غضبه ، وقلت له : والآتي هو المعنى ، وليس نص الحوار : (( إن الأولياء لا يدرك درجاتهم إلا من كان على درجتهم من الصفاء ، والشفافية ، وأنهم رجال أخلصوا لله .. فجعل لهم دون الناس ما خصهم به من آيات وأن .... وأن ... وأن .. وانتظر الدكتور حتى انتهيت من هجومي .. وأحسست أنه لن يجد ما يقوله .. وإذا به يقول : …
• هل تعتقد أن أي شيخ منهم كان أكرم على الله من رسوله ..؟……… • قلت مذهولاً : لا ..……
-إذاً كيف يمشي بعضهم على الماء ... أو يطير في الهواء .. أو يقطف ثمار الجنة وهو على الأرض .. ورسول الله لم يفعل ذلك .. ؟…
كان يمكن أن يكون ذلك كافياً لإقناعي أو لتراجعي .. لكنه التعصب - قاتله الله - !! كَبُرَ عليّ أن أسلّم بهذه البساطة ، كيف ألقي ثقافة إسلامية عمرها في حياتي أكثر من ثلاثين عاماً .. قد تكون مغلوطة .. غير أني فهمتها على أنها الحقيقة ، ولا حقيقة سواها !! …
*وعدت أقرأ من جديد في الكتب التي تملأ مكتبتي .. وأعود إلى (( الدكتور )) ، ويستمر الحوار بيننا إلى ساعة متأخرة من الليل - فقد كنتُ من كبار عشاق الصوفية .. لماذا ؟ لأني أحب أشعارهم وأحبّ موسيقاهم ، وألحانهم التي هي مزيج من التراث الشعبي ، وخليط من ألحان قديمة متنوعة ... شرقية ، وفارسية ، ومملوكية ، وطبلة إفريقية أحياناً تدقّ وحدها .. أو ناي مصري حزين ينفرد بالأنين ، مع بعض أشعارهم التي تتحدث عن لقاء الحبيب بمحبوبه وقت السَّحر ..!(177/3)
لهذا وللأسباب الأخرى .. أحببت الصوفية .. وكنت أعشقها ، وأحفظ عن ظهر قلب الكثير من شعر أقطابها ..لاسيما (( ابن الفارض ))، وكل حجتي التي أبسطها في معارضة (( الدكتور )) ، أنه وأمثاله من الذين يدعون إلى (( التوحيد )) لا يريدون للدين روحاً ، وإنما يجردونه من الخيال ، وأنهم لا بد أن يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب الكرامات ؛ لكي يدركوا ما هي الكرامات .. ! فلن يعرف الموج إلا من شاهد البحر ، ولا يعرف العشق إلا من كابد الحب - وهذا أسلوب صوفي - أيضاً - في الاستدلال ، ولهم بيت شهير في هذا المعنى!.
وحتى لا يضطرب وجداني ، وتتمزق مشاعري ... حاولت أن أنقطع عن لقاء (( الدكتور )) .. ولكنه لم يتركني .. فوجئت به يدق جرس الباب ، ولم أصدق عيني .. كان هو .. قد جاء يسأل عني .. وتكلمنا كالعادة كثيراً وطويلاً .. فلما سألني عن سبب عدم حضوري لصلاة الجمعة معه ... قلت له بصراحة :
- لقد يئست منك !..…
قال : ولكني لم أيأس منك .. أنت فيك خير كثير للعقيدة .
قلتُ : إنه يستدرجني على طريقته ، ولمحت معه كتاباً من وضعه عن سيرة الإمام (( محمد بن عبد الوهاب ))
فقلت له : أعطني هذه النسخة .. هل يمكن ذلك ... ؟
قال : هذه النسخة بالذات ليست لك ، وسوف أعدك بواحدة .
وهذه هي طريقته للإثارة دائماً .. لا يعطيني ما أطلب من أول مرة .. فخطفتُ النسخة ، ورفضت إعادتها له !..
… * وبعد منتصف الليل بدأت القراءة .. وشدني الكتاب موضوعاً وأسلوباً .. فلم أنم حتى الصباح !..
كان الكتاب - على حجمه المتواضع - كالإعصار ، كالزلزال .. أخذني من نفسي ليضعني على حافة آفاق جديدة .. حكاية الشيخ (( محمد بن عبد الوهاب )) نفسه .. ثم قصة دعوته ، وما كابده من معاناة طويلة .. حينما كانت في صدره حنيناً ، وكلما(177/4)
قرأت صفحة وجدت قلبي مع السطور . فإذا أغلقت الكتاب لأمر من الأمور يتطلب التفكير أو البحث في كتب أخرى .. استشعرت الذنب؛ لأنني تركت الشيخ في (( البصرة )) ولم أصبر حتى يعود .. أو تركته في بغداد يستعد للسفر إلى ( كردستان ) .. ولا بد أن أصبر معه حتى يعود من غربته إلى بلده !..
يقول الدكتور في كتابه (( مجدد القرن الثاني عشر الهجري شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب )) .
وبعد هذا التطواف والتجوال هل وجد ضالته المنشودة ..؟ لا ، فإن العالم الإسلامي كله كان يعاني نوبات قاسية من الجهل والانحطاط والتأخر .. عاد الرجل إلى بلده يحمل بين جوانحه ألماً ممضّاً ، لما أصاب المسلمين من انتكاس وتقهقر في كل مناحي حياتهم .
عاد إلى بلده وفي ذهنه فكرة تساوره بالليل والنهار .
لماذا لا يدعو الناس إلى الله ؟
لماذا لا يذكرهم بهدي رسول الله .. ؟
لماذا ... لماذا ...
إذًا ، فهذه العقيدة التي يريدها (( الدكتور)) لم تأت من فراغ ... فمنذ القرن الثاني عشر الهجري ... والإمام محمد بن عبد الوهاب ... يُفكّر ، ويقدّم ؛ لكي يهدم صروح الأضرحة ، ويحطّم شبح الخرافات ، ويُطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء...بخزعبلاتهم التي اكتسبت مع الأيام قداسة ، تخلع قلوب المؤمنين ... إذا فكروا في إزالتهاوفي ذلك يقول الكاتب : (( ماذا كان وقْع هذه الأعمال على نفوس القوم ..)) .
ويجيب المؤرخون على ما يرويه الأستاذ أحمد حسين في كتابه (( مشاهداتي في جزيرة العرب )) (( إن القوم لم يقبلوا مشاركة الرجل فيما قام به من قطع الأشجار ، وهدم القباب ، بل تركوا له وحده أن يقوم بهذا العمل ، حتى إذا ما كان هناك شر أصابه وحده ..!)) .(177/5)
هل يكون ما يزلزل كياني الآن هو الخوف الذي ورثته .. ؟ وهو نفس الذي جعل الناس في بلدة ( العُيَيْنة ) : موطن الشيخ ، يتركونه يزيل الأشجار ، وقبة قبر ( زيد بن الخطاب ) بنفسه .. خوفاً من أن تصيبهم اللعنات المختلفة من كرامات هذه الأماكن وأصحابها .
ومضيت أقرأ ومع كل صفحة أشعر أنني أخلع من جدار الوهم في أعماقي حجراً ضخماً .. وحينما بلغت منتصف الكتاب كانت فجوةً كبيرةً داخلي قد انفتحت ، وتسلل منها ومعها نور اليقين .. ولكن في زحمة الظلمة التي كانت تعشعش في داخلي .. كان الشعاع يُومض لحظة ويختفي لحظات ..!
* لقد استطاع (( الدكتور )) أن ينتصر ... تركني أحارب نفسي بنفسي ، بل جعلني أتابع مسيرة التوحيد مع شيخها محمد بن عبد الوهاب ، وأشفق عليه من المؤامرات التي تحاك ضده ، وحوله، وكيف أنه حينما أقام الحد على المرأة التي زنت في ( العيينه )..غضب حاكم (( الإحساء )) ( سليمان بن محمد بن عبد العزيز الحميدي ) ، واستشعر الخطر من الدعوة الجديدة وصاحبها ... فكتب إلى حاكم العيينه (( ابن معمر )) يأمره بكتم أنفاسها ، وقتل المنادي بها ، والعودة فوراً إلى حظيرة الخرافات والخزعبلات .
ولما كان (( ابن معمر )) قد ارتبط مع الشيخ في مصاهرة ... فقد زوجه ابنته ... فإنه تردد في قتله ، ولكنه دعاه إلى اجتماع مغلق ، وقرأ عليه رسالة حاكم (( الإحساء )) ثم رسم اليأس كله على ملامحه ، وقال له : إنه لا يستطيع أن يعصي أمراً لحاكم (( الإحساء )) ، لأنه لا قِبَل له به .... ولعلها لحظة يأس كشفت للشيخ عن عدم إيمان (( ابن معمر )) ... ولم تزد الشيخ إلا إصرارًا على عقيدته ، وقوة توحيده .. فالحكام الطغاة لا يحاربون دائماً إلا داعية الحق .. وقبل الشيخ في غير عتاب أن يغادر ( العيينة )..مهاجراً في سبيل الله بتوحيده .. باحثاً عن أرض جديدة يزرعه فيها !..
في الصباح استيقظتُ على ضجة في البيت غير عادية .. واعتدلت في فراشي ،(177/6)
ووصَلَتْ إلى أذني أصوات ليست آدمية خالصة ، ولا حيوانية خالصة .. ثغاء ، وصياح ، وكلام ..غير مفهوم العبارات .. وقلت : لا بد أنني أعاني من بقية حلم ثقيل .. فتأكدت من يقظتي ، ولكن (( الثغاء )) هذه المرة اخترق طبلة أذني .. ودخلت عليّ زوجتي تحمل إليَّ أنباء سارةً جدًا ... وهي تتلخص في أن ابنة خالتي ـ التي تعيش في أقصى الصعيد ، ومعها زوجها ، وابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات ـ قد وصلوا في قطار الصعيد فجراً، ومعهم (( الخروف )) ...!
وظننت أن زوجتي تداعبني .. أو أن ابنة خالتي - وكنت أعرف أن أولادها يموتون في السنوات الأولى -، قد أطلقت على طفل لها اسم ( خروف ) لكي يعيش مثلاً . وهي عادات معروفة في الصعيد . وقبل أن أتبين المسألة .. أحسست بمظاهرة من أولادي تقترب من باب حجرة نومي .. وفجأة وبدون استئذان اقتحم الباب (( خروف )) له فروة ، وقرون ، وأربعة أقدام ... واندفع في جنون من مطاردة الأولاد له .. فحطّم ما اعترض طريقه .. ثم اتجه إلى المرآة ، وفي قفزة (( عنترية )) اعتدى على المرآة بنطحة قوية ، تداعت بعدها ، واحدثت أصواتاً عجيبة ، وهي تتحطم !..
تَمَّ كل ذلك في لحظة سريعة .. وقبل أن استرد أنفاسي ، وخيل إليّ أن بيتنا انفتح على حديقة الحيوانات .. رغم أنني أسكن في العباسية ، والحديقة في الجيزة .. ولكن وجدت نفسي أقفز من على السرير ، وخشيت زوجتي ثورة (( الخروف )) ، وتضاءلت فانزوت في ركن .. ترمقني بعينيها ، وتشجعني لكي أتصدى لهذا الحيوان المجنون .. الذي اقتحم علينا خلوتنا .. ولكن الصوت والزجاج المتناثر زاد من صياج الحيوان .. ولمحت في عينيه ، وفي قرنيه الموت الزؤام .. واستعدت في ذهني كل حركات مصارعي الثيران ، وأمسكت بملاءة السرير ، وقبل أن أجرب رشاقتي في الصراع مع (( الخروف )) دخلت ابنة خالتي وهي في حالة انزعاج كامل .. فقد خيل لها أنني سوف أقتله ... وصاحت - وهي على يقين من أنني سأصرع :(177/7)
- حاسب ، هذا خروف (( السيد البدوي)) .
ونادته فتقدّم إليها في دلال ، وكأنه الطفل المدلّل .. فأمسكت به تُربتُ على رأسه ، وروت لي أنها قدمتْ من الصعيد ، ومعها هذا الخروف البكر الرشيق الذي انفقت في تربيته ثلاثة أعوام هي عمر ابنها؛ لأنها نذرت للسيد البدوي إذا عاش ابنها .. أن تذبح على أعتابه (( خروفاً )) ، وبعد غد يبدأ العام الثالث موعد النذر !..
* كانت تقول كل هذه العبارات وهي سعيدة .. وخرجت إلى الصالة لأجد زوجها ، وهو في ابتهاج عظيم .. يطلب مني أن أرافقهم إلى (( طنطا )) .. لكي أرى هذا المهرجان العظيم ؛ لأنهم نظراً لبعد المسافة اكتفوا بالخروف .. فأما الذي على مقربة من (( السيد البدوي )) فإنهم يبعثون بِجِمال .. وأصبح عليّ أن أجامل ابنة خالتي لكي يعيش ابنها ، وإلا اعتُبرت قاطعاً للرحم ... لا يهمني أن يعيش ابن خالتي أو يموت، ولا بد أن أذهب معهم إلى مهرجان الشرك ، وفي نفس الوقت كنت أسأل نفسي .. كيف أقنعها بأنها في طريقها إلى الكفر .. ؟ وماذا سيحدث حينما أحطم لها الحلم الجميل الذي تعيش فيه منذ ثلاث سنوات ... ؟
وقلت : أبدأ بزوجها أولاً ؛ لأن الرجال قوامون على النساء .. وأخذت الزوج إلى زاوية في البيت ، وتعمدت أن يرى في يدي كتاب : (( الإمام محمد بن عبد الوهاب )) .. ومدّ يده فجعل الغلاف في ناحيته ، وما كاد يقرأ العنوان حتى قفز كأنه أمسك بجمرة نار!..
قرأ زوج ابنة خالتي عنوان الكتاب - الذي يقول : إن في الصفحات قصة(177/8)
(( الشيخ محمد بن عبد الوهاب )) ودعوته - وهتف صارخاً : ما هذا الذي أقرؤه ...؟ وكيف وصلني هذا الكتاب ..؟ لا بد أن أحدهم دسه عليَّ !!.. فهو يعرف أنني رجل متزن ... أحرص على ديني ، وعلى زيارة الأضرحة ، وتقديم الشموع ، والنذور ، وأحياناً القرابين المذبوحة والحية ، كما يفعل هو تماماً .. ورأيت في عينيه نظرة رثاء... إلى ما رماني به القدر في تلك النسخة ... وكان عليَّ أن أقف منه موقف الدكتور جميل غازي مني سابقاً .. وشاء الله أن يكون ذلك بمثابة الامتحان لي .. وهل في استطاعتي أن أطبق ما قرأت أم لا .. ؟ وهل استوعبت عن يقين ما قرأت أم لا .. ؟ والأهم من ذلك هو مدى إصراري على عقيدتي وإقناع الآخرين بها - أيضاً - ، فالذي لا يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه .. هو صاحب عقيدة سلبية ... غير إيجابية .. فليس من المعقول في شيء .. أن أطوي (( توحيدي )) على نفسي ، وأترك الآخرين يعيشون في ضلالة ؛ لأنهم بعد فترة سوف يغرقونني في خرافاتهم .. وعليه فلا بد أن أجادلهم بالتي هي أحسن .. لا أتركهم يشعرون أن الأمر هينّ .. لا بد أن أنفرهم من شركهم .. وهم لا بد أن يتراجعوا ؛ لأن (( الخرافة )) - نظراً لأنها تقوم على ضلالات هشة - لا يكاد الشك يدخلها حتى يهدمها .. والحق في تعقبها إذا كان لحوحاً .. قضى عليها ... أو على أقل تقدير أوقف نموها حتى لا تصيب الآخرين .. ومن أجل ذلك كله قررت أن أتوكل على الله ، وأبدأ الشرح للرجل ... ولم تكن المهمة سهلة .. فلا بد أولاً أن أطمئنه ، وأزيل ما بينه وبين سيرة الشيخ (( محمد بن عبد الوهاب )) .. ثم ما ترسّب في ذهنه من زمن عن ( الوهابية والوهابيين ) .. ففي أول الحديث.. اتهم (( الوهاب (( بعدد من الاتهامات يعلم الله أن دعوة (( التوحيد )) بريئة منها .... براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام !..(177/9)
ورحت أحاول في حماس شديد .. أشرح له سر حملات الكراهية ، والبغضاء التي يشنها البعض على دعوة (( التوحيد )) .. وكيف أنها أحيت شعائر الشريعة ، وأصول العبادات ، وفي ذلك القضاء على محترفي الدّجل ، وحراس المقابر ، وسدنة الأضرحة ، والذين يُكدّسون الأموال عاماً بعد عام .. من بيع البركات ، وتوزيع الحسنات على طلاب المقاعد في الجنة .. فالمقاعد محدودة والوقت قد أزف ..! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..!
ولمحت على ملامحه بعض سمات الخير .. نظر في دهشة .. كأنه يفيق من غيبوبة ... ورغم ذلك فقد راح يتشنج ، ويدافع عن أهل الله الذين ينامون في قبورهم لكن يتحكمون بأرواحهم في بقية الكون ، وأنهم يدعون كل ليلة جمعة للاجتماع عند قطب من الأقطاب ... وحتى النساء من الشهيرات يلتقين - أيضاً - مع الرجال الأقطاب ، وينظرون في شؤون الكون ...!
* ولم أكن أطمع في زحزحته عن معتقدات في ضميره عمرها أكثر من ثلاثين سنة ... فاكتفيت بأن طلبت منه أن ينظر في الأمر .. هل هؤلاء الموتى من أصحاب الأضرحة... أكرم عند الله أم رسول الله ؟!! ثم يفكر طويلاً ، ويجيء إلىَّ بالنتيجة ... دون ما تحيّز أوتعصّب .. ووعدني بأن يُفكّر ، ولكنه فقط يطلب مني أن أرافقهم في رحلتهم الميمونة إلى (( طنطا )) ... فقلت له : إن هذا هو المستحيل لن يحدث .. وإذا كان مصمماً على الذهاب هو وزوجته إلى (( السيد البدوي (( حتى يعيش ابنهما .. فالمعنى الوحيد لذلك هو أن الأعمار بيد (( السيد البدوي).(.. وحملق فيَّ وصاح :
لا تكفر يا رجل ..؟
فقلت له :
- أينا يكفر الآن .. ؟ أنا الذي أطلب منك أن تتوجه إلى الله .. ؟ أم أنت الذي تُصرّ على أن تتوجه إلى (( السيد البدوي )) ..؟(177/10)
وسكت واعتبر هذا مني إهانة لضيافته ، وأخذت زوجته والخروف وابنها ، وانصرفوا من العباسية في القاهرة إلى (( طنطا )) ، وحيثما وقفت أودعهم .. همست في أذن الزوج : أنه إذا تفضل بعدم المرور علينا بعد العودة من مهرجان الشرك .. فإنني أكون شاكراً له ما يفعل ... و إلا لقي مني ما يضايقه .. وازداد ذهول الرجل ، ومضى الركب الغريب .. يسوق الخروف نحو (( طنطا(( ..!
وانثنت زوجتي تلومني ؛ لأنني كنت قاسياً معهم ، وهم الذين يخافون على طفلهم .... الذي عاش لهم بعد أن تقدم بهما العمر ، ومات لهما من الأطفال الكثير .. وصحت في زوجتي ، إن الطفل سيعيش فذلك لأن الله يريد له أن يعيش ، وإن كان سيموت فذلك لأن الله يُريد له ذلك.. ولا شريك لله في أوامره ولا شريك له في إرادته.
وذهبت إلى إدارة الجريدة التي أعمل بها .. وإذا بالدكتور يتصل بي تليفونياً ؛ ليتحدث معي في شأن له، ولم يخطر بباله أن يسألني : ماذا فعل بي الكتاب ؟ أو ماذا فعلت به ؟ واضطررت أن أقول له : إنني في حاجة إلى مناقشة بعض ما جاء في الكتاب معه ... والتقينا في الليل وحدثته عن الكارثة التي جاءتني من الصعيد ، ولم يعلق على محاولتي إقناعهم بالعدول عن شركهم .. مع أنني منذ أيام فقط .. كنت لا أقل شركًا عنهم ، وقلت له : ألا يلفت نظرك أنني أقول لهم ما كنت تقوله لي ..؟
قال في هدوء يغيظ : إنه كان على يقين من أنني سوف أكون شيئاً مفيداً للدعوة .. وأردت الاحتجاج على أنني من ( الأشياء ) ولست من الآدميين ، لكن الدكتور لم يتوقف ، وقال : لقد صدر منك كل هذا بعد قراءة نصف الكتاب ، فكيف بك إذا قرأت الكتب الأخرى ؟! وأغرق في الضحك!! .
وعلمت بعد أيام أن قريبتي عادت من (( طنطا )) إلى الصعيد مباشرة دون المرور علينا في القاهرة ، وأنها غاضبة مني ، وشكتني لكل شيوخ الأسرة ، وفي الأسبوع الثاني فوجئت بجرس الباب يدقّ .. وذهب ابني الصغير ؛ ليستطلع الأمر .. ثم عاد يقول لي :(177/11)
- إبراهيم الحران ...
(( الحران )) .. إنه زوج ابنة خالتي .. ماذا حدث ..؟
هل جاءوا بخروف جديد ، ونذر جديد لضريح جديد ... أم ماذا .. ؟ وقررت أن يخرج غضبي من الصمت إلى العدوان هذه المرة ، ولو بالضرب .. ومشيت في ثورة إلى الباب .. وإذا بهذا (( الحران )) يمد يده ليصافحني ، ودَعَوْته إلى الدخول فرفض .. إذًا لماذا جاء ..؟ وفيم جاء ؟ ، وابتسم ابتسامة مغتصبة وهو يقول : إنه يطلب كتاب (( الشيخ محمد بن عبد الوهاب )) الذي عندي ، وحملقت فيه طويلاً ، وجلست على أقرب مقعد ..!
سقطت قلعة من قلا ع الجاهلية .. لكن لماذا ؟ وكيف كان السقوط ؟ جاء صاحبي إبراهيم يسعى بقدميه .. يطلب ويلحّ في أن يبدأ مسيرة التوحيد .. لا بد أن وراء عودته أمراً ، ليس من المعقول أن يحدث ذلك بلا أسباب قوية جعلت أعماقه تتفتح ، وتفيق .. على حقائق غفل عنها طويلاً .. !
ورحمة بي من الذُّهول ، والإغماء الذي أوشك أن يصيبني .. بدأ يتكلم ، وكانت الجملة التي سقطت من فمه ثقيلة كالحجر الذي يهبط من قمة جبل .. صكت سمعي .. ثم ألقت بنفسها تتفجر على الأرض .. تصيب وتدمي شظاياها ، وقال :
- لقد مات ابني عقب عودتنا ... ! إنا لله وإنا إليه راجعون .. هذا هو الولد الرابع الذي يموت لإبراهيم تباعاً ، وكلما بلغ الطفل العام الثالث .. لحق بسابقه .. وبدلاً من أن يذهب إلى الأطباء ليعالج مع زوجته ، بعد التحليلات اللازمة .. فقد يكون مبعث ذلك مرض في دم الأب أو الأم .. اقتنع ، وقنع بأن ينذر مع زوجته مرة للشيخ هذا ، ومرة للضريح ذاك ، وأخرى لمغارة في جبل بني سويف .. إذا عاش طفله ، ولكن ذلك كله لم ينفعه .. ورغم الجهل والظلم الذي يظلمه لنفسه .. إلا أنني حزنت من أجله .. تألمت حقيقة .. أخذته من يده .. أدخلته .. جلست أستمع إلى التفاصيل ..!(177/12)
لقد عاد من طنطا مع زوجته إلى بلدهما ، وحملا معهما بعض أجزاء من (( الخروف )) الذي كان قد ذبح على أعتاب ضريح (( السيد البدوي )) .. فقد كانت تعاليم الجهالة تقضي بأن يعودا ببعضه .. التماساً لتوزيع البركة على بقية المحبين - وأيضاً - لكي يأكلوا من هذه الأجزاء .. التي لم تتوافر لها إجراءات الحفظ الصالحة ففسدت .. وأصابت كل من أكل منها بنزلة معوية .. وقد تصدَّى لها الكبار وصمدوا .. أما الطفل .. فمرض ،وانتظرت الأم - بجهلها - أن يتدخل (( السيد البدوي )) .. لكن حالة الطفل ساءت .. وفي آخر الأمر .. ذهبت به للطبيب الذي أذهله أن تترك الأم ابنها يتعذب طوال هذه الأيام ... فقد استغرق مرضه أربعة أيام ... وهزَّ الطبيب رأسه ، ولكنه لم ييأس .. وكتب العلاج .. (( أدوية )) وحقن ، ولكن الطفل .. اشتد عليه المرض ، ولم يقو جسمه على المقاومة .. فمات !
من موت الطفل بدأت المشاكل .. كانت الصدمة على الأم.. أكبر من أن تتحملها .. ففقدت وعيها .. أصابتها لوثة .. جعلتها تمسك بأي شيء تلقاه ، وتحمله على كتفها وتهدهده وتداعبه على أنه ابنها .. أما الأب فقد انطوى يفكر في جدية ، بعد أن جعلته الصدمة يبصر أن الأمر كله لله .. لا شريك له .. وأن ذهابه عاماً بعد عام .. إلى الأضرحة والقبور .. لم يزده إلا خسارة .. واعترف لي : بأن الحوار الذي دار بيني وبينه .. كان يطنّ في أذنيه .. عقب الكارثة ، ثم صمت .. ! فقلت له: بعض الكلام الذي يُخفّف عنه ، والذي يجب أن يُقال في مثل هذه المناسبات .. ولكن بقي في نفسه شيء من حديثه . فهو لم يكمل .. ماذا حدث للسيدة المنكوبة ، وهل شفيت من لوثتها أم لا ؟
فقلت له : لعل الله قد شفي الأم من لوثتها .؟ !(177/13)
فأجاب - وهو مطأطئ الرأس - : إن أهلها يصرون على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس - أيضاً - ويرفضون عرضها على أي طبيب من أطباء الأمراض النفسية والعصبية .. ليس ذلك فحسب .. بل ذهبوا بها إلى (( سيدة )) لها صحبة مع الجن فكتبت لها على طبق أبيض .. وهكذا تزداد العلة عليها في كل يوم وتتفاقم .. وكل ما يفعله الدجالون يذهب مع النقود المدفوعة إلى الفناء..!
وحينما أراد أن يحسم الأمر .. وأصرّ على أن تُعْرض على طبيب .. أو يطلقها لهم ؛ لأنهم سبب إفسادها .. برزت أمها تتحداه ، وركبت رأسها فاضطر إلى طلاقها وهو كاره ...!
* * * * *
* أثارتني قصته ، رغم حرصي على النسخة التي حصلت عليها من))الدكتور جميل )) إلا أنني أتيته بها وناولتها له .. فأمسك بها وقلبها بين يديه .. وعلى غلافها الأخير كان مكتوباً كلام راح يقرؤه بصوت عال .. كأنه يسمع نفسه قبل أن يسمعني (( نواقض الإسلام )) من كلمات شيخ الإسلام (( محمد بن عبد الوهاب )): { من يُشْرك بالله فقد حرَّم اللهُ عليه الجنّة ومأْواهُ النَّارُ وَما للظَّالمين مِنْ أنصار } [المائدة:72 ] ، ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر.
ورفع رأسه فحملق في وجهي .. ثم أخذ الكتاب ، وانصرف واشترط أن يعيده لي بعد أيام ، وأن أحضر له من الكتب ما يعينه على المضي في طريق (( التوحيد))
انصرف إبراهيم ، والمأساة التي وقعت له تتسرب إلى كياني قطرة بعد قطرة .. فهي ليست مأساة فرد ، ولا جماعة ، وإنما هي مأساة بعض المسلمين في كثير من الأمصار .. الخرافة أحب إليهم من الحقيقة ، والضلالة أقرب إلى أفئدتهم من الهداية ، والابتداع يجتذبهم بعيداً عن السنة ..! …(177/14)
حاولت الاتصال تليفونياً (( الدكتور جميل )) .. فقد كنت أريد أن أنهي إليه أخبار ( إبراهيم ) ولكني لم أجده فبدأت العمل في كتابات لمجلة شهرية تصدر في قطر .. اعتادت أن تنشر لي أبحاثاً عن الجريمة في الأدب العربي ، وصففت أمامي المراجع ، وبدأت مستعيناً بالله على الكتابة ، وإذا بالتليفون يدق .. كان المتكلم مصدراً رسمياً في وزارة الداخلية ـ يدعوني بحكم مهنتي كصحفي متخصص في الجريمة ـ لحضور تحقيق في قضية مصرع أحد عمال البلاط ، وكان قد عثر على جثته في جُوال منذ يومين ..!! …
تركت كل ما كان يشغلني إلى مكان التحقيق .. والغريب في الأمر .. أن يكون الأساس الذي قامت عليه هذه الجريمة هو السقوط أيضاً .. في هاوية الشرك والدّجل والشعوذة .. بشكل يدعو إلى الإشفاق .. فالقتيل كان يدّعي صحبة الجن ، والقدرة على التوفيق بين الزوجين المتنافرين ، وشفاء بعض الأمراض وقضاء الحاجات المستعصية ... إلى جانب عمله في مهنة البلاط..!…
أمّا المتهم القاتل .. فكان من أبناء الصعيد .. تجاوز الخمسين من عمره ،وكان متزوجاً من امرأة لم تنجب .. فطلقها وتزوج بأخرى في السابعة عشرة من عمرها لكنها هي الأخرى لم تنجب ... وبلغه من تحرياته أن مطلقته قامت بعمل سحر له - نكاية فيه - يمنعه من الإنجاب مع زوجته الجديدة . فاتصل بذلك الرجل الذي كان شاباً لم يتجاوز الأربعين .. واتفق معه على أن يقوم له بعمل مضاد .. وتلقف الدجّال فرصة مواتية ... وذهب معه إلى البيت .. وكتب له الدجال بعد أن تناول العشاء الدّسم .. بعض مستلزمات حضور الجن من بخور وشموع وعطور ، وذهب الرجل ليشتريها .. وترك ( الدجّال ) وزوجته الحسناء في البيت ..!…(177/15)
خرج الرجل مسرعاً يشتري البخور الذي سيحرق تمهيدًا لاستحضار الجن .. وترك الدجّال الشاب مع الزوجة الحسناء ..وكان لا بد أن يحدث ما يقع في مثل هذه المواقف .. فقد حاول المشعوذ أن يعتدي على الزوجة . إذ راودها في عنف ليفتك بشرفها ، وهي العفيفة الشريفة .. فقامت لتغادر البيت إلى جارة لها .. حتى يصل زوجها .. وإذا بها تجد زوجها على الباب .. فقد نسى أن يأخذ حافظة نقوده وروت له في غضب ما وقع من الدجّال ، وانفعل الزوج الصعيدي ، وحمل عصاة غليظة ودخل على الدجال في الغرفة ، وانهال عليه بالعصا .. حتى حطم رأسه .. بعدها وجد نفسه أمام جثة لا بد أن يتخلص منها .. فجلس يفكر !…
خرج ليلاً فاشترى جُوالاً ، وعاد فوضع الجثَّة فيه ، وانتظر حتى انتصف الليل .. ثم حمل الجثة على كتفه ، وألقى بها في خلاء على مقربة من الحي الذي يسكنون فيه .. وعاد إلى غرفته يحاول طمس الآثار ومحوها .. وظن أنه تخلص من الدجال الشاب إلى الأبد !
ولكن رجال الشرطة .. بعد عثورهم على الجثة .. بدأوا أبحاثهم عن الجُوال الذي يحتوي على الجثة .. وما كادوا يعرضونه على البقالين في المنطقة ، حتى قال لهم أحدهم : إن الذي اشتراه منه هو فلان ، وكان ذلك بالأمس فقط ، وألقت الشرطة القبض على الرجل ، وفتشت غرفته فوجدت الآثار الدالة على ارتكاب الجريمة .. وضُيِّقَ عليه الخناق فاعترف بتفاصيل الجريمة!
**********
* لم يكن حضوري هذا التحقيق صدفة، فكل شيء يجري في ملكوت الله بقدر ..إذ يسوق لي هذه الجريمة المتعلقة - أيضاً - بفساد العقيدة .. لتجعلني أناقش مع الآخرين.. قضية العقيدة والخرافة من بذورها الأولى .. ولماذا تروج الخرافة ، وتتغلغل في كيانات البشر دون وازع ؟ هل لأن الذين يتاجرون بها أوسع ذكاء من الضحايا ؟ …(177/16)
وماذا يجعل الضحايا ـ وهم ملايين ـ يندفعون إلى ممارستها ، والإيمان بها، والتعصب لها... ؟ أم أن (( الوثنية )) التي هي الإيمان بالمحسوس والملموس .. التي ترسبت في أذهان العالمين سنين طويلة تفرض نفسها على الناس من جديد . تساندها الظروف النفسية لبعض البشر . الذين يعجزون عن الوصول إلى تفسير لها!!؟…
* فالقاتل والقتيل في هذه الجريمة... كلاهما فاسد العقيدة .. لا يعرفان من الإسلام سوى اسمه .. فالقتيل مشعوذ يمشي بين عباد الله بالسوء ، ويكذب عليهم ، ويدّعي أنه على صلة بالجن ، وأنه يُشْفي ويُسْعد ، ويشفي ويمرض بمعاونة الجن ، وفي ذلك شرك مضاعف مع الإضرار بالناس .. أما القاتل فهو من فرط جهالته يعتقد أن إنساناً مثله في وسعه أن يجعله ينجب ولدًا أو بنتاً ! وقد يكون عذره أنه في لهفته على الإنجاب ألغى عقله ... غير أنه لو أن له عقيدة سليمة .. تُرسِّخُ في ذهنه أنَّ الله بلا شركاء ، وأن النفع والضر بيد الله فقط ، وتُؤصِّل هذه المفاهيم في أعماقه .. ما كان يمكنه أن يستسلم لدجال .. ولا استطاعت عقيدته أن تحميه من السقوط في أيدي مثل هذا المشعوذ!!…(177/17)
* وفي كثير من الأحيان يصل الأمر... ببعض المتعصبين إلى أن يجعل من نفسه داعية للخرافة .. يروج لها ، ويدافع عنها ، وعلى استعداد للقتال في سبيلها .. فقد نجد من ينبري في المجالس .. فيروي كيف أن الشيخ الفلاني أنقذه هذه الأيام من ورطة كانت تحيق به ، وأنه كان لن يحصل على الترقية هذا العام لولا أن الشيخ الفلاني صنع له تحويطة ، وأنه كان على خلاف مع زوجته وضَعَهُما على حافة الطلاق لولا أن الشيخ الفلاني كتب له ورقة وضعها تحت إبطه .. إلخ .. وتحضرني في هذا المجال قصة سيدة تخرجت من جامعة القاهرة ، ودرست حتى حصلت على الدكتوراه في علوم الزراعة ، وتشغل الآن وظيفة مديرة مكتب وزير زراعة إحدى الدول العربية ، هذه السيدة حاملة الدكتوراه ... عثر زوجها ذات يوم على حجاب تحت وسادته ، فسأل زوجته .. فقالت : إنها دفعت فيه ما لا يقل عن خمسين جنيهاً ؛ لكي تستميل قلبه ؛ لأنها تشعر بجفوته في الأيام الأخيرة .. وكانت النتيجة أن زوجها طلقها طبعاً .. وراوي قصتها هو محاميها نفسه الذي تولى دعواها التي أقامتها ضد زوجها…...!
* وترتفع الخرافة إلى الذروة ... حينما يعمد المتخصصون فيها إلى تقسيم تخصصات المشايخ والأضرحة... فضريح السيدة فلانة يزار لزواج العوانس ، والشيخ فلان يزار ضريحه في مسائل الرزق ، والقادرة الشاطرة صاحبة الضريح الفلاني يحج إليها في مشاكل الحب ،والهجر ، والفراق ، والطلاق ، وأخرى في أمراض الأطفال ، والعيون ، وعسر الهضم .. وهكذا... مؤامرة محكمة الحلقات .. تلف خيوطها حول السذَّج والمساكين ، وكأنهم لم يقرأوا في القرآن : { وإن يَمْسسك اللهُ بِضُرٍ فلا كاشف له إلاّ هُو وإن يمسسك بخيرٍ فهُو على كُلِ شيءٍ قدير } [ الأنعام : 17]، وكأنهم لم يسمعوا بالحديث الشريف : (( من تَعَلَّق تميمةً فقد أشرك)) .(177/18)
إن الانصياع إلى الخرافات ليس وقفاً على عامة الناس أو جهلتهم ، بل من المؤسف أنها تتمتع بسلطان كبير بين المتعلمين ، والذين درسوا في أرقى الجامعات . وإذاً فالأصل فيها هو أنها تتسلل إلى ضمائر الناس، الذين لا يحميهم عقيدة سليمة .. تصد عنهم هذه ( الشركيات ) الشرسة الضارية .. فالذي لا شك فيه ، هو أن الرجل الذي وثّق إيمانه بالله واقتنع بأن الله هو مالك كل شيء ، ورب كل شيء لا شريك ولا وسيط له .. هذا الرجل سوف يعيش في مناعة إيمانه .. متحصناً بعقيدته .. لا تصل إليه المفاسد ، بل وتنكسر على صخرة إيمانه كل هذه الخزعبلات .. لماذا ؟ لأنه أنهى أمره إلى الله ، ولم تعد المسألة في حسابه قابلة للمناقشة !
فالإيمان بالله ، واعتناق العقيدة السليمة شيء ليس بالضرورة في الكتب أو في الجامعات .. إنه أبسط من ذلك .. فالله سبحانه وتعالى جعله في متناول الجميع حتى لا يحرم منه فقير لفقره ... أو يستأثر به غني لغناه..!…
وبينما أنا منهمك أكتب هذه الحلقة إذ بضجيج تصحبه دقات عنيفة لطبل يمزق سكون الليل ويبدده . وراح هذا الضجيج يعلو ، ويعربد في ليل الحي .. دون أن يتوقف إلا لحظات .. يتغير فيها الإيقاع ثم يعود ضاربًا .. متوحشاً .. يهز الجدران .. وعرفت بخبرتي من الألحان ، والأصوات المنفردة التي تصاحبها أن إحدى المترفات من الجيران تقيم حفلة (( زار )) .. وأنها لا بد أن تكون قد دعت كل صديقاتها المصابات مثلها بمس من الجنّ ... لكي يشهدن حفلها ؛ إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تقيم فيها مثل هذه الحفلة ، فهي تقوم بعملها هذا مرة كل ستة شهور .. حرصاً على إرضاء الجن الذي يسكن جسدها...!…(177/19)
وعبثاً حاولت الوصول إلى وسيلة للهرب من تلك الكارثة التي تقتحم علي أذني .. فتركت الكتابة ، وحاولت أن أقرأ .. وفي خضم المعاناة .. جاء لي صديق لي من كبار علماء الأزهر ، ومن الذين يعملون في وزارة الأوقاف وشئون الأزهر ، ليزورني واستقبلته فرحاً ؛ لأنني أحب النِّقاش معه ، ولأنه سوف يخلصني من عذاب الاستماع إلى الدقات الهمجية.…
وشكوت إليه جارتي ، ودخلنا في المناقشة عن )) الجن )) وشكوى الناس منه ، وادّعاء السيدات أنه يركبهن ، والجيش الجرار من النساء ، والرجال الذين يحترفون عمل حفلات (( الزار )) . وإذا بالرجل الذي يحمل شهادة أزهرية عليا .. يؤكد لي أنه كانت له شقيقة مسَّها الجن عقب معركة نشبت بينها وبين زوجها فعطّل (( الجن )) ذراعها الأيمن عن العمل بضعة أيام .. ولم يتركها الجن إلا بعد أن أقاموا لها حفلة (( الزار )) ، عقدت الشيخة بينها وبين ( الجن ) معاهدة تعايش سلمي .. وترك ذراعها على أن تقيم هذا الحفل مرة كل عام.…
* كان هذا كلام الرجل العالم ... طال صمتي .. فقط كنت أفكر في المسكين إبراهيم الحران ، وزوجته الأمية ... فلا عتاب عليهما ولا لوم .. ما دام هذا هو رأي مثل هذا الرجل في (( الزار )) .. وكانت الدقات العنيفة لا تزال تصل إلى آذاننا ، والصمت المسكين يتلاشى أمام الأصوات المسعورة التي تصرخ في جنون تستجدي رضا الجن ، وتستعطف قلوب العفاريت.. !
انتهت سهرتي مع صديقي العالم الأزهري الخالص .. الذي فجعني فيه إخلاصي فيه .. إذ وجدته من المؤمنين بالخرافة ، المؤيدين لحكايات الجن . .. وأحسست بأن وقتي ضاع بين هذا المغلوط العقيدة ، ودقات (( الزار )) التي كانت تقتحم عليَّ نوافذ مكتبي .. دون مجير شهم ينقذني من الاثنين..!(177/20)
* وفي الصباح استيقظت على جرس التليفون .. يصيح صيحات طويلة ومعناها أنّ مكالمة قادمة من خارج القاهرة ... ورفعت السماعة .. لأجد أن المكالمة من الصعيد ، والمتكلم هو زوج خالتي ، ووالد زوجة (( إبراهيم الحران )) ..يعلنني أنهم سوف يصلون غداً . وقد اتصل ليتأكد أنني في القاهرة .. خوفاً من أن أكون على سفر .. فهو يريدني لأمر هام .. ورحبت به ، وقلت : إنني في انتظارهم .. ولم يكن أمامي سوى أن أفعل هذا لألف سبب وسبب !…
أولها : أن الرجل الذي اتصل بي أكنّ له كل الاحترام والحب ، وأنني لمست في صوته رقة الرجاء ، وأنا ضعيف أمام اليائس الذي يلجأ إليَّ في حاجة وفي وسعي أن أقضيها له .. أخشى أن أرده - ولو بالحسنى - وأحاول جاهداً أن أكون من الذين يجري الله الخير على أيديهم للناس .. رغم أن هذا يسبب لي الكثير من المتاعب ، وضياع الوقت إلا أنني أحتسب كل ذلك عند الله ..!…
وفي الغد ومع الركب الحزين ، وكان مؤلفاً من زوج خالتي ، وخالتي أم زوجة (( إبراهيم الحران )) وابنتها التي أصابتها اللوثة بعد وفاة طفلها .. وكانت في حالة يرثى لها . تفاقمت الحالة العقلية عندها ، ودخلت في مرحلة الكآبة العميقة .. رفضت معها الكلام ، وفقدت فيها الشعور بما يدور حولها .. لا تستطيع أن تفرق بين النوم واليقظة ، ولا تجيب عمَّن يحدثها ... انتقلت من دنيا الناس .. إلى دنيا الوهم والكآبة .. حتى زوت ، وصارت هيكلاً عظمياً ليس فيها من علامات الحياة سوى عينين كآلة زجاج يرسلان نظرات بلا معنى .. وقال لي الأب وهو حزين : إنه يريد مني أن أتصل بابني وهو طبيب أمراض عصبية ، ونفسية ، ويعمل في (( دار الاستشفاء للأمراض النفسية والعصبية بالعباسية )) لكي يجد لها مكاناً في الدرجة الأولى ..!(177/21)
كانت الأم تبكي وهي نادمة تعترف بآثامها .. وكيف أنها بإصرارها على علاج ابنتها عند المشايخ ، وبالجري والطواف حول الأضرحة ، وضياع الوقت - جعلت المرض يستفحل ، ويهدم كل قدرة لابنتها على مقاومته ..واعترفت بأنها أخطأت في حق زوج ابنتها (( إبراهيم الحران )) واستفزته بإصرارها على الخطأ ، ولكن عذرها أنها كانت ضحيةً لجهلها ، ولعشرات السيدات اللاتي كنَّ يؤكدن لها : أن تجاربهن مع المشايخ ، والأضرحة والدجالين .. تجارب ناجحة ، والمثل يقول : (( اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً))..!…
واستطعنا بفضل الله أن نجد لها مكاناً ، وأن نلحقها في نفس اليوم بالدرجة الأولى ، وقال لي ابني : إنها حالة مطمئنة ولا تدعو إلى اليأس .. كل ما في الأمر أن الإهمال جعلها تتفاقم .. وبعد مضي أسبوع واحد من العلاج تحسنت السيدة ، وقد عُولجت بالصدمات الكهربائية .. إلى جانب وسائل علاجية أخرى يعرفها المتخصصون ، وخلال ذلك اتصل بي (( إبراهيم الحران )) فقلت له : إنني أريده في أمر هام ، ولابد أنه يزورني في البيت ... وحينما جاء شرحت له الأمر ، وقلت له : إن الأطباء يرون في استرداده لزوجته جزءاً من العلاج - أيضاً - .. ولكن لفت نظري فيه .. أنه بعد قراءته للكتب التي حصلت له عليها من ( الدكتور جميل غازي ) في التوحيد أن أصبح إنساناً جديداً ... فالعبارات التي كانت تجري على لسانه .. من الإقسام تارة بالمصحف ، وتارة بالأنبياء ، وتارة ببعض المشايخ قد اختفت نهائياً .. وعاد يمارس حياته بأسلوبه الرجل الذي لا يعبد غير الله ، ولا يخشى إلا الله ، ولا يرجو سوى الله .. وحتى بعد أن حدثته في أن يعيد زوجته .. أصر على أن يجعل هذه العودة مشروطة بأن تقلع أم زوجته عن معتقداتها القديمة ، وكذلك والد زوجته .. أما زوجته .. فقال : إنه كفيل بها ، وعقدت بينهم جميعاً مجلساً لم ينقصه إلا الزوجة ؛ لأنها كانت في المستشفى ، وقبلوا شروطه بعد هذا الدرس القاسي!!…(177/22)
كان لزيارته لزوجته في المستشفى... أكبر الأثر في شفائها ، وزادت بهجتها حينما عرفت أنه أعادها إلى عصمته . قال لي ابني الذي كان يشرف على علاجها : إن عودتها إلى زوجها ، وزيارته لها كانت العلاج الحقيقي الذي عجَّل بشفائها ، لأنها وهي وحيدة أبويها .. حطمتها صدمة وفاة ابنها .. ثم قضت على البقية الباقية من عقلها صدمة طلاقها .. بعد شهر وعشرة أيام تقريباً تقرر خروجها ، وكان يتنظرها زوجها ووالدها ووالدتها في سيارة على الباب رحلت بهم إلى الصعيد فوراً!…
* لم أستطع أن أنزع من نفسي بقايا هذه المأساة ، ولم يكن من السهل أن أتغافل عن الخرافة التي تخرب أو تهدم كل يوم بل وكل لحظة عشرات النفوس والبيوت في عشيرتي ، و أبناء ديني .. وعلى امتداد الوطن الإسلامي كله ..… ووجدتني أسأل نفسي لما ذا نحن الذين نعيش في الشرق الأوسط .. تمزقنا الخرافة وتجثم على صدر مجتمعنا الخزعبلات، فتمسك بنا وتوقفنا عن ممارسة الحضارة.. ؟
* ومع أن الغرب ، والمجتمع الأوروبي ليس خالياً من الخرافات ، وليس خالياً من الخزعبلات ،ومع ذلك فهم يعيشون في حضارة ويمارسونها . تدفع بهم ويدفعون بها دائماً إلى الأمام!…
الواقع أن خزعبلاتهم وخرافاتهم في مجموعها معادية للروح ..تدفع بهم إلى الانزلاق أكثر من الماديات ، وهذا هو ما يتفق وحضارتهم !! …
أما هنا في الشرق .. فإن خرافاتنا معادية للعقل ، وللمادة معاً .. ! ولهذا كانت خرافاتنا هي المسئولة عن تدمير حياتنا في الحاضر والمستقبل.…
وليس هناك من سبيل لخروجنا من هذا المأزق الاجتماعي ، والحضاري سوى تنقية العقيدة مما ألصق بها وعلق بها من الشوائب التي ليست من الدين في شيء ..!
فحينما يصبح (( التوحيد )) أسلوب حياة ، وثقافة ، وعقيدة ... سوف تختفي من أفقنا وإلى الأبد .. هذه الغيوم .. غيوم الخرافات ، والدجل ، والشعوذة ، والكهانة التي لا تقوى .…(177/23)