…59 - فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع هذا لأمته.
…60 - وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئاً من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها/ أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين.
…61 - وكان أصحابه يُبتلون بأنواع البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم.
…62 - بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين. وكل بدعة ليست واجبة ولامستحبة فهي بدعة سيئة، وهي ضلالة باتفاق المسلمين.
…63 - ومن قال في بعض البدع إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة، فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقول أحد من المسلمين إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله، ومن تقرب إلى الله بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان، وسبيله من سبيل الشيطان.(166/55)
…64 - كما قال عبد الله بن مسعود(1): خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا وخط خطوطاً عن يمينه وشماله ثم قال: "هذا سبيل الله، وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثم قرأ (6: 153): {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.
…65 - فهذا أصل جامع يجب على كل من آمن بالله ورسوله أن يتبعه، ولا يخالف السنة المعلومة، وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، باتباع من خالف السنة والإجماع القديم، لا سيما وليس معه في بدعته إمام من أئمة المسلمين، ولا مجتهد يعتمد على قوله في الدين، ولا من يعتبر قوله في مسائل الإجماع والنزاع فلا ينخرم الإجماع بمخالفته، ولا يتوقف الإجماع على موافقته.
…66 - ولو قدر أنه نازع في ذلك عالم مجتهد لكان مخصوماً(2) بما عليه السنة المتواترة وباتفاق الأئمة قبله، فكيف إذا كان المنازع ممن ليس من المجتهدين ولا معه دليل شرعي، وإنما اتبع من تكلم في الدين بلا علم، ويجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
__________
(1) …أخرجه أحمد (1/435، 465). وابن حبان كما في الإحسان (1/106) حديث رقم (6). وابن جرير (8/88). والحاكم في المستدرك (2/318). وابن أبي عاصم في السنة (1/13) حديث (17). والبغوي في شرح السنة (1/196) وفي التفسير (2/142) (ط دار المعرفة). كلهم من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً. وعاصم قال فيه الحافظ في التقريب (1/383): "صدوق له أوهام".
…ولكن للحديث شاهد من حديث جابر يرتقي به إلى درجة الحسن، وهو ما رواه ابن ماجه في مقدمة سننه، باب اتباع السنة حديث (11). وابن أبي عاصم في السنة (1/13) حديث 16. والآجري ص12 من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر، ومجالد ليس بالقوي لكنه يصلح للاعتبار.
(2) …في خ: "مخصوصاً". والظاهر ما أثبتناه.(166/56)
…67 - بل(1) النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كونه لم يشرع هذا فليس هو واجباً ولا مستحباً، فإنه قد حرم ذلك وحرم ما يفضي إليه، كما حرم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.
…68 - ففي صحيح مسلم(2) عن جندب بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك".
__________
(1) …في ز، ب: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم -".
(2) …(1/377) 5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (23). وأبو عوانة (1/401). والنسائي في الكبرى، كما في تحفة الأشراف 2/443. والطبراني في الكبير 2/180، حديث (1686). وابن سعد في الطبقات 2/240، وله شاهد عنده (2/241) من حديث أبي أمامة عن كعب بن مالك، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، والقاسم ابن عبد الرحمن وهو صدوق يرسل كثيراً.(166/57)
…69 - وفي الصحيحين(1) عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - / قال قبل موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً(2).
__________
(1) …البخاري 23 - كتاب الجنائز، 61 - باب مايكره من اتخاذ المساجد على القبور، حديث (1330)، وباب 69 ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حديث (1390). و 64 - كتاب المغازي، 83 - باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته حديث، (4441) ومسلم 5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (19). والنسائي (4/78) كتاب الجنائز، باب اتخاذ القبور مساجد، كلهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وأخرجه البخاري 8 - كتاب الصلاة، 55 - باب حديث (436). و 60 - كتاب الأنبياء، 50 - باب ماذكر عن بني إسرائيل، حديث (3454). و 64 - كتاب المغازي، 83 - باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفاته، حديث (4444). و 77 - كتاب اللباس، 19 - باب الأكسية والخمائص، حديث (5816). ومسلم 5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد علىا لقبور، حديث (22). والنسائي (2/33) مساجد، باب النهي عن اتخاذ القبور مساجد وأبوعوانة (1/399، وأحمد 1/218. والدارمي 1/267. كلهم من حديث عائشة وابن عباس - رضي الله عنهما -.
…وأخرجه البخاري، 8 - كتاب الصلاة، 55 - باب، حديث (437). ومسلم 5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (20 - 21). وأبوداود 15 - كتاب الجنائز، 76 - باب البناء على القبر، حديث (3227). والنسائي (4/78) كتاب الجنائز، باب اتخاذ القبور مساجد. وأبوعوانة (1/400). كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) …وكان إعلانه - صلى الله عليه وسلم - هذا التشريع قبيل موته بخمسة أيام خوفاً على أمته من الوقوع فيما وقع به غيرها من الضلال والانحراف.(166/58)
…70 - واتخاذ المكان مسجداً هو أن يتخذ للصلوات الخمس وغيرها كما تبنى المساجد لذلك، والمكان المتخذ مسجداً إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين.
…71 - فحرم - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ قبورهم مساجد بقصد الصلوات فيها كما تقصد المساجد، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده؛ لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء به والدعاء عنده.
…72 - فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده؛ لئلا يتخذ ذلك(1) ذريعة إلى الشرك بالله. والفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ينهى عنه، كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة(2) لما في ذلك من المفسدة الراجحة، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك. وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة؛ لإمكان التطوع في غير ذلك من الأوقات.
…73 - ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب(3) فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات، وهو أظهر قولي العلماء؛ لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها فتفوت مصلحتها، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة(4)، بخلاف ما لا سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة، وفيه مفسدة توجب النهي عنه.
__________
(1) …سقط من: ز، ب.
(2) …وقت طلوع الشمس واستوائها في وسط السماء وغروبها.
(3) …كركعتي تحية المسجد.
(4) …سقط من: ز، ب.(166/59)
…74 - فإذا كان نهيه عن الصلاة(1) في هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك، لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها، كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها، كان معلوماً أن دعوة الشمس - والسجود لها هو محرم في نفسه - أعظم تحريماً من الصلاة التي نهى عنها؛ لئلا يفضي ذلك(2) إلى دعاء الكواكب.
…75 - كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فنهى عن قصدها للصلاة عندها؛ لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم والسجود لهم، لأن دعاءهم والسجود لهم أعظم تحريماً من اتخاذ قبورهم مساجد.
…76 - ولهذا كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين: زيارة شرعية وزيارة بدعية. فالزيارة الشرعية أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له.
…77 - فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال الله تعالى في المنافقين (9: 84): {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فنهى نبيه / عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون.
…78 - فلما نهى عن هذا وهذا؛ لأجل هذه العلة وهي الكفر دل على انتفاء هذا النهي عند انتفاء هذه العلة.
…79 - ودل تخصيصهم بالنهي على أن غيرهم يصلى عليه ويقام على قبره، إذ لو كان هذا غير مشروع في حق أحد لم يخصوا بالنهي، ولم يعلل ذلك بكفرهم.…
__________
(1) …في خ: "فيه" وهو زائد كما يظهر.
(2) …سقطت من: ز، ب.(166/60)
…80 - ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على موتى المسلمين وشرع ذلك لأمته، وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره، ويقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل" رواه أبوداود(1) وغيره.
…81 - وقد كان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحد، ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم"(2).
__________
(1) …(3/550) - 15 كتاب الجنائز، 73 - باب الاستغفار عند القبر للميت، (3221). والحاكم في المستدرك (1/370). والبيهقي (4/56). كلهم من حديث عثمان - رضي الله عنه - وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وصححه الألباني انظر أحكام الجنائز ص 156.
(2) …صحيح مسلم (2/669)، 11 - كتاب الجنائز، باب مايقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث (102)، وآخر حديث (103). والنسائي (4/76، كتاب الجنائز، باب الاستغفار للمؤمنين - وفي عمل اليوم والليلة (ص 588)، وأحمد (6/221)، وابن سعد في الطبقات (2/240، 241). كلهم عن عائشة رضي الله عنها.
…وأخرجه مسلم حديث (104). والنسائي (4/77) وفي عمل اليوم والليلة (ص 588) عن بريدة - رضي الله عنه -. وأخرج ابن سعد (2/240) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضاً.
…وليس في هذه المصادر "اللهم لا تحرمنا أجرهم" إلخ، وإنما هي في كتاب ابن السني. انظر الأذكار للنووي (ص 234)؛ فقد ذكر هذه الزيادة في حديث عائشة - رضي الله عنها -.(166/61)
…82 - وفي صحيح مسلم(1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة فقال: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".
…83 - والأحاديث في ذلك صحيحة معروفة. فهذه الزيارة لقبور المؤمنين مقصودها الدعاء لهم، وهذه غير الزيارة المشتركة التي تجوز في قبور الكفار.
…84 - كما ثبت في صحيح مسلم وأبي داود(2) والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أنه قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى(3) من حوله ثم قال: "استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فاستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة". فهذه الزيارة التي تنفع في تذكير الموت تشرع ولو كان المقبور كافراً، بخلاف الزيارة التي يقصد بها الدعاء للميت فتلك لا تشرع إلا في حق المؤمنين.
…85 - وأما الزيارة البدعية؛ فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجْوَبُ للدعاء.
…86 - فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عند غيره، وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك.
__________
(1) …(1/218)، 2 - كتاب الطهارة، حديث (39). وأبوداود (3/559)، 15 - كتاب الجنائز، حديث (3237). وابن ماجه (2/1439). 37 - كتاب الزهد، حديث (4306). وأحمد (2/300، 375، 408).
(2) …تقدم ص 8، رقم (3، 4).
(3) …في: ز، ب "بكى". وهو تصحيف.(166/62)
…87 - ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم؛ مثل أن يتخذ قبورهم مساجد، لكان ذلك محرماً منهياً عنه، ولكان صاحبه متعرضاً لغضب الله ولعنته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(1).
__________
(1) …رواه مالك في الموطأ (1/172) 9 - كتاب قصر الصلاة في السفر، 24 - باب جامع الصلاة، حديث (85) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا. وعبد الرزاق في المصنف (1/406، باب الصلاة على القبور برقم (1587) عن معمر عن زيد بن أسلم. وابن سعد في الطبقات (2/241). وابن أبي شيبة (3/345) من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم؛ فهو معضل عند هؤلاء، لكنه قد جاء موصولاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أخرجه أحمد (2/246). وأبونعيم في الحلية (7/317). والحميدي (2/445)، حديث (1024). كلهم من طريق سفيان بن عيينة.
…قال: حدثنا حمزة بن المغيرة الكوفي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً، وهذا إسناد حسن.
…حمزة بن المغيرة قال الحميدي في شأنه: وكان من سراة الموالي، ولعله من قول سفيان. وقال أبوالنضر: كان رجل الكوفة. وقال ابن معين: ليس به بأس.
…وذكره ابن حبان في الثقات، تهذيب الكمال (1/334).
…ورواه أبونعيم في الحلية (6/283) من طريق عبد الله بن هشام الدستوائي حدثني أبي ثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
…ورواه البزار كما في كشف الأستار (1/220) من طريق عمر بن صهبان - وهو ضعيف - عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد، وذكر ابن عبد البر في التمهيد (5/42) أن البزار رواه من طريق عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ثم صحح الحديث من طريق أبي سعيد روي بإسناد إلى البزار، وساق إسناد البزار إلا أنه قال: عمر بن محمد بدل عمر بن صهبان فينظر. وعلى كل حال فالحديث صحيح، انظر: الزرقاني (1/385).(166/63)
…88 - وقال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذّر ما صنعوا(1).
…89 - وقال: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك"(2).
…90 - فإذا كان هذا محرماً وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات ونيل الطَّلبات وقضاء الحاجات!؟ وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس.
…91 - قال ابن عباس(3): كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم.
__________
(1) …تقدم تخريجه (ص 30) رقم (1).
(2) …تقدم تخريجه في (ص 29) رقم (3).
(3) …أخرجه الطبري في تفسيره (2/334).(166/64)
…وقد استفاض عن ابن عباس وغيره في صحيح/ البخاري(1) وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء في قوله (23: 71): {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، قال ابن عباس: ثم صارت هذه الأوثان في قبائل العرب(2).
__________
(1) …تقدم تخريجه في (ص15).
(2) …"قال أبوعمر: الوثن الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة أو غير ذلك من التمثال، وكل ما يعبد من دون الله فهو وثن صنماً كان أو غير صنم، وكانت العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها فخشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم، كان إذا مات نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يصلى إليه ويسجد نحوه، ويعبد فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله، الذين صلوا إلى قبورهم أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدًا كما صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر؛ فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم.
…وكان - صلى الله عليه وسلم - يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار وكان يخاف على أمته اتباعهم، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - على جهة التعيير والتوبيخ: "لتتبعن سنن الذين كانوا قبلكم حذو النعل بالنعل حتى إن أحدهم لو دخل جحر ضب لدخلتموه". فجزاه الله عن التوحيد وسنة نبيه خيرًا.(166/65)
…92 - وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئاً آخر ذكروه في زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيرها(1)، ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم فإنهم لا يقرون، بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات ويسمع أصوات عباده ويجيب دعاءهم، فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليست كما يعرفه أهل الإيمان من أنها دعاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه.
…93 - كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم، بل هم يزعمون أن المؤثر في حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية.
…94 - فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلاً صالحاً قد مات لا سيما إن زار قبره فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعّال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشيء من ذلك - بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك - ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليه من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم.
…95 - وفي هذا القول من انواع الكفر مالا يخفى على من تدبره، ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين وخطابهم وتصرفهم ماهو من أسباب الضلال بني آدم، وجعل القبور أوثانًا هو أول الشرك.
__________
(1) …انظر ص (167).(166/66)
…96 - ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب ما يظن أنه من الميت وقد يكون من الجن والشياطين؛ مثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه الميت وكلمه وعانقه، وهذا يرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطان؛ فإن الشيطان يتصور بصور الإنس ويدعي أحدهم أنه النبي فلان أو الشيخ فلان ويكون كاذبًا في ذلك.
…97 - وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره، وهي كثيرة جدًا، والجاهل يظن أن ذلك - الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلمه - هو المقبور أو النبي أو الصالح وغيرهما، والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان ويتبين ذلك بأمور:
…98 - أحدها؛ أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فإذا قرأها تغيب ذلك الشخص أو ساخ في الأرض أو احتجب، ولو كان رجلاً صالحاً أو ملكاً أو جنيًّا مؤمنًا لم تضره آية الكرسي، وإنما تضر الشياطين، كما ثبت في الصحيح(1)
__________
(1) …البخاري، 40 - الوكالة، 10 - تعليقاً باب إذا وكل رجلاً، فترك الوكيل شيئًا فأجازه فهو جائز، حديث (2311) و 95 - بدء الخلق، 11 - باب صفة إبليس وجنوده، حديث (3275). والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (10/285) وفي اليوم والليلة (ص 531 - 533) حديث رقم (958، 959) والدلائل لأبي نعيم (2/475 - 476)، حديث (267)، وانظر الدر المنثور (2/15) وذكر أبونعيم في الدلائل (2/478) قصة لرجل صارع شيطاناً فصرعه مراراً ثم أخبر الجني ذلك الرجل بأن من قرأ سورة البقرة؛ فإن الشيطان لايسمع منها بشيء إلا أدبر له هيج كهيج الحمار. فقيل لابن مسعود: ومن ذلك الرجل؟ قال: ومن عسى إلا أن يكون عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
…وذكر السيوطي في الدر المنثور (2/10، 12) قصة لأبي أسيد وقصة لأبي أيوب مع الجن حيث سرقوا عليهما طعاماً ثم أخبرتهما الجن بأن التحصن من الشياطين يتم بقراءة آية الكرسي.(166/67)
من حديث أبي هريرة لما قال له الجني: اقرأ آية الكرسي إذا أويت إلى فراشك فإنه لايزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدقك وهو كذوب".
…99 - ومنها؛ أن يستعيذ بالله من الشياطين.
…100 - ومنها؛ أن يستعيذ بالمعوذة الشرعية، فإن الشياطين كانت تعرض للأنبياء في حياتهم وتريد أن تؤذيهم وتفسد عبادتهم.
…101 - كما جاءت الجن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشعلة من النار تريد أن تحرقه فأتاه جبريل بالمعوّذة المعروفة التي تضمنها الحديث المروي عن أبي التياح أنه قال: سأل رجل عبد الرحمن بن خنبش(1) وكان شيخًا كبيرًا قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كادته الشياطين؟ قال: تحدرت عليه من الشعاب والأودية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار يريد أن يحرق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال فرعب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - / فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يامحمد! قل، قال: "ما أقول؟" قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما يخرج من الأرض ومن شر ما ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرق، إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن. قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله عز وجل(2)
__________
(1) …عبد الرحمن بن خنبش (بمعجمة ثم نون ثم موحدة بوزن جعفر وقيل خنيس بمعجمة ثم نون مصغرا) التميمي البصري، عن ابن مسعود وعنه أبوعمران الجوني، وأبوالتياح، الإصابة (4/156)، وتعجيل المنفعة (ص 166).
(2) …ذكر الحافظ في الإصابة (4/157) أنه أخرجه ابن منده، والبزار، وأبوزرعة في مسنده، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحسن بن سفيان. كلهم من طريق عفان.
…وأخرجه أحمد (3/419) قال: ثنا سيار بن حاتم أبوسلمة العنزي قال: ثنا جعفر يعني ابن سليمان، قال ثنا أبوالتياح، قال: قلت لعبد الرحمن ابن خنيس التميمي: أدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم. قال: قلت: كيف صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة كادته الشياطين وساق الحديث، ثم ساقه مرة أخرى من طريق عفان ثنا جعفر به.
…قال الحافط: وذكره البخاري في الصحابة، وقال: في إسناده نظر. وقال ابن منده: وفي إسناده إرسال. وتعقبه أبونعيم بأن أبا التياح صرح بسؤاله له يعني فلا إرسال فيه، قال الحافظ: "ولعل ابن منده أراد أنه لم يصرح بسماعه لذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن المعتمد على من جزم بأن له صحبة".
…وفي الإسناد سيار بن حاتم الضبعي صدوق له أوهام. لكن روايته تتقوى بمتابعة عفان له.(166/68)
.
…102 - وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عفريتًا من الجن جاء يفتك بي البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله عز وجل منه فذعتُّه(1) أردت أن آخذه فأربطه إلى سارية من المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه، ثم ذكرت قول سليمان عليه السلام (38 : 35): {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فرده الله تعالى خاسئاً"(2).
…103 - وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه - صلى الله عليه وسلم - فصرعه فخنقه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى وجدت برد لسانه على يدي، ولولا دعوة سليمان لأصبح ذلك موثقاً حتى يراه الناس".
…104 - أخرجه النسائي(3) وإسناده على شرط البخاري كما ذكر ذلك أبوعبد الله المقدسي في مختاره الذي هو خير من صحيح الحاكم(4)
__________
(1) …نقل البخاري عن النضر بن شميل: أي خنقته. والذعت والدعت - بالدال والذال المضعفتين - الدفع العنيف.
(2) …البخاري، 8 - كتاب الصلاة، 75 - باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، حديث (461) و 60 - كتاب الأنبياء، باب 40، حديث (3423). و 65 - تفسير سورة 38 - باب 2، حديث (4808). ومسلم، كتاب المساجد، حديث (39) (1/384). وأحمد (2/298). والدلائل لأبي نعيم (2/474).
(3) …في الكبرى عن إسحاق بن إبراهيم عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش عن حصين ابن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة، انظر تحفة الأشراف (1/479) حديث (16307) وهو إسناد صحيح.
(4) …صحيح الحاكم (321 - 405) هو كتابه (المستدرك على الصحيحين) وقد طبع في حيدر أباد الدكن سنة (1335 - 1342 في أربع مجلدات كبيرة. وأبوعبد الله المقدسي.
…هو ضياء الدين محمد بن عبد الواحد السعدي الدمشقي المتوفى سنة 643، واسم مختاره (الأحاديث الجياد المختارة مما ليس في الصحيحين أو أحدهما) مرتب على المسانيد على حروف المعجم لا على الأبواب، وهو في 86 جزءًا، وهو يعد للطبع في المكتب الإسلامي.(166/69)
.
…105 - وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي صلاة الصبح وهو خلفه، فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: "لو رأيتموني وأبليس، فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل" رواه الإمام أحمد في مسنده(1)، وأبوداود في سننه(2).
__________
(1) …(3/82 - 83).
(2) …(1/448 - 449)، (107)، باب الدنو من السترة، حديث (699) هو وأحمد من طريق أبي أحمد الزبيري، أخبرنا مسرة بن معبد اللخمي قال: حدثني أبوعبيد حاجب سليمان... حدثني أبوسعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...، وذكر أحمد الحديث بطوله واقتصر أبوداود على قوله: "فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل".
…ورجال الإسناد كلهم ثقات إلا مسرة بن معبد فإنه صدوق له أوهام، كما قال الحافظ في التقريب (2/242). وقال الذهبي في الكاشف (3/136): "وثق" وقال ابن حَبان في المجروحين (3/42): "كان ممن ينفرد عن الثقات بما ليس من أحاديث الأثبات على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". وقال أبوحاتم: "شيخ ما به بأس".
…ويشهد له حديث أبي هريرة وعائشة فيرتقي بهما إلى درجة الحسن.(166/70)
…106 - وفي صحيح مسلم(1) عن أبي الدرداء أنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فسمعناه يقول "أعوذ بالله منك" ثم قال "ألعنك بلعنة الله ثلاثاً" وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من صلاته قلنا: يارسول الله سمعناك تقول شيئاً في الصلاة لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. قال: "إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت(2)، ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر(3). ثم أردت أن آخذه، ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به وِلدان المدينة".
…107 - فإذا كانت الشياطين تأتي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لتؤذيهم وتفسد عبادتهم، فيدفعهم الله تعالى بما يؤيد به الأنبياء من الدعاء والذكر والعبادة ومن الجهاد باليد، فكيف من هو دون الأنبياء؟ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قمع شياطين الإنس والجن بما أيده الله تعالى من أنواع العلوم والأعمال ومن أعظمها الصلاة والجهاد. وأكثر أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والجهاد.
__________
(1) …5 - كتاب المساجد (1/385)، 8 - باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، حديث (40). والنسائي (3/12 - 13)، كتاب السهو، باب لعن إبليس والتعوذ بالله منه في الصلاة.
(2) …في خ قال: "والتصحيح من مسلم".
(3) …في ز، ب، خ: "فاستأخر". والتصحيح من مسلم والنسائي.(166/71)
…108 - فمن كان متبعًا للأنبياء نصره الله سبحانه بما نصر به الأنبياء. وأما من ابتدع دينًا لم يشرعوه، فترك ما أمروا به من عبادة الله وحده لا شريك له واتباع نبيه فيما شرعه لأمته، وابتدع الغلوَّ في الأنبياء والصالحين والشرك بهم فإن هذا يتلعب به الشياطين، قال تعالى (16: 99 - 100): {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وقال تعالى (15: 42): {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ}.
…109 - ومنها؛ أن يدعو الرائي بذلك ربَّه تبارك وتعالى ليبين له الحال.
…110 - ومنها؛ أن يقول لذلك الشخص: أأنت فلان؟ ويقسم عليه بالأقسام المعظمة، ويقرأ عليه قوارع القرآن إلى غير ذلك من الأسباب التي تضر الشياطين.
…111 - وهذا كما كان كثيرًا من العباد يرى الكعبة تطوف به، ويرى عرشًا عظيماً وعليه صورة عظيمة، ويرى أشخاصاً تصعد وتنزل فيظنها الملائكة ويظن أن تلك الصورة هي الله تعالى وتقدس، ويكون ذلك شيطاناً.(166/72)
…112 - وقد جرت هذه القصة لغير واحد من الناس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبد القادر في حكايته المشهورة حيث قال: كنت مرة في /العبادة فرأيت عرشاً عظيماً وعليه نور، فقال لي: يا عبد القادر! أنا ربك وقد حللت لك ما حرمت على غيرك. قال: فقلت له أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ اخسأ ياعدو الله. قال: فتمزق ذلك النور وصار ظلمة، وقال: يا عبد القادر، نجوتَ مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك. لقد فتنتُ بهذه القصة سبعين رجلاً. فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان؟ قال: بقوله لي: "حلَّلت لك ما حرمت على غيرك"، وقد علمت أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تنسخ ولا تبدل، ولأنه قال أنا ربك، ولم يقدر أن يقول أنا الله الذي لا إله إلا أنا.
…113 - ومن هؤلاء من اعتقد أن المرئي هو الله، وصار هو وأصحابه يعتقدون أنهم يرون الله تعالى في اليقظة، ومستندهم ما شاهدوه. وهم صادقون فيما يخبرون به ولكن لم يعلموا أن ذلك هو الشيطان.
…114 - وهذا قد وقع كثيراً لطوائف من جهال العباد، يظن أحدهم أنه يرى الله تعالى بعينه في الدنيا لأن كثيراً منهم أُرِيَ ما ظن أنه الله وإنما هو شيطان.
…115 - وكثير منهم رأى من ظن أنه نبي أو رجل صالح أو الخضر وكان شيطاناً.(166/73)
…116 - وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي"(1).
__________
(1) …أخرجه البخاري، 3 - كتاب العلم، 38 - باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث (110)، وفي 78 - كتاب الأدب، 109 - باب من سمى بأسماء الأنبياء، حديث (6197)، وفي 91 - كتاب التعبير، 10 - باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، حديث (6993). ومسلم (4/1775)، 42 - كتاب الرؤيا، 1 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من رآني في المنام فقد رآني"، حديث (10، 11). وابن ماجه، 35 - كتاب التعبير، 2 - باب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، حديث (3901). وأحمد (2/232، 411، 463) و(5/306) في مسند أبي قتادة. كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
…وأخرجه البخاري عن أبي قتادة 91 - كتاب التعبير حديث (6995، 6996). ومسلم 42 - كتاب الرؤيا، تابع الحديث (11). وأخرجه البخاري في التعبير، حديث (6994). وأحمد (3/269) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
…وأخرجه الترمذي (3/365)، أبواب الرؤيا، باب 3، حديث (2378). وابن ماجه، 35 - كتاب تعبير الرؤيا، باب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام حديث (3900). وأحمد (1/375، 400، 440) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.
…وأخرجه مسلم، 42 - كتاب الرؤيا، حديث (12، 13). وابن ماجه 35 - تعبير الرؤيا 1 - باب رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام حديث (3902). وأحمد (3/305) من حديث جابر - رضي الله عنه -.
…وأخرجه ابن ماجه 35 - تعبير، حديث (3904) من حديث أبي جحيفة - رضي الله عنه -.(166/74)
…117 - فهذا في رؤية المنام؛ لأن الرؤية في المنام تكون حقًّا وتكون من الشيطان فمنعه الله أن يتمثل به في المنام، وأما في اليقظة فلا يراه أحد بعينه في الدنيا فمن ظن أن المرئي هو الميت فإنما أُتِيَ من جهله، ولهذا لم يقع مثل هذا لأحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان(1).
…118 - وبعض من رأى - هذا أو صدق من قال: إنه رآه - اعتقد أن الشخص الواحد يكون بمكانين في حالة واحدة فخالف صريح المعقول.
…119 - ومنهم من يقول هذه رقيقة ذلك المرئي أو هذه روحانيته أو هذه معناه لشكل(2) ولا يعرفون أنه جنّي تصور بصورته.
…120 - ومنهم من يظن أنه مَلَك، والملك يتميز عن الجني بأمور كثيرة، والجن فيهم الكفار والفساق والجهال، وفيهم المؤمنون المتبعون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تسليماً، فكثير ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة.
…121 - وكذلك الذين يدعون الكواكب وغيرها من الأوثان تتنزل على أحدهم روح يقول هي روحانية الكواكب، ويظن بعضهم أنه من الملائكة وإنما هو من الجن والشياطين يغوون المشركين.
…122 - والشياطين يوالون من يفعل ما يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان؛ فتارة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة ليكاشف بها، وتارة يؤذون من يريد أذاه بقتل وتمريض ونحو ذلك، وتارة يجلبون له من يريد من الإنس، وتارة يسرقون له ما يسرقونه من أموال الناس من نقد وطعام وثياب وغير ذلك، فيعتقد أنه من كرامات الأولياء وإنما يكون مسروقًا، وتارة يحملونه في الهواء فيذهبون به إلى مكان بعيد.
__________
(1) …بل إن أكثر أصحاب هذه الدعوى، من المعروفين بالكذب في الأمور المحسوسة الملموسة، فمن كانت هذه حاله لا يصدق فيما يزعم وراء ذلك.
(2) …قال السيد رشيد رضا رحمه الله: لعلها "تشكل" أي ظهر في شكل حسي.(166/75)
…123 - فمنهم من يذهبون به إلى مكة عشية عرفة ويعودون به فيعتقد هذا كرامة، مع أنه لم يحج حج المسلمين؛ لا أحرم ولا لبى ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، ومعلوم أن هذا من أعظم الضلال.
…124 - ومنهم من يذهب إلى مكة ليطوف بالبيت من غير عمرة شرعية. فلا يُحرم إذا حاذى الميقات.
…125 - ومعلوم أن من أراد نسكا بمكة لم يكن له أن يُجاوز الميقات إلا محرماً، ولو قصدها لتجارة أو لزيارة قريب له أو طلب علم كان مأمورًا أيضاً بالإحرام من الميقات، وهل ذلك واجب أو مستحب؟ فيه قولان مشهوران للعلماء.
…126 - وهذا باب واسع، ومنه السحر والكهانة، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
…127 - وعند المشركين عبَّاد الأوثان ومن ضاهاهم من النصارى ومبتدعة هذه الأمة في ذلك من / الحكايات ما يطول وصفه، فإنه ما من أحد يعتاد دعاء الميت والاستغاثة به نبيًّا كان أو غير نبي إلا وقد بلغه من ذلك ما كان من أسباب ضلاله، كما أن الذين يدعونهم في مغيبهم ويستغيثون بهم فيرون من يكون في صورتهم أو يظنون أنه في صورتهم ويقول أنا فلان ويكلمهم ويقضي بعض حوائجهم، فإنهم يظنون أن الميت المستغاث به هو الذي كلمهم وقضى مطلوبهم وإنما هو من الجن والشياطين.
…128 - ومنهم من يقول هو ملك من الملائكة، والملائكة لا تعين المشركين وإنما هم شياطين أضلوهم عن سبيل الله.
…129 - وفي مواضع الشرك من الوقائع والحكايات التي يعرفها من هنالك ومن وقعت له ما يطول وصفه.
…130 - وأهل الجاهلية فيها نوعان: نوع يكذّب بذلك كله، ونوع يعتقد ذلك كرامات لأولياء الله.
…131 - فالأول يقول: إنما هذا خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة فمن رأى ذلك وعاينه موجوداً أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجوداً في الخارج وأخبره به من لا يرتاب في صدقه كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك والعارفين به بالأخبار الصادقة.(166/76)
…132 - ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدّي فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه في قوله تعالى (10: 62 - 63): {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، فيرون من هو مِن أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين.
…133 - فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلي بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين.
…134 - ومنهم من يبقى حائرًا مترددًا شاكاً مرتاباً، يقدم إلى الكفر رِجلاً وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان.
…135 - وسبب ذلك؛ أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك قال تعالى (26: 221 - 222): {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ* تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}.
…136 - وهؤلاء لابد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذي بعث به نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم وهي دلالة وعلامة على ذلك، والجاهل الضالُّ يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه.(166/77)
…137 - وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك في مسألة (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلاً على الولاية تكون للكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان/ فضلاً عن الولاية ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلاً عليه.
…138 - وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق، وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو لحاجة للمسلمين، والمقتصدون قد يستعملونها في المباحات، وأما من استعان بها في المعاصي فهو ظالم لنفسه، متعد حدَّ ربه، وإن كان سببها الإيمان والتقوى.
…139 - فمن جاهد العدو فغنم غنيمة فأنفقها في طاعة الشيطان فهذا المال وإن ناله بسبب عمل صالح فإذا أنفقه في طاعة الشيطان كان وبالاً عليه، فكيف إذا كان سبب الخوارق الكفر والفسوق والعصيان وهي تدعو إلى كفر آخر وفسوق وعصيان، ولهذا كان أئمة هؤلاء معترفين بأن أكثرهم يموتون على غير الإسلام. ولبسط هذه الأمور موضع آخر.
…140 - والمقصود هنا أن من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان؛ كإخبار عن غائب أو أمر يتضمن قضاء حاجة ونحو ذلك، فإذا شاهد أحدهم القبر انشق وخرج منه شيخ بهيّ عانقه أو كلمه ظن أن ذلك هو النبي المقبور (أو الشيخ المقبور)(1)، والقبر لم ينشق وإنما الشيطان مثل له ذلك، كما يمثل لأحدهم أن الحائط انشق وأنه خرج منه صورة إنسان ويكون هو الشيطان تمثل له في صورة إنسان وأراه أنه خرج من الحائط.
__________
(1) …سقط من: ز، ب.(166/78)
…141 - ومن هؤلاء من يقول لذلك الشخص الذي رآه قد خرج من القبر: نحن لا نبقى في قبورنا، بل من حين يقبر أحدنا يخرج من قبره ويمشي بين الناس.
…142 - ومنهم من يرى ذلك الميت في الجنازة يمشي ويأخذه بيده، إلى أنواع أخرى معروفة عند من يعرفها.
…143 - وأهل الضلال إما أن يكذبوا بها وإما أن يظنوها من كرامات أولياء الله، ويظنون أن ذلك الشخص هو نفس النبي أو الرجل الصالح أو ملك على صورته.
…144 - وربما قالوا: هذا روحانيته أو رقيقته أو سره أو مثاله أو روحه تجسدت، حتى قد يكون من يرى ذلك الشخص في مكانين فيظن أن الجسم الواحد يكون في الساعة الواحدة في مكانين، ولا يعلم أن ذلك حين تصور بصورته ليس هو ذلك الإنسي.(166/79)
…145 - وهذا ونحوه مما يبين أن الذين يدْعون الأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم (وغير قبورهم)(1) من المشركين الذين يدعون غير الله، كالذين يدعون الكواكب، والذين اتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، قال تعالى (3: 79 - 80): {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وقال تعالى (17: 56 - 57): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}، وقال تعالى (34: 22 - 23): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
…146 - ومثل هذا كثير في القرآن ينهى أن يُدعى غير الله لا من الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، فإن هذا شرك أو ذريعة إلى الشرك. بخلاف ما يطلب من أحدهم في حياته من / الدعاء والشفاعة فإنه لا يفضي إلى ذلك، فإن أحداً من الأنبياء والصالحين لم يُعبد في حياته بحضرته، فإنه ينهى من يفعل ذلك بخلاف دعائهم بعد موتهم فإن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم، وكذلك دعاؤهم في مغيبهم هو ذريعة إلى الشرك.
__________
(1) …سقطت من: ز، ب.(166/80)
…147 - فمن رأى نبياً أو ملكاً من الملائكة وقال له: "ادع لي" لم يفض ذلك إلى الشرك به، بخلاف من دعاه في مغيبه فإن ذلك يفضي إلى الشرك به كما قد وقع، فإن الغائب والميت لا ينهى من يشرك، بل إذا تعلقت القلوب بدعائه وشفاعته أفضى ذلك إلى الشرك به فدُعي وقصد مكان قبره أو تمثاله أو غير ذلك، كما قد وقع فيه المشركون ومن ضاهاهم من أهل الكتاب ومبتدعة المسلمين.
…148 - ومعلوم أن الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم كما قال تعالى: (40: 7 - 9) {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال تعالى (42: 5 - 6): {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}.
…149 - فالملائكة يستغفرون للمؤمنين من غير أن يسألهم أحد. وكذلك ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين يدعو ويشفع للأخيار من أمته، هو من هذا الجنس، هم يفعلون ما أذن الله لهم فيه بدون سؤال أحد.(166/81)
…150 - وإذا لم يشرع دعاء الملائكة لم يشرع دعاء من مات من الأنبياء والصالحين، ولا أن نطلب منهم الدعاء والشفاعة وإن كانوا يدعون ويشفعون، لوجهين:
…151 - أحدهما: أن ما أمر الله به من ذلك هم يفعلونه وإن لم يطلب منهم، وما لم يؤمروا به لا يفعلونه ولو طلب منهم، فلا فائدة في الطلب منهم.
…152 - الثاني: أن دعاءهم وطلب الشفاعة منهم في هذه الحال يفضي إلى الشرك بهم ففيه هذه المفسدة، فلو قُدِّر أن فيه مصلحة لكانت هذه المفسدة راجحة، فكيف ولا مصلحة فيه. بخلاف الطلب منهم في حياتهم وحضورهم فإنه لا مفسدة فيه، فإنهم ينهون عن الشرك بهم. بل فيه منفعة، وهو أنهم يثابون ويؤجرون على ما يفعلونه حينئذ من نفع الخلق كلهم؛ فإنهم في دار العمل والتكليف، وشفاعتهم في الآخرة فيها إظهار كرامة الله لهم يوم القيامة.
…153 - وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التي لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه.
…154 - وسؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى (94: 7 -8): {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أي ارغب إلى الله تعالى لا إلى غيره. وقال تعالى (9: 59): {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فجعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى (59: 7): {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فأمرهم بإرضاء الله ورسوله.(166/82)
…155 - وأما في الحَسْب فأمرهم أن يقولوا: {حسبنا الله} لا [أن] يقولوا: حسبنا الله ورسوله. ويقولوا(1) (9: 59): {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} لم يأمرهم أن يقولوا: إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى في الآية الأخرى (24: 25): {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده.
…156 - وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "يا غلام! إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جفَّ القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضرُّوك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل/ لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً"(2).
…157 - وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً، وقوله: "اذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" هو من أصح ماروى عنه.
__________
(1) …في خ: وقالوا.
(2) …أخرجه أحمد (1/293، 303، 307) من طريقين منقطعين، ومن طرق صحيحة متصلة إلى قيس بن الحجاج الكلاعي المصري وهو صدوق، عن حنش الصنعاني عن ابن عباس - رضي الله عنه - والترمذي (4/667)، 38 - كتاب صفة القيامة، حديث (2516) من طريقين إلى قيس بن الحجاج به. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
…قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص 174): "وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه علي ومولاه عكرمة وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار وعبيد الله بن عبد الله وعمرو مولى عفرة وابن أبي مليكة وغيرهم، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي كذا قاله ابن منده وغيره".(166/83)
…158 - وفي المسند لأحمد(1) أن أبا بكر الصديق كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً.
__________
(1) …لم أجد هذا الحديث في المسند والذي وجدته في المسند (1/11) عن ابن أبي مليكة قال: "كان ربما سقط الخطام من يد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه، قال: فقالوا له: أفلا أمرتنا نناولكه فقال: إن حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني ألا أسأل الناس شيئاً" وهو ضعيف لانقطاعه لأن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر - رضي الله عنه -.
…وقد ضعفه الشيخ أحمد شاكر (1/180) رقم (65) تحقيقه. وأخرج ابن ماجه (1/588) 8 - كتاب الزكاة، حديث (1836) عن ثوبان بإسناد حسن، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن يتقبل لي بواحدة أتقبل له بالجنة؟" قلت: أنا. قال: لا تسأل الناس شيئاً.
…قال عبد الرحمن بن يزيد الراوي عن ثوبان: "فكان ثوبان يقع سوطه، وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه، حتى ينزل فيأخذه.
…وله متابعة في أبي داود (2/295) 3 - كتاب الزكاة، حديث (1643) من طريق شعبة عن عاصم عن أبي العالية عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة". فقال ثوبان: أنا؛ فكان لا يسأل أحداً.(166/84)
…159 - وفي صحيح مسلم(1) عن عوف بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع طائفة من أصحابه وأسرَّ إليهم كلمة خفية: أن لا تسألوا الناس شيئاً. قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه.
…160 - وفي الصحيحين(2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب"، وقال: "هم الذين لا يَسترْقُون ولا يكتوون ولا يتطيَّرون وعلى ربهم يتوكلون" فمدح هؤلاء بأنهم لا يسترقون، أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم. والرقية من جنس الدعاء فلا يطلبون من أحد ذلك.
__________
(1) …(2/721)، 12 - كتاب الزكاة 35 - باب كراهية المسألة للناس حديث (108). وأخرجه أبوداود (2/294)، 27 - باب كراهية المسألة حديث (1642). وابن ماجه (2/957)، 24 - كتاب الجهاد - باب 41 - باب البيعة، حديث (2867). والنسائي (1/185 - 186) كتاب الصلاة، باب البيعة على الصلاة.
(2) …البخاري، 76 - كتاب الطب، 17 - باب من اكتوى أو كوى غيره، حديث (5705)، و 81 - الرقاق، 21 - باب "ومن يتوكل على الله فهو حسبه، حديث (6472)، و 50 - باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، حديث (6541).
…ومسلم (1/199)، 1 - كتاب الإيمان، باب 94، حديث (374). والترمذي 38 - كتاب صفة القيامة، باب 16 - حديث (2446). وأحمد (1/271، 321). كلهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما.
…وأحمد (1/401، 403) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. ومسلم (1/198)، 1 - كتاب الإيمان، 94 - باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، حديث (371، 372) من حديث عمران بن حُصين - رضي الله عنه -.(166/85)
…161 - وقد روي فيه "ولا يرقون"(1) وهو غلط، فإن رقيتهم(2) لغيرهم ولأنفسهم حسنة.
…162 - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرقي نفسه(3).
…163 - وغيره(4) ولم يكن يسترقي، فإن رقيته نفسه وغيره من جنس الدعاء لنفسه ولغيره، وهذا مأمور به، فإن الأنبياء كلهم سألوا الله ودعوه كما ذكر الله ذلك في قصة آدم وإبراهيم وموسى وغيره.
__________
(1) …هذه الزيادة في صحيح مسلم من حديث ابن عباس رواها من طريق هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهي ضمن الحديث (374) السابق.
(2) …في ز، ب: "رقياهم".
(3) …يشير - رحمه الله - إلى حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه، كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها.
…رواه البخاري: 66 - كتاب فضائل القرآن. 14 - باب فضل المعوذات حديث (5016)، و 76 - كتاب الطب، 32 - باب الرقي بالقرآن والمعوذات، حديث (5735). ومسلم، (4/1723)، 39 - كتاب السلام، 20 - باب رقية المريض بالمعوذات والنفث، حديث (50، 51). وأبوداود (4/224)، 22 - كتاب الطب 19 - باب كيف الرقى، حديث (3902). ومالك في الموطأ (2/942 - 943)، 50 - كتاب العين. 4 - باب في التعوذ من المرض، حديث (10). وأحمد (6/104، 114). وابن ماجه (2/1166)، 31 - كتاب الطب، 38 - باب النفث في الرقية حديث (3529).
(4) …يشير - رحمه الله - إلى حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عاد مريضاً يقول: "أذهب البأس، رب الناس اشفه أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما".
…انظر صحيح مسلم (4/1722)، حديث (46 - 84). ومسند أحمد (6/114).(166/86)
…164 - وما يروى أن الخليل لما ألقي في المنجنيق(1) قال له جبريل: سل، قال: "حسبي من سؤالي علمه بحالي"(2) ليس له إسناد معروف وهو باطل.
…165 - بل الذي ثبت في الصحيح(3) عن ابن عباس أنه قال: "حسبي الله ونعم الوكيل" قال ابن عباس: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قال لهم(4) الناس (3: 173): {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}.
__________
(1) …آلة كانت تقذف بها الحجارة على الحصون في الحروب، وقذقوا بها إبراهيم لما أرادوا أن يحرقوه بالنار.
(2) …ذكره البغوي في تفسيره تفسير سورة الأنبياء (3/250) قال: وروي عن أبي بن كعب، ثم ذكر قصة إحراق إبراهيم، وذكر خلاله قوله: "حسبي من سؤالي..." إلخ. وقال العجلوني في كشف الخفاء (1/357) بعد ذكره هذا الأثر: وذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء بلفظ وروي عن كعب الأحبار... وذكر قصة من جملتها هذا الأثر، ولعل ذهنه انتقل من أبي بن كعب إلى كعب الأحبار، وذلك أن الموجود في تفسير البغوي في الطبعتين إنما هو عن أبي بن كعب انظر الطبعة بحاشية الخازن (3/331) وكذلك الخازن نفسه (3/230) بالإضافة إلى طبعة دار المعرفة التي أحلنا إليها سابقاً.
…فالأمر - كما قال شيخ الإسلام - ليس له إسناد معروف وهو باطل.
(3) …البخاري، 65 - كتاب التفسير، 13 - باب {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم}، حديث (4563، 4564). والحاكم في المستدرك (2/298) بإسناد البخاري.
=…قال ابن كثير في تفسيره (2/147): "والعجب أن الحاكم رواه من حديث أحمد بن يونس، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
…والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (5/238).
(4) …أي قالوا للرسول وللمؤمنين.(166/87)
…166 - وقد روي أن جبريل قال: هل لك من حاجة؟ قال: "أما إليك فلا" وقد ذكر هذا الإمام أحمد وغيره(1).
…167 - وأما سؤال الخليل لربه عز وجل فهذا مذكور في القرآن في غير موضع(2)، فكيف يقول حسبي من سؤالي علمه بحالي، والله بكل شيء عليم، وقد أمر العباد بأن يعبدوه ويتوكلوا عليه ويسألوه؛ لأنه سبحانه جعل هذه الأمور أسبابًا لما يرتبه عليها من إثابة العابدين، وإجابة السائلين.
…168 - وهو سبحانه يعلم الأشياء علىماهي عليه، فعلمه بأن هذا محتاج أو هذا مذنب لا ينافي أن يأمر هذا بالتوبة والاستغفار، ويأمر هذا بالدعاء وغيره من الأسباب التي تقضي بها حاجته، كما يأمر هذا بالعبادة والطاعة التي بها ينال كرامته.
…169 - ولكن العبد قد يكون مأمورًا في بعض الأوقات بما هو أفضل من الدعاء كما روي في الحديث:
…"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
__________
(1) …لم أجده في المسند، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره (5/345)، فقال: "وقد ذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة؟ ... الأثر، ولم يعزه إلى المسند، وهو من حفاظ المسند. ورواه ابن جرير في تفسيره (17/45) بإسناده إلى معتمر بن سليمان عن بعض أصحابه، قال: جاء جبريل إلى إبراهيم عليه السلام فذكره، وذكره السيوطي في الدر (5/641) وعزاه إلى ابن جرير فحسب.
(2) …سيذكر شيخ الإسلام بعض أدعية إبراهيم فيما يأتي قريباً.(166/88)
…170 - وفي الترمذي(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" قال الترمذي: حديث حسن غريب.
…171 - وأفضل العبادات البدنية الصلاة، وفيها القراءة والذكر والدعاء وكل واحد في موطنه مأمور به، ففي القيام بعد الاستفتاح يقرأ القرآن، وفي الركوع ، والسجود ينهى عن قراءة القرآن ويؤمر (بالتسبيح والذكر وفي آخرها يؤمر)(2) بالدعاء، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو في القيام أيضاً وفي الركوع،/ وإن كان جنس القراءة والذكر أفضل.
__________
(1) …في (5/184)، 46 - كتاب فضائل القرآن، حديث (2926). والدارمي (2/317)، فضائل القرآن، 6 - باب فضل كلام الله على سائر الكلام، حديث (3359)، كلاهما من حديث عطية ابن سعد العوفي، وهو صدوق يخطيء كثيراً، وكان شيعياً مدلسا، وقد عنعن في هذا الحديث، وقد ذكره الحافظ في الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين (ص 50): "وهم من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع" وأورده الحافظ الضياء في كتاب فضائل الأعمال (ص 107).
(2) …من قوله: "بالتسبيح" إلى : "يؤمر" سقطت من: ز، ب.(166/89)
…172 - فالمقصود أن سؤال العبد لربه السؤال المشروع حسن مأمور، وقد سأل الخليل وغيره، قال تعالى عنه (14: 37 - 41): {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ* رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}. وقال تعالى (2: 127 - 129): {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.(166/90)
…173 - وكذلك دعاء المسلم لأخيه حسنٌ مأمور به، وقد ثبت في الصحيح(1) عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل"(2) أي بمثل ما دعوت لأخيك به.
…174 - وأما سؤال المخلوق المخلوق(3) أن يقضي حاجة نفسه أو يدعو له فلم يؤمر به، بخلاف سؤال العلم فإن الله أمر بسؤال العلم كما في قوله تعالى: (16: 43 و 21: 7): {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقال تعالى: (10: 94): {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} وقال تعالى: (43: 45): {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
…175 - وهذا لأن العلم يجب بذله، فمن سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة(4)
__________
(1) …مسلم (4/2094)، 48 - كتاب الذكر، 23 - باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، حديث (86، 87). وابن ماجه (2/967)، 25 - مناسك، 5 - باب فضل دعاء الحاج حديث (2895).
(2) …في ز، ب: "بمثله".
(3) …سقطت من: ز، ب.
(4) …يشير إلى حديث رواه أبوهريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - أَمَّا حديث أبي هريرة، فأخرجه أبوداود 19 - كتاب العلم، 9 - باب كراهية منع العلم حديث (3658). والترمذي، 42 - كتاب العلم، 3 - باب ماجاء في كتمان العلم حديث (2649). وابن ماجه، 24 - باب من سئل عن علم فكتمه، حديث (261). وابن عبد البر في جامع بيان العلم (ص4). كلهم من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعاً. وذكره صاحب مشكاة المصابيح في كتاب العلم حديث (223)، قال الشيخ الألباني - معلقاً عليه -: "صحيح وقد أعلّ بالانقطاع وليس بشيء".
…وأما حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - فأخرجه الحاكم في المستدرك (1/102) بإسناده إلى أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو، وقال: "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وليس له علة". وابن حبان (1/169)، حديث (96). وابن عبد البر، جامع بيان العلم (ص5) وهو شاهد لحديث أبي هريرة. وانظر المدخل إلى الصحيح للحاكم (1/88 - 89).(166/91)
. وهو يزكو على التعليم، لا ينقص بالتعليم كما تنقص الأموال بالبذل. ولهذا يشبه بالمصباح.
…176 - وكذلك من له عند غيره حق من عين أو دين كالأمانات مثل الوديعة والمضاربة، لصاحبها أن يسألها ممن هي عنده.
…177 - وكذلك مال الفيء وغيره من الأموال المشتركة التي يتولى قسمتها ولي الأمر، للرجل أن يطلب حقه(1) منه كما يطلب حقه من الوقف والميراث والوصية، لأن المسئول(2) يجب عليه أداء الحق إلى مستحقيه.
…178 - ومن هذا الباب سؤال النفقة لمن تجب عليه، وسؤال المسافر الضيافة لمن تجب عليه كما استطعم موسى والخضر أهل القرية.
…179 - وكذلك الغريم له أن يطلب دَينه ممن هو عليه. وكل واحد من المتعاقدين له أن يسأل الآخر أداء حقه إليه: فالبائع يسأل الثمن، والمشتري يسأل المبيع. ومن هذا الباب قوله تعالى: (4: 1): {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ}.
…180 - ومن السؤال مالا يكون مأموراً به، والمسئول مأمور بإجابة السائل: قال تعالى (93: 10): {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} وقال تعالى (70: 24 - 25): {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ* لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وقال تعالى (22: 36): {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}(3).
…181 - ومنه الحديث: "إن أحدكم ليسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها ناراً"(4)
__________
(1) …سقطت من: ز، ب.
(2) …في ز، ب: "المستولي".
(3) …القانع: الفقير الذي لا يسأل، والمعتر: المتعرض للسؤال.
(4) …أخرجه أحمد في المسند (3/4، 16) من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
…وهو إسناد صحيح؛ لأن الأعمش وإن كان قد عنعن فيه فإنه من روايته عن أبي صالح، وهو من كبار شيوخه وما كان من روايته عن كبار شيوخه يحمل على الاتصال، انظر الميزان للذهبي (2/224).(166/92)
وقوله: /"اقطعوا عني لسان هذا"(1).
…182 - وقد يكون السؤال منهياً عنه نهي تحريم أو تنزيه، وإن كان المسئول مأموراً بإجابة سؤاله. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان من كماله أن يعطي السائل، وهذا في حقه من فضائله ومناقبه، وهو واجب أو مستحب، وإن كان نفس سؤال السائل منهيًّا عنه.
…183 - ولهذا لم يعرف قط أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوه شيئاً من ذلك، ولا سألوه أن يدعو لهم وإن كانوا قد يطلبون منه أن يدعو للمسلمين، كما أشار عليه عمر في بعض مغازيه لما استأذنوه في نحر بعض ظهرهم(2) فقال عمر: يارسول الله! كيف بنا إذا لقينا العدو غدًا رجالاً(3) جياعاً! ولكن إن رأيت أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها ثم تدعو الله بالبركة فإن الله يبارك لنا في دعوتك. وفي رواية: فإن الله سيغيثنا بدعائك(4).
__________
(1) …ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/160) وقال: "سببه كما رواه الخطابي في الغريب عن ابن شهاب وذكر مثله عن عكرمة وقال: هما مرسلان".
…وقد رجعت إلى غريب الخطابي في ضوء إشارة المفهرس إلى جزء (2/6) فلم أجده، وذكره ابن الجوزي في غريب الحديث (2/254) وابن الأثير في النهاية (4/83) بدون إسناد.
(2) …أي ما يركبون ظهوره من دوابهم.
(3) …رجالاً: أي مشاة على أرجلهم.
(4) …صحيح مسلم، (1/55 - 56)، كتاب الإيمان، 10 - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، حديث 44، 45. والمسند لأبي عوانة (1/7 - 9). والمستخرج لأبي نعيم (ق13/1). كلهم من حديث أبي هريرة وفيها "ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك".
…وفي البخاري، 47 - كتاب الشركة، حديث، (2484)، 56 - كتاب الجهاد، 123 - باب حمل الزاد في الغزو حديث (2982) من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. ولم أجد في الحديثين، قوله: "فإن الله سيغيثنا بدعائك"، ولعل شيخ الإسلام رواه بالمعنى أو أنه في بعض المصادر فلم أقف عليه.(166/93)
…184 - وإنما كان سأله ذلك بعض المسلمين كما سأله الأعمى أن يدعو الله له ليرد عليه بصره(1)، وكما سألته أم سُلَيم أن يدعو الله لخادمه أنس(2)، وكما سأله أبوهريرة أن يدعو الله أن يحببه وأمه إلى عباده المؤمنين(3)، ونحو ذلك.
…185 - وأما الصديق فقد قال الله فيه وفي مثله (92: 17 - 21): {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
__________
(1) …سيأتي تخريجه.
(2) …البخاري: 30 - كتاب الصوم، 61 - باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم، حديث (1982)، 80 - كتاب الدعوات، 26 - باب دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لخادمه بطول العمر وبكثرة ماله، حديث (6344). ومسلم (4/1928)، 44 - فضائل الصحابة، 32 - باب من فضائل أنس بن مالك - رضي الله عنه -، حديث (141، 144). والترمذي (5/681)، 50 - كتاب المناقب، 46 - باب مناقب أنس، حديث (3829). ومسند الطيالسي (ص 267) حديث (1987). ومسند أحمد (3/108، 193). كلهم عن أنس - رضي الله عنه - عن أم سليم أنها قالت: "يارسول الله!. أنس خادمك ادع الله له. قال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته". واللفظ للترمذي.
(3) …أخرجه مسلم (4/1939)، 44 - كتاب فضائل الصحابة 35 - باب من فضائل أبي هريرة، حديث (158)، وهو بقية حديث تقدم (ص 4).(166/94)
…186 - وقد ثبت في الصحاح عنه أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أمنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبوبكر، ولو كنتُ متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" فلم يكن في الصحابة أعظم منَّةً من الصديق في نفسه وماله(1).
…187 - وكان أبوبكر إنما يعمل هذا ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يطلب جزاء من مخلوق، فقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلاَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فلم يكن لأحد عند الصديق نعمة تجزى، فإنه كان مستغنياً بكسبه وماله عن كل أحد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان له على الصديق وغيره نعمة الإيمان والعلم، وتلك النعمة لا تجزى، فإن أجر الرسول فيها على الله كما قال تعالى (26: 127): {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2).
__________
(1) …البخاري، 8 - كتاب الصلاة، 80 - باب الخوخة في المسجد حديث (466)، (7/12) فتح 62 - فضائل الصحابة، 3 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر..."، حديث (3654). وأحمد (1/270) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وأحمد (3/18). ومسلم (4/1854)، 44 - فضائل الصحابة، حديث (2). والترمذي (5/608) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. ومسلم (4/1855)، 44 - كتاب فضائل الصحابة، حديث (3 - 7) من حديث أبي سعيد ومن حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وليس فيه "إن من أمن الناس".
…وأحمد (3/478). والترمذي (5/607، 608) من حديث أبي المعلى - رضي الله عنه -.
(2) …في خ: كتبت الآية خطأ.(166/95)
…188 - وأما عليٌّ وزيد(1) وغيرهما فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له عندهم نعمة تجزى، فإن زيداً كان مولاه فأعتقه، قال تعالى (33: 37): {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ}، وعليٌّ كان في عيال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجدب أصاب أهل مكة فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - والعباس التخفيف عن أبي طالب من عياله، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً إلى عياله وأخذ العباس جعفراً إلى عياله، وهذا مبسوط في موضع آخر.
…189 - والمقصود هنا أن الصديق كان أمنَّ الناس في صحبته وذات يده لأفضل الخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لكونه كان ينفق ماله في سبيل الله كاشترائه المعذبين. ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجاً في خاصة نفسه لا إلى أبي بكر ولا غيره، بل لما قال له في سفر الهجرة: إن عندي راحلتين فخذ إحداهما، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بالثمن"(2). فهو أفضل صديق لأفضل نبي، وكان من كماله أنه لا يعمل ما يعمله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يطلب جزاء من أحد من الخلق، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم.
…190 - ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، قال تعالى عمن أثنى عليهم (76: 9): {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا}.
__________
(1) …هو زيد بن حارثة الكلبي ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت الآية: {ادعوهم لآبائهم} الأحزاب: 5.
(2) …البخاري (7/230) فتح، 63 - مناقب الأنصار، 45 - باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، حديث (3905).
…و(10/273 - 274)، 77 - كتاب اللباس، 16 - باب التقنع حديث (5807). وأحمد (6/198) من حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها-.(166/96)
…191 - والدعاء جزاء كما في الحديث "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه(1) به فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه"(2).
…192 - وكانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بصدقة تقول للرسول: اسمع ما يدعون به لنا حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا لنا ويبقى أجرنا على الله.
…193 - وقال بعض السلف إذا قال لك السائل: بارك الله فيك، فقل: وفيك بارك الله، فمن عمل خيراً مع المخلوقين سواء كان المخلوق نبياً أو رجلاً صالحاً أو ملكاً من الملوك أو غنياً من الأغنياء فهذا العامل للخير مأمور بأن يفعل ذلك خالصاً لله يبتغي به وجه الله، لا يطلب به من المخلوق جزاء ولا دعاء ولا غيره، لا من نبي ولا رجل / صالح ولا ملك(3) من الملائكة، فإن الله أمر العباد كلهم أن يعبدوه مخلصين له الدين.
…194 - وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل فلا يقبل من أحد ديناً غيره، قال تعالى (3: 85): {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}.
__________
(1) …في خ: "تكافئوه"، والتصحيح من: أبي داود.
(2) …أخرجه أبوداود (2/310)، 3 - كتاب الزكاة، 38 - باب عطية من سأل بالله، حديث (1672). وأحمد (2/68، 99، 6127). والنسائي (5/61)، كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عز وجل. مِنْ حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.
(3) …سقطت من: ز، ب.(166/97)
…195 - وكان نوح وإبراهيم وموسى والمسيح وسائر أتباع الأنبياء عليهم السلام على الإسلام، قال نوح (10: 72): {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ}، وقال عن إبراهيم (2: 130 - 132): {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الأخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ* إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، (10: 84): {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}، وقالت السحرة (7: 126): {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ}، وقال يوسف (12: 101): {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وقال تعالى (5: 44): {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}، وقال (5: 111) عن الحواريين: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
…196 - ودين الإسلام مبني على أصلين(1): أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيُعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل.
__________
(1) …وقد أفاض شيخ الإسلام بشرح هذا المعنى في كتابه "العبودية" انظر (ص 170)، وراجع المقدمة (ص 16) طبعة المكتب الإسلامي الثانية.(166/98)
…وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أُمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجًا(1) عن دين الإسلام.
…197 - فكلُّ من لم يعبد الله بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم. ولابد في جميع الواجبات والمستحبات أن تكون خالصة لله رب العالمين، كما قال تعالى (98: 4 - 5): {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ* وَمَا أُمِرُوا إِلاَ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، وقال تعالى (39: 1 - 3): {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ* أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}.
…198 - فكل ما يفعله المسلم من القُرَب الواجبة والمستحبة، كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية ومحبة الله ورسوله والإحسان إلى عباد الله بالنفع والمال، هو مأمورٌ بأن يفعله خالصاً لله رب العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن يطلب عليه جزاء؛ لا دعاء ولا غيره.
…199 - وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب، بل ولا يستحب إلا في بعض المواضع، ويكون المسئول مأموراً بالإعطاء قبل السؤال، وإذا كان المؤمنون ليسوا مأمورين بسؤال المخلوقين فالرسول أولى بذلك - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أجل قدراً وأغنى بالله من غيره.
…200 - فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد:
…مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي من نوع الشرك.
…ومفسدة إيذاء المسؤول وهي من نوع ظلم الخلق.
__________
(1) …في خ: "خروج".(166/99)
…وفيه ذل لغير الله وهو ظلم النفس.
…201 - فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة، وقد نزه الله رسوله عن ذلك كله. وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بما ينتفعون به كما يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات، وإن كان هو ينتفع بدعائهم له فهو أيضاً ينتفع بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة.
…202 - فإنه ثبت عنه في الصحيح(1) أنه قال:
…"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً"(2).
…203 - ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الداعي إلى ما تفعله أمته من الخيرات، فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً(3).
…204 - ولهذا لم تجر عادة السلف بأن يهدوا إليه ثواب الأعمال، لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيئاً(4). وليس كذلك الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد [يكون] للوالد مثلُ أجره، وإنما ينتفع / الوالد بدعاء الولد ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب.
__________
(1) …مسلم (4/2060)، 47 - كتاب العلم، 6 - باب من سن سنة حسنة أو سيئة، حديث 16. وأبوداود (5/16)، 34 - كتاب السنة، 7 - لزوم السنة، حديث (4609). والترمذي (5/43)، 42 - كتاب العلم، 15 - باب ماجاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع، حديث (2674) وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه (1/74)، المقدمة 14 - باب من سن سنة حسنة أو سيئة حديث (206). وأحمد (2/397).
(2) في ز، ب: "شيء".(166/100)
…205 - كما قال في الحديث الصحيح(1):
…"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له".
…206 - فالنبي - صلى الله عليه وسلم - - فيما يطلبه من أمته من الدعاء - طلبُه طلبُ أمر وترغيب ليس بطلب سؤال. فمن ذلك أمره لنا بالصلاة والسلام عليه، فهذا قد أمر الله به في القرآن بقوله (33: 56): {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
…والأحاديث عنه في الصلاة والسلام معروفة.
…207 - ومن ذلك أمره بطلب الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود كما ثبت في صحيح مسلم(2)
__________
(1) …صحيح مسلم (3/1255)، 25 - كتاب الوصية 3 - باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، حديث (14). وأبوداود (3/300)، (12) كتاب الوصايا، 14 - باب ماجاء في الصدقة عن الميت، حديث (2880). والنسائي (6/210)، كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت. والبخاري في الأدب المفرد (ص 28). والطحاوي في مشكل الآثار (1/85). والبيهقي في السنن الكبرى (6/278). كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) …(1/288)، 4 - كتاب الصلاة، 7 - باب استحباب القول مثل قول المؤذن، حديث (11)، وأبوداود (1/359). كتاب الصلاة، 36 - باب مايقول إذا سمع المؤذن حديث (523). والنسائي (2/22)، كتاب الأذان، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان، وفضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ص (49). وأحمد (2/169). كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
…والترمذي (5/586)، 50 - كتاب المناقب، 1 - باب فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (3612). وأحمد (2/265، 365) وفضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص47) وفي إسناده ليث بن أبي سليم صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه. وأحمد (3/83) من حديث أبي سعيد الخدري من طريق موسى بن داود عن ابن لهيعة، وابن لهيعة صدوق اختلط بعد احتراق كتبه.(166/101)
عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة".
…208 - وفي صحيح البخاري(1) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد. حلت له شفاعتي يوم القيامة".
…209 - فقد رغَّب المسلمين في أن يسألوا الله له الوسيلة، وبيَّن أن من سألها له حلت له شفاعته يوم القيامة، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، فإن الجزاء من جنس العمل.
__________
(1) …10 - كتاب الأذان، 8 - باب الدعاء عند النداء، حديث (614). وأبوداود (1/362)، 2 - كتاب الصلاة، 38 - باب ماجاء في الدعاء عند الأذان، حديث (526). والنسائي (2/22) كتاب الأذان، باب الدعاء عند الأذان. والترمذي (1/413). أبواب الصلاة، باب 157، حديث (211). وأحمد (3/354). وابن ماجه (1/239)، 3 - كتاب الأذان، حديث (722). والسنن الكبرى للبيهقي (1/410). كلهم من حديث جابر - رضي الله عنه -.
…أَمَّا كلمة "الدرجة الرفيعة" فهي مدرجة ولم يذكرها أحد إلا ابن السني.
…وكذلك كلمة "إنك لا تخلف الميعاد" عند البيهقي، فهي شاذة.
…وهاتان الكلمتان لعلهما من زيادة بعض نساخ هذا الكتاب. والله أعلم. انظر: الإرواء (1/260، 261).(166/102)
…210 - ومن هذا الباب الحديث الذي رواه أحمد(1) وأبوداود(2) والترمذي(3) وصححه، وابن ماجه(4) أن عمر بن الخطاب استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمرة فأذن له ثم قال: "ولا تنسنا يا أخي من دعائك".
…211 - فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمر أن يدعو له كطلبه أن يصلي عليه ويسلم عليه وأن يسأل الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة، وهو كطلبه أن يعمل سائر الصالحات، فمقصوده نفع المطلوب منه والإحسان إليه. وهو - صلى الله عليه وسلم - أيضاً ينتفع بتعليمهم الخير وأمرهم به، وينتفع أيضاً بالخير الذي يفعلونه من الأعمال الصالحة ومن دعائهم له.
…212 - ومن هذا الباب قول القائل: إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ماشئت" قال: الربع؟ قال:
"ماشئت، وإن زدت(5) فهو خير لك" قال: النصف؟ قال:
"ماشئت وإن زدت فهو خير لك" قال: الثلثين؟ قال:
"ماشئت، وإذا زدت فهو خير لك" قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذًا تُكفى همك ويُغفر لك ذنبك" رواه أحمد(6) في مسنده والترمذي(7) وغيرهما(8)
__________
(1) …(1/29).
(2) …(2/169)، كتاب الصلاة، 358 - باب الدعاء، حديث (1498).
(3) …(5/559)، 49 - كتاب الدعوات، باب 110 حديث (3562) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(4) …(2/966)، 25 - كتاب المناسك 5 - باب فضل دعاء الحاج، حديث (2894). كلهم من طريق عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن سالم عن أبيه أن عمر استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
…وعاصم ضعيف. وقد ضعف الحديث الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/690) وفي ضعيف الجامع (6/78).
(5) …في خ: "أردت".
(6) …(5/136) من حديث وكيع.
(7) …(4/636 - 637)، 38 - كتاب صفة القيامة، باب 23 حديث (2457) من حديث قبيصة.
(8) …منهم الحاكم في المستدرك (2/421) من طريق قبيصة.
…والإمام إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص 29)، حديث (14) من طريق سعيد بن سلام العطار. كلهم عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، وقال العلامة الألباني في تعليقه عليه: "حديث جيد".
…وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل لينه أبوحاتم الرازي وابن خزيمة واحتج بحديثه أحمد وإسحاق، ووثقه البخاري والترمذي وحسن الذهبي حديثه، وهو الأعدل والأقرب.(166/103)
.
…213 - وقد بسط الكلام عليه في (جواب المسائل البغدادية)(1).
…214 - فإن هذا كان له دعاء يدعو به، فإذا جعل مكان دعائه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كفاه الله ما أهمه من أمر دنياه وآخرته، فإنه كما صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، وهو لو دعا لآحاد المؤمنين لقالت الملائكة: "آمين، ولك بمثلٍ"(2) فدعاؤه للنبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك.
…215 - ومن قال لغيره من الناس: ادع لي - أو لنا - وقصده أن ينتفع ذلك المأمور بالدعاء وينتفع هو أيضاً بأمره وبفعل ذلك المأمور به كما يأمره بسائر فعل الخير فهو مقتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤتم به، ليس هذا من السؤال المرجوح.
…216 - وأما إن لم يكن مقصوده إلا طلب حاجته لم يقصد نفع ذلك والإحسان إليه، فهذا ليس من المقتدين بالرسول المؤتمين به في ذلك، بل هذا هو من السؤال المرجوح الذي تَرْكه إلى الرغبة إلى الله وسؤاله(3) أفضل من الرغبة إلى المخلوق وسؤاله. وهذا كله من سؤال الأحياء السؤال الجائز المشروع.
…217 - وأما سؤال الميت فليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب بل ولا مباح، ولم يفعل هذا قط أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من سلف الأمة؛ لأن ذلك فيه مفسدة راجحة وليس فيه مصلحة راجحة، والشريعة إنما تأمر بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وهذا ليس فيه مصلحة راجحة بل إمّا أن يكون مفسدة محضة أو مفسدة راجحة، وكلاهما غير مشروع.
…218 - فقد تبين أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من طلب الدعاء من غيره هو من باب الإحسان إلى الناس / الذي هو واجب أو مستحب.
__________
(1) …يبحث عن جواب المسائل البغدادية.
(2) …تقدم تخريجه في ص 61.
(3) …في ز، ب: "ورسوله" وهذا خطأ فاحش من الطابعين، والصواب وسؤاله كما في الأصل لأنه لايجوز أن تكون الرغبة إلى غير الله، كما قال تعالى: {وإلى ربك فارغب} سورة الشرح: 8، {إنا إلى الله راغبون}. سورة التوبة: 59.(166/104)
…219 - وكذلك ما أمر به من الصلاة على الجنائز ومن زيارة قبور المؤمنين والسلام عليهم والدعاء لهم هو من باب الإحسان إلى الموتى الذي هو واجب أو مستحب، فإن الله تعالى أمر المسلمين بالصلاة والزكاة، فالصلاة حقٌّ الحقِّ في الدنيا والآخرة، والزكاة حقٌّ الخلق.
…220 - فالرسول أمر الناس بالقيام بحقوق الله وحقوق عباده، بأن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً. ومن عبادته الإحسان إلى الناس حيث أمرهم الله سبحانه به كالصلاة على الجنائز وكزيارة قبور المؤمنين، فاستحوذ الشيطان على أتباعه فجعل قصدهم بذلك الشرك بالخالق وإيذاء المخلوق، فإنهم إذا كانوا إنما يقصدون بزيارة قبور الأنبياء والصالحين سؤالهم أو السؤال عندهم أو بهم(1)، لايقصدون السلام عليهم ولا الدعاء لهم كما يقصد بالصلاة على الجنائز كانوا بذلك مشركين، وكانوا مؤذين ظالمين لمن يسألونه، وكانوا ظالمين لأنفسهم. فجمعوا بين أنواع الظلم الثلاثة.
…221 - فالذي شرعه الله ورسوله توحيد وعدل وإحسان وإخلاص وصلاح للعباد في المعاش والمعاد، وما لم يشرعه الله ورسوله من العبادات المبتدعة فيه شرك وظلم وإساءة وفساد العباد في المعاش والمعاد. فإن الله تعالى أمر المؤمنين بعبادته والإحسان إلى عباده كما قال تعالى (4: 36): {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} وهذا أمر بمعالي الأخلاق، وهو سبحانه يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها.
…222 - وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه الحاكم في صحيحه(2)
__________
(1) …في ز، ب: "أنهم" بدل "بهم" وهو غلط.
(2) …المستدرك (2/613). وأحمد (2/381). والبخاري: في الأدب المفرد (ص 104)، حديث (273). وابن سعد في الطبقات (1/192). كلهم من طريق محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً. والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي.
…وحسن الألباني إسناده، ثم قال: وله شاهد. أخرجه ابن وهب في الجامع (ص 75)، أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم مرفوعاً به، وهذا مرسل حسن الإسناد، فالحديث صحيح، وقد رواه مالك في الموطأ (2/904)، وقال ابن عبد البر: هو حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره.
…انظر الصحيحة (1/75) حديث (45).(166/105)
.
…223 - وقد ثبت عنه في الصحيح - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى"(1)
__________
(1) …البخاري، 24 - كتاب الوصايا، باب 9 - حديث (2750). و 24 - كتاب الزكاة، 18 - باب لا صدقة إلا عن ظهر غني، حديث (1427)، ومسلم (2/718)، 32 - باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، حديث (96). وأحمد (3/402). والنسائي (5/45)، كتاب الزكاة، باب اليد العليا. والدارمي (1/327) 22 - باب فضل اليد العليا، حديث (1660). كلهم من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه -.
…والبخاري 24 - كتاب الزكاة، باب 18 - باب لا صدقة إلا عن ظهر غني حديث (1429). ومسلم (2/717)، 12 - كتاب الزكاة، 32 - باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، حديث (94). والنسائي (5/26) كتاب الزكاة، باب اليد السفلى. أحمد (2/4). وأبوداود (2/297). 3 - كتاب الزكاة، 28 - باب الاستعفاف، حديث (1648). والدارمي (2/327)، كتاب الزكاة، باب فضل اليد العليا، حديث (1659). والموطأ (2/998)، 58 - كتاب الصدقة، حديث (8). كلهم من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.
…والبخاري، كتاب الزكاة، حديث (1428) حوالة على حديث حكيم. والنسائي (5/46)، كتاب الزكاة، باب الصدقة عن ظهر غني. والترمذي (3/55)، 5 - كتاب الزكاة، 38 - باب ماجاء في النهي عن المسألة، حديث (680). وأحمد (2/230). كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
…ومسلم (2/718)، 12 - كتاب الزكاة، 32 - باب بيان أن اليد العليا خير من السفلى، حديث (97). وأحمد (5/262) من حديث أبي أمامة.
…وأحمد (3/330، 346)، من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -.
…وقال الترمذي عقب حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
…وفي الباب عن حكيم بن حزام، وأبي سعيد الخدري، والزبير بن العوام، وعطية السعدي، وعبد الله ابن مسعود، ومسعود بن عمرو، وابن عباس، وثوبان، وزياد بن الحارث الصدائي، وأنس، وحبشي ابن جنادة وقبيصة بن مخارق، وسمرة، وابن عمر - رضي الله عنهم أجمعين -.(166/106)
.
…224 - وقال: "اليد العليا هي المعطية واليد السفلى السائلة(1)"(2).
…225 - وهذا ثابت عنه في الصحيح. فأين الإحسان إلى عباد الله من إيذائهم بالسؤال والشحاذة لهم؟.
…226 - وأين التوحيد للخالق بالرغبة إليه والرجاء له والتوكل عليه والحب له من الإشراك به بالرغبة إلى المخلوق والرجاء له والتوكل عليه وأن يحب كما يحب الله؟
…227 - وأين صلاح العبد في عبودية الله والذل له والافتقار إليه من فساده في عبودية المخلوق والذل له والافتقار إليه؟.
__________
(1) …في ز: "هي السائلة".
(2) …البخاري 24 - الزكاة، 18 - باب لا صدقة إلا عن ظهر غني، حديث (1429). وأخرجه مسلم (2/717)، 12 - الزكاة حديث (94). والنسائي (5/46)، كتاب الزكاة، باب أيتها هي العليا. وأبوداود (2/297) 3 - كتاب الزكاة، 28 - باب في الاستعفاف حديث (1648). ومالك في الموطأ (2/998)، 58 - كتاب الصدقة، حديث (8). وأحمد (1/446).
…وهو جزء من حديث ابن عمر، الذي سبق تخريجه ويشهد لهذا الجزء حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيدي ثلاثة؛ فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى".
…وفيه إبراهيم بن مسلم الهَجَري، لين الحديث لكنه يصلح للاستشهاد.(166/107)
…228 - فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بتلك الأنواع الثلاثة الفاضلة المحمودة التي تصلح أمور أصحابها في الدنيا والآخرة، ونهى عن الأنواع الثلاثة التي تفسد أمور أصحابها، ولكن الشيطان يأمر بخلاف ما يأمر به الرسول، قال تعالى (36: 60 - 62): {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}، وقال تعالى (15: 42): {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ}، وقال تعالى (16: 98 - 99) : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، وقال تعالى (43: 36 - 37): {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}، وذكر الرحمن هو الذكر الذي أنزل الله على رسوله الذي قال فيه (15: 9): {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وقال تعالى (20 : 123 - 126): {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ(166/108)
الْيَوْمَ تُنسَى}، وقد قال تعالى (7: 1 - 3)، {المص* كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}، وقد قال تعالى (14: 1 - 2): {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ* اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، وقال تعالى (42: 52 - 53): {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الأيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* صِرَاطِ اللَّهِ/ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ}.
…229 - فالصراط المستقيم هو ما بعث الله به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بفعل ما أمر، وترك ما حظر، وتصديقه فيما أخبر، لا طريق إلى الله إلا ذلك. وهذا سبيل أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغالبين، وكل ما خالف ذلك فهو من طرق أهل الغي والضلال، وقد نزه الله تعالى نبيه عن هذا وهذا فقال تعالى (53: 1 - 4): {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى} وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول في صلاتنا: {اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.(166/109)
…230 - وقد روى الترمذي(1) وغيره عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون". قال الترمذي: حديث صحيح.
…231 - وقال سفيان بن عيينة: كانوا يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى.
…232 - وكان غير واحد من السلف يقول: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.
…233 - فمن عرف الحق ولم يعمل به أشبه اليهود الذين قال الله فيهم (2: 44): {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
__________
(1) …(5/203)، 48 - كتاب التفسير، سورة الفاتحة، جزء من حديث برقم (2953)، (5/204)، حديث (2954). وأحمد (4/378) كلاهما من طريق سماك بن حرب، سمعت عباد ابن حبيش، يحدث عن عدي بن حاتم، وساقا حديثاً طويلاً منه هذا القدر الذي ساقه شيخ الإسلام.
…وعباد بن حبيش مقبول لكن له متابعتان رواهما ابن جرير في تفسيره (1/79 - 80).
…1 - قال: حدثني أحمد بن الوليد الرملي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي عن عدي بن حاتم مرفوعاً.
…2 - من طريق محمد بن مصعب عن حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم مرفوعاً. بلفظ "المغضوب عليهم هم اليهود".
…وله شاهد مرسل رواه ابن جرير في الموضع المشار إليه. من طرق إلى عبد الله بن شقيق. وبهاتين المتابعتين والشاهد المرسل تتقوى رواية عباد بن حبيش فترتقي إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم.(166/110)
…234 - ومن عبد الله بغير علم بل بالغلو والشرك أشبه النصارى الذين قال الله فيهم (5: 77): {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
…235 - فالأول من الغاوين، والثاني من الضالين؛ فإن الغي اتباع الهوى، والضلال عدم الهدى، قال تعالى (7: 175 - 176): {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقال تعالى (7: 146): {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}. ومن جمع الضلال والغي ففيه شبه من هؤلاء وهؤلاء. نسأل الله تعالى(1) أن يهدينا وسائر إخواننا صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
فصل
…236 - إذا عرف هذا فقد تبين أن لفظ "الوسيلة" و "التوسل" فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك.
__________
(1) …سقطت من: ز، ب.(166/111)
…237 - ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه فإن كثيراً من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب.
…238 - فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى (5: 35): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وفي قوله تعالى (17: 56 - 57): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
…239 - فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات.
…240 - فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً.
…241 - فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول/ فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصلُ ذلك الإيمان بما جاء به الرسول.
…242 - فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ماجاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى ذلك إلا ذلك.
…243 - والثاني لفظ "الوسيلة" في الأحاديث الصحيحة كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لاتنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة"(1).
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (72) رقم (1).(166/112)
…244 - وقوله: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد(1)، حلت له الشفاعة".
…245 - فهذه الوسيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة. وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول وأخبر أن من سأل له هذه(2) الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا(3).
…246 - وأما التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته.
…247 - والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به كما يقسمون ويسألون(4) بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح.
…248 - وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به(5) معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة.
…فأما المعنيان الأولان - الصحيحان باتفاق العلماء -
…فأحدهما: هو أصل الإيمان والإسلام وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته.
…والثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم.
…فهذان جائزان بإجماع المسلمين.
__________
(1) …تقدم تخريجه في (ص 73) رقم (1).
(2) …سقطت من: ز، ب.
(3) …هذا جزء من الحديث الذي تقدم تخريجه في (ص 72) رقم (1).
(4) …سقط من: ز، ب.
(5) …كلمة "يراد به" سقطت من: ز.(166/113)
…249 - ومن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا(1). أي بدعائه وشفاعته.
…وقوله تعالى (5: 35): {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي القربة إليه بطاعته. وطاعةُ رسوله طاعته، قال تعالى (4: 80): {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاع الله}.
…250 - فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين.
…وأما التوسل بدعائه وشفاعته - كما قال عمر - فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسُّل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائماً.
…251 - فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان:
…أحدهما: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
…252 - والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
…253 - والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة أو عن من ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
__________
(1) …أخرجه البخاري، 15 - كتاب الاستسقاء، 3 - باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث (1010)، و 62 - كتاب فضائل الصحابة، 11 - باب ذكر العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - حديث (3710). وابن سعد في الطبقات (4/28 - 29).
…والبيهقي في السنن الكبرى (3/88). كلهم من حديث أنس - رضي الله عنه -.(166/114)
…254 - وهذا هو الذي قال أبوحنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: لا يُسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك/.
…255 - قال أبوالحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة.
…256 - قال بشر بن الوليد حدثنا أبويوسف قال: قال أبوحنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وأكره أن يقول: "بمعاقد العز من عرشك" أو "بحق خلقك". وهو قول أبي يوسف. قال أبويوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام(1).
…257 - قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقاً.
…258 - وهذا الذي قاله أبوحنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان:
…259 - أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فَلأنْ يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى.
…260 - وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والشمس وضحاها، والنازعات غرقا، والصافات صفا.
__________
(1) …انظر: الجامع الصغير للشيباني مع النافع الكبير للكنوي ص 395، والهداية (2/402) ط الهندية والفتاوى البزازية (3/351)، الدر المختار في الفقه الحنفي (2/630). الفتاوى الهندية (5/280). وشرح الإحياء للزبيدي (2/285).(166/115)
…261 - فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه، بخلاف المخلوق فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها كما في السنن(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
…262 - "من حلف بغير الله فقد أشرك" وقد صححه الترمذي وغيره، وفي لفظ "فقد كفر" وقد صححه الحاكم.
…263 - وقد ثبت عنه في الصحيحين(2) أنه قال: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وقال: "لا تحلفوا إلا بالله"(3)
__________
(1) …الترمذي (4/110) وحسنه، 21 - كتاب النذور والأيمان 8 - باب ماجاء في كراهية الحلف بغير الله، حديث (1535). وأحمد (2/34، 86، 125). وأبوداود (3/570)، 16 - كتاب الأيمان والنذور، 5 - باب كراهية الحلف بالآباء، حديث (3251). وابن حبان كما في الموارد (ص 286)، حديث (1177). والحاكم (1/18) كتاب الأيمان، و (4/297) كتاب الأيمان والنذور. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي"، وأبوداود الطيالسي في مسنده ص 257 حديث 1896، والبيهقي في السنن (10، 29) كتاب الأيمان. والطحاوي في المشكل (1/359) من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.
(2) …البخاري، 83 - كتاب الأيمان والنذور، 4 - باب لاتحلفوا بآبائكم، حديث (6646)، 52 - كتاب الشهادات، 26 - باب كيف يستحلف حديث (2679)، 78 - كتاب الأدب، (6108). ومسلم (3/1266)، 27 - كتاب الأيمان، حديث (3، 4). والدارمي (2/106)، حديث (2346). ومالك في الموطأ، (2/480)، 22 - كتاب النذور والأيمان 9 - باب جامع الأيمان حديث (14). وأحمد (2/7، 11). كلهم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -.
(3) …سقط من ز قوله: "وقال: لا تحلفوا إلا بالله"، ومن ب قوله: "ليصمت" وقال لا تحلفوا إلا بالله.
…والحديث أخرجه أبوداود (3/569) 16 - 5 باب كراهية الحلف بالآباء حديث (3248) من طريق عبيد الله بن معاذ عن أبيه حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون والنسائي (7/5 - 6) بإسناده ومتنه وإسناده صحيح.(166/116)
.
…وقال: "لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"(1).
…264 - وفي الصحيحين(2) عنه أنه قال: "من حلف باللات والعُزَّى فليقل: لا إله إلا الله".
…265 - وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وأيمان السذق(3) وسراويل الفتوة وغير ذلك لا ينعقد يمينه ولا كفارة في الحلف بذلك.
…266 - والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور(4) وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك.
…وقيل: هي مكروهة كراهة تنزيه.
…267 - والأول أصح حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله(5)
__________
(1) …هو جزء من حديث ابن عمر السابق.
(2) …أخرجه البخاري 83 - كتاب الأيمان والنذور. 5 - باب لا يحلف باللات والعزى، حديث (6650). ومسلم (2/1267)، 27 - كتاب الأيمان 2 - باب من حلف باللات والعزى، حديث (5، 6). وأبوداود (3/568)، 16 - كتاب الأيمان والنذور. 4 - باب الحلف بالأنداد، حديث (3247). والترمذي (4/116)، 21 - كتاب الأيمان والنذور، باب 17 حديث (1545). والنسائي (7/7) باب الحلف باللات. وأحمد (2/309).
(3) …لعلها "السذق" فارسية معربة وهي ليلة الوقود يعظمها المجوس، أو تكون مصحفة عن الصدق كما يدرج في لهجة العوام من الدروز.
(4) …بل حكى ابن حزم الإجماع على ذلك، فقال في مراتب الإجماع (ص 158):
…"واتفقوا أن من حلف ممن ذكرنا بحق زيد أو عمرو أو بحق ابنه أنه آثم".
…يريد بقوله من ذكر؛ الحر والعبد الذكر والأنثى البالغين العقلاء غير المكرهين ولا الغضاب ولا السكارى، فإنه ذكرهم قبل هذه الفقرة.
(5) …روى عبد الرزاق عن الثوري، عن أبي سلمة عن وبرة، قال:
…قال عبد الله - لا أدري ابن مسعود أو ابن عمر -: لأن أحلف بالله كاذباً، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً (المصنف 8/469).
…وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/177). وقال: رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح، وهو في الطبراني (9/205) حديث (8902).
…وفي المدونة (2/108) ابن وهب عن سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن وبرة أن ابن مسعود كان يقول: لأن أحلف بالله كاذباً... إلخ.
…وفي المدونة (2/108) "وقال ابن عباس لرجل حلف بابنه: لأن أحلف مائة مرة بالله، ثم آثم أحب إلي من أن أحلف بغيره واحدة ثم أبر".
…وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبد الله بن الزبير يخبر، أن عمر لماكان بالمخمص من عسفان استبق الناس فسبقهم عمر، فقال ابن الزبير، فانتهرت فسبقته، فقلت سبقته والكعبة.
…... ثم انتهر الثالثة فسبقني، فقال: سبقته والله، ثم أناخ فقال:
…والله لو أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك أحلف بالله فأثم أو أبرر".
…المصنف (8/468). وأخرجه البيهقي (10/29) من طريق الوليد بن مسلم مختصراً، وفيه فأراد أن يضربني وفي هذا الأثر "أن عمر يرى أن الحلف بالله وإن أثم فيه أهون من الحلف بغيره باراً وهو معنى قول ابن مسعود".(166/117)
ابن عباس وعبد الله بن عمر: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغير الله صادقاً. وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب.
…268 - وإنما يعرف النزاع في الحلف بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - روايتان:
…إحداهما: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور؛ مالك وأبي حنيفة والشافعي.
…والثانية: ينعقد اليمين به واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء.
…وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وعدَّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء.
…269 - وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق وإن كان نبيًّا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص فالإقسام به على الله - والسؤال به بمعنى الإقسام - هو من هذا الجنس.
…270 - وأما السؤال بالمخلوق إذا كانت فيه باء السبب ليست باء القسم - وبينهما فرق - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإبرار القسم.(166/118)
…271 - وثبت عنه في الصحيحين(1) أنه قال: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" قال ذلك لما قال أنس بن النضر: أتكسرُ(2) ثنية الربيع؟ قال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر سنها. فقال: "يا أنس كتابُ. الله القصاص"، فرضي القوم وعفوا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
…272 - وقال: "ربَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" رواه مسلم(3)
__________
(1) …أخرجه البخاري (5/306) مع الفتح، 53 - كتاب الصلح، 8 - باب الصلح في الدية، حديث (2703)، (6/21) مع الفتح، 56 - كتاب الجهاد، حديث (2806). ومسلم (3/1302)، 28 - كتاب القسامة، 5 - باب إثبات القصاص في الأسنان، حديث (24). وأبوداود (4/717)، 33 - كتاب الديات، 32 - باب القصاص من السن، حديث (4595). والنسائي (8/24)، القسامة، باب القصاص في السن، وباب القصاص من الثنية. والترمذي (5/693) 50 - كتاب المناقب، 55 - باب مناقب البراء بن مالك، حديث (3854). وابن ماجه (2/884)، 21 - كتاب الديات، 16 - باب القصاص في السن، حديث (2649). وأحمد (3/128، 167) كلهم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
(2) …في النسخ المطبوعة: "نكسر بالنون" وهو تصحيف.
(3) …(4/2024)، 45 - باب فضل الضعفاء والخاملين حديث (138)، و (4/2190)، 51 - كتاب الجنة، حديث (48) في الموضعين عن سويد بن سعيد، حدثني حفص بن ميسرة عن العلاء عن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً وسويد بن سعيد، قال فيه الذهبي: كان يحفظ لكنه تغير الكاشف (1/411). وقال الحافظ: صدوق في نفسه إلاَّ أنه عمي فصار يتلقن، التقريب (1/340).
…وقد رواه مسلم في الموضع الثاني في الشواهد، وله متابعة رواها الحاكم في "المستدرك" (4/328)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/292). وأبونعيم من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.
…ورواها أبونعيم في الحلية (1/7) بهذا الإسناد إلاَّ أنه قال: عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال الحاكم عقب هذا الحديث: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
…قال الشيخ الألباني - حفظه الله - معلقاً على الحاكم والذهبي:
…قلت: وفيه نظر؛ فإن المطلب ابن عبد الله صدوق كثير التدليس كما في التقريب، وقد عنعنه، وكثير بن زيد، وهو المدني.
…قال الحافظ: صدوق يخطئ تخريج أحاديث مشكلة الفقر (ص 79).
…أقول أنا الضعيف: قد روى أبونعيم هذا الحديث عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح، وصوب الحافظ أنه رباح بن الوليد وهو صدوق؛ فإن كان كثير روى عنهما ففي رواية أبي نعيم متابعة رباح بن الوليد للمطلب بن عبد الله وانزاحت تهمة التدليس عن رواية المطلب.
…ويجوز في هاتين الروايتين أمران آخران: الأول؛ أن تكون إحداهما محفوظة والأخرى شاذة أو منكرة، لكن ليس لدينا من القرائن ما ترجح به إحدى الروايتين على الأخرى وينشأ عن هذا الأمر الثاني؛ وهو أن يكون هذا من اضطراب كثير بن زيد لأنه ليس بالحافظ وهو الذي يغلب على الظن.
…وعلى ثبوت هذه العلة فإن حديث أبي هريرة في غنى عن هذه المتابعة.
…فإن الإمام مسلما - رحمه الله - أورده شاهداً لحديث حارثة بن وهب الخزاعي الذي رواه بلفظ "ألا أخبركم بأهل الجنة؟" قالوا: بلى، قال: "كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره..." الحديث، وهو في كتاب الجنة برقم، (46، 47) قبل حديث أبي هريرة مباشرة.
…ورواه البخاري في 65 - كتاب التفسير سورة 68، حديث (4918). وابن ماجه (2/1378)، 37 - كتاب الزهد، حديث (4116). وأحمد (4/306). والطحاوي في المشكل (1/293).
…كما يشهد له حديث أنس السابق.
…ولأنس رواية أخرى بلفظ "كم أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره". أخرجه الترمذي (5/693). 50 - كتاب المناقب، باب مناقب البراء بن مالك، حديث (3854) وله شاهدان آخران:
…أحدهما: عن حذيفة أخرجه أحمد (5/407).
…وثانيهما: عن سراقة بن مالك أخرجه الحاكم (3/619).(166/119)
وغيره.
…273 - وقال: "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار/ كل عُتُلّ جوّاظ(1) مستكبر"(2).
…وهذا في الصحيحين وكذلك [حديث] أنس بن النضر والآخر من أفراد مسلم(3).
…274 - وقد روى في قوله: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"(4) أنه قال: "منهم البراء بن مالك"(5).
…275 - وكان البراء إذا اشتدت الحرب بين المسلمين والكفار يقولون: يا براء، أقسم على ربك. فيقسم على الله فينهزم الكفار. فلما كانوا على قنطرة بالسوس قالوا: يا براء أقسم على ربك. فقال: يارب أقسمت عليك لما منحتنا أكتفاهم وجعلتني أول شهيد. فأبر الله قسمه فانهزم العدو واستشهد البراء بن مالك يومئذ. وهذا هو أخو أنس بن مالك، قتل مائة رجل مبارزة غير من شرك في دمه، وحمل يوم مسيلمة على ترس ورمي به إلى الحديقة حتى فتح الباب(6).
__________
(1) …العتل: الغليظ الجافي. من العتلة وهي حديدة كبيرة يقلع بها الحجر. والجواظ: الكثير اللحم المختال في مشيته.
(2) …أخرجه مسلم 51 - كتاب الجن 13 - باب النار يدخلها الجبارون حديث 46.
(3) …سبق تخريجه (ص 92) رقم (1).
(2) …سبق تخريجه (ص 93) رقم (2).
(5) …البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري النَّجاري البطل الكرار صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخو خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -، شهد المشاهد كلها إلا بدراً، وشهد وقعة اليمامة، مات سنة 20. ترجمته في أسد الغابة (1/206)، والإصابة (1/147)، وتاريخ الطبري (3/209)، وسير أعلام النبلاء (1/195).
(6) …أخرجه خليفة في تاريخه ص 109 من طريق ابن إسحاق معضلاً ومن طريق الأنصاري عن أبيه عن ثمامة عن أنس رضي الله عنه، ولم نقف لأبيه على ترجمة ولعله عن عمه ثمامة.
…وعلى كل حال، فالأنصاري هو عبد الله بن المثنى وهو صدوق كثير الغلط، فالأثر ضعيف لا يثبت - والله أعلم -.(166/120)
…276 - والإقسام به على الغير أن يحلف المقسم على غيره ليفعلن كذا؛ فإن حنثه ولم يبر قسمه فالكفارة على الحالف لا على المحلوف عليه عند عامة الفقهاء، كما لو حلف على عبده أو ولده أو صديقه ليفعلن شيئاً ولم يفعله فالكفارة على الحالف الحانث.
…277 - وأما قوله: "سألتك بالله أن تفعل كذا" فهذا سؤال وليس بقسم، وفي الحديث "من سألكم بالله فأعطوه"(1) ولا كفارة علىهذا إذا لم يجب سؤاله.
…278 - والخلق كلهم يسألون الله مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار؛ فإن الكفار يسألون الله الرزق فيرزقهم ويسقيهم، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون إلا إياه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا وكان الإنسان كفورا(2).
…وأما الذين يقسمون على الله فيبر قسمهم فإنهم ناس مخصوصون.
…279 - فالسؤال كقول السائل لله: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام(3)
__________
(1) …تقدم تخريجه ص 67.
(2) …إشارة إلى الآية 67 من سورة الإسراء.
(3) …صحيح: أخرجه الترمذي (5/550)، 49 - كتاب الدعوات، 100 - باب خلق الله مائة رحمة حديث (3544). وابن ماجه (2/1268)، 34 - كتاب الدعاء، 9 - باب اسم الله الأعظم، حديث (3858). والنسائي (3/44) كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر. وأحمد (3/120، 158، 245، 265). وأبوداود 2/167)، كتاب الصلاة، 358 - باب الدعاء، حديث (1495). كلهم من طرق عن أنس - رضي الله عنه - بلفظ "اللهم إني أسألك..." مختصراً أحياناً ومطولاً أخرى. فأحمد في طريق، وأبوداود، والنسائي رووه من طريق خلف بن خليفة عن حفص بن عمر - ابن أخي أنس - عن أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً.
…وهذا إسناد حسن، والحديث من هذين الطريقين صحيح لغيره.
…ثم رواه أحمد فقال: حدثنا وكيع، حدثني أبوخزيمة عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك وهو إسناد حسن - أيضاً -.
…أَمَّا الترمذي ففي إسناده سعيد بن زربي وهو منكر الحديث.
…ثم رواه أحمد من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن عاصم الأحول عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة.
…وفي هذا الإسناد سلمة بن الفضل الأبرشي قاضي الري صدوق كثير الخطأ، ومحمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن فالمعول في ثبوت الحديث على الإسنادين الأولين ويستأنس لهما بالأخير.(166/121)
.
…280 - وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد(1).
…281 - وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك(2)
__________
(1) …أخرجه أبوداود (2/167)، كتاب الصلاة 358 - باب الدعاء حديث (1493). والترمذي (5/515)، 49 - كتاب جامع الدعوات حديث (3475). وابن ماجه (2/1267) 34 - كتاب الدعاء حديث (3857). وأحمد (5/349). بأسانيدهم إلى مالك بن مِغْوَل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بلفظ "اللهم إني أشهد أنك أنت الله" ... إلخ وعند ابن ماجه "بأنك أنت الله" وهو إسناد صحيح.
…وأخرجه النسائي (3/45) عن عمرو بن يزيد قال: عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي قال حدثنا حسين المعلم عن ابن بريد، قال حدثني حنطلة بن علي أن محجن بن الأردح بلفظ "اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد"، وعمرو بن يزيد قال الذهبي في الكاشف ضعفوه، وفي الميزان (3/293).
…قال يحيى: ليس بشيء. وقال أبوحاتم: منكر الحديث. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف.
…وهذه المخالفة التي وقعت في الإسناد لعلها من عمرو بن يزيد وهو ضعيف كما عرفت فلا تأثير لها؛ لأن الرواة عن مالك بن مغول من كبار الحفاظ مثل زهير بن معاوية، ويحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح.…
(2) …صحيح: أخرجه أحمد (1/391، 452). وأبو يعلى في مسنده (ق 156/1) كما في الصحيحة للألباني (1/177). والطبراني في الكبير (10/209 - 210) حديث (10352). وابن حبان كما في الموارد (ص 589) رقم 3272). والحاكم (1/509) كتاب الدعاء.
…من طريق فضيل بن مرزوق، حدثنا أبوسلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن"، "فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك عدل فيَّ فضاؤك أسألك بكل اسم هو لك..." الحديث، وللحديث شاهد عن أبي موسى الأشعري أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 133). حديث (341) بإسناد لا بأس به عن فياض بن غزوان عن عبد الله بن زبيد عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال الشيخ الألباني - بعد بحث نفيس -: "وجملة القول: أن الحديث صحيح، من رواية ابن مسعود وحده، فكيف إذا انضم إليه حديث أبي موسى - رضي الله عنهما - وقد صححه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، وتلميذه ابن القيم وقد صرح بذلك في أكثر كتبه منها "شفاء العليل" (ص 274)".(166/122)
.
…282 - فهذا سؤال الله تعالى بأسمائه وصفاته، وليس ذلك إقساماً(1) عليه، فإن أفعاله هي مقتضى أسمائه وصفاته، فمغفرته ورحمته من مقتضى اسمه الغفور الرحيم، وعفوه من مقتضى اسمه العفو. ولهذا لما قالت عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن وافقتُ ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني"(2).
…283 - وهدايته ودلالته من مقتضى اسمه الهادي، وفي الأثر المنقول عن أحمد بن حنبل أنه أمر رجلاً أن يقول: يادليل الحيارى دلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين.
…284 - وجميع ما يفعل الله بعبده من الخير من مقتضى اسمه الرب، ولهذا يقال في الدعاء: يارب يارب كما قال آدم (7: 23): {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}، وقال نوح (11: 47): {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} وقال إبراهيم (14: 37): {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ...} وكذلك سائر الأنبياء.
__________
(1) …في خ: "إقسام" وهو خطأ.
(2) …صحيح: أخرجه الترمذي (5/534)، 49 - كتاب الدعوات، باب 85 حديث (3513). وابن ماجه (2/1265)، 34 - كتاب الدعاء، 5 - باب الدعاء في حديث (3850). وأحمد (6/171، 182، 183، 208، 258) كلهم من طرق صحيحة، إلى كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة - رضي الله عنها -. وأحمد والحاكم (1/530)، كتاب الدعاء عن أبي النضر، ثنا الأشجعي عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عند أحمد (6/258) وعند الحاكم عن سليمان بن بريدة عن عائشة.
…وعند أحمد وحده عن يزيد وعن علي بن عاصم كليهما عن الجريري عن عبد الله بن بريدة، فالحديث صحيح.(166/123)
…285 - وقد كره مالك وابن أبي عمران من أصحاب أبي حنيفة وغيرهما أن يقول الداعي ياسيدي ياسيدي(1) وقالوا: قل كما قالت الأنبياء، رب رب.
…286 - واسمه الحي القيوم يجمع أصل معاني الأسماء والصفات كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله إذا اجتهد في الدعاء(2).
__________
(1) …في ز، ب: "ياسيدي" مرة واحدة.
(2) …يشير إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:
…أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أهمه الأمر رفع رأسه إلى السماء فقال: "سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدعاء قال: "ياحي ياقيوم".
…أخرجه الترمذي (5/495 - 496) 49 - كتاب الدعوات 40 - باب مايقول عند الكرب، حديث (3436) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
…وفيه نظر؛ فإن في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي قال فيه الذهبي: ضعفوه. الكاشف (1/89). وقال الحافظ: متروك. التقريب (1/41).
…لكن يشهد له حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كربه أمر قال: "ياحي ياقيوم برحمتك أستغيث".
…رواه الترمذي (5/539)، 49 - كتاب الدعوات، حديث (3524). وفي إسناده يزيد ابن أبان الرقاشي ضعيف.
…كما يشهد له حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل به هم أو غم، قال: "يا حي ياقيوم برحمتك أستغيث".
…أخرجه الحاكم (1/509) كتاب الدعاء، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي بأن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه. والصحيح أن عبد الرحمن قد ثبت سماعه من أبيه قال بذلك جماعة من الأئمة. ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وانظر: تهذيب التهذيب (6/213 - 214) فالحديث بمجموع طرقه حسن لغيره والله أعلم. ولا ينقصه عن هذه المرتبة وجود من لا يحتج به في إسناد حديث ابن مسعود، فإن كونهم لا يحتج بهم لايمنع الاستشهاد والتقوية بهم.(166/124)
…287 - فإذا سئل المسئول بشيء - والباء للسبب - سئل بسبب يقتضي وجود المسئول، فإذا قال: أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض(1)، كان كونه محموداً مناناً بديع السموات والأرض يقتضي أن يمن على عبده السائل، وكونه محموداً هو يوجب أن يفعل ما يحمد عليه، وحمد العبد له سبب إجابة دعائه.
…288 - ولهذا أمر المصلي أن يقول "سمع الله لمن حمده" أي استجاب الله دعاء من حمده، فالسماع هنا بمعنى الإجابة والقبول كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن / دعاء لا يسمع"(2) أي لا يستجاب.
__________
(1) …تقدم تخريجه ص 96 رقم (3).
(2) …صحيح. أخرجه مسلم (4/2088)، 48 - كتاب الذكر، 18 - باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل، حديث (73). والنسائي (2/228). وأبوداود (2/192)، كتاب الصلاة، 367، باب في الاستعاذة، كلاهما من حديث زيد بن أرقم، حديث (1548).
…وابن ماجه (2/1261) 34 - كتاب الدعاء، حديث (3837). وأحمد (2/340، 365، 451).
…والنسائي (8/231)، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من نفس لا تشبع، كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
…والنسائي (8/223)، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من قلب لا يخشع، والترمذي (5/519) حديث (3482) وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.
…وأحمد (2/167، 198) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -. وأحمد أيضاً - (3/192، 255، 283) من حديث أنس - رضي الله عنه -.(166/125)
…289 - ومنه قول الخليل في آخر دعائه (34: 39): {إن ربي لسميع الدعاء}، ومنه قوله تعالى (9: 47): {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}، وقوله (5: 41): {وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} أي يقبلون الكذب ويقبلون من قوم آخرين لم يأتوك(1) أي لم يأتك أولئك الأقوام، ولهذا أمر المصلي أن يدعو بعد حمد الله بعد التشهد المتضمن الثناء على الله سبحانه.
…290 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه يصلي ويدعو ولم يحمد ربه ولم يصل على نبيه فقال: "عَجِلَ هذا" ثم دعاه فقال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليدع بعد بما شاء" أخرجه أبوداود(2) والترمذي(3) وصححه.
__________
(1) …انظر ص 101 حاشية (1)
(2) …سقط من: ز، ب من قوله: "أي يقبلون" إلى "لم يأتوك".
(3) …أبوداود (2/162)، كتاب الصلاة، 358 - باب الدعاء حديث (1481). والترمذي (5/517)، 49 - كتاب الدعوات، باب 65، حديث (7477). والنسائي (3/38) كتاب السهو، باب التمجيد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأحمد (6/18) كلهم من حديث فضالة بن عبيد. ورجاله ثقات إلا حميد بن هانئ قال فيه الذهبي: ثقة. وقال الحافظ: لا بأس به. فهو صحيح أو من أعلى درجات الحسن.(166/126)
…291 - وقال عبد الله بن مسعود: كنت أصلي والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم بالصلاة على نبيه ثم دعوت لنفسي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سَلْ تُعْطَه" رواه الترمذي(1) وحسنه.
…292 - فلفظ السمع يراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى مع ذلك، ويراد به القبول والاستجابة مع الفهم. قال تعالى (8: 23): {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاَسْمَعَهُمْ} ثم قال: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} على هذه الحال التي هم عليها لم يقبلوا الحق ثم {لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}، فذمهم بأنهم لا يفهمون القرآن ولو فهموه لم يعملوا به.
…293 - وإذا قال السائل لغيره: أسألك بالله. فإنما سأله بإيمانه بالله وذلك سبب لإعطاء من سأله به، فإنه سبحانه يحب الإحسان إلى الخلق، لا سيما إن كان المطلوب كف الظلم، فإنه يأمر بالعدل وينهى عن الظلم، وأمره أعظم الأسباب في حض الفاعل، فلا سبب أولى من أن يكون مقتضياً لمسببه من أمر الله تعالى.
__________
(1) …(2/488)، أبواب الصلاة، 416 - باب ما ذكر في الثناء على الله، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (593) من طريق عاصم بن بهدلة وهو ابن أبي النجود، وهو صدوق له أوهام كما في التقريب، ففي حديثه ضعف يسير، لكن يشهد له ويقويه حديث فضالة بن عبيد عند الترمذي، 49 - كتاب الدعوات، حديث (3476) وفي إسناده رشدين بن سعد فيه ضعف. وعند النسائي (3/38) وهو جزء من الحديث السابق، بلفظ: "وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي فمجد الله وحمده وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادع تجب وسل تعط".(166/127)
…294 - وقد جاء فيه حديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجه، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه: "وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياء ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك"(1) فإن كان هذا صحيحاً فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، وهو حق أوجبه على نفسه لهم.
…295 - كما يسأل بالإيمان والعمل الصالح الذي جعله سبباً لإجابة الدعاء كما في قوله تعالى (42: 26): {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}.
…296 - وكما يُسأل بوعده؛ لأن وعده يقتضي إنجاز ما وعده، ومنه قول المؤمنين (3: 193): {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلأيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} وقوله (23: 109 - 110): {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ* فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي}.
…297 - ويشبه هذا مناشدة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر حيث يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني"(2).
__________
(1) …سيأتي ص (214 - 215).
(2) …أخرجه مسلم (3/1383 - 1384)، 32 - كتاب الجهاد والسير، 16 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لانورث ماتركناه صدقة". حديث (58). الترمذي (5/269)، 48 - كتاب تفسير القرآن، باب 9 سورة الأنفال، حديث (3079). أحمد (1/30، 32). كلهم من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حديث طويل يروي فيه دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومناشدته له يوم بدر.(166/128)
…298 - وكذلك ما في التوراة أن الله تعالى غضب على بني إسرائيل، فجعل موسى يسأل ربه ويذكر ما وعد به إبراهيم، فإنه سأله بسابق وعده لإبراهيم.
…299 - ومن السؤال بالأعمال الصالحة سؤال الثلاثة الذين أووا إلى غار، فسأل كل واحد منهم بعمل عظيم أخلص فيه لله، لأن ذلك العمل مما يحبه الله ويرضاه محبة تقتضي إجابة صاحبه: هذا سأل ببره لوالديه، وهذا سأل بعفته التامة، وهذا سأل بأمانته وإحسانه(1).
…300 - وكذلك كان ابن مسعود يقول وقت السحر: "اللهم أمرتني فأطعتك، ودعوتني فأجبتك، وهذا سَحَر فاغفر لي"(2).
…301 - ومنه حديث ابن عمر أنه كان يقول على الصفا: "اللهم إنك قلت، وقولك الحق: {ادعوني أستجب لكم}، وإنك لا تخلف الميعاد" ثم ذكر الدعاء المعروف عن ابن عمر أنه كان يقول على الصفا(3).
…302 - فقد تبين أن قول القائل: أسألك بكذا. نوعان:
…فإن الباء قد تكون للقسم، وقد تكون للسبب. فقد تكون /قسماً به على الله، وقد تكون سؤالاً بسببه.
…فأما الأول فالقسم بالمخلوقات لا يجوز على المخلوق فكيف على الخالق؟.
__________
(1) …حديث الثلاثة في البخاري 605 - كتاب أحاديث الأنبياء 53 - باب حديث الغار، حديث (3465)، و78 - كتاب الأدب 5 - باب إجابة دعاء من بر والديه، حديث (5974).
…ومسلم (4/2099)، 48 - كتاب الذكر، 27 - باب قصة أصحاب الغار، حديث (100) من حديث طويل عن ابن عمر - رضي الله عنه - وهو حديث معروف.
(2) …تفسير ابن جرير الطبري (3/208).
(3) …قال النووي - رحمه الله - في الأذكار (ص 273):
…"وروينا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يقول علىالصفا: "اللهم اعصمنا بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك - صلى الله عليه وسلم - وجنبنا حدودك..." وفيه طول، ولم يعزه إلى مصدر.
…وراجعت مصنف عبد الرزاق ومصنف ابن أبي شيبة فلم أجده.(166/129)
…وأما الثاني وهو السؤال بالمعظم(1) كالسؤال بحق الأنبياء فهذا فيه نزاع، وقد تقدم عن أبي حنيفة وأصحابه(2) أنه لايجوز. ومن الناس من يجوّز(3) ذلك.
…303 - فنقول: قول السائل لله: أسألك بحق فلان وفلان من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، أو بجاه فلان أو بحرمة فلان. يقتضي أن هؤلاء لهم عند الله جاه، وهذا صحيح، فإن هؤلاء لهم عند الله منزلة وجاه وحرمة يقتضي أن يرفع الله درجاتهم ويعظم أقدارهم ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا، مع أنه سبحانه قال (2: 255): {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَ بِإِذْنِهِ}.
…304 - ويقتضي أيضاً أن من اتبعهم واقتدى بهم فيما سن له الاقتداء بهم فيه كان سعيداً، ومن أطاع أمرهم الذي بلغوه عن الله كان سعيداً، ولكن ليس نفس مجرد قدرهم وجاههم ما(4) يقتضي إجابة دعائه إذا سأل الله بهم حتى يسأل الله بذلك، بل جاههم ينفعه إذا اتبعهم وأطاعهم فيما أمروا به عن الله، أو تأسى بهم فيما سنوه للمؤمنين، وينفعه أيضاً إذا دعوا له وشفعوا فيه.
…305 - فأما إذا لم يكن [منهم] دعاء ولا شفاعة، ولا منه سبب يقتضي الإجابة، لم يكن مستشفعاً بجاههم ولم يكن سؤاله بجاههم نافعاً له عند الله، بل يكون قد سأل بأمر أجنبي عنه ليس سبباً لنفعه.
…306 - ولو قال الرجل لمطاع كبير: أسألك بطاعة فلان لك، وبحبك له على طاعتك، وبجاهه عندك الذي أوجبته طاعته لك. [لكان] قد سأله بأمر أجنبي لا تعلق له به، فكذلك إحسان الله إلى هؤلاء المقربين ومحبته لهم وتعظيمه لأقدارهم مع عبادتهم له وطاعتهم إياه ليس في ذلك مايوجب إجابة دعاء من يسأل بهم، وإنما يوجب إجابة دعائه بسبب منه لطاعته لهم، أو سبب منهم لشفاعتهم له، فإذا انتفى هذا وهذا فلا سبب.
__________
(1) …في خ، ز، ب: "المعظم" ولعل الصواب "بالمعظم".
(2) …ص (88).
(3) …سقط من: ز، ب، قوله: "ومن الناس من يجوّز".
(4) …كذا في خ وسائر النسخ ولعل الصواب مما.(166/130)
…307 - نعم لو سأل الله بإيمانه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومحبته له وطاعته له واتباعه له لكان قد سأله بسبب عظيم يقتضي إجابة الدعاء بل هذا أعظم الأسباب والوسائل.
…308 - والنبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أن شفاعته في الآخرة تنفع أهل التوحيد لا أهل الشرك، وهي مستحقة لمن دعا له بالوسيلة، كما في الصحيح أنه قال:
…309 - "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة"(1).
…310 - وفي الصحيح أن أبا هريرة قال له: أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"(2).
…311 - فبين - صلى الله عليه وسلم - أن أحق الناس بشفاعته يوم القيامة من كان أعظم توحيداً وإخلاصاً، لأن التوحيد جماع الدين والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء، فهو سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإذا شفع محمد - صلى الله عليه وسلم - حدَّ له ربه حداً فيدخلهم الجنة، وذلك بحسب مايقوم بقلوبهم من التوحيد والإيمان.
…312 - وذكر - صلى الله عليه وسلم - أنه من سأل الله له الوسيلة حلت عليه شفاعته يوم القيامة، فبين أن شفاعته تنال باتباعه بما جاء به من التوحيد والإيمان، وبالدعاء الذي سن لنا أن ندعو له به.
…313 - وأما السؤال بحق فلان فهو مبني على أصلين:
…أحدهما: ما له من الحق عند الله.
…والثاني: هل نسأل الله بذلك كما نسأل بالجاه والحرمة!.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (73) رقم (1).
(2) …تقدم تخريجه في ص (17) رقم (2).(166/131)
…314 - أَمَّا الأول فمن الناس من يقول: للمخلوق على الخالق حق يعلم بالعقل. وقاس المخلوق على الخالق، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم(1).
…315 - ومن الناس من يقول: لا حق للمخلوق على الخالق بحال، لكن يعلم ما يفعله بحكم وعده وخبره. كما يقول ذلك من يقول من أتباع/ جهم والأشعري وغيرهما ممن ينتسب إلى السنة.
…316 - ومنهم من يقول: بل كتب الله على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه حقاً لعباده المؤمنين كما حرم الظلم على نفسه، لم يجب ذلك مخلوق عليه ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته وحكمته وعدله كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم.
…317 - كما قال في الحديث الصحيح الإلهي:
…"ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا"(2).
…وقال تعالى (6: 54): {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وقال تعالى (30: 47): {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
…318 - وفي الصحيحين(3)
__________
(1) …راجع شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار وشرحه لأبي هاشم الجبائي (ص493 - 505). فإنه بحث فيها عن الأعواض المستحقة على الله ورد فيه على مخالفيه في زعمه.
(2) …أخرجه مسلم (4/1994)، 45 - كتاب البر، 15 - باب تحريم الظلم، حديث (55). وأحمد (5/160) عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وهو حديث طويل وعظيم، وشرحه شيخ الإسلام شرحاً خاصاً.
(3) …أخرجه البخاري في 56 - كتاب الجهاد، 46 - باب اسم الفرس والحمار، حديث (2856) فتح (6/58)، و 97 - كتاب التوحيد، باب ماجاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيد (7373).
…ومسلم، 1 - كتاب الإيمان، باب (10)، حديث (48 - 49). وابن ماجه، 37 - كتاب الزهد، 35 - باب ما يُرجى من رحمة الله يوم القيامة، حديث (4296)، (2/1435). وأحمد (3/260). والترمذي (5/26) 41 - الإيمان، حديث (2643).(166/132)
عن معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يامعاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. يامعاذ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم".
…319 - فعلى هذا القول لأنبيائه وعباده الصالحين، عليه سبحانه حق أوجبه على نفسه مع إخباره.
…320 - وعلى الثاني يستحقون ما أخبر بوقوعه وإن لم يكن ثم سبب يقتضيه.
…321 - فمن قال ليس للمخلوق على الخالق حق يسأل به، كما روي أن الله تعالى قال لداود: وأي حق لآبائك علي؟ [فهو] صحيح إذا أريد بذلك أنه ليس للمخلوق عليه حق بالقياس والاعتبار على خلقه، كما يجب للمخلوق على المخلوق، وهذا كما يظنه جهال العبّاد من أن لهم على الله(1) سبحانه حقاً بعبادتهم.
…322 - وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق من جنس مايصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم وملاكهم فيجلبون لهم منفعة ويدفعون عنهم مضرة، ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه: ألم أفعل كذا! يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه.
__________
(1) …لفظ الجلالة سقط من: ز.(166/133)
…323 - وتخيلُ مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه، ولهذا بين سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه وأن الله غني عن الخلق، كما في قوله تعالى (17: 7): {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، وقوله تعالى (41: 46): مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِلْعَبِيدِ}، وقوله تعالى (39: 7): {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، وقوله تعالى (27: 40): {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}، وقال تعالى (14: 7 - 8) في قصة موسى عليه السلام: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ* وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وقال تعالى (3: 176): {وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}، وقال تعالى (3: 97): {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ}.(166/134)
…324 - وقد بين سبحانه وتعالى أنه المانُّ بالعمل فقال تعالى (49: 17): {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وقال تعالى (49: 7 - 8): {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ* فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
…325 - وفي الحديث الصحيح الإلهي "ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني وإنكم(1) لن تبلغوا نفعي فتنفعوني. ياعبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم. ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم مازاد ذلك في ملكي شيئاً. ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"(2).
…326 - وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق مالا يخفى على من له أدنى بصيرة:
…327 - منها أن الرب تعالى غنيّ بنفسه عما سواه، ويمتنع أن يكون مفتقراً إلى غيره بوجه من / الوجوه، والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم(3) حاجة ضرورية.
__________
(1) …كلمة "إنكم" سقطت من: ز، ب.
(2) …هذا الحديث بقية حديث أبي ذر الذي تقدم تخريجه قريباً ص (109) ورقم (1).
(3) …في ز: "غيره".(166/135)
…328 - ومنها أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين، فهو الذي يخلق ذلك وييسره، فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته.
…329 وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان، بخلاف القدرية. والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره.
…330 - ومنها أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به(1) لحاجته إليهم، ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلاً عليهم، بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلاً عليه.
…331 - وهذا أيضاً ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته ويقولون: إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم، ولم ينههم إلا عن شر يضرهم. بخلاف المجبرة الذين يقولون: إنه قد يأمرهم بما يضرهم وينهاهم عما ينفعهم.
…332 - ومنها أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو المنعم بالقدرة والحواسّ وغير ذلك مما به يحصل العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، فلا حول ولا قوة إلا به. ولهذا قال أهل الجنة (7 - 42: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}، وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك.
…333 - ومنها أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قٌدِّر أن العبادة جزاء النعمة، لم تقم العبادة بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمه(2) أيضاً.
__________
(1) …سقطت "به" من: ز.
(2) …في ز، ب: "نعمته".(166/136)
…334 - ومنها أن العباد لايزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله سيئات(1) يحتاج فيها إلى مغفرة الله(2) لها (35: 45): {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}.
…335 - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" لا يناقض قوله تعالى (32: 17، 46: 14، 65: 24): {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}؛ فإن المنفي نُفي بباء المقابلة والمعاوضة(3) كما يقال: بعت هذا بهذا. وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سبباً للجزاء، ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه، وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه فهو ضال.
…336 - كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يارسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل"(4)
__________
(1) …في ز، ب: "ذنوب".
(2) …لفظ الجلالة ساقط من: ز.
(3) …في ز، ب: "المعارضة" وهو خطأ. والصواب المعاوضة كما في نسخة الفتاوى ج1/217.
(4) …أخرجه البخاري، 75 - كتاب المرضى 19 - باب تمني المريض الموت، (5673) فتح (10/127). ومسلم (4/2170)، 50 - كتاب صفات المنافقين، 17 - باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله، حديث (71 - 76). وابن ماجه (2/1405)، 37 - كتاب الزهد، 20 - باب التوقي على العمل، حديث، (4201). وأحمد (235، 256، 264، 319) كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
…والبخاري، 81 - كتاب الرقاق، حديث (6467). ومسلم 50 - كتاب صفة المنافقين، حديث 78. وأحمد (6/125)، من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
…ومسلم، 50 - كتاب صفة المنافقين، حديث (77). وأحمد (3/337)، والدارمي (2/215)، حديث (2736) كلهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما -.
…وأحمد (3/52) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.(166/137)
وروي "بمغفرته"(1). ومن هذا أيضاً الحديث الذي في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله لو عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم"(2) الحديث.
…337 - ومن قال: بل للمخلوق على الله حق. فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته.
__________
(1) …في المسند (2/335) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) …حسن، أبوداود (5/75)، 34 - كتاب السنة، 17 - باب في القدر، حديث (4699). وابن ماجه (1/29 - 30) المقدمة 10 - باب في القدر، حديث (77). وأحمد (5/182، 183، 185، 189)، كلهم من طريق أبي سنان سعيد بن سنان، ثنا وهب بن خالد عن ابن الديلمي، عن أبي بن كعب وابن مسعود، وحذيفة، وزيد بن ثابت، وزيد وحده يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
…وفي إسناده سعيد بن سنان وثقه ابن معين والعجلي وأبوحاتم وأبوداود والنسائي وابن حبان ويعقوب بن سفيان والدارقطني، وقال أحمد: ليس بالقوي. وقال ابن سعد: سيء الخلق، وقال ابن عدي: له غرائب وإفرادات، وأرجو أنه ممن لا يتعمد الكذب ولعله إنما يهم في الشيء بعد الشيء". راجع تهذيب التهذيب (4/46)، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق له أوهام.
…أقول: إن الحافظ قد تشدد في حق ابن سنان؛ فإنه كثيراً ما يوثق مثله، وعلى كل حال فحديثه لا يهبطه عن درجة الحسن في نظري. والله أعلم.
…أَمَّا معنى الحديث فقد بينه شيخ الإسلام - بالإضافة إلى ما ذكره هنا - في موضع آخر فقال: "والحديث الذي في السنن "لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم" يبين أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك، لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبين أن من الظلم المنفي عقوبة من لم يذنب". مجموع الفتاوى (18/143 - 144).(166/138)
…338 - وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به فسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو سأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات(1) كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب.
…339 - وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو(2) سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه.
…340 - وأما سؤال الله بأسمائه وصفاته التي تقتضي ما يفعله بالعباد من الهدى والرزق والنصر فهذا أعظم ما يسأل الله تعالى به. فقول المنازع: لا يسأل بحق الأنبياء، فإنه لا حقَّ للمخلوق على الخالق ممنوع.
…341 - فإنه قد ثبت في الصحيحين حديث معاذ الذي تقدم(3) إيراده، وقال تعالى (6: 54): {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، (30: 47): {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
…342 - فيقال للمنازع: الكلام في هذا في مقامين:
…أحدهما: في حق العباد على الله.
…والثاني: في سؤاله بذلك الحق.
…343 - أَمَّا الأول فلا ريب أن الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السائلين بأن يجيبهم، وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى (4: 122): {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً}، (30: 6): {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، (14: 47): {فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ}.
…فهذا مما يجب وقوعه/ بحكم الوعد باتفاق المسلمين.
…344 - وتنازعوا: هل عليه واجب بدون ذلك؟ على ثلاثة أقوال - كما تقدم -.
…قيل: لا يجب لأحد عليه حق بدون ذلك.
…وقيل: بل يجب عليه واجبات ويحرم عليه محرمات بالقياس على عباده.
__________
(1) …في خ "المسات" وفي ز، ب: "المشيئات" وعلق في ب: "لعله المسببات" وهو الظاهر. وقد جاء الصواب في نسخة الفتاوى (1/218).
(2) …كلمة "لو" سقطت من: ز، ب.
(3) …تقدم تخريجه في ص (109) رقم (2).(166/139)
…وقيل: هو أوجبَ على نفسه وحرَّم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرمه على نفسه كما ثبت في الصحيح من حديث أبي ذر كما تقدم(1).
…345 - والظلم ممتنع منه باتفاق المسلمين، لكن تنازعوا في الظلم الذي لا يقع. فقيل هو الممتنع(2) وكل ممكن يمكن أن يفعله لا يكون ظلماً، لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير، وإما مخالفة الأمر الذي يجب عليه طاعته، وكلاهما ممتنع منه.
…وقيل: بل ماكان ظلماً من العباد فهو ظلم منه.
…وقيل: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فهو سبحانه لا يظلم الناس شيئاً، قال تعالى (20: 113): {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضما}.
…346 - قال المفسرون: هو أن يحمل عليه سيئات غيره ويعاقب بغير ذنبه، والهضم أن يهضم من حسناته. قال تعالى (4: 40): {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}، (11: 101): {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}.
…347 - وأما المقام الثاني فإنه يقال: مابين الله ورسوله أنه حق للعباد على الله فهو حق، لكن الكلام في السؤال بذلك، فيقال: إن كان الحق الذي سأل به سبباً لإجابة السؤال حسن السؤال به، كالحق الذي يجب لعابديه وسائليه.
…348 - وأما إذا قال السائل: بحق فلان وفلان. فأولئك إذا كان لهم عند الله حق أن لا يعذبهم وأن يكرمهم بثوابه ويرفع درجاتهم - كما وعدهم بذلك وأوجبه على نفسه - فليس في استحقاق أولئك ما استحقوه من كرامة الله ما يكون سبباً لمطلوب هذا السائل، فإن ذلك استحق ما استحقه بما يسره الله له من الإيمان والطاعة. وهذا لا يستحق ما استحقه ذلك. فليس في إكرام الله لذلك سبب يقتضي إجابة هذا.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (109) رقم (2).
(2) …أي المحال الذي لا تتعلق به قدرته تعالى - (رشيد رضا) رحمه الله.(166/140)
…349 - وإن قال: السبب هو شفاعته ودعاؤه. فهذا حق إذا كان قد شفع له ودعا له، وإن لم يشفع له ولم يدع له لم يكن هناك سبب.
…350 - وإن قال: السبب هو محبتي له وإيماني به وموالاتي له. فهذا سبب شرعي وهو سؤال الله وتوسل إليه بإيمان هذا السائل ومحبته لله ورسوله وطاعته لله ورسوله.
…351 - لكن يجب الفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله: فمن أحب مخلوقاً كما يحب الخالق فقد جعله نداً لله، وهذه المحبة تضره ولا تنفعه.
…352 - وأما من كان الله تعالى أحب إليه مما سواه، وأحب أنبياءه وعباده الصالحين له فحبه لله تعالى هو أنفع الأشياء. والفرق بين هذين من أعظم الأمور.
…353 - فإن قيل: إذا كان التوسل بالإيمان به ومحبته وطاعته على وجهين - تارة يتوسل بذلك إلى ثوابه وجنته (وهذا أعظم الوسائل)، وتارة يتوسل بذلك في الدعاء كما ذكرتم نظائره - فيحمل قول القائل: أسألك بنبيك محمد، على أنه أراد: إني أسألك بإيماني به وبمحبته، وأتوسل إليك بإيماني به ومحبته، ونحو ذلك.
…354 - وقد ذكرتم أن هذا جائز بلا نزاع. قيل: من أراد هذا المعنى فهو مصيب في ذلك بلا نزاع، وإذا حمل على هذا المعنى لكلام من توسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته من السلف كما نقل عن بعض الصحابة والتابعين وعن الإمام أحمد وغيره، كان هذا حسناً وحينئذ فلا يكون في المسألة نزاع، ولكن كثير من العوام يطلقون هذا اللفظ ولا يريدون هذا المعنى، فهؤلاء الذين أنكر عليهم من أنكر، وهذا كما أن الصحابة كانوا يريدون بالتوسل به التوسل بدعائه وشفاعته وهذا جائز بلا نزاع، ثم إن أكثر الناس في زماننا لا يريدون هذا المعنى بهذا اللفظ.
…355 - فإن قيل: فقد يقول الرجل لغيره: بحق الرحم. قيل: الرحم توجب على صاحبها حقاً لذي الرحم كما قال الله تعالى (4: 1): {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ}.(166/141)
356 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الرحم شُجْنة من الرحمن(1) من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله"(2).
__________
(1) …شجنة: قرابة مشتبكة كاشتباك العروق.
(2) …أخرجه البخاري، 78 - كتاب الأدب، 13 - باب من وصل وصله الله حديث (5988)، من طريق أبي صالح عن أبي هريرة. وأحمد (2/295، 383، 406، 455) من طريق محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة. والحاكم (4/157) كتاب البر والصلة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: "أنا الرحمن وهي الرحم فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته".
…والبخاري، 78 - كتاب الأدب، حديث (5989) من حديث عائشة - رضي الله عنها - بلفظ "الرحم شجنة فمن وصلها..." الحديث، والبخاري في الأدب المفرد (ص 34) حديث (55) وليس فيه شجنة من الرحمن. والحاكم (4/159)، كتاب البر والصلة بإسناد البخاري، وفيه "الرحم شجنة من الله..." الحديث. ورواه الترمذي (4/323)، 16 - باب ماجاء في رحمة المسلمين، حديث (1924). وأحمد (2/160). والحاكم (4/159)، كتاب البر والصلة وصححه ووافقه الذهبي. والحميدي (2/270)، حديث (592)، والبخاري في الأدب المفرد (ص 33) 27 - باب فضل صلة الرحم. حديث (54) من حديث عبد الله بن عمرو.
…وأخرجه الحاكم (4/157)، كتاب البر والصلة من حديث أبي هريرة كما تقدم ثم قال: وقد روي بأسانيد واضحة عن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعائشة، وعبد الله بن عمرو. ثم سرد أحاديثهم ص (157 - 159).(166/142)
…357 - وقال: "لما خلق الله الرحم تعلقت بحقوي(1) الرحمن وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قد رضيت"(2).
…358 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته"(3).
…359 - وقد روي عن علي أنه كان / إذا سأله ابن أخيه بحق جعفر أبيه أعطاه لحق جعفر على عليّ.
__________
(1) …الحقوان: الخاصرتان.
(2) …أخرجه البخاري، 65 - كتاب التفسير 47 - سورة محمد، حديث (4830 - 4832) و 97 - كتاب التوحيد، باب 35، حديث (7502) دون قوله "تعلقت بحقوي الرحمن" في الموضع الثاني مع ذكره في الموضع الأول. ومسلم (2/1980 - 1981) 45 - كتاب البر، 6 - باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، حديث (16) بدون قوله "بحقوي...". وأحمد (2/330) كلهم من حديث أبي هريرة والجملة السابقة عند أحمد بلفظ بحقو.
(3) …حسن لغيره، أخرجه أبوداود (2/322) 3 - كتاب الزكاة، حديث (1694). والترمذي (4/315)، 28 - كتاب البر والصلة، حديث (1907). وأحمد (1/194). والبخاري في الأدب المفرد (ص 33) حديث (53)، كلهم من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه مرفوعاً.
…وأبوسلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، قال ذلك علي بن المديني وأحمد وابن معين وأبوحاتم ويعقوب بن شيبة وأبوداود وابن عبد البر قالوا: حديثه عن أبيه مرسل.
…انظر: تهذيب التهذيب (12/117).
…لكن له متابعة يتقوى بها رواها أحمد (1/191، 194)، من طريق يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً كما شهد له الحديثان قبله.(166/143)
…360 - وحق ذي الرحم باق بعد موته كما في الحديث أن رجلاً قال: يارسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم! الدعاء لهما والاستغفار لهما، وإنفاذ وعدهما من بعدهما، وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما"(1).
…361 - وفي الحديث الآخر حديث ابن عمر: "[إن] من أبِّر البرّ أن يصل الرجل أهل وُدّ أبيه بعد أن يولي(2)"(3).
__________
(1) …إسناده ضعيف، أخرجه ابن ماجه (2/1208)، 33 - كتاب الأدب، 2 - باب صل من كان أبوك يصل، حديث (3664). وأحمد (3/497 - 498). وأبوداود (5/352)، 35 - كتاب الأدب 129 - باب في بر الوالدين حديث (5142). والبخاري في الأدب المفرد (ص27) 19 - باب بر الوالدين حديث (35) والمنذري في الترغيب والترهيب (5/11 - 12) وعزاه لأبي داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه. كلهم من طريق أسيد بن علي بن عبيد مولى بني ساعدة عن أبيه علي بن عبيد، وأسيد صدوق، وأبوه علي بن عبيد. قال في تهذيب التهذيب (7/363): روى عن مولاه حديثاً في البر وقيل عن أبيه عن مولاه، روى عنه ابن أسيد، ذكره ابن حبان في الثقات.
…وقال في التقريب: "مقبول"، ويعني به إذا توبع وإلا فلين الحديث كما في مقدمة التقريب. وقد بحثت له عن متابع أو شاهد فلم أجده فالحديث إذاً بهذا الإسناد ضعيف. والله أعلم.
(2) …يقال: تولى الرجل، إذا ذهب والمراد به هنا موته.
(3) …أخرجه مسلم (4/1979)، 45 - كتاب البر والصلة، 4 - باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، حديث (2552). وأبوداود (5/353)، 129 - باب بر الوالدين، حديث (5143). والترمذي (4/313)، 28 - كتاب البر والصلة، 5 - باب ماجاء في إكرام صديق الوالد، حديث (1903)، وقال: "هذا إسناد صحيح". وقد روي هذا الحديث عن ابن عمر من غير وجه كلهم من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر - رضي الله عنهما -.(166/144)
…فصلة(1) أقارب الميت وأصدقائه بعد موته هو من تمام بره.
…362 - والذي قاله أبوحنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء - من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق، لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك - يتضمن شيئين كما تقدم(2):
…363 - أحدهما: الإقسام على الله سبحانه وتعالى به، وهذا منهيٌّ عنه عند جماهير العلماء كما تقدم، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة والمشاعر باتفاق العلماء.
…364 - والثاني: السؤال به، فهذا يجوّزه طائفة من الناس، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف، وهو موجود في دعاء كثير من الناس، لكنَّ ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كله ضعيفٌ بل موضوع، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة، إلا حديث الأعمى الذي علَّمه أن يقول: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"(3).
__________
(1) …في: النسخ المطبوعة "فصله" وهو تصحيف يوهم أنه من تمام الحديث. وفي نسخة الفتاوى جاء على الصواب فصلة ج1/222.
(2) …تقدم في ص (90).
(3) …سيأتي تخريجه إن شاء الله.(166/145)
…365 - وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه، فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته، وهو طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء، وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: "اللهم شَفِّعْه فيَّ" ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدْعُ لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسؤال به لم تكن حالهم كحاله(1).
…366 - ودعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الاستسقاء المشهور بين المهاجرين والأنصار وقوله: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا"(2) يدل على أن التوسل المشروع عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته لا السؤال بذاته، إذ لو كان هذا مشروعاً لم يعدل عمر والمهاجرون(3) والأنصار عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس.
__________
(1) …وقد عمي بعض الصحابة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ابن عباس وجابر وكان ابن عباس راغباً في الشفاء، فلو كان التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - مشروعاً لتوسل بذاته - صلى الله عليه وسلم - ولشفي وهو أولى بأن يجاب من هذا الصحابي المجهول بل عمي عتبان بن مالك في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ابن أم مكتوم.
(2) …تقدم تخريجه في ص (86).
(3) …في خ: "المهاجرين" والصواب ما أثبته عربية. المهاجرون هكذا على الصواب في نسخة الفتاوى 1/223.(166/146)
…367 - وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم لأن بين السؤال والإقسام فرقا، فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة(1)، والمقسم أعلى من هذا فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم، والمقسم لايقسم إلا على من يرى أنه يبرُّ قسمه، فإبرار القسم خاص ببعض العباد، وأما إجابة السائلين فعام، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً.
…368 - وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يدَّخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشرّ مثلها" قالوا: يارسول الله إذن نكثر. قال: "الله أكثر"(2)
__________
(1) …هذا التعليل مستغرب من شيخ الإسلام، فإن النزاع إنما هو في السؤال المبتدع بمعنى التوسل بذوات الأنبياء والصالحين وبجاههم وحقهم. وشيخ الإسلام يقرر في غير موضع أن التوسل من هذا النوع توسل بأسباب أجنبية غير مناسبة للإجابة. فيستبعد صدور هذا الكلام منه. والله أعلم.
(2) …أخرجه أحمد (3/18) حدثنا أبوعامر ثنا علي عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وعليٌّ هذا هو علي بن علي الرفاعي كما في المستدرك (1/493) وكشف الأستار (4/41).
…لكن يشهد له حديث جابر - رضي الله عنه -.
…"سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من أحد يدعو بدعاء إلا آتاه الله ما سأل أو كف عنه من السوء مثله مالم يدع بإثم أو قطيعة رحم". رواه الترمذي (5/462)، 49 - كتاب الدعوات، باب ماجاء أن دعوة المسلم مستجابة، حديث (3381) من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله عنه - وفي إسناده ابن لهيعة صدوق اختلط بعد احتراق كتبه. كما يشهد له حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - نحو حديث جابر - رضي الله عنه - رواه أحمد (5/329) من طريق محمد بن يوسف الفريابي عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن جبير بن نفير عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - نحو حديث جابر. وفي إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، صدوق يخطئ، ورمي بالقدر وتغير بأخره.
…قال الترمذي عقب حديث عبادة: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وفي نظري أن الحديث حسن لغيره بمجموع طرقه.
…ويشهد لهذه الأحاديث ما رواه مالك في الموطأ (1/217)، 15 - كتاب القرآن، 8 - باب ماجاء في الدعاء، حديث 36. عن زيد بن أسلم أنه كان يقول: ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه.
…قال ابن عبد البر مثل هذا يستحيل أن يكون رأياً واجتهاداً، وإنما هو توقيف وهو خبر محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الموطأ (1/217).
…وقوله "وهو خبر محفوظ" يشير به - والله أعلم - إلى الأحاديث الآنفة الذكر.(166/147)
.
…369 - وهذا التوسل بالأنبياء - بمعنى السؤال بهم - وهو الذي قال أبوحنيفة وأصحابه وغيرهم: إنه لا يجوز، ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلاً أن يجعل هذا من مسائل السبب(1) فمن نقل عن مذهب مالك: أنه جوَّز التوسل به بمعنى الإقسام به أو السؤال به فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه فضلاً عن أن يقول مالك: إن هذا سبب(2) للرسول أو تنقص به. بل المعروف عن مالك أنه كره للداعي أن يقول: ياسيدي سيدي، وقال: قل كما قالت الأنبياء يارب يارب ياكريم. وكره أيضاً أن يقول: ياحنان يامنان(3). فإنه ليس بمأثور عنه.
…370 - فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء إذ لم يكن مشروعاً عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبيًّا كان أو غيره، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق، لا نبي ولا غيره، بل قال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فيسقون(4).
__________
(1) …في ز: "سب" وهو المناسب للسياق. وهكذا أيضاً في الفتاوى جاء كلمة سب (1/224).
(3) …أَمَّا المنان فقد ورد ضمن حديث لفظه "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام ياحي ياقيوم... الحديث أخرجه أبوداود في الصلاة حديث (1495) والترمذي الدعوات حديث (3544)، والنسائي حديث (1300) وابن ماجه: الدعاء حديث (3858) كلهم من طرق إلى أنس يصح بمجموعها الحديث. وصححه الألباني انظر: صحيح أبي داود رقم (1325) وأما الحنان فرواه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف. انظر: مجمع البحرين حديث (4639) وقول: ليس بمأثور أي على هذا الوجه.
(4) …تقدم تخريجه ص 86.(166/148)
…371 - وكذلك ثبت في الصحيح(1) عن ابن عمر(2) وأنس(3).
__________
(1) …في خ "في صحيح مسلم الصحيح" وكان قد ضرب الناسخ على كلمة "صحيح" ولعله سها عن الضرب عن كلمة "مسلم" وسقطت من: ز.
(2) …البخاري، 15 - كتاب الاستسقاء، 3 - باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث (1009). وأحمد (2/93). وابن ماجه (2/405)، 5 - كتاب إقامة الصلاة، حديث (1272) كلهم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعاً.
(3) …البخاري، 15 - كتاب الاستسقاء، حديث (1013 - 1077) ومن ألفاظه عن أنس قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل، فقال: يارسول الله قحط المطر، فادع الله أن يسقينا فدعا فمطرنا، فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة قال: فقام ذلك الرجل - أو غيره - فقال: يارسول الله ادع الله أن يصرفه عنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم حوالينا ولا علينا"، قال: فلقد رأيت السحاب يتقطع يميناً وشمالاً يمطرون ولا يمطر أهل المدينة".
…ومسلم (2/614)، 9 - كتاب الاستسقاء، 2 - باب الدعاء في الاستسقاء حديث (8 - 11).
…وأبوداود (2/692، 694)، 2 - كتاب الصلاة، 258 جماع أبواب الاستسقاء، حديث (1170، 1171، 1174، 1175). والنسائي (3/125، 128، 129، 130، 131) كتاب الاستسقاء. وأحمد (3/104، 181، 187). ومالك في الموطأ (1/191)، 13 - كتاب الاستسقاء، حديث (3) كلهم من طرق إلى أنس بن مالك مرفوعاً.(166/149)
…وغيرهما(1) أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - واستسقائه، / لم ينقل عن أحد منهم أنه كان في حياته - صلى الله عليه وسلم - سأل الله تعالى بمخلوق، لا به ولا بغيره، لا في الاستسقاء ولا غيره. وحديث الأعمى سنتكلم عليه(2) إن شاء الله تعالى.
…372 - فلو كان السؤال به معروفاً عند الصحابة لقالوا لعمر: إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس، فلم نعدل عن الأمر المشروع الذي كنا نفعله في حياته وهو التوسل بأفضل الخلق إلى أن نتوسل ببعض أقاربه، وفي ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة على أعلاهما؟ ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي يضرب به المثل في الجدب.
…373 - والذي فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بيزيد بن الأسود الجُرشيِّ(3)
__________
(1) …ممن روى أحاديث الاستسقاء غير من سبق، عبد الله بن زيد وابن عباس وجابر وعائشة - رضي الله عنهم أجمعين -، وبعض أحاديثهم في الصحيحين، وبعضها في السنن وغيرها، ويضيق المقام عن تخريجها.
(2) …سيأتي ص (203 - 215).
(3) …روى أبوزرعة الدمشقي استسقاء معاوية - رضي الله عنه - والضحاك بن قيس بيزيد ابن الأسود في تاريخه (1/602) برقم (1703، 1704) بإسنادين صحيحين.
…وذكره ابن حبان في الثقات (5/532) في التابعين وقال: سكن الشام وكان من العباد الخشن استسقى به الضحاك بن قيس الفهري، فسقى، روى عنه أهل الشام. وذكره ابن سعد في الطبقات (7/444) في الطبقة الأولى بعد الصحابة وذكر قصة استسقاء معاوية به ومنها: اللهم إنا نستشفع إليك اليوم، بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يايزيد: ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، فما كان أوشك أن ثارت سحابة في المغرب وهبت لها ريح فسقينا حتى كاد الناس لا يصلون إلى منازلهم. وترجم له ابن عساكر في تاريخ دمشق (18/121 - 124).
…وذكر استسقاء كل من معاوية والضحاك بن قيس به. وترجم له الذهبي. في سير أعلام النبلاء (4/136، 137).
…وذكر النصين، وترجم له الحافظ ابن حجر في الإصابة (6/358 - 359) في الصحابة المختلف فيهم وذكر النصين أيضاً.(166/150)
كما توسل عمر بالعباس.
…374 - وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعي(1) وأحمد(2) وغيرهم أنه يتوسل في الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح، قالوا: وإن كان من أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أفضل، اقتداء بعمر. ولم يقل أحد من أهل العلم إنه يسأل الله تعالى في ذلك لا بنبي ولا بغير نبي.
…375 - وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين - غير مالك - كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
…376 - والقاضي عياض لم يذكرها في كتابه في باب زيارة قبره بل ذكر هناك ماهو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها في سياق أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه.
__________
(1) …انظر "المجموع" للنووي (5/67) قال النووي رحمه الله:
…"ويستسقى بالخيار من أقرباء رسول الله؛ لأن عمر - رضي الله عنه - استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون".
…ثم قال: "ويستسقى بأهل الصلاح لما روي أن معاوية استسقى بيزيد بن الأسود".
(2) …راجع "المغني" لابن قدامة - رحمه الله - (2/326)، وكلامه قريب من كلام النووي، وذكر استسقاء عمر بالعباس واستسقاء معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجُرَشيِّ.(166/151)
…377 - وذكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختياني فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه. قال: وحج حجتين فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - كتبت عنه.
…378 - وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه. فقيل له يوماً في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليّ ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر - وكان سيد القراء - لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه.
…379 - ولقد كنت أرى جعفر بن محمد - وكان كثير الدعابة والتبسم - فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على طهارة.
…ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن. ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله.
…380 - ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
…381 - ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
…382 - ولقد رأيت الزهري وكان لمِن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنه ما عرفك ولا عرفته.
…383 - ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه(1).
__________
(1) …هذا الكلام كله ذكره القاضي عياض في الشفاء (2/41 - 43) في الفصل الذي ذكره الشيخ في بداية الكلام، فلله دره ماأصدقه وأدقه في النقل.(166/152)
…فهذا كله نقله القاضي عياض من كتب أصحاب مالك المعروفة.
…384 - ثم ذكر حكاية بإسناد غريب(1) منقطع رواها عن غير واحد إجازة، قالوا: حدثنا أبوالعباس أحمد بن عمر بن دلهات قال: حدثنا أبوالحسن علي بن فهر، ثنا أبوبكر محمد بن أحمد بن الفرح، ثنا أبوالحسن عبد الله بن المنتاب، ثنا يعقوب(2) بن إسحاق بن أبي إسرائيل، ثنا ابن حميد(3) قال: ناظر أبوجعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول / الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله أدب قوماً فقال (49: 2) {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، ومدح قوماً فقال (49: 3): {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية، وذم قوماً فقال (49: 4): {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية، وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً. فاستكان لها أبوجعفر، فقال: يا أبا عبد الله، أستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى (4: 64): {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا
__________
(1) …لقد بحثت عن رجال هذا الإسناد بدءًا من أبي العباس أحمد بن عمر بن دلهات إلى أبي الحسن ابن المنتاب في ترتيب المدارك للقاضي عياض، والصلة لابن بشكوال، فلم أقف لأحد منهم على ترجمة، فهو إسناد غريب حقاً كما وصفه شيخ الإسلام.
(2) …هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن كامجر، قال الدارقطني لا بأس به، تاريخ بغداد (14/291).
(3) …قال الذهبي في المغني (2/573): ضعيف لا من قبل حفظه، قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبوزرعة: يكذب. وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن ابن الشاذكوني.(166/153)
أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}.
…385 - قلت: وهذه الحكاية منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور، فإن أبا جعفر توفي بمكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وتوفي مالك سنة تسع وسبعين ومائة، وتوفي محمد بن حميد الرازي سنة ثمان وأربعين ومائتين(1) ولم يخرج من بلده حين رحل في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه(2).
…وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذّبه أبوزرعة(3) وابن وارة(4).
__________
(1) …انظر: كتاب المجروحين لابن حبان (2/303)، والكاشف (3/326)، وتهذيب التهذيب (9/131)، والميزان (3/531).
(2) …ولم يذكره أحد في تلاميذ مالك حتى المزي في تهذيب الكمال، انظر ترجمة مالك في تهذيب الكمال (3/1296 - 1297)، وترجمة محمد بن حميد منه (3/1190 - 1191) وراجع ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/282 - 545) وقد قسم فيه الرواة عن مالك إلى طبقتين: كبرى وصغرى، وعلى حسب البلدان، ولم يذكر فيهم ابن حميد.
…وهذا يؤكد ما قاله شيخ الإسلام.
(3) …قال ابن حبان في المجروحين (2/204).
…"قال أبوزرعة وابن وارة - أي للإمام أحمد -: صح عندنا أنه يكذب قال - يعني صالح بن أحمد -: فرأيت أبي بعد ذلك إذا ذكر ابن حميد نفض يده.
(4) …الحافظ الكبير الثبت أبوعبد الله محمد بن مسلم بن عثمان بن وارة الرازي، مات سنة (270)، تذكرة الحفاظ (2/575).
…قال الحافظ: ثقة حافظ.. من الحادية عشر/ س. تقريب (2/207).(166/154)
…وقال صالح بن محمد الأسدي(1): ما رأيت أحدًا أجرأ على الله منه وأحذق بالكذب منه(2).
…وقال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير(3).
…وقال النسائي: ليس بثقة(4).
…وقال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بالمقلوبات(5).
…وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبومصعب(6) وتوفي سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبوحذيفة أحمد ابن إسماعيل السهمي(7) توفي سنة تسع وخمسين ومائتين.
__________
(1) …الحافظ العلامة شيخ ما وراء النهر، أبو علي صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب الأسدي مولاهم البغدادي، نزيل بخارى، كان ثبتاً صدوقاً مشهوراً. قال أبوسعد الإدريسي: ما أعلم بعصر صالح بالعراق ولا بخراسان في الحفظ مثله..."، تذكرة الحفاظ (2/541 - 543).
(2) …انظر: تاريخ بغداد (2/262) وقال: محمد بن حميد أحاديثه تزيد وما رأيت أجرأ على الله منه. في الموضع السابق من التأريخ.
(3) …تاريخ بغداد (2/260) ص (16).
(4) …تاريخ بغداد (2/263).
(5) …كتاب المجروحين (2/203).
…وقال البخاري في التاريخ (ق1/ج1/69): فيه نظر. وقال إسحاق بن منصور: أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار أنهما كذابان. تاريخ بغداد (2/263).
…وجرت له قصتان مع أبي حاتم الرازي ومحمد بن عيسى الدامغاني اتضح منهما كذبه العريض. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/232 - 233). راجع هذه الأقوال في تهذيب الكمال (3/1190 - 1191)، وتهذيب التهذيب (9/127 - 131)، والميزان (3/530).
(6) …الإمام الفقيه أحمد بن أبي بكر الزهري المدني، قاضي المدينة وعالمها، سمع مالكاً وطائفة. وفاته كما ذكر شيخ الإسلام. راجع الكاشف (1/53)، والتقريب (1/12)، والتذكرة (ص 482).
(7) …الأمر كما ذكر المؤلف. انظر الكاشف (1/52)، والتقريب (1/11).(166/155)
…وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله(1).
…وهذه الحكاية لم يذكرها أحد من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل(2) حكاية لا تعرف إلا من جهته!(3).
…386 - هذا إن ثبتت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لايثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه، بل إذا روى عنه الشاميون كالوليد بن مسلم ومروان بن محمد الطاطري ضعفوا رواية هؤلاء، وإنما يعتمدون على رواية المدنيين والمصريين، فكيف بحكاية تناقض مذهبه المعروف عنه من وجوه رواها واحد من الخرسانيين لم يدركه وهو ضعيف عند أهل الحديث!.
__________
(1) …لعله يشير بهذا إلى معظم رجال الإسناد من ابن دلهات إلى يعقوب بن إسحاق، وقد أخبرت أني لم أقف لهم على خبر بعد بحث، فلعل واحداً من هؤلاء المجهولين اخترع هذه الحكاية إن سلم من اختراعها ابن حميد.
(2) …يريد بهذا شيخ الإسلام أن ابن حميد على مافيه من بلاء لم يصرح في رواية هذه الحكاية بصيغة من صيغ التحديث؛ كسمعت مالكاً، أو حدثني، أو أخبرني، أو عن مالك، أو قال مالك، وإنما قال: ناظر مالك فهي بهذا التعبير مرسلة، فإن سلم محمد بن حميد من تبعتها، فهناك احتمال آخر أن يكون رجل كذاب اخترع هذه الحكاية، ونسبها إلى مالك، أو يكون هناك عدد من الوسائط بين محمد بن حميد وبين مالك فيهم كذاب أو كذابون تداولوا هذه الحكاية حتى وصلت إلى محمد ابن حميد.
(3) …يقصد شيخ الإسلام أن محمد بن حميد مع عدم إدراكه لمالك، فقد انفرد من بين أصحاب مالك على كثرتهم، وكثرة الأئمة الحفاظ فيهم، وعلى كثرة من لازمه منهم، ومع معرفتهم وحفظهم وإتقانهم لحديثه.
…ومثل محمد بن حميد - وأصدق منه - إذا انفرد عن أصحاب مالك بحديث، أو مثل هذه الحكاية، لا تقبل منه، ولو أسندها فكيف إذا أرسلها.(166/156)
…387 - مع أن قوله: "وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله يوم القيامة". إنما يدل على توسل آدم وذريته به يوم القيامة، وذلك هو التوسل شفاعته يوم القيامة، وهذا حق.
…388 - كما جاءت به الأحاديث الصحيحة(1) حين يأتي الناس يوم القيامة آدم ليشفع لهم، فيردّهم آدم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وإبراهيم إلى موسى، وموسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كما قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر"(2)
__________
(1) …بل عدها بعضهم من الأحاديث المتواترة. انظر نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص 149). ومنها على سبيل المثال؛ حديث أنس في صحيح مسلم 1 - كتاب الإيمان حديث (322، 326). ومثله حديث جابر حديث (320).
…وحديث أبي هريرة في البخاري، 60 - كتاب الأنبياء، حديث (3340). وفي مسلم، 1 - كتاب الإيمان، حديث (327). وأحمد (2/435).
…وحديث حذيفة وأبي هريرة في مسلم، 1 - كتاب الإيمان، حديث (329).
(2) …ورد في بعض أحاديث الشفاعة التي ذكرناها سابقاً، "أنا سيد الناس يوم القيامة" أَمَّا بهذا اللفظ؛ فرواه الترمذي (5/308)، 48 - كتاب التفسير، حديث (3148). وفي (5/587) 50 - كتاب المناقب، 1 - باب فضل النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (3615). وابن ماجه (2/1440)، 37 - كتاب الزهد، 375 - باب ذكر الشفاعة، حديث (4308). وأحمد (3/2).
…كلهم من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعاً. وعلي ابن زيد ضعيف لكن له شواهد:
…أولاً: من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - رواه أحمد (1/4 - 5) بتحقيق أحمد شاكر (1/15)، رقم (15)، وصححه، وفي تصحيحه نظر؛ فإن في إسناده أبا هنيدة. قال الذهبي في الميزان (4/583): لا يعرف. ونقل أحمد شاكر عن ابن سعد أنه قال: كان معروفاً، قليل الحديث.
…ثانياً: من حديث أنس - رضي الله عنه - رواه أحمد (3/144). والدارمي (1/31). كلاهما من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس مرفوعاً بلفظ: "إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة ولا فخر..." الحديث. وهو إسناد صحيح، فالحديث صحيح من هذا الوجه، يؤيده الطريقان السابقان.
…ثالثاً: من حديث عبد الله بن سلام. رواه ابن حبان في صحيحه، كما في الموارد (ص 523)، حديث (2127)، من طريق عمرو بن عثمان الكلابي، حدثنا موسى بن أعين عن معمر بن راشد عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن بشر بن شفاف عن عبد الله بن سلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه".
…وفي إسناده عمرو بن عثمان الرقي ضعيف، قاله الحافظ في التقريب (2/74). وقال الذهبي في الكاشف (2/336): "لين تركه النسائي". وعلى كل فهو صالح في الشواهد.(166/157)
.
…389 - ولكنها مناقضة لمذهب مالك المعروف من وجوه:
…أحدها، قوله: "أستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله وأدعو!" فقال: "ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم"؛ فإن المعروف عن مالك وغيره من الأئمة وسائر السلف من الصحابة والتابعين أن الداعي إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر ويدعو لنفسه، بل إنما يستقبل القبر عند السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء له. هذا قول أكثر العلماء كمالك في إحدى الروايتين والشافعي وأحمد وغيرهم.
…وعند أصحاب أبي حنيفة، لا يستقبل القبر وقت السلام(1) عليه أيضاً.
…ثم منهم من قال: يجعل الحجرة عن(2) يساره - وقد رواه ابن وهب عن مالك - ويسلم عليه.
…ومنهم من قال: بل يستدبر الحجرة ويسلم عليه وهذا هو المشهور عندهم. ومع هذا فكره مالك أن يطيل القيام عند القبر.
…390 - لذلك قال القاضي عياض في المبسوط عن مالك: "لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، ولكن يسلم ويمضي".
__________
(1) …قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن سليمان الحنفي المعروف بداماد أفندي (المتوفى سنة 1078) في كتاب "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" (1/313). في أدب زيارة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذكر أن الزائر يصلي في الروضة: "... ثم ينهض فيتوجه إلى القبر الشريف، فيقف عند رأسه، مستقبل القبلة، ويدنو منه قدر ثلاثة أذرع أو أربعة، ولا يدنو منه أكثر من ذلك، ولا يضع يده على جدار التربة الشريفة".
…وهذه إحدى الحالتين المرويتين عن أصحاب أبي حنيفة، وهي أن يجعل القبر عن يساره، ويستقبل القبلة، ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) …في ز، ب: "على".(166/158)
…391 - قال: وقال نافع: كان ابن عمر يسلم على القبر/، رأيته مائة مرة أو أكثر يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف(1).
…392 - ورؤي واضعاً يده على مقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنبر ثم وضعها على وجهه(2).
…393 - قال: وعن ابن أبي قسيط والقعنبي، كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا المسجد جسَّوا برمانة المنبر التي تلي(3) القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعون(4).
…394 - قال: وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي أنه كان - يعني ابن عمر - يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر(5)
__________
(1) …ذكر القاضي عياض كل هذا في كتابه الشفاء (2/85، 86).
(2) …ذكر القاضي عياض كل هذا في كتابه الشفاء (2/85، 86).
(3) …في ز، ب: "تلقاء".
(4) …الشفاء للقاضي عياض (2/86).
…وهذه الحكايات تحتاج إلى أسانيد، ولولا الإسناد لقال مَنْ شاء ما شاء، ثم على تسليم أنهم فعلوا ذلك فذلك بالنسبة لأشياء عرفوا حق اليقين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باشرها بنفسه بجسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه. فأين عمل الناس الآن، وهم يتبركون بكل شيء من المسجد وغيره من الأشياء التي حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقرون؟!.
…وقد كره مالك وغيره طلب موضع شجرة بيعة الرضوان. شرح الزرقاني للموطأ (1/351). وقد نهى عمر - رضي الله عنه - عن تتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن في ذلك تشبهاً باليهود والنصارى.
(5) …الشفاء (2/86). وهو في الموطأ (1/166)، 9 - كتاب قصر الصلاة في السفر، برقم (68)، مالك عن عبد الله بن دينار، "رأيت ابن عمر يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -".
…وفي المصنف لعبد الرزاق (3/576)، باب السلام على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث (6724): "عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: السلام عليك يارسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا أبتاه!".
…وأخبرناه عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر، فقال: "لا نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك" إلا ابن عمر.
…أقول: يستفاد من قول عبيد الله بن عمر، الإمام المدني، الثقة الثبت، أن الصحابة الكرام - وفيهم الخلفاء الراشدون - ما كانوا يأتون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما كان من عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - إذا قدم من سفر، مع حبهم الشديد لرسول الله وإكرامهم إياه وطاعتهم وانقيادهم له. فهل آن للأمة الإسلامية أن تثوب إلى رشدها، فتتبع هؤلاء العظماء والفقهاء النبلاء. وإننا على ثقة أنهم ما وقفوا جميعاً هذا الموقف إلا على أساس متين، وصراط مستقيم من العلم النبوي الصحيح، وعلى إدراك واع لمقاصد الشريعة وأهدافها، إنه ماكان ذلك منهم - مع حبهم الشديد الصادق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تنفيذاً لتوجيهاته الكريمة؛ مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاتتخذوا قبري عيدًا". ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد". ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - - وبأبي وأمي هو -: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
…تنفيذاً لهذه التوجيهات العظيمة الهادفة إلى حماية التوحيد، وصيانة العقيدة الإسلامية من شوائب الغلو والضلال الذي وقع فيه أهل الكتاب، كان ذلك الموقف الواعي الرشيد من الصحابة الكرام، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون والفقهاء المبرزون مثل زيد بن ثابت وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وغيرهم من علماء الصحابة وعظمائها وساداتها، فما هم إلا جند الله ثم جند محمد - صلى الله عليه وسلم -، جند له في حياته يفدونه ورسالته بمهجهم وأموالهم وأرواحهم، وجند له أوفياء بعد وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، فلله درهم ما أفقههم وأنبلهم وأوفاهم!.
…فهل للأمة الإسلامية أن تتأسى بهؤلاء العظماء الأوفياء في تنفيذ هذه التوجيهات وغيرها مما جاء به خاتم الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟ ولله در إمام دار الهجرة - رحمه الله - إذ قال حين خالف بعض الناس بعض هذه التوجيهات وبدأوا يترددون على القبر: لا أعرف هذا عمن مضى، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وسيأتي كلامه فنشير إلى مصدره في موضعه.(166/159)
.
…وعند ابن القاسم والقعنبي: ويدعو لأبي بكر وعمر.
…قال مالك في رواية ابن وهب: يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
…395 - وقال في المبسوط: ويسلم على أبي بكر وعمر(1).
…قال أبوالوليد الباجي: وعندي أن(2) يدعو للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الصلاة، ولأبي بكر وعمر(3) [بلفظ السلام]؛ لما في حديث ابن عمر من الخلاف.
…وهذا الدعاء يفسر الدعاء المذكور في رواية ابن وهب، قال مالك في رواية ابن وهب: إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا، يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة، ويدنو ويسلم ولا يمس القبر.
…396 - فهذا هو السلام عليه والدعاء له بالصلاة عليه كما تقدم تفسيره، وكذلك كل دعاء ذكره أصحابه كما ذكر ابن حبيب في الواضحة وغيره.
…قال: وقال مالك في المبسوط: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء(4). وقال فيه أيضاً: ولا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر، أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي عليه، ويدعو له ولأبي بكر وعمر(5). قيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة والمرتين أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعة. فقال مالك: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده(6).
__________
(1) …الشفاء (2/86).
(2) …كذا في الأصل وفي المنتقى (1/296) والشفاء والرد على الأخنائي (ص 105) أنه.
(3) …الشفاء (2/86).
(4) …الشفاء (2/88).
(5) …الشفاء 2/88).
(6) …الشفاء 2/88).(166/160)
…قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتوا القبر فسلموا(1). قال: ولذلك(2) رأي.
…397 - قال أبوالوليد الباجي: ففرق بين أهل المدينة والغرباء؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم(3).
…398 - قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد"، "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(4).
…399 - قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوا قبري عيداً"(5).
…400 - قال: ومن كتاب أحمد بن شعبة(6) فيمن وقف بالقبر: لا يلتصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلاً.
…401 - وفي (العتبية) - يعني عن مالك -: يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد - صلى الله عليه وسلم -(7)، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث العمود المخلق، وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف. قال: والتنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت... .
__________
(1) …المصدر السابق (2/88).
(2) …في المنتقى (1/296). قال ابن القاسم: وهو رأيٌ وكذلك في الشفاء.
(3) …الشفاء (2/88 - 89) منقول كله بالحرف.
…ولله در الإمام مالك ما أفقهه! وما أشد تمسكه بالسنة! وما أحرصه على اقتفاء آثار الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان!.
(4) …تقدم تخريجه في ص (35) رقم (1).
(5) …أحمد في المسند (2/367). وأبوداود (3/534) حديث (2042).
…قال أحمد: ثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً.
…وقال أبوداود: ثنا أحمد بن صالح قرأت على عبد الله بن نافع به. وهو إسناد حسن.
(6) …أحمد بن سعيد الهندي في الشفا (2/88).
(7) …أي يقدم صلاة تحية المسجد على الزيارة.(166/161)
…402 - فهذا قول مالك وأصحابه، وما نقلوه عن الصحابة يبين أنهم لم [يكونوا] يقصدون القبر إلا للسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء له. وقد كره مالك إطالة القيام لذلك، وكره أن يفعله أهل المدينة كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، وإنما يفعل ذلك الغرباء ومن قدم من سفر أو خرج له، فإنه تحية للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فأما إذا قصد الرجل الدعاء لنفسه فإنما يدعو في مسجده مستقبل القبلة كما ذكروا ذلك عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فعل ذلك عند القبر، بل ولا أطال الوقوف عند القبر للدعاء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف بدعائه لنفسه؟(1).
…403 - وأما دعاء الرسول وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فهذا لم يفعله أحد من السلف، ومعلوم أنه لو كان قصدُ الدعاء عند القبر مشروعاً لفعله الصحابة والتابعون، وكذلك السؤال به، فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟.
__________
(1) …هذا تلخيص جيد لما نقله سابقاً من كلام مالك وأصحابه.(166/162)
…404 - فدل ذلك على أن ما في الحكاية المنقطعة من قوله: "استقبله واستشفع به" كذب علىمالك، مخالف لأقواله وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي نقلها(1) مالك وأصحابه ونقلها سائر العلماء، إذ كان أحد منهم لم يستقبل القبر للدعاء لنفسه فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به، يقول له: يارسول الله اشفع لي أو ادع/ لي، أو يشتكي إليه(2) المصائب [في](3) الدين والدنيا، أو يطلب منه أو من غيره من الموتى من الأنبياء والصالحين أو من الملائكة الذين لا يراهم أن يشفعوا له، أو يشتكي إليهم المصائب، فإن هذا كله من فعل النصارى وغيرهم من المشركين ومن ضاهاهم من مبتدعة هذه الأمة، ليس هذا من فعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولا مما أمر به أحد من أئمة المسلمين، وإن كانوا يسلمون عليه إذ كان يسمع السلام عليه من القريب ويبلّغ سلام البعيد(4).
…405 - وقد احتج أحمد وغيره بالحديث الذي رواه أحمد(5) وأبوداود(6) بإسناد جيد من حديث حيْوَة بن شريح المصري حدثنا أبوصخر عن يزيد [ابن عبد الله] بن قسيط عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام".
…وعلى هذا الحديث اعتمد الأئمة في السلام عليه عند قبره، صلوات الله وسلامه عليه.
__________
(1) …في ز، ب: "يفعلها" وهو خطأ.
(2) …في خ: "إليهم".
(3) …ليست في الأصل وزيدت لأن المقام يقتضيها.
(4) …يشير شيخ الإسلام إلى الحديث الذي رواه محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. وسيأتي الكلام عليه وعلى محمد بن مروان السدي في ص 157.
(5) …في المسند (2/527).
(6) …السنن (2/534)، 5 - كتاب المناسك، 100 - باب زيارة القبور، حديث (2041). وفي إسناده حميد بن زياد أبوصخر، ويزيد بن عبد الله بن قسيط فيهما كلام.(166/163)
…406 - فإن أحاديث زيارة قبره كلها ضعيفة، لايعتمد على شيء منها في الدين؛ لهذا لم يرو أهل الصحاح والسنن شيئاً منها، وإنما يرويها من يروي الضعاف كالدارقطني والبزار وغيرهما.
…وأجود حديث فيها ما رواه عبد الله بن عمر العمري(1)، وهو ضعيف، والكذب ظاهر عليه.
…مثل قوله: "من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي"(2)
__________
(1) …عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبوعبد الرحمن العمري المدني، ضعيف عابد من السابعة/ م4. تقريب (1/435). وضعف عبد الله عدد من أئمة الحديث مثل يحيى القطان، وعلي بن المديني، وابن حبان.
…لكن هذا الحديث الذي نسبه إليه شيخ الإسلام بهذا اللفظ ليس هو حديث عبد الله العمري، وإنما هو حديث حفص بن سليمان عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر. ولفظ حديث عبد الله بن عمر العمري الضعيف هكذا: "من زار قبري وجبت له شفاعتي".
…وقد أورد الشيخ نفسه الحديثين في الرد على الأخنائي (ص 42، 43) بحاشية الرد على البكري ناسباً كل حديث إلى راويه على الصواب. وكذلك ذكر ابن عبد الهادي الحديثين في كتابه الصارم المنكي، أورد حديث عبد الله العمري في ص 11 - وناقشه مناقشة علمية إلى (ص 27). وأورد حديث حفص بن سليمان في (ص 48) وناقشه إلى (ص 69).
(2) …أخرجه الدارقطني في سننه (2/278)، حديث (192). والبيهقي في الكبرى (5/246)، كتاب الحج، باب زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وابن عدي في الكامل (2/790). والطبراني في الكبير (12/406)، حديث (13497). كلهم من طريق أبي الربيع الزهراني عن حفص بن أبي داود عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعاً.
…قال البيهقي بعد إخراجه: تفرد به حفص وهو ضعيف.
…وأورده الهيثمي في المجمع (4/2)، وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه حفص ابن أبي داود القاري، وثقه أحمد وضعفه جماعة من الأئمة.
…ونقل هذا النص العقيلي في الضعفاء (1/270)، وابن عدي في الكامل (2/380). وفي تاريخ بغداد (8/186 - 187) عن حنبل - ما كان بحفص بأس.
…وفي رواية أخرى: "صالح"، وفي تاريخ بغداد أيضاً عن عبد الله أنه سأل أباه عنه فقال "صالح". وفي العلل ص 390 رقم (3606) سمعت أبي يقول حفص بن سليمان يعني أبا عمرو القاري متروك الحديث. وقال النسائي: متروك. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة. وقال ابن حبان: كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل. راجع هذه الأقوال: الضعفاء للعقيلي (1/270)، والكامل لابن عدي (2/380)، والضعفاء للنسائي (ص 82) رقم (136)، والميزان (1/558)، وكتاب المجروحين (1/255). والضعفاء للبخاري (ص 66) رقم (73).
…وفي الإسناد ليث بن أبي سليم شيخ حفص، ضعيف. قال الحافظ في التقريب (2/138): صدوق اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه فترك. وقال أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به، فكان يقلب الأسانيد، ويرفع المراسيل، ويأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، كل ذلك كان منه في اختلاطه، تركه يحيى القطان، وابن مهدي وأحمد بن حنبل، وابن معين. كتاب المجروحين (2/231). انظر الجرح والتعديل (7/177)، والمغني (2/536)، والميزان (3/420).(166/164)
، فإن هذا كذبه ظاهر مخالف لدين المسلمين، فإن من زاره في حياته، وكان مؤمناً به، كان من أصحابه، لاسيما إن كان من المهاجرين إليه، المجاهدين معه.
…407 - وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"(1). أخرجاه في الصحيحين(2).
…408 - والواحد من بعد الصحابة لا يكون مثل الصحابة بأعمال مأمور بها واجبة؛ كالحج والجهاد والصلوات الخمس والصلاة عليه، فكيف بعمل ليس بواجب باتفاق المسلمين، بل ولا شرع السفر إليه، بل هو منهي عنه.
…409 - وأما السفر إلى مسجده للصلاة فيه، والسفر إلى المسجد الأقصى للصلاة فيه فهو مستحب، والسفر إلى الكعبة للحج فواجب. فلو سافر أحد السفر الواجب والمستحب لم يكن مثل واحد من الصحابة الذين سافروا إليه في حياته، فكيف بالسفر المنهي عنه؟.
__________
(1) …المد: ما يملأ راحة الكفين من الرجل المعتدل ويستعمل للحبوب وأمثالها. ونصيفه: نصفه.
(2) …البخاري، 62 - كتاب فضائل الصحابة، 5 - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذاً خليلا، حديث (3673). ومسلم (4/1967)، 44 - كتاب فضائل الصحابة، 54
…- باب تحريم سب الصحابة، حديث (222). وأبوداود (5/45)، 34 - كتاب السنة، 11 - باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4658). والترمذي (5/693 - 694)، 50 - كتاب المناقب (3861). وأحمد (3/11، 54) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
…ومسلم (4/1967)، 44 - كتاب فضائل الصحابة، 54 - باب تحريم سب الصحابة، حديث (221) وابن ماجه (1/57)، مقدمة، باب 11، حديث (161). من حديث أبي هريرة.(166/165)
…410 - وقد اتفق الأئمة(1) على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره بل ينهى عن ذلك.
…411 - ولو نذر السفر إلى مسجده والمسجد الأقصى للصلاة ففيه قولان للشافعي(2)
__________
(1) …في مجمع الأنهر للشيخ عبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداماد آفندي الحنفي (1/547): "ومن نذر بما هو واجب قصداً من جنسه، وهو عبادة مقصودة (نذراً مطلقاً) غير معلق بشرط بقرينة التقابل، مثل أن يقول: لله عليّ حج أو عمرة، أو اعتكاف، أو لله علي نذر، وأراد شيئاً بعينه كالصدقة؛ فإن هذه عبادات مقصودة، ومن جنسها واجب، وإنما قيد النذر به؛ لأنه لم يلزم الناذر ماليس من جنسه فرض؛ كقراءة القرآن، وصلاة الجنازة، ودخول المسجد، وبناء المساجد والسقاية وعمارتها. وإكرام الأيتام، وعيادة المريض، وزيارة القبور، وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإكفان الموتى، وتطليق امرأته، وتزويج فلانة. لم يلزمه شيء من هذه الوجوه؛ لأنها ليس لها أصل في الفروض المقصودة، كما في كثير من الكتب".
(2) …قال الشافعي - رحمه الله - في الأم (2/256): "ولو نذر، فقال عليّ المشي إلى إفريقية أو العراق أو غيرهما من البلدان لم يكن عليه شيء، لأنه ليس لله طاعة في المشي إلى شيء من البلدان، وإنما يكون المشي إلى المواضع التي يرتجى فيها البر، وذلك المسجد الحرام، وأحبّ إليَّ لو نذر أن يمشي إلى مسجد المدينة أن يمشي، وإلى مسجد بيت المقدس أن يمشي؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، ومسجد بيت المقدس"، ولا يبين لي أن أوجب المشي إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومسجد بيت المقدس، كما يبين لي أن أوجب المشي إلى بيت الله الحرام؛ وذلك أن البر بإتيان بيت الله فرض، والبر بإتيان هذين نافلة". وانظر حلية العلماء للقفال الشاشي (3/342).
…وقال أبوإسحاق الشيرازي في المهذب: "وإن نذر المشي إلى المسجد الأقصى ومسجد المدينة ففيه قولان؛ قال في البويطي يلزمه، لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه، فلزمه المشي إليه بالنذر، كالمسجد الحرام. وقال في الأم: لا يلزمه، لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك، فلم يجب المشي إليه بالنذر كسائر المساجد". وانظر حلية العلماء (3/342). وذكر النووي هذين القولين في الإيضاح (ص 518 - 519) مع شرح ابن حجر الهيتمي. وقال ابن حجر الهيتمي هنا (ص 519): "ولو نذر زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - لزم الوفاء به؛ لما علمت أنها في القرب المؤكدة، وكذا زيارة قبر غيره - صلى الله عليه وسلم - مما تسن زيارته؛ لأنها قربة مقصودة".
…وهذا من العجائب والغرائب، لقد علم ابن حجر أن مذهب الشافعي استحباب الوفاء بالنذر بالذهاب إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيت المقدس وتهيبه من القول بالوجوب خوفاً من الله وورعاً، وأكد ذلك النووي في الإيضاح بأن أصح القولين الاستحباب، وأقرهما ابن حجر على ذلك، ثم بعد كل هذا يرى وجوب وفاء النذر بزيارة القبور؛ لأنها في نظره من القرب المؤكدة، فهل شد الرحال إلى مسجد رسول الله وإلى بيت المقدس لا يرقى إلى درجة القرب المؤكدة، وقد حضنا رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - إلى شد الرحال إليهما مع أعظم بيوت الله المسجد الحرام. أهكذا نعامل توجيهات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
…إن كان ابن حجر الهيتمي مقلداً للشافعي فأين تقليده لإمامه هنا؟ ولماذا لايلزم غرره هنا ويقف حيث وقف إمامه ورعاً وتقوى، وإن كان مجتهداً فنعوذ بالله من اجتهاد يقوم على مخالفة النصوص الصحيحة الواضحة وعلى مخالفة أئمة الهدى، ويقوم على الهوى وعلى الأحاديث المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نقول أين فتاوى السلف الصالح في هذه القضية؟ وهل هي نازلة من النوازل التي ألمت بالأمة لم تكن في عهد السلف الصالح حتى يجتهد فيها المتأخرون؟!.(166/166)
.
…أظهرهما عنه: يجب ذلك، وهو مذهب مالك(1) وأحمد(2).
__________
(1) …في المدونة (2/87): "وقال مالك: ومن قال: لله عليَّ أن آتي المدينة أو بيت المقدس أو المشي إلى المدينة أو المشي إلى بيت المقدس، فلا شيء عليه، إلا أن يكون نوى بقوله ذلك أن يصلي في مسجد المدينة أو في مسجد بيت المقدس. فإن كان تلك نيته وجب عليه الذهاب إلى المدينة أو إلى بيت المقدس راكباً". وانظر الكافي لابن عبد البر (1/458).
…ويفهم من استثناء مالك الصلاة فقط من صور الأعمال التي يشملها نذر المشي إلى المدينة وإلى بيت المقدس، ومنها مثلاً زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبور الشهداء في المدينة وقبر الخليل وسائر قبور الأنبياء في بيت المقدس، أنه لايجب ولا يشرع شد الرحال إلى قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا إلى قبر غيره من الأنبياء والصالحين ولا يجب ولا يستحب الوفاء بالنذر بالمشي إليها ولو كان يرى شيئاً من هذا لاستثناه كما استثنى الصلاة، وهذا يدل على قوة اتباعه للكتاب والسنة وتمسكه بهما وبعده عن الغلو والبدع التي قال الله في شأنها: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". وقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد". فليت أتباعه يقفون حيث وقف لأن الدين توقيفي.
(2) …قال ابن قدامة في المغني (10/16): "وإن نذر المشي إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو المسجد الأقصى لزمه ذلك. وبهذا قال مالك والأوزاعي، وأبوعبيد، وابن المنذر، وهو أحد قولي الشافعي، وقال في الآخر: "ولا يبين لي وجوب المشي إليهما؛ لأن البر بإتيان بيت الله فرض والبر بإتيان هذين نفل".(166/167)
…والثاني: لا يجب، وهو مذهب أبي حنيفة(1)؛ لأن من أصله أنه لا يجب النذر إلا ما كان واجباً بالشرع، وإتيان هذين المسجدين ليس واجباً بالشرع فلا يجب بالنذر عنده(2).
…وأما الأكثرون فيقولون: هو طاعة لله.
…412 - وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه"(3).
__________
(1) …في البحر الرائق (3/81): "ولو قال عليَّ المشي إلى بيت الله الحرام، ولم يذكر حجاً ولا عمرة لزم أحد النسكين استحساناً، فإن جعله عمرة مشي حتى يحلق، إلا إذا نوى به المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجد من المساجد، فإنه لا يلزمه شيء". ويفهم من موقفهم هذا ما يفهم من موقف مالك رحم الله الجميع ووفق الأمة لسلوك منهجهم.
(2) …انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي (3/132). مجمع الأنهر (1/547).
(3) …أخرجه البخاري، 83 - كتاب الأيمان والنذور، 28 - باب النذر في الطاعة، حديث (6696)، و 31 - باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، حديث (6700). وأبوداود (3/593)، 16 - كتاب الأيمان والنذور، 22 - باب ماجاء في النذر في المعصية، حديث (3289) من حديث القاسم. والترمذي (4/104)، 21 - كتاب النذور والأيمان 2 - باب من نذر أن يطيع الله فليطعه، حديث (1526). وابن ماجه (1/687)، 11 - كتاب الكفارات، 16 - باب النذر في المعصية، حديث (2126). والنسائي (2/136)، (3838) الطبعة الهندية. والدارمي (2/105)، 14 كتاب النذور 3 - باب لانذر في معصية الله، حديث (2343). ومالك في الموطأ (2/476)، 22 - كتاب النذور والأيمان، حديث (8). وأحمد (6/36، 41). وابن الجارود في المنتقى (ص 312 - 313)، باب ماجاء في النذور، حديث (934). كلهم من طريق مالك وعبيد الله بن عمر، عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم بن محمد عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً.(166/168)
…413 - وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء الصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة(1)
__________
(1) …زيارة القبور مشروعة وكان رسول الله قد نهى عنها من باب سد الذرائع؛ لأن الأمم السابقة فتنت بقبور أنبيائها وصالحيها حتى أوقعهم الشيطان كرات ومرات في هوة الشرك بهم واتخاذهم أنداداً مع الله، وأول فتنة من فتن الشرك وقعت لقوم نوح إذ تعلقت قلوبهم بود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهم رجال صالحون فجعلوهم أنداداً مع الله.
…من أجل ذلك وأمثاله نهى رسول الله أولاً عن زيارة القبور، ولما رسخت عقيدة التوحيد في قلوب أصحابه الكرام وأمن عليهم الفتنة رخص لهم في زيارتها، وبين لهم الغاية من زيارتها وهي أنها تذكرهم الآخرة، هذه واحدة، والأخرى ليستفيد الأموات من دعاء إخوتهم الأحياء.
…وإذا كان الأمر كذلك، والهدف الأول وهو تذكرة الآخرة، أمر يتحقق بزيارة القبور القريبة والمجاورة، حتى ولو كانت قبور قوم مشركين اكتفى الشارع الحكيم بالحد الأدني الذي يحقق الغرض الشرعي مع تحفظات كثيرة تسد ذرائع الفتنة والشرك: منها أن لا يقولوا هجراً، ومنها أن لا تتخذ مساجد، ومنها أن لا يبنى عليها، ولا تجصص، ولا يصلى عليها ولا إليها، اكتفى بالحد الأدنى مع هذه الاحتياطات والتحفظات. ولم يشرع أبداً السفر إليها وشد الرحال إليها، لا بقوله ولا بفعله.
…وآية ذلك: أن هذا الأمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يثبت فيه حديث من قول رسول الله أو فعله، فلو كان مشروعاً لتحقق فيه كل ذلك ولسن لنا رسول الله ذلك برحلات ورحلات إلى قبور الأنبياء والصالحين. ولملئت الدواوين برحلات الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، ونحن نجد دواوين الإسلام من صحاح وسنن ومسانيد وكتب فقه السلف الصالح قد سجلت كل حقوق الأموات من عيادتهم وهم مرضى إلى غسلهم وتحنيطهم وتشييعهم ودفنهم وزيارتهم والاستغفار لهم والدعاء لهم والنهي عن الجلوس على قبورهم، ومن جهة أخرى لحماية عقيدة الأحياء من المسلمين نهي عن البناء على قبور الأموات بأي شكل وبأي صورة لا مساجد ولا مطلق بناء ولا بتجصيص.
…كل هذا قد طفحت به دواوين الإسلام التي نوهنا عنها، خالية خلواً كاملاً من حديث نبوي صحيح أو حسن، ومن أقوال الصحابة والقرون المفضلة، ومن أقوال أئمة الهدى من شيء له تعلق بقضية السفر إلى القبور، فهذا الإمام مالك لا تجد له كلمة في موطأه تشير إلى السفر وشد الرحال إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا إلى قبر غيره، وهذه كتب تلاميذه التي دونوا فيها فقه هذا الإمام لا نجد فيها باباً ولا فصلاً ولا حديثاً يحث المسلمين على شد الرحال والسفر إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأنبياء والصالحين.
…وهذا الإمام الشافعي يدون فقهه العظيم في الأم وغيرها، فلم يعقد باباً ولا فصلاً، ولم يذكر حديثاً واحداً بشأن السفر إلى قبور الأنبياء. وهذا الإمام أحمد بن حنبل وهذا مسنده العظيم ومسائله التي دونت في كتب لا تجد لهذه المسألة فيها أثراً ولا خبراً.
…وهذان الصحيحان، وبقية الأمهات الست وأخواتها من دواوين الإسلام المعتبرة، خلت خلواً كاملاً عن قضية شد الرحال والسفر إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى قبور غيره من الأنبياء.
…وهذه كتب أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد نبحث فيها، فلا نجد فيها ذكراً لهذه المسألة.
…فما هو السر إذن في عمل هؤلاء الصحابة والتابعين والأئمة من الفقهاء والمحدثين؟ ويجب أن يقف جميع العقلاء متسائلين: هل ينقصهم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ هل كان هناك مادة خصبة وأحاديث وآثار ثرة أهملوها بل كتموها ودفنوها كما فعلوا بوصية علي في نظر الباطنية وغلاة الرفض؟ إن المنتسبين إلى السنة على اختلاف اتجاهاتهم بحمد الله لا يظنون بسفلهم هذا الظن السيء، ولكنها الغفلة ودغدغة شياطين الإنس والجن لعواطف الحب العمياء التي لا تميز بين حق وباطل، وبين جفاء وإفراط وإطراء، إنه ليس بأيدي المتحمسين لهذه المسألة مسألة شد الرحال إلى القبور التي يبالغون فيها وقد يكفرون من يخالفهم إلا غثاء وسرابٌ من الأحاديث الباطلة لا يدعمها كتاب ولا سنة، ولا قول صحابي ولا إمام من أئمة الإسلام.
…إنا نقول لهؤلاء ما نقتبسه من قول الله: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة}. نقول لكم: قوموا مثنى وفرادى وجماعات، وشكلوا لجانا واعقدوا مؤتمرات وفكروا في كل ذلك وقلبوه بطنا لظهر، لماذا أهمل سلفكم الصالح وأقصد بهم القرون المفضلة هذه القضية المهمة؟ ولماذا لم يحتفوا بها ويسجلوها في دواوينهم الفقهية والحديثية والعقائدية؟ هل أصابتهم جنة أو جفاء أو أن القضية لا أساس لها؟ لعل احترامكم لسادة هذه الأمة وسلفها الصالح وحسن ظنكم بهم يدفعانكم إلى الاعتراف بالحقيقة.
…والواقع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ولم يأمر بشيء من هذا، بل عمل عكس هذا تماماً من الاحتياطات والتحفظات التي ذكرناها، وما أروعها وأنصفها وأوضحها وأكثرها وأبركها على الأمة! ونختم هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوا قبري عيداً". وفعل أصحابه تنفيذاً لهذا التوجيه السديد وأمثاله؛ حيث دفنوه في حجرته خشية أن يتخذ قبره مسجداً، كما قالته عائشة ورواه الشيخان وغيرهما. وما كانوا يأتون قبره، كما روى ذلك عبد الرزاق عن معمر عن عبيد الله بن عمر العمري الإمام.
…وفق الله الأمة للعودة إلى الإسلام الحق وإلى اتباع نبيها وسلفها الصالح.(166/169)
.
…فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه؟ وهذا مالك كره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعظمه(1).
…وقد قيل: إن ذلك لكراهية زيارة القبور.
…وقيل: لأن الزائر أفضل من المزور.
…وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك.
…414 - والصحيح أن ذلك لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التي هي من جنس الشرك، فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
…415 - فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلي عليه صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية.
…416 - والثاني: أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات(2) منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهيّ عنها.
…417 - فإذا كان لفظ "الزيارة" مجملاً يحتمل حقاً وباطلاً عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه كلفظ "السلام" عليه، ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روي في زيارة قبره أو زيارته بعد موته، فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، لا يحتج بشيء منها في أحكام الشريعة/.
__________
(1) …الشفاء (2/84).
(2) …في ز: "الحاجة".(166/170)
…418 - والثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"(1)، هذا هو الثابت في الصحيح.
…ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال: (قبري)(2). وهو - صلى الله عليه وسلم - حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعدُ صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة، لما(3) تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصاً في محل النزاع، ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه، بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه.
__________
(1) …البخاري، 96 - كتاب الاعتصام، 16 - باب ماذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحض على اتفاق أهل العلم ... إلخ، حديث (7335)، و 86 - كتاب الرقاق، 53 - باب في الحوض، حديث (6588). ومسلم، 15 - كتاب الحج، 92 - باب مابين القبر والمنبر، حديث (502). والموطأ (1/197)، 14 - 5 - باب ماجاء في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (10). وأحمد (2/236، 376) و (3/4). والترمذي (5/6/718)، 68 - باب ماجاء في فضل المدينة، حديث (3915).
…كلهم من حديث أبي هريرة إلا مالك وأحمد في (3/4) فعن أبي هريرة أو أبي سعيد كما عند مالك وأبي هريرة وأبي سعيد كما عند أحمد. وإلا عند الترمذي عن علي وأبي هريرة - رضي الله عنهما -.
…وأخرجه مسلم (2/1010)، 15 - كتاب الحج، حديث (500، 501). والبخاري، 20 - كتاب فضل مابين القبر والمنبر، حديث (1195). ومالك في الموطأ (2/197)، 5 - باب ماجاء في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (11).
(2) …رواه أحمد في مسنده (3/64) وهو ضعيف مخالف للروايات الثابتة في الصحيحين وغيرهما بلفظ مابين بيتي ومنبري إلخ.
…وقد أشار شيخ الإسلام هنا إلى ضعفه وضعفه أيضاً القرطبي وابن حجر والألباني انظر تحذير الساجد ص 199.
(3) …في ز، ب: "إنما".(166/171)
…419 - ثم لما وسع المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز أمره أن يشتري الحُجَر(1) ويزيدها في المسجد، وكانت الحجر من جهة المشرق والقبلة فزيدت في المسجد ودخلت حجرة عائشة في المسجد من حينئذ، وبنوا الحائط البراني مسنماً محرفاً.
…420 - فإنه ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها"(2).
…421 - لأن ذلك يشبه السجود لها، وإن كان المصلي إنما يقصد الصلاة لله تعالى. و(3)كما نهى عن اتخاذها مساجد نهى عن قصد الصلاة عندها، وإن كان المصلي إنما يقصد الصلاة لله سبحانه والدعاء له. فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها فقد قصد نفس المحرم(4) الذي سدَّ الله ورسوله ذريعته، وهذا بخلاف السلام المشروع حسبما تقدم.
__________
(1) …أي حجر أمهات المؤمنين المجاورة يومئذ للمسجد النبوي ثم دخلت فيه عند توسيعه.
(2) …مسلم (2/668)، 11 - كتاب الجنائز، 23 - باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، حديث (97، 98). وأبوداود (3/554) 15 - كتاب الجنائز، 77 - باب كراهية القعود على القبر، حديث (3229). والنسائي (2/53)، النهي عن الصلاة إلى القبر. والترمذي (3/358)، 8 - كتاب الجنائز، 56 - باب ماجاء في تسوية القبور، حديث 1050. وأحمد (4/135). والبيهقي (4/79). والطحاوي في "شرح المعاني" (1/515).
…وقال أحمد: إسناده جيد. وانظر تحذير الساجد (ص 33).
(3) …هذه الواو غير موجودة في الأصل.
(4) …في ز، ب: "الحرام".(166/172)
…422 - وقد روى سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام". رواه النسائي(1) وأبوحاتم في صحيحه(2).
…وروى نحوه عن أبي هريرة.
…فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة.
…423 - وفي الحديث المشهور الذي رواه أبوالأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثروا عليَّ من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض عليَّ يومئذ، فمن كان أكثرهم عليَّ صلاة كان أقربهم مني منزلة"(3)
__________
(1) …(3/37)، باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأحمد (1/387، 441، 452)، وفضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص 34).
(2) …صحيح ابن حبان (2/193)، والموارد حديث (2393). وزاذان: صدوق يرسل.
(3) …لفظ حديث أوس بن أوس: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ"، قالوا: يارسول الله، كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". أخرجه أبوداود، 2 - كتاب الصلاة، 207 - فضل يوم الجمعة، حديث (1047). والنسائي (3/75)، باب إكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة. وابن ماجه، 5 - كتاب إقامة الصلاة، 79 - باب فضل الجمعة، حديث (1085). وأحمد في المسند (4/8). والدارمي، كتاب الصلاة 206 - باب فضل الجمعة، حديث (1580). وابن حبان (2/189)، حديث (898). والموارد (1/146). والحاكم في المستدرك، (1/278). وابن خزيمة (3/118)، حديث (1733). والطبراني في الكبير (1/186). وإسماعيل القاضي في "فضل الصلاة علىالنبي - صلى الله عليه وسلم -".
…كلهم من طريق حسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس - رضي الله عنه - مرفوعاً. وفيه انقطاع؛ لأن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لم يدرك أبا الأشعث الصنعاني ذلك أنه لم يولد إلا بعد وفاة أبي الأشعث بمدة طويلة.
…ويرى البخاري، وأبوحاتم الرازي، أن عبد الرحمن الراوي عن أبي الأشعث إنما هو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وهو ضعيف. انظر العلل لابن أبي حاتم (1/197)، والتاريخ الكبير للبخاري (ق1/ ج3/365)، وتاريخ دمشق (10/122)، وشرح العلل لابن رجب الموضع السابق.
…ثم إن هذا اللفظ الذي عزاه شيخ الإسلام لأوس بن أوس قطعة منه من حديث أوس بن أوس - كما هو واضح - والجزء الآخر لم أجده. في مصادر السنة بعد بحث، ولعله معنى حديث لابن مسعود - رضي الله عنه - بلفظ: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة". أخرجه ابن حبان (2/190) تحت عنوان: "ذكر البيان بأن أقرب الناس في القيامة يكون من النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان أكثر صلاة عليه في الدنيا". ثم قال عقب الحديث المذكور: "في هذا الخبر دليل على أن أولى الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القيامة يكون أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم". وابن أبي شيبة (11/505) حديث (11836).(166/173)
.
…424 - وفي مسند الإمام أحمد: حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاتتخذوا قبري عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"(1). ورواه أبوداود.
…425 - قال القاضي عياض(2): وروى أبوبكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى عليَّ عند قبري سمعته. ومن صلى نائياً أبلغته"(3).
__________
(1) …مسند أحمد (2/367). وأبوداود (2/534) 100 - باب زيارة القبور، حديث (2042). والبيهقي، في حياة الأنبياء (ص 12).
…كلهم من طريق عبد الله بن نافع الصائغ عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً.
…وعبد الله بن نافع، ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، فالحديث حسن على أقل الأحوال، وصححه النووي في الأذكار (ص 93). وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء: "إسناده حسن". وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار - كما في الفتوحات الربانية - وله شواهد تقويه ستأتي - إن شاء الله -.
(2) …في الشفاء (2/77).
(3) …أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/137) في ترجمة محمد بن مروان السدي، وقال: "لا أصل له من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ، ولا يتابعه إلا من هو دونه". والبيهقي في "حياة الأنبياء" (ص 12). والخطيب في التاريخ (3/291 - 292). وابن الجوزي في الموضوعات (1/302)، 303).
…وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح، ومحمد بن مروان السدي قال يحيى: ليس بثقة. وقال ابن نمير: كذاب - وقال السعدي: ذاهب. وقال النسائي: متروك. وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً". ونقل كلام العقيلي، ونقل الخطيب بعض هذه الأقوال، ونقل عن البخاري أنه قال: محمد بن مروان الكوفي صاحب الكلبي، لا يكتب حديثه ألبته. ونقل عن صالح ابن محمد أنه قال: كان ضعيفاً وكان يضع الحديث.(166/174)
…426 - وهذا قد رواه محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وهذا هو السدي الصغير وليس بثقة، وليس هذا من حديث الأعمش.
…427 - وروى أبويعلى الموصلي في مسنده عن موسى بن محمد ابن حيَّان عن أبي بكر الحنفي: حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن، سمعت الحسن بن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً، ولا تتخذوا بيتي عيداً. صلوا عليَّ وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني"(1).
…428 - وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله(2) بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يكثر الاختلاف إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ياهذا! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء(3)
__________
(1) …12/131) حديث (6761).
…ووجدت في التاريخ لابن عساكر (4/217/1) من طريق حميد بن أبي زينب عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حيثما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني".
(2) …هكذا في الأصل وغيره لكنه في سائر مصادر الحديث لا ذكر لعبد الله بل هو عن الحسن بن الحسن.
(3) …لم أجد في المطبوع من سنن سعيد بن منصور.
…وفي التاريخ لابن عساكر (4/217/1) من طريق عبد الملك بن شعيب بن الليث، حدثني أبي عن جدي حدثني ابن عجلان عن سهيل وسهيل [كذا في التاريخ ولعل الناسخ كرره سهواً والرجل لم ينسب في المصادر كلها] عن أبي سعيد مولى المهري عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، أنه قال - ورأى رجلاً وقف على البيت الذي فيه قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو له ويصلي عليه - فقال حسن للرجل: لا تفعل، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". وأخرجه عبد الرزاق (3/577) عن الثوري عن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي قال: رأى قوماً عند القبر فنهاهم، وقال: "إن النبي" - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيداً..." الحديث بنحوه.
…وسهيل هذا ذكره البخاري في تاريخه (ق2/ج1/105)، فقال: سهيل عن حسن بن حسن، روى عنه محمد بن عجلان، منقطع. وقال ابن أبي حاتم: سهيل روى عن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وروى عن ابن عجلان، سمعت أبي يقول. قال أبومحمد: روى عنه سفيان الثوري "الجرح والتعديل" (4/249). وقال ابن حبان في الثقات (6/418): سهيل، شيخ يروي عن الحسن، روى عنه ابن عجلان. قال الألباني: وله راوٍ ثالث وهو إسماعيل الراوي لهذا الحديث عند ابن خزيمة، وهو إسماعيل ابن علية... فقد روى عنه ثلاثة من الثقات، فهو معروف غير مجهول. تحذير الساجد (ص 141). والأولى أن يقال: مستور أو مجهول الحال، كما ذهب إليه الحافظ ابن حجر في تعريف المستور، وهو: من روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق.(166/175)
.
…429 - وروي هذا المعنى عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب، ذكره أبوعبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في مختاره(1) الذي هو أصح من صحيح الحاكم.
…430 - وذكر القاضي عياض عن الحسن بن علي قال: إذا دخلت فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليَّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"(2).
…431 - ومما يوهن هذه الحكاية(3) أنه قال فيها: "ولم تصرفُ وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله(4) يوم القيامة". إنما يدل على أنه يوم القيامة يتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة، كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا - لو كانت الحكاية صحيحة - أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره.
__________
(1) …(1/154). والمصنف لابن أبي شيبة (2/83/2) كما في تحذير الساجد (ص 140). ومسند أبي يعلى (1/361 - 362) من طريق جعفر بن إبراهيم - من ولد ذي الجناحين - قال: حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين عن أبيه عن جده، بنحوه. والقاضي إسماعيل بن إسحاق في "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -" بهذا الإسناد (ص 33 - 34). إلا أنه قال: حدثنا جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب عمن أخبره من أهل بلده عن علي بن حسين.
…قال الألباني: والحديث صحيح بطرقه وشواهده "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -" (ص 34).
(2) …الشفاء (2/78).
(3) …أي الحكاية المنقطعة المنقولة عن محمد بن حميد الرازي عن مالك، ومحمد بن حميد لم يلق مالكاً. وقد تقدمت الحكاية ونقدها من ص (131 - 134).
(4) …سقط لفظ الجلالة من: ز.(166/176)
…432 - ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - / ولا سَنَّهُ لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه(1) أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة بأدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا لعلم أنه لا يقول مثل هذا.
…433 - ثم قال في الحكاية: "استقبله واستشفع به فيشفعك الله". والاستشفاع به معناه في اللغة؛ أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به.
434 – ومنه الحديث الذي في السنن(2) أن أعرابياً قال: يارسول الله! جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادْعُ الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، وقال: "ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه".
__________
(1) …في ز، ب: "استحسنه" ورد هكذا استحبه في الفتاوى 1/239.
(2) …أبوداود (5/94 – 95)، 34 – كتاب السنة، 19 – باب في الجهمية، حديث (4726). من طريق محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده مرفوعاًً.
…وهو ضعيف لأن في إسناده محمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن في هذا الإسناد وفيه جبير بن محمد بن جبير، قال الحافظ فيه: مقبول من السادسة تقريب (1/126).(166/177)
435 – وذكر تمام الحديث فأنكر قوله: "نستشفع بالله عليك". ومعلوم أنه لا ينكر أن يُسأل المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما(1) أن يكون الله شافعاً إلى المخلوق، ولهذا لم ينكر قوله: "نستشفع بك على الله"؛ فإنه هو الشافع المشفع.
436 – وهم – لو كانت الحكاية صحيحة – إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته - صلى الله عليه وسلم - ولهذا قال في تمام الحكاية: (4: 64) {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشافعة والاستغفار بعد موته فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم.
437 – وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته، فإنما يقال في ذلك: "استشفعْ به فيشفعه الله فيك" لا يقال: فيشفعك الله فيه وهذا معروف الكلام، ولغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائر العلماء، يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه. فالمشفع الذي يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي يشفع، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذي يستشفع به. ولهذا يقول في دعائه: يارب شفعني، فيشفعه الله فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبي شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟.
438 – وأيضاً فإن طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره ليس مشروعاً عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين:
__________
(1) …في ز، ب: زيادة كلمة "أنكر"، ولعلها لإيضاح المعنى.(166/178)
439 – ذكروا حكاية عن العتبي أنه رأى أعرابيا أتى قبره وقرأ هذه الآية، وأنه رأى في المنام أن الله غفر له(1)
__________
(1) …هذه الحكاية ذكرها ابن عساكر في تأريخه. وابن الجوزي في "مثير الغرام" وغيرهما، بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي، قال: "دخلت المدينة، فأتيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: ياخير الرسل إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً، قال فيه: {ولن أنهم إذْ ظلموا أنفسهم} إلى قوله: {رحيماً}. وإني جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي مستشفعاً بك.
…وفي رواية؛ وقد جئتك مستغفراً من ذنبي، مستشفعاً بك إلى ربي، ثم بكى، وأنشأ يقول:
……ياخير من دفنت بالقاع أعظمه…فطاب من طيبهن القاع والأكم
……نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه…فيه العفاف وفيه الجود والكرم
…ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومي وهو يقول: الحق بالرجل، وبشره بأن الله غفر له بشفاعتي. فاستيقظت، فخرجت أطلبه، فلم أجده". وفاء الوفاء للسمهودي (4/1361).
…وقد بحثت كثيراً في مظان كثيرة من تأريخ ابن عساكر عن القصة فلم أجدها. وبحثت عن ترجمة محمد بن حرب الهلالي، فلم أقف له على ترجمة.
…قال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" (ص 212): "وهذه الحكاية التي ذكرها – يعني السبكي – بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب بلا إسناد، عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي.
…وقد ذكرها البيهقي في كتاب "شعب الإيمان" بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبوحرب الهلالي، قال: حج أعرابي، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتى أتى القبر، ثم ذكر نحو ما تقدم. وقد وضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -.
…وفي الجملة؛ ليست الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما تقوم به الحجة، وإسنادها مظلم، ولفظها مختلف "أيضاً"، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية، ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم، وبالله التوفيق.
…أقول: ومحمد بن روح بن يزيد البصري، لم أقف له على ترجمته.
…والعجب من قوم لا يحتجون بالأحاديث الصحيحة في باب الاعتقاد، كيف يتعلقون فيما يوافق أهواءهم بروايات المجهولين، الذين لا يعرفهم علماء الجرح والتعديل، الذين دونوا أسماء الثقات والضعفاء والمجهولين، وفاتهم هؤلاء المجهولون الذين يتعلق برواياتهم أصحاب الأهواء.
…ثم العجب – ثانياً – أنهم يتعلقون بالمنامات، ويحتجون بها في الاعتقادات.
…ثم العجب – ثالثاً – أنهم يتعلقون بما ينسب إلى الأعراب الأجلاف، ويعرضون عما ثبت عن أئمة الأسلاف من مثل ما روى عبد الرزاق عن معمر عن عبيد الله بن عمر، أنه لا يعلم عن أحد من الصحابة أنه كان يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي رواية ثابتة صحيحة لا غبار عليها.
…وهل هذا الأعرابي أفقه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعلم بالقرآن منهم، وأحرص على تطبيقه منهم؟ كيف لم يأت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى قبره، مستغفرين من ذنوبهم، مستشهدين بهذه الآية؟.
…إذن فعلى هؤلاء أن يتأدبوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأدب الأعراب؛ فقد روى الإمام أحمد (2/288) ثنا زيد بن الحباب أخبرني محمد بن الهلال القرشي عن أبيه أنه سمع أبا هريرة – رضي الله عنه – يقول – كنا مع رسول الله في المسجد، فلما قام قمنا معه، فجاءه أعرابي، فقال: أعطني يامحمد، قال "لا، واستغفر الله" فجذبه فخدشه، قالوا: فهموا به، قال: "دعوه"، ثم أعطاه. قال: وكانت يمينه أن يقول: "لا، واستغفر الله".
…وقال أيضاً – (5/65): "ثنا روح بن عبادة ثنا بسطام بن مسلم قال: سمعت خليفة بن عبدالله الغبري يقول: سمعت عائذ بن عمرو المزني قال: بينما نحن مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذا أعرابي قد ألح عليه في المسألة، يقول: يارسول الله! أطعمني، يارسول الله ! أعطني، قال: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل المنزل، وأخذ بعضادتي الحجرة، وأقبل علينا بوجهه، وقال: "والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم في المسألة، ما سأل رجل رجلاً وهو يجد ليلة تبيته" فأمر له بطعام.
…وروى البخاري في 72 – كتاب اللباس، حديث (5809). ومسلم في 12 – كتاب الزكاة، حديث (128). وأحمد (3/153، 210) كلهم من حديث أنس – رضي الله عنه – قال كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظر إلى صفحة عاتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء.
…وفي لفظ عند أحمد؛ حتى انشق البرد، وحتى تغيبت حاشيته في عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
…وروى البخاري في 4 – كتاب الوضوء، حديث (220)، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين". ورواه غيره.
…فهل يحتج بتصرفات هؤلاء الأعراب، ويقتدى بهم فيها، فإذا كانت تصرفاتهم هذه خطأ فتصرف ذلك الأعرابي – على افتراض ثبوتها ودونه خرط القتاد – خطأ؛ لأنه فهم الآية على غير وجهها وطلب من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد موته مالا يجوز أن يطلب منه، ولو كان جائزاً لفعله الصحابة الكرام، واشتهر عنهم، بل وتواتر عنهم.(166/179)
.
وهذا لم يذكره أحد من المجتهدين من أهل المذاهب المتبوعين، الذين يفتي الناس بأقوالهم، ومن ذكرها لم يذكر عليها دليلاً شرعياً.
440 – ومعلوم أنه لو كان طلب دعائه وشفاعته واستغفاره عند قبره مشروعاً، لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أعلم بذلك وأسبق إليه من غيرهم، ولكان أئمة المسلمين يذكرون ذلك. وما أحسن ما قال مالك: لا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. قال: ولم يبلغني عن أولِ هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. فمثل هذا الإمام كيف يُشرع ديناً لم يُنقل عن أحد من(1) السلف، ويأمر الأمة بأن يطلبوا الدعاء والشفاعة والاستغفار بعد موت الأنبياء والصالحين منهم عند قبورهم، وهو أمر لم يفعله أحد من سلف الأمة؟.
441 – ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم:
اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أي نتوسل به.
ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تُشفع به. من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائباً لم يسمع كلامه ولا شفع له.
442 – وهذا ليس هو لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وعلماء الأمة /، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة، والشافع هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه. وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعاً لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول.
__________
(1) …سقطت كلمة "من" من: ز، ب.(166/180)
443 – نعم هذا سؤال به، ودعاء به(1) ليس هو استشفاعاً به، ولكن هؤلاء لما غيروا اللغة – كما غيروا الشريعة – وسموا هذا استشفاعاً – أي سؤالاً بالشافع – صاروا يقولون: استشفع به فيشفعك. أي يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهل بالشرع واللغة، وليس لفظهما(2) من ألفاظ مالك!.
444 – نعم قد يكون أصلها صحيحاً، ويكون مالك قد نهى عن رفع الصوت في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - اتباعاً للسنة، كما كان عمرُ ينهي عن رفع الصوت في مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر الله به؛ من تعزيزه وتوقيره ونحو ذلك مما يليق بمالك أن يأمر به.
445 – ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعادتهم في الكلام وإلاّ حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيراً من الناس ينشأ على اصطلاح قوم وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ مايريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك.
446 – وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم.
وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معانٍ أُخَر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون: إنا موافقون للأنبياء!.
447 – وهذا موجود في كلام كثير من الملاحدة المتفلسفة والإسماعيلية ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة، مثل من وضع "المُحدث" و "المخلوق" و "المصنوع" على ماهو معلول وإن كان [عنده] قديماً أزليا، ويسمى ذلك "الحدوث الذاتي".
ثم يقول: نحن نقول إن العالم محدث، وهو مراده(3).
__________
(1) …كذا في الأصل.
(2) …في ز، ب: "أين لفظها من لفظ". وليس لفظها هكذا على الصواب في نسخة الفتاوى 1/242.
(3) …أي مراده أنه معلول وأزلي.(166/181)
ومعلوم أن لفظ المحدث بهذا الاعتبار ليس لغة أحد من الأمم، وإنما المحدث عندهم ماكان بعد أن لم يكن.
448 – وكذلك يضعون لفظ "الملائكة" على ما يثبتونه من العقول والنفوس وقوى النفس(1).. ولفظ "الجن" و"الشياطين" على بعض قوى النفس(2).
ثم يقولون: نحن نثبت ما أخبرت به الأنبياء، وأقر به جمهور الناس من الملائكة والجن والشياطين.
449 – ومن عرف مراد الأنبياء ومرادهم علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، مثل أن يعلم مرادهم بالعقل الأول وأنه مقارن عندهم لرب العالمين أزلاً وأبداً، وأنه مبدع لكل ما سواه، أو بتوسطه حصل كل ما سواه.
450 – والعقل الفعال عندهم عنه يصدر كل ما تحت فلك القمر، ويعلم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب كل ما سوى الله، ولا رب كل ماتحت فلك القمر، ولا من هو قديم أزلي أبدي لم يزل ولا يزال.
451 – ويعلم أن الحديث الذي يروى: "أول ماخلق الله العقل"(3)
__________
(1) …قال الغزالي في معراج السالكين (3/159) من القصور العوالي: "وقد أخبر الشارع عليه السلام أن الخير من الملائكة، والشر من الشيطان، فلابد من أثر يحصل على الملائكة، ولما كانت النفس روحانية قبلت عن الروحاني، وتأثرت عنه، فلولا العقول المعبر عنها بالملائكة الممدة للنفوس من خارج لما عقلت معقولاً ألبتة".
(2) …قد وقع شيء من هذا في زماننا. انظر صحيفة الفتح الأعداد 685 و 691 و 705.
(3) …لفظه: "لما خلق الله العقل، قال له: قم، فقام، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: اقعد فقعد، فقال: ما خلقت خلقاً هو خير منك، ولا أكرم منك، ولا أفضل منك، ولا أحسن منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف، وإياك أعاقب، لك الثواب وعليك العقاب".
…أورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريقين إلى أبي هريرة (1/174) وطعن في ثلاثة من رجاله. فقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال يحيى: الفضل رجل سوء – يعني الفضل بن عيسى الرقاشي -، وحفص بن عمر يروي الموضوعات لا يحل الاحتجاج به، وأما سيف فكذاب بإجماعهم.
…والموضوعات الكبرى لعلي القاري (ص 43، 98). والمقاصد الحسنة (ص 118)، قال السخاوي فيه: قال ابن تيمية وتبعه غيره: "إنه كذب موضوع باتفاق".
…وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة (1/203 – 204). وعزاه للعقيلي، وابن عدي، والدارقطني، وللبيهقي في الشعب.
…ونقل عن البيهقي في الشعب أنه ساق من طريق ابن عدي. ومن طريق آخر، وقال: هذا إسناد قوي. ونقل عن ابن حبان أنه قال: "ليس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر صحيح في العقل". ونقل عن العقيلي قوله: "لا يثبت في هذا الباب شيء".(166/182)
حديث باطل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه لو كان حقاً لكان حجة عليهم، فإن لفظه "أول ما خلق الله العقل" بنصب الأول على الظرفية "فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال: أدبر، فأدبر. فقال: وعزتي ما خلقت خلقاً أكرم عليَّ منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب"، وروي "لما خلق الله العقل".
452 – فالحديث لو كان ثابتاً كان معناه أنه خاطب العقل في أول أوقات خلقه، وأنه خلق قبله غيره، وأنه تحصل به هذه الأمور الأربعة لا كل المصنوعات.
453 – و "العقل" في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلاً، ويراد به القوة التي بها يُعقل. وعلوم وأعمال تحصل بذلك، لا يراد بها قط في لغة جوهر قائم بنفسه، فلا يمكن أن يراد هذا المعنى بلفظ العقل.
454 – مع أنا قد بينا في مواضع أخر فساد ما ذكروه من جهة العقل الصريح، وأن ما ذكروه من المجردات والمفارقات ينتهي أمرهم فيه إلى إثبات النفس التي تفارق البدن بالموت، وإلى إثبات/ ما تجرده النفس من المعقولات القائمة بها، فهذا منتهى ما يثبتونه من الحق في هذا الباب.
455 – والمقصود هنا أن كثيراً من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله، كما يوجد في كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره.
مثل ما ذكره في "اللوح المحفوظ" حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ "القلم" حيث جعله العقل الأول(1)
__________
(1) …قريب من هذا ما قاله الغزالي في "الرسالة اللدنية" في (1/114 – 115)، من القصور العوالي: "الطريق الثاني وهو التعليم الرباني على وجهين:
…الوجه الأول، إلقاء الوحي، وهو أن النفس إذا كملت ذاتها يزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص، والأمل في الفانية، وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها، وتتمسك بجود مبدعها، وتعتمد على إفادته، وفيض نوره. والله تعالى بحسن رعايته يقبل على تلك النفس إقبالاً كلياً، وينظر إليها نظراً إليهاً، ويتخذ منها لوحاً، ومن النفس الكلي قلما، وينقش فيها جميع علومه، ويصير العقل الكلي كالمعلم، والنفس القدسية كالمتعلم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس، وينتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر".
…ويقول عن الإلهام (1/116) في القصور: "والذي يحصل عن الإلهام يسمى علماً لدنياً، والعلم اللدني هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري، وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صافٍ فارغ لطيف، وذلك أن العلوم كلها حاصلة معلومة في جوهر النفس الكلية الأولى الذي هو في الجواهر المفارقة الأولية المحضة بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم عليه السلام، وقد بين أن العقل الكلي أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى الباري تعالى من النفس الكلية، والنفس الكلية أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات، فمن إفاضة العقل الكلي يتولد الإلهام، ومن إشراق النفس الكلية بتولد الإلهام، فالوحي حلية الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء".
…إلى أن يقول في (ص 117): "وفرق بين الرسالة والنبوة؛ فالنبوة قبول النفس القدسية حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول".
…والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والقابلين.
…إلى أن يقول: فإذا أراد الله تعالى بعبد خيراً، رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس التي هي اللوح، فيظهر فيها أسرار بعض المكنونات وانتقش فيها معاني تلك المكنونات، فتعتبر النفس عنها كما تشاء لمن يشاء من عباده".(166/183)
.
ولفظ "الملكوت" و"الجبروت" و "الملك" حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ "الشفاعة" حيث جعل ذلك فيضاً يفيض من الشفيع على المستشفع(1)
__________
(1) …قال الغزالي في المضنون به (2/151): "وأما شفاعة الأنبياء والأولياء، فالشفاعة عبارة عن نور يشرق من الحضرة الإلهية على جوهر النبوة، وينتشر منها إلى كل جوهر استحكمت مناسبته مع جوهر النبوة؛ لشدة المحبة وكثرة المواظبة على السنن وكثرة الذكر بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، ومثاله نور الشمس إذا وقع على الماء، فإنه ينعكس منه إلى موضع مخصوص من الحائط، لا إلى جميع المواضع، وإنما اختص ذلك الموضع لمناسبة بينه وبين الماء في الموضع، وتلك المناسبة مسلوبة على سائر أجزاء الحائط، وذلك الموضع هو الذي إذا خرج منه خط إلى موضع النور من الماء حصلت منه زاوية إلى الأرض مساوية للزاوية الحاصلة من الخط الخارج من الماء إلى قرص الشمس، بحيث لا يكون أوسع منه ولا أضيق. مثال ذلك لائح، وهذا لا يمكن إلا في موضع مخصوص من الجدار، فكما أن المناسبات الوضعية تقتضي الاختصاص بانعكاس النور، فالمناسبات المعنوية العقلية أيضاً تقتضي ذلك في الجواهر المعنوية، ومن استولى عليه التوحيد فقد تأكدت مناسبته مع الحضرة الإلهية، فأشرق عليه النور من غير واسطة، ومن استولت عليه السنن والاقتداء بالرسول ومحبة أتباعه، ولم ترسخ قدمه في ملاحظة الوحدانية لم تستحكم مناسبته إلا مع الواسطة فافتقر إلى واسطة في اقتباس النار، كما يفتقر الحائط الذي ليس مكشوفاً للشمس إلى واسطة الماء المكشوف للشمس، إلى مثل هذا ترجع حقيقة الشفاعة في الدنيا، فالوزير الممكن في قلب الملك المخصوص بالعناية قد يغضي الملك عن هفوات أصحاب الوزير، يعفو عنهم لا لمناسبة بين الملك وأصحاب الوزير، لكن لأنهم يناسبون الوزير المناسب للملك، ففاضت العناية عليهم بواسطة الوزير لا بأنفسهم، ولو ارتفعت الواسطة لم تشملهم العناية أصلاً؛ لأن الملك لا يعرف أصحاب الوزير واختصاصهم به إلا بتعريف الوزير وإظهاره الرغبة في العفو عنهم..."
…برأ الله الإسلام من هذا الضلال الذي دونه ضلال الجاهلية.(166/184)
وإن كان الشفيع قد لا يدري، وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا كما قد بسط في موضع آخر.
456 – والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلفظ القديم؛ فإنه في لغة الرسول التي جاء بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقاً بغيره، كقوله تعالى: (36: 39): {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وقوله تعالى عن إخوة يوسف (12: 95): {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} وقوله تعالى (26: 75 – 76): {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأقْدَمُونَ}.
457 – وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقاً بعدم نفسه، ويجعلونه – إذا أريد به هذا – من باب المجاز.
458 – ولفظ "المحدث" في لغة القرآن مقابل للفظ "القديم" في القرآن. وكذلك لفظ "الكلمة" في لغة القرآن والحديث وسائر لغات العرب إنما يراد به الجملة التامة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"(1).
__________
(1) …أخرجه البخاري، 97 – كتاب التوحيد، 58 – باب قول الله ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، حديث (7563). ومسلم، 48 – كتاب الذكر، 10 – باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، حديث (31). وابن ماجه (2/1251)، 33 – كتاب الأدب، حديث (3806). والترمذي (5/512)، 49 – كتاب الدعوات، حديث (3467).
…كلهم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – مرفوعاً.(166/185)
وقوله: "إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلال الله باطل"(1).
ومنه قوله تعالى (18: 5): {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}، وقوله تعالى (3: 64): {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية، وقوله تعالى (9: 40): {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} وأمثال ذلك.
459 – ولا يوجد لفظ الكلام(2) في لغة العرب إلا بهذا المعنى، والنحاة اصطلحوا على أن يسموا(3) الاسم وحده والفعل والحرف كلمة، ثم يقول: بعضهم وقد يراد بالكلمة الكلام. فيظن من اعتاد هذا أن هذا هو لغة العرب.
460 – وكذلك لفظ "ذوي الأرحام" في الكتاب والسنة يراد به الأقارب من جهة الأبوين فيدخل فيهم العصبة وذوو الفروض، وإن شمل ذلك من لا يرث بفرض ولا تعصيب، ثم صار ذلك في اصطلاح الفقهاء اسماً لهؤلاء دون غيرهم، فيظن من لا يعرف إلا ذلك أن هذا هو المراد بهذا اللفظ في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة. ونظائر هذا كثيرة.
461 – ولفظ "التوسل" و "الاستشفاع" ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه، ما أوجب غلط من غلط عليهم في دينهم ولغتهم.
__________
(1) …أخرجه البخاري، 63 – كتاب مناقب الأنصار، 26 – باب أيام الجاهلية حديث (3841). ومسلم (4/1768)، حديث (2 – 6). والترمذي (4/218)، 103 – باب ماجاء في إنشاد الشعر حديث (3007). و"جه" (2/1236)، حديث (3757). وأحمد (2/248، 391، 444) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً.
(2) …كذا في الأصل وغيره والسياق يقتضي لفظ الكلمة لا الكلام.
(3) …في خ: "يمسوا".(166/186)
والعلم يحتاج إلى نقل مصدق ونظر محقوق(1). والمنقول عن السلف والعلماء يحتاج إلى معرفة(2) بثبوت لفظه ومعرفة دلالته(3)، كما يحتاج إلى ذلك المنقول عن الله ورسوله. فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية(4).
462 – ونصوص الكتاب والسنة متظاهرة بأن الله أمرنا أن نصلي على النبي ونسلم عليه في كل مكان، فهذا مما اتفق عليه المسلمون، وكذلك رغبنا وحضنا في الحديث الصحيح على أن نسأل الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه مقاماً محموداً الذي وعده.
463 – فهذه الوسيلة التي شرع لنا أن نسألها الله تعالى – كما شرع لنا أن نصلي عليه ونسلم عليه – هي حق له، كما أن الصلاة عليه والسلام حق له - صلى الله عليه وسلم -. والوسيلة التي أمرنا الله أن نبتغيها إليه هي التقرب إلى الله بطاعته، وهذا يدخل فيه كل ما أمرنا الله به ورسوله، وهذه الوسيلة لا طريق لنا إليها إلا باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان به وطاعته، وهذا التوسل به فرض على كل أحد.
464 – وأما التوسل بدعائه وشفاعته – كما يسأله الناس يوم القيامة أن يشفع لهم، وكما كان الصحابة يتوسلون بشفاعته في الاستسقاء وغيره، مثل توسل الأعمى بدعائه حتى رد الله عليه بصره بدعائه وشفاعته(5) – فهذا نوع ثالث من باب قبول / الله دعاءه وشفاعته لكرامته عليه، فمن شفع له الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعا له فهو بخلاف من لم يَدْعُ له ولم يشفع به(6).
__________
(1) …كذا في خ ولعل الصواب: "محقق".
(2) …في خ: "معفرة" ولعله من خطأ الناسخ.
(3) …في الأصل "بثبوت لفظ ومعرفة ودلالته” وهو غير مستقيم. ولذا صحح محقق الفتاوى هذا الكلام بما أثبتناه في الأصل حيث لا يستقيم الكلام على هذا الوجه المصحح.
(4) …أي الحكاية الموضوعة على لسان مالك، وتناول التحريف فيها لغة العرب كما تناول لغة الإسلام.
(5) …حديث توسل الأعمى يأتي (ص 203 – 215).
(6) …كذا في الأصول ولعل الصواب "له".(166/187)
465 – ولكن بعض الناس ظن أن توسل الصحابة به كان بمعنى أنهم يقسمون به ويسألون به، فظن هذا مشروعاً مطلقاً لكل أحد في حياته ومماته، وظنوا أن هذا مشروع في حق الأنبياء والملائكة، بل وفي الصالحين وفيمن يظن فيهم الصلاح، وإن لم يكن صالحاً في نفس الأمر.
466 – وليس في الأحاديث المرفوعة في ذلك حديث في شيء من دواوين المسلمين التي يعتمد عليها في الأحاديث – لا في الصحيحين ولا كتب السنن ولا المسانيد المعتمدة كمسند الإمام أحمد وغيره – وإنما يوجد في الكتب التي عرف أن فيها كثيراً من الأحاديث الموضوعة المكذوبة التي يختلقها الكذابون بخلاف من قد يغلط في الحديث ولا يتعمد الكذب، فإن هؤلاء توجد الرواية عنهم في السنن ومسند الإمام أحمد ونحوه، بخلاف من يتعمد الكذب فإن أحمد لم يرو في مسنده عن أحد من هؤلاء.
467 – ولهذا تنازع الحافظ أبوالعلاء الهمذاني والشيخ أبوالفرج ابن الجوزي: هل في المسند حديث موضوع؟، فأنكر الحافظ أبوالعلاء(1) أن يكون في المسند حديث موضوع(2)، وأثبت ذلك أبوالفرج وبين أن فيه أحاديث قد علم أنها باطلة.
468 – ولا منافاة بين القولين، فإن الموضوع في اصطلاح أبي الفرج هو الذي قام دليل على أنه باطل وإن كان المحدث به لم يتعمد الكذب بل غلط فيه، ولهذا روى في كتابه في الموضوعات أحاديث كثيرة من هذا النوع.
469 – وقد نازعه طائفة من العلماء في كثير مما ذكره وقالوا: إنه ليس مما يقوم دليل على أنه باطل، بل بينوا ثبوت بعض ذلك، لكن الغالب على ما ذكره في الموضوعات أنه باطل باتفاق العلماء.
__________
(1) …هو الحافظ العلامة المقري، شيخ الإسلام، الحسن بن أحمد بن الحسن العطار شيخ همذان، كان إماماً في الحديث والقراءات والنحو واللغة، ومعروفاً بالفقه والزهد والكرم، توفي سنة (569)، تذكرة الحفاظ (4/1324).
(2) …تكررت هذه الجملة في خ.(166/188)
470 – وأما الحافظ أبوالعلاء وأمثاله فإنما يريدون بالموضوع المختلق المصنوع الذي تعمد صاحبه الكذب، والكذب كان قليلاً في السلف.
471 – أما الصحابة فلم يعرف فيهم – ولله الحمد – من تعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما لم يعرف فيهم من كان من أهل البدع المعروفة كبدع الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة، فلم يعرف فيهم أحد من هؤلاء الفرق، ولا كان فيهم من قال: إنه أتاه الخضر، فإن خضر موسى مات كما بين هذا في غير هذا الموضع.
472 – والخضر الذي يأتي كثيراً(1) من الناس إنما هو جني تصور بصورة إنسي أو إنسي كذاب، ولا يجوز أن يكون ملكاً مع قوله أنا الخضر، فإن الملك لا يكذب وإنما يكذب الجني والإنسي.
وأنا أعرف ممن أتاه الخضر وكان جنياً مما يطول ذكره في هذا الموضع.
473 – وكان الصحابة أعلم من أن يروج عليهم هذا التلبيس، وكذلك لم يكن فيهم من حملته الجن إلى مكة وذهبت به إلى عرفات ليقف بها كما فعلت ذلك بكثير من الجهال والعباد وغيرهم، ولا كان فيهم من تسرق الجن أموال الناس وطعامهم وتأتيه به، فيظن أن هذا من باب الكرامات كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع.
474 – وأما التابعون فلم يعرف تعمد الكذب في التابعين من أهل مكة والمدينة والشام والبصرة بخلاف الشيعة فإن الكذب معروف فيهم، وقد عرف الكذب بعد هؤلاء في طوائف.
475 – وأما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من قد يغلط أحياناً وفيمن بعدهم، ولهذا كان فيما صنف في الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يعلم أنه حق.
فالحافظ أبو العلاء يعلم أنها غلط، والإمام أحمد نفسه قد بين ذلك وبين أنه رواها لتعرف، بخلاف ما تعمد صاحبه الكذب.
__________
(1) …في خ "كثير".(166/189)
476 – ولهذا نزه أحمد مسنده عن أحاديث جماعة يروي عنهم أهل السنن كأبي داود والترمذي مثل نسخة كثير(1) بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وإن كان أبو داود يروي في سننه منها، فشرط أحمد في مسنده أجودُ من شرط أبي داود في سننه.
477 – والمقصود أن هذه / الأحاديث التي تُروى في ذلك من جنس أمثالها من الأحاديث الغريبة المنكرة بل الموضوعة، التي يرويها من يجمع في الفضائل والمناقب الغث والسمين، كما يوجد مثل ذلك فيما يصنف في فضائل الأوقات وفضائل العبادات وفضائل الأنبياء والصحابة وفضائل البقاع ونحو ذلك، فإن هذه الأبواب فيها أحاديث صحيحة وأحاديث حسنة وأحاديث ضعيفة وأحاديث كذب موضوعة، ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة.
478 – لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال مالم يُعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب.
وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقاً، ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع.
479 – وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي، لكن إذا عُلم تحريمه وروي حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب جاز أن يرويه، فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب مالم يعلم أنه كذب، لكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله.
480 – وهذا كالإسرائيليات يجوز أن يروى منها ما لم يعلم أنه كذب للترغيب والترهيب فيما علم أن الله أمر به في شرعنا ونهى عنه في شرعنا.
__________
(1) …ضعيف من السابعة، منهم من نسبه إلى الكذب/ د، ت، ق. تقريب (2/132).(166/190)
481 – فأما أن يثبت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم، ولا كان أحمد بن حنبل ولا أمثاله من الأئمة يعتمدون على مثل هذه الأحاديث في الشريعة.
482 – ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه.
483 - ولكن(1) كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح، وضعيف.
484 – والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن، كما أن ضعف الإنسان بالمرض ينقسم إلى مرض مخوف يمنع التبرع من رأس المال، وإلى ضعف(2) خفيف لا يمنع من ذلك.
485 – وأول من عرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام – صحيح، وحسن، وضعيف – هو أبوعيسى الترمذي(3) في جامعه.
والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ.
486 – فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ويحتج به، ولهذا مثل أحمد الحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما. وهذا مبسوط في موضعه.
487 – والأحاديث التي تروى في هذا الباب – وهو السؤال بنفس المخلوقين – هي من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة، ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها ولا اعتمد عليها.
__________
(1) …في الأصل: "ولا كمن" وهو تحريف ظاهر.
(2) …كذا في الأصل والتعبير بلفظ مرض أنسب.
(3) …هو الإمام محمد بن عيسى – صاحب السنن – المتوفى سنة 279، وقد قال في آخر كتابه: أردت بقولي: "حسن" مالا يكون في سنده متهم بالكذب، ولا يكون شاذا، ويروى من غير وجه.
…وهو المعنى الذي أراده شيخ الإسلام ابن تيمية وعليه يكون الحق مع من لم يأخذ بالحديث الشديد الضعف – لا في فضائل الأعمال ولا في غيرهما.(166/191)
488 – مثل الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده أن أبا بكر الصديق أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنني أتعلم القرآن ويتفلت مني فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"قل اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وبإبراهيم خليلك وبموسى نجيك وعيسى روحك وكلمتك وبتوارة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد وبكل وحي أوحيته وقضاء قضيته". وذكر تمام الحديث.
489 – وهذا الحديث ذكره رزين بن معاوية العبدري في جامعه، ونقله ابن الأثير في جامع الأصول(1) ولم يَعزُه لا هذا ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكنه قد رواه من صنف في عمل يوم وليلة كابن السني(2) وأبي نُعيم.
وفي مثل هذه الكتب أحاديث كثيرة موضوعة لا يجوز الاعتماد عليها في الشريعة باتفاق العلماء.
وقد رواه أبوالشيخ الأصبهاني في كتاب فضائل الأعمال وفي هذا الكتاب أحاديث كثيرة كذب موضوعة.
490 – ورواه أبوموسى المديني من حديث زيد بن الحباب عن عبد الملك بن هارون بن عنترة، وقال: هذا حديث حسن مع أنه ليس بالمتصل.
قال أبوموسى: ورواه محرز بن هشام عن عبد الملك عن أبيه عن جده، عن الصديق رضي الله عنه، وعبد الملك ليس بذاك/ القوي، وكان بالري، وأبوه وجده ثقتان.
__________
(1) …جامع الأصول لابن الأثير (4/302)، حديث (2302).
(2) …رجعت إلى باب الدعاء لحفظ القرآن ص 217، من عمل اليوم والليلة لابن السني فلم أجد في هذا الباب إلا حديثاً واحداً لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ولم أجد حديث أبي بكر رضي الله عنه في الباب المذكور.(166/192)
491 – قلت: عبد الملك بن هارون بن عنترة من المعروفين بالكذب، قال يحيى بن معين: هو كذاب(1). وقال السعدي دجال كذاب(2). وقال أبوحاتم بن حبان: يضع الحديث(3). وقال النسائي: متروك(4). وقال البخاري: منكر الحديث(5). وقال أحمد بن حنبل: ضعيف(6). وقال ابن عدي: له أحاديث لا يتابعه عليها أحد(7). وقال الدارقطني: هو وأبوه ضعيفان(8). وقال الحاكم في كتاب المدخل(9): عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني روى عن أبيه أحاديث موضوعة.
وأخرجه أبوالفرج ابن الجوزي في كتاب الموضوعات(10).
__________
(1) …التأريخ لابن معين (2/376) في الترتيب، الترجمة (1688).
(2) …أحوال الرجال (ص 68)، رقم (77)، والسعدي: هو الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني، توفي سنة (259)، انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (2/549)، وتهذيب التهذيب (1/181).
(3) …كتاب المجروحين (2/133).
(4) …كتاب الضعفاء والمتروكين (ص 166)، رقم (405).
(5) …الضعفاء (ص 148)، رقم (218).
(6) …العلل ومعرفة الرجال (1/384).
(7) …الكامل (5/1942) وفيه: "وعبد الملك بن هارون له أحاديث غرائب عن أبيه عن جده عن الصحابة، مما لا يتابعه عليه أحد".
(8) …الضعفاء والمتروكين (ص289) رقم (362)، وعبارته: "عبد الملك بن هارون بن عنترة الكوفي عن أبيه، وأبوه أيضاً متروك". فكلمة أيضاً تدل على أنه قال فيه: متروك، أو لأن الكتاب موضوع للضعفاء والمتروكين.
(9) …(1/170)، رقم (129).
(10) …(3/174 – 175) بإسناده إلى مجاهد عن ابن مسعود مرفوعاً. وقال عقبه: هذا حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتهم به عمر بن الصبح، قال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، فلعله سقط من المطبوع، وأورده السيوطي في اللآلئ (2/357)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/322)، وعزواه إلى أبي الشيخ في كتاب الثواب. وقال السيوطي وتابعه ابن عراق: "عبد الملك دجال مع ما في السند من الإعضال".(166/193)
وقول الحافظ أبي موسى: "هو منقطع" يريد أنه لو كان رجاله ثقات فإن إسناده منقطع.
492 – وقد روى عبد الملك – هذا الحديث(1) الآخر المناسب لهذا في استفتاح أهل الكتاب به كما سيأتي ذكره(2)، وخالف فيه عامة ما نقله المفسرون وأهل السير وما دل عليه القرآن، وهذا يدل على ما قاله العلماء فيه من أنه متروك؛ إما لتعمده الكذب، وإما لسوء حفظه، وتبين أنه لا حجة لا في هذا ولا في ذاك.
493 – ومثل ذلك الحديث الذي رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب مرفوعاً وموقوفاً عليه "أنه لما اقترف آدم الخطيئة قال: يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي. قال: وكيف عرفت محمداً؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً": لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. قال: صدقت يا آدم، ولولا محمد ما خلقتك".
__________
(1) …في خ: "الأحاديث".
(2) …رقم (629)، ص (247) رقم (2).(166/194)
وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه(1) من حديث عبد الله بن مسلم الفهري(2) عن إسماعيل بن مسلمة(3) عنه. وقال الحاكم: وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن في هذا الكتاب(4). وقال الحاكم: هو صحيح.
ورواه الشيخ أبوبكر الآجري في كتاب الشريعة(5) موقوفاً على عمر من حديث عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم موقوفاً.
__________
(1) …(2/615) وقال عَقبه: وهذا حديث صحيح الإسناد فتعقبه الذهبي بقوله: "بل موضوع وعبد الرحمن واهْ).
(2) …أبو الحارث، روى عن اسماعيل بن مسلمة بن قعنب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً، فيه: يا آدم، لولا محمد ما خلقتك، رواه البيهقي في دلائل النبوة، الميزان للذهبي (2/504)، قال الحافظ ابن حجر في اللسان (3/360) بعد نقله لكلام الذهبي السابق: "قلت: لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله، فإنه من طبقته" والذي قبله هو: عبد الله بن مسلم بن رشيد، عن الليث ذكره ابن حبان وقال: متهم بوضع الحديث، وقال: حدثنا عنه جماعة يضع على ليث، ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه. انتهى. وبقية كلامه: "وهذا شيخ لايعرفه أصحابنا، وإنما ذكرته لئلا يحتج له من أصحاب الرأي، لأنهم كتبوا عنه، فيتوهم من لم يتبحر في العلم أنه ثقة، وهو الذي روى عن ابن هدبة نسخة كأنها معمولة". وانظر كتاب المجروحين (2/44) وعبارته: "وإنما ذكرته لئلا يحتج به واحد من أصحاب الرأي على من لم يتبحر في العلم من أصحابنا فيوهمه أنه كان ثقة إلخ.
…وقال الذهبي في تلخيص المستدرك (2/615) تعليقاً على هذا الحديث: "قلت: رواه بن مسلم الفهري، ولا أدري من ذا عن إسماعيل بن مسلمة عنه.
(3) …ابن قعنب الحارثي القعنبي، أبوبشر المدني، نزيل مصر صدوق يخطىء من التاسعة /ق. تقريب.
(4) …المستدرك (2/516).
(5) …ص (427).(166/195)
494 – ورواه الآجري أيضاً من طريق آخر، من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه موقوفاً عليه، وقال: حدثنا هارون بن يوسف التاجر، حدثنا أبومروان العثماني، حدثني أبوعثمان بن خالد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال: "من الكلمات التي تاب الله بها على آدم: قال: اللهم إني أسألك بحق محمد عليك. قال الله تعالى: وما يدريك ما محمد؟ قال: يارب رفعت رأسي فرأيت مكتوباً على عرشك: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك".
495 – قلت: ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب المدخل(1) إلى معرفة الصحيح من السقيم: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.
496 – قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، ضعفه أحمد بن حنبل(2) وأبوزرعة وأبوحاتم(3) والنسائي(4)، والدارقطني(5) وغيرهم، وقال أبوحاتم بن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته، من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك(6).
497 – وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله، فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث.
…كما صحح حديث زريب بن ثرملا(7)
__________
(1) …(1/154)، رقم (97).
(2) …العلل (1/265)، والجرح والتعديل (5/233، 234).
(3) …الجرح والتعديل، الموضع السابق.
(4) …الضعفاء والمتروكين، (ص 158)، رقم (377).
(5) …الضعفاء والمتروكين، ص (270)، رقم (331).
(6) …(2/57).
(7) …في خ: "برثملي".
…قال الحافظ في الإصابة (1/561):
…"زريب – بالتصغير – ابن ثرملا، ذكره الطبري في الصحابة، وروى البارودي من طريق عبد الله بن معروف، عن أبي عبد الرحمن الأنصاري، عن محمد بن حسين بن علي، أن سعد بن أبي وقاص لما فتح حلوان، مر رجل من الأنصار يقال له: جعونة بن نضلة بشعب فحضرت الصلاة، فتوضأ، ثم أذن، فأجابه صوت، فنظر فلم ير شيئاً، فأشرف عليه رجل من كهف، شديد بياض الرأس واللحية، فقال: من أنت؟ قال: أنا زريب بن ثرملا، من حواري عيسى ابن مريم، وقد أردت الوصول إلى محمد رسول الله e، فحالت بيني وبينه فارس. فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فانطلق جعونة، فأخبر سعداً، فكتب سعد إلى عمر، فكتب عمر: أطلب الرجل، فابعث به إليَّ، فتتبعوا الشعاب والأودية، فلم يروا له أثراً.(166/196)
الذي فيه ذكر وصي المسيح، وهو كذب باتفاق أهل المعرفة كما بين ذلك البيهقي(1) وابن الجوزي(2)
وغيرهما(3).
…وكذلك أحاديث كثيرة في مستدركه يصححها، وهي عند أئمة أهل العلم بالحديث موضوعة.
…ومنها ما يكون موقوفاً يرفعه.
__________
(1) …الدلائل، (5/425 – 428). وهي قصة طويلة، رواها من طريقين:
…الأولى: إلى عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر. والثانية: من طريق ابن لهيعة، عن مالك بن أزهر عن نافع به. قال البيهقي عقب الرواية الأولى: قال أبوعبد الله الحافظ: كذا قال عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، عن مالك بن أنس، ولم يتابع عليه. وإنما يعرف هذا الحديث لمالك بن الأزهر عن نافع فهو رجل مجهول لا يسمع بذكره في غير هذا الحديث. ثم قال عقب الثانية: "هذا الحديث بهذا الإسناد أشبه وهو ضعيف بمرَّةٍ".
(2) …أوردهما ابن الجوزي في: الموضوعات (1/209 – 213). من الطريقين السابقين، ثم رواه من طريق عبيد الله بن يحيى، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: لما ظهر سعد على حلوان العراق، وذكر القصة، وعبيد الله بن يحي، لم أقف له على ترجمة. ثم قال ابن الجوزي: "ورواه أبوبكر الأنباري من حديث عبد الله بن عمرو بن عبد الرحمن، وهو مجهول. وحديث زريب حديث باطل، لا أصل له وأكثر رواته مجاهيل لا يعرفون. أما رواية الراسبي عن مالك، فليس من حديث مالك. قال أبوبكر الخطيب: روى الراسبي عن مالك هذا الحديث المنكر". ثم نقل عن الأئمة كلامهم في ابن لهيعة.
…وذكر القصة ابن عراق (1/239 – 241) ونقل في نقدها كلام العلماء.
(3) …منهم أبونعيم في الدلائل (1/124 – 126)، من طريق عبد الرحمن الراسبي ولم أر له تعقباً على القصة، لكن ابن عراق قال: "وقال أبونعيم في الراسبي: فيه ضعف ولين". وقال الذهبي: "عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي، عن مالك أتى بخبر باطل طويل، وهو المتهم به، وذكر طرفاً من القصة. الميزان (2/545 – 546).(166/197)
…498 – ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في المصححين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه. وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه.
499 – بخلاف أبي حاتم بن حبان البستي، فإن تصحيحه فوق تصحيح الحاكم وأجل قدراً.
وكذلك تصحيح الترمذي والدارقطني وابن خزيمة وابن منده وأمثالهم فيمن يصحح الحديث، فإن هؤلاء وإن كان في بعض ما ينقلونه نزاع، فهم أتقن في هذا الباب من الحاكم.
500 – ولا يبلغ تصحيح الواحد من هؤلاء مبلغ تصحيح مسلم. ولا يبلغ تصحيح مسلم مبلغ تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب. والبخاري / من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحداً أعلم بالعلل منه(1).
501 – ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثاً(2) اختُلف في إسناده أو بعض ألفاظه أن(3) يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يُغتر بذكره له بأنه إنما ذكره مقروناً بالاختلاف فيه.
502 – ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه. بخلاف مسلم بن الحجاج فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها وكان الصواب فيها مع من نازعه(4).
__________
(1) …عبارة الترمذي (5/738)، 51 – كتاب العلل:
…"ولم أر أحداً، بالعراق ولا بخراسان، في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل". قال هذا بعد أن ذكر أبا زرعة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي.
(2) …في خ: "حديث".
(3) …زيدت في المطبوع وفي مجموع الفتاوى (1/256) لأن المقام يقتضيها ولا توجد في الأصل المخطوط.
(4) …في هذا الإطلاق نظر فإن الصواب يكون غالباً في جانب مسلم رحمه الله تعالى(166/198)
503 – كما روى في حديث الكسوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روى أنه صلى بركوعين(1).
__________
(1) …أحاديث صلاة الكسوف رواها مسلم (2/618 – 630)، 10 – كتاب الكسوف من حديث (1 – 29).
…1 – من طريق هشام بن عروة، والزهري، عن عروة عن عائشة وفيه في كل ركعة ركوعان.
…2 – من طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير (حسبته عن عائشة). ومن طريق قتادة، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة: وفيه: "في كل ركعة ثلاث ركوعات".
…3 – ومن طريق عمرة عن عائشة، وفيه في كل ركعة ركوعان.
…4 – ومن طريق أبي الزبير عن جابر، وفيه في كل ركعة ركوعان.
…5 – ومن طريق عبد الملك (يعني ابن ميسرة الكوفي ثقة) عن عطاء عن جابر، وفيه في كل ركعة ثلاث ركوعات.
…6 – ومن طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس، وفيه ركوعان في كل ركعة.
…7 – ومن طريق حبيب (يعني ابن أبي ثابت، وهو ثقة يرسل كثيراً ويدلس) وفيه ثمان ركعات في أربع سجدات.
…والراجح ما قاله شيخ الإسلام من أن الثابت في كل ركعة ركوعان، كما هو ظاهر من أسانيد الروايات، وكما هو الثابت من ناحية تأريخية. فعروة وعمرة أثبت في عائشة من عبيد بن عمير لا سيما وقد شك في الراوي وأخشى أن يكون عطاء قد وهم في حديث عائشة وجابر. أَمَّا رواية ابن عباس التي فيها ثمان ركعات، ففي إسنادها حبيب بن أبي ثابت، وهو يرسل ويدلس، وقد عنعن في إسناد هذه الرواية وقد عده الحافظ ابن حجر في الطبقة الثالثة من المدلسين (ص 39) من الطبقات. ولعل مسلماً كان يرى تعدد قصة الكسوف ثم بنى على ظواهر الأسانيد – رحمه الله – وقد صحح هذه الروايات إسحاق، وابن المنذر وغيرهما، وجمعوا بينها. انظر: المغني لابن قدامة (2/316).(166/199)
504 – والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين، وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي(1)، وهو قول البخاري(2) وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه(3).
505 – والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم. ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب.
506 – وكذلك روى مسلم: "خلق الله التربة يوم السبت"(4).
ونازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى بن معين(5) والبخاري(6) وغيرهما(7)
__________
(1) …الأم (1/245 – 246).
(2) …رجعت إلى صحيح البخاري، 16 – كتاب الكسوف من حديث (1040 – 1066)، فلم أر له رأيا صريحاً، ولعل شيخ الإسلام أخذ هذا من تصرف البخاري، حيث اقتصر على إخراج الأحاديث التي فيها ركوعان فقط، أوله رأي منقول في غير الصحيح.
(3) …انظر المغني لابن قدامة (2/313 – 314).
(4) …أخرجه مسلم، 50 – كتاب صفة المنافقين وأحكامهم – باب ابتداء الخلق حديث (27). وأحمد (2/327)، وابن معين في التاريخ (3/52)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 364).
(5) …لم أقف على كلام يحيى بن معين في هذا الحديث بعد بحث.
(6) …قال البخاري في التاريخ الكبير (1/1/413 – 414) في ترجمة أيوب بن خالد: "وروى إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد الأنصاري، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "خلق الله التربة يوم السبت...". وقال بعضهم: عن أبي هريرة، عن كعب، وهو أصح.
(7) …منهم الإمام علي بن المديني. – قال البيهقي في الأسماء والصفات (ص 384): "قال علي بن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا عن إبراهيم بن أبي يحيى. قلت (البيهقي): وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي، عن أيوب بن خالد، إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف. وروى عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد، وإسناده ضعيف والله أعلم".
…وقد تصدى الشيخ عبد الرحمن المعلمي في كتابه القيم الأنوار الكاشفة (ص 188 – 192) لسرد الشبه التي طعن بها هذا الحديث في إسناده ومتنه، فأجاد وأفاد، فرد على إعلال ابن المديني بقوله: "ويرد على هذا أن إسماعيل ثقة عندهم غير مدلس وقال بعضهم... إلخ بقوله: وليته ذكر إسنادها ومتنها، فقد تكون ضعيفة، ويدل على ضعفها، أن المحفوظ على كعب وعبد الله بن سلام ووهب ابن منبه ومن يأخذ منهم، أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب". وأحال على الأسماء والصفات للبيهقي (ص 272 – 275)، وأوائل تفسير ابن جرير، والدر المنثور (3/91).
…وصحح الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني ودافع عنه في تعليقه على حديث (5734)، من مشكاة المصابيح بقوله: "ولا مطعن في إسناده البته، وليس هو بمخالف للقرآن بوجه من الوجوه خلافا لما توهمه بعضهم، فإن الحديث يفصل كيفية الخلق على الأرض وحدها وأن ذلك كان في سبعة أيام، ونص القرآن على أن خلق السماوات والأرض كان في ستة أيام والأرض في يومين، لا يعارض ذلك، لاحتمال أن هذه الأيام الستة غير الأيام السبعة المذكورة في الحديث، وأنه – أعني الحديث – تحدث عن مرحلة من مراحل تطور الخلق على وجه الأرض، حتى صارت صالحة للسكنى – ويؤيده أن القرآن يذكر أن بعض الأيام عند الله تعالى كألف سنة، وبعضها مقداره خمسون ألف سنة، فما المانع أن تكون الأيام الستة من هذا القبيل، والأيام السبعة من أيامنا هذه كما هو صريح الحديث وحينئذ فلا تعارض بينه وبين القرآن".
…وأكد هذا الدفاع في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/449 – 450) فأجاد وأفاد.(166/200)
فبينوا أن هذا غلط ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحجة مع هؤلاء، فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وأن آخر ما خلقه هو آدم وكان خلقه يوم الجمعة.
وهذا الحديث المختلف فيه يقتضي أنه خلق ذلك في الأيام السبعة.
وقد روي إسناد أصح من هذا أن أول الخلق كان يوم الأحد(1).
507 – وكذلك روى أن أبا سفيان لما أسلم طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بأم حبيبة وأن يتخذ معاوية كاتباً(2)
__________
(1) …لم أقف على حديث مرفوع، ينص على أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وإنما يوجد آثار، عن ابن عباس، وابن مسعود، وعبد الله بن سلام. ذكرها ابن جرير في تاريخه (1/47).
…أما أثر ابن عباس وابن مسعود، ففيه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، صدوق يهم رمى بالتشيع.
…وأما أثر ابن سلام، ففي إسناده أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي، ضعيف، وفيه عبد الله بن صالح، لم يتبين لي من هو، وأظنه كاتب الليث، فإن كان فهو ضعيف. ثم إن موضوعها خلق السماوات والأرض، مع ذكر أشياء ذكرت في حديث مسلم، فلفظ هذه الآثار: "إن الله بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين في الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات في الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم على عجل فتلك الساعة التي تقوم في الساعة".
(2) …أخرجه مسلم (4/1945)، 44 – كتاب فضائل الصحابة، حديث (168)، وفي إسناده أبو زُميل – بالزاي مصغراً – سماك بن الوليد الحنفي اليمامي الكوفي، ليس به بأس من الثالثة/ بخ م4. تقريب (1/332)، وعكرمة بن عمار العجلي اليمامي، صدوق يغلط/ خت م4. تقريب (2/30).
…قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي – في الأنوار الكاشفة (ص 230) – عن هذا الحديث: "وفي سنده عكرمة بن عمار موصوف بأنه يغلط ويهم، فمن أهل العلم من تكلم في هذا الحديث، وقال: إنه من أوهام عكرمة، ومنهم من تأوله وأقرب تأويل له أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما كان قبل إسلام أبي سفيان، كان بدون رضاه، فأراد بقوله: "أزوجكها، أرضى بالزواج، فأقْبل مني هذا الرضا". وقال النووي في شرح مسلم (16/63): "يحتمل أنه سأله تجديد عقد النكاح تطييباً لقلبه، لأنه ربما كان يرى عليها غضاضة من رياسته ونسبه أن تزوج بنته بغير رضاه".(166/201)
، وغلّطه في ذلك طائفة من الحفاظ.
ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث، تلقوها بالقبول وأجمعوا عليها وهم يعلمون علماً قطعياً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها. وبسط الكلام في هذا له موضع آخر.
508 – وهذا الحديث المذكور في آدم يذكره طائفة من المصنفين بغير إسناد وما هو من جنسه مع زيادات أخر، كما ذكر القاضي عياض قال: وحكى أبو محمد المكي وأبو الليث السمرقندي(1) وغيرهما: "أن آدم عند معصيته قال: اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي – قال: ويروى تقبل توبتي – فقال الله له: من أين عرفت محمداً؟ قال: رأيت في كل موضع من الجنة مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال: ويروى: محمد عبدي ورسولي، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك، فتاب عليه وغفر له"(2).
__________
(1) …الإمام الفقيه المحدث الزاهد أبوالليث نصر بن محمد بن إبراهيم، السمرقندي الحنفي صاحب كتاب "تنبيه الغافلين"، تروج عليه الأحاديث الموضوعة، مات سنة (375). سير أعلام النبلاء (16/322 – 323).
(2) …الشفاء (1/133)، والقصة كما تراها بغير إسناد.(166/202)
509 – ومثل هذا لايجوز أن تبنى عليه الشريعة ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، فإن هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها التي لا يعلم صحتها إلا بنقل ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه(1) لو نقلها مثل كعب الأحبار ووهب ابن منبه وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ وقصص المتقدمين عن أهل الكتاب لم يجز أن يحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين، فكيف إذا نقلها من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين، بل إنما ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروح ضعيف لا يحتج بحديثه، واضطرب عليه فيها اضطراباً يعرف [به] أنه لم يحفظ ذلك، ولم ينقل ذلك ولا ما يشبهه أحد من ثقات علماء المسلمين الذين يعتمد على نقلهم، وإنما هي من جنس ما ينقله إسحاق بن بشر(2) وأمثاله في كتب المبتدأ، وهذه لو كانت ثابتة عن الأنبياء لكانت شرعاً لهم، وحينئذ فكان الاحتجاج بها مبنياً على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ والنزاع في ذلك مشهور.
510 – لكن الذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أنه شرع لنا مالم يرد شرعنا بخلافه، وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرع، لمن قبلنا من نقل ثابت(3) عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أو بما تواتر عنهم، لا بما يروى على هذا الوجه، فإن هذا لا يجوز أن يحتج به في شرع المسلمين أحد من المسلمين.
__________
(1) …في خ "هذا".
(2) …أبوحذيفة البخاري صاحب كتاب المبتدأ، تركوه، وكذبه علي بن المديني، وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب، وقال الدارقطني: كذاب متروك. قلت: يروي العظائم عن ابن إسحاق، والثوري، وابن جريج. الميزان (1/184)، واللسان (1/345).
(3) …في خ: "الثابت".(166/203)
511 – ومن هذا الباب حديث ذكره موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير(1) بإسناده عن ابن عباس مرفوعاً أنه قال: "من سره أن يوعيه الله حفظ القرآن وحفظ أصناف العلم، فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف، أو في صحف قوارير بعسل وزعفران وماء مطر، وليشربه على الريق، وليصم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه، ويدعو به في أدبار صلواته/: اللهم إني أسألك بأنك مسئول، لم يسأل مثلك ولا يسأل، وأسألك بحق محمد نبيك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك"(2). وذكر تمام الدعاء.
وموسى بن عبد الرحمن هذا من الكذابين، قال أبوأحمد بن عدي فيه: منكر الحديث(3)
__________
(1) …قال الذهبي معروف ليس بثقة، فإن ابن حبان قال فيه: دجال، وضع على ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس كتاباً في التفسير. وقال ابن عدي منكر الحديث. الميزان (4/211)، وانظر ترجمته في: الكامل (6/2348).
(2) …لم أجده في كتب الموضوعات منسوباً لابن عباس، وإنما ينسب إلى ابن مسعود كما سيأتي، ولعل المصنفين في الموضوعات لم يعثروا على كتاب موسى بن عبد الرحمن. ثم وجدته في كتاب الدعاء للطبراني (3/1422) رقم 1334.
(3) …لم أجد هذه العبارة في المطبوع من الكامل وقد سقطت ترجمته مع عدد من التراجم من المخطوطة التي عندي، والذي في المطبوع (6/2348) بعد أن ساق في ترجمته أربعة أحاديث، قال: "وموسى بن عبد الرحمن هذا لا أعلم له أحاديث غير ماذكرته، وقد يقبل بابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وهذه الأحاديث بواطيل".
…وأعتقد أنه قد وقع تحريف في قوله، وقد يقبل، فهذه العبارة لاتتناسب مع قوله: وهذه الأحاديث بواطيل. والأحاديث إنما أوردها من روايته، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس.
…وإذا كان ابن عدي لا يعلم له إلا هذه الأحاديث الأربعة، وقد حكم عليها بأنها بواطيل، فكيف يستقيم القول بأنه قد يقبل بابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس.
…والعبارة التي نقلها شيخ الإسلام عن ابن عدي، نقلها الذهبي. الميزان (4/211). مما يؤكد صدق نقله رحمه الله، ويؤكده كلام ابن حبان الآتي.(166/204)
.
وقال أبوحاتم ابن حبان: دجال يضع الحديث، وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتاباً في التفسير جمعه من كلام الكلبي ومقاتل(1).
512 – ويروى نحو هذا – دون الصوم – عن ابن مسعود من طريق موسى بن إبراهيم المروزي حدثنا وكيع عن عبيدة عن شقيق عن ابن مسعود(2).
وموسى بن إبراهيم هذا قال فيه يحيى بن معين: كذاب(3)، وقال الدارقطني: متروك(4)، وقال ابن حبان: كان مغفلاً يلقن فيتلقن فاستحق الترك(5).
__________
(1) …كتاب المجروحين (2/242)، وبعد هذا الكلام الذي نقله شيخ الإسلام بالحرف: "وألزقه بابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس".
(2) …أورده السيوطي، في اللآليء المصنوعة (2/356)، من طريق فيها عمر بن صبح، ثم قال: موضوع، والمتهم به عمر بن صبح، ثم قال في (ص 357): "قلت وله طريق آخر أخرجه الخطيب في الجامع، ثم ساقه بالإسناد الذي ذكره شيخ الإسلام. وهو في الجامع للخطيب (2/261)، برقم (1793)، بالإسناد المذكور.
…وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2/174)، وابن عراق في تنزيه الشريعة (2/322)، من طريق عمر بن صبح، وزاد ابن عراق قوله: "ورواه أبوالشيخ في الثواب، من حديث أبي بكر الصديق، من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني الدجال، مع ما في سنده من الإعضال.
(3) …قاله الذهبي في الميزان (4/199).
(4) …ذكره الدارقطني في الرواة عن مالك، ساق له حديثاً وقال: "باطل منكر، وموسى بن إبراهيم ومن دونه ضعفاء". اللسان (5/405) في ترجمة محمد بن نصر بن عيسى.
(5) …لم أجد ترجمتة في المجروحين، ولا يبعد أن تكون قد سقطت، وفي الميزان (4/199)، واللسان (6/111) "كذّبه يحيى وقال الدارقطني وغيره متروك" ثم قال فمن بلاياه ثم ذكر طرفاً من حديث ابن مسعود. وقال العقيلي في الضعفاء (4/166): "منكر الحديث"، وساق له حديثاً وقال: حديث باطل (4/167).(166/205)
ويروى هذا عن عمر بن عبد العزيز عن مجاهد بن جبر عن ابن مسعود بطريق أضعف(1) من الأول.
513 – ورواه أبوالشيخ الأصبهاني من حديث أحمد بن إسحاق الجوهري: حدثنا أبوالأشعث، حدثنا زهير بن العلاء(2) العتبي، حدثنا يوسف بن يزيد عن الزهري، ورفع الحديث قال: "من سره أن يَحفظ فليصم سبعة أيام، وليكن إفطاره في آخر هذه الأيام السبعة على هؤلاء الكلمات"(3).
قلت: وهذه أسانيد مظلمة لا يثبت بها شيء.
514 – وقد رواه أبوموسى المديني في أماليه، وأبوعبد الله المقدسي، على عادة أمثالهم في رواية ما يروى في الباب سواء كان صحيحاً أو ضعيفاً، كما اعتاده أكثر المتأخرين من المحدثين، أنهم يروون ما روي به الفضائل، ويجعلون العهدة في ذلك على الناقل، كما هي عادة المصنفين في فضائل الأوقات والأمكنة والأشخاص والعبادات والعادات.
515 – كما يرويه أبوالشيخ الأصبهاني في فضائل الأعمال وغيره، حيث يجمع أحاديث كثيرة لكثرة روايته، وفيها أحاديث كثيرة قوية صحيحة وحسنة، وأحاديث كثيرة ضعيفة موضوعة وواهية.
وكذلك ما يرويه خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة.
وما يرويه أبونعيم الأصبهاني في فضائل الخلفاء في كتاب مفرد، وفي أول حلية الأولياء.
وما يرويه أبو الليث السمرقندي وعبد العزيز الكناني وأبوعلي بن البناء وأمثالهم من الشيوخ، وما يرويه أبوبكر الخطيب وأبوالفضل بن ناصر وأبوموسى المديني وأبوالقاسم بن عساكر والحافظ عبد الغني وأمثالهم ممن له معرفة بالحديث، فإنهم كثيراً ما يروون في تصانيفهم ما روي مطلقاً على عادتهم الجارية؛ ليعرف ما روي في ذلك الباب لا ليحتج بكل ما روي، وقد يتكلم أحدهم على الحديث ويقول: غريب، ومنكر، وضعيف. وقد لايتكلم.
__________
(1) …في اللآليء المصنوعة، وتنزيه الشريعة، في الموضعين المذكورين سابقاً.
(2) …قال أبوحاتم: "أحاديثه موضوعة" الميزان (2/83).
(3) …لم أجده فيبحث عنه.(166/206)
516 – وهذا بخلاف أئمة الحديث الذين يحتجون به ويبنون عليه دينهم مثل مالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وابن خزيمة، وابن المنذر، وداود بن علي، ومحمد بن جرير الطبري، وغير هؤلاء، فإن هؤلاء الذين يبنون الأحكام على الأحاديث يحتاجون أن يجتهدوا في معرفة صحيحها وضعيفها وتمييز رجالها.
517 – وكذلك الذين تكلموا في الحديث والرجال ليميزوا بين هذا وهذا لأجل معرفة الحديث كما يفعل أبو أحمد بن عدي، وأبوحاتم البستي، وأبوالحسن الدارقطني وأبوبكر الإسماعيلي، وكما قد يفعل ذلك، أبوبكر البيهقي، وأبوإسماعيل الأنصاري، وأبوالقاسم الزنجاني، وأبوعمر ابن عبد البر، وأبومحمد بن حزم، وأمثال هؤلاء، فإن بسط هذه الأمور له موضع آخر.
518 – ولم يذكر من لا يروي بإسناد – مثل كتاب وسيلة المتعبدين لعمر الملا الموصلي، وكتاب الفردوس لشهريار الديلمي، وأمثال ذلك – فإن هؤلاء دون هؤلاء الطبقات، وفيما يذكرونه من الأكاذيب أمر كبير.
519 – والمقصود هنا، أنه ليس في هذا الباب حديث واحد مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتمد عليه في مسألة شرعية، باتفاق أهل المعرفة بحديثه، بل المروي في ذلك إنما يعرف أهل المعرفة بالحديث أنه من الموضوعات؛ إما تعمداً من واضعه، وإما غلطاً / منه.
وفي الباب آثار عن السلف أكثرها ضعيفة:
520 – فمنها حديث الأربعة الذين اجتمعوا عند الكعبة وسألوا، وهم عبد الله ومصعب ابنا(1) الزبير، وعبد الله بن عمر وعبد الملك بن مروان.
ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء(2).
__________
(1) …في خ: "ابني" وهو خطأ.
(2) …(ص 120).(166/207)
ورواه من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي، عن سفيان الثوري، عن طارق بن عبد العزيز، عن الشعبي، أنه قال: "لقد رأيت عجباًكنا بفناء الكعبة أنا، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم: ليقم كل رجل منكم، فليأخذ بالركن اليماني، وليسأل الله حاجته، فإنه يُعطى من سعة. ثم قالوا: قم ياعبد الله بن الزبير فإنك أول مولود في الإسلام بعد الهجرة(1). فقام، فأخذ بالركن اليماني ثم قال: اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم، أسألك بحرمة وجهك، وحرمة عرشك، وحرمة نبيك، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني الحجاز، ويسلم علي بالخلافة. ثم جاء فجلس.
ثم قام مصعب، فأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم إنك رب كل شيء، وإليك يصير كل شيء، أسألك بقدرتك على كل شيء، ألا تميتني من الدنيا حتى توليني العراق، وتزوجني بسُكينة بنت الحسين.
ثم قام عبد الملك بن مروان، فأخذ بالركن اليماني، ثم قال: اللهم رب السموات السبع، ورب الأرض ذات النبت بعد القفر، أسألك بما سألك به عبادك المطيعون لأمرك، وأسألك بحقك على خلقك وبحق الطائفين حول عرشك"(2) إلى آخره.
__________
(1) …في خ: إنك أول مولود في الهجرة".
(2) …كتاب مجابي الدعاء (ص 121).(166/208)
521 – قلت: وإسماعيل بن أبان الذي روى هذا عن سفيان الثوري كذاب، قال أحمد بن حنبل: كتبت عنه، ثم حدث بأحاديث موضوعه فتركناه(1). وقال يحيى بن معين: وضع حديثاً على السابع من ولد العباس يلبس الخضرة(2) (يعني المأمون). وقال البخاري(3)، ومسلم(4)، وأبوزرعة(5)، والدارقطني(6): متروك. وقال الجوزجاني: ظهر منه على الكذب(7). وقال أبوحاتم: كذاب(8). وقال ابن حبان: يضع على الثقات(9).
وطارق بن عبد العزيز الذي ذكر أن الثوري روى عنه لا يعرف من هو(10)، فإن طارق بن عبد العزيز المعروف(11)
__________
(1) …الميزان (1/211).
(2) …الجرح والتعديل (2/160)، والميزان (1/211).
(3) …الضعفاء الصغير له (ص 23)، رقم 16.
(4) …الميزان (1/212)، وقال النسائي في الضعفاء (ص 48): "متروك الحديث".
(5) …الجرح والتعديل (2/160).
(6) …ذكره في الضعفاء والمتروكين (ص 132) من رواية البرقاني.
(7) …أحوال الرجال (ص 84)، رقم (113).
(8) …الجرح والتعديل (2/160) قال: "متروك الحديث، وكان كذاباً".
(9) …كتاب المجروحين (1/128)، وقال: "كان أحمد بن حنبل شديد الحمل عليه".
(10) …فعلاً لا ذكر له في كتب الرجال.
(11) …ذكره ابن أبي حاتم (4/488)، فقال: طارق بن عبد العزيز بن قيس الربعي، ثم العبدي، روى عن محمد بن عجلان، روى عنه عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي، وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري. قال ابن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال: شيخ يذاكر بحديثه ما رأيت بحديثه بأساً في مقدار ما رأيت من حديثه.
…وذكره الحافظ في اللسان (3/204) باسم طارق بن بارق المكي وقال: قال ابن حبان في الثقات: ربما خالف الأثبات في الروايات. ونقل فيه كلام ابن أبي حاتم. وفي الثقات (8/327) طارق بن طارق المكي، يروي عن ابن عجلان، وفيه ما نقله الحافظ عن ابن حبان.(166/209)
الذي روى عنه(1) ابن عجلان ليس من هذه الطبقة.
522 – وقد خولف فيها، فرواها أبونعيم عن الطبراني: حدثنا أحمد ابن زيد بن الجريش، حدثنا أبوحاتم السجستاني، حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: "اجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله بنو الزبير، وعبد الله بن عمر فقالوا: تمنوا فقال عبد الله بن الزبير أَمَّا أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أَمَّا أنا فأتمنى أن يوخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحسين، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة. قال: فنالوا كلهم ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له"(2)
__________
(1) …كذا في الأصل والنسخ المطبوعة ومجموع الفتاوى ولعله سبق قلم من الناسخ والصواب "عن" لأنه يروي عن ابن عجلان كما في الجرح والتعديل.
(2) …الحلية (2/91)، قال: حدثنا أحمد بن بندار، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، ثنا سليمان بن معبد، ثنا الأصمعي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: اجتمع في الحجر مصعب بن الزبير، وعروة بن الزبير، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وذكر القصة. فلعل الإسناد الذي ذكره شيخ الإسلام، قد ذكره أبونعيم في موضع آخر، أو سبق نظره إلى إسناد آخر، فإن أبا نعيم كثيراً ما يروي عن الطبراني.
…أحمد بن بندار لعله أحمد بن بندار بن إسحاق الأصبهاني الغار الظاهري وثقه أبونعيم، توفي 359، السير للذهبي (16/ 61 – 62).
…وعبد الله بن سليمان بن الأشعث، هو ابن أبي داود، ثقة. تأريخ بغداد (9/464 – 469).
…وسليمان بن معبد، هو أبوداود المروزي السنجي، ثقة. التقريب (1/230).
…والأصمعي، هو عبد الملك بن قُريب، الشاعر المشهور، صدوق.
…وعبد الرحمن بن أبي الزناد، صدوق تغير حفظه، وكان فقيهاً. التقريب (1/480). فهو إسناد جيد فإذا انضم إلى الإسناد الذي ذكره شيخ الإسلام ازداد قوة، إذا سلم من الانقطاع بين عبد الرحمن وأصحاب القصة. وعلى كل فهو خيرٌ من ذاك الإسناد.(166/210)
.
523 - قلت: وهذا إسناد خير من ذاك الإسناد باتفاق أهل العلم، وليس فيه سؤال بالمخلوقات.
وفي الباب حكايات عن بعض الناس، أنه رأى مناماً قيل له فيه: ادع بكذا وبكذا، ومثل هذا لايجوز أن يكون دليلاً باتفاق العلماء.
وقد ذكر بعض هذه الحكايات من جمع في الأدعية.
524 – ورُُوي في ذلك أثر عن بعض السلف، مثل ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء، قال: حدثنا أبوهاشم، سمعت كثير(1) ابن محمد ابن كثير بن رفاعة(2) يقول: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد ابن أبجر، فجس بطنه فقال: بك داء لا يبرأ. قال: ماهو؟ قال: الدُّبَيْلة(3). قال: فتحول الرجل فقال: الله الله، الله ربي، لا أشرك به شيئاً، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - تسليماً، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك وربي يرحمني مما بي. قال فجس بطنه فقال: قد برئت ما بك علة(4).
525 – قلت: فهذا الدعاء ونحوه قد روي أنه دعا به السلف، ونقل عن أحمد بن حنبل في منسك المروذي التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء، ونهى به(5) آخرون. فإن كان مقصود المتوسلين التوسل بالإيمان به وبمحبته وبموالاته وبطاعته، فلا نزاع بين الطائفتين، وإن كان مقصودهم التوسل بذاته فهو محل النزاع، وما تنازعوا فيه يرد إلى الله والرسول. وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود مما يدل على أنه سائغ في الشريعة، فإن كثيراً من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين، ويحصل ما يحصل من غرضه(6)./
__________
(1) …لم أقف له على ترجمة.
(2) …لم أقف له على ترجمة.
(3) …وردت في حديث عامر بن الطفيل "فأخذته الدبيلة" وهي خراج ودمل كبير تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالباً.
(4) …مجابوا الدعاء (ص 154).
(5) …كذا في خ ولعل الصواب عنه.
(6) …في مجموع الفتاوى (1/224) "غرضهم" وهو في الأصل غير واضح والمناسب ما في المجموع".(166/211)
526 – وبعض الناس يقصد الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي(1) في الكنائس، ويحصل ما يحصل من غرضه. وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين، ويحصل ما يحصل من غرضه. فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحاً، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته. والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها.
527 – كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته(2) أمر به الشارع. فهذا أصل يجب اعتباره، ولا يجوز أن يكون الشيء واجباً أو مستحباً إلا بدليل شرعي يقتضي إيجابه أو استحبابه. والعبادات لا تكون إلا واجبة أو مستحبة، فما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة. والدعاء لله تعالى عبادة إن كان المطلوب به أمراً مباحاً.
528 – وفي الجملة فقد نقل عن بعض السلف والعلماء به السؤال به، بخلاف دعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والملائكة والصالحين، والاستغاثة بهم والشكوى إليهم، فهذا مما لم يفعله أحد من السلف، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا رخص فيه أحد من أئمة المسلمين.
__________
(1) …في خ: "الذي".
(2) …في خ: "مفسدة".(166/212)
529 – وحديث الأعمى الذي رواه الترمذي(1) والنسائي(2) هو من القسم الثاني من التوسل بدعائه، فإن الأعمى قد طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره. فقال له: "إن شئت صبرت وإن شئت دعوت". فقال: بل ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويقول: "اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة، يامحمد يارسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهم فشفعه في". فهذا توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال: وشفعه في، فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه وهو دعاؤه.
وهذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ببركة دعائه لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره.
530 – وهذا الحديث – حديث الأعمى – قد رواه المصنفون في دلائل النبوة كالبيهقي وغيره:
__________
(1) …في السنن (5/569)، باب (119)، حديث (3578)، وتحفة الأحوذي (10/32 – 34).
(2) …في عمل اليوم والليلة (ص 417، 718)، حديث (658 – 660).(166/213)
رواه البيهقي(1) من حديث عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر الخطمي، قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت، يحدث عن عثمان ابن حنيف، أن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال له: "إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت". قال: فادعُه، فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فيقضيها لي، اللهم فشفعه في وشفعني فيه. قال: فقام وقد أبصر.
ومن هذا الطريق رواه الترمذي من حديث عثمان بن عمر.
ومنها رواه النسائي وابن ماجه(2) أيضاً.
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي(3).
هكذا وقع في الترمذي وسائر العلماء قالوا هو أبوجعفر الخطمي وهو الصواب.
__________
(1) …في دلائل النبوة (6/166 – 168)، باب ما في تعليمه الضرير ما كان فيه شفاؤه، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة. وأخرجه الإمام أحمد (4/138)، والحاكم، في المستدرك (1/313).
(2) …(1/441)، 5 – كتاب إقامة الصلاة، 189 – باب ماجاء في صلاة الحاجة، حديث (1385).
(3) …هذا النص هو كما ذكره شيخ الإسلام في الطبعة الهندية (2/119) وفي تحفة الأحوذي (10/34). أما في الطبعة المصرية، بتحقيق إبراهيم عطوة عوض، ففيها: "هذا حديث حسن صحيح غريب إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر، وهو الخطمي" وكذلك الأمر في عارضة الأحوذي (13/81) ويبدو أن كلمة غير سقطت منهما.(166/214)
531 – وأيضاً فالترمذي ومن معه لم يستوعبوا لفظه كما استوعبه سائر العلماء بل رووه إلى قوله "اللهم شفعه فيَّ". قال الترمذي(1): حدثنا محمود ابن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادعُ الله أن يعافيني. قال: "إن شئت صبرت فهو خير لك". قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي، اللهم شفعه فيَّ.
532 – قال البيهقي: رويناه في كتاب الدعوات بإسناد صحيح، عن روح بن عبادة، عن شعبة، قال: ففعل الرجل فبرأ(2).
قال: وكذلك رواه حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي(3).
533 – قلت: ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن روح / بن عبادة كما ذكره البيهقي. قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المديني: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت، يحدث عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يانبي الله ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك". قال: لا بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ، وأن يصلي ركعتين، وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد إني أتوجه بك إلى الله في حاجتي هذه، فتقضي لي وتشفعني فيه وتشفعه في". قال: ففعل الرجل فبرئ(4).
__________
(1) …السنن (5/569)، حديث 3578.
(2) الدلائل (6/167)، ورواية حماد بن سلمة – أيضاً – في مسند أحمد (4/138).
(4) …مسند أحمد (4/138).(166/215)
534 – ورواه البيهقي أيضاً من حديث شبيب بن سعيد الحبطي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المديني – وهو الخطمي(1) – عن أبي أمامة [ابن] سهل بن حنيف، عن عثمان بن حنيف، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل ضرير يشتكي إليه ذهاب بصره، فقال: يارسول الله ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي عن بصري، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي". قال عثمان بن حنيف: والله ما تفرقنا ولاطال الحديث بنا حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضر قط(2).
__________
(1) …واسمه عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري المدني ثم البصري.
(2) …الدلائل (6/167، 168) من طريق محمد بن علي بن يزيد الصائغ، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي، قال: حدثني أبي، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر به.(166/216)
535 – فرواية شبيب، عن روح، عن أبي جعفر الخطمي، خالفت رواية شعبة وحماد بن سلمة في الإسناد(1) والمتن، فإن في تلك أنه رواه أبوجعفر، عن عمارة بن خزيمة، وفي هذه أنه رواه عن أبي أمامة [بن] سهل، وفي تلك الرواية أنه قال: فشفعه في وشفعني فيه، وفي هذه وشفعني في نفسي. لكن هذا الإسناد له شاهد آخر من رواية هشام الدستوائي عن أبي جعفر(2).
__________
(1) …تكررت كلمة "في الإسناد" في خ.
(2) …الاختلاف في الإسناد، ذكره النسائي، في عمل اليوم والليلة (ص 418) قال – بعد أن روى الحديث من طريق حماد بن سلمة وشعبة، عن أبي جعفر -: "وخالفهما هشام الدستوائي، وروح بن القاسم، فقالا عن أبي جعفر عمير بن يزيد بن خراشة، عن أبي أمامة بن سهل، عن عثمان بن حنيف، ثم قال: أخبرني زكريا بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثني معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه، أن أعمى أتى النبي e فقال: وذكر الحديث، وفيه: "وشفعني في نفسي". وكذلك في رواية حماد، عند النسائي: "وشفعني في نفسي". وكذلك عند البيهقي في الدلائل.
…أقول: من أئمة الحديث من وثق أبا جعفر عمير بن يزيد الخطمي وقال الحافظ فيه: "صدوق"، وفي النفس من الاختلاف عليه في إسناد هذا الحديث ومتنه وفي النفس شيء من تفرده بهذا الحديث فإنه يدور عليه وحده، فليس له متابعات ولا شواهد.(166/217)
536 – ورواه البيهقي من هذه الطريق، وفيه قصة قد يحتج بها من توسل به بعد موته – إن كانت صحيحة – رواه من حديث إسماعيل ابن شبيب بن سعيد الحبطي، عن شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر المدني، عن أبي أمامة [بن] سهل بن حنيف، أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته، فلقي الرجل عثمان بن حنيف، فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: إئت الميضأة، فتوضأ، ثم إئت المسجد، فصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي، فيقضي لي حاجتي. ثم اذكر حاجتك ثم رح حتى أروح(1). قال فانطلق الرجل، فصنع ذلك، ثم أتى بعدُ عثمان بن عفان، فجاء البواب، فأخذ بيده، فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطنفسة وقال: انظر ما كانت لك من حاجة، فذكر حاجته، فقضاها له، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إليَّ حتى كلمته في. فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، وجاءه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أو تصبر؟". فقال له: يارسول الله ليس لي قائد وقد شق عليّ، فقال: إئت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد إني أتوجه بك إلى ربي فيجلي لي عن بصري، اللهم فشفعه في، وشفعني في نفسي". قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وما طال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط(2).
__________
(1) …كذا في خ ولعله سقط بعده كلمة معك على الناسخ.
(2) …الدلائل (6/167 – 168).(166/218)
537 – قال البيهقي: ورواه أحمد بن شبيب بن سعيد عن أبيه بطوله، وساقه من رواية يعقوب بن سفيان، عن أحمد بن شبيب بن سعيد، قال: ورواه أيضا هشام الدستوائي، عن أبي جعفر، عن(1) أبي أمامة بن سهل، عن عمه – وهو عثمان بن حنيف – ولم يذكر إسناد هذه الطريق(2).
538 – قلت: وقد رواه النسائي في كتاب "عمل اليوم والليلة"(3) من هذه الطريق، من حديث معاذ بن هشام، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف.
ورواه أيضاً من حديث شعبة وحماد بن سلمة، كلاهما عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة، ولم يروه أحد من هؤلاء – لا الترمذي، ولا النسائي، ولا ابن ماجه – من تلك الطريق الغريبة، التي فيها الزيادة، طريق شبيب ابن سعيد، عن روح بن القاسم.
539 – لكن رواه الحاكم في مستدركه/ من الطريقين، فرواه من حديث عثمان بن عمر: حدثنا شعبة، عن أبي جعفر المدني، سمعت عمارة بن خزيمة يحدث، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
أدع الله أن يعافيني فقال: "إن شئت أخرت ذلك فهو خير لك، وإن شئت دعوت". قال: فادعه. فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء:
"اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، اللهم فشفعه في وشفعني فيه". قال الحاكم: على شرطهما.
__________
(1) …من قوله: "شبيب بن سعيد" إلى هنا، سقط من ز.
(2) …الدلائل (6/168)، والأمر كما قال شيخ الإسلام.
(3) …(ص 418)، حديث رقم (658 – 660). وقد تقدم تخريجها ص (201).(166/219)
540 – ثم رواه من طريق شبيب بن سعيد الحبطي، وعون بن عمارة، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر الخطمي المدني، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عمه عثمان بن حنيف، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره وقال: يارسول الله ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال: "ائت الميضأة، فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل:
اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي، فيجلي لي عن بصري، اللهم فشفعه في وشفعني في نفسي". قال عثمان فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث، حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط. قال الحاكم: على شرط البخاري(1).
541 – وشبيب هذا صدوق(2)، روى له البخاري، لكنه قد رُوي له عن روح بن الفرج(3) أحاديث مناكير، رواها ابن وهب، وقد ظن أنه غلط عليه. ولكن قد يقال مثل هذا إذا انفرد عن الثقات – الذين هم أحفظ منه، مثل شعبة وحماد بن سلمة وهشام الدستوائي – بزيادة، كان ذلك عليه في الحديث، لا سيما وفي هذه الرواية أنه قال: "فشفعه في وشفني في نفسي". وأولئك قالوا: "فشفعه في وشفعني فيه". وبمعنى قوله: "وشفعني فيه" أي في دعائه، وسؤاله لي، فيطابق قوله: "وشفعه في"(4)
__________
(1) …المستدرك (1/313، 519، 526) من الطرق التي ذكرها شيخ الإسلام.
(2) …قال الحافظ: شبيب بن سعيد الحبطي البصري. أبوسعيد، لا بأس بحديثه، من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب/ خ، خد، س. تقريب (1/346).
(3) …كذا في الأصل وجميع النسخ المطبوعة والصواب هنا وفيما يأتي روح بن القاسم إذ ليس لشيب شيخ يسمى روح ابن الفرج راجع ترجمته في تهذيب الكمال. وانظر هذا في الكامل لابن عدي إذ هذا الكلام الذي نقله شيخ الإسلام إنما هو لابن عدي وليس فيه إلا روح ابن القاسم.
(4) …الذي وقفت عليه من اختلاف في رواية هذه الألفاظ:
…أ – من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر: "اللهم شفعه في". عند الترمذي، وأحمد، والنسائي، في عمل اليوم والليلة.
…ب – عثمان بن عمر، عن شعبة، عن أبي جعفر. وشبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن أبي جعفر: "اللهم شفعه في وشفعني في نفسي". ويمكن أن يكون هذا وهماً من البيهقي، أو من أحد رجال الإسناد. والله أعلم.
…ج – من طريق هشام الدستوائي، عن أبي جعفر: "اللهم شفعه في وشفعني في نفسي". عند النسائي، في عمل اليوم والليلة.
…د – روحِ، عن شعبة، عن أبي جعفر. وحماد بن سلمة، عن أبي جعفر: "اللهم شفعني فيه، وشفعه في". عند الإمام أحمد.(166/220)
.
542 – قال أبو أحمد بن عدي في كتابه المسمى "بالكامل في أسماء الرجال"، ولم يصنف في فنه مثله: شبيب بن سعيد الحبطي أبو سعيد البصري التميمي، حدث عنه ابن وهب بالمناكير، وحدث عن يونس، عن الزهري بنسخة الزهري أحاديث مستقيمة، وذكر عن علي ابن المديني أنه قال: هو بصري ثقة كان من أصحاب يونس، كان يختلف في تجارة إلى مصر، وجاء بكتاب صحيح.
قال: وقد كتبتها(1) عن ابنه أحمد بن شبيب. وروى عن(2) عدي حديثين عن ابن وهب، عن شبيب هذا عن روح ابن القاسم(3):
أحدهما: عن ابن(4) عقيل، عن سابق بن ناجية، عن ابن سلام(5) قال: مر بنا رجل فقالوا: إن هذا قد خدم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثاني: عنه، عن روح بن القاسم، عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة حديث دخول المسجد. قال ابن عدي: كذا قيل في الحديث عن عبد الله بن الحسين، عن أمه فاطمة بنت الحسين، عن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) …هذا قول ابن المديني. انظر الكامل لابن عدي المخطوط 2/ق1، 162، وتهذيب الكمال للمزي (12/321).
(2) …كذا في الأصل والظاهر "ابن عدي".
(3) …وتقدم التنبيه عليه في حاشية رقم (3) ص 208.
(4) …الصواب: عن أبي عقيل انظر الكامل (2/ق/162).
(5) …الصواب عن أبي سلام. انظر الكامل (2/ق 162). وانظر الكنى للدولابي (2/33)، والجرح والتعديل (4/307).(166/221)
543 – قال ابن عدي: ولشبيب بن سعيد نسخة الزهري عنده، عن يونس، عن الزهري، وهي أحاديث مستقيمة. حدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير. و [إن] حديثي روح بن القاسم اللذين أمليتهما، يرويهما بن وهب عن شبيب. وكان شبيب بن سعيد إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب – نسخة الزهري: ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير التي يرويها عنه، ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه فيغلط ويهم. – وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب(1).
544 – قلت: هذان الحديثان اللذان أنكرهما ابن عدي عليه، رواهما عن روح بن القاسم، وكذلك هذا الحديث، حديث الأعمى رواه عن روح بن القاسم. وهذا الحديث مما رواه عنه ابن وهب أيضاً، كما رواه عنه ابناه، لكنه لم يُتقن لفظه كما أتقنه ابناه، وهذا يصحح ما ذكره ابن عدي، فعلم أنه محفوظ عنه.
وابن عدي أحال الغلط عليه لا على ابن وهب، وهذا صحيح إن كان قد غلط، وإذا كان قد غلط على روح بن القاسم في ذينك الحديثين أمكن أن يكون غلط عليه في هذا الحديث.
545 – وروح بن القاسم ثقة مشهور، روى له الجماعة فلهذا لم يحيلوا الغلط عليه. والرجل قد يكون حافظاً لما يرويه عن شيخ، وغير حافظ لما يرويه عن آخر، مثل إسماعيل بن عياش فيما / يرويه عن الحجازيين، فإنه يغلط فيه، بخلاف ما يرويه عن الشاميين. ومثل سفيان بن حسين فيما يرويه عن الزهري. ومثل هذا كثير، فيحتمل أن يكون هذا يغلط فيما يرويه عن روح بن القاسم – إن كان الأمر كما قاله ابن عدي – وهذا محل نظر.
__________
(1) …الكامل لابن عدي (4/1347 – 1348) من قوله: قال أبو أحمد بن عدي إلى هنا.(166/222)
…546 – وقد روى الطبراني(1) هذا الحديث في المعجم، من حديث ابن وهب، عن شبيب بن سعيد. رواه من حديث أصبغ بن الفرج: حدثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك عز وجل فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له.
…ثم أتى باب عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له.
…ثم قال له: ماذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فائتنا.
…ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا ماكان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمته فيَّ. فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتصبر؟ فقال: يارسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق [علي]، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ائت الميضأة، فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم ادع بهذه الدعوات". فقال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.
…قال الطبراني(2): روى هذا الحديث شعبة، عن أبي جعفر واسمه عمير بن يزيد، وهو ثقة، تفرد به عثمان بن عمر، عن شعبة، قال أبوعبد الله المقدسي: والحديث صحيح.
__________
(1) …المعجم الصغير (1/183 - 184) بالإسناد والمتن اللذين ذكرهما شيخ الإسلام وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 234)، حديث (633).
(2) …المعجم الصغير (1/184).(166/223)
…547 - قلت: والطبراني ذكر تفرده بمبلغ علمه، ولم تبلغه رواية روح بن عبادة، عن شعبة. وذلك إسناد صحيح، يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر.
…وطريق ابن وهب هذه تؤيد ما ذكره ابن عدي، فإنه لم يحرر لفظ الرواية كما حررها ابناه، بل ذكر فيها أن الأعمى دعا بمثل ما ذكره عثمان بن حنيف، وليس كذلك بل في حديث الأعمى أنه قال: "اللهم فشفعه في وشفعني فيه - أو قال - في نفسي". وهذه لم يذكرها ابن وهب في روايته، فيشبه أن يكون حدث ابن وهب من حفظه كما قال ابن عدي، فلم يتقن الرواية.
…548 - وقد روى أبوبكر بن أبي خيثمة في تاريخه حديث حماد ابن سلمة فقال:
…حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن سلمة، نا أبوجعفر الخطمي، عن عمارة بن خزيمة، عن عثمان بن حنيف، أن رجلاً أعمى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أصبت في بصري، فادع الله لي. قال: "اذهب فتوضأ، وصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أستشفع بك على ربي في رد بصري، اللهم فشفعني في نفسي، وشفع نبيي في رد بصري، وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك". فرد الله عليه بصره.
…قال ابن أبي خيثمة: وأبوجعفر هذا - الذي حدث عنه حماد بن سلمة - اسمه عمير بن يزيد، وهو أبوجعفر، الذي يروي عنه شعبة.
…ثم ذكر الحديث من طريق عثمان بن عمر، عن شعبة.
…549 - قلت: وهذه الطريق فيها: "فشفعني في نفسي" مثل طريق روح بن القاسم، وفيها زيادة أخرى وهي قوله: "وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك - أو قال - فعل مثل ذلك".
…وهذه قد يقال: إنها توافق قول عثمان بن حنيف، لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى، وقوله: "وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك". قد يكون مدرجاً من كلام عثمان، لا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يقل: "وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك" بل قال: "وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك".(166/224)
…550 - وبالجملة فهذه الزيادة لو كانت ثابتة لم تكن فيها حجة، وإنما غايتها أن يكون عثمان / بن حنيف ظن أن الدعاء يدعى ببعضه دون بعض، فإنه لم يأمره بالدعاء المشروع بل ببعضه، وظن أن هذا مشروع بعد موته - صلى الله عليه وسلم -.
…ولفظ الحديث يناقض ذلك، فإن في الحديث، أن الأعمى سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، وأنه علم الأعمى أن يدعو وأمره في الدعاء أن يقول: "اللهم فشفعه فيَّ". وإنما يدعى بهذا الدعاء إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - داعياً شافعاً له بخلاف من لم يكن كذلك، فهذا يناسب شفاعته ودعاءه للناس في محياه في الدنيا ويوم القيامة إذا شفع لهم.
…551 - وفيه أيضاً أنه قال: "وشفعني فيه".
…وليس المراد أن يشفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كنا مأمورين بالصلاة والسلام عليه، وأمرنا أن نسأل الله له الوسيلة.
…ففي صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال إذا سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة"(1).
…وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة"(2).
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (73).
(2) …تقدم تخريجه في ص (72).(166/225)
…552 - وسؤال الأمة له الوسيلة هو دعاء له، وهو معنى الشفاعة، ولهذا كان الجزاء من جنس العمل، فمن صلى عليه، صلى [عليه] الله، ومن سأل الله له الوسيلة المتضمنة لشفاعته، شفع له - صلى الله عليه وسلم -، كذلك الأعمى سأل منه الشفاعة، فأمره أن يدعو الله بقبول هذه الشفاعة، وهو كالشفاعة في الشفاعة. فلهذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه.
…553 - وذلك أن قبول دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا هو من كرامة الرسول على ربه، ولهذا عد هذا من آياته ودلائل نبوته، فهو كشفاعته يوم القيامة في الخلق، ولهذا أمر طالب الدعاء أن يقول: "فشفعه في وشفعني فيه". بخلاف قوله: "وشفعني في نفسي". فإن هذا اللفظ لم يروه أحد إلا من هذا الطريق الغريب.
…554 - وقوله: "وشفعني فيه". رواه عن شعبة رجلان جليلان: عثمان بن عمر، وروح بن عبادة. وشعبة أجل من روى هذا الحديث، ومن طريق عثمان بن عمر، عن شعبة رواه الثلاثة: الترمذي والنسائي وابن ماجه.
…رواه الترمذي(1)، عن محمود بن غيلان، عن عثمان بن عمر، عن شعبة.
…ورواه ابن ماجه(2)، عن أحمد بن يسار، عن عثمان بن عمر.
…555 - وقد رواه أحمد في "المسند"(3) عن روح بن عبادة، عن شعبة، فكان هؤلاء أحفظ للفظ الحديث. مع أن قوله: "وشفعني في نفسي"، إن كان محفوظاً مثل ماذكرناه، وهو أنه طلب أن يكون شفيعاً لنفسه، مع دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يدع له النبي - صلى الله عليه وسلم - كان سائلاً مجرداً كسائر السائلين.
…ولا يسمى مثل هذا شفاعة، وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (201).
(2) …تقدم تخريجه في ص (202).
(3) …تقدم تخريجه في ص (204).(166/226)
…556 - فهذه الزيادة فيها عدة علل: انفراد هذا بها عن من هو أكبر وأحفظ منه، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عرف له - عن روح هذا - أحاديث منكرة.
…ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك في كونها ثابتة، فلا حجة فيها، إذ الاعتبار بما رواه الصحابي، لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه، بل على خلافه.
…557 - ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه - مع [أن] النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدعُ له - كان هذا كلاماً باطلاً، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، ولا أن يقول فشفعه فيَّ، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعة، ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: "فشفعه فيَّ" لكان كلاماً لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان. والدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثوراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
…558 - ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة، في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالفه لا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول.(166/227)
…559 - ولهذا / نظائر كثيرة: مثل ما كان عمر(1) يدخل الماء في عينيه في الوضوء(2)، ويأخذ لأذنيه ماءً جديداً(3).
…وكان أبوهريرة يغسل يديه إلى العضد في الوضوء ويقول: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل.
…وروي عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول: هو موضع الغل.
…560 - فإن هذا وإن استحبه طائفة من العلماء اتباعاً لهما، فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا: سائر الصحابة لم يكونوا يتوضئون هكذا، والوضوء الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - الذي في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء جديد للأذنين، ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين، ولا مسح العنق، ولا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل(4)
__________
(1) …في خ وسائر النسخ والصواب ابن عمر ويؤكده نسبة ذلك إليه ما في مصنف عبد الرزاق والسنن الكبرى للبيهقي.
(2) …في السنن الكبرى للبيهقي (1/177)، من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - "كان إذا اغتسل من الجنابة نضح الماء في عينيه، وأدخل أصبعه في سرته".
(3) …وفي السنن الكبرى للبيهقي أيضاً (1/65)، من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر، "كان يعيد أصبعه في الماء فيمسح بها أذنيه". وانظر المصنف لعبد الرزاق (1/11 - 13).
(4) …الحديث في البخاري، 4 - كتاب الوضوء، 3 - باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء، حديث (136). ومسلم (1/216)، 2 - كتاب الطهارة، 12 - باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، حديث (34، 35). وأحمد (2/334، 362، 400، 523) كلهم من طريق نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة مرفوعاً ولفظ البخاري: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غُرًّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل".
…ولفظ مسلم، عن نعيم بن عبد الله المجمر قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى، حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى، حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى، حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى، حتى أشرع في الساق. ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباع الوضوء، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله".
…وفي لفظ لمسلم: "فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه، حتى رفع إلى الساقين".
…وفي مسند أحمد (2/334، 523)، بعد رواية الحديث فقال نعيم: "لا أدري قوله: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من قول أبي هريرة". قال الحافظ في الفتح (1/235 - 236): "وزاد الإسماعيلي فيه: فغسل وجهه ويديه، فرفع في عضديه، وغسل رجليه، فرفع في سابقيه". وكذا لمسلم عن نعيم، من طريق عمرو ابن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال نحوه. ومن طريق عمارة بن غزية، وزاد في هذه أن أبا هريرة قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فأفاد رفعه، وفيه رد على من زعم أن ذلك رأي أبي هريرة، بل من روايته ورأيه معاً".
…أقول: ولمسلم أيضاً من طريق أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، قال: كنت خلف أبي هريرة، وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى يبلغ إبطَهُ. فقلت له: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: بني فروخ أنتم ههنا؟ لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء. سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". ففي تخفي أبي هريرة بهذا الوضوء، وبقوله هذا، وفي قول نعيم لا أدري قوله: "من استطاع أن يطيل غرته فليفعل". من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من قول أبي هريرة. ونعيم هو مدار هذا الحديث. في كل هذا ما يؤيد من ذهب إلى تعليل هذه الجملة من الحديث، لا سيما وفي إسنادها خالد بن مخلد القطواني، وهو صدوق يتشيع. وعمارة ابن غزية الأنصاري المدني، قال فيه الحافظ: لا بأس به.(166/228)
.
…561 - بل هذا من كلام أبي هريرة، جاء مدرجاً في بعض الأحاديث، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء". وكان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، حتى يشرع في العضد والساق، فقال أبوهريرة: من استطاع أن يطيل غرته [فليفعل]. وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة، وهذا لا معنى له فإن الغرة في الوجه لا في اليد والرجل، وإنما في اليد والرجل الحجلة. والغرة لا يمكن إطالتها، فإن الوجه يغسل كله، لا يغسل الرأس، ولا غرة في الرأس، والحجلة لا يستحب إطالتها، وإطالتها مثلة.
…562 - وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينزل مواضع منزله، ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها.
…563 - ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه(1) مستحباً، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كمالم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر. ولو رأوه مستحباً، لفعلوه، كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به.
…564 - وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة، شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة، خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يلتمس الحجر الأسود، وأن يصلي خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.
…565 - وأما [ما] فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده - مثل أن ينزل بمكان، ويصلي فيه لكونه نزله لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه.
…فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب.
__________
(1) …في خ "رواه".(166/229)
…566 - كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمي عن المعرور بن سويد، قال: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب، أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس وبِيَعاً. فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض(1).
…567 - فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه، بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب، التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه(2) بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصورة، ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب.
__________
(1) …قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (ص 386): فروى سعيد بن منصور في سننه، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد، عن عمر - رضي الله عنه - قال: خرجنا معه في حجة حجها.. وذكر القصة. وقال ابن وضاح في كتابه البدع والنهي عنها (ص 41 - 42): حدثني إبراهيم بن محمد قال: نا حرملة بن يحيى عن عبد الله بن وهب، عن الأعمش، حدثني مروان بن سويد الأسدي، عن عمر. وساق القصة ثم قال: وثنا موسى بن معاوية قال: نا جرير، عن الأعمش، عن المعرور بن سويد: خرجنا حجاجاً مع عمر... القصة وليس من شيوخ الأعمش مروان بن سويد الأسدي وإنما هو مسعود بن مالك الأسدي فلعل مروان خطأ من الطابعين، أو من بعض النساخ. وعلى كل حال فالقصة صحيحة.
(2) …في خ: "متشبها".(166/230)
…568 - وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في النية أبلغ من المتابعة في صورة العمل، ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة(1): هل فعلها استحباباً أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها.
…569 - وكذلك نزوله بالمحصب عند الخروج من منى لما اشتبه: هل فعله لأنه كان أسمح بخروجه، أو لكونه سنة؟ تنازعوا في ذلك.
…ومن هذا وضعُ ابن عمر يده على مقعد النبي - صلى الله عليه وسلم -(2).
__________
(1) …يشير إلى حديث مالك بن الحويرث الليثي: "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً". أخرجه البخاري، 10 - كتاب الأذان، 142 - باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته، ثم نهض، حديث (832). والترمذي (2/79) أبواب الصلاة، 213 - باب كيف النهوض من السجود، حديث (287). وأبوداود (1/526 - 527)، 2 - كتاب الصلاة، 142 - باب النهوض في الفرد، حديث (842 - 844) وأحمد (5/53 - 54).
…وجلسة الاستراحة وردت في حديث أبي حميد الساعدي. كما رواه الترمذي (2/106 - 107)، أبواب الصلاة، حديث (304)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) …الشفاء للقاضي عياض (2/53 - 54) بدون إسناد، بلفظ: "ورؤي ابن عمر واضعاً يده على مقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنبر ثم وضعها على وجهه".(166/231)
…وتعريف ابن عباس(1) بالبصرة، وعمرو بن حريث بالكوفة، فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعه لأمته لم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة.
…570 - بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا أنه سنة مستحبة سنها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته.
…أو يقال في /التعريف: إنه لا بأس به أحياناً لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة.
…571 - وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله: تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين. فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ ليس لغيره أن يسن ولا يشرع، وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سننه، ولا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه، ولا حراماً إلا ما حرمه، ولا مستحباً إلا ما استحبه، ولا مكروها إلا ما كرهه، ولا مباحاً إلا ما أباحه.
__________
(1) …قال عبد الرزاق في المصنف (4/376): أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: قال عدي بن أرطأة للحسن، ألا تخرج بالناس فتعرف بهم؟ وذلك بالبصرة، فقال الحسن: إنما المعرَّف بعرفة، قال: وكان الحسن يقول: أول من عرَّف بأرضنا ابن عباس. ثم بين هذا التعريف فقال (4/377): عن ابن التيمي عن أبيه قال: سمعت الحسن يقول: أول من عرّف بأرضنا ابن عباس كان يتعد عشية عرفة، فيقرأ القرآن، البقرة آية آية، وكان مثجاً عالماً. ثم قال: عن معمر عن مغيرة عن إبراهيم، قال: "كان الناس يعرفون في المسجد بالكوفة، فلا يعرف معهم" المصنف (4/378 - 379). وروى البيهقي بإسناده إلى شعبة قال: "سألت الحكم وحماداً عن اجتماع الناس يوم عرفة في المساجد، فقالا: هو محدث، وعن منصور عن إبراهيم قال: هو محدث، وعن قتادة عن الحسن قال: أولُ من صنع ذلك ابن عباس" السنن الكبرى (5/118).(166/232)
…572 - وهكذا في الإباحات، كما استباح أبو طلحة أكل البَرد وهو صائم(1).
…واستباح حذيفة السحور بعد ظهور الضوء المنتشر حتى قيل هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع(2). وغيرهما من الصحابة لم يقل بذلك، وجب الرد إلى الكتاب والسنة.
__________
(1) …انظر مسند أحمد (3/279) بإسناد صحيح. وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (1/481) حديث (1022).
(2) …المسند (6/532) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن حذيفة، ومن طريق سفيان الثوري عن عاصم عن زر بن حبيش، قلت: لحذيفة أي تسحرتم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع". وعاصم صدوق له أوهام. قال ابن حزم بعد أن روى ما يقرب من هذا الحديث من الأحاديث والآثار: "هذا كله على أنه لم يكن يتبين له الفجر بعد، فبهذا تتفق السنن مع القرآن".(166/233)
…573 - وكذلك الكراهية والتحريم. مثل كراهة عمر وابنه للطيب قبل الطواف بالبيت(1)
__________
(1) …روى مالك في الموطأ (1/410)، 20 - كتاب الحج، 73 - باب الإفاضة، حديث (222)، عن نافع وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب، قال: "من رمى جمرة العقبة ثم حلق أو قصر ونحر هديا، إن كان معه، فقد حل له ما حرم عليه، إلا النساء والطيب، حتى يطوف بالبيت". وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5/135 - 136) من طريق أبي اليمان عن شعيب عن نافع عن ابن عمر، ومن طريق معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر به. ثم روى بإسناده إلى الشافعي أنبأ سفيان عن عمرو بن دينار عن سالم قال: "قالت عائشة - رضي الله عنها - أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحله وإحرامه، قال سالم: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع". وفي البخاري 5 - كتاب الغسل 14 - باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب (حديث /270) من طريق إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: سألت عائشة، فذكرت لها قول ابن عمر: "ما أحب أن أصبح محرماً أنضح طيباً" فقالت عائشة - رضي الله عنها -: "أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم طاف على نسائه". قال الحافظ في الفتح (1/281): "ومن فوائده - أيضاً - رد بعض الصحابة على بعض بالدليل، واطلاع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما لا يطلع عليه غيرهن من أفاضل الصحابة". وفي صحيح مسلم (2/849 - 850) 15 - كتاب الحج حديث 47، 49، "ما أحب أن أصبح محرماً أنضح طيبا؛ لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك وفيه جواب عائشة عليه"، وانظر سنن النسائي (5/109)، ومسند أحمد (6/175). قال الحافظ ابن حجر: "وكان ابن عمر يتبع أباه، فإنه كان يكره استدامة الطيب بعد الإحرام كما سيأتي، وكانت عائشة تنكر عليه ذلك، وقد روى سعيد بن منصور، من طريق عبد الله بن عبد الله بن عمر، أن عائشة كانت تقول: "لا بأس بأن يمس الطيب عند الإحرام، قال: فدعوت رجلاً وأنا جالس بجنب ابن عمر، فأرسلته إليها، وقد علمت قولها، ولكن أحببت أن يسمعه أبي فجاءني رسولي، فقال: إن عائشة تقول: لا بأس بالطيب عند الإحرام فأحب ما بدا لك، قال: فسكت ابن عمر". وكذا سالم بن عبد الله بن عمر يخالف أباه وجده في ذلك، لحديث عائشة. قال ابن عيينة: "أخبرنا عمرو بن دينار، عن سالم، أنه ذكر قول عمر في الطيب، ثم قال: قالت عائشة - رضي الله عنها - فذكر الحديث، قال سالم: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع". قال الحافظ: "ويؤخذ منه أن المفزع في النوازل إلى السنن، وأنه مستغنى بها عن أراء الرجال، وفيها المقنع". الفتح (3/298).(166/234)
.
…وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى التمتع، أو التمتع مطلقاً(1)، أو رأى تقدير مسافة القصر بحدٍّ حدَّه، وأنه لا يقصر بدون ذلك(2)، أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم في السفر(3).
…ومن ذلك قول سلمان: إن الريق نجس(4).
…وقول ابن عمر: إن الكتابية لا يجوز نكاحها(5).
…وتوريث معاذ ومعاوية للمسلم من الكافر(6).
__________
(1) …انظر صحيح مسلم 15 - كتاب الحج حديث (143، 145، 154، 155، 156، 157، 158).
(2) …من الصحابة من حدها بأربعة برد، وفي مسيرة اليوم، كابن عمر، ومنهم من قال: يقصر في مثل مابين مكة والطائف، وفي مثل مابين مكة وجدة، وفي مثل مابين مكة وعسفان كابن عباس، وهناك أقوال لعلماء آخرين. انظر: الموطأ (1/147 - 148). ومصنف عبد الرزاق (2/524 - 528). ومصنف ابن أبي شيبة (2/443 - 446)، والسنن الكبرى للبيهقي (3/136 - 137)، والبخاري 18 - كتاب تقصير الصلاة 4 - باب في كم يقصر الصلاة. فتح (2/565 - 568).
(3) …انظر الموطأ (1/295) عمل ابن عمر - رضي الله عنهما -. وانظر مصنف عبد الرزاق (4/270) رأى عمر، رضي الله عنه.
(4) …انظر: السنن الكبرى (1/14) عن سلمان قال: "إذا حك أحدكم جلده فلا يمسحه بريقه، فإنه ليس بطاهر".
(5) …في مصنف ابن أبي شيبة (4/158) من طريق ميمون بن مهران عن ابن عمر أنه كره نكاح نساء أهل الكتاب، وقرأ: "ولا تنكحوهن حتى يؤمن. وقال السيوطي الدر المنثور (1/256): "وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه عن نافع عن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المسلمين، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله". ولم أجده في البخاري.
(6) …انظر مصنف ابن أبي شيبة (11/371، 374).(166/235)
…ومنع عمر وابن مسعود للجنب أن يتيمم(1).
…وقول علي وزيد وابن عمر في المفوِّضة: إنه لا مهر لها إذا مات الزوج(2).
…وقول علي وابن عباس في المتوفى عنها الحامل: إنها تعتدُّ أبْعَدَ الأجَلَين(3).
__________
(1) …انظر صحيح البخاري 7 - كتاب التيمم، 8 - باب التيمم ضربة حديث (347). وصحيح مسلم (1/280 - 281)، 3 - كتاب الحيض 28 - باب التيمم، حديث (110 - 113). وأبوداود (1/227 - 229) 1 - كتاب الطهارة حديث (321 - 322). وابن ماجه (1/188) 1 - كتاب الطهارة، 91 - باب ماجاء في التيمم ضربة واحدة حديث (569).
(2) …انظر: مصنف عبد الرزاق (6/292 - 295)، ومصنف ابن أبي شيبة (4/300 - 302)، والمغني لابن قدامة (7/246).
(3) …قول ابن عباس في الموطأ (2/589) في خلاف دار بينه وبين أبي هريرة وأبي سلمة بن عبد الرحمن فسئلت أم سلمة فأجابت بفتوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسبيعة الأسلمية حيث ولدت بعد ليال من وفاة زوجها فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد حللت فانكحي إن شئت". البخاري 65 - كتاب التفسير 65 - سورة الطلاق حديث (4909). وانظر قول علي وابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير ابن جرير (28/143 - 144). وانظر الدر المنثور (8/204 - 206).(166/236)
…وقول ابن عمر وغيره: إن المحرم إذا مات بطل إحرامه وفعل به ما يفعل بالحلال(1).
__________
(1) …أصل هذه المسألة حديث ابن عباس، رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي في سفر فرأى رجلاً سقط عن بعيره، فوقص فمات وهو محرم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يهل أو يلبي". هذا لفظ الترمذي (4/175) مع عارضة الأحوذي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه البخاري، ومسلم، وأبوداود. قال العيني في عمدة القاري (8/51): "احتج به الشافعي وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر في أن المحرم على إحرامه بعد الموت، ولهذا يحرم ستر رأسه وتطييبه، وهو قول عثمان، وعلي، وابن عباس، وعطاء، والثوري، وذهب أبوحنيفة ومالك والأوزاعي إلى أنه يصنع به ما يصنع بالحلال". وانظر: فتح الباري (3/138)، وعارضة الأحوذي (4/175). وبذل المجهود (14/209).(166/237)
…وقول ابن عمر وغيره: لا يجوز الاشتراط في الحج(1).
…وقول ابن عباس وغيره في المتوفى عنها: ليس عليها لزوم المنزل(2).
…وقول عمر وابن مسعود: إن المبتوتة لها السكنى والنفقة(3).
__________
(1) …ينسب هذا القول إلى ابن عمر وعائشة والنخعي والحكم وطاووس ومالك والثوري وأبي حنيفة، وقالوا: لا ينفعه اشتراط، ويمضي على إحرامه. وهذا المذهب مخالف للحديث الصحيح المتفق عليه من حديث عائشة في قصة ضباعة، حينما دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مريضة فقال لها: "لعلك أردت الحج فقالت: والله لا أجدني إلا وجعة، فقال لها: "حجي واشترطي قولي: اللهم محلي حيث حبستني". وأجاز هذا الاشتراط عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وعمار وابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة وعطاء وعلقمة وشريح. انظر عمدة القاري للعيني (20/85)، وشرح النووي لصحيح مسلم (8/132). قال البيهقي: "لو بلغ ابن عمر حديث ضباعة في الاشتراط لقال به، وقال الشافعي لو ثبت حديث عروة (يعني في قصة ضباعة) لم أعده إلى غيره؛ لأنه لا يحل عندي خلاف ما يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال البيهقي: قد ثبت هذا الحديث من أوجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". السنن الكبرى (5/221) والفتح (4/8). وانظر في الموضوع تفسير ابن كثير (1/335) وانظر قول ابن عمر في الترمذي (3/270) 7 - كتاب الحج حديث (942).
(2) …انظر مصنف عبد الرزاق (7/29 - 30)، وهو قول عدد من الصحابة والتابعين كما في المصنف. وانظر السنن الكبرى للبيهقي (7/435 - 436). وسنن سعيد بن منصور (ص 322).
(3) …انظر: هذه المسألة في شرح معاني الآثار (3/68). وعمدة القاري للعيني (20/307 - 308). وفتح الباري (9/477 - 481)، وعون المعبود نشر عبد المحسن السلفي (6/388 - 398)، وزاد المعاد (5/522 - 542)، والمغني لابن قدامة (7/528).(166/238)
…وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة، فإنه يجب فيه الرد إلى الله والرسول، ونظائر هذا كثير فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
…574 - ومن قال من العلماء: "إن قول الصحابي حجة" فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقراراً على القول، فقد يقال: "هذا إجماع إقراري"، إذا عرف أنهم أقروه لم ينكره أحد منهم، هم لا يقرون على باطل.
…575 - وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال: "هو حجة". وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة بالاتفاق.
…576 - وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم.
…577 - وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته من غير أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - داعياً له ولا شافعاً فيه، فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته، كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا.
…578 - بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" فيسقون(1).
…579 - وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، لم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا(2) بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس.
__________
(1) …تقدم ص (88).
(2) …تقدم ص (127).(166/239)
…580 - فلو كان توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما؟ ونعدل عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟.
…581 - فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته.
…582 - وحديث الأعمى حجة لعمر / وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه لا بذاته، وقال له في الدعاء: "قل اللهم شفعه فيَّ"، وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته ولم يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته، كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق [لسنة] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان المخالف لعمر محجوجاً بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الحديث الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة عليه لا له. والله أعلم.
[فصل]
…583 - وأما القسم الثالث مما يسمى: "توسلا" فلا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً يحتج به أهل العلم - كما تقدم(1) بسط الكلام على ذلك - وهو الإقسام على الله عز وجل بالأنبياء والصالحين أو السؤال بأنفسهم، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ثابتاً لا في الإقسام أو السؤال به، ولا في الإقسام أو السؤال بغيره من المخلوقين، وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه، فتكون مسألة نزاع كما تقدم بيانه.
__________
(1) …انظر ص (128 - 129).(166/240)
…584 - فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، ويبدي كل واحد حجته كما في سائر مسائل النزاع، وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين، بل المعاقب على ذلك معتدٍ جاهل ظالم، فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء، والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة.
…585 - وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم كما سبق بسط الكلام في تقرير ذلك(1).
…586 - وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن ينذر لغير الله لا لنبي ولا لغير نبي، وأن هذا نذر شرك لا يوفى به(2).
…587 - وكذلك الحلف بالمخلوقات(3) لا ينعقد به اليمين، ولا كفارة فيه، حتى لو حلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينعقد يمينه كما تقدم ذكره، ولم يجب عليه كفارة عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، بل نهى عن الحلف بهذه اليمين، فإذا لم يجز أن يحلف بها الرجل ولا يقسم بها على مخلوق فكيف يقسم بها على الخالق جل جلاله؟.
…588 - وأما السؤال به من غير إقسام به فهذا أيضاً مما منع منه غير واحد من العلماء، والسنن الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين تدل على ذلك.
__________
(1) …انظر ص 90.
(2) …انظر شرح معاني الآثار 3/132، ومجمع الأنهر 1/547.
(3) …قال في بدر المتقى شرح الملتقى بهامش مجمع الأنهر (1/544): "ولا يكون اليمين بغير الله كالقرآن والنبي والعرش والكعبة، فإنه حرام بل عن ابن عمر وغيره أن الحلف بغير الله شرك، قال الرازي أخاف الكفر على من قال بحياتي وحياتك وفي المنية من يحلف بروح الأمير وحياته ورأسه لم يتحقق إسلامه بعدُ" وانظر مجمع الأنهر في الموضع نفسه.
…وانظر شرح الزرقاني على الموطأ (3/67). وتكملة المجموع شرح المهذب في الفقه الشافعي (16/471 - 472). والمغني لابن قدامة (9/488 - 489).(166/241)
…فإن هذا إنما يفعله من يفعله على أنه قربه وطاعة وأنه مما يستجاب به الدعاء.
…589 - وماكان من هذا النوع فإما أن يكون واجباً وإما أن يكون مستحباً، وكل ما كان واجباً أو مستحباً في العبادات والأدعية فلابد أن يشرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، فإذا لم يشرع هذا لأمته لم يكن واجباً ولا مستحباً ولا يكون قربة وطاعة ولا سبباً لإجابة الدعاء، وقد تقدم بسط الكلام على هذا كله.
…590 - فمن اعتقد ذلك في هذا وفي هذا فهو ضال وكانت بدعته من البدع السيئة، وقد تبين بالأحاديث الصحيحة وما استقريء من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أن هذا لم يكن مشروعاً عندهم.
…591 - وأيضاً فقد تبين أنه سؤال لله تعالى بسبب لا يناسب إجابة الدعاء وأنه كالسؤال بالكعبة والطور والكرسي والمساجد وغير ذلك من المخلوقات، ومعلوم أن سؤال الله بالمخلوقات ليس هو مشروعاً، كما أن الإقسام بها ليس مشروعاً بل هو منهي عنه، فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق ولا يسأله بنفس مخلوق، وإنما يسأل بالأسباب التي تناسب إجابة الدعاء كما تقدم تفصيله.
…592 - لكن قد روي في جواز ذلك آثار وأقوال عن بعض أهل العلم؛ ولكن ليس في المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء ثابت بل كلها موضوعة، وأما النقل عن من ليس قوله حجة فبعضه ثابت وبعضه ليس بثابت.(166/242)
…593 - والحديث الذي رواه أحمد(1) وابن ماجة(2) وفيه: "بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا".
__________
(1) …(3/21) قال: ثنا يزيد، أنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري.
(2) …من طريق الفضل بن الموفق أبي الجهم، ثنا فضيل بن مرزوق به. (1/256) 4 - كتاب المساجد، حديث (778). وأورده البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (1/98) وقال: هذا إسناد مسلسل بالضعفاء عطية هو العوفي وفضيل بن مرزوق، والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء، لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق فضيل بن مرزوق، فهو صحيح عنده. أقول: ثم ماذا، فإذا اعتقد ابن خزيمة صحته وهو ضعيف، فماذا يغني عنه لا سيما وأنت تعلم أن إسناده مسلسل بالضعفاء ثم إني بحثت عنه في صحيح ابن خزيمة فلم أجده، وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 42).(166/243)
…رواه أحمد عن وكيع عن فضيل(1) بن مرزوق عن عطية(2) عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال إذا خرج إلى الصلاة: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي/ هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته".
…وهذا الحديث هو من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد، وهو ضعيف بإجماع أهل العلم(3).
…594 - وقد روي من طريق آخر وهو ضعيف(4)
__________
(1) …قال الحافظ: صدوق يهم، ورمى بالتشيع، من السابعة / ي م 4. تقريب (2/113).
(2) …هو ابن سعد بن جنادة الكوفي، قال الحافظ: "صدوق يخطئ كثيراً، وكان شيعيا مدلساً/ بخ د، ت ق، تقريب (2/24) قال الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/37) بعد أن وضح ضعف الحديث توضيحاً علمياً ورد شبه من أراد أن يقويه: "ثم بدا لي وجه ثالث في تضعيف الحديث، وهوا ضطراب عطية أو ابن مرزوق في روايته حيث إنه رواه تارة مرفوعاً كما تقدم، وأخرى موقوفاً على أبي سعيد، كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف (12/110/1) عن ابن مرزوق به موقوفاً. وفي رواية البغوي عن ابن فضيل قال: "أحسبه قد رفعه"، وقال ابن أبي حاتم في العلل (2/184): "موقوف أشبه".
(3) …انظر ترجمته في الميزان (3/79 - 80).
(4) …أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليل من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة
…ابن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والوازع، قال فيه البخاري: "منكر الحديث". الضعفاء (ص 245) وقال النسائي: "متروك". الضعفاء (ص 239). وقال أحمد وابن معين: "ليس بثقة". وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ" انظر المغني (2/718)، والميزان (4/327)، واللسان (6/213).(166/244)
أيضاً، ولفظه لا حجة فيه فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم وحق العابدين أن يثيبهم، وهو حق أحقه الله تعالى على نفسه الكريمة بوعده الصادق باتفاق أهل العلم، وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم، وقد تقدم بسط الكلام على ذلك.
…595 - وهذا بمنزلة الثلاثة الذين سألوه في الغار بأعمالهم فإنه سأله هذا ببره العظيم لوالديه، وسأله هذا بعفته العظيمة عن الفاحشة، وسأله هذا بأدائه العظيم للأمانة(1)؛ لأن هذه الأعمال أمر الله بها ووعد الجزاء لأصحابها فصار هذا كما حكاه عن المؤمنين بقوله (3: 193): {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}، وقال تعالى: (23: 109) {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}، وقال تعالى: (3: 15 - 16): {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ* الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
…596 - وكان ابن مسعود يقول في السحر: "اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا سحر فاغفر لي"(2).
…597 - وأصل هذا الباب أن يقال: الإقسام على الله بشيء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأموراً به إيجاباً أو استحباباً، أو منهياً عنه نهي تحريم أو كراهة، أو مباحاً لا مأموراً به ولا منهياً عنه.
__________
(1) …تقدم تخريجه ص (105).
(2) …مختصر قيام الليل، (ص 81). وتفسير ابن جرير (12/64).(166/245)
…598 - وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح؛ فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها. فمن قال إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم.
…599 - فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه، لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها - ويسأل الله تعالى ويقسم عليه بالخُنَّس الجواري الكنَّس، والليل إذا عسعس، والصبح إذا تنفس، ويسأل بالذاريات ذرواً، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمراً - ويسأل بالطور، وكتاب مسطور في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، ويسأل ويقسم عليه بالصافات صفا، وسائر ما أقسم الله به في كتابه، فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته فهي دليل على ربوبيته، وألوهيته، ووحدانيته، وعلمه، وقدرته، ومشيئته، ورحمته، وحكمته، وعظمته، وعزته، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه، ونحن - المخلوقون - ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع.(166/246)
…600 - بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك، بل ذلك شرك منهي عنه، ومن سأل الله بها لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح والسحاب والكواكب والشمس والقمر والليل والنهار والتين والزيتون وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت والصفا والمروة وعرفة ومزدلفة ومنى وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم ذلك أن يسأله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله، كالشمس والقمر والكواكب والملائكة والمسيح والعزيز وغير ذلك مما عبد من دون الله ومما لم يعبد من دونه.
…601 - ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام.
…602 - ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالأقسام والعزائم التي تكتب في الحروز والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزمون.
…603 - بل ويقال: إذا جاز / السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم والأقسام التي يقسم بها على الجن مشروعة في دين الإسلام، وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من الإسلام بل ومن دين الأنبياء أجمعين.
…604 - وإن قال قائل: بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظَّم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو الأنبياء والصالحين دون غيرهم.
…605 - قيل له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء(1) منها نِدًّا لله تعالى، فلا يُعبدُ ولا يتوكل عليه ولا يخشى ولا يتقى ولا يصام له ولا يسجد له ولا يرغب إليه، ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت"(2).
…وقال: "لا تحلفوا إلا بالله"(3).
__________
(1) …في خ : "شيئاً".
(2) …تقدم ص (91).
(3) …تقدم ص (91).(166/247)
…وفي السنن عنه أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك"(1).
…606 - فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لايجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ولا فرق بين نبي ونبي.
…607 - وهذا كما قد سوى الله تعالى بين جميع المخلوقات في ذم الشرك بها وإن كانت معظمة. قال تعالى: (3: 79 - 80): {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وقال تعالى: (17: 56 - 57): {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
__________
(1) …تقدم ص (90).(166/248)
…608 - قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزيز والملائكة(1)، فقال تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، ويتقربون إليَّ كما تتقربون إليَّ.
…609 - وقد قال تعالى (24: 52) {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ}.
…فبين أن الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وبين أن الخشية والتقوى لله وحده فلم يأمر أن يخشى مخلوق ولا يتقى مخلوق.
__________
(1) …راجع تفسير ابن جرير (15/103 - 106). قال ابن جرير بعد تفسير الآية الأولى: وقيل: إن الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم هذا القول، كانوا يعبدون الملائكة وعزيراً والمسيح وبعضهم كانوا يعبدون نفراً من الجن، ثم فسر الآية الثانية، وساق بعد ذلك عدداً من الروايات فيها الصحيح والحسن عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: كان أناس من أهل الجاهلية يعبدون نفراً من الجن، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم الجن وبقي الإنس على كفرهم. ثم قال: وقال آخرون: بل هم الملائكة، وساق عدداً من الروايات إلى ذلك إلى ابن مسعود، ثم إلى ابن زيد، ثم إلى ابن عباس، ثم إلى مجاهد، ثم ساق رواية عن ابن عباس، قال: هو عزيز والمسيح والشمس والقمر. وقول ابن مسعود اخرجه البخاري في 65 - تفسير في 7 - من تفسير سورة الإسراء حديث 4714، 4715. وأخرجه مسلم 54 - التفسير، 4 - باب قول الله تعالى أولئك الذين يدعون حديث (28 - 30). وانظر تفسير ابن كثير (5/86)، وتحفة الأشراف (7/68).(166/249)
…610 - وقال تعالى: (9: 59): {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}، وقال تعالى (94: 7 - 8) {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}. فبين سبحانه وتعالى أنه كان ينبغي لهؤلاء أن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله، ويقولوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون، فذكر الرضا بما آتاه الله ورسوله لأن الرسول هو الواسطة بيننا وبين الله في تبليغ أمره ونهيه وتحليله وتحريمه ووعده ووعيده. فالحلال ما حلله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. ولهذا قال تعالى (59: 7): {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. فليس لأحد أن يأخذ من الأموال إلا ما أحله الله ورسوله، والأموال المشتركة، كمالِ الفيء والغنيمة والصدقات، عليه أن يرضى بما آتاه الله ورسوله منها، وهو مقدار حقه لا يطلب زيادة على ذلك، ثم قال تعالى (9: 59) {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ}، ولم يقل: "ورسوله"؛ فإن الحسْب هو الكافي، والله وحده هو كاف عباده المؤمنين كما قال تعالى (8: 64): {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}، أي هو وحده حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين.(166/250)
…611 - هذا هو القول الصواب الذي قاله جمهور السلف والخلف كما بين في موضع آخر، والمراد أن الله كاف للرسول ولمن اتبعه. فكل من اتبع الرسول فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه، ثم قال تعالى (9: 59): {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، فذكر الإيتاء لله ورسوله، لكن وسطه بذكر الفضل فإن الفضل لله وحده بقوله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، ثم قال تعالى: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}، فجعل الرغبة إلى الله وحده دون الرسول وغيره من المخلوقات.
…612 - فقد تبين أن الله سوى بين المخلوقات في هذه الأحكام، لم يجعل لأحد من المخلوقين - سواء كان نبياً أو ملكاً - أن يقسم/ به ولا يتوكل عليه ولا يرغب إليه ولا يخشى ولا يتقى. وقال تعالى (34: 22 - 23) {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
…613 - فقد تهدد سبحانه من دعا شيئاً من دون الله وبين أنهم لا ملك لهم مع الله ولا شركاء في ملكه، وأنه ليس له عون ولا ظهير من المخلوقين. فقطع تعلق القلوب بالمخلوقات رغبة ورهبة وعبادة واستعانة، ولم يبق إلا الشفاعة وهي حق، لكن قال الله تعالى: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.(166/251)
…614 - وهكذا دلت الأحاديث الصحيحية(1) في الشفاعة يوم القيامة، إذا أتي الناس آدم وأولي العزم نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم فيردهم كل واحد إلى الذي بعده، إلى أن يأتوا المسيح فيقول لهم: اذهبوا إلى محمد عبد [غفر] الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال - صلى الله عليه وسلم -: "فيأتوني فأذهب إلى ربي، فإذا رأيته خررت ساجداً وأحمد ربي بمحامد يفتحها عليَّ لا أحسنها الآن، فيقال لي: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع - قال - فيحدّ لي حدّ فأدخلهم الجنة". وذكر تمام الخبر.
…615 - فبين المسيح أن محمداً هو الشفيع المشفع؛ لأنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبين محمدٌ عبد الله ورسوله أفضل الخلق وأوجهُ الشفعاء وأكرمهم على الله تعالى أنه يأتي فيسجد ويحمد، لا يبدأ بالشفاعة حتى يؤذن له، فيقال له: ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع، وذكر أن ربه يحد له حداً فيدخلهم الجنة.
__________
(1) …البخاري 60 - الأنبياء باب 9، حديث (361)، 97 - كتاب التوحيد باب 19 - حديث 7410 والتوحيد، 36 - باب كلام الرب عز وجل، حديث (7510). وأحمد في المسند (2/435 - 436). ومسلم 1 - إيمان، حديث (327 - 329). والترمذي (4/622)، 10 - باب ماجاء في الشفاعة، حديث (2434). وابن ماجه (2/1440)، 37 - كتاب الزهد، 37 - باب ذكر الشفاعة، حديث 4307. كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفي ألفاظهم تفاوت بالتطويل والاختصار. وأحمد في المسند (3/116، 144). ومسلم، إيمان، حديث 322 - 326. والترمذي (4/625) 38 - صفة القيامة، حديث (2435). وابن ماجه (2/1442)، 37 - كتاب الزهد، حديث (4312) من حديث أنس. ومسلم، إيمان حديث 320. وابن ماجه، الزهد، حديث (4310) من حديث جابر. وهناك أحاديث أخر في مسلم وغيره عن حذيفة وأبي سعيد وعمران بن حصين وعوف بن مالك. وهي أحاديث متواترة.(166/252)
…616 - وهذا كله يبين أن الأمر كله لله، هو الذي يلزم(1) الشفيع بالإذن له في الشفاعة، والشفيع لا يشفع إلا فيمن يأذن [الله له]، ثم يحد للشفيع حداً فيدخلهم الجنة. فالأمر بمشيئته وقدرته واختياره. وأوجه الشفعاء وأفضلهم هو عبده الذي فضله على غيره واختاره واصطفاه بكمال عبوديته وطاعته وإنابته وموافقته لربه فيما يحبه ويرضاه.
…617 - وإذا كان الإقسام بغير الله والرغبة إليه وخشيته وتقواه ونحو ذلك هي من الأحكام التي اشتركت المخلوقات فيها فليس لمخلوق أن يقسمَ به ولا يتقى ولا يتوكل عليه وإن كان أفضل المخلوقات، ولا يستحق ذلك أحد من الملائكة والنبيين، فضلاً عن غيرهم من المشايخ والصالحين.
…618 - فالسؤال لله تعالى بالمخلوقات إن كان بما أقسم به وعظمه من المخلوقات(2) فيسوغ السؤال بذلك كله وإن [لا] لم يكن سائغاً [و] لم يجز أن يسأل بشيء من ذلك، والتفريق في ذلك بين معظم ومعظم كتفريق من فرق فجوز الحلف ببعض المخلوقات دون بعض، وكما أن هذا فرق باطل فكذلك الآخر.
…619 - ولو فرق مفرق بين مايؤمن به وبين مالا يؤمن به، قيل له: فيجب الإيمان بالملائكة والنبيين، ويؤمن بكل ما أخبر به الرسول مثل منكر ونكير والحور العين والولدان وغير ذلك، أفيجوز أن يقسم بهذه المخلوقات لكونه يجب الإيمان بها؟ أم يجوز السؤال بها كذلك؟.
…620 - فتبين أن السؤال بالأسباب إذا لم يكن المسئول به سبباً لإجابة الدعاء فلا فرق بين السؤال بمخلوق ومخلوق، كما لا فرق بين القسم بمخلوق ومخلوق، وكل ذلك غير جائز. فتبين أنه لا يجوز ذلك كما قاله من قاله من العلماء. والله أعلم.
__________
(1) …كذا في خ وغيرها ولعل الصواب "يكرم".
(2) …هذا الكلام غير مستقيم ويغلب على الظن أنه سقط من الناسخ بعض الكلام.(166/253)
…621 - وأما قوله تعالى (2: 89): {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، فكانت اليهود تقول للمشركين: سوف يبعث هذا النبي ونقاتلكم معه فنقتلكم، لم يكونوا يقسمون على الله بذاته ولا يسألون به، بل(1) يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الأمي لنتبعه ونقتل هؤلاء معه.
…622 - هذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير، وعليه يدل القرآن فإنه قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ }، والاستفتاح الاستنصار، وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يُبعث فيقاتلونهم معه، فبهذا ينصرون، ليس هو بإقسامهم به وسؤالهم به، إذ لو كان كذلك لكانوا إذا سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يكن الأمر كذلك.
…بل لما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه.
…623 - وما ذكره بعض المفسرين من أنهم كانوا يقسمون به أو يسألون به فهو نقل شاذ مخالف به للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة له. وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في (دلائل النبوة) وفي كتاب (الاستغاثة الكبير).
…وكتب السيرة(2) ودلائل النبوة(3) والتفسير(4) مشحونة بذلك.
__________
(1) …في الأصل "أو" لكن الكلام لا يستقيم بها ولعله من تحريف النساخ.
(2) …انظر السيرة لابن هشام (1/211 - 214). والروض الأنف (2/326 - 329).
(3) …انظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/74 - 76). ودلائل النبوة لأبي نعيم (1/96 - 97).
(4) …انظر الدر المنثور (1/216 - 218). وتفسير ابن جرير (1/410 - 412).(166/254)
…624 - قال أبو العالية(1) وغيره: كان اليهود إذا استنصروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - / على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله تعالى هذه الآيات (2: 89): {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
…625 - وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن رجال من قومه قالوا: مما دعانا إلى الإسلام - مع رحمة الله وهداه - ما كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك، أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لاتزال بيننا وبينهم شرور. فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرَم. كثيراً ما كنا نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله محمداً رسولاً من عند الله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في البقرة: {ولما جاءهم كتابٌ من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}(2).
…ولم يذكر ابن أبي حاتم وغيره ممن جمع كلام مفسري السلف إلا هذا.
…وهذا لم يذكر فيه السؤال به عن أحد من السلف، بل ذكروا الأخبار به، أو سؤال الله أن يبعثه.
__________
(1) …تفسير ابن جرير (1/411).
(2) …السيرة لابن هشام (1/211). وتفسير ابن جرير (1/410) والروض الأنف (2/326).(166/255)
…626 - فروى ابن أبي حاتم عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: يستظهرون يقولون: نحن نعين محمداً عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون(1).
…وروي(2) عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، قال: كانوا يقولون: إنه سيأتي نبي فلما جاءهم وعرفوا كفروا به.
__________
(1) …التفسير (1/275) وهذا النص بهذا الإسناد في تفسير ابن جرير (1/412). قال حدثت عن المنجاب: قال: حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس به. وفي التوسل في المطبوعة عن أبي رزين. وفي المخطوطة ص 61 عن زريق وكلاهما تصحيف. والصواب أبوروق لأنه من الرواة عن الضحاك ومشهور بالتفسير وهو عطية ابن الحارث الهمداني الكوفي، صدوق، ومن الرواة عنه بشر بن خالد الكوفي، وبشر بن عمارة، انظر تهذيب الكمال (2/939). وفي سماع الضحاك عن ابن عباس اختلاف بين علماء الحديث.
(2) …تفسير ابن أبي حاتم (1/275 - 276).(166/256)
…627 - وروي(1) بإسناده عن ابن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد قال: أخبرني عكرمة - أو سعيد بن جبير - عن ابن عباس(2) أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود(3) بن سلمة: يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم (2: 89): {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
__________
(1) …تفسير ابن أبي حاتم (1/275 - 276).
(2) …السيرة لابن هشام (1/547) وفيها قال ابن إسحاق كان فيما بلغني عن عكرمة مولى ابن عباس أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو في تفسير ابن جرير بهذا الإسناد (1/410 - 411) وفي الإسناد ابن حميد الرازي وفيه كلام واختلاف، وقد تقدم الكلام فيه ص 133، 134 ومحمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، قال الحافظ: مدني مجهول لكن يشهد له ويقويه النصوص الكثيرة بهذا المعنى.
(3) …في الأصل داود بن سلمة، وهو تصحيف والصواب أخو بني سلمة كما في السيرة لابن هشام (1/547). وتفسير ابن جرير (1/411).(166/257)
…628 - وروي(1) بإسناده عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: كانت اليهود تستنصر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا، حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}(2).
…629 - وأما الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هُزمت يهود فعاذت بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كفروا به، فأنزل الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.
…وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه(3)، وقال: أدت الضرورة إلى إخراجه. وهذا مما أنكره عليه العلماء، فإن عبد الملك بن هارون من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك بل كذاب. وقد تقدم ما ذكره يحيى بن معين وغيره من الأئمة في حقه(4).
…قلت: وهذا الحديث من جملتها(5).
…وكذلك الحديث الآخر الذي يرويه عن أبي بكر كما تقدم.
__________
(1) …تفسير ابن أبي حاتم (1/275 - 276).
(2) …هو في تفسير ابن جرير (1/411).
(3) …(2/263) وقال بعده: "أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير، وهو غريب من حديثه".
…قال الذهبي في التعليق على هذا النص: قلت: لا ضرورة في ذلك، فعبد الملك متروك هالك.
(4) …انظر ص (179).
(5) …أي من أكاذيب عبد الملك بن هارون وكان شيعياً.(166/258)
…630 - ومما يبين ذلك أن قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} إنما نزلت باتفاق / أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولاً كبني قينقاع(1) وقريظة(2) والنضير(3)، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج، وهم الذين عاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة، ثم لما نقضوا العهد حاربهم، فحارب أولاً بني قينقاع ثم النضير - وفيهم نزلت سورة الحشر - ثم قريظة عام الخندق.
…631 - فكيف يقال نزلت في يهود خيبر وغطفان؟ فإن هذا من كذاب جاهل لم يحسن كيف يكذب، ومما يبين ذلك، أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوفر دواعي الصادقين على نقله.
…632 - ومما ينبغي أن يعلم، أن مثل هذا اللفظ لو كان مما يقتضي السؤال به، والإقسام به على الله تعالى، لم يكن مثل هذا مما يجوز أن يعتمد عليه في الأحكام؛ لأنه أولاً لم يثبت، وليس في الآية مايدل عليه، ولو ثبت لم يلزم أن يكون هذا شرعاً لنا(4).
__________
(1) …انظر قصة بني قينقاع في السيرة لابن هشام (3/47 - 50).
(2) …انظر غزوة بني قريظة في السيرة لابن هشام (3/233 - 256). وتفسير ابن جرير (18/149 - 155). وتأريخ اليعقوبي (2/52).
(3) …انظر قصة بني النضير وجلائهم في السيرة لابن هشام (3/190 - 202). وصحيح البخاري. 65 - التفسير - تفسير سورة الحشر، حديث (4884، 4885) وتفسير ابن جرير (28/27 - 49) وتأريخ اليعقوبي (2/49).
(4) …كما قال تعالى: {لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً}.(166/259)
…633 - فإن الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسف وأبويه، وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا (18 :21): {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}(1) ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور، ولفظ الآية إنما فيه أنهم كانوا يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وهذا كقوله تعالى (8: 19): {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ}. والاستفتاح طلب الفتح وهو النصر.
…634 - ومنه الحديث المأثور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح بصعاليك المهاجرين، أي يستنصر بهم، أي بدعائهم، كما قال: "وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم، بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم؟"(2)
__________
(1) …للحافظ ابن رجب توجيه جيد، وتوفيق سديد بين معنى هذه الآية، والأحاديث التي فيها لعن اليهود والنصارى، بسبب اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. قال رحمه الله: "وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث - يعني حديث لعن اليهود - وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً}. فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى" فتح الباري في شرح صحيح البخاري. (65/280)، من الكواكب الدراري - نقلاً عن المحدث الكبير الشيخ ناصر الدين الألباني. تحذير الساجد (ص 71). ونقل من تفسير ابن كثير ما يؤيد تفسير ابن رجب. والأمر كذلك. انظر تفسير ابن كثير (5/143).
(2) …أخرج البخاري في: 56 - الجهاد، 76 - باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، حديث (2896)، (1/172). من حديث سعد رضي الله عنه، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تنصرون إلا بضعفائكم".
…وأخرج أبوداود، في: 9 - الجهاد، حديث (2594)، (3/73). والترمذي، في: 24 - الجهاد، (4/206)، حديث: "ابغوني الضعفاء، إنما تنصرون، وترزقون بضعفائكم". من حديث أبي الدرداء. وأخرج النسائي، (6/45)، حديث (3178) بإسناد صحيح إلى سعد رضي الله عنه - مرفوعاً -: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم". ثم أخرج حديث أبي الدرداء بلفظ أبي داود والترمذي.(166/260)
.
…635 - وهذا قد يكون بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، بأن يعجل بعث ذلك النبي إليهم لينتصروا به عليهم، لا لأنهم أقسموا على الله وسألوا به، ولهذا قال تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} فلو لم ترد الآثار التي تدل على أن هذا معنى الآية، لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المعنى المتنازع فيه بلا دليل؛ لأنه لا دلالة فيها عليه، فكيف وقد جاءت الآثار بذلك؟.
…636 - وأما ما تقدم ذكره عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون، فقد بينا أنه شاذ، وليس هو من الآثار المعروفة في هذا الباب، فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب، بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب، فيحالف كل فريق فريقاً، كما كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج.
…637 - وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف، بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبر بما يدل على ذلك، فقال تعالى (3: 112): {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}.(166/261)
…638 - فاليهود - من حيث ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا بحبل من الله وحبل من الناس - لم يكونوا بمجردهم ينتصرون لا على العرب ولا غيرهم، وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بُعث المسيح عليه السلام فكذبوه. قال تعالى: (3: 55): {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، وقال تعالى: (61: 14): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}. وكانوا قد قتلوا يحيى بن زكريا، وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة السلام. قال تعالى (2: 61): {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}.(166/262)
…639 - فإذا لم يكن الصحابة كعمر بن الخطاب وغيره، في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد موته، يقسمون بذاته، بل إنما كانوا يتوسلون بطاعته أو بشفاعته، فكيف يقال في دعاء المخلوقين الغائبين والموتى، وسؤالهم من الأنبياء والملائكة وغيرهم، وقد قال تعالى: (17: 56 - 57): {قُلْ ادْعُوا / الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
…640 - قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالمسيح وعزير وغيرهما، فنهى الله عن ذلك، وأخبر تعالى أن هؤلاء يرجون رحمة الله ويخافون عذابه ويتقربون إليه، وأنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله عنهم(1). وقد قال تعالى (3: 79 - 80): {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
…641 - ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُتخذ قبره مسجدا، وأن يتخد عيداً، وقال في مرض موته: "لعنة الله على اليهود والنصاري، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا. أخرجاه في الصحيحين(2).
__________
(1) …تقدم تخريج أقوال ابن مسعود، وابن عباس وغيرهما في ص (241).
(2) …تقدم تخريجه في ص (30) رقم (1).(166/263)
…642 - وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". رواه مالك في موطئه(1).
…643 - وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". متفق عليه(2).
…644 - وقال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، بل ماشاء الله ثم شاء محمد"(3).
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (35) رقم (1).
(2) …أخرجه البخاري، 60 - أنبياء، باب 48، حديث (3445). وأحمد (1/23، 24، 47، 55). والدارمي (2/228)، حديث (2778). والطيالسي، كما في منحة المعبود (2/119)، حديث (2424). كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه.
…ولم يرو مسلم - رحمه الله - هذا الحديث. ورواه الترمذي، في الشمائل، كما في المختصر (ص 174)، حديث (284). والبغوي، في شرح السنة (13/246).
(3) …أخرجه الإمام أحمد (5/384، 394، 398). وأبوداود (5/259)، 35 - أدب - حديث (4980). وأبوداود الطيالسي في مسنده (ص 57)، حديث (430). وفيه: "لكن قولوا ما شاء الله وحده". والنسائي، في عمل اليوم والليلة، (ص544)، حديث (985). وعمل اليوم والليلة لابن السني (ص 248)، حديث (671). وابن أبي الدنيا، في كتاب الصمت (ص 413)، حديث (344). والطحاوي في المشكل (1/90). والبيهقي في الأسماء والصفات (ص144). وفي السنن الكبرى (3/216). كلهم من حديث عبد الله بن يسار، عن حذيفة رضي الله عنه، بإسناد صحيح. وابن ماجه (1/685)، 11 - الكفارات، حديث (2118). والنسائي، في عمل اليوم والليلة، حديث (984)، من حديث ربعي بن خراش. وإسناد النسائي صحيح.(166/264)
…645 - وقال له بعض الأعراب: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله نِداً؟ بل ما شاء الله وحده"(1).
…646 - وقد قال الله تعالى له (7: 188): {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ}. وقال تعالى (10: 49): {قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا}. وقال تعالى (28: 56): {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. وقال تعالى (3: 128): {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأمْرِ شَيْءٌ}. وهذا تحقيق التوحيد، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق على الله، وأعلاهم منزلة عند الله.
__________
(1) …أخرجه أحمد (1/214) من طريق هشيم (283) وسفيان (347) ويحيى وهو القطان.. كلهم عن الأجلح، عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس، بلفظ: "أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -..." الحديث. وأخرجه النسائي، في عمل اليوم والليلة (ص 545 - 546)، حديث (987 - 988)، عن عيسى، عن الأجلح، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس مرفوعاً. والأجلح مختلف فيه، وقد وثقه جماعة، فحديثه حسن. وأخرجه النسائي، في اليوم والليلة (ص 545)، حديث (987)، من طريق القاسم بن مالك، عن الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، مرفوعاً.
…والظاهر أنه وهم من القاسم بن مالك، وذلك أنه خالف الجماعة، وهم أئمة حفاظ. والقاسم فيه لين، فحديثه هذا عن جابر منكر. والله أعلم.(166/265)
…647 - وقد روى الطبراني في معجمه الكبير(1)، أن منافقاً كان يؤذي المؤمنين، فقال أبوبكر: قوموا نستغيث برسول الله من هذا المنافق. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله".
…648 - وفي صحيح مسلم(2) في آخره أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
__________
(1) …انظر مجمع الزوائد (10/159) قال الهيثمي عقبه: "ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث". ورواه أحمد (5/317)، ثنا موسى بن داود، ثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، أن رجلاً سمع عبادة بن الصامت يقول: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبوبكر، رضي الله عنه: قوموا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُقام لي. إنما يقام لله تبارك وتعالى". ورواه ابن سعد، في الطبقات (1/387)، بهذا الأسناد، وبهذا اللفظ. وموسى بن داود، هو الضبي أبوعبد الله الطرطوسي، صدوق فقيه زاهد له أوهام، من صغار التاسعة. فيبدو أنه ممن روى عن ابن لهيعة بعد اختلاطه، وفيه الرجل المجهول الراوي عن عبادة، فالحديث على هذا ضعيف.
(2) …5 - كتاب المساجد، 3 - باب النهي عن بناء المساجد على القبور، حديث (23). (1/377). وأبوعوانة (1/401). والطبراني في الكبير، (2/180)، حديث (1686) وابن سعد (2/240).(166/266)
…649 - وفي صحيح مسلم(1) - أيضاً - وغيره، أنه قال: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها".
…650 - وفي الصحيحين(2) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة - وله طرق متعددة عن غيرهما - أنه قال: "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى".
…651 - وسئل مالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال مالك: إن كان أراد القبر فلا يأته، وإن أراد المسجد فليأته. ثم ذكر الحديث "لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".
__________
(1) …11 - جنائز، 33 - باب النهي عن الجلوس على القبر، والصلاة عليه، حديث (97 - 98)، (2/668). من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه. وأبوداود، 15 - الجنائز، 77 - في كراهية القعود على القبر، حديث (3229)، (3/554). والترمذي، 8 - الجنائز، 57 - باب ماجاء في كراهية المشي على القبور، والجلوس عليها، حديث (1050، 1051). والنسائي، 9 - كتاب القبلة، 11 - باب النهي عن الصلاة إلى القبر، حديث (760). (2/67). كلهم من حديث أبي مرثد الغنوي.
(2) …البخاري، 20 - كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، حديث (1189)، من حديث أبي هريرة، 6 - من هذا الباب، حديث (1197)، من حديث أبي سعيد. ومسلم، 15 - كتاب الحج، 74 - باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، حديث (415). (2/975 - 976)، من حديث أبي سعيد. والترمذي، أبواب الصلاة، 243 - باب ماجاء في أي المساجد أفضل، حديث (326)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي، 8 - كتاب المساجد، 10 - ما تشد إليه الرحال من المساجد، حديث (700). (2/37). وأحمد (2/234، 238). وابن ماجه، 5 - الإقامة، حديث (1409). (1/452). والدارمي، كتاب الصلاة، 132 - باب لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، حديث (1428). (1/271)، كلهم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه. وأحمد (3/7، 34)، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.(166/267)
…ذكره القاضي إسماعيل في مبسوطه(1).
…652 - ولو حلف حالف بحق المخلوقين لم ينعقد يمينه، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء والملائكة وغيرهم، ولله تبارك وتعالى حق لا يشركه فيه أحد لا الأنبياء ولا غيرهم. وللأنبياء حق، وللمؤمنين حق، ولبعضهم على بعض حق.
…فحقه تبارك وتعالى أن يعبد، ولا يشرك به كما تقدم في حديث معاذ(2).
…653 - ومن عبادته تعالى أن يخلصوا له الدين ويتوكلوا عليه ويرغبوا إليه، ولا يجعلوا لله نداً لا في محبته ولا خشيته ولا دعائه ولا الاستعانة به، كما في الصحيحين أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وهو يدعو نداً من دون الله دخل النار"(3).
…654 - وسئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك"(4).
__________
(1) …لايوجد هذا الكتاب القيم في حدود علمي في المكتبات الإسلامية ولعله يوجد فينفع الله به المسلمين. وفي المدونة (2/86) عبارة قريبة من هذه العبارة، قال ابن القاسم: "ومن قال عليَّ المشي إلى بيت المقدس أو إلى المدينة، فلا يأتهما أصلاً إلا أن يكون أراد الصلاة في مسجديهما فليأتهما راكبا".
(2) …تقدم في ص (109).
(3) …البخاري 65 - كتاب التفسير باب 22، حديث (4497). ومسلم، الإيمان باب 40 حديث (150). أَمَّا البخاري فباللفظ الذي ذكره شيخ الإسلام. وأما مسلم فبلفظ: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار". كلاهما رواه عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ورواه أحمد (1/425) بلفظ مسلم.
(4) …البخاري 65 - التفسير، باب 3 حديث (4477، 4761). ومسلم، الإيمان 37 - باب كون الشرك أقبح الذنوب. حديث (141، 142). وأبوداود، 7 - الطلاق. 50 - باب تعظيم الزنا حديث (2310) (2/732). والترمذي 48 - كتاب التفسير باب 26، حديث (3182) (5/336)، وأحمد (1/380). والنسائي 37 - كتاب تحريم الدم 4 - ذكر أعظم الذنب حديث (4013، 4014) (7/79 - 80).(166/268)
…655 - وقيل له: ماشاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله نداً! بل ما شاء الله وحده"(1).
…656 - وقد قال تعالى (4: 48، 116): {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى (2: 22): {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (16: 15): {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياى فارهبون}، (29: 56) {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} وقال تعالى (94: 7 - 8): {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}، وقال تعالى في فاتحة الكتاب التي هي أم القرآن: {إياك نعبد/ وإياك نستعين}، وقال تعالى (2: 165): {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وقال تعالى (5: 44): {فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي} وقال تعالى (33: 39): {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَ اللَّهَ}.
…657 - ولهذا لما كان المشركون يخوّفون إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه. قال تعالى (6: 80 - 82): {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (253).(166/269)
…658 - وفي الصحيحين(1) عن ابن مسعود، قال: لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ذاك الشرك كما قال العبد الصالح (31: 13): {يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. وقال تعالى (24: 52): {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ}.
…659 - فجعل الطاعة لله والرسول، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله. وجعل الخشية والتقوى لله وحده فلا يخشى إلا الله، ولا يتقى إلا الله. وقال تعالى (5: 44): {فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً}. وقال تعالى: (3: 175): {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. وقال تعالى (9: 59): {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}. فجعل سبحانه الإيتاء لله والرسول في أول الكلام وآخره، كقوله تعالى (59: 7): {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. مع جعله الفضل لله وحده، والرغبة إلى الله وحده وهو تعالى وحده. حسبهم لا شريك له في ذلك.
__________
(1) …أخرجه البخاري في 2 - الإيمان 23 - باب ظلم دون ظلم، حديث 32، 65 - التفسير، تفسير سورة الأنعام، حديث (4629)، وتفسير سورة لقمان، حديث (4776) وفي مواضع أخر. ومسلم في الإيمان، 56 - باب صدق الإيمان وإخلاصه، حديث (197، 198)، وأحمد (1/378). كلهم من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه.(166/270)
…660 - وروى البخاري(1) عن ابن عباس في قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قال: قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد (3: 173): حين قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
…661 - وقال تعالى (8: 64): {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}. ومعنى ذلك [عند] جماهير السلف والخلف أن الله وحده حسبك وحسبُ من اتبعك من المؤمنين، كما بسط ذلك بالأدلة.
…وذلك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم الوسائط بيننا وبين الله في أمره ونهيه ووعده ووعيده.
…662 - فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله. فعلينا أن نحب الله ورسوله، ونطيع الله ورسوله، ونرضي الله ورسوله، قال تعالى (9: 62): {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}. وقال تعالى (4: 59): {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}. وقال تعالى (4: 80): {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. وقال تعالى (9: 24): {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (58)(166/271)
…663 - وفي الصحيحين(1) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كنَّ فيه وجدَ بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار}.
…664 - وقد قال تعالى (48: 8 - 9): {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.
…فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره نصره ومنعه، والتسبيح بكرة وأصيلا/ لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله.
…665 - والعبادة هي لله وحده: فلا يصلى إلا لله، ولا يصام إلا لله، ولا يحج إلا إلى بيت الله، ولا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة، لكون هذه المساجد بناها أنبياء الله بإذن الله، ولا ينذر إلا لله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يُدْعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله.
…666 - وأما ما خلقه الله سبحانه من الحيوان والنبات والمطر والسحاب وسائر المخلوقات، فلم يجعل غيره من العباد واسطة في ذلك الخلق، كما جعل الرسل واسطة في التبليغ بل يخلق ما يشاء بما يشاء من الأسباب، وليس في المخلوقات شيء يستقل بإبداع شيء، بل لابد للسبب من أسباب أخر تعاونه، ولابد من دفع المعارض عنه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله وحده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، بخلاف الرسالة، فإن الرسول وحده كان [واسطة] في تبليغ رسالته إلى عباده.
__________
(1) …البخاري، 2 - كتاب الإيمان، باب 9 حديث (16)، وباب 14، حديث (21). ومسلم، كتاب الإيمان، باب 15، حديث (67، 68). وأحمد (3/174، 230). والترمذي، 41 - كتاب الإيمان، باب 10، حديث (2624). (5/15). والنسائي، 47 - كتاب الإيمان، 2 - طعم الإيمان، حديث (4987، 4988). (8/95 - 96)، كلهم من حديث أنس رضي الله عنه.(166/272)
…667 - وأما جعل الهدى في قلوب العباد، فهو إلى الله تعالى لا إلى الرسول. كما قال الله تعالى (28: 56): {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وقال تعالى (16: 37): {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}.
…668 - وكذلك دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، واستغفارهم وشفاعتهم هو سبب ينفع، إذا جعل الله تعالى المحل قابلاً له، وإلا فلو استغفر النبي للكفار والمنافقين لم يغفر لهم، قال الله تعالى (63: 6): {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}.
…669 - و [أما] الرسل فقد تبين أنهم هم الوسائط بيننا وبين الله عز وجل، في أمره ونهيه ووعده ووعيده وخبره، فعلينا أن نصدقهم في كل ما أخبروا به، ونطيعهم فيما أوجبوا وأمروا، وعلينا أن نصدق بجميع أنبياء الله عز وجل، لا نفرق بين أحد منهم، ومن سبَّ واحدا منهم كان كافراً مرتداً مباح الدم.
…670 - وإذا تكلمنا فيما يستحقه الله تبارك وتعالى من التوحيد، بينا أن الأنبياء وغيرهم من المخلوقين لا يستحقون ما يستحقه الله تبارك وتعالى من خصائص، فلا يشرك بهم ولا يتوكل عليهم، ولا يستغاث بهم كما يستغاث بالله، ولا يقسم على الله بهم، ولا يتوسل بذواتهم.
…671 - وإنما يتوسل بالإيمان بهم، وبمحبتهم، وطاعتهم، وموالاتهم وتعزيرهم، وتوقيرهم، ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا، وتصديقهم فيما أخبروا، وتحليل ما حللوه، وتحريم ما حرموه.
…والتوسل بذلك على وجهين:
…672 - (أحدهما): أن يتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء وإعطاء السؤال، كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب دعاءهم ويفرج كربتهم، وقد تقدم بيان ذلك(1).
__________
(1) …في ص (104).(166/273)
…673 - (والثاني): التوسل بذلك إلى حصول ثواب الله وجنته ورضوانه، فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة.
…674 - ومثل هذا كقول المؤمنين (3: 193): {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلأيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}. فإنهم قدموا ذكر الإيمان قبل الدعاء.
…675 - ومثل ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المؤمنين في قوله تعالى (23: 109): {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. وأمثال ذلك كثير.
…676 - وكذلك التوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته، فإنه يكون على وجهين: (أحدهما): أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيدعو ويشفع، كما كان يطلب منه في حياته، وكما يطلب منه يوم القيامة، حين يأتون آدم ونوحاً ثم الخليل ثم موسى الكليم ثم عيسى، ثم يأتون محمداً صلوات الله عليهم وسلامه فيطلبون منه الشفاعة.
…677 - (الوجه الثاني): أن يكون التوسل مع ذلك [بأن] يسأل الله تعالى بشفاعته ودعائه، كما في حديث الأعمى المتقدم بيانه(1) وذكره. فإنه طلب منه الدعاء والشفاعة، فدعا له الرسول وشفع فيه، وأمره أن يدعو الله فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك به، اللهم فشفعه فيَّ". فأمره أن يسأل الله تعالى قبول شفاعته.
…678 - بخلاف من يتوسل بدعاء الرسول وشفاعة الرسول، والرسول لم يدع له ولم يشفع فيه، فهذا/ توسل بما لم يوجد، وإنما يتوسل بدعائه وشفاعته من دعا له وشفع فيه.
__________
(1) …(ص 202).(166/274)
…679 - ومن هذا الباب قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقت الاستسقاء كما تقدم(1)، فإن عمر والمسلمين(2) توسلوا بدعاء العباس، وسألوا الله تعالى مع دعاء العباس، فإنهم استشفعوا جميعاً، ولم يكن العباس وحده هو الذي دعا لهم، فصار التوسل بطاعته والتوسل بشفاعته كل منهما يكون مع دعاء المتوسل وسؤاله، ولا يكون بدون ذلك. فهذه أربعة أنواع كلها مشروعة، لا ينازع في واحد منها أحد من أهل العلم والإيمان.
…680 - ودين الإسلام مبني على أصلين، وهما: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وأول ذلك أن لا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقاً كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله، ومن سوَّى بين المخلوق والخالق في شيء من ذلك فقد عَدَل بالله(3)، وهو من الذين بربهم يعدلون، وقد جعل مع الله إلهاً آخر، وإن كان مع ذلك يعتقد أن الله وحده خلق السموات والأرض.
…681 - فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض، كما قال تعالى (31: 25 و 39: 38): {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
…682 - وكانوا مع ذلك مشركين يجعلون مع الله آلهة أخرى، قال تعالى (6: 19): {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ}، وقال تعالى (2: 165): {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}.
…683 - فصاروا مشركين لأنهم أحبوهم كحبه، لا أنهم(4) قالوا إن آلهتهم خلقوا كخلقه. كما قال تعالى (13: 16): {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}.
__________
(1) …(ص 86، 87).
(2) …في خ: "المسلمون".
(3) …جعل له عدلاً، أي معادلاً ونظيراً.
(4) …في: خ "لأنهم". والصواب ما أثبتناه.(166/275)
…684 - وهذااستفهام إنكار بمعنى النفي، أي ما جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فإنهم مقرون أن آلهتهم لم يخلقوا كخلقه، وإنما كانوا يجعلونهم شعفاء ووسائط. قال تعالى (10: 18): {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقال صاحب يس (36: 22 - 25): {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِي* إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ* إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي}.
…685 - (الأصل الثاني) أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك. والدعاء من جملة العبادات، فمن دعا المخلوقين من الموتى والغائبين واستغاث بهم - مع أن هذا أمر لم يأمر به الله ولا رسوله أمر إيجاب ولا استحباب - كان مبتدعاً في الدين، مشركا برب العالمين، متبعاً غير سبيل المؤمنين، ومن سأل الله تعالى بالمخلوقين أو أقسم عليه بالمخلوقين كان(1) مبتدعاً بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فإن ذم من خالفه وسعى في عقوبته، كان ظالماً جاهلاً معتدياً، وإن حكم بذلك فقد حكم بغير ما أنزل الله، وكان حكمه منقوضا بإجماع المسلمين، وكان إلى أن يستتاب من هذا الحكم ويعاقب عليه أحوجَ منه إلى أن ينفذ له هذا الحكم ويعان عليه، وهذا كله مجمع عليه بين المسلمين، ليس فيه خلاف لا بين الأئمة الأربعة ولا غيرهم.
__________
(1) …من قوله: "متبعاً غير سبيل"، إلى هنا، ساقط من ز، ب. وجاء الصواب في الفتاوى 1/312 كان مبتدعاً بدعة.(166/276)
…686 - وقد بُسط الكلام على هذه الأمور في مجلدات، من جملتها مصنف ذكرنا فيه قواعد تتعلق بحكم الحكام، وما يجوز لهم الحكم فيه وما لا يجوز. وهو مؤلف مفرد يتعلق بأحكام هذا الباب، لا يحسن إيراد شيء من فصوله هاهنا، لإفراد الكلام في هذا الموضع على قواعد التوحيد ومتعلقاته، وسيأتي إيراد ما اختصر منه، وحررت فصوله في ضمن أوراق مفردة يقف عليها المتأمل، لمزيد الفائدة ومسيس الحاجة إلى معرفة هذا الأمر المهم. وبالله التوفيق.
…687 - وكنت وأنا بالديار المصرية في سنة إحدى عشرة وسبعمائة قد استُفتيت عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتبت في ذلك جواباً مبسوطاً، وقد أحببتُ إيراده هنا لما في ذلك من مزيد الفائدة، فإن هذه/ القواعد - المتعلقة بتقرير التوحيد، وحسم مادة الشرك والغلوِّ - كلما تنوع بيانها، ووضحت عبارتها، فإن ذلك نور على نور. والله المستعان.
…688 - وصورة السؤال: المسئول من السادة العلماء أئمة الدين، أن يبينوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين.
…689 - وصورة الجواب: الحمد لله رب العالمين. أجمع المسلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع للخلق يوم القيامة، بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة. ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن، من أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضاً لعموم الخلق.
…690 - فله - صلى الله عليه وسلم - شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه، ومن ذلك "المقام المحمود" الذي يغبطه به الأولون والآخرون.(166/277)
…وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة، منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عدده(1).
…691 - وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، فزعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقاً.
…692 - وأجمعوا على أن الصحابة كانوا يستشفعون به، ويتوسلون به في حياته بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري(2) عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا". فيسقون.
…693 - وفي البخاري(3) أيضاً عن ابن عمر أنه قال: ربما ذكرت قول الشاعر - وأنا انظر إلى وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقي، فما ينزل حتى يجيش(4) كل(5) ميزاب:
…وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجهه… ثِمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
__________
(1) …تقدم تخريج أحاديث الشفاعة في ص (240).
(2) …تقدم تخريج حديث أنس في ص (86، 87).
(3) …البخاري، 15 - كتاب الاستسقاء، حديث (1008، 1009). وابن ماجه، 5 - إقامة الصلاة، 154 - باب ماجاء في الدعاء في الاستسقاء، حديث (1272). (1/405). وأحمد، (2/93).
(4) …يقال: جاش الوادي إذا زخر بالماء، وجاشت القدر إذا غلت، وجاش الشيء: تحرك. وهي هنا كناية عن كثرة المطر.
(5) …في الأصل: "له" والتصحيح من البخاري 2/413.(166/278)
…694 - والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسراً في سائر أحاديث الاستسقاء، وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة(1)، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته، ونحن نقدمه بين أيدينا شافعاً وسائلاً لنا، بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
…695 - وكذلك معاوية بن أبي سفيان - لما أجدب الناس بالشام - استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي(2) فقال: "اللهم إنا نستشفع - أو نتوسل - بخيارنا. يايزيد! ارفع يديك". فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا.
…696 - ولهذا قال العلماء: يستحبُّ أن يستسقى بأهل الدين والصلاح، وإذا كانوا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أحسن.
…وهذا الاستشفاع والتوسل حقيقته التوسل بدعائه، فإنه كان يدعو للمتوسل به المستشفع به والناس يدعون معه.
__________
(1) …من الأحاديث المفسرة للتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث أنس رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، فقال: يارسول الله هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون...الحديث. أخرجه البخاري، 15 - كتاب الاستسقاء، 21 - باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، حديث (1029).
(2) …تقدم تخريجه ص (127، 128).(166/279)
…697 - كما أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه أعرابي فقال: يارسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه وقال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". وما في السماء قُزعة. فنشأت سحابة من جهة البحر، فمطروا أسبوعاً لا يرون فيه الشمس، حتى دخل عليهم الأعرابي - أو غيره - فقال: يارسول الله انقطعت السبل، وتهدم البنيان، فادع الله يكشفها عنا. فرفع يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب(1)، ومنابت الشجر وبطون الأودية". فانجابت عن المدينة كما ينجاب الثوب.
…والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما(2).
…698 - وفي حديث آخر في سنن أبي داود وغيره، أن رجلاً قال له: إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فسبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه. وقال "ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن/ الله أعظم من ذلك"(3).
…699 - وهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالشخص - في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - هو استشفاع بدعائه وشفاعته، ليس هو السؤال بذاته، فإنه لو كان هذا السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق.
__________
(1) …قال ابن الأثير: "الإكام بالكسر جمع أكمة، وهي الرابية وتجمع الإكام على أكم والأكم على آكام". النهاية، (1/59). والظراب، هي "الروابي الصغار". تهذيب الصحاح، (1/74). وفي القاموس، (1/99) الظَرِب - ككتِف: ما نتأ من الحجارة وحد طرفه، أو الجبل المنبسط أو الصغير، جمعه: ظراب.
(2) …تقدم تخريجه ص 126.
(3) …تقدم تخريجه ص 159.(166/280)
…700 - ولكن لما كان معناه هو الأول، أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "نستشفع بالله عليك" ولم ينكر قوله نستشفع بك على الله، لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب، والله تعالى لا يسأل أحداً من عباده أن يقضي حوائج خلقه.
…701 - وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله تعالى في مثل قوله:
…شفيعي إليك الله لا رب غيره… وليس إلى ردِّ الشفيع سبيلُ
…وكذلك بعض الاتحادية(1) ذكر أنه استشفع بالله سبحانه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -! وكلاهما خطأ وضلال.
…702 - بل هو سبحانه المسئول المدعو الذي يسأله كل من في السموات والأرض، ولكن هو تبارك وتعالى يأمر عباده فيطيعونه، وكل من وجبت طاعته من المخلوقين فإنما وجبت لأن ذلك طاعة لله تعالى، فالرسل يبلغون عن الله أمره، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن بايعهم فقد بايع الله. قال تعالى (4 : 64): {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} وقال تعالى (4: 80): {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. وأولو الأمر من أهل العلم وأهل الإمارة إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله.
__________
(1) …الذين يقولون بوحدة الوجود، أي أن واجب الوجود وجائز الوجود واحد. ومعنى هذا أن الكون هو الله. وهذا إنكار لوجود الله، والعياذ بالله من الكفر بعد الإيمان.(166/281)
…703 - قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، ما لم يؤمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة"(1).
…704 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(2).
__________
(1) …لم أجد الحديث بهذا اللفظ. وفي معناه أحاديث كثيرة منها: حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: "بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخشى في الله لومة لائم". أخرجه مسلم، 33 - الإمارة، حديث (41، 42). والبخاري، 93 - الأحكام، حديث (7199). ومالك، 21 - الجهاد، حديث (5). (2/445). وابن ماجه، 24 - الجهاد باب (40)، حديث (2866). (2/957). كلهم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه . وعند ابن ماجه، في 24 - الجهاد، (2864). من حديث ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". وكذلك هو عند مسلم، 33 - الإمارة، حديث (38). وفي البخاري، في 93 - الأحكام، حديث (7144).
(2) …في مسلم، 33 - الإمارة، حديث (39). وأبوداود، 9 - الجهاد، 96 - باب في الطاعة، حديث (26). (3/93). والبخاري، 93 - الأحكام، (7145). والطيالسي، رقم (159). والنسائي، 39 - البيعة، 24 - جزاء من أمر بمعصية فأطاع، حديث (4205). (7/159). وأحمد، (1/82)، 94، 124). كلهم من حديث علي وأخصرها لفظ البخاري، ولفظه: "إنما الطاعة في المعروف". وأخرجه أحمد (5/66)، من حديث عمران بن حصين، والحكم بن عمرو الغفاري، والطيالسي، (ص 114)، حديث (850).(166/282)
…705 - وأما الشافع فسائل لا تجب طاعته في الشفاعة وإن كان عظيماً، وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة أن تمسك زوجها ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها فجعل يبكي، فسألها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تمسكه فقالت: أتأمرني؟ فقال : " لا! إنما أنا شافع"(1).
…706- وإنما قالت " أتأمرني؟ " وقال " إنما أنا شافع" لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة بخلاف شفاعته، فإنه لايجب قبول شفاعته، ولهذا لم يلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - على ترك قبول شفاعته، فشفاعة غيره من الخلق أولى أن لايجب قبولها.
…707- والخالق جل جلاله أمُره أعلى وأجل من أن يكون شافعاً إلى مخلوق، بل هو سبحانه أعلى شأناً من أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه. قال تعالى: (21 : 26-29): {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه، بل عبادٌ مكرمون، لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم مابين أيديهم وماخلفهم ولايشفعون إلا لمن ارتضى، وهم من خشيته مشفقون، ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزىالظالمين}.
…708- ودل الحديث المتقدم على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستشفع به إلى الله عز وجل، أي يطلب منه الشفاعة في الدنيا والآخرة، فأما في الآخرة فيطلب منه الخلق الشفاعة في أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلوا الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار أن لايدخلها، ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها.
__________
(1) …البخاري 68 - الطلاق 16 - باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، في زوج بريرة، حديث (5283).
…وأبوداود في 7- الطلاق، 19- باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد، حديث 2231. وابن ماجه 10- الطلاق 29- باب خيار المرأة إذا عتقت، حديث (2075) (1/671). وقصة بريرة قد رواها أيضا الإمام مسلم والترمذي، ولكن ليس في روايتهما لفظ الشفاعة.(166/283)
…ولانزاع بين جماهير الأئمة أنه يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين الثواب.
…709-ولكن كثيراً من أهل البدع والخوارج والمعتزلة [أنكروا](1) شفاعته لأهل الكبائر، فقالوا: لايشفع لأهل الكبائر. بناء على أن أهل الكبائر عندهم لايغفر الله لهم ولايخرجهم من النار بعد أن يدخلوها لابشفاعة ولاغيرها.
…710- ومذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع في أهل الكبائر، وانه لايخلد في النار من أهل الإيمان أحد. بل يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال ذرة من إيمان(2).
…711-لكن هذا الاستسقاء والاستشفاع والتوسل به وبغيره كان يكون في حياته، بمعنى أنهم يطلبون منه الدعاء فيدعو لهم، فكان توسلهم بدعائه، والاستشفاع به طلب شفاعته، والشفاعةُ دعاء.
…712- فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته/
- مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لابدعائهم - فليس هذا مشهوراً عند الصحابة والتابعين .
…713- بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حياً كالعباس وكيزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لاعند قبره ولاغير قبره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، بل كانوا يصلوا عليه في دعائهم، وقد قال عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.
__________
(1) …في خ بياض بمقدار الكلمة .
(2) …تقدم تخريج أحاديث الشفاعة، ص(240).(166/284)
…714- وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره ويتوسلوا هناك ويقولوا في دعائهم بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون: نسألك أو نقسم عليك بنبيك، أو بجاه نبيك ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس.
…715- وروى بعض الجهال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا سألتم الله فاسألوا بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم"(1).
…وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولاذكره أحد من أهل العلم بالحديث.
…مع(2) أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين.
…716- وقد أخبر سبحانه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله، فقال تعالى (33: 69): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}، وقال تعالى(3: 45):{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَاوَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.
__________
(1) …لم أجده في أي مصدر بعد بحث.
(2) …في خ "من".(166/285)
…717- فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل فكيف بسيد ولد آدم(1).
…718- صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون(2).
…719- وصاحب الكوثر والحوض المورود الذي آنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً(3).
__________
(1) …إشارة إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- (... أنا سيد الناس يوم القيامة...) وهو حديث طويل في الشفاعة أخرجه البخاري في 65 -التفسير- تفسير سورة الإسراء حديث (4712). ومسلم -كتاب الإيمان- حديث (327-328) (1/184-186). والترمذي 38- قيامه 10- باب ماجاء في الشفاعة، حديث 2434 (4/622). واحمد (2/435، 540). وإلى حديث ابن عباس - رضي الله عنهما- الذي أخرجه الإمام أحمد (1/281-295). وإلى حديث أنس الذي اخرجه الإمام أحمد (3/144). والدارمي (حديث 25) (1/31). وإلى حديث أبي سعيد الذي رواه أحمد (3/2). وإلى حديث حذيفة الذي رواه الإمام أحمد (5/388).
(2) …إشارة إلى حديث ابن عمر الذي رواه البخاري في 25 - التفسير تفسير سورة الإسراء حديث (4718)، وحديث جابر بعده رقم (4719) وهما من أحاديث الشفاعة المتواترة، وقد مر ذكر شيء منه ص(240).
(3) …أحاديث الحوض متواترة. وقد روى منها الإمام مسلم عدداً: منها: حديث جندب، وسهل، وأبي سعيد الخدري، وعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وأسماء بنت أبي بكر، - رضي الله عنهما- وعائشة -رضي الله عنها- وأم سلمة -رضي الله عنها-، وعقبة بن عامر -رضي الله عنه-، وعبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-، وحذيفة -رضي الله عنه-، وحارثة بن وهب -رضي الله عنه-، وابن عمر -رضي الله عنهما-، وأبي ذر رضي الله عنه، وثوبان رضي الله عنه، وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهما، وجابر بن سمرة -رضي الله عنه-. مسلم 43- كتاب الفضائل 9- باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -، حديث (25-44) (4/1792-1802).(166/286)
…720- وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم وأولو العزم، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويتقدم هو إليها وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل(1)، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله.
…721- ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق، فإنه لايشفع عنده أحد إلا بإذنه (19: 93-94): {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}، وقال تعالى: (4: 172-173): {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا}.
…722- والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لاشريك له، كما قال سبحانه (34: 22-23): {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
__________
(1) …هذه إشارات إلى أحاديث الشفاعة وقد تقدم تخريجها في ص (240).(166/287)
…723- وقد استفاضت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد(1)، ولعن من يفعل ذلك، ونهى عن اتخاذ قبره عبداً(2).
…724- وذلك لأن أول ما أحدث الشرك في بني آدم كان في قوم نوح.
…قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام(3).
…725- وثبت في الصحيحين(4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض .
…726- وقد قال الله تعالى عن قومه أنهم قالوا (71-23: 24): {لا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا}.
…قال غير واحد من السلف: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد/ عبدوهم .
…727- وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس، وذكر أن هذه الآلهة صارت إلى العرب، وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام(5).
__________
(1) …تقدم تخريجها، ص(29، 155).
(2) …تقدم تخريجها، ص(29، 155).
(3) …تفسير ابن جرير (2/334)؛ وابن كثير (1/364)؛ تفسير سورة البقرة، الآية (213)؛ والحاكم في المستدرك (2/442) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(4) …البخاري 65 - التفسير، حديث (4476). و 81- الرقاق، 51- باب صفة أهل الجنة والنار. حديث (6565) من حديث أنس. ومسلم 1- الإيمان 84- باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. حديث (327) (1/184-186) من حديث أبي هريرة. وابن ماجه 37- كتاب الزهد حديث (4312) (2/1442).
(5) …تقدم تخريجه ص15 .(166/288)
…728- فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسم مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وإن كان المصلي يصلي لله عز وجل، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس لئلا يشابه المصلين للشمس، وإن كان المصلي إنما يصلي لله تعالى. وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره أقرب إلى الشرك من الذي لايقصد إلا الصلاة لله -عز وجل- لم يكونوا يفعلون ذلك.
…729- وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته، أو التوسل بدعائه وشفاعته، فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن هذا وهذا .
…730- فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئاً من ذلك، ولا دعوا بمثل هذه الأدعية، وهم أعلم منا، وأعلم بما يجب لله ورسوله، وأعلم بما أمر الله به ورسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بالعباس وغيره ممن ليس مثل النبي - صلى الله عليه وسلم -، دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكناً.
…731- وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبول أنبيائهم مساجد"(1)، رواه مالك في موطئه ورواه غيره.
…732- وفي سنن أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لاتتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"(2).
…733- وفي الصحيحين أنه قال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مافعلوا. قالت عائشة : " ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً"(3).
…734- وفي صحيح مسلم عن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل
أن يموت بخمس: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (35).
(2) …تقدم تخريجه في ص (155).
(3) …تقدم تخريجه في ص (30).(166/289)
كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، فإن الله قد
اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، إن من كان قبلكم كانوا
يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"(1).
…735- وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبدالله ورسوله"(2).
…736- وقد روى الترمذي حديثاً صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علم رجلاً أن يدعو فيقول: " اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد يارسول الله! إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي، اللهم شفعه في"(3).
…وروى النسائي نحو هذا الدعاء(4).
…737- وفي الترمذي وابن ماجه عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت، فهو خير لك. فقال: فادعه. فأمره أن يتوضا فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يارسول الله يامحمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه فيَّ"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح(4).
…738- ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف ولفظه أن رجلاً أعمى قال: يارسول الله ! أدع الله أن يكشف لي عن بصري. قال: " فانطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبي محمد نبي الرحمة، يامحمد! إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري، اللهم فشفعه فيَّ" قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره(5).
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (29،30).
(2) …تقدم تخريجه في ص (252).
(3) ، (4) تقدم تخريجه في ص (201).
(4) …تقدم تخريجه في ص (202).
(5) …تقدم تخريجه في ص (201، 202).(166/290)
…739- وقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا روح حدثنا شعبة عن عمير بن يزيد الخطمي المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدث عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يانبي الله! ادع الله أن يعافيني فقال: "إن شئت أخرت ذلك فهو خير لآخرتك، وإن شئت دعوت لك" قال: لا! بل ادع الله لي، فأمره أن يتوضأ وأن يصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يامحمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى/، اللهم فشفعني فيه وشفعه فيَّ. قال ففعل الرجل فبرأ(1).
…فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء.
…740- فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقاً حياً وميتاً، وهذا يحتج به من يتوسل بذاته بعد موته وفي مغيبه.
…741- ويظن هؤلاء أن توسل الأعمى والصحابة في حياته كان بمعنى الإقسام به على الله أو بمعنى أنهم سألوا الله بذاته أن يقضي حوائجهم، ويظنون أن التوسل به لايحتاج إلى أن يدعو هو لهم ولا إلى أن يطيعوه، فسواء عند هؤلاء دعا الرسول لهم أو لم يدع ، الجميع عندهم توسل به، وسواء أطاعوه أو لم يطيعوه .
…742- ويظنون أن الله تعالى يقضي حاجة هذا الذي توسل به بزعمهم ولم يدع له الرسول، كما يقضي حاجة هذا الذي توسل بدعائه ودعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إذ كلاهما متوسل به عندهم.
…743- ويظنون أن كل من سأل الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد توسل به كما توسل به ذلك الأعمى، وأن ماأمر به العمى مشروع لهم. وقول هؤلاء باطل شرعاً وقدراً، فلا هم موافقون لشرع الله ولا مايقولونه مطابق لخلق الله.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (201، 202).(166/291)
…744- ومن الناس من يقول: هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم، لايثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لامماثل لها. والفرق ثابت شرعاً وقدراً بين من دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين من لم يدعُ له، ولايجوز أن يجعل أحدهما كالآخر، وهذا الأعمى شفع له النبي - صلى الله عليه وسلم - فلهذا قال في دعائه: " اللهم فشفعه فيَّ". فعلم أنه شفيع فيه، ولفظه: " إن شئتَ صبرت وإن شئت دعوتُ لك" فقال: ادع لي. فهو طلبَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي ويدعو هو أيضاً لنفسه، ويقول في دعائه " اللهم فشفعه فيَّ" فدل ذلك على أن معنى قوله: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد" أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا"(1).
…745- فالحديثان معناهما واحد، فهو - صلى الله عليه وسلم - علم رجلاً أن يتوسل به في حياته، كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا.
…ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه، فلو
كان التوسل به حياً وميتاً سواء، والمتوسل به الذي دعا له الرسول
كمن لم يدع له الرسول، لم يعدلوا عن التوسل به، وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة، إلى أن يتوسلوا بغيره ممن
ليس مثله .
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (86، 87).(166/292)
…746- وكذلك لو(1) كان أعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى، لكان عميان الصحابة(2) أو بعضهم يفعلون مثل مافعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا، مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، ومايشرع من الدعاء وينفع، ومالم يشرع ولاينفع، ومايكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق ممكن، دليل على أن المشروع ماسألوه دون ماتركوه.
…747- ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء مافعلوه دون ماتركوه، وذلك أن التوسل به حياً هو من جنس مسألته أن يدعو لهم، وهذا مشروع. فما زال المسلمون يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته أن يدعو لهم.
…748- وأما بعد موته، فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء، لاعند قبره ولاعند غير قبره، كما يفعله كثير من الناس، عند قبور الصالحين، يسأل أحدهم الميت حاجته، أو يقسم على الله به ونحو ذلك وإن كان قد روي في ذلك حكايات عن بعض المتأخرين .
…749- بل طلب الدعاء مشروع من كل مؤمن لكل مؤمن، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر لما استأذنه في العمرة:" لاتنسنا ياأخي من دعائك"(3) إن صح الحديث.
__________
(1) …كذا في خ وسائر النسخ وفي مختصر الرد على البكري، ص130 لو كان كل أعمى، وهذه العبارة أسلم وأقوم.
(2) …وقد عمى منهم جماعة -رضوان الله عليهم- منهم: العباس بن عبدالمطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابنه عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- وعقيل بن أبي طالب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-.
(3) …تقدم تخريجه في ص (73، 74).(166/293)
…750- وحتى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر للطالب وإن كان الطالب أفضل من أويس بكثير(1).
…751- وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل مايقول، ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لاتنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو / أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة"(2).
…752- مع أن طلبه من أمته الدعاء ليس هو طلب حاجة من المخلوق، بل هو تعليم لأمته ماينتفعون به في دينهم، وبسبب ذلك التعليم والعمل بما علمهم يعظم الله أجره، فإنا إذا صلينا عليه مرة صلى الله علينا عشراً، وإذا سألنا الله له الوسيلة، حلت علينا شفاعته يوم القيامة.
…753- وكل ثواب يحصل لنا على أعمالنا فله مثل أجرنا من غير أن ينقص من أجرنا شيء، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"(3).
…754- وهو الذي دعا أمته إلى كل خير، وكل خير تعمله أمته له مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ولهذا لم يكن الصحابة والسلف يهدون إليه ثواب أعمالهم ولايحجون عنه ولايتصدقون ولايقرءون القرآن ويهدون له؛ لأن كل مايعمله المسلمون من صلاة وصيام وحج وصدقة وقراءة له - صلى الله عليه وسلم - مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، بخلاف الوالدين، فليس كل ماعمله المسلم من الخير يكون لوالديه مثل أجره، ولهذا يهدي الثواب لوالديه وغيرهما.
__________
(1) …قصة أويس القرني في صحيح مسلم (4/1969) حديث (244)، 44 -كتاب- فضائل الصحابة - رواها مسلم في حديث طويل.
(2) …تقدم تخريجه في ص (73).
(3) …تقدم تخريجه في ص (71) حاشية (1)(166/294)
…755- ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطيع لربه عز وجل في قوله تعالى (94: 7-8) {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فهو - صلى الله عليه وسلم - لايرغب إلى غير الله .
…756- وقد ثبت في الصحيح(1) أنه قال: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب،هم الذين لايسترقون، ولايكتوون، ولايتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون".
…757- فهؤلاء من أمته وقد مدحهم بأنهم لايسترقون، والاسترقاء أن يطلب من أحد أن يرقيه، والرُّقية من نوع الدعاء، وكان هو - صلى الله عليه وسلم - يرقي نفسه وغيره، ولايطلب من أحد أن يرقيه.
…758- ورواية من روى في هذا " لايرقون"(2) ضعيفة غلط. فهذا مما يبين حقيقة أمره لأمته بالدعاء أنه ليس من باب سؤال المخلوق للمخلوق الذي غيره أفضل منه، فإن من لايسأل الناس - بل لايسأل إلا الله - أفضل ممن يسأل الناس، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم .
…759- ودعاء الغائب للغائب، أعظم إجابة من دعاء الحاضر، لأنه أكمل إخلاصاً وابعد عن الشرك، فكيف يشبه دعاء من يدعو لغيره بلا سؤال منه، إلى دعاء من يدعو الله بسؤاله وهو حاضر؟ وفي الحديث:" أعظم الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب"(3).
…760- وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مامن رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكاً كلما دعا لأخيه بدعوة، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل"(4).
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (57).
(2) …تقدم ص (57) إن هذه الزيادة في صحيح مسلم.
(3) …أخرجه أبوداود (1535) بلفظ: "إن أسرع الدعاء إجابة...الخ"؛ والترمذي (1980) بلفظ "مادعوة أسرع إجابة ...الخ"؛ والبخاري في الأدب المفرد (623) بلفظ "أسرع الدعاء إجابة"؛ وابن أبي شيبة (10/198)، وضعفه الترمذي بالافريقي والألباني في ضعيف الأدب المفرد (ص62) قام بتخريجه بعض الأخوة.
(4) …تقدم تخريجه في ص (61).(166/295)
…761- وذلك أن المخلوق يطلب من المخلوق مايقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته، فلهذا كان طلب الدعاء جائزاً، كما يطلب منه الإعانة بما يقدر عليه، والأفعال التي يقدر عليها .
…762- فأما مالايقدر عليه إلا الله تعالى، فلايجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه، لايطلب ذلك لامن الملائكة، ولا من الأنبياء ولامن غيرهم، ولايجوز أن يقال لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، وانصرنا على القوم الكافرين، أو اهد قلوبنا، ونحو ذلك.
…763- ولهذا روى الطبراني في معجمه(1) أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق، فجاءوا إليه فقال: " إنه لايستغاث بي، وإنما يستغاث بالله" وهذا في الاستعانة مثل ذلك.
…764- فأما مايقدر عليه البشر، فليس من هذا الباب وقد قال سبحانه(8: 9) {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، وفي دعاء موسى عليه السلام: "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وإليك المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، لاحول ولاقوة إلا بك"(2).
…765- وقال أبو يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق.
__________
(1) …تقدم تخريجه ص (254).
(2) …رواه الطبراني في الصغير (1/211، حديث 339) من حديث عبدالله بن مسعود مرفوعاً، وقال عقبه: " لم يروه عن الأعمش إلا وكيع، ولاعنه إلا زكريا بن فروخ، تفرد به جعفر بن النضر ابن بنت إسحاق بن يوسف الأزرق". وأورده الهيثمي في المجمع (10/183). وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم". وقال المنذري في الترغيب (2/618) نقلاً عن محقق (المعجم الصغير): "رواه الطبراني في الصغير بإسناد جيد". ولقد بحثت كثيراً عن ترجمة جعفر بن النضر فلم اقف له على ترجمة مما يؤيد قول الهيثمي .(166/296)
…766- وقال أبوعبدالله القرشي استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
…767- وقال تعالى (17: 56-57) : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}.
…768- قال طائفة من السلف(1): كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم/ هم عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إليَّ كما تتقربون إليَّ، فنهى سبحانه عن دعاء الملائكة والأنبياء، مع إخباره لنا أن الملائكة يدعون لنا ويستغفرون.
…769- ومع هذا فليس لنا ان نطلب ذلك منهم، وكذلك الأنبياء والصالحون، وإن كانوا أحياء في قبورهم، وإن قدر أنهم يدعون للأحياء وإن وردت به آثار فليس لأحد أن يطلب منهم ذلك، ولم يفعل ذلك أحد من السلف؛ لأن ذلك ذريعة إلى الشرك بهم وعبادتهم من دون الله تعالى.
770- بخلاف الطلب من أحدهم في حياته، فإنه لايُفضي إلى الشرك، ولأن ماتفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون بعد الموت هو بالأمر الكوني، فلايؤثر فيه سؤال السائلين، بخلاف سؤال أحدهم في حياته فإنه يشرع إجابة السائل، وبعد الموت انقطع التكليف عنهم.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (238).(166/297)
…771- وقال تعالى (3: 79-80): {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أرباباً فهو كافر، وقال تعالى (34: 22-23): {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، وقال تعالى (2 : 255): {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}، وقال تعالى (10-3): {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}، وقال تعالى(32-4): {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ}، وقال تعالى (10-18): {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وقال تعالى عن صاحب يس (36: 22-25): {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ ءَالِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُون، إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِين، إِنِّي ءَامَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}.(166/298)
…772- فالشفاعة نوعان: أحدهما الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة.
…والثاني: أن يشفع الشفيع بإذن الله، وهذه التي أثبتها الله تعالى لعباده الصالحون، ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد، قال: "فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع"(1). فإذا اذن له في الشفاعة شفع - صلى الله عليه وسلم - تسليماً.
…773- قال أهل هذا القول:ولايلزم من جواز التوسل والاستشفاع به -بمعنى أن يكون هو داعياً للمتوسل به- أن يشرع ذلك في مغيبه وبعد موته، مع أنه هو لم يدع للمتوسل به، بل المتوسل به أقسم به أو سأل بذاته.
…774- مع كون الصحابة فرقوا بين الأمرين وذلك لأنه في حياته يدعو هو لمن توسل به، ودعاؤه هو لله سبحانه أفضل دعاء الخلق، فهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله، فدعاؤه لمن دعا له وشفاعته له أفضل دعاء مخلوق لمخلوق، فكيف يقاس هذا بمن لم يدع له الرسول ولم يشفع له؟ ومن سوى بين من دعا له الرسول وبين من لم يدع له الرسول، وجعل هذا التوسل كهذا التوسل، فهو من أضل الناس.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (240).(166/299)
…775- وأيضاً فإنه ليس في طلب الدعاء منه، ودعائه هو، والتوسل بدعائه، ضرر، بل هو خير بلا شر، وليس في ذلك محذور ولامفسدة، فإن أحداً من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره، فإنه ينهى من يعبده ويشرك به ولو كان شركاً أصغر، كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من سجد له عن السجود له(1)
__________
(1) …يشير إلى حديث عبدالله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: " ماهذا يامعاذ؟ قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فلاتفعلوا، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ..." الحديث. أخرجه ابن ماجه (1/595) 9- كتاب النكاح، حديث (1854) وابن حبان، كما في الإحسان (6/186) حديث (4159) وموارد الظمآن حديث (1390) والبيهقي (7/292). كلهم من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن القاسم بن عوف الشيباني عن عبدالله بن أبي أوفى. وتابع حماد بن زيد إسماعيل بن عليه عن أيوب به. رواه أحمد في المسند (4/381). قال المحدث الألباني في الإرواء (7/56): " وخالفه معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي، حدثني القاسم بن عوف الشيباني، ثنا معاذ بن جبل، إنه أتى الشام فرأى النصارى ... الحديث نحوه أخرجه الحاكم (4/172) وقال: "صحيح على شرط الشيخين". ووافقه الذهبي كذا قالا! والقاسم لم يخرج له البخاري، ثم إن معاذ بن هشام الدستوائي، فيه كلام من قبل حفظه، وفي التقريب: "صدوق ربما وهم". فأخشى أن يكون وهم في جعله من مسند معاذ نفسه، وفي تصريح القاسم بسماعه منه -والله أعلم"أهـ.
…أقول: ورواه الإمام أحمد (4/381): ثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي عن القاسم بن عوف، رجل من أهل الكوفة - أحد بني مرة بن همام - عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبيه عن معاذ بن جبل، قال: أنه أتى الشام... الحديث مع اختلاف في الألفاظ، وزيادة. وقد سأل ابن أبي حاتم أبا زرعة عن هذا الاختلاف على القاسم فقال أبوزرعة: "أيوب أحفظهم". انظر العلل لابن أبي حاتم (1/426) رقم (1282). ولقوله في الحديث "لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد..." إلخ شاهدان: الأول: من حديث عائشة - رضي الله عنها- في سنن ابن ماجه حديث (1852) وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. والشاهد الثاني: من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أخرجه ابن حبان كما في الموارد حديث (1291)، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً، وهذا إسناد حسن - وبه يرتقي الحديث إلى الصحيح لغيره، والله أعلم .(166/300)
.
…776- وكما قال: "لاتقولوا ماشاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ماشاء الله ثم شاء محمد"(1). وأمثال ذلك .
…777- وأما بعد موته، فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح والعزير وغيرهما عند قبورهم وغير قبورهم.
…778- ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد / ، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجاه في الصحيحين(2).
…779- وقال: " اللهم لاتجعل قبري وثناً يعبد"(3).
…780- وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مافعلوا(4).
…781- وبالجملة فمعنا اصلان عظيمان، أحدهما: أن لانعبد إلا الله. والثاني: ان لانعبده إلا بما شرع، لانعبده بعبادة مبتدعة.
…782- وهذان الأصلان هما تحقيق: " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله" كما قال تعالى: (11: 7): {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.
…783- قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه. قالوا: ياأبا علي ماأخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وذلك تحقيق قوله تعالى (18: 110): {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.
…784- وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولاتجعل لأحد فيه شيئاً. وقال تعالى (42: 21): {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.
__________
(1) …تقدم تخريجه في ص (252).
(2) …تقدم تخريجه في ص (252).
(3) …تقدم تخريجه في ص (35).
(4) …تقدم تخريجه في ص (30).(166/301)
…785- وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أحدث في أمرنا [هذا] ماليس منه فهو رد"(1).
…786- وفي لفظ في الصحيح: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(2).
…787- وفي الصحيح وغيره أيضاً يقول الله تعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك"(3).
…788- ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف، كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبل الحجر الأسود، وقال: "والله إني لأعلم أنك حجر لاتضر ولاتنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك لما قبلتك"(4).
__________
(1) …أخرجه البخاري 53 - الصلح، 5- باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث (2695). ومسلم (3/1343)، 30- كتاب الأقضية، حديث (17). واحمد (6/170). وأبوداود (5/12)، 34- كتاب السنة، حديث (4605) وابن ماجه (1/7) مقدمة، حديث (14) كلهم من طريق القاسم عن عائشة -رضي الله عنها-.
(2) …البخاري تعليقاً مجزوماً به في 96 - الاعتصام 20 - باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ، قبل حديث (7350). ومسلم (3/1344) 30 - أقضية، حديث (18).
(3) …مسلم (4/2289)، كتاب الزهد 53- باب من أشرك في عمله غير الله، حديث (46) من حديث أبي هريرة. والترمذي (4/375) أبواب التفسير، تفسير سورة الكهف، حديث (5161) ، من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة.
(4) …البخاري 25- كتاب الحج 60- باب تقبيل الحجر، حديث (1610). ومسلم (2/925)، 15- الحج 41- باب استحباب تقبيل الحجر حديث (248-250). والنسائي (5/227) 24- كتاب الحج حديث (2937-2938). والترمذي أبواب الحج، 36- باب ماجاء في تقبيل الحجر، حديث (862). وابن ماجه (2/981) 27- باب استلام الحج، حديث (2943). وأحمد في المسند (1/21، 39، 51). ومالك في الموطأ 20 -كتاب الحج باب تقبيل الركن الأسود في الاستلام، حديث (115).(166/302)
…789- والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته، وموالاته ومحبته، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته. فقال تعالى (3: 31): {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال تعالى (24: 54): {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال تعالى (4: 13): {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وأمثال ذلك في القرآن كثير.
…790- ولاينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عليه، ولايقفو ماليس له به علم، ولايقول على الله مالم يعلم؛ فإن الله تعالى قد حرم ذلك كله .
…791- وقد جاءت في الأحاديث النبوية ذكر مايسأل الله تعالى به، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أنسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام، ياحي، ياقيوم". رواه أبوداود وغيره، وفي لفظ: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد"(1). رواه أبوداود والنسائي وابن ماجه(2).
…792- وقد اتفق العلماء على أنه لاينعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات(3)، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بأحد من الشيوخ، أو الملوك لم ينعقد يمينه، ولايشرع له ذلك، بل ينهى عنه، إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه.
__________
(1) …من قوله: "رواه أبوداود وغيره" إلى هنا سقط من ز، ب .
(2) …تقدم تخريجه في ص (97).
(3) …انظر: مراتب الإجماع، ص158 حيث قال: "واتفقوا أن من حلف ممن ذكرنا بحق زيد أو عمرو أو بحق أبيه أنه آثم، ولاكفارة عليه".(166/303)
…793- ففي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت"(1).
…794- وفي الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك"(2).
…795- ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين: إنه ينعقد اليمين بأحد من الخلق، إلا في نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فإن عن أحمد روايتين في أنه ينعقد اليمين به(3)، وقد طرد بعض أصحابه - كابن عقيل - الخلاف في سائر الأنبياء، وهذا ضعيف .
…796- وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ، ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لاينعقد اليمين به، كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح .
…797- وكذلك لايستعاذ بالمخلوقات، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته، ولهذا احتج السلف -كأحمد وغيره- على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ بكلمات الله التامات"(4) قالوا: فقد استعاذ بها، ولايستعاذ بمخلوق.
…798- وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لابأس بالرُّقى مالم تكن شركا"(5).
__________
(1) …تقدم ص (89، 90).
(2) …تقدم تخريجه في ص (89).
(3) …انظر: المغني لابن قدامة (9/513 المسألة 7983) ورجح أنها لاتنعقد، لأدلة منها: "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت".
(4) …أخرجه مسلم (4/2080-2081)، 48 - الذكر والدعاء حديث (54، 55). وأحمد (6/377، 409). والترمذي (5/496)، 49- الدعوات، حديث (3437). كلهم من حديث خولة بنت حكيم. وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة تابعاً لحديث (55).
(5) …أخرجه مسلم (4/1727)، 39- كتاب السلام، حديث (64). وأبوداود (4/214)، 22- كتاب الطب،حديث (3886). كلاهما من حديث عوف بن مالك الأشجعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.(166/304)
…799- فنهى عن الرقى التي فيها شرك، كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى (72: 6):{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ/ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره، التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل مالايعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ماكان من الرقى المشروعة فإنه جائز. فإذاً(1) لايجوز أن يقسم لاقسماً مطلقاً، ولاقسماً على غيره إلا بالله عز وجل، ولايستعيذ إلا بالله عز وجل.
…800- والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسماً عليه، وأما أن يكون طالباً بذلك السبب: كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم(2)، وكما يتوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين. فإذا كان إقساماً على الله بغيره فهذا لايجوز، وإن كان سؤالاً بسبب يقتضي المطلوب(3) كالسؤال بالأعمال التي فيها طاعة الله ورسوله، مثل السؤال بالإيمان بالرسول، ومحبته، وموالاته ونحو ذلك فهذا جائز.
…801- وإن كان سؤالاً بمجرد ذات الأنبياء والصالحين فهذا غير مشروع، وقد نهى عنه غير واحد من العلماء وقالوا: إنه لايجوز، ورخص فيه بعضهم، والأول أرجح كما تقدم،(4) وهو سؤال بسبب لايقتضي حصول المطلوب.
__________
(1) …في خ " فإذا كان ".
(2) …تقدم ص (104).
(3) …في خ "المخلوق".
(4) …تقدم في ص (87- 91).(166/305)
…802- بخلاف من كان طالباً بالسبب المقتضي لحصول المطلوب، كالطلب منه سبحانه بدعاء الصالحين، وبالأعمال الصالحة، فهذا جائز؛ لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب(1) لثواب الله لنا، وإذا توسلنا بدعائهم وأعمالنا كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة، كما قال تعالى (5: 35): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، والوسيلة هي الأعمال الصالحة، وقال تعالى (17: 57): {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}.
…803- وأما إذا لم نتوسل إليه سبحانه بدعائهم، ولا بأعمالنا، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم لم تكن نفس ذواتهم سبباً(2) يقتضي إجابة دعائنا، فكنا متوسلين بغير وسيلة،ولهذا لم يكن هذا منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلاً صحيحاً، ولامشهوراً عن السلف.
…804- وقد نقل في (منسك المروذي)(3) عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز القسم به، وأكثر العلماء على النهي في الأمرين. ولاريب أن لهم عند الله الجاه العظيم - كما قال تعالى في حق موسى وعيسى عليهما السلام، وقد تقدم ذكر ذلك - لكن مالهم عند الله من المنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا لهم، فإذا توسلنا إلى الله تعالى بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا من أعظم الوسائل.
__________
(1) …من قوله "سبب لحصول مطلوبنا" إلى هنا سقط من ز، ب .
(2) …في خ : "سبب".
(3) …يراجع منسك المروذي.(166/306)
…805- وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلايجوز أن يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل لا بما من المتوسل به ولا بما منهم(1)، فبأي شيء يتوسل؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عنده، وهذا جائز .
…806- وإما أن يقسم عليه، والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لايجوز، ولايجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق، وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب، كما قال الله تعالى(4: 1):{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} وسيأتي بيان ذلك.
…807- وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لايجوز، ولايجوز أن يقسم بمخلوق أصلاً، وأما التوسل إليه بشفاعة الماذون لهم في الشفاعة فجائز.
…808- والأعمى كان قد طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء، وقوله: " أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"(2)، أي بدعائه وشفاعته لي، ولهذا تمام الحديث: "اللهم فشفعه فيَّ"، فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه. وقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}.
…809- فعلى قراءة الجمهور بالنصب إنما يسألون بالله وحده، لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله.
__________
(1) …هذا الكلام من قوله "لابما من المتوسل به" إلى هنا، لايستقيم المعنى إلا بتكلف. وقد كتب بدله في ز، ب: " بإيمان المتوسل به ولا بطاعته". وهو كلام جيد يتمشى مع السياق وظاهر المعنى، وكان ينبغي التنبيه عليه .
(2) …تقدم ص (179).(166/307)
…810- وأما على قراءة الخفض، فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال: إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلاً على جوازه، فمعنى قوله أسألك بالرحم ليس إقساماً بالرحم -والقسم هنا لايسوغ - لكن بسبب الرحم، أي لأن/ الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقاً كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة(1)، وكسؤالنا بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته. ومن هذا الباب ماروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن
ابن أخيه عبدالله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه.
…811- وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علي(2).
…812- ومن هذا الباب، الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الخارج إلى الصلاة: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولاسمعةً، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك. أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، فإنه لايغفر الذنوب إلا أنت". وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف(3).
…فإن كان من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو من هذا الباب لوجهين :
__________
(1) …تقدم ص (104).
(2) …أي بسبب الرحم، وصلة الرحم ورعايتها من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله.
(3) …تقدم الكلام عليه ص (233).(166/308)
…813- أحدهما : لأن فيه السؤال لله تعالى بحق السائلين، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أوجبه الله تعالى، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئاً. ومنه قوله تعالى (6: 64): {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقوله تعالى (30: 47): {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى (9: 111): {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}.
…814- وفي الصحيح(1) في حديث معاذ: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولايشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لايعذبهم".
…815- وفي الصحيح(2) عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : "ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا". وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"(3)
__________
(1) …تقدم تخريجه ص (109).
(2) …تقدم ص (108).
(3) …أخرجه مسلم (1/352)، 4- كتاب الصلاة، 425 -باب مايقال في الركوع والسجود، حديث (222) . والترمذي (5/524)، 49- الدعوات، حديث (3493). والنسائي (8/283)، 50 - الاستعاذة، حديث (5534). ومالك
في الموطأ (1/214)، 15- كتاب القرآن، حديث (31). وأحمد
(6/58، 201). كلهم من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وأخرجه أحمد (1/96). والترمذي 49 - الدعوات، حديث (3566). وابن ماجه (1/373)، 5- الإقامة حديث (1179). كلهم من حديث علي -رضي الله عنه-. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من حديث علي، لانعرفه إلا في هذا الوجه من حديث
حماد بن سلمة.(166/309)
. فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله، كالسؤال بإثابته التي هي فعله.
…816- (الوجه الثاني): أن الدعاء له سبحانه وتعالى والعمل له سبب بحصول مقصود العبد، فهو كالتوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين من أمته .
…817- وقد تقدم أن الدعاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والصالح إما أن يكون إقساماً به، أو سبباً به، فإن كان قوله: "بحق السائلين عليك" إقساماً فلايقسم على الله إلا به، وإن كان سبباً فهو سبب بما جعله هو سبحانه سبباً، وهو دعاؤه وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضاً، وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه، ولاعمل صالح منا.
…818- وإذا قال السائل: أسألك بحق الملائكة، أو بحق الأنبياء، وحق الصالحين - ولايقول لغيره أقسمت عليك بحق هؤلاء- فإذا لم يجز له ان يحلف به، ولايقسم على مخلوق به، فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لايقسم به، وإنما يتسبب به فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده، ولكن لابد من سبب منه كالإيمان بالملائكة والأنبياء، أو منهم كدعائهم، ولكن كثيراً من الناس تعودوا ذلك، كما تعودوا الحلف بهم، حتى يقول أحدهم: وحقك على الله، وحق هذه الشيبة على الله .(166/310)
…819- وإذا قال القائل: أسألك بحق فلان، أو بجاهه، أي أسألك بإيماني به، ومحبتي له، وهذا من أعظم الوسائل. قيل: من قصد هذا المعنى، فهو معنى صحيح، لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء، فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك، أو بإيماني برسولك ومحبتي له ونحو ذلك، فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين (3: 193): {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ}، وقال تعالى (3: 19): {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وقال تعالى (22: 109): {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. وقال تعالى (3: 53): {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.
…820- وكان ابن مسعود يقول: اللهم أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت وهذا سحر فاغفر لي(1).
…821- ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر، فأووا إلى الغار، وانطبقت عليهم الصخرة، ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة، ففرج عنهم وهو ماثبت في الصحيحين(2).
__________
(1) …تقدم ص (104).
(2) …تقدم ص (104).(166/311)
…822- وقال أبوبكر بن أبي الدنيا(1): حدثنا خالد بن خراش العجلاني وإسماعيل بن إبراهيم، قال حدثنا صالح المري(2) عن ثابت عن أنس قال: دخلنا/ على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل، فلم نبرح حتى قبض، فبسطنا عليه ثوبه، وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا، وقال: ياهذه احتسبي مصيبتك عند الله. قالت: وما ذاك، مات ابني؟ قلنا : نعم. قالت: أحق ماتقولون؟ قلنا: نعم. فمدت يديها إلى الله فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبني عند كل شدة فرجاً، فلاتحمل عليَّ هذه المصيبة اليوم. قال: فكشفت الثوب عن وجهه فما برحنا حتى طعمنا معه.
…823- وروي في كتاب الحلية لأبي نعيم أن داود قال: بحق آبائي عليك، إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فأوحى الله تعالى إليه: ياداود! وأي حق لآبائك عليَّ؟(3).
…وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات يعتضد بها، ولايعتمد عليها.
…824- وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر مايقدر عليه، وأما المخلوق الغائب والميت، فلا يطلب منه شيء. يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته. ودعاؤه وشفاعته - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الوسائل عند الله عز وجل. وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته.
__________
(1) …في كتابه "مجابو الدعاء" ص87 ومن عاش بعد الموت، ص 45 .
(2) …هو صالح بن بشير المتوفى سنة 176هـ بصري من القدماء الزاهدين. ضعفه ابن معين، والدارقطني، وقال أحمد صاحب قصص، ليس هو صاحب حديث، ولايعرف الحديث. وقال الفلاس: منكر الحديث جداً. وقال النسائي: متروك. وقال البخاري: منكر الحديث. ميزان الاعتدال (2/289). وقال الحافظ في التقريب: ضعيف .
(3) …"بحثت عنه في الحلية فلم أجده".(166/312)
…825- والله تعالى لايقسم عليه بشيء من المخلوقات، بل لايقسم بها بحال، فلايقال أقسمت عليك يارب بملائكتك، ولابكعبتك، ولابعبادك الصالحين، كما لايجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء، بل إنما يقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته، ولهذا كان السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته ، فيقول : " أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، ياحي ياقيوم"(1).
…826- وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد(2).
…827- وكذلك قوله: " اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهي الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وبكلماتك التامات".
…مع أن هذا الدعاء الثالث، في جواز الدعاء به قولان للعلماء :
…828- قال الشيخ أبوالحسين القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي: قال بشر بن الوليد، سمعت أبا يوسف قال: قال أبوحنيفة لاينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: "بمعاقد العز من عرشك" أو "بحق خلقك"(2).
…829- وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: " معقد العز من عرشه" هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: "بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام".
…830- قال القدوري: المسألة بخلقه لاتجوز؛ لأنه لاحق للمخلوق على الخالق، فلايجوز - يعني وفاقا - وهذا من أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهما يقتضي المنع أن يسأل الله بغيره(3).
…831- فإن قيل: الرب سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس لنا أن نقسم عليه إلا به. فهلا قيل: يجوز أن يقسم عليه بمخلوقاته، وأن لايقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى؟.
…832- قيل: لأن إقسامه سبحانه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته، وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه.
__________
(1) ، (2) تقدم ص (295).
(2) …تقدم ص (88).
(3) …تقدم ص (88).(166/313)
…833- ومن قال لغيره: أسألك بكذا؛ فإما أن يكون مقسماً فهذا لايجوز بغير الله تعالى، والكفارة في هذا على المقسم، لاعلى المقسم عليه، كما صرح بذلك أئمة الفقهاء، وإن لم يكن مقسماً فهو من باب السؤال، فهذا لاكفارة فيه على واحد منهما.
…834- فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفاً
بمخلوق، وذلك لايجوز. وإما أن يكون سائلاً به، وقد تقدم تفصيل ذلك.
…835- وإذا قال: "بالله افعل كذا" فلا كفارة فيه على واحد منهما، وإذا قال: " أقسمت عليك بالله لتفعلن" أو "والله لتفعلن" فلم يبر قسمه لزمت الكفارة للحالف. والذي يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به.
…836- وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول: أقسمت عليك يارب لتفعلن كذا، كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف، فقد ثبت في الصحيح(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو/ أقسم على الله لأبره".
…837- وفي الصحيح(2) أنه قال، لما قال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لاتكسر ثنية الربيع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ياأنس، كتاب الله القصاص" فعفا القوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".
…838- وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر، فهو إقسام عليه تعالى، وليس إقساماً عليه بمخلوق.
…839- وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لاريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
__________
(1) …تقدم تخريجه ص (93).
(2) …تقدم تخريجه ص (92-93).(166/314)
…840- وقد تقدم(1) أن مايذكره بعض العامة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي"، حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء.
…841- ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه، ولم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال. وإن كان بينهما فرق فإن دعاء غير الله كفر، ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين -لا الأنبياء ولاغيرهم- عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين، بخلاف قولهم: أسألك بجاه نبينا أو بحقه، فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهوراً بينهم ولافيه سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل السنة تدل على النهى عنه كما نقل ذلك عن ابي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما.
__________
(1) …ص (275) .(166/315)
…842- ورأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبدالسلام(1) قال: لايجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن صح حديث الأعمى(2). فلم يعرف صحته.
…843- وقد تقدم أن هذا الحديث لايدل إلا على التوسل بدعائه، ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى، ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم.
…844- والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء وعدلوا عما أمروا به وشرع لهم -وهو من أنفع الأمور لهم- إلى ماليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء، وقد أمر الله بها.
__________
(1) …هو العز بن عبدالسلام (577-660) مؤلف رسالتي (الأبدال والغوث) و(الواسطة) المطبوعتين في حلب مع رسالة (الرهص والرقص لمستحل الرقص) للشيخ إبراهيم الحلبي صاحب (ملتقي الأبحر).
(2) …راجعت فتاوي العز بن عبد السلام بتعليق عبدالرحمن عبدالفتاح وتوزيع دار الباز، فلم أجد فيه ماذكره شيخ الإسلام ووجدت في ص(126) منه إجابة على سؤال عن الإقسام على الله بمعظم من خلقه في دعائه كالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والولي، والملك، هل يكره ذلك أو لا؟ فأجاب بقوله: "أما مسألة الدعاء، فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم بعض الناس الدعاء، فقال: في أقواله: " قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة"، وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصوراً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه سيد ولد آدم، وأن لايقسم على الله بغيره من الأنبياء، والملائكة؛ لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به تنبيهاً على علو درجته ومرتبته". فلتراجع المسألة التي أشار إليها شيخ الإسلام.(166/316)
…845- والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى (33: 56): {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
…846- وفي الصحيح عنه أنه قال: "من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشراً"(1).
…847- وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمع رسول اله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته لم يحمد الله، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول اله - صلى الله عليه وسلم -: "عجل هذا!" ثم دعاه فقال له أو لغيره: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه، ثم يصلي على النبي ، ثم يدعو بعده بما شاء" رواه أحمد(2) وأبوداود(3). -وهذا لفظه- والترمذي(4) والنسائي(5). وقال الترمذي حديث صحيح .
…848- وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل مايقول، ثم صلوا عليَّ، فإن من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لاتنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة"(6).
…849- وفي سنن أبي داود(7) والنسائي(8)
__________
(1) …تقدم ص (61).
(2) …(6/18).
(3) …(2/162)، كتاب الصلاة، حديث (1481).
(4) …(5/516)، 49 - كتاب الدعوات، حديث (3476).
(5) …تقدم تخريجه ص (101).
(6) …تقدم ص (61).
(7) …(1/360)، 2- الصلاة، 36- باب مايقول المؤذن، حديث (524). وابن حبان (3/101)، حديث (1393). وأحمد (2/172).
(8) …في عمل اليوم والليلة (ص157)، حديث (44). كل هؤلاء بأسانيد صحيحة إلى ابن
=…وهب عن حيي بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به إلا أحمد فعن ابن لهيعة عن حيي به. وحيي بن عبدالله، قال البخاري: "فيه نظر". وقال ابن معين: " ليس به بأس". وقال النسائي: "ليس بالقوي". وقال أحمد: "أحاديثه مناكير"، وحسن له الترمذي. راجع هذه الأقوال في الميزان (1/623) وقال الحافظ في التقريب "صدوق يهم". ومثل هذا لايحتمل تفرده، فالحديث ضعيف بهذا الإسناد وقد صححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع (4/140) وأشار إليه في صحيح أبي داود، فلعله وجد له متابعة أو شاهداً.(166/317)
عنه أن رجلاً قال: يارسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قل كما يقولون، فإذا انتهيت سل تعطه".
…850- وفي المسند(1) عن جابر بن عبدالله قال: "من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضا لاسخط بعده. استجاب الله له دعوته".
__________
(1) …(3/337) والطبراني في الأوسط (1/157) حديث (196) كلاهما من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير، عن جابر. وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا ابن لهيعة، ولا يروى عن جابر إلا بهذا الإسناد". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/332)، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة وفيه ضعف".(166/318)
…851- وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الدعاء لايرد بين الأذان والإقامة". رواه أحمد(1) وأبو داود(2) والترمذي(2) والنسائي(2)، وقال الترمذي: حديث حسن.
__________
(1) … في المسند (3/119، 155، 225، 254). وأبو داود (1/358)، 2- كتاب الصلاة. 35- باب ماجاء في الدعاء بين الأذان والإقامة. حديث 521. والترمذي (1/415)، أبواب الصلاة 158- باب ماجاء في أن الدعاء لايرد بين الأذان والإقامة. والنسائي في عمل اليوم والليلة ص168 حديث (70)، حديث (212)، وعبدالرزاق (1/495)، حديث (1909). والبيهقي (1/410)، كتاب الصلاة، باب الدعاء بين الآذان والإقامة.والحاكم في المستدرك (1/198). أمَّا أبوداود، والنسائي، وعبدالرزاق، والبيهقي، فمن طريق سفيان الثوري، عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس، رضي الله عنه مرفوعاً. وأما الحاكم فمن طريق حميد الطويل عن أنس وكذا أحمد في رواية (3/119)، وفي الموضعين الآخرين، فمن طريق أبي إسحاق، ويونس كلاهما عن بُريد بن أبي مريم عن أنس بن مالك. وقال النسائي: وقفه سليمان التيمي واختلف عليه في لفظه، ثم ساقه من طريقين، برقم (71-72) عن سليمان التيمي عن قتادة عن أنس موقوفاً. وفي زيد العمي كلام. والحديث قال فيه الترمذي حسن صحيح. وحسنه الحافظ في "نتائج الفكار" (ص374) ونقل عن الترمذي تحسينه. قال الحافظ: " وقد رواه أبوإسحاق السبيعي عن بريد بن أبي مريم، عن أنس، قال أبوالحسن بن القطان: وإنما لم نصححه لضعف زيد العمي وأما بريد فهو موثوق، وينبغي أن يصحح من طريقه". وصححه الألباني في الإرواء (1/262) ، واعتمد في تصحيحه على رواية بريد بن أبي مريم وكذلك صححه أحمد شاكر في حاشية الترمذي (1، 516، 517) والأمر كذلك لصحة إسناد بريد بن أبي مريم، ولكثرة طرقه، فإنها يقوي بعضها بعضا.(166/319)
…852- وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء قلما ترد على داعٍ دعوته: عند حصول النداء، والصف في سبيل الله"، رواه أبو داود(1).
__________
(1) …(3/45)، 9- الجهاد، حديث (2540). بلفظ " ثنتان لاتردان، أو قلما تردان؛ الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا". والحاكم في المستدرك (1/198) كلاهما من طريق موسى بن يعقوب الزمعي عن أبي حازم عن سهل بن سعد مرفوعاً. وقال الحاكم عقبه: هذا حديث ينفرد به موسى بن يعقوب. قال الحافظ: "موسى بن يعقوب الزمعي، صدوق سيء الحفظ". وقال الذهبي في الميزان (4/227-228): "وثقه ابن معين". وقال النسائي: " ليس بالقوي"، وقال أبوداود: "صالح". وقال ابن المديني: ضعيف، منكر الحديث. وقال ابن عدي: لابأس به وبرواياته. وأخرجه مالك في الموطأ (1/70) 3- الصلاة، حديث 7 وعبدالرزاق في المصنف (1/495)، والبيهقي (1/411) كلاهما من طريق مالك موقوفاً. وأخرجه ابن حبان، الإحسان (3/128)، باب ذكر استحباب الاجتهاد في الدعاء، من طريق أيوب بن سويد، عن مالك عن ابي حازم، عن سهل بن سعد مرفوعاً. والبيهقي (1/410) من طريق موسى ابن يعقوب مرفوعاً أيضاً، وأيوب بن سويد الرملي الشيباني: "صدوق يخطئ" قاله الحافظ في التقريب. ويبدو أن الوقف هو الراجح من حيث الإسناد لكنه مع رجحان وقفه، فمثله لايقال من قبل الرأى كما قال ابن عبدالبر.(166/320)
…853- وفي المسند(1) والترمذي(2) وغيرهما عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ربع الليل قام فقال: "ياأيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة. جاء الموت بما فيه". قال أبي: قلت يارسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ماشئت" قلت:/ الربع؟ قال: "ماشئت، وإن زدت فهو خير لك" قلت: النصف؟ قال: "ماشئت، وإن زدت فهو خير لك" قلت: الثلثين؟ قال: "ماشئت، وإن زدت فهو خير لك" قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: "إذا هذا يكفيك الله ماأهمك من أمر دنياك وآخرتك".
…وفي لفظ " إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك".
…854- وقول السائل: أجعل لك من صلاتي؟ يعني من دعائي. فإن الصلاة في اللغة هي الدعاء. قال تعالى (9: 103): {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ}.
…وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم صل على آل أبي أوفى"(3).
__________
(1) …(5/136) مختصراً.
(2) …تقدم ص (74).
(3) …أخرجه البخاري 80 - الدعوات، 33 - باب هل يصلى على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حديث (6359). ومسلم (2/756)، 12- الزكاة، 45- باب الدعاء لمن أتى بصدقة، حديث (176). وأبوداود (2/246)، 3- الزكاة، 6- باب دعاء المصدق لأهل الصدقة حديث (1590). والنسائي (5/31) 23- الزكاة، 13- باب صلاة الإمام على صاحب الصدقة، حديث (2459). وابن ماجه (1/572)، 8- كتاب الزكاة، 8- باب مايقال عند إخراج الزكاة حديث (1796). وأحمد (4/353-355، 381، 383). كلهم من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبدالله بن أبي أوفي مرفوعاً.(166/321)
…وقالت امرأة: صل عليَّ يارسول الله وعلى زوجي، فقال: صل الله عليك وعلى زوجك"(1).
…855- فيكون مقصود السائل أي يارسول الله إن لي دعاء أدعو به،أستجلب به الخير، واستدفع به الشر، فكم أجعل لك من الدعاء، قال: "ماشئت" فلما انتهى إلى قوله: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال له: "إذا تكفى همك ويغفر ذنبك"(2).
…856- وفي الرواية الأخرى " إذا يكفيك الله ماأهمك من أمر دنياك وآخرتك"(3)، وهذا غاية مايدعو به الإنسان من جلب الخيرات ودفع المضرات، فإن الدعاء فيه تحصيل المطلوب، واندفاع المرهوب، كما بسط ذلك في مواضعه.
…857- وقد ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية، وأعرضوا عن الأدعية البدعية، فينبغي اتباع ذلك. والمراتب في هذا الباب ثلاث:
…858- (إحداها): أن يدعو غير الله وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء والصالحين أو غيرهم فيقول: ياسيدي فلان أغثني أو أنا أستجير بك أو أستغيث بك أو انصرني على عدوي.
__________
(1) …أخرجه أبوداود (2/185)، 2- الصلاة، 363- باب الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديث (1533). والنسائي في عمل اليوم والليلة، (ص319). وأحمد (3/303، 397-398). والدارمي (1/28-29) مقدمة، حديث (46). كلهم عن الأسود بن قيس، عن نُبَيح العنزي، عن جابر مرفوعاً. وفي إسناده نبيح، قال الحافظ في التقريب: "مقبول". وقال الحافظ الذهبي في الكاشف: "ثقة". وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (10/417): قال أبوزرعة: ثقة، لم يرو عنه إلا الأسود بن قيس، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال العجلي: ثقة. وذكره علي بن المديني في جملة المجهولين الذين يروي عنهم الأسود بن قيس وزاد الحافظ أبو خالد الدالاني، وصحح الترمذي حديثه، وكذلك ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. ويبدو أن حديثه حسن. والله أعلم .
(2) …جزءان من حديث أُبي السابق.
(3) …جزءان من حديث اُبي السابق.(166/322)
…859- وأعظم من ذلك أن يقول: اغفر لي وتب عليَّ، كما يفعله طائفة من الجهال المشركين. وأعظم من ذلك أن يسجد لقبره ويصلي إليه ويرى الصلاة إليه أفضل من استقبال القبلة، حتى يقول بعضهم: هذه قبلة الخواص والكعبة قبلة العوام(1).
…860- وأعظم من ذلك أن يرى السفر إليه من جنس الحج حتى يقول: إن السفر إليه مرات يعدل حجة، وغلاتهم يقولون: الزيارة إليه مرة أفضل من حج البيت مرات متعددة. ونحو ذلك، فهذا شرك بهم وإن كان يقع كثير من الناس في بعضه.
…861- (الثانية): أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي، أو ادع لنا ربك، أو اسأل الله لنا، كما تقول النصارى لمريم وغيرها.
…862- فهذا أيضاً لايستريب عالم أنه غير(2) جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة، وإن كان السلام على أهل القبور جائزاً، ومخاطبتهم جائزة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم :
…863- " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين،
وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. يغفر الله لنا ولكم، نسأل الله
لنا ولكم العافية. اللهم لاتحرمنا أجرهم، ولاتفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم"(3).
__________
(1) …والإسماعيلية يقولون: رسائل إخوان الصفا كتاب الأئمة، والقرآن كتاب العامة. والشيعة يسمون أهل السنة وأئمتهم وعلماءهم: العامة. وكلهم يلتقون عند غرض واحد وهو تغير دين الإسلام.
(2) …سقطت من ز .
(3) …تقدم تخريجه في ص (34).(166/323)
…864- وروى أبو عمر بن عبدالبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مامن رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام"(1).
…865- وفي سنن أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مامن مسلم يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام"(2) لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات لادعاء ولاغيره.
…866- وفي موطأ مالك أن ابن عمر كان يقول: " السلام عليك يارسول الله، السلام عليك ياأبا بكر، السلام عليك يا أبة"(3) ثم ينصرف.
…867- وعن عبدالله بن دينار قال: رأيت عبدالله بن عمر يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدعو لأبي بكر وعمر(4).
…868- وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) …ذكره في كنز العمال (15/646) رقم (42556) وعزاه إلى الخطيب وابن عساكر. وهو في تاريخ الخطيب (6/137)، الترجمة (3175) من طريق بشر بن بكير عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعاً. وعبدالرحمن بن زيد "ضعيف جداً"، نقله البخاري والنسائي عن علي بن المديني وقال الحاكم عنه: "روى عن أبيه أحاديث موضوعة لايخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه ". وقال ابن سعد: كان ضعيفاً جداً، وقال ابن معين: ضعيف. وانظر الكلام عليه في الميزان (2/564). والمدخل للحاكم (ص154) الترجمة (97). وذكر الذهبي هذا الحديث في الميزان، من طريق الخطيب بسنده إلى عبدالرحمن بن زيد به. هذا وقد ضعف الحديث الحافظ ابن رجب، فقال: إنه ضعيف بل منكر، نقله الألباني من كتاب الأهوال (ق 83/2). انظر حاشية الآيات البينات في عدم سماع الأموات حاشية ص28.
(2) …تقدم ص (142).
(3) …تقدم تخريجه ص (136).
(4) …تقدم تخريجه ص (137) رقم (4) .(166/324)
…869- فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى، لايدعون مستقبلي الحجرة. وإن كان قد وقع في بعض ذلك طوائف من الفقهاء والصوفية والعامة، فلم يذهب إلى ذلك إمام متبع في قوله، ولامن له في الأمة لسان صدق عام.
…870- ومذهب الأئمة الأربعة - مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد - وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة .
…871- واختلفوا في وقت السلام عليه فقال الثلاثة - مالك والشافعي وأحمد-: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه.
…872- وقال أبو حنيفة : لايستقبل الحجرة وقت السلام، كما لايستقبلها وقت الدعاء باتفاقهم .
…873- ثم في مذهبه قولان: قيل يستدبر الحجرة وقيل يجعلها على يساره. فهذا نزاعهم في وقت السلام، وأما في وقت الدعاء فلم يتنازعوا [في] أنه إنما يستقبل القبلة لا الحجرة.
…874- والحكاية التي تذكر عن مالك / أنه قال للمنصور لما سأله عن استقبال الحجرة فأمره بذلك وقال: " هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم".
…كذب على مالك ليس لها إسناد معروف وهو خلاف الثابت المنقول عنه بأسانيد الثقات في كتب أصحابه، كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي وغيره.
…875- مثل ماذكروا عنه أنه سئل عن أقوام يطيلون القيام مستقبلي الحجرة يدعون لأنفسهم، فأنكر مالك ذلك، وذكر أنه من البدع التي لم يفعلها الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وقال: لايصلح آخر هذه الأمة إلا ماأصلح أولها.
…876- ولاريب أن الأمر كما قاله مالك، فإن الآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين تبين أن هذا لم يكن من عملهم وعادتهم، ولو كان استقبال الحجرة عند الدعاء مشروعاً لكانوا هم أعلم بذلك وكانوا أسبق إليه ممن بعدهم.(166/325)
…877- والداعي يدعو الله وحده، كما نهى عن استقبال الحجرة عند دعائه لله تعالى، كما نهى عن استقبال الحجرة عند الصلاة لله تعالى كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي مرثد الغنوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لاتجلسوا على القبور ولاتصلوا إليها"(1).
…878- فلايجوز أن يصلى إلى شيء من القبور، لاقبور الأنبياء ولاغيرهم؛ لهذا الحديث الصحيح، ولاخلاف بين المسلمين أنه لايشرع أن يقصد الصلاة إلى القبر، بل هذا من البدع المحدثة وكذلك قصد شيء من القبور لاسيما قبور الأنبياء والصالحين عند الدعاء، وإذا لم يجز قصد استقباله عند الدعاء لله تعالى فدعاء الميت نفسه أولى أن لايجوز، كما أنه لايجوز أن يصلي مستقبله فلأن لايجوز الصلاة له بطريق الأولى.
…879- فعلم أنه لايجوز أن يسأل الميت شيئاً، لايطلب منه أن يدعو الله ولاغير ذلك، ولايجوز أن يشكى إليه شيء من مصائب الدنيا والدين .
…880- ولو جاز أن يشكى إليه ذلك في حياته، فإن ذلك في حياته لايُفضي إلى الشرك، وهذا يُفضي إلى الشرك؛ لأنه في حياته مكلف أن يجيب سؤال من سأله لما له في ذلك من الأجر والثواب، وبعد الموت ليس مكلفاً.
…881- بل مايفعله من ذكر لله تعالى ودعاء ونحو ذلك، كما أن موسى يصلي في قبره.
…وكما صلى الأنبياء خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج ببيت المقدس(2)، وتسبيح أهل الجنة والملائكة - فهم يتمتعون بذلك، وهم يفعلون ذلك بحسب مايسره الله لهم ويقدره لهم، ليس هو من باب التكليف الذي يمتحن به العباد.
__________
(1) …تقدم ص (153).
(2) …أخرجه مسلم (1/156-157) الإيمان، حديث (278) ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من قصة الإسراء، وأنه رأى كلا من موسى وعيسى وإبراهيم يصلي، ثم قال: " فحانت الصلاة، فأممتهم فلما فرغت من الصلاة، قال قائل: يامحمد! هذا مالك خازن النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام".(166/326)
…882- وحينئذٍ فسؤال السائل للميت لايؤثر في ذلك شيئاً، بل ماجعله الله فاعلاً له هو يفعله وإن لم يسأله العبد، كما تفعل الملائكة ماتؤمر به، وهم إنما يطيعون أمر ربهم لايطيعون أمر مخلوق، كما قال سبحانه وتعالى (21: 26- 27): {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} فهم لايعملون إلا بأمره سبحانه وتعالى .
…883- ولايلزم من جواز الشيء في حياته جوازه بعد موته، فإن بيته كانت الصلاة فيه مشروعة، وكان يجوز أن يجعل مسجداً. ولما دفن فيه حرم أن يتخذ مسجداً.
…884- كما في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر مافعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً(1).
…885- وفي صحيح مسلم وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"(2).
…886- وقد كان - صلى الله عليه وسلم - في حياته يصلى خلفه، وذلك من أفضل الأعمال، ولايجوز بعد موته أن يصلي الرجل خلف قبره، وكذلك في حياته يطلب منه أن يأمر وأن يفتي وأن يقضي، ولايجوز أن يطلب ذلك منه بعد موته. وأمثال ذلك كثيرة.
…887- وقد كره مالك وغيره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله(3) لأن هذا اللفظ لم يرد، والأحاديث المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة بل كذب(4). وهذا اللفظ صار مشتركاً في عرف المتأخرين يراد به (الزيارة البدعية) التي في معنى الشرك كالذي يزور القبر ليسأله أو يسأل الله به أو يسأل الله عنده .
__________
(1) …تقدم ص (30).
(2) …تقدم ص (29).
(3) تقدم ص150.
(4) …وقد تكلم عليها ابن عبدالهادي في الصارم المنكي.(166/327)
…888- و(الزيارة الشرعية) هي أن يزوره لله تعالى للدعاء له، والسلام عليه كما يصلي على جنازته. فهذا الثاني هو المشروع، ولكن كثيراً من الناس لايقصد بالزيارة إلا المعنى الأول، فكره مالك أن يقول: زرت قبره. لما فيه من إيهام المعنى الفاسد الذي يقصده أهل البدع والشرك / .
…889- (الثالثة(1)) أن يقال: أسألك بفلان أو بجاه فلان عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أنه منهيِّ عنه. وتقدم أيضاً أن هذا ليس بمشهور عن الصحابة، بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس وغيره.
…890- وقد تبين مافي لفظ " التوسل" من الاشتراك بين ماكانت الصحابة تفعله وبين مالم يكونوا يفعلونه.
…891- فإن لفظ التوسل والتوجه في عرف الصحابة ولغتهم هو التوسل والتوجه بدعائه وشفاعته، ولهذا يجوز أن يتوسل ويتوجه بدعاء كل مؤمن، وإن كان بعض الناس من المشايخ المتبوعين يحتج بما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستعينوا بأهل القبور(2).
…892- فهذا الحديث كذب مفترى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء بذلك، ولايوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة .
…893- وقد قال تعالى (25: 58): {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}.
__________
(1) …أي المرتبة الثالثة من مراتب الدعاء البدعي .
(2) …بحثت عنه فلم أجده إلا في كشف الخفاء للعجلوني (1/85) بلفظ: " إذا تحيرتم في الأمور، فاستعينوا بأصحاب القبور" وعزاه للأربعين لابن كمال باشا المتوفى سنة 940. راجع ترجمته في معجم المؤلفين (1/238).(166/328)
…894- وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه غير مشروع، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عما هو أقرب من ذلك - عن اتخاذ القبور مساجد ونحو ذلك - ولعن أهله تحذيراً من التشبه بهم، فإن ذلك أصل عبادة الأوثان. كما قال تعالى (71: 23): {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}.
…895- فإن هؤلاء [كانوا] قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروهم، ثم اتخذوا الأصنام على صورهم، كما تقدم ذكر ذلك عن ابن عباس(1) وغيره من علماء السلف .
…896- وهذا الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الشرك هو كذلك في شرائع غيره من الأنبياء:
…897- ففي التوراة أن موسى عليه السلام نهى بني إسرائيل عن دعاء الأموات وغير ذلك من الشرك، وذكر أن ذلك من أسباب عقوبة الله لمن فعله.
…898- وذلك أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وإن تنوعت شرائعهم، كما في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد"(2).
__________
(1) …تقدم ص (15).
(2) …أخرجه البخاري، 60 - الأنبياء، 48 - باب قول الله تعالى {واذكر في الكتاب مريم} حديث (3443). ومسلم (4/1837) 43- فضائل، 40 - فضائل عيسى عليه السلام، حديث (145)، وأحمد (2/319، 406). كلهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعاً.(166/329)
…899- وقد قال تعالى (42: 13): {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}، وقال تعالى (23: 51-53): {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ، فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، وقال تعالى (30: 30-32): {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
…وهذا هو دين الإسلام الذي لايقبل الله ديناً غيره من الأولين والآخرين، كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع .
فصل
…900 - وإذا تبين ما أمر الله به ورسوله، وما نهى الله عنه ورسوله، في حق أشرف الخلق وأكرمهم على الله عز وجل، وسيد ولد آدم وخاتم الرسل والنبيين، وأفضل الأولين والآخرين، وارفع الشفعاء منزلة وأعظمهم جاهاً عند الله تبارك وتعالى، تبين أن من دونه من الأنبياء والصالحين أولى بأن لا يشرك به، ولا يُتخذ قبره وثناً يعبد، ولا يُدعى من دون الله لا في حياته ولا في مماته.
…901 - ولا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين، مثل أن يقول: ياسيدي فلاناً أغثني وانصرني وادفع عني، أو أنا في حسبك. ونحو ذلك.(166/330)
…902 - بل كل هذا من الشرك الذي حرم الله ورسوله، وتحريمه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وهؤلاء المستغيثون بالغائبين والميتين عند قبورهم وغير قبورهم - لما كانوا من جنس عباد الأوثان - صار الشيطان يضلهم ويغويهم، كما يضل عباد الأصنام ويغويهم فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاثُ به، وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان، وبعض ذلك صدق، لكن لابد أن يكون في ذلك ماهو كذب، بل الكذب أغلب عليه/ من الصدق.
…903 - وقد تقضي الشياطين بعض حاجاتهم، وتدفع عنهم بعض ما يكرهونه، فيظن أحدهم أن الشيخ هو ا لذي جاء من الغيب حتى فعل ذلك، أو يظن أن الله تعالى صور ملكاً على صورته فعل ذلك، ويقول أحدهم: هذا سر الشيخ وحاله! وإنما هو الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك به المستغيث به.
…904 - كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك في أصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم، كما كان ذلك في أصنام مشركي العرب، وهو اليوم موجود في المشركين من الترك والهند وغيرهم.
…905 - وأعرفُ من ذلك وقائع كثيرة في أقوام استغاثوا بي وبغيري في حال غيبتنا عنهم، فرأوني أو ذاك الآخر الذي استغاثوا به قد جئنا في الهواء ورفعنا عنهم، ولما حدثوني بذلك بينتُ لهم أن ذلك إنما هو شيطان تصور بصورتي وصورة غيري من الشيوخ الذين استغاثوا بهم ليظنوا أن ذلك كرامات للشيخ فتقوى عزائمهم في الاستغاثة بالشيوخ الغائبين والميتين.
…906 - وهذا من أكبر الأسباب التي بها أشرك المشركون وعبدةُ الأوثان، وكذلك المستغيثون من النصارى بشيوخهم الذين يسمونهم العلاّس يرون أيضاً من يأتي على صورة ذلك الشيخ النصراني الذي استغاثوا به فيقضي بعض حوائجهم.(166/331)
…907 - وهؤلاء الذين يستغيثون بالأموات من الأنبياء والصالحين والشيوخ وأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غاية أحدهم أن يجري له بعض هذه الأمور أو يحكي لهم بعض هذه الأمور فيظن أن ذلك كرامة وخرق عادة بسبب هذا العمل.
…908 - ومن هؤلاء من يأتي إلى قبر الشيخ الذي يشرك به ويستغيث به فينزل عليه من الهواء طعام أو نفقة أو سلاح أو غير ذلك مما يطلبه فيظن ذلك كرامة لشيخه، وإنما ذلك كله من الشياطين.
…909 - وهذا من أعظم الأسباب التي عبدت بها الأوثان. وقد قال الخليل عليه السلام (14: 35 - 36): {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأصْنَامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ}. كما قال نوح عليه السلام، ومعلوم أن الحجر لا يضل كثيراً من الناس إلا بسبب اقتضى ضلالهم، ولم يكن أحد من عباد الأصنام يعتقد أنها خلقت السموات والأرض، بل إنما كانوا يتخذونها شفعاء ووسائط لأسباب:
…910 - منهم من صورها على صور الأنبياء والصالحين، ومنهم من جعلها تماثيل وطلاسم للكواكب والشمس والقمر، ومنهم من جعلها لأجل الجن، ومنهم من جعلها لأجل الملائكة.
…911 - فالمعبود لهم في قصدهم إنما هو للملائكة والأنبياء والصالحين أو الشمس أو القمر وهم في نفس الأمر يعبدون الشياطين، فهي التي تقصد من الإنس أن يعبدها وتظهر لهم ما يدعوهم إلى ذلك، كما قال تعالى (34: 40 - 41): {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.
…912 - وإذا كان العابد ممن(1) لا يستحل عبادة الشياطين أوهموه أنه إنما يدعو الأنبياء والصالحين والملائكة وغيرهم ممن يحسن العابد ظنه به. وأما إن كان ممن(2) لا يحرم عبادة الجن عرفوه أنهم الجن.
__________
(1) في خ "مما" في كلا الموضعين…(166/332)
…913 - وقد يطلب الشيطان الممثل له في صورة الإنسان أن يسجد له، أو أن يفعل به الفاحشة أو أن يأكل الميتة ويشرب الخمر، أو أن يقرّب لهم الميتة، وأكثرهم لا يعرفون ذلك، بل يظنون أن من يخاطبهم إما ملائكة وإما رجال من الجن يسمونهم رجال الغيب، ويظنون أن رجال الغيب أولياء الله غائبون عن أبصار الناس.
…914 - وأولئك جن تمثلت بصور الإنس أو رؤيت في غير صور الإنس، قال تعالى (72: 6): {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْأنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}.
…915 - كان الإنس إذا نزل أحدهم بواد يخاف أهله قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، وكانت الإنس تستعيذ بالجن فصار ذلك سبباً لطغيان الجن، وقالت: الإنس تستعيذ بنا!.
…916 - وكذلك الرقى والعزائم الأعجمية هي تتضمن أسماء رجال من الجن يُدعون ويُستغاث بهم ويُقسم عليهم بمن يعظمونه، فتطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور.
…917 - وهذا من جنس السحر والشرك قال تعالى (2: 102): {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ / وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْأخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.(166/333)
…918 - وكثير من هؤلاء يطير في الهواء وتكون الشياطين قد حملته وتذهب به إلى مكة وغيرها، ويكون مع ذلك زنديقاً يجحد الصلاة وغيرها مما فرض الله ورسوله، ويستحل المحارم التي حرمها الله ورسوله.
…919 - وإنما يقترن به أولئك الشياطين لما فيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى إذا آمن بالله ورسوله وتاب والتزم طاعة الله ورسوله، فارقته تلك الشياطين، وذهبت تلك الأحوال الشيطانية من الإخبارات والتأثيرات.
…920 - وأنا أعرف من هؤلاء عدداً كثيراً بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها، وبلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم.
…921 - وإنما ظهرت هذه الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان بحسب ظهور أسبابها، فحيث قوي الإيمان والتوحيد ونور الفرقان والإيمان وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية.
…922 - وحيث ظهر الكفر والفسوق والعصيان قويت هذه الأحوال الشيطانية، والشخص الواحد الذي يجتمع فيه هذا وهذا الذي تكون في مادة تمدّه للإيمان ومادة تمدُّه للنفاق يكون فيه من هذا الحال وهذا الحال.
…923 - والمشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام مثل البخشية والطونية والبُدّى ونحو ذلك من علماء المشركين وشيوخهم الذين يكونون للكفار من الترك والهند والخُطا وغيرهم تكون الأحوال الشيطانية فيهم أكثر، ويصعد أحدهم في الهواء ويحدثهم بأمور غائبة، ويبقى الدف الذي يغني لهم به يمشي في الهواء، ويضرب رأس أحدهم إذا خرج عن طريقهم، ولا يرون أحداً يضرب له، ويطوف الإناء الذي يشربون منه عليهم ولا يرون من يحمله، ويكون أحدهم في مكان فمن نزل منهم عنده ضيفه طعاماً يكفيهم، ويأتيهم بألوان مختلفة.
…924 - وذلك من الشياطين تأتيه من تلك المدينة القريبة منه أو من غيرها تسرقه وتأتي به.(166/334)
…925 - وهذه الأمور كثيرة عند من يكون مشركاً أو ناقص الإيمان من الترك وغيرهم، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة.
…وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا التوحيد واتباع الرسول، بل دعوا الشيوخ الغائبين واستغاثوا بهم، فلهم من الأحوال الشيطانية نصيب بحسب ما فيهم مما يرضي الشيطان.
…926 - ومن هؤلاء قوم فيهم عبادة ودين مع نوع جهل. يُحمل أحدهم فيوقف بعرفات مع الحجاج من غير أن يحرم إذا حاذى المواقيت، ولا يبيت بمزدلفة، ولا يطوف طواف الإفاضة، ويظن أنه حصل له بذلك عمل صالح وكرامة عظيمة من كرامات الأولياء، ولا يعلم أن هذا من تلاعب الشيطان به، فإن(1) مثل هذا الحج ليس مشروعاً ولا يجوز باتفاق علماء المسلمين. ومن ظن أن هذا عبادة وكرامة لأولياء الله فهو ضال جاهل.
…927 - ولهذا لم يكن أحد من الأنبياء والصحابة يفعل بهم مثل هذا، فإنهم أجل قدراً من ذلك.
…928 - وقد جرت هذه القضية لبعض من حُمل وطائفة معه من الإسكندرية إلى عرفة، فرأى ملائكة تنزل وتكتب أسماء الحجاج فقال: هل كتبتموني؟ قالوا: أنت لم تحج كما حج الناس، أنت لم تتعب ولم تحرم ولم يحصل لك من الحج الذي يثاب الناس عليه ما حصل للحجاج.
…929 - وكان بعض الشيوخ قد طلب منه بعض هؤلاء أن يحج معهم في الهواء فقال لهم: هذا الحج لا يسقط به الفرض عنكم لأنكم لم تحجوا كما أمر الله ورسوله.
…930 - ودين الإسلام مبني على أصلين: على أن يُعبد الله وحده لا يُشرك به شيء، وعلى أن يُعبد بما شرعه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
…931 - وهذان هما حقيقة قولنا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده / ورسوله".
…فالإله هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيماً وخوفاً ورجاء وإجلالاً وإكراماً. والله عز وجل له حق لا يشركه فيه غيره فلا يُعبد إلا الله، ولا يُدعى إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يُطاع إلا الله.
__________
(1) …في خ "قال".(166/335)
…932 - والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ عن الله تعالى أمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. والرسول - صلى الله عليه وسلم - واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وتحليله وتحريمه، وسائر ما بلغه من كلامه.
…933 - وأما في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية والإغناء، فالله تعالى هو الذي يسمع كلامهم ويرى مكانهم ويعلم سرهم ونجواهم، وهو سبحانه قادر على إنزال النعم، وإزالة الضر والسقم، من غير احتياج منه إلى أن يعرِّفه أحد أحوال عباده، أو يعينه على قضاء حوائجهم.
…934 - والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها، فهو مسبب الأسباب، وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد: (55: 29): {يسأله من في السموات والأرض كل يومٍ هو في شأن}.
…935 - فأهل السموات يسألونه وأهل الأرض يسألونه، وهو سبحانه لا يشغله سمع كلام هذا عن سمع كلام هذا، ولا يغلطه اختلاف أصواتهم ولغاتهم، بل يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، ولا يبرمه إلحاح الملحين، بل يحبُّ الإلحاح في الدعاء.
…936 - وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأحكام أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإجابتهم كما قال تعالى (2: 189) {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، (2: 219): {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ}، (2: 217) {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} إلى غير ذلك من مسائلهم.(166/336)
…937 - فلما سألوه عنه سبحانه وتعالى قال: (2: 186): {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ} فلم يقل سبحانه: "فقل"، بل قال تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} فهو قريب من عباده.
…938 - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث لما كانوا يرفعون أصواتهم بالذكر والدعاء فقال: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعونه أقربُ إلى أحدكم من عنق راحلته"(1).
__________
(1) …أخرجه البخاري، 56 - جهاد (131) - باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير (حديث 2992) 64 - كتاب المغازي، 38 - باب غزوة خيبر، حديث (4205) وفي عدد من المواضع. وأحمد (4/394، 402). ومسلم، (4/2076)، 48 - كتاب الذكر والدعاء، 13 - باب استحباب خفض الصوت بالذكر، حديث (44، 45). وأبوداود (2/182 - 183)، 2 - الصلاة، حديث (1526 - 1528). والترمذي (5/509) 58 - باب ماجاء في فضل التسبيح والتهليل والتحميد، حديث (3461). وعبد الرزاق في مصنفه (5/159)، حديث (9244). والنسائي في "عمل اليوم والليلة" ص (364 - 365)، حديث (538). كلهم من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه.(166/337)
…939 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، ولكن عن يساره وتحت قدمه"(1) وهذا الحديث في الصحيح من غير وجه.
…940 - وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة(2) العرش.
__________
(1) …أخرجه البخاري في عدد من المواضع، منها في 8 - كتاب الصلاة، 33 - باب حك البزاق باليد في المسجد، حديث (405)، (406). و 34 - حك المخاط بالحصى من المسجد، (408)، (409)، وحديث (417) عن أبي هريرة، وابن عمر، وأنس، رضي الله عنهم. ومسلم (4/2303)، 53 - الزهد، حديث (74) من حديث جابر (3707)، 5 - المساجد 13 - باب النهي عن البصاق، حديث (50) عن ابن عمر مرفوعاً. والنسائي (2/51)، 8 - مساجد، 31 - باب النهي عن أن يتنخم الرجل في قبلة المسجد حديث (734) من حديث ابن عمر، و 32 - حديث (725) من حديث أبي سعيد. و 32 - حديث (726) من حديث طارق بن عبد الله المحاربي. ومالك في الموطأ (1/194)، 14 - قبلة 35 - باب النهي عن البصاق في القبلة حديث (4). وأحمد (2/32، 66) كلاهما من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعاً.
(2) …في خ: "بحملة".(166/338)
…941 - وقد جعل تعالى العالم طبقات، ولم يجعل أعلاه مفتقراً إلى أسفله، فالسماء لا تفتقر إلى الهواء، والهواء لا يفتقر إلى الأرض، فالعليّ الأعلى ربُّ السموات والأرض وما بينهما الذي وصف نفسه بقوله تعالى (39: 67): {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أجل وأعظم وأغنى وأعلى من أن يفتقر إلى شيء بحمل أو غير حمل، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، الذي كل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه.
…وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع، قد بين فيه التوحيد الذي بعث الله به رسوله قولاً وعملاً.
…942 - فالتوحيد القولي مثل سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} والتوحيد العملي {قل يا أيها الكافرون} ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهاتين السورتين في ركعتي الفجر(1) وركعتي الطواف(2) وغير ذلك.
__________
(1) …أخرجه مسلم رقم 726 (1/502) 6 - كتاب صلاة المسافرين وقصرها، 14 باب استحباب ركعتي سنة الفجر، والحث عليهما وتخفيفهما والمحافظة عليهما وبيان ما يستحب أن يقرأ فيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) …أخرجه مسلم رقم (1218) (2/888)، 15 كتاب الحج، 190 باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جابر رضي الله عنه.(166/339)
…943 - وقد كان أيضاً يقرأ في ركعتي الفجر وركعتي الطواف (2: 136): {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} الآية. وفي الركعة الثانية بقوله تعالى (3: 64): {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(1).
…944 - فإن هاتين الآيتين فيهما دين الإسلام، وفيهما الإيمان القولي والعملي، فقوله/ تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأسْبَاطِ} إلى آخرها يتضمن الإيمان القولي والإسلام، وقوله {قل يا أهل الكتاب تعالوا الىكلمة سواء بيننا وبينكم} - الآية إلى آخرها - يتضمن الإسلام والإيمان العملي فأعظم نعمةً أنعمها الله على عباده الإسلام والإيمان وهما في هاتين الآيتين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
…945 - فهذا آخر السؤال والجواب الذي أحببت إيراده هنا بألفاظه لما اشتمل عليه من المقاصد المهمة والقواعد النافعة في هذا الباب، مع الاختصار، فإن التوحيد هو سرُّ القرآن ولب الإيمان، وتنويع العبارة بوجوه الدلالات من أهم الأمور وأنفعها للعباد في مصالح المعاش والمعاد. والله أعلم.
تم الكتاب ولله الحمد والمنة
الفهارس
1 - فهرس الآيات…(339)…
2 - فهرس الأحاديث…(351)
3 - فهرس الآثار…(362)
4 - فهرس الأعلام والكنى…(365)
أ - الأعلام…(365)
ب - الكنى…(378)
5 - فهرس الطوائف…(383)
6 - فهرس موارد المؤلف…(385)
7 - فهرس مصادر ومراجع التحقيق والتخريج…(388)
8 - فهرس الموضوعات…(401)
9 - فهرس المقدمة…(418)
1 - فهرس الآيات
__________
(1) …ما يتعلق بركعتي الفجر خرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين حديث 737.(166/340)
الآية ... الفقرة
{أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً}
{آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم}
{أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلاهين من دون الله...} الآية
أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد}
{أتأمرون الناس بالبر وتنسون...} الآية
{ادعوهم لآبائهم}
{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}
{إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يُبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين}
{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}
{اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}
{أفرأيتم ما كنتم تعبدون}
{المص * كتاب أنزل إليكم}
{ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون}
{ألم أعهد إليكم يا بني آدم}
الآية
{الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما}
{الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله}
{الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به}
{الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}
أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً}
{أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم}
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}
{إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}
{إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا* لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا}
{إنا إلى الله راغبون}
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون..}
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
{إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل}
الآية
{إن ربي لسميع الدعاء}
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}
إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا* لقد أحصاهم وعدهم عدا}
{إن الذين يغضون أصواتهم}
{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}
{رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}(166/341)
{رب إني أعوذ بك أن أسألك}
{ربنا أفرغ علينا صبرا}
{ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين}
{ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا}
{ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد}
{ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا...}
{سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون}
{سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم...}
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا...}
الآية
{صلوا عليه وسلموا تسليما}
{ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبلٍ من الله وحبل من الناس}
{ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم}
{فإذا فرغت فانصب* وإلى ربك فارغب}
{فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله...}
{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون...}
{فأقم وجهك للدين حنيفا}
{فإما يأتينكم مني هدى}
{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك}
{فإياي فاعبدون}
{فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر}
{فلا تجعلوا لله أنداداً}
{فلا تخافوهم وخافونِ}
{فلا تخشوا الناس واخشوني}
{فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}
{فما تنفعهم شفاعة الشافعين}
الآية
{فمن كان يرجو لقاء ربه}
{قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم}
{قل ادعوا الذين زعمتم من دونه}
{قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله فلا يملكون مثقال ذرة}
{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}
{قل أؤنبئكم بخير من ذلكم}
{قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً}
{قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون}
{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء}
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}
{كبرت كلمة تخرج من أفواههم}
{كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات}
{لا تذرون آلهتكم}
{لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}
{لنتخذن عليهم مسجداً}
{لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله}
{ليس لك من الأمر شيء}
{ما سلككم في سقر}
الآية
{ماكان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة}
{ما كان للنبي والذين آمنوا}
{ما للظالمين من حميم}(166/342)
{مالكم من دونه من ولي ولا شفيع}
{ما من شفيع إلا من بعد إذنه}
{من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}
{من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه}
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}
{واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا}
{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا}
{وإلى ربك فارغب}
{وأما السائل فلا تنهر}
{وأمرت أن أكون من المسلمين}
{وإن تطيعوه تهتدوا}
{وأنذر عشيرتك الأقربين}
{وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم..}
{وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا}
{وتوكل على الحي الذي لا يموت}
الآية
{وجعل كلمة الذين كفروا السفلى}
{وجيها في الدنيا والآخرة}
{وحاجة قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به..}
{وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا}
{وسيجنبها الأتقى...}
{وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم}
{وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله}
{وعدًا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله}
{وفيكم سماعون لهم}
{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد...}
{وقال موسى ياقوم إن كنتم...}
{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه}
{وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه}
{وقالوا لا تذرن آلهتكم}
{وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}
{وكان عند الله وجيها}
{وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا}
الآية
{وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}
{وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا}
{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره}
{ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}
{ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا}
{ولا تقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة}
{ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة}
{ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله}
{والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}
{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}
{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}(166/343)
{والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}
{ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله...}
{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم}
{ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم...}
{ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا}
الآية
{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}
{وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله}
{وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه ...}
{وما أسألكم عليه من أجر}
{وما تفرق الذين أوتوا الكتاب}
{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة}
{وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة}
{وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون}
{ومن الذين هادوا سماعون للكذب...}
{ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله}
{ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}
{ومن يبتغ غير الإسلام دينا...}
{ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من...}
{ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار}
{ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض...}
{والنجم إذا هوى}
{ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}
{ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات}
{ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم}
{ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة}
{هل أنبئكم على من تنزل الشياطين* تنزل على كل أفاك أثيم}
{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}
{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا}
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله...}
{يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم}
{يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى}
{يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين}
{يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}
الآية
{ياعيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا}
{يجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب إن لهم الحسنى}
{يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}
{يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه}(166/344)
{يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن}
{يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون...}
{من يطع الرسول فقد أطاع الله}
{واتبعوا ما تتلوا الشياطين}
{واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}
{واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً}
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا}
{واجنبني وبني أن نعبد الأصنام}
{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًّا}
{وإذا سألك عبادي عني}
{وإذا مسكم الضر في البحر}
{وإذ أوحيت إلى الحواريين}
{وإذ تقول للذي أنعم الله}
2 - فهرس الأحاديث
الحديث ... الفقرة
"أتاني آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة"
"أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"
"إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور"
"إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم"
"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ"
"إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله ثم يصلي على النبي ثم يدعو بعده بما شاء"
"إذا قام أحدكم إلى صلاته فلا يبصق قبل وجهه"
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله"
"إذا تكفى همك ويغفر ذنبك"
"إذاً هذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك"
"إذهبوا إلى محمد عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"
"أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد"
الحديث
"أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام"
"أسألك بكل اسم هو لك"
"استأذنت ربي أن أستغفر لأمي"
"أسعد الناس بشفاعتي"
"اشتد غضب الله على قوم"
"أعظم الدعاء إجابة"
"أعوذ برضاك من سخطك"
"أعوذ بك من علم لا ينفع"
"أعوذ بكلمات الله التامات"
"أعوذ بالله منك"
"اقطعوا عني لسان هذا"
"أكثروا عليّ من الصلاة"
ألا أخبركم بأهل الجنة"
"اللهم أعني عليهم بسبع"
"اللهم أغثنا"
"اللهم أغفر لقومي"
"اللهم انجز لي ما وعدتني"
"اللهم إنك عفوٌّ"
"اللهم إني أسألك بأن لك الحمد"
"اللهم إني أسألك بأني أشهد"(166/345)
اللهم إني أسألك بحق السائلين"
"اللهم إني أسألك وأتوسل إليك"
"اللهم اهد أم أبي هريرة"
"اللهم صل على آل أبي أوفى"
"اللهم لا تجعل قبري وثنا"
"اللهم لك الحمد وإليك المشتكى"
"إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد"
"إن أبي وأباك في النار"
"إن أحدكم ليسألني المسألة"
"إن أمن الناس علينا في صحبته"
"إن أهون أهل النار عذابا"
"إن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة"
"إن رجلاً ضريراً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -"
"إن شئت دعوت"
"إن عفريتا من الجن"
"إن لله ملائكة سياحين"
"إنه لما اقترف آدم الخطيئة"
"إن من عباد الله لو أقسم على الله"
"إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد"
"إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة أن تمسك زوجها ولا تفارقه"
"إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بثلاث ركوعات"
"إن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم رجلاً أن يدعو فيقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"
"إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل أن يموت بخمس "إني أبرأ إلى الله..."
"إن نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض"
"إنكم تأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء"
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"
"إنما ذاك الشرك كما قال العبد الصالح..."
"أن تجعل لله ندا وهو خلقك"
"أن لا تسألوا الناس شيئاً"
"أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا"
"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"
"أنتم ومن مات لا يشرك بالله شيئاً في شفاعتي"
"إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"
"إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل"
"أول ما خلق الله العقل"
"أيها الناس أربعوا على أنفسكم"
"بعثت بالسيف"
"ثلاث من كن فيه"
"ثنتان لا تردان"
"حتى وجدت برد لسانه"
"حق الله على عباده"
"حيثما مررت بغير مشرك"
"خلق الله التربة يوم السبت"
"خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة"
"رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين"
"ساعتان تفتح فيهما"
"سل تعطه..."(166/346)
"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين المسلمين..."
"السلام عليكم دار قوم مؤمنين..."
"السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -. السلام على أبي بكر..."
"سلو الله لي الوسيلة"
"سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل"
"شفاعتي لمن يشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه"
"صدقك وهو كذوب"
"صلى الله عليك وعلى زوجك"
"صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا"
"عجل هذا"
"على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره"
"فأحمد ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن"
"فانطلق فتوضأ ثم صلِ ركعتين"
"قل كما يقولون"
"كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق"
"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرقي نفسه وغيره"
"كلمتان حبيبتان إلى الرحمن"
"كم من أشعث أغبر ذي طمرين"
"لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة"
"لا بأس بالرقى مالم تكن شركا"
"لاتتخذوا بيتي عيداً"
"لاتتخذوا قبري عيداً"
"لا تجعلوا قبري عيداً"
"لا تجلسوا على القبور"
"لا تحلفوا بآبائكم"
"لا تحلفوا إلا بالله"
"لا تسبوا أصحابي"
"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"
"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم"
"لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد"
"لا تنسنا يا أخي من دعائك"
"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"
"لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة"
"لعن الله اليهود والنصارى أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"
"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذو قبور أنبيائهم مساجد"
"لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته"
"لم تصرف وجهك عنه"
"لو رأيتموني وإبليس، فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه"
"ما بين بيتي ومنبري روضة"
"ما شئت وما زدت فهو خير لك"
"ما شئت؟ قال: الربع"
"ما من أحد يسلم على"
"ما من داعٍ يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم"
"ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة"
"ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه"
"ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي"
"مكانكم حتى آتيكم"(166/347)
"من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد"
"من استطاع أن يطيل غرته"
"من أسدى إليكم معروفا"
"من حلف بغير الله فقد أشرك"
"من حلف باللات والعزى"
"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه"
الحديث
"من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي"
"من زارني بعد مماتي"
"من سألكم بالله فأعطوه"
"من سئل عن علم يعلمه فكتمه"
"من سره أن يحفظ فليصم سبعة أيام"
"من سره أن يوعيه الله حفظ القرآن"
"من شغله قراءة القرآن عن ذكري وسألني أعطيته"
"من صلى علي عندي قبري سمعته"
"من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرا"
"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"
"من قال إذا يسمع النداء"
"من قال حين يسمع النداء"
"من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب..."
"من كان حالفاً فليحف بالله أو ليصمت"
"من الكلمات التي تاب الله بها على آدم"
"من مات وهو يدعو ندا من دون الله دخل النار"
"من نذر أن يطيع الله فليطعه"
"نعم، وجدته في غمرات..."
"نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ قبره مسجدا"
الحديث
"وأسألك بحق السائلين عليك"
"وسئل: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك"
"ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه ضرير"
"والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع"
"ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا"
"ومن لقي الله لا يشرك به شيئا فهو في شفاعتي"
"وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم"
"ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله لايستشفع به على أحد"
"هذا سبيل الله وهذه سُبل على كل سبيل منها شيطان"
"هو موضع الغل"
"يا أنس! كتاب الله القصاص"
"يا أيها الناس اذكروا الله. جاءت الراجفة"
"يابني كعب بن لؤي، أنفذوا"
"يارسول الله جهدت الأنفس"
"يا عبادي إني حرمت الظلم عن نفسي"
"ياغلام إني معلمك كلمات"
"يافاطمة بنت محمد. ياصفية"
"يامعشر قريش اشتروا أنفسكم"
"يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا من غير حساب"(166/348)
"اليد العليا خير من اليد السفلى"
"اليد العليا هي المعطية واليد السفلى السائلة"
"يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة"
"اليهود مغضوب عليهم، النصارى ضالون"
3 - فهرس الآثار
الأثر ... الفقرة
(احذروا فتنة العالم) عن غير واحد من السلف
(إذا قال لك السائل بارك الله فيك) بعض السلف
(استغاثة المخلوق بالمخلوق) البسطامي
(اسمع ما يدعون به لنا) عائشة
(اللهم اجعل عملي كله صالحا)
(اللهم اعصمنا بدينك وطواعيتك)
(اللهم أمرتني فأطعتك)
(اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك) عمر
(اللهم إنك قلت وقولك الحق) ابن عمر
(أما إليك فلا) إبراهيم عليه السلام
(إن كان أراد القبر فلا يأته)
(إن أبا بكر كان يسقط السوط من يده)
(إن الكتابية لا يجوز نكاحها) ابن عمر
(إن المبتوتة لها السكنى والنفقة) ابن مسعود
(إن المحرم إذا مات بطل إحرامه) ابن عمر
(إن الريق نجس) سلمان
(إنها تعتد أبعد الأجلين) علي وابن عباس
(إنه لا مهر لها إذا مات الزوج [أي المفوضة])
(بحق آبائي عليك) داود عليه السلام
(حسبي من سؤالي علمه بحالي) إبراهيم عليه السلام
(حسبي الله ونعم الوكيل) ابن عباس
(دخلنا على رجل من الأنصار) أنس
(ربما ذكرت قول الشاعر) ابن عمر
(السلام عليك يارسول الله) ابن عمر
(قل كما قالت الأنبياء) مالك
(كيف بنا إذا لقينا العدو) عمر
(كنت أصلي والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وعمر) ابن مسعود
(كانوا يقولون من فسد من علمائنا) سفيان بن عيينة
(كان عمر في سفر فصلى الغداة) المعرور بن سويد
(كان من بين آدم ونوح عشرة قرون) ابن عباس
(لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ) ابن مسعود
(لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به) أبوحنيفة
(لايجوز الاشتراط في الحج) ابن عمر
(لايجوز لأحد أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه) ابن عبد السلام
(ليس عليها لزوم المنزل) ابن عباس
(ولولا ذلك لأبرز قبره) عائشة
(هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح) ابن عباس(166/349)
(هو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم) منسوب إلى مالك
(يادليل الحيارى)
(يارسول الله إني أكثر الصلاة عليك)
4 - فهرس الأعلام والكنى
أ - الأعلام
العلم ... الفقرة
آدم عليه السلام:
إبراهيم الهجري
أحمد بن إسحاق الجوهري:
أحمد بن إسماعيل السهمي أبوحذيفة
أحمد بن زيد الجريش
أحمد بن سيار
أحمد بن شبيب بن سعيد
أحمد بن شعبة
أحمد بن عمر أبوالعباس
أحمد بن محمد بن حنبل
إسحاق عليه السلام
إسحاق بن بشر
إسحاق بن راهوية
القاضي إسماعيل
إسماعيل عليه السلام
إسماعيل بن أبان الغنوي
إسماعيل بن إبراهيم
إسماعيل بن إسحاق القاضي
إسماعيل بن سلمة
إسماعيل بن شبيب الحبطي
إسماعيل بن عياش
أصبغ بن الفرج
أنس
أنس بن النضر
أوس بن أوس
أويس القرني
أيوب السختياني
البراء بن مالك
بريرة
البزار
بشر بن البراء
بشر بن الوليد
بطرس
ثابت
جابر بن عبد الله
جرجس
جعفر
جعفر بن محمد
جندب
الحاكم
الحسن بن علي
حماد بن سلمة
حيوة بن شريح المصري
خالد بن خداش العجلاني
الخضر
خيثمة بن سليمان
داود
داود بن سلمة
داود بن علي
الربيع بن أنس
رزين بن معاوية العبدري
روح
روح بن عبادة
روح بن الفرج
روح بن القاسم
زاذان
زَرِيب بن ثرملا
زهير بن العلاء
زيد
زيد بن حارثة
زيد بن الحباب
سابق بن ناجية
سعيد بن جبير
سفيان الثوري
سفيان بن حسين
سفيان بن عيينة
سلام بن مشكم
سلمان
سلمة
سليمان بن مهران الأعمش
سهل بن سعد
شبيب بن سعيد
شعبة
شقيق
شهريار الديلمي
صالح المُرّي
صفوان بن سليم
الضحاك
طارق بن عبد العزيز
الطفيل بن أبي كعب
عائشة رضي الله عنها
عاصم بن عمر بن قتادة
عامر بن شرحبيل الشعبي
عامر بن عبد الله بن الزبير
العباس بن عبد المطلب
عبد الرحمن بن أبي الزناد
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
عبد الرحمن بن القاسم
عبد الرحمن بن مهدي
عبد العزيز الكناني
الحافظ عبد الغني
عبد القادر الجيلاني
عبد الله بن إسماعيل بن أبي مريم
عبد الله بن جعفر
عبد الله بن الحسين(166/350)
عبد الله بن حسين بن حسن بن علي بن أبي طالب
عبد الله بن دينار
عبد الله بن السائب
عبد الله بن عباس
عبد الله بن عمر (رضي الله عنه)
عبد الله بن عمر العمري
عبد الله بن عمرو بن العاص
عبد الله بن المبارك
عبد الله بن مسعود
عبد الله بن مسلم الفهري
عبد الله بن المنتاب أبوالحسن
عبد الله بن نافع
عبد الله بن وهب
عبد الملك بن سعيد بن أبجر
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
عبد الملك بن هارون بن عنترة
عبيدة
عثمان بن حنيف
عثمان بن عفان
عثمان بن عمر
عدي بن حاتم
العزير
عطاء
عطية بن سعد العوفي
عكرمة
العلاء بن عبد الرحمن
علي بن الحسين زين العابدين
علي بن أبي طالب
علي بن عمر الدارقطني
علي بن فهر أبوالحسن
علي بن المديني
عمارة بن خزيمة بن ثابت
عمر بن الخطاب
عمر بن عبد العزيز
عمر الملا الموصلي
عمرو بن الحريث
عمرو بن شعيب
عمير بن يزيد الخطمي المديني
عون بن عمارة
القاضي عياض
عيسى بن مريم
فاطمة بنت رسول الله
فضالة بن عبيد
الفضيل بن عياض
فضيل بن مرزوق
قتادة بن دعامة السدوسي
كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف
رفاعة
كعب الأحبار
لبيد
مالك بن أنس
المأمون
مجاهد بن جبر
محرز بن هشام
أبوبكر بن محمد بن أحمد بن الفرج
محمد بن إدريس الشافعي
محمد بن إسحاق
محمد بن جرير الطبري
محمد بن حميد الرازي
محمد بن شهاب الزهري
محمد بن عبد الواحد المقدسي
محمد بن عجلان
محمد بن أبي محمد
محمد بن مروان السدي
محمد بن المنكدر
محمد بن نصر المروزي
محمود بن غيلان
مروان بن محمد الطاطري
مريم عليها السلام
مسلم بن إبراهيم
المسيح
مسيلمة الكذاب
مصعب بن عبد الله
معاذ بن جبل
معاذ بن هشام
معاوية بن أبي سفيان
المعرور بن سويد
معمر
مقاتل
المنصور
موسى عليه السلام
موسى بن إبراهيم
موسى بن إبراهيم المروزي
موسى بن عبد الرحمن
موسى بن محمد بن حبان
نافع
نوح عليه السلام
وكيع
الوليد بن عبد الملك
الوليد بن مسلم
وهب بن منبه
هارون بن يوسف التاجر
هشام الدستوائي(166/351)
يحيى بن زكريا
يحيى بن سعيد القطان
يحيى بن معين
يحيى بن يحيى الليثي
يزيد بن الأسود
يزيد بن عبد الله بن قسيط
يعقوب
يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل
يعقوب بن سفيان
يعقوب بن شيبة
يوسف
يوسف بن يزيد
يونس
ب - الكنى
الكنية ... الفقرة
أبو أحمد بن عدي
أبو إسماعيل الأنصاري
أبو الأشعث
أبو الأشعث الصنعاني
أبوأمامة بن سهل
أبوبكر الآجري
أبوبكر الإسماعيلي
أبوبكر البيهقي
أبوبكر الحنفي
أبوبكر الخطيب
أبوبكر بن أبي خيثمة
أبوبكر بن أبي الدنيا
أبوبكر بن أبي شيبة
أبوبكر الصديق
أبوجعفر الخطمي
أبوجعفر المديني
أبوجعفر المنصور
أبوحاتم
أبوحاتم السجستاني
أبوالحسن الدارقطني
أبوالحسين القدوري
أبوحنيفة
أبوذر
أبو روق
أبو زرعة
أبوسعيد البصري التميمي
أبو سعيد الخدري
أبو سفيان بن حرب
أبو الشيخ الأصبهاني
أبو صالح
أبو صخر
أبوطلحة
أبو العالية
أبو عبد الله القرشي
أبو عبد الله المقدسي
أبوعثمان بن خالد
أبوالعلاء
أبو علي
أبو علي بن البناء
أبو عمر بن عبد البر
أبوالفرج بن الجوزي
أبوالفضل بن ناصر
أبوالقاسم الزنجاني
أبوالقاسم بن عساكر
أبوالليث السمرقندي
أبومحمد المكي
أبومحمد بن حزم
أبومحمد بن عبد السلام
أبومرثد الغنوي
أبومروان العثماني
أبومصعب
أبوموسى المديني
أبونعيم
أبوالوليد الباجي
أبوهاشم
أبوهريرة
أبوالهياج الأسدي
أبويزيد البسطامي
أبو يعلي الموصلي
أبويوسف
أم حبيبة
أم سليم
أم أبي هريرة
ابن الأثير
ابن أبي حاتم
ابن حبان
ابن حبيب
ابن حميد
ابن أبي الدنيا
ابن أبي ذئب
ابن خزيمة
ابن سلام
ابن السني
ابن سينا
ابن عدي
ابن عقيل
ابن القاسم
ابن أبي قسيط
ابن المنذر
ابن وارة
ابن وهب
5 - فهرس الطوائف والفرق
الطائفة ... الفقرة
الاتحادية
بنو إسرائيل
الإسماعيلية
الخوارج
الرافضة
الزيدية
الشيعة
الصوفية
القدرية
قريظة حلفاء الأوس
قوم إبراهيم
قوم نوح
المتكلمة
المرجئة
المعتزلة
ملاحدة الفلاسفة الدهرية
المنافقون
النصارى
الطائفة
النضير حلفاء الخزرج(166/352)
الوعيدية
اليهود
6 - فهرس موارد المؤلف
المورد ... الفقرة
الأحاديث الجياد المختارة بما ليس في الصحيحين أو أحدهما لضياء الدين المقدسي
الجامع الصحيح للإمام البخاري
جواب المسائل البغدادية
الحلية لأبي نعيم
سنن الترمذي
السنن لأبي داود
السنن لابن ماجه
السنن للنسائي
شرح الكرخي لأبي الحسين القدوري
الصحيحان
صحيح مسلم
فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية
مجابو الدعاء لابن أبي الدنيا
المبسوط للقاضي إسماعيل
مستدرك الحاكم
مسند الإمام أحمد
المضنون به على غير أهله
المعجم للطبراني
منسك المروذي
الموطأ للإمام مالك
7 - فهرس مصادر ومراجع التحقيق والتخريج
( أ )
الإحسان بتقريب صحيح ابن حبان للأمير علاء الدين علي بن بلبان (739) ط بيروت 1407هـ.
أحوال الرجال للحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني (ت 259) ط بيروت 1405هـ.
الأدب المفرد للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (256) ط القاهرة 1379هـ.
الأذكار ليحيى بن شرف النووي (676) ط بيروت 1401هـ.
أسد الغابة لعز الدين علي بن محمد بن الأثير (630) ط القاهرة 1390هـ.
الأسماء والصفات للحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (458) تصوير دار التراث بيروت.
الإصابة للحافظ أحمد بن علي بن حجر (852) نشر دار الكتب العلمية بيروت.
اقتضاء الصراط المستقيم للإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (728) ط السنة المحمدية 1369هـ.
الأم للإمام محمد بن إدريس الشافعي (204) نشر مكتبة الكليات الأزهرية (1381هـ).
الأنوار الكاشفة للعلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي ط لاهور 1402هـ.
الإيضاح ليحيى بن شرف النووي (676) ط دار التأليف بمصر.
(ب)
البحر الرائق للعلامة إبراهيم بن محمد بن نجيم الحنفي (ت 970) تصوير دار المعرفة بيروت.
البدع والنهي عنها للعلامة محمد بن وضاح القرطبي (286).
(ت)
تأريخ بغداد للحافظ أحمد بن علي الخطيب (463) نشر دار الكتاب العربي بيروت.(166/353)
تأريخ أبي زرعة الدمشقي عبد الرحمن بن عمرو (281).
تأريخ دمشق للحافظ أبي القاسم علي بن حسن بن عساكر (ت 571) صورة عن مخطوطة بالظاهرية.
التأريخ للإمام يحيى بن معين (ت233) رواية الدوري تحقيق الدكتور أحمد نور سيف ط 1399هـ.
التأريخ للإمام محمد بن جرير الطبري (ت310)، ط دار المعارف بمصر 1387هـ.
التأريخ الكبير للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (256) مصورة ببيروت 1407هـ.
التأريخ لأحمد بن يعقوب اليعقوبي (ت 284) تصوير بيروت 1400هـ.
تحذير الساجد للمحدث محمد ناصر الدين الألباني ط المكتب الإسلامي بيروت.
تحفة الأحوذي للعلامة عبد الرحمن المباركفوري (1353) ط السلفية بمصر.
تخريج أحاديث مشكلة الفقر للعلامة محمد ناصر الدين الألباني ط بيروت 1405.
تذكرة الحفاظ للحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748)، تصوير دار التراث، بيروت.
ترتيب المدارك للقاضي عياض بن موسى (544)، ط الأوقاف المغربية.
تعجيل المنفعة للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت 852)، ط دار المحاسن، 1386هـ.
التفسير للإمام محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ)، ط الحلبي 1373هـ.
التفسير للحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير القرشي (774)، ط الحلبي.
التقريب للحافظ أحمد بن علي بن حجر الطبعتان المتداولتان.
تلخيص المستدرك للحافظ محمد بن أحمد الذهبي (ت 748)، المصورة مع المستدرك.
التمهيد للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر (ت 463)، ط وزارة الأوقاف المغربية 1405هـ.
تنزيه الشريعة للحافظ علي بن محمد بن عراق الكناني (963)، ط عاطف بمصر.
تهذيب الكمال للحافظ أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي (742)، مصورة الظاهرية.
تهذيب التهذيب للحافظ أحمد بن علي بن حجر (852)، تصوير دار صادر عن الهندية.
(ث)
الثقات للإمام محمد بن حبان البستي (ت 345)، ط حيدر آباد - الهند 1395 - 1403هـ.
(ج)
جامع بيان العلم للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري (ت463)، نشر السلفية 1388هـ.(166/354)
جامع العلوم والحكم للحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب (ت795)، نشر دار المعرفة - بيروت.
الجامع للحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت 463)، ط مكتبة المعارف - الرياض.
الجرح والتعديل للحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت327)، تصوير دار الكتب - بيروت عن الهندية.
حلية الأولياء للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430) تصوير دار الكتاب - بيروت.
(د)
الدر المنثور، للحافظ عبد الرحمن السيوطي (ت 911) ط دار الفكر 1403هـ.
دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (430)، دار المعرفة - بيروت.
دلائل النبوة للحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458)، دار الكتب العلمية - بيروت.
الرد على الأخنائي للإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت 728)، نشر الرئاسة العامة - الرياض.
الروض الأنف للعلامة عبد الرحمن السهيلي (ت581)، دار النصر القاهرة.
(ر)
الرسالة اللدنية لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505)، نشر مكتبة الجندي بمصر.
(ز)
زاد المعاد للإمام محمد ابن أبي بكر ابن القيم (ت 751)، ط مؤسسة الرسالة.
(س)
سلسلة الأحاديث الضعيفة للمحدث محمد ناصر الدين الألباني، ط المكتب الإسلامي - بيروت.
السنة للحافظ أبي بكر عمرو بن أبي عاصم (ت 287)، ط المكتب الإسلامي.
السنن للإمام أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (385) تحقيق عبد الله هاشم ، 1386هـ.
السنن للحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت255)، تحقيق عبد الله هاشم 1386هـ.
السنن للإمام سعيد بن منصور (ت227) تحقيق الأعظمي.
السنن الكبرى للحافظ أحمد بن الحسين البيهقي (ت458)، تصوير دار صادر - بيروت.
السيرة لأبي محمد عبد الملك بن هشام (ت 218)، مؤسسة علوم القرآن.
سير أعلام النبلاء للحافظ محمد بن أحمد الذهبي (ت 748)، ط مؤسسة الرسالة (1401 - 1405)هـ.
(ش)
شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت416) نشر مكتبة وهبة - القاهرة.(166/355)
شرح السنة للإمام حسين بن مسعود البغوي (ت 516)، نشر المكتب الإسلامي، بيروت، (1390 - 1400هـ).
شرح صحيح مسلم ليحيى بن شرف النووي (676).
شرح معاني الآثار للإمام الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة (ت 321)، ط الأنوار المحمدية.
شرح الموطأ للعلامة محمد الزرقاني (ت1122)، ط القاهرة.
الشريعة للإمام أبي بكر محمد بن الحسين الآجري (ت 360)، ط السنة المحمدية القاهرة 1369هـ.
الشفاء للقاضي عياض بن موسى (ت 544)، ط القاهرة.
(ص)
الصارم المنكي لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي (ت 744) ط الإمام بمصر.
الصحيح للإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311) المكتب الإسلامي.
(ض)
الضعفاء للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256).
الضعفاء والمتروكون للإمام علي بن عمر الدارقطني (ت 385)، مكتبة المعارف - الرياض 1404هـ.
الضعفاء لأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي (322)، دار الكتب العلمية - بيروت 1404هـ.
الضعفاء للإمام أحمد بن شعيب النسائي (ت 303)، مؤسسة الكتب الثقافية 1405هـ.
ضعيف الجامع للمحدث ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي 1399هـ.
(ط)
الطبقات للإمام محمد بن سعد (ت230)، دار صادر - بيروت.
طبقات المدلسين للحافظ ابن حجر (ت 852)، ط دار الكتب العلمية - بيروت 1405هـ.
(ع)
عمل اليوم والليلة للحافظ أبي بكر أحمد بن محمد بن السني (ت 364)، دار الطباعة القاهرة 1389هـ.
عمل اليوم والليلة للإمام أحمد بن شعيب النسائي (303)، الرئاسة العامة الرياض 1401هـ.
العلل للإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241)، أنقرة 1963م.
العلل للحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت 327) تصوير عن طبعة القاهرة.
(غ)
غريب الحديث للحافظ عبد الرحمن بن علي الجوزي القرشي (ت 597) ط دار الكتب العلمية - بيروت.
فتح الباري للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت 852) ط السلفية.
فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، للقاضي إسماعيل (ت 282)، المكتب الإسلامي.
(ك)(166/356)
الكاشف للحافظ محمد بن أحمد الذهبي (ت 748)، ط دار النصر، 1392هـ.
الكافي للحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري (463)، ط مكتبة الرياض 1400هـ.
الكامل، لأبي أحمد عبد الله بن عدي (ت 365)، ط دار الفكر 1404هـ.
كتاب الصمت، لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا (ت 281)، دار الغرب 1406هـ.
كتاب المجروحين، للحافظ محمد بن حبان البستي (ت 354)، دار الوعي، حلب 1396هـ.
كشف الأستار، للحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي (807)، مؤسسة الرسالة 1399هـ.
كشف الخفاء للعلامة إسماعيل بن محمد العجلوني (ت 1162)، مصورة عن دار إحياء التراث العربي.
كنز العمال، للمحدث علي المتقي بن حسام الهندي (ت 975) تصوير مؤسسة الرسالة.
(ل)
اللآلئ المصنوعة، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (911) ط القاهرة.
لسان الميزان، للحافظ أحمد بن علي بن حجر (852)، تصوير مؤسسة الأعلمي، بيروت.
(م)
مجابو الدعوة، للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا (ت 281) ط دار الكتب العلمية - بيروت.
مجمع الأنهر للعلامة عبد الله بن محمد داماد أفندي الحنفي (تصوير إحياء التراث العربي).
مجمع الزوائد، للحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807)، تصوير دار الكتاب بيروت.
مجموع الفتاوى للإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (728) ط الرياض.
المجموع ليحيى بن شرف النووي (ت 676)، ط العامة القاهرة.
مختصر قيام الليل، لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي (845)، نشر أكاديمي باكستان.
المدخل إلى الصحيح، للحافظ أبي عبد الله الحاكم (405)، مؤسسة الرسالة 1404هـ.
المدونة للإمام سحنون بن سعيد التنوخي (240)، تصوير دار صادر - بيروت.
مراتب الإجماع، للحافظ علي بن أحمد بن حزم (ت 456)، دار الكتب العلمية - بيروت.
المستخرج، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني (430)، مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية.(166/357)
المسند للإمام أحمد بن محمد بن حنبل (241)، تصوير دار صادر - بيروت.
المسند، للحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني (ت 316) ط حيدر آباد 1385هـ.
المسند، للحافظ أبي يعلى أحمد بن علي الموصلي (ت307)، ط دار المأمون دمشق 1404 - 1407هـ.
المسند للحافظ عبد الله بن الزبير الحميدي (ت219)، نشر المجلس العلمي - كراتشي.
المسند، للإمام سليمان بن داود الطيالسي (204)، مصورة عن طبعة حيدر آباد.
مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي (ت بعد 737)، المكتب الإسلامي 1380هـ.
مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي (ت 321)، تصوير دار صادر.
مصباح الزجاجة للمحدث أحمد بن أبي بكر البوصيري (ت 840) مطبعة حسان القاهرة.
المصنف للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 235) ط الدار السلفية الهند.
المصنف للحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211) تحقيق الأعظمي ط 1390هـ.
معالم التنزيل للإمام حسين بن مسعود البغوي (ت516) المكتب الإسلامي بيروت.
المعجم الأوسط للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني، ط مكتبة المعارف الرياض 1405هـ.
المعجم الصغير للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني، ط المكتب الإسلامي بيروت 1405هـ.
المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق حمدي السلفي 1398هـ فما بعدها.
معراج السالكين لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت 505) دار الطباعة القاهرة.
المعرفة والتأريخ لأبي يعقوب يوسف بن يعقوب البسوي (ت277) مطبعة الإرشاد بغداد 1394هـ.
المغني للإمام عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (ت 620) مطبعة الفجالة 1388هـ القاهرة.
المغني في الرجال للحافظ محمد بن أحمد الذهبي (748)، نشر دار المعارف حلب 1391هـ.
مقالات الإسلاميين للإمام أبي الحسن الأشعري علي بن إسماعيل (ت324) نشر دار النشر فرانز شتاينر 1400هـ.
المهذب للعلامة أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (476)، ط الحلبي.(166/358)
موارد الظمآن للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807) تصوير دار الكتب العلمية.
الموضوعات للحافظ عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (597). نشر عبد المحسن الكتبي.
ميزان الاعتدال للحافظ محمد بن أحمد الذهبي (ت 748)، ط الحلبي 1382هـ.
(ن)
النهاية لمجد الدين المبارك بن محمد بن الأثير (606) ط الحلبي 1383هـ.
وفاء الوفاء لنور الدين علي بن أحمد السمهودي (911). تصوير دار إحياء التراث العربي - بيروت 1401هـ.
8 - فهرس الموضوعات
الفقرة ... الموضوع
1 ... خطبة الحاجة
2 ... الحلال: ما حلله الله ورسوله
3 ... التوسل بالإيمان بالنبي وطاعته فرض على كل أحد
4 ... هو - صلى الله عليه وسلم - شفيع الخلائق يوم القيامة
5 ... التوسل في عرف الصحابة
6 ... سبب نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الاستغفار لعمه وأبيه
9 ... اتفاق المسلمين أنه - صلى الله عليه وسلم - أعظم الناس جاها
10-16 ... الانتفاع بالشفاعة موقوف على شروط وأدلة ذلك
17 ... شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعاؤه تنفع المؤمنين في الدنيا والآخرة باتفاق المسلمين
18، 19 ... إيمان الصحابة والتابعين لهم بإحسان بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأهل الذنوب وإنكار أهل البدع لذلك
20 ... إقرار الصحابة والتابعين والأئمة بأحاديث الشفاعة المتواترة
21 ... تعلق منكري الشفاعة ببعض الآيات القرآنية
22، 23 ... جواب أهل السنة على منكري الشفاعة من وجهين وأدلتهم على ذلك
24 ... الشفاعة التي أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء
26، 27 ... النبي - صلى الله عليه وسلم - حسم مادة الشفاعة الشركية وسد ذرائعها
الفصل الثاني
28 - 33 ... لفظ التوسل يراد به ثلاثة أمور: اثنان منها متفق عليهما
31 ... التوسل بالإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته هو أصل الدين ومنكر هذا كافر
34 ... للرسول - صلى الله عليه وسلم - شفاعات خاصة وعامة
38 ... التوحيد هو أصل الدين(166/359)
40 ... إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وأدلة ذلك
41 ... المشركون مقرون بأن آلهتهم مخلوقة ولكنهم يتخذونهم شفعاء، وأدلة ذلك
45 ... المشركون صنفان
50 ... خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم ودعاؤهم من أعظم أنواع الشرك بالله
51- 61 ... كثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك مصالح ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأي أو الذوق... والأجوبة على ذلك
65 ... أصل جامع (يعني صراط الله) يجب على كل مؤمن اتباعه
67 - 75 ... سد ذرائع الشرك وأدلته
76 - 91 ... زيارة قبور المسلمين على وجهين - شرعية وبدعية وأدلة ذلك وما يستنبط منها
92 - 94 ... ما أحدثه فلاسفة الإلحاد من الشرك والشفاعة مما لا يعرفه أتباع الأنبياء
95 - 96 ... تصرفات شيطانية عند الأوثان والقبور من أعمال وأفعال هي من أعظم أسباب اختلاف البشر
97- 100 ... أمور تفضح أعمال الشياطين منها قراءة القرآن ومنها الاستعاذة بالله
101 - 107 ... قد تتعرض الشياطين للأنبياء لتؤذيهم وتفسد عباداتهم وأدلة ذلك ونصر الله أنبياءه
108 - 110 ... من كان متبعاً للأنبياء نصره الله بما ينصر به أنبياءه وهي أشياء
111 - 129 ... أعمال شيطانية أضلت أناسا ونجا منها آخرون بعلمهم وإيمانهم
130 - 137 ... أهل الجاهلية تجاه فعل الشياطين نوعان - مكذب ومصدق على أساس أنها كرامات
138 - 139 ... أولياء الله هم المؤمنون المتقون وكراماتهم ثمرة تقواهم
140 - 144 ... أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان، وعرض نماذج من أفعال الشياطين
145 - 146 ... قد يتخذ المشركون من الأنبياء والملائكة أرباباً من دون الله والأنبياء والملائكة براء من ذلك والأدلة عليه
148 - 153 ... الملائكة تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم من دون أن يسألهم أحد ومع ذلك لا يجوز دعاؤهم وبيان ذلك
153 - 163 ... أصل سؤال الخلق محرم لكنه أبيح للضرورة وأدلة ذلك(166/360)
164 - 167 ... ما نسب إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - من قول: حسبي من سؤالي علمه بحالي وتزييف المؤلف ذلك وإثباته عكسه بالأدلة من الكتاب والسنة
168 ... علم الله بحاجة العباد لا ينافي أن يأمرهم بالتوبة والاستغفار والدعاء
169 - 170 ... قد يكون العبد مأموراً أحياناً بما هو أفضل من الدعاء
171 ... أفضل العبادات البدنية الصلاة
172 ... السؤال المشروع حسن مأمور به
173 ... دعاء المسلم لأخيه حسن مأمور به
174 - 175 ... أمر الله بسؤال العلم ويجب على المسئول بذله
176 - 179 ... أمور أجاز الشرع طلبها كالأمانات والودائع وما شاكل ذلك
180 - 182 ... من السؤال ما لا يكون مأموراً به والمسئول مأمور بالإجابة
183 ... لم يعرف أن الصديق ونحوه من أكابر الصحابة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً وقد يطلبون منه أن يدعو للمسلمين
184 ... سؤال الأعمى، ثم سؤال أم أنس
185 - 190 ... فضل الصديق، ومكانته، وأدلة ذلك
194 - 195 ... دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين
196 - 198 ... دين الإسلام مبني على أصلين، وبيان ذلك
199 ... إذا كان المؤمنين غير مأمورين بسؤال المخلوقين، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك
200 ... سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد
202 - 207 ... من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، ولهذا لم تجر عادة السلف بأن يهدوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثواب الأعمال
206 - 214 ... طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء، طلب أمر وترغيب، ومن ذلك أمره بطلب الوسيلة وأدلة ذلك
215 - 216 ... ينبغي الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في طلب الدعاء من الغير أن يكون القصد نفع الداعي المأمور بالدعاء
217 ... سؤال الميت ليس بمشروع
220 ... الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقيام بحقوق الله، وحقوق عباده(166/361)
221 ... ما شرعه الله ورسوله، توحيد وعدل وإحسان، وعكس ذلك ما شرعه المبتدعون وأدلة ذلك
229 - 230 ... لا طريق إلى الله إلا اتباع الصراط المستقيم، وما خالف ذلك فهو من طريق أهل الغي والضلال وأدلة ذلك
الفصل الثالث
236 ... لفظ التوسط فيه إجمال واشتباه
237 ... ما أحدثه المحدثون في لفظ التوسل
238 - 242 ... لفظ الوسيلة في القرآن، ومعناه
243 - 245 ... لفظ الوسيلة في السنة، ومعناه
245 ... التوسل بالنبي في كلام الصحابة
247 ... التوسل في عرف كثير من المتأخرين
248 - 249 ... خلاصة ما سبق
251 - 253 ... عود إلى بيان معنى التوسل، وأنواعه
254 - 259 ... رأي الإمام أبي حنيفة وأصحابه في التوسل بحق المخلوقين
260 - 261 ... إقسام الله بمخلوقاته، لتضمنه ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته
262 - 269 ... الحلف بغير الله، وحكمه
271 - 274 ... إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، وأحاديث في معناه
276 - 277 ... الإقسام بالله على عباده
278 ... الخلق كلهم يسألون الله، مؤمنهم وكافرهم، وقد يجيب الله دعاء الكفار
279 - 284 ... سؤال الله بأسمائه وصفاته ليس إقساماً على الله
286 ... اسم الله الحي القيوم يجمع أصل معاني الأسماء والصفات
288 - 289 ... سماع الله قد يكون بمعنى الإجابة، آيات وأحاديث في هذا المعنى
290 - 291 ... مشروعية حمد الله، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يدي الدعاء
294 ... ما المراد بحق السائلين على فرض صحة الحديث
292 ... لفظ السمع له عدة معانٍ
295 - 301 ... السؤال بالإيمان، والعمل الصالح من أسباب إجابة الدعاء
302 ... الباء قد تكون للقسم، وقد تكون للسببية
303 - 306 ... للأنبياء والملائكة والصالحين جاه عظيم، ومنازل رفيعة تقتضي أن يرفع الله درجاتهم، لكن مجرد قدرهم لا يعتبر سببا لإجابة دعاء من توسل بجاههم؛ لأن ذلك أمر أجنبي(166/362)
307 ... السؤال بالإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومحتبه سبب عظيم للإجابة
308 - 312 ... شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل التوحيد المخلصين
313 - 325 ... السؤال بحق فلان مبني على أصلين، وتوضيح ذلك
326 - 336 ... الفروق العظيمة، بين الخالق والمخلوق، وبيان شيء من ذلك
337 - 339 ... توضيح معنى حق المخلوق على الله
340 - 341 ... سؤال الله بأسمائه وصفاته، أعظم ما يسأل الله به
342 - 354 ... بيان معنى حق العباد على الله، ومعنى امتناع الظلم عليه وأمور تتعلق بهذا المعنى
355 - 361 ... السؤال بحق الرحم وبيان هذا الحق
362 - 364 ... قول أبي حنيفة وأصحابه بمنع التوسل بالمخلوق يتضمن أمرين
365 ... حديث الأعمى صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -
366 ... توسل عمر بالعباس يدل على أنَّ التوسل المشروع إنما هو بالدعاء، لا بالذات.
369 - 370 ... لا يصح أن مالكاً يجيز التوسل بمعنى الإقسام، أو السؤال
371 - 372 ... الصحابة إنما كانوا يتوسلون بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودليل ذلك
375 ... كذب من ينقل عن مالك، والأئمة جواز سؤال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته
376 - 382 ... حب السلف واحترامهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
384 - 404 ... حكاية غريبة الإسناد منقطعة، بل هي كذب نسبت إلى مالك فيها التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومناقشتها سنداً ومتناً
405 ... دليل الأئمة على السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند قبره
406 ... أحاديث زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -، كلها ضعيفة
410 - 412 ... لا يجب الوفاء بنذر زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - ولا قبر غيره باتفاق الأئمة ومذاهبهم في السفر إلى المساجد
414 ... زيارة القبور تنقسم إلى، شرعية، وبدعية
422 - 430 ... أحاديث في الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(166/363)
431 - 438 ... عود إلى مناقشة الحكاية المنسوبة إلى مالك
439 - 440 ... الكلام على حكاية العتبي
441 - 444 ... مناقشة الخطأ في استعمال لفظ الشفاعة الوارد في الحكاية
445 ... من لا يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها يقع في التحريف
446 - 461 ... أناس يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان مخالفة لمعانيهم، ومنها الملائكة والعقول، والنفوس، والشفاعة، والمحدث، والقديم، والتوسل
462 ... أمرنا الله أن نصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن نطلب له الوسيلة
463 - 464 ... الوسيلة التي أمرنا الله أن نبتغيها والتوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته
466 ... ليس في شيء من دواوين الإسلام، حديث صحيح مرفوع يدل على التوسل الذي يتعلق به المبتدعون
467 - 470 ... رأي ابن الجوزي وأبي العلاء الهمداني في المراد بالحديث الموضوع
471 ... لا يعرف في الصحابة من تعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما لم تعرف فيهم البدعة
477 ... المصنفون في الفضائل يتساهلون في إيراد الأحاديث الضعيفة
479 ... لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي
481 ... الإسرائيليات لا يثبت بها شرع
483 - 484 ... تقسيم السلف للحديث إلى صحيح وضعيف
485 ... تقسيم الترمذي الحديث إلى ثلاثة أقسام وتعقب شيخ الإسلام له
487 - 491 ... الأحاديث التي فيها السؤال بنفس المخلوقين ضعيفة وواهية، ومنها حديث عبد الملك بن هارون ومناقشة شيخ الإسلام لهذا الحديث
492 ... حديث عبد الملك بن هارون في استفتاح أهل الكتاب
493 - 499 ... حديث عبد الرحمن بن زيد في توسل آدم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومناقشته ونقد تصحيح الحاكم ومقارنته بغيره من الأئمة
500 - 507 ... حديث عن الشيخين وكتابيهما
508 - 509 ... حديث توسل آدم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الإسرائيليات لا يجوز أنْ تبنى عليه شريعة
510 ... شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافه(166/364)
511 - 515 ... حديث في التوسل يرويه موسى بن عبد الرحمن الصنعاني الكذاب ونقد الكتب التي روته وأمثاله
516 ... منهج أئمة الحديث الذين يروون الأحاديث للاحتجاج بها
517 ... إشارة إلى أئمة الجرح والتعديل
520 - 525 ... في الباب آثار ضعيفة منها حكاية الأربعة الذين اجتمعوا عند الكعبة وتوسل بعضهم ومناقشتها
526 ... قد يدعو البعض عند الكنائس والأوثان ويحصل ما يحصل من أغراضهم
527 ... كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد تكون فيها مضرة
529 - 557 ... حديث الأعمى ورواته ومصادره واختلاف الرواة فيه وبيان علله
558 - 563 ... عمل الصحابي إذا لم يوافقه غيره لا تثبت به شريعة وأمثلة ذلك
564 - 569 ... المتابعة: أن نفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، وما فعله - صلى الله عليه وسلم - بحكم الاتفاق لا يشرع لنا أن نفعله وتوضيح ذلك
569 - 574 ... إذا فعل الصحابي فعلاً لم يشرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقال إنه سنة مستحبة وأمثلة ذلك
574 ... من قال من العلماء: إن قول الصحابي حجة فذلك إذا لم يخالفه نص ولم يخالفه غيره من الصحابة
577 - 582 ... لو سلم أن عثمان بن حنيف روى مشروعية التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته فإن الصحابة قد خالفوه والحق معهم
الفصل الرابع
583 ... التوسل بمعنى الإقسام على الله بالأنبياء والصالحين أو السؤال بهم لا يستطيع أحد أن يثبت فيه شيئاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
585 - 587 ... لايجوز القسم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم ولا يجوز أن ينذر لهم
588 - 594 ... السؤال بغير الله من غير إقسام به والآثار الواردة فيه وبيان ضعفها وأقوال أهل العلم في ذلك
598 - 606 ... أسئلة فرضت في الإقسام بالمخلوقات وأجوبتها
607 - 613 ... قد سوى الله بين جميع المخلوقات في ذم الشرك بها وإن كانت معظمة وأدلة ذلك
614 - 616 ... أحاديث الشفاعة تدل على أن الأمر كله لله(166/365)
617 - 620 ... كلام حول الإقسام بغير الله والسؤال به
621 - 638 ... التفسير الصحيح لقول الله {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا}، والآثار الثابتة المطابقة لمعنى الآية، والآثار غير الثابتة التي يتعلق بها المبتدعون
639 - 649 ... آيات وأحاديث في إخلاص التوحيد لله والزجر عن الشرك وأسبابه ووسائله
650 - 651 ... حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" واحتجاج مالك به
653 - 665 ... آيات وأحاديث في إخلاص العبادة والتوحيد لله، وتوضيح الفرق بين حقوق الله وحقوق الرسول - صلى الله عليه وسلم -
666 ... أشياء يخلقها الله بما يشاء من الأسباب ولم يجعل غيره من العباد واسطة في خلق تلك الأشياء
667 ... أَمَّا جعل الهدى في القلوب فإلى الله
669 ... الأنبياء وسائط في تبليغ ما أنزل الله من الوحي
670 ... أسلوب عظيم في بيان ما يستحقه الله
671 - 679 ... الأنبياء إنما يتوسل بالإيمان بهم ومحبتهم وطاعتهم والتوسل بهم يكون على وجهين وتفصيل ذلك
680 - 686 ... دين الإسلام مبني على أصلين وتوضيح ذلك بالأدلة
الملحق
687 ... السبب الداعي إلى هذا الإلحاق
688 - 689 ... صورة السؤال وفكرة عن صورة الجواب
690 ... للنبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعات منها الخاصة ومنها المشتركة
691 ... موقف الوعيدية من الشفاعة
694 ... التوسل الذي ذكره عمر قد جاء مفسراً في أحاديث الاستسقاء
695 ... توسل معاوية بيزيد بن الأسود أي بدعائه
696 ... الاستسقاء بأهل الدين والصلاح أي بدعائهم
697 - 701 ... استسقاء الصحابة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي بدعاءه
702 - 704 ... كل من وجبت طاعته من المخلوقين فلأن ذلك طاعة لله مثل أولي الأمر، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
705 - 706 ... الشافع لا تجب طاعته
707 ... الخالق أمره أعلى وأجل من أن يكون شافعاً
709 - 710 ... كثير من أهل البدع ينكر الشفاعة في أهل الكبائر وعلى العكس الصحابة وأهل السنة(166/366)
711 - 714 ... الاستسقاء والاستشفاع بالنبي وبغيره في حال الحياة
718 - 720 ... منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه صاحب الشفاعة والمقام المحمود
721 ... جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق
723 - 727 ... استفاضت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وسبب ذلك
728 ... علم الصحابة من النبي حسم مادة الشرك فلم يتخذوا القبور مساجد
729 - 730 ... وعلم الصحابة أنَّ التوسل إنَّما هو بالإيمان به - صلى الله عليه وسلم - وطاعته ودعائه لهم فلم يكونوا يتوسلون بذاته
731 - 735 ... أحاديث تنهى عن اتخاذ القبور مساجد وتنهى عن الإطراء والغلو
736 - 739 ... حديث الأعمى وبيان أنه إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -
740 - 744 ... مناقشة لمن فهم مقصود حديث التوسل فهما خاطئاً
745 ... اتفاق حديث الأعمى وقول عمر في التوسل وأن معناهما واحد
746 ... لم يتوسل عميان الصحابة بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بذاته لأنه غير مشروع
748 ... الصحابة لم يطلبوا من النبي الدعاء بعد موته
752 - 754 ... طلبه - صلى الله عليه وسلم - من أمته الدعاء له إنما هو تعليم لهم، ينتفعون به ويعظم الله أجره بسبب هذا التعليم..
755 - 758 ... رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرغب إلى غير الله وقد علم أمته ذلك
761 - 769 ... يطلب الدعاء من المخلوق لأنه مما يقدر عليه وأما مالا يقدر عليه المخلوق، فلا يجوز طلبه لا من الأنبياء ولا من الملائكة ولا من غيرهم
770 ... ما يفعله الملائكة ويفعله الأنبياء والصالحون بعد موتهم هو بالأمر الكوني فلا يؤثر فيه سؤال السائلين
770 ... آيات في تقرير التوحيد وإبطال الشرك
772 - 775 ... تقرير الشفاعة المشروعة والشفاعة الممنوعة
776 - 779 ... أحاديث تنهى عن الغلو وذرائع الشرك
781 - 787 ... لا يعبد إلا الله ولا يعبد الله إلا بما شرع وتقرير ذلك(166/367)
788 ... العبادات مبناها على التوقيف
790 ... لا ينبغي لأحد أن يخرج عما قضت به السنة وجاءت به الشريعة
792 - 796 ... اتفاق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله والاستدلال على ذلك، وتوضيحه
797 ... لا يستعاذ بالمخلوقات
799 ... النهي عن الرقى التي فيها شرك
800 - 813 ... التفريق بين الأسباب المقتضية لحصول المطلوب - كالتوسل بالأعمال الصالحة - وبين الأسباب التي لا تقتضي حصوله، وبين السؤال والإقسام وتفصيل ذلك
814 - 819 ... معنى حق العباد على الله، وهل يقسم على الله بهذا الحق أو يسأله به، وشرح ذلك
825 - 830 ... لا يقسم على الله بشيء من المخلوقات ومذهب أبي حنيفة، وأصحابه
832 ... إقسام الله بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته
833 - 838 ... من قال لغيره أسألك بكذا إما أن يكون مقسما، أو سائلاً، وحكم ذلك
840 ... حديث: إسألوا الله بجاهي باطل
841 ... دعاء غير الله كفر
842 - 844 ... رأي ابن عبد السلام في التوسل وكلام المؤلف حوله
845 - 856 ... الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، والأدلة على ذلك..
857 ... ذكر علماء الإسلام وأئمة الدين الأدعية الشرعية، وأعرضوا عن الأدعية البدعية فينبغي اتباع ذلك
858 - 873 ... مراتب الدعاء البدعي وأدلتها، وحكمها، وأن عمل الصحابة ضدها
874 - 876 ... كذب الحكاية المنسوبة إلى مالك وبيان بطلانها من مذهبه، وعمل السلف ضدها...
877 - 888 ... لا يدعى إلا الله، ولا يجوز أن يسأل الأموات شيئاً والنهي عن اتخاذ قبورهم مساجد، والأمر بزيارة قبورهم
889 ... المرتبة الثالثة من مراتب الدعاء البدعي أن يقال: أسألك بحق فلان...
898 - 899 ... دين الأنبياء واحد وإن تنوعت شرائعهم وأدلة ذلك
الفصل الخامس
900 ... خلاصة ما سبق بحثه...(166/368)
901 - 929 ... لايجوز لأحد أن يستغيث بغير الله، وبيان تحريم الشرك، وبيان تصرفات الشياطين الداعية إلى الشرك وتلاعبهم بكثير من طوائف الضلال
930 - 939 ... دين الإسلام مبني على أصلين، وتوضيح ذلك والفصل بين حقوق الله وبين حقوق الرسل وبيان عظمة الله جل جلاله...
940 - 941 ... إثبات علو الله وأنه على العرش استوى مع غناه سبحانه عن العرش، وإغنائه بعض مخلوقاته عن بعض
942 - 944 ... لمحة عن التوحيد القولي والتوحيد العملي، وأدلتهما
945 ... الخاتمة...
9 - فهرس المقدمة
الصفحة ... الموضوع
خطبة الحاجة
الأسباب الدافعة إلى العمل في هذا الكتاب
الكتب التي ألفت في هذا الفن
خطة العمل
لمحة عن حياة الإمام ابن تيمية
موضوع كتاب التوسل والوسيلة
منهج شيخ الإسلام في هذا الكتاب(166/369)
قوادح عقدية
في بردة البوصيري
للشيخ عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن ميمية البوصيري - المعروفة بالبردة - من أشهر المدائح النبوية وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، ولذا تنافس أكثر من مائة شاعر في معارضتها، فضلاً عن المشطِّرين والمخمِّسين والمسبِّعين، كما أقبل آخرون على شرحها وتدريسها، وقد تجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحاً، فيها ما هو محلى بماء الذهب! وصار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن.
يقول الدكتور زكي مبارك:(وأما أثرها في الدرس، فيتمثل في تلك العناية التي كان يوجهها العلماء الأزهريون إلى عقد الدروس في يومي الخميس والجمعة لدراسة حاشية الباجوري على البردة،وهي دروس كانت تتلقاها جماهير من الطلاب، وإنما كانوا يتخيرون يومي الخميس والجمعة؛ لأن مثل هذا الدرس لم يكن من المقررات فكانوا يتخيرون له أوقات الفراغ)(1).
وقد أطلق البوصيري على هذه القصيدة "البردة" من باب المحاكاة والمشاكلة للقصيدة الشهيرة لكعب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد اشتهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى كعباً بردته حين أنشد القصيدة - إن صح ذلك - (1) فقد ادعى البوصيري- في منامه- أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - ألقى عليه بردة حين أنشده القصيدة!!
وقد سمى البوصيري هذه القصيدة أيضاً بـ "الكواكب الدرية في مدح خير البرية"(2).
__________
(1) :يقول ابن كثير - رحمه الله- في " البداية والنهاية "(4/373):(ورد في بعض الروايات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه بردته حين أنشده القصيدة.. وهذا من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه؛ فالله أعلم).
(2) :انظر مقدمة محقق "ديوان البوصيري" (ص29).(167/1)
كما أن لهذه البردة اسماً آخر هو البرأة؛ لأن البوصيري كما يزعمون برئ بها من علته، وقد سميت كذلك بقصيدة الشدائد؛ وذلك لأنها- في زعمهم- تقرأ لتفريج الشدائد وتيسير كل أمر عسير.
وقد زعم بعض شراحها أن لكل بيت من أبياتها فائدة؛ فبعضها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون(1).
يقول محمد سيد كيلاني- أثناء حديثه عن المخالفات الشرعية في شأن البردة- :
(ولم يكتف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول البردة، بل وضعوا لقراءتها شروطاً لم يوضع مثلها لقراءة القرآن، منها: التوضؤ، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، وأن يكون القارئ عالماً بمعانيها، إلى غير ذلك. ولا شك في أن هذا كله من اختراع الصوفية الذين أرادوا احتكار قراءتها للناس، وقد ظهرت منهم فئة عرفت بقراء البردة، كانت تُستدعى في الجنائز والأفراح، نظير أجر معين)(2).
__________
(1) :انظر "المدائح النبوية" لزكي مبارك (ص197).
(2) :"مقدمة ديوان البوصيري" (ص29- 30).(167/2)
وأما عن مناسبة تأليفها فكما قال ناظمها:(كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني خِلْط فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتها، واستشفعت بها إلى الله في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت ودعوت،وتوسلت ونمت، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدت فيّ نهضة؛ فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء فقال لي: أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: أيّها؟ فقال: التي أنشأتها في مرضك، وذكر أوّلها، وقال: والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتمايل وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام)(1).
ففي هذه الحادثة تلبّس البوصيري بجملة من المزالق والمآخذ، فهو يستشفع ويتقرب إلى الله - تعالى- بشرك وابتداع وغلو واعتداء- كما سيأتي موضَّحاً إن شاء الله-.
ثم ادعى أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يبيّن نعته؛ فإن من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حسب صفاته المعلومة فقد رآه؛ فإن الشيطان لا يتمثل به - كما ثبت في الحديث -.
__________
(1) :"فوات الوفيات" لمحمد بن شاكر الكتبي (2/258).(167/3)
ثم ادعى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على وجهه وألقى عليه بردة، فعوفي من هذا الفالج، فتحققت العافية بعد المنام دون نيل البردة! ثم التقى البوصيري- في عالم اليقظة- بأحد المتصوفة وأخبره بسماع القصيدة بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تمايل إعجاباً بالقصيدة، وهذا يذكّرنا بحديث مكذوب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواجد عند سماع أبيات حتى سقطت البردة عن منكبيه وقال:(ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب).
قال شيخ الإسلام:(إن هذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته
وأحواله)(1).
وأما عن استجابة دعاء البوصيري مع ما في قصيدته من الطوامِّ، فربما كان لاضطراره وعظم فاقته وشدة إلحاحه السبب في استجابة دعائه.
يقول شيخ الإسلام:(ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطراً ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له، لصدق توجهه إلى الله، وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركاً، ولو استجيب له على يد المتوسل به، صاحب القبر أو غيره لاستغاثته، فإنه يعاقب على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعفُ الله عنه، فكم من عبد دعا دعاء غير مباح، فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان سبب هلاكه في الدنيا والآخرة)(2).
__________
(1) :"مجموع الفتاوى" (11/598).
(2) :"اقتضاء الصراط المستقيم" (2/692- 693) باختصار.(167/4)
وأما عن التعريف بصاحب البردة فهو:محمد بن سعيد البوصيري نسبة إلى بلدته أبو صير بين الفيوم وبني سويف بمصر، ولد سنة 608هـ، واشتغل بالتصوُّف، وعمل كاتباً مع قلة معرفته بصناعة الكتابة، ويظهر من ترجمته وأشعاره أن الناظم لم يكن عالماً فقيهاً، كما لم يكن عابداً صالحاً؛ حيث كان ممقوتاً عند أهل زمانه لإطلاق لسانه في الناس بكل قبيح، كما أنه كثير السؤال للناس، ولذا كان يقف مع ذوي السلطان مؤيداً لهم سواءً كانوا على الحق أم على الباطل.
ونافح البوصيري عن الطريقة الشاذلية التي التزم بها، فأنشد أشعاراً في الالتزام بآدابها،
كما كانت له أشعار بذيئة يشكو من حال زوجه التي يعجز عن إشباع شهوتها!
توفي البوصيري سنة 695هـ وله ديوان شعر مطبوع (1).
وسنورد جملة من المآخذ على تلك "البردة" التي قد تعلّق بها كثير من الناس مع ما فيها من الشرك والابتداع.والله حسبنا ونعم الوكيل.
1- يقول البوصيري:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تُخرج الدنيا من العدم
ولا يخفى ما في عَجُز هذا البيت من الغلو الشنيع في حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث زعم البوصيري أن هذه الدنيا لم توجد إلا لأجله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال- سبحانه- : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } ]الذاريات:56[، وربما عوّل أولئك الصوفية على الخبر الموضوع:(لولاك لما خلقت الأفلاك)(2).
2- قال البوصيري:
فاق النبيين في خَلق وفي خُلُق ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم(167/5)
أي أن جميع الأنبياء السابقين قد نالوا والتمسوا من خاتم الأنبياء والرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالسابق استفاد من اللاحق! فتأمل ذلك وقارن بينه وبين مقالات زنادقة الصوفية كالحلاج القائل: إن للنبي نوراً أزلياً قديماً كان قبل أن يوجد العالم، ومنه استمد كل علم وعرفان؛ حيث أمدّ الأنبياء السابقين عليه.. وكذا مقالة ابن عربي الطائي أن كل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي يأخذ من مشكاة خاتم النبيين (1).
3- ثم قال:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله- منتقداً هذا البيت:(ومن المعلوم أن أنواع الغلو كثيرة، والشرك بحر لا ساحل له، ولا ينحصر في قول النصارى؛ لأن الأمم أشركوا قبلهم بعبادة الأوثان وأهل الجاهلية كذلك، وليس فيهم من قال
في إلهه ما قالت النصارى في المسيح - غالباً- :إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، بل كلهم معترفون أن آلهتهم ملك لله، لكن عبدوها معه لاعتقادهم أنها تشفع لهم أو تنفعهم فيحتج الجهلة المفتونون بهذه الأبيات على أن قوله في منظومته:دع ما ادعته النصارى في نبيهم مَخْلَصٌ من الغلو بهذا البيت، وهو قد فتح ببيته هذا باب الغلو والشرك لاعتقاده بجهله أن الغلو مقصور على هذه الأقوال الثلاثة)(1).
لقد وقع البوصيري وأمثاله من الغلاة في لبس ومغالطة لمعنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -:(لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا:عبد الله ورسوله) (2)، فزعموا أن الإطراء المنهي عنه في هذا الحديث هو الإطراء المماثل لإطراء النصارى ابن مريم وما عدا ذلك فهو سائغ مقبول، مع أن آخر الحديث يردّ قولهم؛ فإن قوله- عليه الصلاة والسلام-:(إنما أنا
__________
(1) :"الدرر السنية" (9/81)، وانظر (9/48)، وانظر:"صيانة الإنسان" للسهسواني (تعليق محمد رشيد رضا) (ص88).
(2) :أخرجه البخاري (ح 3445).(167/6)
عبد فقولوا:عبد الله ورسوله) تقرير للوسطية تجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو عبد لا يُعبد،
ورسول لا يُكذب، والمبالغة في مدحه تؤول إلى ما وقع فيه النصارى من الغلو في عيسى
- عليه السلام-، وبهذا يُعلم أن حرف الكاف في قوله - صلى الله عليه وسلم -:(كما أطرت) هي كاف التعليل، أي كما بالغت النصارى(1).
ويقول ابن الجوزي- في شرحه لهذا الحديث- :(لا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه؛ لأنَّا
لا نعلم أحداً ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى- عليه السلام- وإنما سبب النهي فيما لم يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما استأذن في السجود له فامتنع ونهاه؛ فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما هو فوق ذلك فبادر إلى النهي تأكيداً للأمر)(2).
4- وقال أيضاً:
لو ناسبت قدره آياته عظماً أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرمم
يقول بعض شرّاح هذه القصيدة:(لو ناسبت آياته ومعجزاته عظم قدره عند الله- تعالى- وكل قربه وزلفاه عنده لكان من جملة تلك الآيات أن يحيي الله العظام الرفات ببركة اسمه وحرمة ذكره)(3).
يقول الشيخ محمود شكري الآلوسي منكراً هذا البيت:ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو؛ فإن من جملة آياته - صلى الله عليه وسلم - القرآن العظيم الشأن؛ وكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن
لا يناسب قدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو منحط عن قدره (ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه
الحسنى إذا ذكرها الذاكر لها تحيي دارس الرمم ؟)(4).
5 – وقال أيضاً:
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنتشق وملتثم
__________
(1) :انظر "القول المفيد"(1/376)، و"مفاهيمنا" لصالح آل الشيخ (ص226)، و"محبة الرسول" لعبد الرؤوف عثمان (ص208).
(2) :"فتح الباري" (12/149).
(3) :"غاية الأماني" للآلوسي (2/349).
(4) :"غاية الأماني" للآلوسي (2/350) باختصار وانظر "الدر النضيد" لابن حمدان (ص136).(167/7)
فقد جعل البوصيري التراب الذي دفنت فيه عظام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطيب وأفضل مكان، وأن الجنة والدرجات العلا لمن استنشق هذا التراب أو قبَّله، وفي ذلك من الغلو والإفراط الذي يؤول إلى الشرك البواح، فضلاً عن الابتداع والإحداث في دين الله- تعالى-.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله- :(واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد)(1).
6 – ثم قال:
أقسمتُ بالقمر المنشق إن له من قلبه نسبة مبرورة القسم
ومن المعلوم أن الحلف بغير الله - تعالى- من الشرك الأصغر؛ فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) (2).
وقال ابن عبد البر- رحمه الله-: لا يجوز الحلف بغير الله - عز وجل- في شيء من الأشياء ولا على حال من الأحوال، وهذا أمر مجتمع عليه … إلى أن قال: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها، لا يجوز الحلف بها لأحد)(3).
7- قال البوصيري:
ولا التمست غنى الدارين من يده إلا استلمت الندى من خير مستلم
فجعل البوصيري غنى الدارين مُلتَمساً من يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن الله- عز وجل- قال:
{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } ]النحل:53[، وقال- سبحانه- : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ } ]العنكبوت:17[، وقال- تعالى- : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } ]يونس:31[، { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } ]سبأ:22[.
__________
(1) :"الرد على الأخنائي" (ص41).
(2) :رواه أحمد (ح 4509)، والترمذي (ح 1534).
(3) :"التمهيد"(14/366- 367).(167/8)
وأمر الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة المذكورة في قوله - تعالى- : { قُلْ
لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى
إِلَيَّ } ]الأنعام:50[.
8- قال البوصيري:
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
وهذا تخرُّص وكذب؛ فهل صارت له ذمة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمجرد أن اسمه موافق
لاسمه ؟! فما أكثر الزنادقة والمنافقين في هذه الأمة قديماً وحديثاً الذين يتسمون بمحمد!
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب- رحمهم الله - تعقيباً على هذا البيت:(قوله:فإن لي ذمة… إلى آخره كذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فليس بينه وبين اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الاشتراك في الاسم مع الشرك)(1).
فالاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة(1).
9- وقال البوصيري:
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
والشاعر في هذا البيت ينزل الرسول منزلة رب العالمين؛ إذ مضمونه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المسؤول لكشف أعظم الشدائد في اليوم الآخر، فانظر إلى قول الشاعر، وانظر في قوله
- تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ]الزمر:13[.
ويزعم بعض المتعصبين للقصيدة أن مراد البوصيري طلب الشفاعة؛ فلو صح ذلك فالمحذور بحاله، لما تقرر أن طلب الشفاعة من الأموات شرك بدليل قوله - تعالى- :
__________
(1) :انظر "الدرر السنية" (9/51).(167/9)
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا } ]يونس:18[، فسمى الله - تعالى- اتخاذ الشفعاء شركاً(1).
10- وقال:
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
يقول الشيخ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب- رحمهم الله- تعقيباً على هذا البيت- :
(فتأمل ما في هذا البيت من الشرك:
منها: أنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس ذلك إلا لله
وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
ومنها: أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية)(2).
وانتقد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد ابن عبد الوهاب هذا البيت قائلاً:
(فعظم البوصيري النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يسخطه ويحزنه؛ فقد اشتد نكيره - صلى الله عليه وسلم - عما هو دون ذلك كما لا يخفى على من له بصيرة في دينه؛ فقصر هذا الشاعر لياذه على المخلوق دون الخالق الذي لا يستحقه سواه؛ فإن اللياذ عبادة كالعياذ، وقد ذكر الله عن مؤمني الجن أنهم أنكروا استعاذة الإنس بهم بقوله: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ
رَهَقاً } ]الجن:6[، أي طغياناً، واللياذ يكون لطلب الخير، والعياذ لدفع الشر؛ فهو سواء في الطلب والهرب)(3).
__________
(1) :انظر "الدرر السنية" (9/49،82،271).
(2) :"تيسير العزيز الحميد" (ص219- 220).
(3) :"الدرر السنية"(9/80)، وانظر (9/49، 84، 193)، و"منهاج التاسيس والتقديس"لعبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن (ص212).(167/10)
وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني- رحمه الله - عن هذا البيت:(فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إنا لله وإنا إليه راجعون)(1).
11 – وقال البوصيري:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:(سؤاله منه أن يشفع له في
قوله: ولن يضيق رسول الله … إلخ، هذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوهم وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك؛ وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله
فلا معنى لطلبها من غيره؛ فإن الله - تعالى - هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتدءاً)(2).
12 - وقال أيضاً:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من عطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإفضاله، والجود هو العطاء والإفضال؛ فمعنى
الكلام: أن الدنيا والآخرة له - صلى الله عليه وسلم -، والله - سبحانه وتعالى- يقول: { وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى } ]الليل:13[ (3).
وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. في غاية السقوط والبطلان؛ فإن مضمون مقالته
__________
(1) :"الدر النضيد" (ص26).
(2) :"تيسير العزيز الحميد" (ص220) وانظر "الدرر السنية" (9/52).
(3) :انظر "الدرر السنية" (49،50،81،82،85،286).(167/11)
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب، وقد قال- سبحانه-: { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون } ]النمل:65[ وقال- عز وجل-: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } ]الأنعام:59[،والآيات في هذا كثيرة معلومة(1).
وأخيراً أدعو كل مسلم عَلِقَ بهذه القصيدة وولع بها أن يشتغل بما ينفع؛ فإن حق النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون بتصديقه فيما أخبر، واتباعه فيما شرع، ومحبته دون إفراط أو تفريط، وأن يشتغلوا بسماع القرآن والسنة والتفقه فيهما؛ فإن البوصيري وأضرابه استبدلوا إنشاد وسماع هذه القصائد بسماع القرآن والعلم النافع، فوقعوا في مخالفات ظاهرة ومآخذ فاحشة.
وإن كان لا بد من قصائد ففي المدائح النبوية التي أنشدها شعراء الصحابة - رضي الله عنهم- كحسان وكعب بن زهير ما يغني ويكفي.
اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.
__________
(1) :انظر "الدرر السنية" (9/50،62،81،268،277).(167/12)
كتاب الإعتصام للشاطبي
الجزء الأول والثاني
للعلامة المحقق الاصولى النظار الإمام
أبى إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمى الاطبى الغرناطى
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المحمود على كل حال الذي بحمده يستفتح كل أمر ذي بال خالق الخلق لما شاء وميسرهم على وفق علمه وارادته لا على وفق اغراضهم لما سر وساء ومصرفهم بمقتضى القبضتين فمنهم شقي وسعيد وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد ومسويهم على قبول الإلهامين ففاجر وتقى كما قدر ارزاقهم بالعدل على حكم الطرفين ففقير وغني كل منهم جار على ذلك الأسلوب فلا يعدوه فلو تمالأوا على ان يسدوا ذلك السبق لم يسدوه او يردوا ذلك الحكم السابق لم ينسخوه ولم يردوه فلا اطلاق لهم على تقييده ولا انفصال ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة وكاشف الغمة الذي نسخت شريعته كل شريعة وشملت دعوته كل أمة فلم يبق لأحد حجة دون حجته ولا استقام لعاقل طريق سوى لأحب محجته وجمعت تحت حكمتها كل معنى مؤتلف فلا يسمع بعد وضعها خلاف مخالف ولا قول مختلف فالسالك سبيلها معدود في الفرقة الناجية والناكب عنها مصدود إلى الفرق المقصره او الفرق الغالية صلى الله عليه وسلم
وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة واقتفوا آثاره اللائحة وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة وبين كل حجة بالغه وحجة
مبيرة وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل وسائر المنتمين إلى ذلك القبيل وسلم تسليما كثيرا
اما بعد فإني أذكرك ايها الصديق الأوفى والخالصة الأصفى في مقدمة ينبغي تقديمها قبل الشروع في المقصود وهي معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/1)
بدئ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذين يصلحون عند فساد الناس وفي رواية قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال النزوع من القبائل وهذا مجمل ولكنه مبين في الرواية الأخرى
وجاء من طريق آخر بدئ الإسلام غريبا ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس وفي رواية لابن وهب قال صلى الله عليه وسلم
طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسنة حين تطفى وفي رواية
إن الاسلام بدى غريبا وسيعود غريبا كما بدئ فطوبى للغرباء قالوا يا رسول الله كيف يكون غريبا قال كما يقال للرجل في حي كذا وكذا إنه لغريب وفي رواية انه سئل عن الغرباء قال الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي
وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الاسلام وآخره وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل وفي جاهلية جهلاء لاتعرف من الحق رسما ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكما بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها وما استحسنته اسلافها من الآراء المنحرفة والنحل المخترعة والمذاهب المبتدعة فحين قام فيهم صلى الله عليه وسلم
بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر وغيروا في وجه صوابه بالإفك ونسبوا إليه إذ خالفهم في الشرعة ونابذهم في النحلة كل محال ورموه بأنواع البهتان فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق الذي لم يجربوا عليه قط خبرا بخلاف مخبره وآونة يتهمونه بالسحر وفي علمهم أنه لم يكن من أهله ولا ممن يدعيه وكرة يقولون انه مجنون مع تحققهم بكمال عقله وبراءته من مس الشيطان وخبله وإذ دعاهم إلى عبادة المعبود بحق وحده لا شريك له قالوا اجعل الآلهه إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب مع الإقرار بمقتضى هذه الدعوة لصادقة فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين وإذا أنذرهم(168/2)
بطشة يوم القيامة انكروا ما يشاهدون من الأدلة على إمكانه وقالوا أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد وإذا خوفهم نقمة الله قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم اعتراضا على صحة ما أخبرهم به مما هو كائن لا محالة وإذا جاءهم بآية خارقه افترقوا في الضلالة على فرق واخترقوا فيها بمجرد العناد مالا يقبله أهل التهدى إلى التفرقة بين الحق والباطل كل ذلك دعاء منهم إلى التأسي بهم والموافقة لهم على ما ينتحلون إذا رأوا خلاف المخالف لهم في باطلهم ردا لما هم عليه ونبذا لما شدوا عليه يد الظنة واعتقدوا إذا لم تمسكوا بدليل أن الخلاف يوهن الثقة ويقبح جهة الاستحسان وخصوصا حين اجتهدوا في الانتصار بعلم فلم يجدوا أكثر من تقليد الآباء
ولذلك اخبر الله تعالى عن ابراهيم عليه السلام في محاجة قومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون فحادوا كما ترى عن الجواب القاطع المورد مورد السؤال إلى الاستمساك بتقليد الآباء وقال الله تعالى ام آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون فرجعوا عن جواب ما ألزموا إلى التقليد فقال تعالى قال أولوا جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم فأجابوا بمجرد الإنكار ركونا إلى ما ذكروا من التقليد لا بجواب السؤال
فكذلك كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم لأنه خرج عن معتادهم وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم حتى أرادوا ان يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم ليوقعوا بينهم وبين المؤالفة والموافقة ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال أو على بعض الوجوه ويقنعوا منه بذلك ليقف لهم بتلك الموافقه واهى بنائهم فأبى صلى الله عليه وسلم(168/3)
إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب وأنزل الله قل يا ايها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخر السورة فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة ورموه بسهام القطيعة وصار أهل السلم كلهم حربا عليه عاد الولى الحميم عليه كالعذاب الأليم فأقربهم إليه نسبا كان أبعد الناس عن موالاته كأبي جهل وغيره وألصقهم به رحما كانوا أقسى قلوبا عليه فأي غربة توازي هذه الغربة ومع ذلك فلم يكله الله إلى نفسه ولا سلطهم على النيل من أذاه إلا نيل المصلوفين بل حفظه وعصمه وتولاه بالرعاية والكلاءة حتى بلغ رسالة ربه
ثم ما زالت الشريعة في أثناء نزولها وعلى توالى تقريرها تبعد بين أهلها وبين غيرهم وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا ولكن على وجه من الحكمة عجيب وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأول الأصيل ففي العرب نسبتهم إلى أبيهم ابراهيم عليه السلام وفي غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الانبياء أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين
وما زال صلى الله عليه وسلم
يدعو لها فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء خوفا من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإسلام فلما اطلعوا على المخالفة أنفوا وقاموا وقعدوا فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قبيلة فحموه على إغماض او على دفع العار في الإخفار
ومنهم من فر من الإذاية وخوف الغرة هجرة إلى الله وحبا في الاسلام(168/4)
ومنهم من لم يكن له وزر يحميه ولا ملجأ يركن إليه فلقي منهم من الشدة والغلظة والعذاب او القتل ما هو معلوم حتى زل منهم من زل فرجع امره بسبب الرجوع إلى الموافقة وبقي منهم من بقي صابرا محتسبا إلى أن أنزل الله تعالى الرخصة في النطق بكلمة الكفر على حكم الموافقة ظاهرا ليحصل بينهم وبين الناطق الموافقة وتزول المخالفة فنزل اليها من نزل على حكم التقية ريثما يتنفس من كربه ويتروح من خناقه وقلبه مطمئن بالإيمان
وهذه غربة أيضا ظاهرة وإنما كان هذا جهلا منهم بمواقع الحكمه وأن ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم
هو الحق ضد ما هم عليه فمن جهل شيئا عاداه فلو علموا لحصل الوفاق ولم يسمع الخلاف ولكن سابق القدر حتم على الخلق ما هم عليه قال الله تعالى ولا تزالون مختلفين الا من رحم ربك
ثم استمر تزيد الإسلام واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن بعد موته وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة وأصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج وهي التي نبه عليها الحديث بقوله يقتلون أهل الإسلام ويدعون اهل الأوثان يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يعني لا يتفقهون فيه بل يأخذونه على الظاهر كما بينه حديث ابن عمر الاتي بحول الله
وهذا كله في آخر عهد الصحابة
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى الله عليه وسلم
في قوله افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وفي الحديث الآخر لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وهذا أعم من الأول فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء وهذا الثاني عام في المخالفات ويدل على ذلك من الحديث قوله حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم(168/5)
وكل صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعو غيره إليها ويحض سؤاله بل سواه عليها إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجلبة وبسببه تقع من المخالف المخالفة وتحصل من الموافق المؤالفة ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين
كان الاسلام في أوله وجدته مقاوما بل ظاهرا وأهله غالبون وسوادهم أعظم الأسودة فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين فلم يكن لغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها ولا قوة يضعف دونها حزب الله المفلحون فصار على استقامة وجرى علىاجتماع واتساق فالشاذ مقهور مضطهد إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود وقوته إلى الضعف المنتظر والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده واقتضى سر التأسي المطالبة بالموافقة ولا شك أن الغالب أغلب فتكالبت على سواد السنة البدع والأهواء فتفرق أكثرهم شيعا
وهذه سنة الله في الخلق إن أهل الحق في جنب اهل الباطل قليل لقوله تعالى وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقوله تعالى
وقليل من عبادي الشكور ولينجز الله ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم
من عود وصف الغربة إليه فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وتصير السنة بدعة والبدعة سنة فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولا يقام على أهل البدعة طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعه فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة السنة عادة وسمعا بل لا بد أن تثبت جماعة اهل السنة حتى يأتى أمر الله غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناضبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم لا يزالون في جهاد ونزاع ومدافعة وقراع آناء الليل والنهار وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم(168/6)
فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جار مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان ومن خالف فهو المخطئ المصاب ومن وافق فهو المحمود السعيد ومن خالف فهو المذموم المطرود ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية
وإنما قدمت هذه المقدمة لمعنى أذكره
وذلك أني ولله الحمد لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ووجه شطر العلم طلبي انظر في عقلياته وشرعياته وأصوله وفروعه لم أقتصر منه على علم دون علم ولا أفردت عن أنواعه نوعا دون آخر حسبما اقتضاه الزمان والإمكان وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة وأقدمت في ميادينه إقدام الجرئ حتى كدت أتلف في بعض أعماقه أو أنقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي غائبا عن مقال القائل وعذل العاذل ومعرضا عن صد الصاد ولوم اللائم إلى أن من على الرب الكريم الرءوف الرحيم فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد فيه وإن الدين قد كمل والسعادة الكبرى فيما وضع والطلبة فيما شرع وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران وأن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى محصل لكلمتي الخير دنيا وأخرى وما سواهما فأحلام وخيالات وأوهام وقام لي على صحة ذلك البرهان الذي لا شبهة تطرق حول حماه ولا ترتمي نحو مرماه ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون والحمد لله والشكر كثيرا كما هو أهله(168/7)
فمن هنالك قوت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه فابتدأت بأصول الدين عملا واعتقادا ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن أو من البدع كما أبين ما هو من الجائز وما هو من الممتنع وأعرض ذلك على علم الأصول الدينية والفقهية ثم أطلب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالسواد الأعظم في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة
وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها فلما أردت الاستقامه على الطريق وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ودخلت على سننها الأصليه شوائب من المحدثات الزوائد ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنه المتقدمة فكيف في زماننا هذا فقد روى عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير كما روى عن أبي الدرداء أنه قال لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاه
قال الأوزاعي فكيف لو كان اليوم قال عيسى بن يونس فكيف لو ادرك الاوزاعي هذا الزمان وعن أم الدرداء قالت دخل ابو الدرداء وهو غضبان فقلت ما أغضبك فقال والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا
وعن أنس بن مالك قال ما اعرف منكم ما كنت اعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
غير قولكم لا إله إلا الله قلنا بلى يا أبا حمزة قال قد صليتم حتى تغرب الشمس أفكانت تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم(168/8)
وعن انس قال لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الاسلام شيئا قال ووضع يده على خده ثم قال إلا هذه الصلاة ثم قال أما والله على ذلك لمن عاش في النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجرا عظيما وكذلك فكونوا إن شاء الله
وعن ميمون بن مهران قال لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف ما عرف غير هذه القبلة
وعن سهل بن مالك عن أبيه قال ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة إلى ما أشبه هذا من الآثار الداله على أن المحدثات تدخل في المشروعات وأن ذلك قد كان قبل زماننا وإنما تتكاثر على توالى الدهور إلى الآن فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها إلا أن في ذلك العبء الثقيل
ما فيه من الأجر الجزيل وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك إلا أني أوافق المعتاد وأعد من المؤالفين لا من المخالفين فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور فقامت على القيامة وتواترت علي الملامة وفوق إلي العتاب سهامه ونسبت إلى البدعة والضلالة وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجا لوجدت غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن رقى بي مرتقى صعبا وضيق علي مجالا رحبا وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات وإن خالفت السلف الأول(168/9)
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه كما يعزى إلى بعض الناس بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم بسبب اني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك شأن من السلف في خطبهم ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب
وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال هو بدعة ولا ينبغي العمل به وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة
قيل له فدعاءه للغزاة والمرابطين قال ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه وإما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما فإني أكره ذلك
ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة
وتارة أضيف إلى القول بجواز القيام على الأئمة وما أضافوه إلا من عدم ذكرى لهم في الخطبة وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره
وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب الموافقات
وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم(168/10)
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها وهي الناجية ما عليه العموم ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه والتابعون لهم بإحسان
وسيأتي بيان ذلك بحول الله وكذبوا على في جميع ذلك أو وهموا والحمد لله على كل حال
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين والعارفين والمنكرين فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا دعاني إلى متابعته على ما يقوله وتصديق قوله والشهادة له فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان سماني موافقا وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفا وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجيا وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد سماني مشبها وإن كان في الرؤية سماني سالميا وإن كان في الإيمان سماني مرجئيا وإن كان في الأعمال سماني قدريا وإن كان في المعرفة سماني كراميا وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيا وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريا وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيا
وإن أجبت بتأويل سماني أشعريا وإن حجدتهما سماني معتزليا وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شفعويا وإن كان في القنوت سماني حنفيا وإن كان في القرآن سماني حنبليا وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة قالوا طعن في تزكيتهم ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرءون علي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما يشتهون من هذه الأسامي ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى ولن يغنوا عني من الله شيئا(168/11)
وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم
هذا تمام الحكاية فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع
فقلما تجد عالما مشهورا او فاضلا مذكورا إلا وقد نبذ بهذه الأمور أو بعضها لأن الهوى قد يدخل المخالف بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على اهل الخلاف فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة إنه غير صاحبها ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله حتى ينسب هذه المناسب وقد نقل عن سيد العباد بعد الصحابة أويس القرني أنه قال إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا ويجدون على ذلك أعوانا من الفاسقين حتى والله لقد رموني بالعظائم وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه
فمن هذا الباب يرجع الاسلام غريبا كما بدأ لأن المؤالف فيه على وصفه الأول قليل فصار المخالف هو الكثير فاندرست رسوم السنة حتى مدت البدع أعناقها فأشكل مرماها على الجمهور فظهر مصداق الحديث الصحيح
ولما وقع علي من الإنكار ما وقع مع ما هدى الله إليه وله الحمد لم أزل أتتبع البدع التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحذر منها وبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة وأشار العلماء إلى تمييزها والتعريف بجملة منها لعلي أجتنبها فيما استطعت
وأبحث عن السنن التي كادت تطفئ نورها تلك المحدثات لعلى أجلو بالعمل سناها وأعد يوم القيامة فيمن أحياها إذ ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنن ما هو في مقابلتها حسبما جاء عن السلف في ذلك
فعن ابن عباس قال ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدعة وتموت السنن
وفي بعض الأخبار لا يحدث رجل بدعة الا ترك من السنة ما هو خير منها
وعن لقمان بن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع بها عنهم سنة(168/12)
وعن حسان ابن عطية قال ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو مشاهد معلوم حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وجاء من الترغيب في إحياء السنن ما جاء
فقد خرج ابن وهب حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله فإن عليه إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا وأخرجه الترمذي باختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقال فيه حديث حسن
وفي الترمذي عن أنس قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة حديث حسن
فرجوت بالنظر في هذا الموضع الانتظام في سلك من أحيا سنة وأمات بدعة(168/13)
وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لي في البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة وفروع طالت أفنانها لكنها تنتظمها تلك الأصول وقلما توجد على الترتيب الذي سنح في الخاطر فمالت إلى بثها النفس ورأت أنه من الأكيد الطلب لما فيه من رفع الالتباس الناشئ بين السنن والبدع لأنه لما كثرت البدع وعم ضررها واستطار شررها ودام الإكباب على العمل بها والسكوت من المنأخرين عن الإنكار لها وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها صارت كأنها سنن مقررات وشرائع من صاحب الشرع محررات فاختلط المشروع بغيره فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها كما تقدم فالتبس بعضها ببعض فتأكد الوجوب بالنسبة إلى من عنده فيها علم وقلما صنف فيها على الخصوص تصنيف وما صنف فيها فغير كاف في هذه المواقف مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين فالموالى له يخلد به إلى الأرض ويلقى له باليد إلى العجز عن بث الحق بعد رسوخ العوائد في القلوب والمعادى يريسه بالأردبيس ويروم أخذه بالعذاب البئيس لأنه يرد عوائده الراسخه في القلوب المتداولة في الأعمال دينا يتعبد به وشريعة يسلك عليها لا حجة له إلا عمل الآباء والأجداد مع بعض الأشياخ العالمين كانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا
ولم يلتفتوا إلى أنهم عند موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح فالمعترض لمثل هذا الامر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فنى عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره(168/14)
وكذلك ما نحن بصدد الكلام عليه غير أنه أمر لا سبيل إلى إهماله ولا يسع أحد ممن له منه إلا الأخذ بالحزم والعزم في بثه بعد تحصيله على كماله وإن كره المخالف فكراهيته لا حجة فيها على الحق ألا يرفع منارة ولا تكشف وتجلى أنواره فقد خرج أبو الطاهر السلفي بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال له يا أبا هريره علم الناس القرآن وتعلمه فإنك إن مت وأنت كذلك زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق وعلم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنه فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك
قال أبو عبد الله بن القطان وقد جمع الله له ذلك كله من إقراء كتاب الله والتحديث بالسنة أحب الناس أم كرهوا وترك الحدث حتى إنه كان لا يتأول شيئا مما روى تتميما للسلامة من الخطإ على أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس إن بلدنا كثير البدع وإنه ألف كلاما في الرد عليهم
فكتب إليه مالك يقول له إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك لا يرد عليهم إلا من كان ضابطا عارفا بما يقول لهم لا يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا لا بأس به وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديا على ذلك
وهذا الكلام يقضي لمثلي بالإحجام دون الإقدام وشياع هذا النكر وفشو العمل به وتظاهر أصحابه يقضي لمن له بهذا المقام منة بالإقدام دون الإحجام لأن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غير مغير ملء أعنتها
وحكى ابن وضاح عن غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتب إليك ما أنكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس وحسن حالك مما أظهرت من السنه
وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم وأذلهم الله بذلك وصاروا ببدعتهم مستترين(168/15)
فأبشر يا أخي بثواب الله واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاه والصيام والحج والجهاد
وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه وقال أيما داع دعا إلى هذه فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من عمله وذكر أيضا إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها وينطق بعلامتها فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فأوصاه وقال لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كذا وكذا وأعظم القول فيه فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء الأثر
فاعمل على بصيرة ونية حسنة فيرد الله بك المبتدع والمفتون الزائغ الحائر فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه وسلم
فأحي كتاب الله وسنة نبيه فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه
انتهى ما قصدت إيراده من كلام أسد رحمه الله
وهو مما يقوي جانب الإقدام مع ما روى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه خطب الناس فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت أو أن أميت بدعة قد أحييت لكرهت أن أعيش فيكم فواقا
وخرج ابن وضاح في كتاب القطعان وحديث الأوزاعي أنه بلغه عن الحسن أنه قال لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده يعرضون أعمال العباد على كتاب الله فإذا وافقوه حمدوا الله وإذا خالفوه عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل وهدى من اهتدى فأولئك خلفاء الله
وفيه عن سفيان قال اسلكوا سبيل الحق ولا تستوحشوا من قلة اهله فوقع الترديد بين النظرين(168/16)
ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الإخوان الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء وقاموا في عامة أدواء نفسي مقام الدواء فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره ولا إشكال في أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولا وفروعا وسميته ب الاعتصام
والله أسأل أن يجعله عملا خالصا ويجعل ظل الفائدة به ممدودا لا قالصا والأجر على العناء فبه كاملا لا ناقصا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وينحصر الكلام فيه بحسب الغرض المقصود في جملة أبواب وفي كل باب منها فصول اقتضاها بسط المسائل المنحصرة فيه وما انجز معها من الفروع المتعلقة به
الباب الاول
في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظا
وأصل مادة بدع للاختراع على غير مثال سابق ومنه قول الله تعالى بديع السموات والأرض أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدم وقوله تعالى قل ما كنت بدعا من الرسل أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل ويقال ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق
وهذا أمر بديع يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع وهيئتها هي البدعة وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة وهو إطلاق أخص منه في اللغه حسبما يذكر بحول الله
ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثه حكم يقتضيه معنى الأمر كان للإيجاب أو الندب وحكم يقتضيه معنى النهي كان للكراهة أو التحريم وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة مطلوب فعله ومطلوب تركه ومأذون في فعله وتركه(168/17)
والمطلوب تركه لم يطلب تركه إلا لكونه مخالفا للقسمين الأخيرين لكنه على ضربين
أحدهما أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع مجرد النظر عن غير ذلك وهو إن كان محرما سمي فعلا معصية وإثما وسمي فاعله عاصيا وآثما وإلا لم يسم بذلك ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير هذا الموضع ولا يسمى بحسب الفعل جائزا ولا مباحا لأن الجمع بين الجواز والنهي جمع بين متنافيين
والثاني أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنه المعينة مع الدوام ونحو ذلك
وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعا فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد
فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لانها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم فمنها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع إذ البدعة إيما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين وسائر العلوم الخادمة للشريعة(168/18)
فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع إذ الأمر بإعراب القرآن منقول وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة فحقيقتها إذا أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤدى
وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس
وكذلك أصول الدين وهو علم الكلام إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به كما كان الفقه تقريرا لأدلتها في الفروع العبادية
فإن قيل فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع
فالجواب أن له أصلا في الشرع ففي الحديث ما يدل عليه ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة وسيأتي بسطها بحول الله
فعلى القول بإثباتها أصلا شرعيا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد فليست ببدعة البتة
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال كما يأتي بيانه إن شاء الله
ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحا وهو باطل بالإجماع فليس إذا ببدعة
ويلزم ان يكون له دليل شرعي وليس إلا هذا النوع من الاستدلال وهو المأخوذ من جملة الشريعة
وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسله ثبت مطلق المصالح المرسلة فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلا
ومن سماه بدعة فإما على المجاز كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في ليالي رمضان بدعة وإما جهلا بمواقع السنة والبدعة فلا يكون قول من قال ذلك معتدا به ولا معتمدا عليه(168/19)
وقوله في الحد تضاهي الشرعية يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها من أوجه متعددة منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائما لا يقعد ضاحيا لا يستظل والاختصاص في الانقطاع للعبادة والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة
ومنها التزام الكيفيات والهيآت المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم
عيدا وما أشبه ذلك
ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته
وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الامور المشروعه لم تكن بدعة لانها تصير من باب الافعال العادية وأيضا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة حتى يكون ملبسا بها على الغير أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعا ولا يدفع به ضررا ولا يجيبه غيره إليه
ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في اهل الخير
فانت ترى العرب الجاهليه في تغيير ملة ابراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما احدثوه احتجاجا منهم كقولهم في اصل الاشراك ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفا وكترك الخمس الوقوف بعرفة لقولهم لا نخرج من الحرم اعتدادا بحرمته وطواف من طاف منهم بالبيت عريانا قائلين لا نطوف بثياب عصينا الله فيها وما اشبه ذلك مما وجهوه ليصيروه بالتوجيه كالمشروع فما ظنك بمن عد او عد نفسه من خواص اهل الملة فهم أحرى بذلك وهم المخطئون وظنهم الإصابة وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد
وقوله يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة اذ هو المقصود بتشريعها(168/20)
وذلك ان اصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العباده والترغيب في ذلك لان الله تعالى يقول وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون فكأن المبتدع رأى ان المقصود هذا المعنى ولم يتبين له ان ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف فرأى من نفسه انه لا بد لما اطلق الامر فيه من قوانين منضبطة وأحوال مرتبطة مع ما يداخل النفوس من حب الظهور او عدم مظنته فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة وأيضا فان النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المترتبة فاذا جدد لها امر لا تعهده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الامر الاول ولذلك قالوا لكل جديد لذه بحكم هذا المعنى كمن قال كما تحدث للناس اقضية بقدر ما احدثوا من الفجور فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه فيوشك قائل ان يقول ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتتبعني حتى ابتدع لهم غيره
فاياكم وما ابتدع فان ما ابتدع ضلالة
وقد تبين بهذا القيد ان البدع لا تدخل في العادات
فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسميه كالمغارم الملزمه على الاموال وغيرها على نسبة مخصومة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن اليها ضروره
وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالاشنان وما اشبه ذلك من الامور التي لم تكن قبل فانها لا تسمى بدعا على احدى الطريقتين
واما الحد على الطريقة الاخرى فقد تبين معناه الا قوله يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية
ومعناه ان الشريعة انما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على اكمل وجوهها فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته(168/21)
لان البدعة اما ان تتعلق بالعادات او العبادات فان تعلقت بالعبادات فانما اراد بها ان يأتي تعبده على ابلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الاخره في ظنه وان تعلقت بالعادات فكذلك لانه انما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحه فيها فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر ان التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول اتم منه بغير المنخول
وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة التمتع بها ابلغ منه بالحشوش والخرب
ومثله المصادرات في الاموال بالنسبة الى أولي الامر وقد أباحت الشريعه التوسع في التصرفات فيعد المبتدع هذا من ذلك
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله
فصل
وفي الحد ايضا معنى آخر مما ينظر فيه وهو ان البدعة من حيث قيل فيها انها طريقة في الدين مخترعة إلى آخره يدخل في عموم لفظها البدعة التركية كما يدخل فيه البدعة غير التركية فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريما للمتروك او غير تحريم فان الفعل مثلا قد يكون حلالا بالشرع فيحرمه الانسان على نفسه او يقصد تركه قصدا
فبهذا الترك اما ان يكون لأمر يعتبر مثله شرعا اولا فان كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه اذ معناه انه ترك ما يجوز تركه او ما يطلب بتركه كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه او عقله او دينه وما اشبه ذلك فلا مانع هنا من الترك بل ان قلنا بطلب التداوي للمريض فان الترك هنا مطلوب وان قلنا باباحة التداوي فالترك مباح
فهذا راجع إلى العزم على الحميه من المضرات وأصله قوله عليه الصلاة والسلام
يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج إلى ان قال ومن لم يستطع فعليه بالصوم الذي يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت
وكذلك اذا ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس فذلك من اوصاف المتقين وكتارك المتشابه حذرا من الوقوع في الحرام واستبراء للدين والعرض(168/22)
وان كان الترك لغير ذلك فاما ان يكون تدينا اولا فان لم يكن تدينا فالتارك عابث بتحريمه الفعل او بعزيمته على الترك
ولا يسمى هذا الترك بدعة اذ لا يدخل تحت لفظ الحد الا على الطريقة الثانية القائلة ان البدعة تدخل في العادات
واما على الطريقة الاولى فلا يدخل
لكن هذا التارك يصير عاصيا بتركه او باعتقاده التحريم فيما احل الله
واما ان كان الترك تدينا فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين اذ قد فرضنا الفعل جائزا شرعا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع
التحليل وفي مثله نزل قول الله تعالى يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين فنهى اولا عن تحريم الحلال
ثم جاءت الآيه تشعر أن ذلك اعتداء لا يحبه الله
وسيأتي للآيه تقرير ان شاء الله
لان بعض الصحابه هم ان يحرم على نفسه النوم بالليل وآخر الاكل بالنهار وآخر اتيان النساء وبعضهم هم بالاختصاء مبالغة في ترك شأن النساء
وفي امثال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم
من رغب عن سنتي فليس مني
فاذا كل من منع نفسه من تناول ما احل الله من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم
والعامل بغير السنة تدينا هو المبتدع بعينه
فان قيل فتارك المطلوبات الشرعية ندبا او وجوبا هي يسمى مبتدعا ام لا فالجواب ان التارك للمطلوبات على ضربين احدهما ان يتركها لغير التدين اما كسلا او تضييعا او ما اشبه ذلك منالدواعي النفسيه فهذا الضرب راجع إلى المخالفه للامر فان كان في واجب فمعصية وان كان في ندب فليس بمعصية اذا كان الترك جزئيا وان كليا فمعصية حسبما تبين في الاصول(168/23)
والثاني ان يتركها تدينا فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله ومثاله اهل الاباحه القائلين باسقاط التكاليف اذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذى الذه حدوه فاذا قوله في الحد طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية كما يشمل غيرها لان الطريقة الشرعية ايضا تنقسم إلى ترك وغيره
وسواء علينا قلنا ان الترك فعل ام قلنا انه نفى الفعل الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه
وكما يشمل الحد الترك يشمل ايضا ضد ذلك
وهو ثلاثة اقسام قسم الاعتقاد وقسم القول وقسم الفعل فالجميع اربعة اقسام
وبالجمله فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع
الباب الثاني
في ذم البدع وسوء منقلب اصحابها
لاخفاء ان البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها لان اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عمايه
وبيان ذلك من جهة النظر والنقل الشرعي العام
اما النظر فمن وجوه احدها انه قد علم بالتجارب والخبره الساريه في العالم من اول الدنيا إلى اليوم ان العقول غير مستقله بمصالحها استجلابا لها او مفاسدها استدفاعا لها لانها اما دنيويه او أخرويه
فأما الدنيويه فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البته لا في ابتداء وضعها اولا ولا في استدراك ما عسى ان يعرض في طريقها اما في السوابق واما في اللواحق لان وضعها اولا لم يكن الا بتعليم الله تعالى
لان آدم عليه السلام لما انزل إلى الارض علم كيف يستجلب مصالح دنياه اذا لم يكن ذلك من معلومه اولا الا على قول من قال ان ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى وعلم آدم الاسماء كلها وعند ذلك يكون تعليما غير عقلي
ثم توارثته ذريته كذلك في الجمله
لكن فرعت العقول من أصولها تفريعا تتوهم استقلالها به
ودخل في الاصول الدواخل حسبما اظهرت ذلك ازمنة الفترات اذ لم تجر مصالح الفترات على استقامةه لوجود الفتن والهرج وظهور أوجه الفساد(168/24)
فلولا ان من الله على الخلق ببعثة الانبياء لم تستقم لهم حياة ولا جرت احوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في اخبار الاولين والاخرين واما المصالح الاخرويه فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع اسبابها وهي العبادات مثلا فان العقل لا يشعر بها على الجمله فضلا عن العلم بها على التفصيل
ومن جهة تصور الدار الاخرى وكونها آتية فلا بد وانها دار جزاء على الاعمال فان الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الامكان ان يشعر بها
ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لادراك الاحوال الاخروية بمجرد العقل قبل النظر في الشرع فان دعواهم بألسنتهم في المسئلة بخلاف ما عليه الامر في نفسه لان الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل
والانبياء ايضا لم يزالوا موجودين في العالم وهم اكثر وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى ان انتهت بهذه الشريعة المحمدية
غير ان الشريعة كانت اذا اخذت في الدروس بعث الله نبيا من انبيائه يبين للناس ما خلقوا لاجله وهو التعبد لله فلا بد ان يبقى من الشريعة المفروضة ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين انزال الشريعة بعدها بعض الاصول المعلومة
فأتى الفلاسفة إلى تلك الاصول فتلقفوها او تلقفوا منها فارادوا ان يخرجوه على مقتضى عقولهم وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا وليس الامر كما زعموا
فالعقل غير مستقل البتة ولا ينبني على غير اصل وانما ينبني على اصل متقدم مسلم على الاطلاق
ولا يمكن في احوال الاخره قبلهم اصل مسلم الا من طريق الوحي
ولهذا المعنى بسط سيأتي ان شاء الله
فعلى الجملة العقول لا تستقل بادراك مصالحها دون الوحي فالابتداع مضاد لهذا الاصل لنه ليس مستند شرعي بالفرض فلا يبقى الا ما ادعوه من العقل فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته ان ينال بسبب العمل بها ما رام تحصيله من جهتها فصارت كالعبث
هذا ان قلنا ان الشرائع جاءت لمصالح العباد(168/25)
واما على القول الاخر فأحرى ان لا يكون صاحب البدعة على ثقة منها لانها اذ ذاك مجر تعبد والزام من جهة الآمر للمأمور والعقل بمعزل عن هذه الخطة حسبما تبين في علم الاصول وناهيك من نحلة ينتحلها صاحبها في ارفع مطالبه لائقه بها ويلقة من يده ما هو على ثقة منه
والثاني ان الشريعة جاءت كامله لا تحتمل الزياده ولا النقصان لان الله تعالى قال فيها اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا
وفي حديث العرباض بن سارية وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
موعظة ذرفت منها الاعين ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله ان هذه موعظة مودع فما تعهد الينا قال تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها بعدي الا هالك ومن يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح
وثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم
لم يمت حتى اتى ببيان جميع ما يحتاج اليه في امر الدين والدنيا وهذا لا مخالف عليه من اهل السنة
فاذا كان كذلك فالمبتدع انما محصول قوله بلسان حاله او مقاله ان الشريعة لم تتم وانه بقي منها اشياء يجب او يستحب استدراكها لانه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها
وقائل هذا ضال على الصراط المستقيم
قال ابن الماجشون سمعت مالكا يقول من ابتدع في الاسلام بدعه يراها حسنه فقد زعم ان محمدا صلى الله عليه وسلم
خان الرسالة لان الله يقول اليوم اكملت لكم دينكم فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا
والثالث ان المبتدع معاند للشرع ومشاق له لان الشارع قد عين لمكالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة وقصر الخلق عليها بالامر والنهي والوعد والوعيد وأخبر ان الخير فيها وان الشر في تعديها إلى غير ذلك لان الله يعلم ونحن لا نعلم وانه انما ارسل الرسول صلى الله عليه وسلم(168/26)
رحمة للعالمين فالمبتدع راد لهذا كله فانه يزعم ان ثم طرقا أخر ليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عينه بمتعين كأن الشارع يعلم ونحن ايضا نعلم بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع انه علم ما لم يعلمه الشارع
وهذا ان كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع وان كان غير مقصود فهو ضلال مبين
والى هذا المعنى اشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اذ كتب له عدي ابن أرطاه يستشيره في بعض القدريه فكتب اليه
اما بعد فاذني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في امره واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وترك ما احدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته فعليك بلزوم السنه فان السنه انما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق فارض لنفسك بما رضي به القوم لانفسهم فانهم على علم وقفوا وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف الامور اقوى وبفضل كانوا فيه احرى فلئن امر حدث بعدهم ما احدثه بعدهم الا من اتبع غير سننهم ورغب نفسه عنهم انهم لهم السابقون فقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصر وما فوقهم محسر لقد قصر عنهم آخرون فقلوا وانهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم
ثم ختم الكتاب بحكم مسئلته
فقوله فان السنه انما سنها من قد عرف ما في خلافها فهو مقصود الاستشهاد
والرابع ان المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع لان الشارع وضع الشرائع والزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك لانه حكم بين الخلق بيما كانوا فيه يختلفون والا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام 0
هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا حيث شرع مع الشارع وفتح للاختلاف بابا ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك(168/27)
والخامس انه اتباع للهوى لان العقل اذا لم يكن متبعا للشرع لم يبقى له الا الهوى والشهوه وانت تعلم ما في اتباع الهوى وانه ضلال مبين الا ترى قول الله تعالى يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب
فحصر الحكم في امرين لا ثالث لهما عنده هو الحق والهوى وعزل العقل مجردا اذ لا يمكن في العاده الا ذلك وقال ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتع هواه فجعل الامر محصورا بين امرين اتباع الذكر واتباع الهوى وقال ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله
وهي مثل ما قبلها وتأملوا هذه الآيه فانها صريحة في ان من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا احد اضل منه
وهذا شأن المبدع فانه اتبع هواه بغير هدى من الله وهدى الله هو القرآن
وما بينته الشريعة وبينته الآيه ان اتباع الهوى على ضربين احدهما ان يكون تابعا للامر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال
كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه وهو شأن المؤمن التقي
والاخر ان يكون هواه هو المقدم بالقصد الاول كان الامر والنهي تابعين بالنسبة اليه او غير تابعين وهو المذموم
والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى الله فكان اضل الناس وهو يظن انه على هدى
وقد انجز هنا معنى يتأكد التنبيه عليه وهو ان الاية المذكوره عينت للاتباع في الاحكام الشرعية طريقين احدهما الشريعة ولا مرية في انها علم وحق وهدى والاخر الهوى وهو المذموم لانه لم يذكر في القرآن الا في سياق الذم ولم يجعل ثم طريقا ثالثا
ومن تتبع الآيات الفى ذلك كذلك(168/28)
ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حمد انما هو القرآن وما نزل من عند الله كقوله تعالى قل آلذكرين حرم ام الانثيين اما اشتملت عليه ارحام الانثيين نبئوني بعلم ان كنتم صادقين وقال بعد ذلك ام كنتم شهداء اذ وصاكم الله بهذا فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم
وقال قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين وهذا كله لاتباع اهوائهم في التشريع بغير هدى من الله وقال ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب
وهو اتباع الهوى في التشريع اذ حقيقته افتراء على الله وقال أفرأيت من اتخذ الهه هواه واضله الله علىعلم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أي لا يهديه دون أي شيء
وذلك بالشرع لا بغيره وهو الهدى
وإذا ثبت هذا وان الامر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال الا من تحت نظر الهوى فهو اذا اتباع الهوى بعينه في تشريع الاحكام
ودع النظر العقلي في المعقولات المحضة فلا كلام فيه هنا وان اهله قد زلوا ايضا بالابتداع فانما زلوا من حيث ورود الخطاب ومن حيث التشريع ولذلك عذر الجميع قبل ارسال الرسل اعني في خطئهم في التشريعات والعقليات حتى جاءت الرسل فلم يبق لاحد حجه يستقيم اليها رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولله الحجة البالغة
فهذه قاعده ينبغي ان تكون من بال الناظر في هذا المقام وان كانت أصولية فهذه نكتتها مستنبطة من كتاب الله انتهى
قصل
واما النقل فمن وجوه احدها ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجمله(168/29)
فمن ذلك قول الله تعالى هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنه وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله فهذه الآيه من اعظم الشواهد
وقد جاء في الحديث تفسيرها فصح من حديث عائشه رضي الله عنها انها قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن قوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله قال فاذا رأيتهم فاعرفيهم
وصح عنها انها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن هذه الآيه هو الذي انزل عليك الكتاب ) إلى آخر الآيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
اذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم
وهذا التفسير مبهم ولكنه جاء في رواية عن عائشه ايضا قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه الآيه هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآيه قال فاذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم وهذا ابين لانه جعل علامة الزيغ الجدال في القرآن
وهذا الجدال مقيد باتباع المتشابه
فاذا الذم انما لحق من جادل فيه بترك المحكم وهو ام الكتاب ومعظمه والتمسك بمتشابهه ولكنه بعد مفتقر إلى تفسير اظهر
فجاء عن ابي غالب واسمه حرور قال كنت بالشام فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج فنصبوا على درج دمشق فكنت على ظهر بيت لي فمر ابو أمامه فنزلت فاتبعته فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال
سبحان الله ما يصنع السلطان ببني آدم قالها ثلاثا كلاب جهنم كلا جهنم شر قتلى تحت ظل السماء ثلاث مرات خير قتلى من قتلوه طوبى لمن قتلهم او قتلوه
ثم التفت الي فقال ابا غالب انك بأرض هم بها كثير فأعاذك الله منهم قلت رأيتك بكيت حين رأيتهم قال(168/30)
بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من اهل الاسلام هل تقرأ سورة آل عمران قلت نعم فقرأ هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب حتى بلغ وما يعلم تأويله الا الله وان هؤلاء كان في قلوبهم زيغ بهم ثم قرأ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات إلى قوله ففي رحمة الله هم فيها خالدون قلت هم هولاء يا أبا أمامة قال نعم
قلت من قبلك تقول او شيء سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم
قال
اني اذا لجرئ
بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا مرة ولا مرتين حتى عد سبعا ثم قال ان بني اسرائيل تفرقوا على احدى وسبعين فرقة وان هذه الامة تزيد عليها فرقة كلها في النار الا السواد الاعظم
قلت يا ابا أمامه الا ترى ما وفعلوا قال
عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم
الاية خرجة اسماعيل القاضي وغيره
وفي رواية قال قال
الا ترى فيه السواد الاعظم
وذلك في اول خلافة عبد الملك والقتل يومئذ ظاهر قال عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم
وخرجه الترمذي مختصرا وقال فيه حديث حسن وخرجه الطحاوي ايضا باختلاف في بعض الالفاظ وفيه فقيل له يا ابا أمامه تقول لهم هذا القول ثم تبكي يعني قوله شر قتلى إلى آخره قال
رحمة لهم انهم كانوا من اهل الاسلام فخرجوا منه
ثم تلا هو الذي انزل عليك الكتاب حتى ختمها
ثم قال هم هؤلاء ثم تلا هذه الايه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه حتى ختمها ثم قال هم هؤلاء
وذكر الآجري عن طاوس قال ذكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن فقال يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه قرأ وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به
فقد ظهر بهذا التفسير انهم اهل البدع لان أباأمامة رضى الله عنه جعل الخوارج داخلين في عموم الآية وأنها تتنزل عليهم
وهم من أهل البدع عند العلماء اما على انهم خرجوا ببدعتهم عن اهل الاسلام واما على انهم من اهل الاسلام لم يخرجوا عنهم على اختلاف العلماء فيهم(168/31)
وجعل هذه الطائفة ممن في قلوبهم زيغ فزيغ بهم وهذا الوصف موجود في اهل البدع كلهم مع ان لفظ الآيه عام وفي غيرهم ممن كان على صفاتهم
الا ترى ان صدر هذه السورة انما نزل في نصارى نجران ومناظرتهم لرسول
الله صلى الله عليه وسلم
في اعتقادهم في عيسى عليه السلام حيت تأولوا عليه انه الاله او انه ابن الله او انه ثالث ثلاثة بأوجه متشابهة وتركوا ما هو الواضح في عبوديته حسبما نقله اهل السير ثم تأوله العلماء من السلف الصالح على قضايا دخل اصحابها تحت حكم اللفظ كالخوارج فهي ظاهرة في العموم
ثم تلا ابو أمامه الآيه الأخرى وهي قوله سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات إلى قول ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) وفسرها بمعنى ما فسر به الايه الاخرى فهي الوعيد والتهديد لمن تلك صفته ونهى المؤمنين ان يكونوا مثلهم
ونقل عبيد عن حميد بن مهران قال سألت الحسن كيف يصنع اهل هذه الاهواء الخبيثه بهذه الآيه في آل عمران ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات قال نبذوها ورب الكعبة وراء ظهورهم
وعن ابي أمامة ايضا قال هم الحرورية
وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول ما آية في كتاب الله اشد على اهل الاختلاف من اهل الاهواء من هذه الآيه يوم تبيض وجوه إلىقوله ( بما كنتم تكفرون ) قال مالك فاي كلام ابين من هذا فرأيته يتأولها لاهل الاهواء ورواه ابن القاسم وزاد قال لي مالك انما هذه الايه لاهل القبله وما ذكره في الايه قد نقل عن غيره واحد كالذي تقدم للحسن
وعن قتاده في قوله تعالى كالذين تفرقوا واختلفوا يعني اهل البدع
وعن ابن عباس في قوله يوم تبيض وجوه وتسود تبيض وجوه اهل السنه وتسود وجوه اهل البدعة(168/32)
ومن الايات قوله تعالى وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا اليه وهو السنه والسبل هي سبل اهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم اهل البدع
وليس المراد سبل المعاصي لان المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها احد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع وانما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات
ويدل على هذا ما روى اسماعيل عن سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهالة عن ابي وائل عن عبد الله قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوما خطا طويلا وخط لنا سليمان خطا طويلا وخط عن يمينه وعن يساره فقال هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو اليه ثم تلا هذه الآيه وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل يعني الخطوط فتفرق بكم عن سبيله
قال بكر بن العلاء احسبه اراد شيطانا من الانس وهي البدع والله اعلم
والحديث مخرج من طرق
وعن عمر بن سلمه الهمداني قال كنا جلوسا في حلقة ابن مسعود في المسجد وهو بطحاء قبل ان يحصب
فقال له عبيد الله بن عمر بن الخطاب وكان أتي غازيا ما الصراط يا ابا عبد الرحمن قال هو ورب الكعبه الذي ثبت عليه ابوك حتى دخل الجنه
ثم حلف ذلك ثلاث ايمان ولاء ثم خط في البطحاء خطا بيده وخط بجنبيه خطوطا وقال ترككم نبيكم صلى الله عليه وسلم
على طرفه وطرفه الاخر في الجنه فمن ثبت عليه دخل الجنة ومن اخذ في هذه الخطوط هلك
وفي رواية يا ابا عبد الرحمن ما الصراط المستقيم قال تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ادناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وعليها رجال يدعون من مر بهم هلم لك هلم لك فمن اخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار ومن استقام إلى الطريق الاعظم انتهى به إلى الجنة ثم تلا ابن مسعود وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الايه كلها(168/33)
وعن مجاهد في قوله ( ولا تتبعوا السبل ) قال البدع والشبهات
وعن عبد الرحمن بن مهدي قد سئل مالك بن أنس عن السنة قال هي مالا اسم له غير السنة وتلا ( وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )
قال بكر بن العلاء يريد ان شاء الله حديث ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم
خط له خطا وذكر الحديث
فهذا التفسير يدل على شمول الآيه لجميع طرق البدع لا تختص ببدعة دون أخرى
ومن الايات قول الله تعالى وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين فالسبيل القصد هو طريق الحق وما سواه جائر عن الحق أي عادل عنه وهي طرق البدع والضلالات اعاذنا الله من سلوكها بفضله
وكفى بالجائر ان يحذر منه فالمساق يدل على التحذير والنهي
وذكر ابن وضاح قال سئل عاصم بن بهدلة وقيل له يا ابا بكر هل رأيت قول الله تعالى وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم اجمعين قال حدثنا ابو وائل عن عبد الله بن مسعود قال خط عبد الله بن عبد الله خطا مستقيما وخط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله فقال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم
هكذا فقال للخط المستقيم هذا سبيل الله وللخطوط التي عن يمينه وشماله هذه سبل متفرقه على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه والسبيل مشتركه قال الله تعالى وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه إلى آخرها
عن التستري قصد السبيل طريق السنه ومنها جائر يعني الي النار وذلك الملل والبدع
وعن مجاهد قصد السبيل أي المقتصد منها بين الغلو والتقصير وذلك يفيد ان الجائر هو الغالي او المقصر وكلاهما من اوصاف البدع
وعن علي رضي الله عنه انه كان يقرؤها فمنكم جائر قالوا يعني هذه الامة فكأن هذه الآيه مع الآيه قبلها يتواردان على معنى واحد(168/34)
ومنها قوله تعالى ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء انما امرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون هذه الايه قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشه رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا عائشة
ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا
من هم قلت الله ورسوله اعلم قال هم اصحاب الاهواء واصحاب البدع واصحاب الضلالة من هذه الامة يا عائشه ان لكل ذنب توبة ما خلا اصحاب الاهواء والبدع ليس لهم توبة وانا برئ منهم وهم مني براء
قال ابن عطيه هذه الايه تعم اهل الاهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك من اهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد ويريد والله اعلم باهل العمق في الفروع ما ذكره ابو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من كتاب العلم له وسيأتي ذكره بحول الله
وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن ابي حنيفه انه قال لقيت عطاء ابن رباح بمكة فسألته عن شيء فقال من اين انت قلت من اهل الكوفه قال انت من اهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا قلت نعم قال من أي الاصناف انت قلت ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر ولا يكفر احدا بذنب فقال عطاء عرفت فالزم
وعن الحسن قال خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا فقطعوا عليه كلامه فتراموا بالبطحاء حتى جعلت ما ابصر اديم السماء قال وسمعنا صوتا من بعض حجر ازواج النبي صلى الله عليه وسلم
فقيل هذا صوت ام المؤمنين قال فسمعتها وهي تقول الا ان نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب وتلت ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء
قال القاضي اسماعيل احسبه يعني بقوله ام المؤمنين ام سلمة وان ذلك قد ذكر في بعض الحديث وقد كانت عائشه في ذلك الوقت حاجة
وعن ابي هريرة انها نزلت في هذه الامة وعن ابي امامة هم الخوارج(168/35)
قال القاضي ظاهر القرآن يدل على ان كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآيه لانهم اذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا
ومنها قوله تعالي ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون
قرئ فارقوا دينهم وفسر عن ابي هريرة انهم الخوارج ورواه ابو أمامة مرفوعا
وقيل هم اصحاب الاهواء والبدع
قالوا روته عائشة رضي الله عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وذلك لان هذا شأن من ابتدع حسبما قاله اسماعيل القاضي وكما تقدم في الاي الاخر
ومنها قوله تعالى قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم او من تحت ارجلكم او يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض
فعن ابن عباس ان لبسكم شيعا هو الاهواء المختلفة ويكون على هذا قوله ويذيق بعضكم بأس بعض تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا كما جرى للخوارج حين خرجوا على اهل السنة والجماعة وقيل معنى او يلبسكم شيعا ما فيه الباس من الاختلاف
وقال مجاهد وابو العاليه ان الايه لامة محمد صلى الله عليه وسلم
قال أبو العالية هن أربع ظهر اثنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
بخمس وعشرين سنه فألبسوا شيعا وأذيق بعضكم بأس بعض وبقيت اثنتان فهما ولا بد واقعتان الخسف من تحت ارجلكم والمسخ من فوقكم وهذا كله صريح في ان اختلاف الاهواء مكروه غير محبوب ومذموم غير محمود وفيما نقل عن مجاهد في قول الله ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم قال في المختلفين انهم اهل الباطل الا من رحم ربك قال فان اهل الحق ليس فيهم اختلاف
وروى عن مطرف بن الشخير انه قال لو كانت الاهواء واحدا لقال القائل لعل الحق فيه فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل عقل ان الحق لا يتفرق
وعن عكرمه ولا يزالون مختلفين يعني في الاهواء الا من رحم ربك هم اهل السنة(168/36)
ونقل ابو بكر ثابت الخطيب عن منصور بن عبد الله بل الرحمن قال كنت جالسا عن الحسن ورجل خلفي قاعد فجعل يأمرني ان اسأله عن قول الله ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك قال نعم ( لا يزالون مختلفين ) على اديان شتى ( الا من رحم ربك ) فمن رحم غير مختلف
وروى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن انس ان اهل الرحمه لا يختلفون
ولهذه الايه بسط يأتي بعد ان شاء الله
وفي البخاري عن عمر بن مصعب قال سألت ابي عن قوله تعالى هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا هم الحرورية قال لا هم اليهود والنصارى اما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم
واما النصارى فكذبوا بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وكان شعبة يسميهم الفاسقين
وفي تفسير سعيد بن منصرو عن مصعب بن سعد قال قلت لابي الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ) اهم الحرورية قال لا أولئك اصحاب الصوامع ولكن الحروريه الذين قال الله فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم
وخرج عبد بن حميد في تفسيره هذا المعنى بلفظ آخر عن مصعب بن سعد فأتى على هذه الايه قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا إلى قوله ( يحسنون صنعا ) قلت اهم الحروية قال لا هم اليهود والنصارى اما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم
واما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما امر الله به ان يوصل ويفسدون في الارض فالاول لانهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لانهم تأولوا التأويلات الفاسدة وكذا فعل المبتدعة وهو بابهم الذي دخلوا فيه
والثاني لانهم تصرفوا في احكام القرآن والسنة هذا التصرف
فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى ان الحكم الا لله عن قوله يحكم به ذو عدل منكم وغيرها
وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله(168/37)
ومنه روى عمرو بن مهاجر قال بلغ عمر بن عبد العزيز رحمه الله ان غيلان القدري يقول في القدر فبعث اليه فحجبه اياما ثم ادخله عليه فقال يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك قال عمرو بن مهاجر فأشرت اليه الا يقول شيئا
قال فقال نعم يا امير المؤمنين ان الله عز وجل يقول هل اتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا انا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سمعيا بصيرا انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا قال عمر أقرأ إلى آخر السوره وما تشاءون الا ان يشاء الله ان الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين اعد لهم عذابا اليما ثم قال ما تقول يا غيلان قال اقول قد كنت اعمى فبصرتني واصم فأسمعتني وضالا فهديتني فقال عمر اللهم ان كان عبدك غيلان صادقا والا فاصله قال فأمسك عن الكلام في القدر فولاه عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق فلما مات عمر ابن عبد العزيز وافضت الخلافة إلى هشام تكلم في القدر فبعث اليه هشام فقطع يده فمر به رجل والذباب على يده فقال يا غيلان هذا قضاء وقدر
قال كذبت لعمر الله ما هذا قضاء ولا قدر
فبعث اليه هشام فصلبه
والثالث لان الحروريه جردوا السيوف على عباد الله وهو غاية الفساد في الارض وذلك كثير من اهل البدع شائع وسائرهم يفسدون بوجوه من ايقاع العداوه والبغضاء بين اهل الاسلام
وهذه الاوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبه عليها الكتاب والسنة كقوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا وقوله تعالى ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا واشباه ذلك
وفي الحديث ان الامة تتفرق على بضع وسبعين فرقة
وهذا التفسير في الرواية الاولى لمصعب بن سعد ايضا فقد وافق اباه على المعنى المذكور(168/38)
ثم فسر سعد بن ابي وقاص في رواية سعيد بن منصور ان ذلك بسبب الزيغ الحاصل فيهم وذلك قوله تعالى فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم وهو راجع إلى آية آل عمران في قوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه الاية فانه ادخل رضي الله عنه الحرورية في الآيتين بالمعنى وهو الزيغ في احداهما والاوصاف المذكورة في الاخرى لانها فيهم مموجوده فآية الرعد تشمل بلفظها لان اللفظ فيها يقتضي العموم لغة وان حملناها على الكفار خصوصا فهي تعطى ايضا فيهم حكما من جهة ترتيب الجزاء على الاوصاف المذكورة حسبما هو مبين في الاصول
وكذلك آية الصف لانها خاصة بقوم موسى عليه السلام
ومن هنا كان شعبة يسميهم الفاسقين اعنى الحرورية لان معنى الآيه واقع عليهم
وقد جاء فيها والله لا يهدي القوم الفاسقين والزيغ أيضاكان موجودا فيهم فدخلوا معنى قوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ومن هنا يفهم انها لا تختص من اهل البدعة بالحرورية بل تعم كل من اتصف بتلك الاوصاف التي اصلها الزيغ وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى وانما فسرها سعد رضي الله عنه بالحرورية لانه انما سئل عنهم عل الخصوص والله اعلم لانهم اول من ابتدع في دين الله فلا يقتضي ذلك تخصيصا
واما المسئول عنها اولا وهي آية الكهف فان سعدا نفى ان تشمل الحرورية وقد جاء عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه انه فسر الاخسرين اعمالا بالحرورية ايضا فروى عبد بن حميد عن ابن الطفيل قال قام ابن الكواء إلى علي فقال يا امير المؤمنين من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا قال منهم اهل حروراء وهو ايضا منقول في تفسير سفيان الثوري وفي جامع ابن وهب انه سأله عن الآيه فقال له ارق إلى اخبرك وكان على المنبر فرقى اليه درجتين فتناوله بعصا كانت في يده فجعل يضربه بها ثم قال له علي انت واصحابك(168/39)
وخرج عبد بن حميد ايضا عن محمد بن جبير بن مطعم قال اخبرني رجل من بني اود ان عليا خطب الناس بالعراق وهو يسمع فصاح به ابن الكواء من اقصى المسجد فقال يا امير المؤمنين من ( الاخسرين اعمالا ) قال انت
فقتل ابن الكواء يوم الخوارج
ونقل بعض اهل التفسير ان ابن الكواء سأله فقال أنتم هل حرواء واهل الرياء والذين
يحبطون الصنيعة بالمنة
فالروايه الاولى تدل على ان اهل حروراء بعض من شملته الآيه
ولما قال سبحانه في وصفهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وصفهم بالضلال مع ظن الاهتداء دل على انهم المبتدعون في اعمالهم عموما كانوا من اهل الكتاب اولا من حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم
كل بدعة ضلالة وسيأتي شرح ذلك بعون الله
فقد يجتمع التفسيران في الآيه تفسير سعد بأنهم اليهود والنصارى وتفسير علي بأنهم اهل البدعة لانهم قد اتفقوا على الابتداع ولذلك فسر كفر النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هي عليه وهو التأويل بالرأي
فاجتمعت الآيات الثلاث على ذم البدعة واشعركلام سعد بن ابي وقاص بأن كل آيه اقتضت وصفا من اوصاف المبتدعة فهم مقصودون بما فيها من الذم والخزى وسوء الجزاء اما بعموم اللفظ واما بمعنى الوصف
وروى ابن وهب ان النبي صلى الله عليه وسلم
اتى بكتاب في كتف فقال كفى بقوم حمقا او قال ضلالا ان يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم او كتاب إلى غير كتابهم فنزلت اولم يكفهم انا انزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم الآيه
وخرج عبد الحميد عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من رغب عن سنتي فليس مني ثم تلا هذه الايه قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الا آخر الآية(168/40)
وخرج هو وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله علمت نفس ما قدمت وأخرت قال ما قدمت من عمل خير او شر وما أخرت من نة يعمل بها من بعده وهذا التفسير قد يحتاج إلى تفسير فروى عن عبد الله قال ما قدمت من خير وما اخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعدها فان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وما اخرت من سنة سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من اوزارهم شيئا خرجه ابن المبارك وغيره
وجاء عن سفيان بن عيينة وابي قلابة وغيرهما انهم قالوا كل صاحب بدعة او فرية ذليل
واستدلوا بقول الله تعالى ان الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين
وخرج ابن وهب عن مجاهد في قول الله انا نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم يقول ما قدموا من خير وآثارهم التي أورثوا الناس بعدهم من الضلاله
وخرج ايضا عن ابن عون عن محمد بن سيرين انه قال اني ارى اسرع الناس ردة اصحاب الاهواء
قال ابن عون وكان ابن سيرين يرى ان هذه الايه في اصحاب الاهواء واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره الآيه
وذكر الآجري عن ابي الجوزاء انه ذكر اصحاب الاهواء فقال والذي نفس ابي الجوزاء بيده لأن تمتلئ داري قردة وخنازير احب الي من ان يجاورني رجل منهم ولقد دخلوا في هذه الآية ها انتم اولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله إلى قوله ان الله عليم بذات الصدور
والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة احوالهم كثيرة فلنقتصر على ما ذكرنا ففيه ان شاء الله الموعظة لمن اتعظ والشفاء لما في الصدور
فصل
الوجه الثاني من النقل ما جاء في الاحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهي كثيرة تكاد تفوت الحصر الا انا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك بحول الله ما هو اقرب إلى الصحة(168/41)
فمن ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال من احدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية لمسلم من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد وهذا الحديث عده العلماء ثلث الاسلام لانه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام
ويستوي في ذلك ما كان بدعة او معصية
وخرج مسلم عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يقول في خطبته اما بعد فان خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الامور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
وفي رواية قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو اهله ثم يقول من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وخير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة
وفي رواية للنسائي وكل محدثة بدعة وكل بدعة في النار
وذكر ان عمر رضي الله عنه كان يخطب بهذه الخطبه
وعن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا انه كان يقول انما هما اثنتان الكلام والهدى فأحسن
الكلام كلام الله واحسن الهدى هدى محمد الا واياكم ومحدثات الامور فان شر الامور محدثاتها ان كل محدثة بدعة وفي لفظ
غير انكم ستحدثون ويحدث ويحدث لكم فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار وكان ابن مسعود يخطب بهذا كل خميس
وفي رواية أخرى عنه انما هما اثنتان الهدى والكلام فافضل الكلام او اصدق الكلام كلام الله واحسن الهدى هدى الله بل محمد وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة الا لا يتطاولن عليكم الامر فتقسو قلوبكم ولا يلهينكم الامل فإن كل ما هو آت قريب الا ان بعيدا ما ليس آتيا
وفي رواية أخرى عنه احسن الحديث كتاب الله واحسن الهدى هدى محمد وشر الامور محدثاتها وان ما توعدون لات وما انتم بمعجزين
وروى ابن ماجه مرفوعا عن ابن مسعود ان رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/42)
قال اياكم ومحدثات الأمور فإن شر الامور محدثاتها وان كل محدثة بدعة وان كل بدعة ضلالة والمشهور انه موقوف على ابن مسعود
وفي الصحيح من حديث ابي هريره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من دعا إلى الهدى كان له من الاجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا
ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا وفي الصحيح ايضا عنه عليه الصلاة والسلام قال من سن سنة خير فاتبع عليها فله اجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل اوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا خرجه الترمذي
وروى الترمذي ايضا وصححه وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذات يوم ثم اقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب
فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد الينا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وان كان عبدا حبشيا
فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الامور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وروى على وجوه من طرق وفي الصحيح عن حذيفة انه قال يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر قال نعم قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديى قال فقلت هل بعد ذلك الشر من شر قال نعم دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا قال نعم هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت فما تأمرني ان ادركت ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وامامهم قلت فان لم يكن امام ولا جماعه قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وانت على ذلك وخرجه البخاري على نحو آخر(168/43)
وفي حديث الصحيفة المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من احدث فيها حدثا او آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع
والبدع من اقبح الحدث
وقد استدل به مالك في مسئلة تأتي في موضعها بحول الله
وهو وان كان مختصا بالمدينة فغيرها ايضا يدخل في المعنى
وفي الموطأ من حديث ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
خرج إلى المقبره فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وانا ان شاء الله بكم لاحقون الحديث إلى ان قال فيه فليذادن رجال عن حوضى كما يذاد البعير الضال اناديهم الا هلم الا هلم الا هلم فيقال انهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقا فسحقا فسحقا حمله جماعة من العلماء على انهم اهل البدع وحمله آخرون على المرتدين عن الاسلام
والذي يدل على الاول ما خرجه خيثمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي قال سألت أنس بن مالك فقلت ان ها هنا قوما يشهدون علينا بالكفر والشرك ويكذبون بالحوض والشفاعة فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
في ذلك شيئا قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول بين العبد والكفر او الشرك ترك الصلاة فاذا تركها فقد اشرك
وحوضى كما بين ايله إلى مكة اباريقه كنجوم السماء او قال كعدد نجوم السماء له ميزابان من الجنة كلما نضب امداه من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها ابدا وسيرده اقوام ذابلة شفاههم فلا يطعمون منه قطرة واحدة من كذب به اليوم لم يصب منه الشرب يومئذ فهذا الحديث على انهم من أهل القبلة فنسبتهم أهل الإسلام إلى الكفر من أوصاف الخوارج والتكذيب بالحوض من اوصاف اهل الاعتزال وغيرهم
مع ما في حديث الموطأ من قول النبي صلى الله عليه وسلم
ألا هلم(168/44)
لانه عرفهم بالغره والتحجيل الذي جعله من خصائص امته والا فلو لم يكونوا من الامة لم يعرفهم بالعلامة المذكورة وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالموعظه فقال انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا اول خلق نعيده وعدا علينا انا كنا فاعلين قال اول من يكسى يوم القيامة ابراهيم وانه يستدعى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت انت الرقيب عليهم وانت على كل شيء شهيد ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم فيقال هؤلاء لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم
ويحتمل هذا الحديث ان يراد به اهل البدع كحديث الموطأ ويحتمل ان يراد به من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم
وفي الترمذي عن ابي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال تفرقت اليهود على احدى وسبعين فرقة والنصار مثل ذلك وتفترق امتي على ثلاث وسبعين فرقة
حسن صحيح
وفي الحديث روايات أخر سيأتي ذكرها والكلام عليها ان شاء الله
ولكن الفرق فيها عند اكثر العلماء فرق اهل البدع وفي الصحيح انه صلى الله عليه وسلم
قال ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى اذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا وهو آت على وجوه كثيره في البخاري وغيره
وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال من سره ان يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله عز وجل شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم
سنن الهدى وانهن من سنن الهدى ولو انكم صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم
لضللتم الحديث
فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة وفي رواية لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم(168/45)
لكفرتكم وهو اشد في التحذير
وفيه ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال اني تارك فيكم ثقلين اولهما كتاب الله فيه الهدى والنور وفي رواية فيه الهدى من استمسك به واخذ به كان على الهدى
ومن أخطأه ضل
وفي رواية من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة
ومما جاء في هذا الباب ايضا ما خرج ابن وضاح ونحوه لابن وهب عن ابي هريره ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال سيكون في أمتي دجالون كذابون يأتونكم ببدع من الحديث لم تسمعوه انتم ولا آباؤهم فإياكم إياهم لا يفتنوكم
وفي الترمذي انه عليه الصلاة والسلام قال من احيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فان له من الاجر مثل أجر من عمل بها من غير ان ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من اوزار الناس شيئا حديث حسن
ولابن وضاح وغيره من حديث عائشه رضي الله عنها من أتى صاحب بدعه ليوقره فقد اعان على هدم الاسلام
وعن الحسن ان رسول الله عليه وسلم قال ان احببت ان لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك وعنه عليه الصلاه والسلام انه قال من اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني
وخرج الطحاوي ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي مجاب الزائد في دين الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت يذل به من اعز الله ويعز به من اذل الله والتارك لسنتي والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتي ما حرم الله
وفي رواية ابي بكر بن ثابت الخطيب ستة لعنهم الله ولعنتهم وفيه والراغب عن سنتي إلى بدعة
وفي الطحاوي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ان لكل عابد شرة ولكل شرة فترة فإما إلى سنة واما إلى بدعة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك(168/46)
وفي معجم البغوي عن مجاهد قال دخلت أنا وابو يحي بن جعدة على رجل من الانصار من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ذكروا عند رسول الله صلى وسلم مولاة لبني عبد المطلب فقالوا انها قامت الليل وصامت النهار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لكني انام واصلي واصوم وافطر فمن اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني ان لكل عامل شرة ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ومن كانت فترته إلى سنه فقد اهتدى
وعن وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم
انه قال ان اشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا او قتله نبي وامام ضلالة وممثل من المسلمين
وفي منتقى حديث خيثمة عن سليمان عن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال
سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فيحدثون البدعة
قال عبد الله بن مسعود فكيف اصنع اذا ادركتهم قال تسألني يا ابن ام عبد الله كيف تصنع لا طاعة لمن عصى الله
وفي الترمذي عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من اكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة فقال رجل يا رسول الله ان هذا اليوم في الناس لكثير قال وسيكون في قرون بعدى حديث غريب
وفي كتاب الطحاوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال كيف بكم وبزمان او قال يوشك ان يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم واماناتهم اختلفوا فصارت هكذا وشبك بين اصابعه قالوا وكيف بنا يا رسول الله قال تأخذون بما تعرفون وتذرون ما تنكرون وتقبلون على امر خاصتكم وتذرون امر عامتكم وخرج ابن وهب مرسلا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال اياكم والشعاب قالوا وما الشعاب يا رسول الله قال الاهواء
وخرج ايضا ان الله ليدخل العبد الجنه بالسنة يتمسك بها
وفي كتاب السنة للآجرى من طريق الوليد بن مسلم عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/47)
اذا حدث في أمتي البدع وشتم اصحابي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكه والناس اجمعين
قال عبد الله بن الحسن فقلت للوليد بن مسلم ما اظهار العلم قال اظهار السنة والأحاديث كثيرة
وليعلم الموفق ان بعض ما ذكر من الاحاديث يقصر عن رتبة الصحيح وانما اتى بها عملا بما اصله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب
اذ قد ثبت ذم البدع واهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السني الصحيح فما زيد من غيره فلا حرج في الاتيان به ان شاء الله
فصل
الوجه الثالث من النقل ما جاء عن السلف الصالح من الصحابه والتابعين رضي الله عنهم في ذم البدع واهلها وهو كثير
فمما جاء عن الصحابة ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه خطب الناس فقال ايها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة الا ان تضلوا بالناس يمينا وشمالا
وصفق باحدى يديه على الاخرى
ثم قال اياكم ان تهلكوا عن آية الرجم ان يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله
فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورجمنا إلى آخر الحديث
وفي الصحيح عن حذيفه رضي الله عنه انه قال يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا وان أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا وروى عنه من طريق آخر انه كا يدخل المسجد فيقف على الخلق فيقول يا معشر القراء اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن اخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
وفي رواية ابن المبارك فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا الحديث
وعنه ايضا أخوف ما اخاف على الناس اثنتان ان يؤثروا ما يرون على ما يعلمون وان يضلوا وهو لا يشعرون
قال سفيان وهو صاحب البدعه
وعنه ايضا انه اخذ حجرين فوضع احدهما على الاخر ثم قال لاصحابه هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور قالوا يا ابا عبد الله ما نرى بينهما من النور الا قليلا(168/48)
قال والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق الا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شي قالوا تركت السنة
وعنه انه قال اول ما تفقدون من دينكم الامانة وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الاسلام عروة عروة وليطئن نساءكم وبن حيض ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقهم ولا تخطئ بكم وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول احداهما ما بال الصلوات الخمس لقد ضل من كان قبلنا انما قال الله اقم الصلاه طرفي النهار وزلفا من الليل لا تصلون الا ثلاثا
وتقول الاخرى انما المؤمنون بالله كايمان الملائكه ما فيها كافر ولا منافق
حق على الله ان يحشرهما مع الدجال
وهذا المعنى موافق لما ثبت من حديث ابي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم
انه قال لألفين احدكم متكئا على اريكته يأتيه الامر من أمري مما أمرت به او نهيت عنه فيقول لا ادري لا ادري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب فمن اخذ بالكتاب من غير معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زل عن السنة
فلذلك يقول القائل لقد ضل من كان قبلنا إلى آخره وهذه الاثار عن حذيفه من تخريج ابن وضاح
وخرج ايضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه انه قال اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
وخرج عنه ابن وهب ايضا انه قال عليكم بالعلم قبل ان يقبض وقبضه بذهاب اهله
عليكم بالعلم فإن احدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده
وستجدون اقواما يزعمون انهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالتعيق
وعنه ايضا ليس عام الا والذي بعده شر منه لا اقول عام امطر من عام ولا عام اخصب من عام ولا امير خير من امير ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث قوم يقيسون الامور بآرائهم فيهدم الاسلام ويثلم(168/49)
وقال ايضا كيف انتم اذا البستم فتنه يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجرى على الناس يحدثونها سنة اذا غيرت قيل هذا منكر
وقال ايضا ايها الناس لا تبتدعوا ولا تنطعوا ولا تعمقوا وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون
وعنه ايضا القصد في السنه خير من الاجتهاد في البدعه
وقد روى معناه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة
وعنه ايضا خرجه قاسم بن اصبع انه قال اشد الناس عذابا يوم القيامه امام ضال يضل الناس بغير ما انزل الله ومصور ورجل قتل نبيا او قتله نبي
وعن ابي بكر الصديق رضي الله عنه قال لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعمل به الا عملت به اني اخشى ان تركت شيئا من امره ان ازيغ
خرج ابن المبارك عن عمر بن الخطاب ان يزيد بن ابي سفيان يأكل الوان الطعام فقال عمر لمولى له يقال له يرفأ اذا علمت انه قد حضر عشاؤه فأعلمنى فلما حضر عشاؤه اعلمه فأتاه عمر فسلم عليه فاستأذن فأذن له فدخل فقرب عشاءه فجاء بثريد لحم فأكل عمر معه منها ثم قرب شواء فبسط يزيد يده وكف عمر يده ثم قال والله يا يزيد بن ابي سفيان اطعام بعد طعام والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم
وعن ابن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر(168/50)
وخرج الآجري عن السائب بن يزيد قال اتى عمر بن الخطاب فقالوا يا امير المؤمنين انا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن فقال اللهم امكني منه قال فبينما عمر ذات يوم يغذي الناس اذ جاءه عليه ثياب وعمامه فتغدى حتى اذا فرغ قال يا امير المؤمنين والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فقال عمر أنت هو فقام اليه محسرا عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك البسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم اخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيبا ثم ليقل ان صبيغا طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه
وخرج ابن المبارك وغيره عن ابي بن كعب انه قال عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما على الارض من عبد على السبيل والسنه ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله ابدا
وما على الارض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله الا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك اذا اصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها الا حط الله عنه خطاياه كما تحات عن الشجره ورقها فإن اقتصادا في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنه وانظروا ان يكون عملكم ان كان اجتهادا واقتصادا ان يكون على منهاج الانبياء وسنتهم
وخرج ابن وضاح عن ابن عباس قال ما يأتي على الناس من عام الا احدثوا فيه بدعة واماتوا سنه حتى تحيا البدع وتموت السنن
وعنه انه قال عليكم بالاستفاضة والأثر واياكم والبدع
وخرج ابن وهب عنه ايضا قال من احدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/51)
لم يدر ما هو عليه اذا لقى الله عز وجل وخرج ابو داود وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه انه قال يوما ان من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيه القران حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأه والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل ان يقول ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره واياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة واحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق
قال الراوي قلت لمعاذ وما يدريني يرحمك الله ان الحكيم قد يقول كلمة ضلالة وان المنافق قد يقول كلمة الحق قال بلى اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها ما هذه ولا يثنينك ذلك عنه فانه لعله ان يراجع وتلق الحق اذا سمعته فان على الحق نورا
وفي روايه مكان المشتهرات المشتبهات وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حتى يقال ما اراد بهذه الكلمة ويريد والله اعلم ما لم يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حتى تنكره القلوب ويقول الناس ما هذه وذلك راجع إلى ما يحذر من زلة العالم حسبما يأتي بحول الله
ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال صاحب البدعةه لا يزداد اجتهادا صياما وصلاة الا ازداد من الله بعدا
وخرج ابن وهب عن ابي ادريس الخولاني انه قال لان ارى في المسجد نارا لا استطيع اطفاءها احب الي من ان ارى فيه بدعة لا استطيع تغييرها وعن الفضيل بن عياض اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين واياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين
وعن الحسن لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك او تخالفه فيمرض قلبك(168/52)
وعنه ايضا في قول الله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم قال كتب الله صيام رمضان على اهل الاسلام كما كتبه على من كان قبلهم فاما اليهود فرفضوه واما النصارى فشق عليهم الصوم فزادوا فيه عشرا وأخروه إلى اخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الأزمنة فكان الحسن اذا حدث بهذا الحديث قال عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة
وعن ابي قلابة لا تجالسوا اهل الاهواء ولا تجادلوهم فاني لا آمن ان يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون قال ايوب وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب
وعنه ايضا انه كان يقول ان اهل الأهواء اهل ضلالة ولا ارى مصيرهم الا إلى النار
وعن الحسن لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك
وعن ايوب السختياني انه كان يقول ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا الا ازداد من الله بعدا
وعن ابي قلابة ما ابتدع رجل بدعة الا استحل السيف
وكان ايوب يسمي اصحاب البدع خوارج ويقول ان الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف
وخرج ابن وهب عن سفيان قال كان رجل فقيه يقول ما احب اني هديت الناس كلهم واضللت رجلا واحدا وخرج عنه انه كان يقول لا يستقيم قول الا بعمل ولا قول وعمل الا بنيه ولا قول ولا عمل ولا نيه الا موافقا للسنة
وذكر الآجري ان ابن سيرين كان يرى اسرع الناس ردة اهل الاهواء
وعن ابراهيم ولا تكلموهم اني اخاف ان ترتد قلوبكم
وعن هشام بن حسان قال لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاه ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا زاد ابن وهب عنه وليأتين على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل فاذا كان ذلك لم ينفع فيه دعاء الا كدعاء الغرق
وعن يحي بن ابي كثير قال اذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر
وعن بعض السلف من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه(168/53)
وعن العوام بن حوشب انه كان يقول لابنه يا عيسى اصلح قلبك واقلل مالك وكان يقول والله لان ارى عيسى في مجالس اصحاب البرابط والاشربه والباطل احب الي من ان اراه يجالس اصحاب الخصومات
قال ابن وضاح يعني اهل البدع
وقال رجال لابي بكر بن عياش يا ابا بكر من السني الذي اذا ذكرت الاهواء لم يغضب لشيء منها وقال يونس بن عبيد ان الذي نعرض عليه السنة فيقبلها الغريب واغرب منه صاحبها
وعن يحي بن ابي عمر الشيباني قال كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة الا إلى شر منها
وعن ابي العالية تعلموا الاسلام فاذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فانه الاسلام ولا تحرفوا يمينا ولا شمالا وعليكم بسنة نبيكم وما كان عليه اصحابه من قبل ان يقتلوا صاحبهم ومن قبل ان يفعلوا الذي فعلوا
قد قرأنا القرآن من قبل ان يقتلوا صاحبهم ومن قبل ان يفعلوا الذي فعلوا واياكم وهذه الاهواء التي تلقى بين الناس العداوه والبغضاء
فحدث الحسن بذلك فقال رحمه الله صدق ونصح
خرجه ابن وضاح وغيره
وكان مالك كثيرا ما ينشد
وخير أمور الدين ما كان سنة
وشر الامور المحدثات البدائع
وعن مقاتل بن حيان قال اهل هذه الاهواء آفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم
انهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم
واهل بيته فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس فيقذفون بهم في المهالك فما اشبههم بمن يسقى الصبر باسم العسل ومن يسقى السم القاتل باسم الترياق فأبصرهم فإنك ان لا تكن اصبحت في بحر الماء فقد اصبحت في بحر الاهواء الذي هو اعمق غورا واشد اضطرابا واكثر صواعق وابعد مذهبا من البحر وما فيه ففلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنة
وعن ابن المبارك قال اعلم أي اخي ان الموت كرامة لكل مسلم لقى الله على السنة فإنا لله وانا اليه راجعون فالى الله نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان وقلة الأعوان وظهور البدع(168/54)
والى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الامه من ذهاب العلماء واهل السنه وظهور البدع
وكان ابراهيم التيمي يقول اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق ومن اتباع الهوى ومن سبل الضلالة ومن شبهات الامور ومن الزيغ والخصومات
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يكتب في كتبه اني احذركم ما مالت اليه الاهواء والزيغ البعيده
ولما بايعه الناس صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال ايها الناس انه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد كتابكم كتاب ولا بعد سنتكم سنة ولا بعد أمتكم امة الا وان الحلال ما احل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة الا وان الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة
ألا واني لست بمبتدع ولكني متبع ألا واني لست بقاض ولكني منفذ الا واني لست بخازن ولكني اضع حيث امرت الا واني لست بخيركم ولكني اثقلكم حملا
الا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ثم نزل
وفيه قال عروه بن أذينة عن أذينة يرثيه بها
واحييت في الاسلام علما وسنة
ولم تبتدع حكما من الحكم اضجع
ففي كل يوم كنت تهدم بدعة
وتبني لنا من سنة ما تهدما
ومن كلامه الذي عنى به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكا حدا وهو ان قال سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وولاة الأمر من بعده سننا الاخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لاحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها
من عمل بها مهتد ومن انتصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا(168/55)
وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنه من السنه منها ما نحن فيه لان قوله ليس لاحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء من خالفها قطع المادة الابتداع جمله وقوله من عمل بها مهتد إلى آخر الكلام مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه وتعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي صلى الله عليه وسلم
فهو سنه ولا بدعة فيه ألبتة وان لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم
نص عليه على الخصوص
فقد حاء ما يدل عليه في الجملة وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين والمهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الامور فقرن عليه السلام كما ترى سنة الخلفاء الراشدين بسنته وان من اتباع سنته اتباع سنتهم وان المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء
لانهم رضي الله عنهم فيما سنوه
اما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها واما متبعون لما فهموا من سنته صلى الله عليه وسلم
في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله لا زائد على ذلك
وسيأتي بيانه بحول الله
على ان ابا عبد الله الحاكم نقل عن يحي بن آدم قول السلف الصالح سنة ابي بكر وعمر رضي الله عنهما ان المعنى فيه ان يعلم ان النبي صلى الله عليه وسلم
مات وهو على تلك السنة وانه لا يحتاج مع قول النبي صلى الله عليه وسلم
إلى قول احد وما قال صحيح في نفسه فهو مما يحتمله حديث العرباض رضي الله عنه فلا زائد اذا على ما ثبت في السنة النبوية
الا انه قد يخاف ان تكون منسوخة بسنة أخرى فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده ليعلموا ان ذلك هو الذي مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم
من غير ان يكون له ناسخ لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمره(168/56)
وعلى هذا المعنى بني مالك ابن انيس في احتجاجه بالعمل ورجوعه اليه عند تعارض السنن
ومن الاصول المضمنه في اثر عمر بن عبد العزيز ان سنة ولاة الامر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
لقوله الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله
وهو اصل مقرر في غير هذا الموضع فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله أصولا حسنة وفوائد مهمة ومما يعزى لابي الياس الالباني ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن وفيهن خير الدنيا والآخرة اتبع لا تبتدع اتضع لا ترتفع ومن ورع لا يتسع والآثار هنا كثرة
فصل
الوجه الرابع من النقل ما جاء في ذم البدع واهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس
وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وان كان فيما تقدم من النقل كفاية لان كثيرا من الجهال يعتقدون فيهم انهم متساهلون في الاتباع وان اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه وحاشاهم من ذلك ان يعتقدوه او يقولوا به فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنه واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم وعمود نحلتهم ابو القاسم القشيري انهم انما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن اهل البدع فذكر ان المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يتسم افاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة اذ لا فضيلة فوقها ثم سمى من يليهم التابعين ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ثم قيل لمن بعدهم اتباع التابعين ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية في الدين الزهاد والعباد
قال ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق ان فيهم زهادا وعبادا فانفرد خواص اهل السنة المراعون انفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف
هذا معنى كلامه فقد عد هذا اللقب مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة
وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبره به من المدعين للعلم(168/57)
وفي غرضى ان فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الاسباب ان الخص في طريقة القوم انموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى وانه انما داخلتها المفاسد وتطرقت اليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد اهلها وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به حتى صارت في هذا الزمان الاخير كأنها شريعة أخرى غير ما اتى بها محمد صلى الله عليه وسلم
واعظم من ذلك انهم يتساهلون في اتباع السنة ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا وطريقة القوم بريئه من هذا الخباط بحمد الله
فقد قال الفضيل بن عياض من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة
وقيل لابراهيم بن ادهم ان الله يقول في كتابه ادعوني استجب لكم ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا فقال ماتت قلوبكم في عشرة اشياء اولها عرفتم الله فلم تؤدوا حقه
والثاني قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به والثالث ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتركتم سنته
والرابع ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه
والخامس قلتم نحب الجنة وما تعملون لها إلى آخر الحكاية
وقال ذو النون المصرى من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم
في اخلاقه وافعاله وامره وسنته
وقال انما دخل الفساد على الخلق من ستة اشياء الاول ضعف النية بعمل الآخره
والثاني صارت ابدانهم مهيئة لشهواتهم
والثالث غلبهم طول الامل مع قصر الاجل
والرابع آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله
والخامس اتبعوا اهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم
والسادس جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا اكثر مناقبهم(168/58)
وقال لرجل اوصاه ليكن آثر الاشياء عندك واحبها اليك احكام ما افترض الله عليك واتقاء ما نهاك عنه فان ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من اعمال البر التي تجب عليك وانت ترى انها ابلغ لك فيما تريد كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما اشبه ذلك وانما للعبد ان يراعى ابدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده وينظر إلى ما نهى عنه فيتقيه على احكام ما ينبغي فإن الذي قطع العباد عن ربهم وقطعهم عن ان يذوقوا حلاوة الايمان وان يبلغوا حقائق الصدق وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخره تهاونهم باحكام ما فرض عليهم في قلبوهم واسماعهم وابصارهم والسنتهم وايديهم وارجلهم وبطونهم وفروجهم
ولو وقفوا على هذه الاشياء واحكموها لادخل عليهم البر ادخالا تعجز ابدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته وفوائد كرامته ولكن اكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب وتهاونوا بالقليل مما هم فيه من العيوب فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل
وقال بشر الحافي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
في المنام فقال لي يا بشر تدري لم رفعك الله بين اقرانك قلت لا يا رسول الله قال لاتباعك سنتي وحرمتك للصالحين ونصيحتك لإخوانك ومحبتك لاصحابي واهل بيتي هو الذي بلغك منازل الابرار
وقال يحي بن معاذ الرازي اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول فلكل واحد منها ضد فمن سقط عنه وقع ضده التوحيد وضده الشرك والسنة وضدها البدعة والطاعة وضدها المعصية وقال أبو بكر الدقاق وكان من اقران الجنيد كنت مارا في تيه بني اسرائيل فخطر ببالي ان علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة فهتف بي هاتف كل حقيقة لاتتبعها الشريعة فهي كفر
وقال ابو على الحسن بن علي الجوزجاني من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه وموافقة السنة في افعاله وصحبته لاهل الصلاح وحسن اخلاقه مع الاخوان وبذل معروفه للخلق واهتمامه للمسلمين ومراعاته لأوقاته(168/59)
وسئل كيف الطريق إلى الله فقال الطرق إلى الله كثيرة وأوضح الطرق وابعدها عن الشبه اتباع السنة قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية لان الله يقول وان تطيعوه تهتدوا فقيل له كيف الطريق إلى السنة فقال مجانبة البدع واتباع ما اجمع عليه الصدر الاول من علماء الاسلام والتباعد عن مجالس الكلام واهله ولزوم طريقة الاقتداء وبذلك امر النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله تعالى ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم
وقال ابو بكر الترمذي لم يجد احد تمام الهمة باوصافها الا اهل المحبة وانما اخذوا ذلك باتباع السنة ومجانبة البدعة فإن محمدا صلى الله عليه وسلم
كان اعلى الخلق كلهم همة واقربهم زلفى
وقال ابو الحسن الوراق لا يصل العبد إلى الله الا بالله وبموافقة حبيبه صلى الله عليه وسلم
في شرائعه
ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث انه مهتد وقال الصدق استقامة الطريق في الدين واتباع السنة في الشرع
وقال علامة محبة الله متابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم
ومثله عن ابراهيم القمار قال علامة محبة الله ايثار طاعته ومتابعة نبيه
وقال ابو محمد بن عبد الوهاب الثقفي لا يقبل الله من الاعمال الا ما كان صوابا ومن صوابها الا ما كان خالصا ومن خالصها الا ما وافق السنة
وابراهيم بن شيبان القرميسيني صحب ابا عبد الله المغربي وابراهيم الخواص وكان شديدا على اهل البدع متمسكا بالكتاب والسنة لازما لطريق المشايخ والائمة حتى قال فيه عبد الله بن منازل ابراهيم بن شيبان حجة الله على الفقراء واهل الآداب والمعاملات
وقال ابو بكر بن سعدان وهو من اصحاب الجنيد وغيره الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفله والمعاصي والبدع والضلالات
وقال ابو عمر الزجاجي وهو من اصحاب الجنيد والثورى وغيرهما كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطبائعهم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم(168/60)
فردهم إلى الشريعة والاتباع فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه
وقيل لاسماعيل بن محمد السلمى جد ابي عبد الرحمن السلمى ولقى الجنيد وغيره ما الذي لا بد للعبد منه فقال ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة
وقال ابو عثمان المغربي التونسي هي الوقوف مع الحدود لا يقصر فيها ولا يتعداها قال الله تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه
وقال ابو يزيد البسطامي عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا اشد من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لشقيت
واختلاف العلماء رحمة الا في تجريد التوحيد ومتابعة العلم وهي متابعة السنة لا غيرها
وروى عنه انه قال قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية وكان رجلا مقصودا مشهورا بالزهد قال الراوي فمضينا فلما خرج من بيته ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة فانصرف ابو يزيد ولم يسلم عليه وقال هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه
وهذا اصل أصله ابو يزيد رحمه الله للقوم وهو ان الولاية لا تحصل لتارك السنه وان كان ذلك جهلا منه فما ظنك به اذا كان عاملا بالبدعه كفاحا
وقال هممت ان أسأل الله ان يكفيني مؤنه الأكل ومؤنة النساء ثم قلت كيف يجوز ان اسأل الله هذا ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم أسأله ثم ان الله سبحانه كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأه أم حائط
وقال لو نظرتم إلى رجل اعطى من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الامر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة
وقال سهل التستري كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان او معصية فهو عيش النفس يعني باتباع الهدى وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء فهو عتاب على النفس يعني لأنه لا هوى له فيه واتباع الهوى هو المذموم ومقصود القوم تركه البتة(168/61)
وقال أصولنا سبعة أشياء التمسك بكتاب الله والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأكل الحلال وكف الأذى واجتناب الآثام والتوبة وأداء الحقوق
وقال قد أيس الخلق من هذه الخصال الثلاث
ملازمة التوبة ومتابعة السنة وترك أذى الخلق
وسئل عن الفتوة فقال اتباع السنة
وقال ابو سليمان الداراني ربما تقع في قلبي النكتة من نكتة القوم اياما فلا اقبل منه الا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة
وقال احمد بن ابي الحواري من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله
ابو حفص الحداد من لم يزن افعاله واحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال
وسئل عن البدعة فقال التعدي في الاحكام والتهاون في السنن واتباع الآراء والاهواء وترك الاتباع والاقتداء قال وما ظهرت حالة عالية الا من ملازمة أمر صحيح
وسئل حمدون القصار متى يجوز للرجل ان يتكلم على الناس فقال اذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في علمه او خاف هلاك انسان في بدعة يرجو ان ينجيه الله منها
وقال من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال
وهذه والله اعلم اشاره إلى المثابرة والاقتداء بهم فانهم اهل السنة
وقال ابو القاسم الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال اهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد ان هذا قول قوم تكلموا باسقاط الاعمال عن الله تعالى واليه يرجعون فيها
قال ولو بقيت الف عام لم انقص من اعمال البر ذرة الا ان يحال بي دونها
وقال الطرق كلها مسدودة على الخلق الا على من اقتفى اثر الرسول صلى الله عليه وسلم
وقال مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة
وقال من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدي به في هذا الامر لان علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة
وقال هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/62)
وقال ابو عثمان الجبري الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة إلى آخر ما قال
ولما تغير عليه الحال مزق ابنه ابو بكر قميصا على نفسه ففتح ابو عثمان عينيه وقال خلاف السنة يا بني في الظاهر علامة رياء في الباطن
وقال من امر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن امر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قال الله تعالى وان تطيعوه تهتدوا
وقال ابو الحسين النووي
من رايته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه
وقال محمد بن الفضل البلخي ذهاب الاسلام من اربعة لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ما لا يعلمون ويمنعون الناس من التعلم
هذا ما قال وهو وصف صوفيتنا اليوم عياذا بالله
وقال اعرفهم بالله اشدهم مجاهدة في اوامره واتبعهم لسنة نبيه
وقال شاه الكرماني من غض بصره عن المحارم وامسك نفسه عن الشبهات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة وعود نفسه اكل الحلال لم تخطئ له فراسة
وقال ابو سعيد الخراز كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل
وقال ابو العباس بن عطاء وهو من اقران الجنيد من الزم نفسه آداب نور الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام اشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم
في اوامره وافعاله واخلاقه
وقال ايضا اعظم الغفلة غفلة العبد عن ربه عز وجل وغفلته عن اوامره وغفلته عن آداب معاملته وقال ابراهيم الخواص ليس العلم بكثرة الرواية وانما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وان كان قليل العلم
وسئل عن العافية فقال العافية اربعة اشياء دين بلا بدعة وعمل بلا آفة وقلب بلا شغل ونفس بلا شهوة
وقال الصبر الثبات على احكام الكتاب والسنة(168/63)
وقال بنان الحمال وسئل عن اصل احوال الصوفيه فقال الثقة بالمضمون والقيام بالاوامر ومراعاة السر والتخلي من الكونين
وقال ابو حمزة البغدادي من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله الا متابعة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم
في احواله وافعاله واقواله
وقال ابو اسحاق الرقاشي علامة محبة الله ايثار طاعته ومتابعة نبيه ا ه
ودليله قوله تعالى قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآيه
وقال ممشاد الدينوري آداب المريد في التزام حرمات المشايخ وحرمة الاخوان والخروج عن الاسباب وحفظ آداب الشرع على نفسه
وسئل ابو علي الروزباري عمن يسمع الملاهي ويقول هي لي حلال لاني قد وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الاحوال
فقال نعم قد وصل ولكن إلى سقر
وقال ابو محمد عبد الله بن منازل لم يضيع احد فريضة من الفرائض الا ابتلاه الله بتضييع السنن ولم يبتل بتضييع السنن احد الا يوشك ان يبتلى بالبدع
وقال ابو يعقوب النهرجوري افضل الاحوال ما قارن العلم
وقال ابو عمرو بن نجيد كل حال لا يكون عن نتيجة علم فان ضرره على صاحبه اكثر من نفعه او ما أشبه ذلك فكثيرا ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم يرتكب من الاعمال ما اجمع الناس على فساده شرعا ويحتج بحكايات هي قضايا احوال ان صحت لم يكن فيها حجه لوجوه عدة ويترك من كلامهم واحوالهم ما هو واضح في الحق الصريح والاتباع الصحيح شأن من اتبع من الادلة الشرعية ما تشابه بها
ولما كان اهل التصوف في طريقهم بالنسبة إلى اجماعهم على امر كسائر اهل العلوم في علومهم اتيت من كلامهم بما يقوم منه دليل على مدعى السنة وذم البدعة في طريقتهم حتى يكون دليلا لنا من جهتهم على اهل البدع عموما وعلى المدعين في طريقهم خصوصا وبالله التوفيق
فصل(168/64)
الوجه الخامس من النقل ما جاء منه في ذم الرأي المذموم وهي المبني على غير أس والمستند إلى غير اصل من كتاب ولا سنة لكنه وجه تشريعي فصار نوعا من الابتداع بل هو الجنس فيها فان جميع البدع انما هي رأي على غير اصل ولذلك وصف بوصف الضلال
ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ان الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون فإذا كان كذلك فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة
وخرج ابن المبارك وغيره عن عوف بن مالك الاشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة اعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما احل الله ويحلون به ما حرم الله
قال ابن عبد البر هذا هو القياس على غير أصل والكلام فى الدين بالتخرص والظن ألا ترى إلى قوله في الحديث يحلون الحرام ويحرمون الحلال ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله والحرام ما كان فى كتاب الله وسنة رسوله تحريمه فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة فهذا الذى قاس برأيه فضل وأضل ومن رد الفروع فى علمه إلى أصولها فلم يقل برأيه
وخرج ابن المبارك حديثا ان من اشراط الساعه ثلاثا وإحداهن ان يلتمس العلم عند الاصاغر قيل لابن المبارك من الاصاغر قال الذين يقولون برأيهم
فأما صغير يروى عن كبير فليس بصغير
وخرج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال اصبح اهل الرأي اعداء السنن اعيتهم الاحاديث ان يعوها وتفلتت منهم قال سحنون يعني البدع
وفي رواية اياكم واصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأى فضلوا واضلوا(168/65)
وفي روايه لابن وهب ان اصحاب الرأي اعداء السنة اعيتهم ان يحفظوها وتفلتت منهم ان يعوها واستحيوا حين يسألوا ان يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فاياكم واياهم
قال ابو بكر بن ابي داود اهل الرأي هم اهل البدع
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال من احدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يدر ما هو عليه اذا لقى الله عز وجل وعن ابن مسعود رضي الله عنه قراوكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الامور برأيهم
وخرج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب انه قال السنة ما سنه الله ورسوله لا تجعلوا حظ الرأي سنة للامة
وخرج ايضا عن هشام بن عروه عن ابيه قال لم يزل امر بني اسرائيل مستقيما حتى ادرك فيهم المولدون ابناء سبايا الامم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني اسرائيل
وعن الشعبي إنما هلكتم حين تركتم الاثار واخذتم بالمقاييس
وعن الحسن انما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الاثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا واضلوا
وعن دراج بن السهم بن اسمح قال يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما ثم يسير عليها في الامصار حتى تعود نقضا يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد الا من يفتيه بالظن
وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار
فقد قالت طائفة المراد به رأى اهل البدع المخالفين للسنن لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب اهل الكلام لانهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
بل وفي رد ظواهر القرآن لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالمحتملات ونفى عذاب القبر ونفى الميزان والصراط
وكذلك ردوا احاديث الشفاعة والحوض إلى اشياء يطول ذكرها وهي مذكورة في كتب الكلام(168/66)
وقالت طائفة انما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي وخروج عن الشرع وهذا هو القول الاظهر
إذ الادلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الاول من البدع نوعا دون نوع
بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعه حدثت او تحدث إلى يوم القيامة كانت من الاصول او الفروع كما قاله القاضي اسماعيل في قوله تعالى ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء بعد ما حكى انها نزلت في الخوارج
وكأن القائل بالتخصيص والله اعلم لم يقل به بالقصد الاول بل اتى بمثال مما تتضمنه الايه كالمثال المذكور فانه موافق لما قال مشتهرا في ذلك الزمان فهو اولى ما يمثل به ويبقى ما عداه مسكوتا عن ذكره عند القائل به ولو سئل عن العموم لقال به
وهكذا كل ما تقدم من الاقوال الخاصة ببعض اهل البدع انما تحصل على التفسير بحسب الحاجة الا ترى ان الآية الاولى من سورة آل عمران انما نزلت في قصة نصارى نجران ثم نزلت على الخوارج حسبما تقدم إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير انما يحملونه على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغة
وهكذا ينبغي ان تفهم اقوال المفسرين المتقدمين وهو الاولى لمناصبهم في العلم ومراتبهم في فهم الكتاب والسنه
ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع(168/67)
وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور اهل العلم الرأي المذكور في هذه الاثار هو القول في احكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والاغلوطات ورد الفروع والنوازع بعضها إلى بعض قياسا دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها فاستعمل فيها الرأي قبل ان تنزل وفرعت قبل ان تقع وتكلم فيها قبل ان تكون بالرأي المضارع للظن قالوا لان في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله تعالى ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياء منها ان عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن وما جاء من النهي عن الاغلوطات وهي صعاب المسائل وعن كثرة السؤال وانه كره المسائل وعابها وان كثيرا من السلف لم يكن يجيب الا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل
وهذا القول غير مخالف لما قبله لان من قال به قد منع من الرأي وان كان غير مذموم لان الاكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم وهو ترك النظر في السنن اقتصارا على الرأي واذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله فان من عادة الشرع انه اذا نهى عن شيء وشدد فيه منع ما حواليه وما دار به ورتع حول حماه
الا ترى إلى قوله عليه السلام الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة وكذلك جاء في الشرع اصل سد الذرائع وهو منع الجائز لانه يجر إلى غير الجائز
وبحسب عظم المفسدة في الممنوع يكون اتساع المنع في الذريعه وشدته
وما تقدم من الادله يبين لك عظم المفسدة في الابتداع فالحوم حول حماه يتسع جدا ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وان كان جاريا على الطريقة فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة وحكوا في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم
انه قال لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم ان تفعلوا تشتت بكم الطرق ها هنا وها هنا
وصح نهيه عليه السلام عن كثرة السؤال(168/68)
وقال ان الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن اشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا اشياء رحمة بكم لاعن نسيان فلا تبحثوا عنها واحال بها جماعة على الامراء فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ويسمونها صوافى الامراء وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهده وانه رأي ليس بعلم كما قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه اذ سئل في الكلالة اقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وان كان خطأ فمني ومن الشيطان ثم اجاب
وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسأله عن شيء فأملاه عليه ثم سأله عن رأيه فأجابه فكتب الرجل فقال رجل من حلفاء سعيد اتكتب يا ابا محمد رأيك فقال سعيد للرجل ناولنيها فناوله الصحيفة فخرقها
وسئل القاسم بن محمد عن شيء فاجاب فلما ولى الرجل دعاه فقال له لا تقل ان القاسم زعم ان هذا هو الحق ولكن ان اضطررت اليه عملت به
وقال مالك بن انس قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تم هذا الامر واستكمل فانما ينبغي ان نتبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نتبع الرأي فإنه متى اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ارى هذا لا يتم
ثم ثبت انه كان يقول برأيه ولكن كثيرا ما كان يقول بعد ان يجتهد رأيه في النازلة ان نظن الا ظنا وما نحن بمستيقنين ولاجل الخوف على من كان يتعمق فيه لم يزل يذمه ويذم من تعمق فيه فقد كان ينحى على اهل العراق لكثرة تصرفهم به في الاحكام فحكى عنه في ذلك اشياء من اخفها قوله الاستحسان تسعة اعشار العلم ولا يكاد المغرق في القياس الا يفارق السنة والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد
فهذه كلها تشديدات في الرأي وان كان جاريا على الاصول حذرا من الوقوع في الرأي غير الجاري على اصل
ولابن عبد البر هنا كلام كثير كرهنا الاتيان به(168/69)
والحاصل من جميع ما تقدم ان الرأي المذموم ما بنى على الجهل واتباع الهوى من غير ان يرجع اليه وما كان منه ذريعه اليه وان كان في اصله محمودا وذلك راجع إلى اصل شرعي فالاول داخل تحت حد البدعة وتتنزل عليه ادله الذم والثاني خارج عنه ولا يكون بدعة ابدا
فصل
الوجه السادس يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة وانواع الشؤم وهو كالشرح لما تقدم اولا وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في اثناء الأدلة فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال
فاعلموا ان البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات
ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه والماشي اليه وموقره معين على هدم الاسلام فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ويزداد من الله بعبادته بعدا وهي مظنة القاء العداوة والبغضاء ومانعة من الشفاعة المحمدية ورافعة للسنن التي تقابلها وعلى مبتدعها اثم من عمل بها وليس له من توبة وتلقى عليه الذله والغضب من الله ويبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويخاف عليه ان يكون معدودا في الكفار الخارجين عن الملة وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ويسود وجهه في الآخره يعذب بنار جهنم وقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتبرأ منه المسلمون ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخره
فإما ان البدعة لا يقبل معها عمل فقد روى عن الاوزاعي انه قال كان بعض اهل العلم يقول لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياما ولا صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا عمرة ولا صرفا ولا عدلا
وفيما كتب به اسد بن موسى واياك ان يكون لك من البدع اخ او جليس او صاحب فإنه جاء الاثر من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى إلى هدم الاسلام وجاء ما من اله يعبد من دون الله ابغض إلى الله من صاحب هوى ووقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/70)
على اهل البدع وان الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا وكلما ازدادوا اجتهادا صوما وصلاة ازدادوا من الله بعدا
فارفض مجالستهم واذلهم وابعدهم كما ابعدهم واذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأئمة الهدى بعده
وكان ايوب السختياني يقول ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا الا ازداد من الله بعدا
وقال هشام بن حسان لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاة ولا صياما ولا زكاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا
وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال من كان يزعم ان مع الله قاضيا او رازقا او يملك ضرا او نفعا او موتا او حياة أو نشورا لقى الله فادحض حجته واخرس لسانه وجعل صلاته وصيامه هباء منثورا وقطع به الاسباب وكبه في النار على وجهه
وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه او لم نذكره تتضمن عمدة صحتها كلها
فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة اصل صحيح لا مطعن فيه
اما اولا فانه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو في الصحيح كبدعة القدرية حيث قال فيها عبد الله بن عمر اذا لقيت أولئك فأخبرهم اني برئ منهم وأنهم برءاء مني فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لاحدهم مثل احد ذهبا فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في صحيح مسلم
ومثله حديث الخوارج وقوله فيه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية بعد قوله تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم واعمالكم مع اعمالهم الحديث
واذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة لكل مبتدع يخاف عليه مثل من ذكره
واما ثانيا فان كان المبتدع لا يقبل منه عمل اما ان يراد انه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنة او خلافها وأما ان يريد انه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون مالم يبتدع فيه
فاما الاول فيمكن على احد أوجه ثلاثه(168/71)
الاول ان يكون على ظاهره من ان كل مبتدع أي بدعه كانت فأعماله لا تقبل معها داخلتها تلك البدعة ام لا ويشير اليه حديث ابن عمر المذكور آنفا ويدل عليه حديث علي بن ابي طالب رضي الله عنه انه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفه معلقة فقال والله ما عندنا كتاب نقرؤه الا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها فاذا فيها اسنان الابل واذا فيها المدينة حرم من عير إلى كدا من احدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكه والناس اجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة
وهذا شديد جدا على اهل الاحداث في الدين
الثاني ان تكون بدعته اصلا يتفرع عليه سائر الاعمال كما اذا ذهب إلى انكار العمل بخبر الواحد بإطلاق فان عامة التكليف مبني عليه لان الامر انما يرد على المكلف من كتاب الله او من سنة رسوله
وما تفرع منهما راجع اليهما
فإن كان واردا من السنه فمعظم نقل السنه بالآحاد بل قد اعوز ان يوجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
متواترا وان كان واردا من الكتاب فإنما تبينه السنة فكل ما لم يبين في القرآن فلا بد لمطرح نقل الآحاد ان يستعمل رأيه وهو الابتداع بعينه فيكون فرع ينبني على ذلك بدعة لا يقبل منه شيء كما في الصحيح من قوله عليه السلام كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وكما اذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل فان الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى
ومن امثلة ذلك قول من يقول ان الاعمال انما تلزم من لم يبلغ درجة الاولياء المكاشفين بحقائق التوحيد فاما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه بناء منهم على اصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره
وامثلة ما ذهب اليه بعض المارقين من انكار العمل بالأخبار النبوية جاءت تواترا او آحادا انما يرجع إلى كتاب الله وفي الترمذي عن ابي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم(168/72)
انه قال لا الفين احدكم متكئا على اريكته يأتيه امري مما امرت به او نهيت عنه فيقول لا ادري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه حديث حسن
وفي رواية الا هل عسى رجل يبلغه عني الحديث وهو متكئ على اريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله قال فما وجدنا فيه حلالا حللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وان ما حرم رسول الله كما حرم الله حديث حسن
وانما جاء هذا الحديث على الذم واثبات ان سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
في التحليل والتحريم ككتاب الله فمن ترك ذلك فقد بنى اعماله على رأيه لا على كتاب ولا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن الامثله اذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الاسلام باتفاق او باختلاف اذ للعلماء في تكفير اهل البدع قولان
وفي الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج من الرمية بين الفرث والدم ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه الآية ونحو الظواهر المتقدمة الوجه الثالث ان صاحب البدعة في بعض الامور التعبدية او غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصير اعتقاده في الشريعة ضعيفا وذلك يبطل عليه جميع عمله
بيان ذلك امثله منها ان يترك العقل مع الشرع في التشريع وانما يأتي الشرع كاشفا لما اقتضاه العقل فياليت شعري هل حكم هؤلاء في التعبد لله شرعه او عقولهم بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكما متعبا وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه اصالة فكل ما عمل هذا العامل مبينا على ما اقتضاه عقله وان شرك الشرع فعلى حكم الشركة لا على افراد الشرع فلا يصح بناء على الدليل الدال على ابطال التحسين والتقبيح العقليين اذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع وكل بدعة ضلالة(168/73)
ومنها أن المستحسن للبدع يلزمه عادة ان يكون الشرع عنده لم يكمل بعد فلا يكون لقوله تعالى اليوم اكملت لكم دينكم معنى يعتبر به عندهم ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها وذلك ان هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات اكثرها ممن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق والى الاقتداء بهم يجري اغمار العوام والذي يلزم الجماعة وان كان اتقى خلق الله لا يعدونه الا من العامه
واما الخاصة فهم اهل تلك الزيادات ولذلك تجد كثيرا من المعتزين بهم والمائلين إلى جهتهم يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا ويعدونهم من المحجوبين عن انوارهم فكل من يعتقد هذا المعنى يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح وبين حدوده الفقهاء الراسخون في العلم اذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم وعند ذلك لا يبقى لعمل في ايديهم روح الاعتماد الحقيقي وهو باب عدم القبول في تلك الاعمال وان كانت بحسب ظاهر الامر مشروعه لان الاعتقاد فيها افسدها عليهم فحقيق ان لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولاعدل والعياذ بالله
واما الثاني وهو ان يراد بعدم القبول لاعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر ايضا وعليه يدل الحديث المتقدم كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد والجميع من قوله كل بدعة ضلالة أي ان صاحبها ليس على الصراط المستقيم وهو معنى عدم القبول وفاق قول الله ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام ولا على الصيام دون الزكاة ولا على الزكاة دون الحج ولا على الحج دون الجهاد إلى غير ذلك من الاعمال لان الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع وهو الهوى والجهل بشريعة الله كما سيأتي ان شاء الله
وفي المبسوطة عن يحي بن يحي انه ذكر الاعراف واهله فتوجع واسترجع ثم قال قوم ارادوا وجها من الخير فلم يصيبوه فقيل له يا ابا محمد افيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب قال ليس في خلاف السنه رجاء ثواب(168/74)
واما أن صاحب البدعه تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه فقد تقدم نقله ومعناه ظاهر جدا فإن الله تعالى بعث الينا محمدا صلى الله عليه وسلم
رحمة للعالمين حسما اخبر في كتابه وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الاعظم لا نهتدي سبيلا ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية الا قليلا على غير كمال ولا من مصالحنا الاخروية قليلا ولا كثيرا بل كان كل احد يركب هواه وان كان فيه ما فيه ويطرح هوى غيره فلا يلتفت اليه فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم
لزوال الريب والالتباس وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس كما قال الله تعالى كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين إلى قوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه وقوله وما كان الناس الا أمة واحدة فاختلفوا ولم يكن حاكما بينهم فيما اختلفوا فيه الا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم وتجتمع به كلمتهم وذلك راجع إلى الجهة التي من اجلها اختلفوا وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ويدرأ عنهم الفساد على الاطلاق فانحفظت الاديان والدماء والعقل والانساب والاموال من طرق يعرف مآخذها العلماء
وذلك القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم
قولا وعملا واقرارا ولم يردوا إلى تدبير انفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير انفسهم فاذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة والعطايا الجزيلة واخذ في استصلاح نفسه او دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلا فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمه وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه فهو حقيق بالبعد عن الرحمة قال الله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا بعد قوله اتقوا الله حق تقاته فاشعر ان الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقا وان ما سوى ذلك تفرقه لقوله ولا تفرقوا والفرقة من اخس اوصاف المبتدعة لانه خرج عن حكم الله وباين جماعة اهل الاسلام(168/75)
روى عبد الله بن حميد عن عبد الله ان حبل الله الجماعه
وعن قتاده حبل الله المتين هذا القرآن وسننه وعهده إلى عباده الذي امر ان يعتصم بما فيه من الخير والثقة ان يتمسكوا به ويعتصموا بحبله إلى آخر ما قال ومن ذلك قوله تعالى واعتصموا بالله هو مولاكم
واما ان الماشي اليه والموقر له معين على هدم الاسلام فقد تقدم من نقله
وروى ايضا مرفوعا من اتى صاحب بدعة ليوقره فقد اعان على هدم الاسلام
وعن هشام بن عروه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من وقر صاحب بدعه فقد اعان على هدم الاسلام ويجامعها في المعنى ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام من احدث حدثا او آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين الحديث
فإن الايواء يجامع التوقير ووجه ذلك ظاهر لان المشي اليه والتوقير له تعظيم له لاجل بدعته وقد علمنا ان الشرع يأمر بزجره واهانته واذلاله بما هو اشد من هذا كالضرب والقتل فصار توقيره صدودا عن العمل بشرع الاسلام واقبالا على ما يضاده وينافيه والاسلام لا ينهدم الا بترك العمل به والعمل بما ينافيه
وايضا فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الاسلام بالهدم احداهما التفات الجهال والعامه إلى ذلك التوقير فيعتقدون في المبتدع انه افضل الناس وان ما هو عليه خير مما عليه غيره فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع اهل السنة على سنتهم
والثانية انه اذا وقر من اجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على انشاء الابتداع في كل شيء
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن وهو هدم الاسلام بعينه
وعلى ذلك دل حديث معاذ فيوشك قائل ان يقول ما لهم لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره واياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة فهو يقتضي ان السنن تموت اذا احييت البدع واذا ماتت انهدم الاسلام(168/76)
وعلى ذلك دل النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار لأن الباطل اذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس لأن المحل الواحد لا يشتغل الا بأحد الضدين
وايضا فمن السنه الثابته ترك البدع فمن عمل ببدعة واحده فقد ترك تلك السنة
فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفه رضي الله عنه انه اخذ حجرين فوضع احدهما على الاخر ثم قال لاصحابه هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور قالوا يا ابا عبد الله ما نرى بينهما الا قليلا قال والذي نفسى بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق الا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى اذا ترك منها شيء قالوا تركت السنة وله أثر آخر قد تقدم
وعن ابي ادريس الخولاني انه كان يقول ما احدثت أمة في دينها بدعة الا رفع الله بها عنهم سنته
وعن حسان بن عطية قال ما احدث قوم بدعة في دينهم الا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها اليهم إلى يوم القيامة
وعن بعض السلف يرفعه لا يحدث رجل في الاسلام بدعة الا ترك من السنة ما هو خير منها
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال ما يأتي على الناس من عام الا احدثوا فيه بدعة واماتوا فيه سنه حتى تحيا البدع وتموت السنن
واما ان صاحبها ملعون على لسان الشريعة فلقوله عليه الصلاة والسلام من احدث حدثا او آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكه والناس اجمعين
وعد من الاحداث الاستنان بسنة سوء لم تكن
وهذه اللعنه قد اشترك فيها صاحب البدعه مع من كفر بعد ايمانه وقد شهد ان بعثة النبي صلى الله عليه وسلم
حق لا شك فيها وجاءه الهدى من الله والبيان الشافي وذلك قول الله تعالى كيف يهدي الله قوما كفروا بعد ايمانهم وشهدوا ان الرسول حق إلى قوله أولئك جزاؤهم ان عليهم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين إلى آخرها واشترك ايضا مع من كتم ما انزل الله وبينه في كتابه(168/77)
وذلك قوله تعالى ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلى آخرها
فتأملوا المعنى الذي اشترك المبدع فيه مع هاتين الفرقتين وذلك مضادة الشارع فيما شرع لان الله تعالى انزل الكتاب وشرع الشرائع وبين الطريق للسالكين علىغاية ما يمكن من البيان فضادها الكافر بأن جحدها جحدا وضادها كاتمها بنفس الكتمان لان الشارع يبين ويظهر وهذا يكتم ويخفي
وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بين واخفاء ما اظهر لان من شأنه ان يدخل الاشكال في الواضحات من اجل اتباع المتشابهات لان الواضحات تهدم له ما بنى عليه في المتشابهات فهو آخذ في ادخال الاشكال على الواضح حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس اجمعين
قال ابو مصعب صاحب مالك قدم علينا ابن مهدي يعني المدينه فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الامام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا وكان قد صلى خلف الامام فلما سلم قال من ها هنا من الحرس فجاءه نفسان فقال خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه فحبس فقيل له انه ابن مهدي فوجه اليه وقال له اما خفت الله واتقيته ان وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر اليه واحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
من احدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين
فبكي ابن مهدي وآلى على نفسه ان لا يفعل ذلك ابدا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
ولا في غيره وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك احدث ما لم يكن خوفا من تلك اللعنه
فما ظنك بما سوى وضع الثوب وتقدم حديث الطحاوي ستة العنهم لعنهم الله فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلاة والسلام اخذا بالبدعه
واما انه يزاد من الله بعدا
فلما روى عن الحسن انه قال صاحب البدعه ما يزداد من الله اجتهادا صياما وصلاة الا ازداد من الله بعدا(168/78)
وعن ايوب السختياني قال ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا الا ازداد من الله بعدا
ويصحح هذا النقل ما اشار اليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم إلى ان قال يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فبين أولا اجتهادهم ثم بين آخرا بعدهم من الله تعالى
وهو بين ايضا من جهة انه لا يقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم فكل عمل يعمله على البدعة فكما لو لم يعمله ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه والفساد الداخل على الناس به في اصل الشريعة وفي فروع الاعمال والاعتقادات وهو يظن مع ذلك ان بدعته تقربه من الله وتوصله إلى الجنة
وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه لا يقربه إلى الله الا العمل بما شرع وعلى الوجه الذي شرع وهو تاركه وان البدع تحبط الاعمال وهو ينتحلها
واما ان البدع مظنة القاء العداوه بين اهل الاسلام
فلأنها تقتضي التفرق شيعا
وقد اشار إلى ذلك القرآن الكريم حسبما تقدم في قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقوله ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وقوله ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وقوله ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وما اشبه ذلك من الايات في هذا المعنى
وقد بين عليه الصلاة والسلام ان فساد ذات البين هي الحالقة وانها تحلق الدين هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوه عند وقوع الابتداع(168/79)
واول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج اذ عادوا اهل الاسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار كما اخبر عنه الصحيح ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا اهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل ايضا حسبما بينه جميع اهل الاخبار ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم ان يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون انهم الاراجس الانجاس المكبين على الدنيا ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبين عليها كما يروى عن عمرو بن عبيد انه قال لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما اجزت شهادتهم
وعن معاذ بن معاذ قال قلت لعمرو بن عبيد كيف حدث الحسن عن عثمان انه ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء عدتها فقال ان فعل عثمان لم يكن سنه
وقيل له كيف حدث الحسن عن سمرة في السكتتين فقال ما تصنع بسمرة قبح الله سمرة اه بل قبح الله عمرو بن عبيد وسئل يوما عن شئ فاجاب فيه
قال الراوي قلت ليس هكذا يقول اصحابنا قال ومن اصحابك لا ابالك قلت ايوب ويونس وابن عون والتيمي قال أولئك انجاس ارجاس اموات غير احياء
فهكذا اهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق ويأبى الله الا ان يتم نوره
واصل هذا الفساد من قبل الخوارج فهم اول من لعن السلف الصالح
وتكفير الصحابة رضي الله عن الصحابة ومثل هذا كله يورث العداوة والبغضاء
وايضا فإن فرقة النجاة وهم اهل السنة مأمورون بعداوة اهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم بالقتل فما دونه وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم وذلك مظنة القاء العداوة والبغضاء
لكن الدرك فيها على من تسبب في الخروج عن الجماعة بما احدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقا
كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعه وأما انها مانعة من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم(168/80)
فلما روى انه عليه السلام قال حلت شفاعتي لأمتي الا صاحب بدعه ويشير إلى صحة المعنى فيه ما في الصحيح قال اول من يكسى يوم القيامة ابراهيم وانه سيوتى برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى قوله فيقال لم يزالوا مرتدين على اعقابهم الحديث وقد تقدم ففيه انه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وانما قال فاقول لهم سحقا كما قال العبد الصالح ويظهر من اول الحديث ان ذلك الارتداد لم يكن ارتداد كفر لقوله وانه سيوتى برجال من أمتي ولو كانوا مرتدين عن الاسلام لما نسبوا إلى امته ولانه عليه السلام اتى بالايه وفيها وإن تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم ولو علم النبي صلى الله عليه وسلم
انهم خارجون عن الاسلام جمله لما ذكرها لان من مات على الكفر لا غفران له البتة وانما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الاسلام لقول الله تعالى إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء
ومثل هذا الحديث حديث الموطا لقوله فيه فأقول فسحقا فسحقا
واما انها رافعه للسنن التي تقابلها فقد تقدم الاستشهاد عليه في ان الموقر لصاحبها معين على هدم الاسلام
واما ان على مبتدعها اثم من عمل بها إلى يوم القيامه فلقوله تعالى ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامه ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الحديث
والى ذلك اشار الحديث الاخر ما من نفس تقتل ظلما الا كان على ابن آدم الاول كفل منها لانه اول من سن القتل
وهذا التعليل يشعر بمقتضى الحديث قبله اذ علل تعليق الاثم على ابن آدم لكونه اول من سن القتل فدل على ان من سن ما لا يرضاه الله ورسوله فهو مثله اذ لم يتعلق الاثم بمن سن القتل لكونه قتلا دون غيره بل لكونه سن سنة سوء وجعلها طريقا مسلوكة(168/81)
ومثل هذا ما جاء في معناه مما تقدم او يأتي كقوله ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام منم عمل بها لا ينقص ذلك من اوزار الناس شيئا وغير ذلك من الاحاديث
فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الاحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره يثق بعقله في التشريع ويتهم ربه فيما شرع ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان سيئاته مما ليس في حسابه ولا شعر انه من عمله فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده الا كتب عليه اثم ذلك العامل زيادة إلى اثم ابتدعه اولا ثم عمله ثانيا
واذا ثبت ان كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان الا مضيا حسبما تقدم واشتهارا وانتشارا فعلى وزان ذلك يكون اثم المبتدع لها كما ان من سن سنة حسنة كان له اجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة وايضا فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها كان على المبتدع اثم ذلك ايضا فهو اثم زائد على اثم الابتداع وذلك الاثم يتضاعف تضاعف اثم البدعة بالعمل بها لانها كلما تجددت في قول او عمل تجددت اماتة السنة كذلك
واعتبروا ذلك ببدعة الخوارج فان النبي صلى الله عليه وسلم
عرفنا بانهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية الحديث إلى آخره
ففيه بيان انهم لم يبق لهم من الدين الا ما اذا نظر فيه الناظر شك فيه وتمارى هل هو موجود فيهم ام لا وانما سببه الابتداع في دين الله وهو الذي دل عليه قوله يقتلون اهل الاسلام ويدعون اهل الاوثان وقوله يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم فهذه بدع ثلاث اعاذة بالله من ذلك بفضله واما ان صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة والسلام ان الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة
وعن يحي بن أبي عمرو الشيباني قال كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة الا إلى اشر منها
ونحوه عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه الا إلى ما هو شر منه(168/82)
خرج هذه الاثار ابن وضاح
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز انه كان يقول اثنان لا نعاتبهما صاحب طمع وصاحب هوى فإنهما لا ينزعان
وعن ابن شوذب قال سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول ما كان عبد على هوى تركه الا إلى ما هو شر منه
قال فذكرت ذلك لبعض اصحابنا فقال تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون اليه حتى يرجع السهم على فوقه
وعن ايوب قال كان رجل يرى رأيا فرجع عنه فأتيت محمدا فرحا بذلك اخبره فقلت اشعرت ان فلانا ترك رأيه الذي كان يرى فقال انظر إلى م يتحول ان آخر الحديث اشد عليهم من الاول اوله يمرقون من الدين وآخره ثم لا يعودون وهو حديث أبي ذر ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال سيكون من أمتي قوم يقرءون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كم يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقه
فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعى هذه الاثار
وحاصلها انه توبة لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها كما في حديث ايوب او يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر عليها بعد كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز ويدل على ذلك ايضا حديث الفرق اذ قال فيه وانه سيخرج في أمتي اقوام تجاري بهم تلك الاهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل الا دخله وهذا النفي يقتضي العموم باطلاق ولكنه قد يحمل على العموم العادي اذ لا يبعد ان يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم ولكن الغالب في الواقع الاصرار
ومن هنالك قلنا يبعد ان يتوب بعضهم لان الحديث يقتضي العموم بظاهره وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا ان شاء الله(168/83)
وسبب بعده عن التوبة ان الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لانه امر مخالف للهوى وصاد عن سبيل الشهوات فيثقل عليها جدا لان الحق ثقيل والنفس انما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه وكل بدعة فللهوى فيها مدخل لانها راجعه إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع فعلى حكم التبع لا بحكم الاصل مع ضميمة أخرى وهي ان المبتدع لا بد له من تعلق بشبهه دليل ينسبها إلى الشارع ويدعى ان ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعى الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به وهو الدليل الشرعي في الجملة
ومن الدليل على ذلك ما روى عن الاوزاعي قال بلغني ان من ابتدع بدعة ضلالة الشيطان والعباده او القى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به
وقال بعض الصحابة اشد الناس عبادة مفتون
واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام يحقر احدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه إلى آخر الحديث
ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الاخبار عن الخوارج وغيرهم
فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من اصناف الشهوات بل التعظيم على شهوات الدنيا الا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات ومقاساتهم في اصناف العبادات والكف عن الشهوات وهم مع ذلك خالدون في جهنم
قال الله وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبه تصلى نارا حامية وقال هل ننبئكم بالأخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا
وما ذاك الا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ونشاط يداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى فاذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقا للدليل عنده فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه وهو يرى ان اعماله افضل من اعمال غيره واعتقاداته اوفق واعلى أفيفيد البرهان مطلبا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء(168/84)
واما ان المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى
فلقوله تعالى ان الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين حسبما جاء في تفسير الايه عن بعض السلف وقد تقدم
ووجهه ظاهر لان المتخذين للعجل انما ضلوا به حتى عبدوه لما سمعوا من خواره ولما القى اليهم السامري فيه فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في ايديهم
قال الله تعالى وكذلك نجزي المفترين فهو عموم فيهم وفيمن اشبههم من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما اخبر في كتابه في قوله تعالى قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله الايه
فإذا كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته وان ظهر لبادي الرأي في عزه وجبريته فهم في انفسهم اذلاء وايضا فإن الذلة الحاضرة بين ايدينا موجودة في غالب الاحوال
الا ترى احوال المبتدعه في زمان التابعين وفيما بعد ذلك حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور وعمل بأعمالها على التقية
وقد اخبر الله ان هؤلاء الذين اتخذوا العجل ان سينالهم ما وعدهم فأنجز الله وعده فقال وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله
وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا في أي مكان وزمان كانوا لا يزالون اذلاء
مقهورين ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ومن جملة الاعتداء اتخاذهم العجل هذا بالنسبة إلى الذله وأما الغضب فمضمون بصادق الاخبار فيخاف ان يكون المبتدع داخلا في حكم الغضب والله الواقي بفضله
واما البعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلحديث الموطا فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال الحديث
وفي البخاري عن اسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال انا على حوضي انتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني فأقول أمتي فيقال انك لا تدري مشوا القهقرى وفي حديث عبد الله(168/85)
أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلى رجال منكم حتى اذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني فأقول أي رب اصحابي يقول لا تدري ما احدثوك بعدك
والاظهر انهم من الداخلين في غمار هذه الامه لأجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغره والتحجيل لان ذلك لا يكون لاهل الكفر المحض كان كفرهم اصلا او ارتدادا ولقوله قد بدلوا بعدك ولو كان الكفر لقال قد كفروا بعدك
واقرب ما يحمل عليه تبديل السنة وهو واقع على اهل البدعة ومن قال انه النفاق فذلك غير خارج عن مقصودنا لان اهل النفاق انما اخذوا الشريعة تقية لا تعبدا فوضعوها غير مواضعها وهو عين الابتداع ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنة والعمل بها حيلة وذريعة إلى نيل حطام الدنيا لا على التعبد بها لله تعالى لانه تبديل لها واخراج لها عن وضعها الشرعي
واما الخوف عليه من ان يكون كافرا
فلأن العلماء من السلف الاول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم ودل على ذلك ظاهر قوله تعالى ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ وقوله يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم لان مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت والناسوت والعلماء اذا اختلفوا في امر هل هو كفر ام لا فكل عاقل يربأ بنفسه ان ينسب إلى خطة خسف كهذه بحيث يقال له ان العلماء اختلفوا هل انت كافر ام ضال غير كافر او يقال ان جماعة من اهل العلم قالوا بكفرك وانت حلال الدم
واما انه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله
فلأن صاحبها مرتكب اثما وعاص لله تعالى حتما ولا نقول الان هو عاص بالكبائر أو بالصغائر بل نقول هو مصر على ما نهى الله عنه والاصرار يعظم الصغيرة ان كانت صغيرة حتى تصير كبيرة وان كانت كبيرة فأعظم(168/86)
ومن مات مصرا على المعصية فيخاف عليه فربما اذا كشف الغطاء وعاين علامات الاخره استفزه الشيطان وغلبه على قلبه حتى يموت على التغيير والتبديل وخصوصا حين كان مطيعا له فيما تقدم من زمانه مع حب الدنيا المستولي عليه
قال عبد الحق الاشبيلي
إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله وانما يكون لمن كان له فساد في العقل او اصرار على الكبائر واقدام على العظائم او لمن كان مستقيما ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه واخذ في طريق غير طريقه فيكون عمله ذلك سببا لسوء خاتمته وسوء عاقبته والعياذ بالله
قال الله تعالى ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم
وقد سمعت بقصه بلعام بن باعوراء حيث آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان إلى آخر الايات
فهذا ظاهر اذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية فاذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك اعظم لأن المبتدع مع كونه مصرا على ما نهى عند يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله غير مسلم لها في تحصيل امره معتقدا في المعصية انها طاعة حيث حسن ما قبحه الشارع وفي الطاعة انها لا تكون طاعة الا بضميمه نظره فهو قد قبح ما حسنه الشارع ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة الا ما شاء الله
وقد قال تعالى في جملة من ذم أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له وسوء الخاتمة من مكر الله اذ يأتي الانسان من حيث لا يشعر به
اللهم انا نسألك العفو والعافية
واما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وفيها ايضا الوعيد بالعذاب لقوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وقوله قبل ذلك وألئك لهم عذاب عظيم
حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال لو ان العبد ارتكب(168/87)
الكبائر كلها دون الاشراك بالله شيئا ثم نجا من هذه الاهواء لرجوت ان يكون في اعلى جنات الفردوس لان كل كبيرة بين العبد وربه هو منها على رجاء وكل هوى ليس هو منه على رجاء انما يهوى بصاحبه في نار جهنم
واما البراءه منه ففي قوله ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وفي الحديث انا برئ منهم وهم براء مني
وقال ابن عمر رضي الله عنه في اهل القدر اذا لقيت أولئك فأخبرهم اني برئ منهم وانهم براء مني
وجاء عن الحسن لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك
وعن سفيان الثوري من جالس صاحب بدعة لم يسلم من احدى ثلاث اما أن يكون فتنة لغيره واما ان يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار واما ان يقول والله لا ابالي ما تكلموا به واني واثق بنفسي فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه اياه
وعن يحي بن ابي كثير قال اذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر
وعن ابي قلابه قال لا تجالسوا اهل الاهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن ان يغمروكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون
وعن ابراهيم قال لا تجالسوا اصحاب الاهواء ولا تكلموهم فاذا اخاف ان ترتد قلوبكم
والآثار في ذلك كثيره ويعضدها ما روى عنه عليه السلام انه قال المرء على دين خليله فلينظر احدكم من يخالل ووجه ذلك ظاهر منبه عليهفي كلام ابي قلابه اذ قد يكون المرء على يقين من أمر من أمور السنه فيلقى له صاحب الهوى فيه هوى مما يحتمله اللفظ لا اصل له او يزيد له فيه قيدا من رأيه فيقبله قلبه فاذا رجع إلى ما كان يعرفه وجده مظلما فاما ان يشعر به فيرده بالعلم او لا يقدر على رده
وأما أن لا يشعر به فيمضي مع من هلك
قال ابن وهب وسمعت مالكا اذا جاءه بعض اهل الاهواء يقول اما انا فعلى بينة من ربي واما انت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ثم قرأ قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة الايه
فهذا شأن من تقدم من عدم تمكين زائغ القلب ان يسمع كلامه(168/88)
ومثل رده بالعلم جوابه لمن سأله في قوله على العرش استوى كيف استوى فقال له الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة
واراك صاحب بدعه ثم امر بإخراج السائل
ومثل مالا يقدر على رده ما حكى الباجي قال قال مالك كان يقال لا تمكن زائغ القلب من اذنك فانك لا تدري ما يعلقك من ذلك
ولقد سمع رجل من الانصار من اهل المدينة شيئا من بعض اهل القدر فعلق قلبه فكان يأتي إخوانه الذين يستنصحهم فاذا نهوه قال فكيف بما علق قلبي لو علمت ان الله يرضى ان القى نفسي من فوق هذه المناره فقلت
ثم حكى ايضا عن مالك انه قال لا تجالس القدرى ولا تكلمه إلا أن تجلس إليه فتغلظ عليه لقوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله فلا توادوهم
واما انه يخشى عليه الفتنة
فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة انه قال سألت مالكا عمن احرم من المدينة وراء الميقات فقال هذا مخالف لله ورسوله اخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الاخره
اما سمعت قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم
وقد امر النبي صلى الله عليه وسلم
ان يهل من المواقيت
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال سمعت مالك بن انس وأتاه رجل فقال يا ابا عبد الله من اين أحرم قال من ذي الحليفه حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال إني أريد ان احرم من المسجد فقال لا تفعل
قال فإني أريد ان احرم من المسجد من عند القبر
قال لا تفعل فإني اخشى عليك الفتنه
فقال واي فتنه هذه انما هي اميال ازيدها قال واي فتنو اعظم من ان ترى انك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
اني سمعت الله يقول فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم(168/89)
وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآيه هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنياتهم فإنهم يرون ان ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه صلى الله عليه وسلم
دون ما اهتدوا اليه بعقولهم
وفي مثل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما روى عن ابن وضاح لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم وإنكم لتمسكون بذنب ضلاله اذ مر بقوم كان رجل يجمعهم يقول رحم الله من قال كذا وكذا مره سبحان الله فيقول القوم
ويقول رحم الله من قال كذا وكذا مره الحمد لله فيقول القوم
ثم ان ما استدل به مالك من الآيات الكريمة نزلت في شأن المنافقين حين امر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بحفر الخندق وهم الذين كانوا يتسللون لواذا
وقد تقدم ان النفاق من اصله بدعة لانه وضع بدعة في الشريعة على غير ما وضعها الله تعالى ولذلك لما اخبر تعالى عن المنافقين قال أولئك الذين اشتروا الضلاله بالهدى
فمن حيث كانت عامة في المخالفين عن أمره يدخلون ايضا من باب أحرى
فهذه جملة يستدل بها على ما بقي اذ ما تقدم من الآيات والاحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير وبسط معانيها طويل فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق
فصل
وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع شرح معنى عام يتعلق بما تقدم
وهو ان البدع ضلالة وان المبتدع ضال ومضل والضلالة مذكورة في كثير من النقل المذكور ويشير اليها في الآيات الاختلاف والتفرق شيعا وتفرق الطرق بخلاف سائر المعاصي فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة الا ان تكون بدعة او شبه البدعه
وكذلك الخطأ الواقع في المشروعات وهو المعفو لا يسمى ضلالا ولا يطلق على المخطئ اسم ضال كما لا يطلق على المتعمد لسائر المعاصي
وانما ذلك والله اعلم لحكمة قصد التنبيه عليها وذلك ان الضلال والضلاله ضد الهدى والهدى والعرب تطلق الهدى حقيقة فى الظاهر المحسوس فتقول هديته الطريق وهديته إلى الطريق(168/90)
ومنه نقل إلى طريق الخير والشر قال تعالى انا هديناه السبيل وهديناه النجدين اهدنا الصراط المستقيم والصراط والطريق والسبيل بمعنى واحد فهو حقيقة في الطريق المحسوس ومجاز في الطريق المعنوي وضده الضلال وهو الخروج عن الطريق ومنه البعير الضال والشاة الضالة
ورجل ضل عن الطريق اذا خرج عنه لانه التبس عليه الامر ولم يكن له هاد يهديه وهو الدليل
فصاحب البدعة لما غلب عليه الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم ان ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم فهو ضال من حيث ظن انه راكب للجادة كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه يوشك ان يضل عنها فيقع في متابعة وان كان بزعمه يتحرى قصدها
فالمبتدع من هذه الامه انما ضل في ادلتها حيث اخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت احكام الله
وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره لأن المبتدع جعل الهوى اول مطالبه واخذ الادلة بالتبع ومن شأن الادلة انها جارية على كلام العرب ومن شأن كلامها الاحتزار فيه بالظواهر فكما تجب فيه نصا لا يحتمل حسبما قرره من تقدم في غير هذا العلم وكل ظاهر يمكن فيه ان يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود ويتأول على غير ما قصد فيه
فاذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها كان الامر اشد واقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع
فكان المدرك اعرق في الخروج عن السنة وامكن في ضلال البدعة فاذا غلب الهوى امكن انقياد الفاظ الادلة إلى ما اراد منها
والدليل على ذلك انك لا تجد مبتدعا ممن ينسب إلى الملة الا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمه الازليه التي لا مرد لها(168/91)
قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وقال كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء لكن انما ينساق لهم من الادلة المتشابه منها لا الواضح والقليل منها كالكثير وهو ادل الدليل على اتباع الهوى فإن المعظم والجمهور من الادلة اذا دل على امر بظاهره فهو الحق فان جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل فكان من حق الظاهر رد القليل إلى الكثير والمتشابه إلى الواضح غير ان الهوى زاغ بمن اراد الله زيغه فهو في تيه من حيث يظن انه على الطريق بخلاف غير المبتدع فإنه انما جعل الهداية إلى الحق اول مطالبه وأخر هواه ان كان فجعله بالتبع فوجد جمهور الادلة ومعظم الكتاب واضحا في الطلب الذي بحث عنه فوجد الجاده وما شذ له عن ذلك فاما ان يرده اليه واما ان يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله
وفيصل القضية بينهما قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إلى قوله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا فلا يصح ان يسمى من هذه حاله مبتدعا ولا ضالا وان حصل في الخلاف او خفى عليه
اما انه غير مبتدع فلأنه اتبع الادلة ملقيا إليها حكمة الانقياد باسطا يد الافتقار مؤخرا هواه ومقدما لأمر الله
واما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك واليها لجأ فإن خرج عنها يوما فأخطأ فلا حرج عليه بل يكون مأجورا حسبما بينه الحديث الصحيح
اذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله اجر وان اصاب فله أجران وان خرج متعمدا فليس على ان يجعل خروجه طريقا مسلوكا له او لغيره وشرعا يدان به
على انه اذا وقع الذنب موقع الاقتداء قد يسمى استنانا فيعامل معاملة من سنه كما جاء في الحديث(168/92)
من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الحديث وقوله عليه السلام ما من نفس تقتل ظلما الا كان على ابن آدم الاول كفل منها لأنه اول من سن القتل فسمى التقل سنة بالنسبة إلى من عمل به عملا يقتدى به فيه لكنه لا يسمى بدعة لأنه لم يوضع على ان يكون تشريعا ولا يسمى ضلالا لأنه ليس في طريق المشروع او في مضاهاته له
وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع في تسمية البدع ضلالات ويشهد له ايضا احوال من تقدم قبل الاسلام وفي زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم
فان الله تعالى قال واذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا انطعم من لو يشاء الله اطعمه فإن الكفار لما أمروا بالانفاق شحوا على اموالهم وارادوا ان يجعلوا لذلك الشح مخرجا فقالوا انطعم من لو يشاء الله اطعمه ومعلوم ان الله لو شاء لم يحوج احدا إلى احد لكنه ابتلى عباده لينظر كيف يعملون فقص هواهم على هذا الاصل العظيم واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة اليه فلذلك قيل لهم ان انتم الا في ضلال مبين
وقال تعالى الم تر إلى الذين يزعمون انهم آمنوا بما انزل اليك وما انزل من قبلك يريدون ان يتحاكموا إلى الطاغوت فكأن هؤلاء قد أقروا بالتحكيم غير انهم ارادوا ان يكون التحكيم على وفق اغراضهم زيغا عن الحق وظنا منهم ان الجميع حكم وان ما يحكم به كعب بن الأشرف او غيره مثل ما يحكم به النبي صلى الله عليه وسلم
وجهلوا ان حكم النبي صلى الله عليه وسلم
هو حكم الله الذي لا يرد وان حكم غيره معه مردود ان لم يكن جاريا عل حكم الله فلذلك قال تعالى ويريد الشيطان ان يضلهم ضلالا بعيدا لان ظاهر الآيه يدل على انها نزلت فيمن دخل في الاسلام لقوله الم تر إلى الذين يزعمون كذا إلى اخره
وجماعة من المفسرين قالوا انما نزلت في رجل من المنافقين او في رجل من الأنصار(168/93)
وقال سبحانه ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فهم شرعوا شرعة وابتدعوا في ملة ابراهيم عليه السلام هذه البدعة توهما ان ذلك يقربهم من الله كما يقرب من الله ما جاء به ابراهيم عليه السلام من الحق فزلوا وافتروا على الله الكذب اذ زعموا ان هذا من ذلك وتاهوا في المشروع فلذلك قال الله تعالى على اثر الايه يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم وقال سبحانه قد خسر الذين قتلوا اولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله فهذه فذلكة لجملة بعد تفصيل تقدم وهو قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الايه
فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا ثم قال وكذلك زين لكثير من المشركين قتل اولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم الايه وهو تشريع ايضا بالرأي مثل الاول ثم قال وقالوا هذه انعام وحرث حجر لا يطعمها الا من نشاء بزعمهم إلى آخرها فحاصل الامر انهم قتلوا اولادهم بغير علم وحرموا ما اعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع فلذلك قال تعالى قد ضلوا وما كانوا مهتدين ثم قال تعالى بعد تعزيرهم على هذه المحرمات التي حرموها وهي ما في قوله قل آلذكرين حرم ام الانثيين اما اشتملت عليه ارحام الانثيين فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ان الله لا يهدي القوم الظالمين لا يهدي يعني انه يضله والآيات التي قرر فيها حال المشركين في اشراكهم اتى فيها بذكر الضلال لان حقيقته انه خروج عن الصراط المستقيم لانهم وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم فقالوا ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى فوضعوهم موضع من يتوسل به حتى عبدوهم من دون الله اذ كان اول وضعها فيما ذكر العلماء صورا لقوم يودونهم ويتبركون بهم ثم عبدت فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد وهو الضلال المبين(168/94)
وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد فزعموا في الاله الحق ما زعموا من الباطل بناء على دليل عندهم متشابه في نفس الامر حسبما ذكره اهل السير فتاهوا بالشبهة عن الحق لتركهم الواضحات وميلهم إلى المتشابهات كما اخبر الله تعالى في آية آل عمران فلذلك قال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وهم النصارى ضلوا في عيسى عليه السلام ومن ثم قال تعالى بعد ذكر شواهد العبوديه في عيسى ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون وبعد ذكر دلائل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعالى عن اتخاذ الولد وذكر اختلافهم في مقالاتهم الشنيعه قال لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين
وذكر الله المنافقين وانهم يخادعون الله والذين آمنوا وذلك لكونهم يدخلون معهم في احوال التكاليف على كسل وتقية ان ذلك يخلصهم او انه يغني عنهم شيئا وهم في الحقيقه إنما يخادعون انفسهم وهذا هو الضلال بعينه لأنه اذا كان يفعل شيئا يظن انه له فاذا هو عليه فليس على هدى من عمله ولا هو سالك على سبيله فلذلك قال ان المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم إلى قوله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
وقال تعالى حكاية عن الرجل الذي جاء من اقصى المدينة يسعى أأتخذ من دونه آلهه ان يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون معناه كيف اعبد من دون الله مالا يغني شيئا واترك افراد الرب الذي بيده الضر والنفع هذا خروج عن طريق إلى غير طريق اني اذا لفي ضلال مبين
والأمثله في تقرر هذا الأصل كثيرة جميعها يشهد بأن الضلال في غالب الامر انما يستعمل في موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له او تقليد من عرضت له الشبهة فيتخذ ذلك الزلل شرعا ودينا يدين به مع وجود واضحة الطريق الحق ومحض الصواب(168/95)
ولما لم يكن الكفر في والواقع مقتصرا على هذا الطريق بل ثم طريق آخر هو الكفر بعد العرفان عنادا او ظلما ذكر الله تعالى الصنفين في السورة الجامعة وهي ام القرآن فقال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم فهذه هي الحجه العظمى التي دعا الانبياء عليهم السلام اليها ثم قال غير المعضوب عليهم ولا الضالين فالمغضوب عليهم هم اليهود لأنهم كفروا بعد معرفتهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ألا ترى إلى قول الله فيهم الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابنائهم يعني اليهود والضالون هم النصارى لانهم ضلوا في الحجة في عيسى عليه السلام وعلى هذا التفسرين اكثر المفسر وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
ويلحق بهم في الضلال المشركون الذين اشركوا مع الله الها غيره لانه قد جاء في اثناء القرآن ما يدل على ذلك ولان لفظ القرآن في قوله ولا الضالين يعمهم وغيرهم فكل من ضل عن سواء السبيل داخل فيه
ولا يبعد ان يقال ان الضالين يدخل فيه كل من ضل عن الصراط المستقيم كان من هذه الامه اولا اذ قد تقدم في الآيات المذكورة قبل هذا مثله فقوله تعالى ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله عام في كل ضال كان ضلاله كضلال الشرك او النفاق او كضلال الفرق المعدودة في الملة الإسلامية وهو ابلغ واعلى في قصد حصر اهل الضلال وهو اللائق بكلية فاتحة الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم
وقد خرجنا عن المقصود بعض خروج ولكنه عاضد لما نحن فيه وبالله التوفيق
الباب الثالث
في ان ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها ويدخل تحت هذه الترجمة جمله من شبه المبتدعة التي احتجوا بها(168/96)
فاعلموا رحمكم الله ان ما تقدم من الادلة حجة في عموم الذم من اوجه احدها انها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البته ولم يأت فيها مما يقتضي ان منها ما هو هدى ولا جاء فيها كل بدعة ضلالة الا كذا وكذا ولا شيء من هذه المعاني فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان او انها لاحقة بالمشروعات لذكر ذلك في آية او حديث لكنه لا يوجد فدل على ان تلك الادلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الافراد
والثاني انه قد ثبت في الاصول العلمية ان كل قاعدة كلية او دليل شرعي كلي اذا تكررت في مواضع كثيرة واتى بها شواهد على معان أصولية او فروعية ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكررها واعادة تقررها فذلك دليل على بقائها عل مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وان ليس للانسان الا ما سعى وما اشبه ذلك وبسط الاستدلال على ذلك هنالك فما نحن بصدده من هذا القبيل اذ جاء في الاحاديث المتعددة
والمتكررة في اوقات شتى وبحسب الاحوال المختلفة ان كل بدعة ضلالة وان كل محدثة بدعه
وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على ان البدع مذمومة
ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها
فدل ذلك دلالة واضحة على انها على عمومها واطلاقها
والثالث اجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية فهو بحسب الاستقراء اجماع ثابت فدل على ان كل بدعة ليست بحق بل هي من الباطل
والرابع ان متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه لانه من باب مضادة الشارع واطراح الشرع وكل ما كان بهذه المثابة فمحال ان ينقسم إلى حسن وقبيح وان يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم اذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع
وقد تقدم بسط هذا في اول الباب الثاني(168/97)
وايضا فلو فرض انه جاء في النقل استحسان بعض البدع او استثناء بعضها عن الذم لم يتصور لان البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير ان تكون كذلك
وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها اذ لو قال الشارع المحدثة الفلانيه حسنة لصارت مشروعة كما اشاروا اليه في الاستحسان حسبما يأتي ان شاء الله
ولما ثبت ذمها ثبت ذم صاحبها لانها ليست بمذمومه من حيث تصورها فقط بل من حيث اتصف بها المتصف فهو إذا المذموم على الحقيقه والذم خاصة التأثيم فالمبتدع مذموم آثم وذلك على الاطلاق والعموم
ويدل على ذلك اربعة اوجه احدها ان الادلة المذكورة ان جاءت فيهم نصا فظاهر كقوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقوله ولا تكونوا
كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى آخر الايه وقوله عليه السلام فليذادن رجال عن حوضي الحديث إلى سائر ما نص فيه عليهم
وان كانت نصا في البدعه فراجعة المعنى إلى المبتدع من غير اشكال واذا رجع الجميع إلى ذمهم رجع الجميع إلى تأثيمهم
والثاني ان الشرع قد دل على ان الهوى هو المتبع الأول في البدع وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم
ولذلك تجدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم ويتبعون كل شبهة وافقت اغراضهم
ألا ترى إلى قوله تعالى فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنه وابتغاء تأويله فأثبت لهم الزيغ أولا وهو الميل عن الصواب ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى الذي هو ام الكتاب ومعظمه
ومتشابهه على هذا قليل فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الاقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوما واضحا ابتغاء تأويله وطلبا لمعناه الذي لا يعلمه الا الله او يعلمه الله والراسخون في العلم وليس الا برده إلى المحكم ولم يفعل المبتدعة ذلك
فانظروا كيف اتبعوا اهواءهم اولا في مطالبة الشرع بشهادة الله(168/98)
وقال الله تعالى ان الذين فرقوا دينهم الآية فنسب اليهم التفريق ولو كان التفريق من مقتضى الدليل لم ينسبه اليهم ولا أتى به في معرض الذم وليس ذلك الا باتباع الهوى
وقال تعالى ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فجعل طريق الحق واضحا مستقيما ونهى عن البنيات والواضح من الطرق والبنيات كل ذلك معلوم بالعوائد الجارية فإذا وقع التشبيه بها بطريق الحق مع البنيات في الشرع فواضح ايضا فمن ترك الواضح واتبع غيره فهو متبع لهواه لا للشرع وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات فهذا دليل على مجئ البيان الشافي وان التفرق انما حصل من جهة المتفرقين لا من جهة الدليل فهو إذا من تلقاء انفسهم وهو اتباع الهوى بعينه
والأدله على هذا كثيرة تشير او تصرح بأن كل مبتدع انما يتبع هواه واذا اتبع هواه كان مذموما وآثما
والأدلة عليه ايضا كثيرة كقوله ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وقوله ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد وقوله ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وما اشبه ذلك فإذا كل مبتدع مذموم آثم
والثالث ان عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح فهو عمدتهم الاولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل وقد يتهمون الأدلة إذ لم توافقهم في الظاهر حتى يردوا كثيرا من الادلة الشرعية
وقد علمت ايها الناظر انه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقا ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهبا ويرجعون عنه غدا ثم يصيرون بعد غد إلى رأي ثالث
ولو كان كل ما يقضي به حقا لكفى في اصلاح معاش الخلق ومعادهم
ولم يكن لبعثة الرسل عليهم السلام فائدة ولكان على هذا الاصل تعد الرسالة عبثا لا معنى له وهو كله باطل فما أدى اليه مثله(168/99)
فأنت ترى انهم قدموا اهواءهم على الشرع ولذلك سموا في بعض الاحاديث وفي اشارة القرآن اهل الأهواء وذلك لغلبة الهوى على عقولهم واشتهاره فيهم لأن التسميه بالمشتق انما يطلق اطلاق اللقب اذا غلب ما اشتقت منه على المسمى بها فإذا تأثيم من هذه صفته ظاهر لأن مرجعه إلى اتباع الرأي وهو اتباع الهوى المذكور آنفا
والرابع أن كل راسخ لا يبتدع ابدا وانما يقع الابتداع ممن لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه حسبما دل عليه الحديث ويأتي تقريره بحول الله فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يحسبون انهم علماء وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهى عنه اذ لم يستكمل شروط الاجتهاد فهو على اصل العمومية ولما كان العامي حراما عليه النظر في الأدله والاستنباط كان المخضرم الذي بقي عليه كثير من الجهلات مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به فاذا اقدم على محرم عليه كان آثما باطلاق
وبهذه الاوجه الاخيرة ظهر وجه تأثيمه وتبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطئ في اجتهاده وسيأتي له تقرير ابسط من هذا ان شاء الله
وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم ولو فرض عاملا بالبدعة المكروهة ان ثبت فيها كراهة التنزيه لانه اما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز واما نائب عن صاحبها مناضل عنه فيها بما قدر عليه وذلك يجري مجرى المستنبط الاول لها فهو آثم على كل تقدير
لكن يبقى هنا نظر في المبتدع وصاحب الهوى بحيث يتنزل دليل الشرع على مدلول اللفظ في العرف الذي وقع التخاطب به إذ يقع الغلط او التساهل فيسمى من ليس بمبتدع مبتدعا وبالعكس ان تصور فلا بد من فضل اعتناء بهذا المطلب حتى يتضح بحول الله وبالله التوفيق ولنفرده في فصل فنقول
فصل(168/100)
لا يخلو المنسوب إلى البدعة ان يكون مجتهدا فيها او مقلدا والمقلد اما مقلد مع الأقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلا والأخذ فيه بالنظر واما مقلد له فيه من غير نظر كالعامي الصرف فهذه ثلاثة اقسام فلقسم الأول على ضربين احدهما ان يصح كونه مجتهدا فالابتدع منه لا يقع الا فلته وبالعرض لا بالذات وانما تسمى غلطه او زلة لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنه وابتغاء تأويل الكتاب أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة والدليل عليه انه اذا ظهر له الحق اذعن له وأقر به
ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود انه كان يقول بالارجاء ثم رجع عنه وقال واول ما افارق غير شاك أفارق ما يقول المرجئون
وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقير قال كنت قد شغفني راي من راي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد ان نجح ثم نخرج على الناس قال فمررنا على المدينه فاذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم
قال واذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون والله يقول انك من تدخل النار فقد اخزيته وكلما ارادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها فما هذا الذي تقولون قال فقال أفتقرأ القرآن قلت نعم قال فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم
يعني الذي يبعثه الله فيه قلت نعم قال فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم
المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه
قال واخاف الا اكون احفظ ذلك قال غير انه قد زعم ان قوما يخرجون من النار بعد ان يونوا فيها
قال يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرا من انهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس فرجعنا وقلنا ويحكم اترون الشيخ يكذب على رسول الله عليه وسلم فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد او كما قال(168/101)
ويزيد الفقير من ثقات أهل الحديث وثقة ابن معين وابو زرعه وقال ابو حاتم صدوق وخرج عنه البخاري
وعبيد الله بن الحسن العنبري كان من ثقة اهل الحديث ومن كبار العلماء العارفين بالسنة الا ان الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكى عنه من أنه كان يقول بأن كل مجتهد من اهل الأديان مصيب حتى كفره القاضي ابو بكر وغيره
وحكى القتيبي عنه كان يقول ان القرآن يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح وله اصل في الكتاب والقول بالاجبار صحيح وله اصل في الكتاب ومن قال بهذا فهو مصيب لان الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين
وسئل يوما عن اهل القدر واهل الاجبار قال كل مصيب هؤلاء قوم عظموا الله وهؤلاء قوم نزهوا الله
قال وكذلك القول في الاسماء فكل من سمى الزاني مؤمنا فقد اصاب ومن سماه كافرا فقد اصاب ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد اصاب ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد اصاب لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني
قال وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه والقول بالسعاية وخلافة وقتل المؤمن بالكافر ولا يقتل مؤمن بكافر وبأي ذلك اخذ الفقيه فهو مصيب
قال ولو قال قائل ان القاتل في النار
كان مصيبا ولو قال في الجنة كان مصيبا ولو وقف وأرجأ أمره كان مصيبا اذا كان انما يريد بقوله ان الله تعبده بذلك وليس عليه علم الغيب
قال ابن ابي خيثمة اخبرني سليمان بن ابي شيخ قال كان عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن ابي الحريقي العنبري البصري اتهم بأمر عظيم روى عنه كلام ردئ
قال بعض المتأخرين هذا الذي ذكره ابن ابي شيخ عنه قد روى انه رجع عنه لما تبين له الصواب وقال اذا ارجع وانا من الأصاغر ولأن اكون ذنبا في الحق احب إلى ان اكون رأسا في الباطل ا ه(168/102)
فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل عنه انما اتبع ظواهر الادلة الشرعية فيما ذهب اليه ولم يتبع عقله ولا صادم الشرع بنظره فهو اقرب من مخالفة الهوى
ومن ذلك الطريق والله اعلم وفق إلى الرجوع إلى الحق
وكذلك يزيد الفقير فيما ذكر عنه لا كما عارض الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنه اذ طالبهم بالحجة فقال بعضهم لا تخاصموه فانه ممن قال الله فيه بل هم قوم خصمون فرجحوا المتشابه على المحكم وناصبوا بالخلاف السواد الأعظم
واما ان لم يصح بمسبار العلم انه من المجتهدين فهو الحرى باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم اذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع الهوى الباعث عليه في الاصل وهو التبعية اذ قد تحصل له مرتبة الامامة والاقتداء والنفس فيها من اللذة مالا يزيد عليه ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب اذا انفرد حتى قال الصوفية حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين فكيف اذا انضاف اليه الهوى من اصل وانضاف إلى هذين الأمرين دليل في ظنه شرعي على صحة ما ذهب اليه فيمكن الهوى من قلبه تمكنا لا يمكن في العادة الانفكاك عنه وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه كما جاء في حديث الفرق
فهذا النوع ظاهر انه آثم في ابتداعه اثم من سن سنة سيئه
ومن امثلته ان الامامية من الشيعة تذهب إلى وضع خليفة دون النبي صلى الله عليه وسلم
وتزعم انه مثل النبي صلى الله عليه وسلم(168/103)
في العصمة بناء على أهل لهم متوهم فوضعوه على ان الشريعة ابدا مفتقرة إلى شرح وبيان لجميع المكلفين اما بالمشافهة او بالنقل ممن شافه المعصوم وانما وضعوا ذلك بحسب ما ظهر لهم بادي الرأي من غير دليل عقلي ولا نقلي بل بشبهة زعموا انها عقلية وشبه من النقل باطلة اما في اصلها واما في تحقيق مناطها وتحقيق ما يدعون وما يرد عليهم به مذكور في كتب الائمة وهو يرجع في الحقيقه إلى دعاو واذا طولبوا بالدليل عليها سقط في أيديهم إذ لا برهان لهم من جهة من الجهات
وأقوى شبههم مسألة اختلاف الامة وانه لا بد من واحد يرتفع به الخلاف لأن الله يقول ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولا يكون كذلك إلا اذا أعطى العصمة كما اعطيها النبي صلى الله عليه وسلم
لانه وارث والا فكل محق او مبطل يدعى انه المرحوم وانه الذي وصل إلى الحق دون من سواه فان طولبوا بالدليل على العصمة لم يأتوا بشيء غير ان لهم مذهبا يخفونه ولا يظهرونه الا لخواصهم لانه كفر محض ودعوى بغير برهان
قال ابن العربي في كتاب العواصم خرجت من بلادي على الفطرة فلم ألق في طريقي الا مهتديا حتى بلغت هذه الطائفة يعني الامامية والباطنية من فرق الشيعة فهي اول بدعة لقيت ولو فجأتني بدعة مشبهة كالقول بالمخلوق او نفي الصفات او الارجاء لم آمن الشيطان
فلما رأيت حماقاتهم أقمت على حذر وترددت فيها على اقوام اهل عقائد سليمة ولبثت بينهم ثمانية اشهر
ثم خرجت إلى الشام فوردت بيت المقدس فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين مدرسة الشافعية بباب الأسباط واخرى للحنفية وكان فيها من رءوس العلماء ورءوس المبتدعة ومن احبار اليهود والنصارى كثير فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من اهل السنة(168/104)
ثم نزلت إلى الساحل لأغراض وكان مملوءا من هذه النحل الباطنية والامامية فطفت في مدن الساحل لتلك الاغراض نحوا من خمسة اشهر ونزلت بعكا وكان رأس الامامية بها حينئذ ابو الفتح العكي وبها من اهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وانا ابن العشرين
فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا ولع بي وفيهم لعمر الله وان كانوا على باطل انطباع وانصاف واقرار بالفضل اذا ظهر فكان لا يفارقني ويساومني الجدال ولا يفاترني فتكلمت على مذهب الامامية والقول بالتعميم من المعصوم بما يطول ذكره
ومن جملة ذلك انهم يقولون ان لله في عباده أسرارا واحكاما والعقل لا يستقل بدركها فلا يعرف ذلك الا من قبل امام معصوم فقلت لهم أمات الامام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ ام هو مخلد فقال لي مات وليس هذا بمذهبه ولكنه تستر معي
فقلت هل خلفه احد فقال خلفه وصية على قلت فهل قضى بالحق وانفذه قال لم يتمكن لغلبة المعاند
قلت فهل انفذه حين قدر قال منعته التقيه ولم تفارقه إلى الموت الا انها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى فلم يمكن الا المداراه لئلا تنفتح عليه ابواب الاختلال قلت وهذه المدارة حق ام لا فقال باطل أباحته الضروره
قلت فأين العصمه انما تغنى العصمة مع القدرة قلت فمن بعده إلا الآن وجدوا القدره أم لا قال لا
قلت فالدين مهمل والحق مجهول مخمل قال سيظهر قلت بمن قال بالامام المنتظر
قلت لعله الدجال فما بقي احد الا ضحك وقطعنا الكلام على غرض مني لاني خفت ان الجمه فينتقم مني في بلاده
ثم قلت ومن اعجب ما في هذا الكلام ان الامام اذا اوصى إلى من لاقدرة له فقد ضيع فلا عصمة له
واعجب منه ان الباري تعالى على مذهبه اذا علم انه لا علم الا بمعلم وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه ان يقول ما علم فكأنه ما علمه وما بعثه
وهذا عجز منه وجور لا سيما على مذهبهم
فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم ان يقوموا معه بقائمه وشاع الحديث(168/105)
فرأى رئيس لباطنية المسمين بالإسماعيليه ان يجتمع معي فجاءني ابو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي وقال ان رئيس الاسماعيليه رغب في الكلام معك
فقلت انا مشعول
فقال هنا موضع مرتب قد جاء اليه وهو محرس الطبرانيين مسجد في قصر على البحر
وتحامل علي فقمت ما بين حشمة وحسبة ودخلت قصر المحرس وطلعنا اليه فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية فرأيت النكر في وجوههم فسلمت ثم قصدت جهة المحراب فركعت عنده ركعتين
لا عمل لي فيهما الا تدبير القول معهم والخلاص منهم
فلعمري الذي قضى علي بالاقبال إلى ان احدثكم ان كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس ابدا
ولقد كنت انظر في البحر يضرب في حجارة سود محدده تحت طاقات المحرس فأقول هذا قبري الذي يدفنوني فيه وانشد في سري
الا هل إلى الدنيا معاد
وهل لنا سوى البحر قبر او سوى الماء اكفان
وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري التي انقذني الله منها
فلما سلمت استقبلتهم وسألتهم عن احولهم عادة وقد اجتمعت إلى نفسي وقلت وقلت اشرف ميتة في اشرف موطن أناضل فيه عن الدين
فقال لي ابو الفتح واشار إلى فتى حسن الوجه هذا سيد الطائفة ومقدمها
فدعوت له فسكت فبدرني وقال قد بلغتني مجالسك وانهى الي كلامك وانت تقول قال الله وفعل فأي شيء هو الله الذي تدعو اليه اخبرني واخرج عن هذه المخرقه التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة وقد اختطفني اصحابه قبل الجواب فعمدت بتوفيق الله إلى كنانتي واستخرجت منها سهما اصاب حبة قلبه فسقط لليدين وللفم(168/106)
وشرح ذلك ان الامام ابا بكر احمد بن ابراهيم الأسماعيلي الحافظ الجرجاني قال كنت ابغض الناس فيمن يقرأ علم الكلام فدخلت يوما إلى الري ودخلت جامعها اول دخولي واستقبلت سارية اركع عندها وإذ بجواري رجلان يتذاكران علم الكلام فتطيرت بهما وقلت اول ما دخلت هذا البلد سمعت فيه ما اكره وجعلت اخفف الصلاة حتى ابعد عنهما فعلق بي من قولهما ان هؤلاء الباطنية اسخف خلق الله عقولا وينبغي للنحرير الا يتكلف لهم دليلا وليكن يطالبهم بلم فلا قبل لهم بها وسلمت مسرعا
وشاء الله بعد ذلك ان كشف رجل من الاسماعيلية القناع في الالحاد وجعل يكاتب وشمكير الامير يدعوه اليه ويقول له اني لا اقبل دين محمد الا بالمعجزه فان اظهرتموها رجعنا اليكم وانجزت الحال إلى ان اختاروا منهم رجلا له دهاء ومنه فورد على وشمكير رسولا فقال له انك امير ومن شأن الامراء والملوك ان تتخصص عن العوام ولا تقلد احدا في عقيدة وانما حقهم ان يفصحوا عن البراهين
فقال وشمكير اختار رجلا من اهل مملكتي ولا انتدب للمناظرة بنفسي فيناظرك بين يدي
فقال له الملحد اختر ابا بكر الاسماعيلي
لعلمه بأنه ليس من اهل علم التوحيد وانما كان اماما في الحديث
ولكن كان وشمكير لعامية فيه يعتقد انه اعلم اهل الارض بانواع العلوم
فقال وشمكير ذلك مرادي فانه رجل جيد
فأرسل الى ابي بكر الاسماعيلي بجرجان ليرحل اليه إلى غزته
فلم يبق من العلماء احد الا يئس من الدين وقال سيبهت الاسماعيلي الكافر مذهبا الاسماعيلي الحافظ مذهبا ولم يمكنهم ان يقولوا للملك انه لا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم
فلجأوا إلى الله في نصر دينه
قال الاسماعيلي الحافظ فلما جاءني البريد واخذت في المسير وتدانت لي الدار قلت انا لله(168/107)
وكيف اناظر فيما لا ادري هل أتبرأ عند الملك وارشده إلى من يحسن الجدل ويعلم بحجج الله في دينه ندمت على ما سلف من عمري ولم انظر في شيء من علم الكلام ثم اذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع الرى فقويت نفسي وعولت على ان اجعل ذلك عمدتي وبلغت البلد فتلقاني الملك ثم جميع الخلق
وحضر الاسماعيلي المذهب مع الاسماعيلي النسب
وقال الملك الباطني اذكر قولك يسمعه الامام
فلما أخذ في ذكره واستوفاه قال له الحافظ لم فلما سمعها الملحد قال هذا امام قد عرف مقالتي
ففهمت قال الاسماعيلي فخرجت من ذلك الوقت وامرت بقراءة علم الكلام وعلمت انه عمدة من عمد الاسلام
قال ابن العربي وانا حين انتهى بي الامر إلى ذلك قلت ان كان في الاجل تنفس فهذا شبيه بيوم الاسماعيلي
فوجهت إلى أبي الفتح الامام وقلت له لقد كنت في لا شيء ولو خرجت من عكا قبل ان اجتمع بهذا العالم ما رحلت الا عريا عن نادرة الايام نظر إلى حذقه بالكلام ومعرفته حيث قال لي
أي شيء هو الله ولا يسأل بمثل هذا الا مثله
ولكن بقيت ها هنا نكتة لا بد من ان نأخذها اليوم عنه وتكون ضيافتنا عنده
لم قلت أي شيء هو الله فاقتصرت من حروف الاستفهام على أي وتركت الهمزه وهل وكيف وأنى وكم وما هي ايضا من ثواني حروف الاستفهام وعدلت عن اللام من حروفه وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانيه وهو ان ل أي معنيين في الاستفهام
فأي المعنيين قصدت بها ولم سألت بحرف محتمل ولم تسأل بحرف مصرخ بمعنى واحد هل وقع ذلك بغير علم ولا قصد حكمة ام بقصد حكمة فبينها لنا
فما هو الا ان افتتحت هذا الكلام وانبسطت فيه وهو يتغير حتى اصفر آخرا من الوجل كما اسود اولا من الحقد(168/108)
ورجع احد اصحابه الذي كان عن يمينه إلى آخر كان بجانبه وقال له ما هذا الصبي الا بحر زاخر من العلم ما رأينا مثله قط وهم ما رأوا واحدا به رمق الا اهلكوه لان الدولة لهم ولولا مكاننا من رفعة دولة ملك الشام ووالي عكا كان يحظينا ما تخلصت منهم في العادة ابدا
وحين سمعت تلك الكلمة من اعظامى قلت هذا مجلس عظيم وكلام طويل يفتقر إلى تفصيل ولكن نتواعد إلى يوم آخر
وقمت وخرجت فقاموا كلهم معي وقالوا لا بد ان تبقى قليلا فقلت لا وأسرعت حافيا وخرجت على الباب أعدو حتى اشرفت على قارعة الطريق وبقيت هناك مبشرا نفسي بالحياة حتى خرجوا بعدي وأخرجوا لي لايكى ولبستها ومشيت معهم متضاحكا ووعدوني بمجلس آخر فلم أوف لهم وخفت وفاتي وفي وفائي
قال ابن العربي وقد قال لي أصحابنا النصرية بالمسجد الاقصى ان شيخنا ابا الفتح نصر بن ابراهيم المقدسي اجتمع برئيس من الشيعة الامامية فشكا اليه فساد الخلق وان هذا الامر لا يصلح الا بخروج الامام المنتظر فقال نصر هل لخروجه ميقات ام لا قال الشيعي نعم قال له ابو الفتح ومعلوم هو أو مجهول قال معلوم قال نصر ومتى يكون قال إذا فسد الخلق قال ابو الفتح فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم الا انتم فلو فسدتم لخرج فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا فبهت
واظنه سمعها عن شيخه ابي الفتح سليمان بن ايوب الرازي الزاهد انتهى ما حكاه ابى العربي وغيره وفيه غنيه لمن عرج عن تعرف أصولهم وفي اثناء الكتاب منه امثلة كثيرة
القسم الثاني يتنوع ايضا وهو الذي لم يستنبط بنفسه وانما اتبع غيره من المستنبطين لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها وقام بالدعوة بها مقام متبوعه لانقداحها في قلبه فهو مثل الاول وان لم يصر إلى تلك الحال ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى
وصاحب هذا القسم لا يخلو من استدلال ولو على اعم ما يكون(168/109)
فقد يلحق بمن نظر في الشبهة وان كان عاميا لانه عرض للاستدلال وهو عالم أنه لا يعرف النظر ولا ما ينظر فيه ومع ذلك فلا يبلغ من استدلال بالدليل الجملي مبلغ من استدل على التفصيل وفرق بينهما في التمثيل
ان الاول اخذ شبهات مبتدعة فوقف وراءها حتى اذا طولب فيها بالجريان على مقتضى العلم تبلد وانقطع او خرج إلى مالا يعقل واما الثاني فحسن الظن بصاحب البدعة فتبعه ولم يكن له دليل على التفصيل يتعلق به الا تحسين الظن بالمبتدع خاصه وهذا القسم في العوام كثير
فمثال الاول حال حمدان بن قرمط المنسوب إليه القرامطة اذ كان احد دعاة الباطنية فاستجاب له جماعة نسبوا اليه وكان رجلا من اهل الكوفة مائلا إلى الزهد فصادفه احد دعاة الباطنية وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقه فقال له حمدان وهو لا يعرف حاله اراك سافرت عن موضع بعيد فأين مقصدك فذكر موضعا هو قرية حمدان فقال له حمدان اركب بقرة من هذا البقر لتستريح به عن تعب المشي فلما رآه مائلا إلى الديانه أتاه من ذلك الباب وقال اني لم أومن بل أومر بذلك فقال له وكأنك لا تعمل الا بأمر فقال نعم فقال حمدان وبأمر من تعمل قال بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخره قال ذلك هو رب العالمين قال صدقت ولكن الله يهب ملكه من يشاء قال وما غرضك في البقعة التي انت متوجه اليها قال أمرت ان ادعوا اهلها من الجهل إلى العلم
ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاوة إلى السعادة
وان استنقذتم من ورطات الذل والفقر واملكهم بما يستغنون به عن الكد والتعب فقال له حمدان أنقذنى انقذك الله وافض على من العلم ما تحييني به فما اشد احتياجي لمثل ما ذكرت فقال له وما أمرت ان اخرج السر المكنون إلى كل احد الا بعد الثقة به والعهد اليه فقال فما عهدك فاذكره فإني ملتزم له
فقال ان تجعل لي وللامام عهد الله على نفسك وميثاقك الا تخرج سر الامام الذي القيه اليك ولا تفشي سري أيضا فالتزم حمدان عهده(168/110)
ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استدرجه واستغواه واستجاب له في جميع ما ادعاه ثم انتدب للدعوة وصار اصلا من أصول هذه البدعة فسمى اتباعه القرامطه
ومثال الثاني ما حكاه الله في قوله تعالى واذا قيل لهم تعالوا إلى ما انزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآيه وقوله تعالى قل هل يسمعونكم اذ تدعون او ينفعونكم او يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون
وحكى المسعودي انه كان في اعلى صعيد مصر رجل من القبط ممن يظهر
دين النصرانية وكان يشار اليه بالعلم والفهم فبلغ خبره احمد بن طولون فاستحضره وسأله عن اشياء كثيرة من جملتها انه امر في بعض الأيام وقد احضر مجلسه بعض اهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية فسألوه عن ذلك
فقال دليلي على صحتها وجودي اياها متناقضة متنافية تدفعها العقول وتنفر منها النفوس لتباينها وتضادها لا نظر يقويها ولا جدل يصححها ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند اهل التأمل فيها والفحص عنها
ورأيت مع ذلك أمما كثيرة وملوكا عظيمة ذوي معرفة وحسن سياسة وعقول راجحة قد انقادوا اليها وتدينوا بها مع ما ذكرت من تناقضها في العقل فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها الا بدلائل شاهدوها وآيات ومعجزات عرفوها اوجب انقيادهم اليها والتدين بها
فقال له السائل وما التضاد الذي فيها فقال وهل يدرك ذلك او تعلم غايته منها قولهم بأن الثلاثة واحد وان الواحد ثلاثه
ووصفهم للأقانيم والجوهر وهو الثالوثي وهل الأقانيم في انفسها قادرة عالمة ام لا وفي اتحاد ربهم القديم بالانسان المحدث وما جرى في ولادتة وصلبه وقتله
وهل في التشنيع اكبر وافحش من اله صلب وبصق في وجهه ووضع على راسه اكليل الشوك وضرب رأسه بالقضيب وسمرت قدماه ونخز بالأسنة والخشب جنباه وطلب الماء فسقى الخل من بطيخ الحنظل فأمسكوا عن مناظرته لما قد اعطاهم من تناقض مذهبه وفساده ا ه(168/111)
والشاهد من الحكاية الاعتماد على الشيوخ والآباء من عير برهان ولا دليل
القسم الثالث يتنوع ايضا وهو الذي قلد غيره على البراءة الأصليه فلا يخلو ان يكون ثم من هو اولى بالتقليد منه بناء على التسامع الجاري بين الخلق بالنسبة إلى الجم الغفير اليه في أمور دينهم من عالم وغيره وتعظيمهم له بخلاف الغير
اولا يكون ثم من هو اولى منه لكنه ليس في اقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة فان كان هناك منتصبون فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع اليه بل تركه ورضى لنفسه بأخسر الصفقتين فهو غير معذور اذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر فعمل بالبدعة وهو يظن انه على الصراط المستقيم
وهذا حال من بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإنهم تركوا دينهم الحق ورجعوا إلى باطل آبائهم
ولم ينظروا نظر المستبصر حتى لم يفرقوا بين الطريقين وغطى الهوى على عقولهم دون ان يبصروا الطريق فكذلك اهل هذا النوع
وقل ما تجد من هذه صفته الا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد
خرج البغوي عن ابي الطفيل الكناني ان رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم
فدعا له بالبركه وأخذ بجبهته فنبتت شعرة بجبهته كأنها سلفة فرس
قال فشب الغلام فلما كان زمن الخوارج اجابهم فسقطت الشعرة عن جبهته فأخذه ابوه فقيده وحبسه مخافة ان يلحق بهم احد قال فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له الم تر بركة النبي صلى الله عليه وسلم
وقعت قال فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم
قال فرد الله عز وجل الشعرة في جبهته اذ تاب
وإن ولم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس مع انه قد نصب نفسه منصب المستحقين ففي تأثيمه نظر
ويحتمل ان يقال فيه إنه آثم ونظيره مسألة اهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم واستنامة لما عليه اهل عصرهم من عبادة غير الله وما اشبه ذلك(168/112)
لان العلماء يقولون في حكمهم انهم على قسمين قسم غابت عليه الشريعة ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل انه يقرب إلى الله ورأى ما اهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند الا استحسانهم فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه
وهؤلاء هم الداخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
وقسم لابس ما عليه اهل عصره من عبادة غير الله والتحريم والتحليل بالرأي ووافقوهم في اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل
فهؤلاء نص العلماء على انهم غير معذورين مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذه لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة فصار من اهلها
فكذلك ما نحن في الكلام عليه اذ لا فرق بينهما
ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول كيفما كان لا يعذب احد الا بعد الرسل وعدم القبول منهم
وهذا ان ثبت قولا هكذا فنظيره في مسألتنا ان يأتي عالم اعلم من ذلك المنتصب يبين السنة من البدعة فإن راجعه هذا المقلد في احكام دينه ولم يقتصر على الاول فقد اخذ بالاحتياط الذي هو شأن العقلاء ورجاء السلامه
وان اقتصر على الاول ظهر عناده لأنه مع هذا الفرض لم يرض بهذا الطارئ واذا لم يرضه كان ذلك لهوى داخله وتعصب جرى في قلبه مجرى الكلب في صاحبه
وهو اذا بلغ هذا المبلغ لم يبعد ان ينتصر لمذهب صاحبه ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه في عموميته وحكمه قد تقدم في القسم قبله
فأنت ترى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم
حين بعث إلى اصحاب اهواء وبدع وقد استندوا إلى آبائهم وعظمائهم فيها وردوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
وغطى على قلوبهم رين الهوى حتى التبست عليهم المعجزات بغيرها كيف صارت شريعته صلى الله عليه وسلم
حجة عليهم على الاطلاق والعموم وصار الميت منهم مسوقا إلى النار على العموم من غير تفرقة بين المعاند صراحا وغيره وما ذاك الا لقيام الحجة عليهم بمجرد بعثته وارساله لهم مبينا للحق الذي خالفوه(168/113)
فمسألتنا شبيهة بذلك فمن اخذ بالحزم فقد استبرأ لدينه ومن تابع الهوى خيف عليه الهلاك وحسبنا الله
فصل
ولنزد هذا الموضع شيئا من البيان فإنه اكيد لانه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل
فنقول وبالله التوفيق ان لفظ اهل الاهواء وعبارة اهل البدع انما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها وقدموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها والاستدلال على صحتها في زعمهم حتى عد خلافهم خلافا وشبههم منظورا فيها ومحتاجا إلى ردها والجواب عنها
كما نقول في القاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئه والخوارج والباطنية ومن اشبههم بأنها القاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنبط لها وناصر لها وذاب عنها كلفظ اهل السنة انما يطلق على ناصريها وعلى من استنبط على وفقها والحامين لذمارها
ويرشح ذلك ان قول الله تعالى ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق وليس إلا المخترع او من قام مقامه وكذلك قوله تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا وقوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغير
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم
حتى اذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم لانهم قاموا انفسهم مقام المستنبط للاحكام الشرعية المقتدى به فيها
بخلاف العوام فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقة ولاهم متبعون للهوى
وانما يتبعون ما يقال لهم كائنا ما كان فلا يطلق على العوام لفظ اهل الاهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا
وعند ذلك يتعين للفظ اهل الاهواء واهل البدع مدلول واحد وهو ان من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره
واما اهل الغفله عن ذلك والسالكون سبل رؤسائهم بمجرد التقليد من غير نظر فلا(168/114)
فحقيقة المسألة انها تحتوي على قسمين مبتدع ومقتد به فالمقتدى به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء لانه في حكم المتبع والمبتدع هو المخترع
او المستدل على صحة ذلك الاختراع وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم او كان من قبيل الاستدلال العامي فإن الله سبحانه ذم اقواما قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مهتدون فكأنهم استدلوا إلى دليل جملي وهو الاباء اذا كانوا عندهم من اهل العقل وقد كانوا على هذا الدين وليس الا لانه صواب فنحن عليه لانه لو كان خطأ لما ذهبوا اليه
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار اليه بالصلاح ولا ينظر إلى كونه من اهل الاجتهاد في الشريعة او من اهل التقليد ولا كونه يعمل بعلم او بجهل
ولكن مثل هذا يعد استدلالا في الجملة من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى واطراح ما سواه
فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله ودخل في مسمى اهل الابتداع اذ كان من حق من كان هذا سبيله ان ينظر في الحق ان جاءه ويبحث ويتأنى ويسأل حتى يتبين له فيتبعه او الباطل فيجتنبه ولذلك قال تعالى ردا على المحتجين بما تقدم قل أولوا جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) وفي الاية الاخرى واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا فقال تعالى اولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وفي الاية الأخرى أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير وامثال ذلك كثير
وعلامة من هذا شأنه ان يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي او اجمالي ويتعصب لما هو عليه غير ملتفت إلى غيره وهو عين اتباع الهوى
فهو المذموم حقا وعليه يحصل الإثم فان من كان مسترشدا مال إلى الحق حيث وجده ولم يرده وهو المعتاد في طالب الحق
ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين تبين لهم الحق(168/115)
فان لم يجد سوى ما تقدم له من البدعة ولم يدخل مع المتعاصيين لكنه عمل بها فان قلنا ان اهل الفترة معذبون على الاطلاق اذا اتبعوا من اخترع منهم فالمتبعون للمبتدع اذا لم يجدوا محقا مؤاخذون ايضا
وان قلنا لا يعذبون حتى يبعث لهم الرسول وان عملوا بالكفر فهؤلاء لا يؤاخذون ما لم يكن فيه محق فاذ ذاك يؤاخذون من حيث انهم معه بين احد أمرين اما ان يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه وإماء ان لا يتبعوه فلا بد من عناد ما وتعصب فيدخلون اذ ذاك تحت عبارة اهل الاهواء فيأثمون وكل من اتبع بيان سمعان في بدعته التي استمرت عند العلماء مقلدا فيها على حكم الرضاء بها ورد ما سواها فهو في الاثم مع من اتبع فقد زعم ان معبوده في صورة الانسان وانه يهلك كله الا وجه ثم زعم ان روح الإله حل في على
ثم في فلان ثم في بيان نفسه
وكذلك من اتبع المغيرة بن سعد العجلي الذي ادعى النبوة مدة وزعم انه يحي الموتى بالاسم الاعظم وان لمعبوده اعضاء على حروف الهجاء على كيفية يشمئز منها قلب المؤمن إلى الحادات أخر
وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب اليه كثير من بدع المغرب فهو في الاثم والتسمية مع من اتبع اذا انتصب ناصرا لها ومحتجا عليها
وقانا الله شر التعصب على غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته
فصل
اذا ثبت ان المبتدع آثم فليس الاثم الواقع عليه على رتبة واحدة بل هو على مراتب مختلفة من جهة كون صاحبها مستترا بها او معلنا ومن جهة كون البدعة حقيقية او اضافية ومن جهة كونها بينة او مشكلة ومن جهة كونها كفرا او غير كفر ومن جهة الاصرار عليها او عدمه إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه او يغلب على الظن
وهذا المعنى وان لم يخف على العالم بالاصول فلا يترك التنبيه على وجه التفاوت بقول جملي فهو الاولى في هذا المقام(168/116)
فأما الاختلاف من جهة كون صاحبها مدعيا للاجتهاد او مقلدا فظاهر لان الزيغ في قلب الناظر في المتشابهات ابتغاء تأويلها امكن منه في قلب المقلد وان ادعى النظر ايضا لان المقلد الناظر لا بد من استناده إلى مقلده في بعض الأصول التي يبنى عليها
او المقلد قد انفرد بها دونه فهو آخذ بحظ ما لم يأخذ فيه الآخر الا ان يكون هذا المقلد ناظرا لنفسه فحينئذ لا يدعى رتبة التقليد فصار في درجة الاول وزاد عليه الاول بأنه اول من سن تلك السنة السيئة فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها
وهذا الثاني من عمل بها فيكون على الاول من اثمه ما عينه الحديث الصحيح فوزره اعظم على كل تقدير والثاني دونه لانه ان نظر وعاند الحق واحتج لرأيه فليس له الا ادله جملية لا تفصيلية
والفرق بينهما ظاهر فان الادله التفصيلية ابلغ في الاحتجاج على عين المسألة من الادلة الجميلة فتكون المبالغة في الوزر بمقدار المبالغة في الاستدلال واما الاختلاف من جهة وقوعها في الضروريات او غيرها فالإشارة اليه ستأتي عند التكلم على احكام البدع
واما الاختلاف من جهة الاسرار والإعلان فظاهر ان المسر بها ضرره مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة او صغيرة او مكروهة هي باقية على اصل حكمها
فإذا اعلن بها وان لم يدع اليها فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به
وسيأتي بحول الله ان الذريعة قد تجري مجرى المتذرع اليه او تفارقه فانظم إلى وزر العمل بها وزر نصبها لمن يقتدي به فيها والوزر في ذلك اعظم بلا اشكال
ومثاله ما حكى الطرطوشي في اصل القيام ليلة النصف من شعبان عن ابي محمد المقدسي
قال لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان(168/117)
واول ما احدثت عندنا في سنة ثمان واربعين واربعمائة قدم علينا رجل في بيت المقدس يعرف بابن ابي الحمراء وكان حسن التلاوة فقام فصلى في المسجد الاقصى ليلة النصف من شعبان فاحرم خلفه رجل ثم انضاف اليهما ثالث ورابع فما ختمها الا وهو في جماعة كبيرة
ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير وشاعت في المسجد وانتشرت الصلاة في المسجد الاقصى وبيوت الناس ومنازلهم ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا
فقلت له فرأيتك تصليها في جماعة
فقال نعم واستغفر الله منها
واما الاختلاف من جهة الدعوة اليها وعدمها فظاهر ايضا لان غير الداعى وان كان عرضة بالاقتداء فقد لا يقتدي به ويختلف الناس في توفر دواعيهم على الاقتداء به اذ قد يكون خامل الذكر وقد يكون مشتهرا ولا يقتدى به لشهرة من هو اعظم عند الناس منزلة منه
واما الداعي اذا دعا اليها فمظنة الاقتداء اقوى واظهر ولا سيما المبتدع اللسن الفصيح الاخذ بمجامع القلوب اذا اخذ في الترغيب والترهيب وادلى بشبهته التي تداخل القلب بزخرفها كما كان معبد الجهني يدعو الناس إلى ما هو عليه من القول بالقدر ويلوي بلسانه نسبته إلى الحسن البصري
فروى عن سفيان بن عيينة ان عمرو بن عبيد سئل عن مسألة فأجاب فيها وقال هو من رأي الحسن فقال له رجل انهم يروون عن الحسن خلاف هذا
فقال انما قلت لك هذا من رأيي الحسن يريد نفسه وقال محمد بن عبد الله الانصاري كان عمرو بن عبيد اذا سئل عن شيء قال هذا من قول الحسن فيوهم انه الحسن بن ابي الحسن وانما هو قوله
واما الاختلاف من جهة كونه خارجا على اهل السنة او غير خارج فلأن غير الخارج لم يزد على الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليها اثم والخارج زاد الخروج على الأئمة وهو موجب للقتل والسعي في الارض بالفساد وإثارة الفتن والحروب إلى حصول العداوة والبغضاء بين أولئك الفرق فله من الإثم العظيم اوفر حظ(168/118)
ومثاله قصة الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى لله عليه وسلم يقتلون اهل الاسلام ويدعون اهل الاوثان يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميه وأخبارهم شهيرة
وقد لا يخرجون هذ الخروج بل يقتصرون على الدعوة لكن على وجه ادعى إلى الاجابة لان فيه نوعا من الإكراه والإخافة فلا هو مجرد دعوة ولا هو شق العصا من كل وجه
وذلك ان يستعين على دعوة بأولي الامر من الولاة والسلاطين فإن الاقتداء هنا اقوى بسبب خوف الولاة في الايقاع بالابى سجنا او ضربا او قتلا كما اتفق لبشر المريسي في زمن المأمون ولاحمد بن ابي دؤاد في خلافة الواثق وكما اتفق لعلماء المالكية بالاندلس اذ صارت ولايتها للمهديين فمزقوا كتب المالكية وسموها كتب الرأي ونكلوا بجملة من الفضلاء بسبب اخذهم في الشريعة بمذهب مالك
وكانوا هم مرتكبين للظاهرية المحضة التي هي عند العلماء بدعة ظهرت بعد المائتين من الهجرة
ويا ليتهم وافقوا مذهب داود واصحابه لكنهم تعدوا ذلك إلى ان قالوا برأيهم ووضعوا للناس مذاهب لا عهد لهم بها في الشريعه وحملوهم عليها طوعا او كرها حتى عم داؤها في الناس وثبتت زمانا طويلا ثم ذهب منها جملة وبقيت أخرى إلى اليوم
ولعل الزمان يتسع إلى ذكر جملة منها في اثناء الكتاب بحول الله
فهذا الوجه الوزر فيه اعظم من مجرد الدعوة من وجهين الاول الإخافة والاكراه بالاسلام والقتل والاخر كثرة الداخلين في الدعوة لان الأعذار والإنذار الاخروي قد لا يقوم له كثير من النفوس بخلاف الدنيوي
ولأجل ذلك شرعت الحدود والزواجر في الشرع وان الله ليزع بالسلطان ما لايزعه بالقرآن فالمبتدع اذا لم ينتصر بإجابة دعوته بمجرد الاعذار والانذار الذي يعظ به حاول الانتهاض بأولي الامر ليكون ذلك أحرى بالاجابه(168/119)
واما الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية او اضافية فان الحقيقية اعظم وزرا لانها التي باشرها المنتهى بغير واسطة ولانها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهر كالقول بالقدر والتحسين والتقبيح والقول بانكار خبر الواحد وانكار الاجماع وانكار تحريم الخمر والقول بالامام المعصوم وما اشبه ذلك فاذا فرضت اضافية فمعنى الاضافيه انها مشروعة من وجه ورأى مجرد من وجه
إذ يدخلها من جهة المخترع رأي في بعض احوالها فلم تناف الادلة من كل وجه
هذا وان كانت تجري مجرى الحقيقة ولكن الفرق بينهما ظاهر كما سيأتي ان شاء الله
وبحسب ذلك الاختلاف يختلف الوزر
ومثاله جعل المصاحف في المساجد للقراءة آخر صلاة الصبح بدعة
قال مالك أول من جعل مصحفا الحجاج بن يوسف
يريد انه اول من رتب القراءة في المصحف اثر صلاة الصبح في المسجد
قال ابن رشد مثل ما يصنع عندنا إلى اليوم
فهذه محدثة اعنى وضعه في المسجد لان القراءة في المسجد مشروع في الجملة معمول به الا ان تخصيص المسجد بالقراءة على ذلك الوجه المحدث ومثله وضع المصاحف في زماننا للقراءة يوم الجمعة وتحبيسها على ذلك القصد
واما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ او مشكلة فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة لإمكان ان لا تكون بدعة والإقدام على المحتمل اخفض رتبة من الإقدام على الظاهر ولذلك عد العلماء ترك المتشابه من قبيل المندوب اليه في الجمله
ونبه الحديث على ان ترك المتشابه لئلا يقع في الحرام فهو حمى له وان راتع المتشابه راتع في الحرام وليس ترك الحرام في الجملة من قبيل المندوب بل من قبيل الواجب فكذلك حكم الفعل المشتبه في البدعة فالتفاوت بينهما بين
وان قلنا ان ترك المتشابه من باب المندوب وان مواقعته من باب المكروه فالاختلاف ايضا واقع من هذه الجهة فإن الإثم في المحرمة هو الظاهر(168/120)
واما المكروهة فلا اثم فيها في الجملة ما لم يقترن بها ما يوجبها كالإصرار عليها إذ الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة فكذلك الاصرار على المكروه فقد يصيره صغيرة ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة في مطلق التأثيم وان حصل الفرق من جهة أخرى
بخلاف المكروه مع الصغيرة والشأن في البدع وان كانت مكروهة في الدوام عليها واظهارها من المقتدى بهم في مجامع الناس وفي المساجد
فقلما تقدم بل تقع منهم على اصلها من الكراهية الا ويقترن بها ما يدخلها في مطلق التأثيم من اصرار وتعليم او اشاعة او تعصب او ما اشبه ذلك
فلا يكاد يوجد في البدع بحسب الوقوع مكروه لا زائد فيه على الكراهية والله اعلم
واما الاختلاف بحسب الاصرار عليها او عدمه فلأن الذنب قد يكون صغيرا فيعظم بالاصرار عليه
كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها
فإذا كانت فلتة فهي اهون منها اذا داوم عليها
ويلحق بهذا المعنى اذا تهاون بها المبتدع وسهل امرها نظير الذنب اذا تهاون به فالمتهاون اعظم وزرا من غيره
واما الاختلاف من جهة كونها كفرا وعدمه فظاهر ايضا لان ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب عافانا الله وليس كذلك ما لم يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر في المعاصي فلا بدعة اعظم وزرا من بدعة تخرج عن الاسلام كما انه لا ذنب أعظم من ذنب يخرج عن الاسلام فبدعة الباطنية والزنادقة ليست كبدعة المعتزلة والمرجئة واشباههم ووجوه التفاوت كثيرة ولظهورها عند العلماء لم نبسط الكلام عليها
والله المستعان بفضله
فصل
ويتعلق بهذ الفصل امر آخر وهو الحكم في القيام على اهل البدع من الخاصة او العامة وهذا باب كبير في الفقه تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين وفسادهم في الأرض
وخروجهم عن جادة الاسلام إلى بنيات الطريق التي نبه عليها قول الله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله وهو فصل من تمام الكلام على التأثيم(168/121)
لكنه مفتقر إلى النظر في شعب كثيرة منها ما تكلم عليه العلماء ومنها ما لم يتكلموا عليه لان ذلك حدث بعد موت المجتهدين واهل الحماية للدين فهو باب يكثر التفريع فيه بحيث يستدعي تأليفا مستقلا فرأينا ان بسط ذلك يطول مع ان العناء فيه قليل الجدوى في هذه الازمنة المتأخرة لتكاسل الخاصة عن النظر فيما يصلح العامة وغلبة الجهل على العامة حتى انهم لا يفرقون بين السنة والبدعة بل قد انقلب الحال إلى ان عادت السنة بدعة فقاموا في غير موضع القيام واستقاموا إلى غير مستقام فعم الداء وعدم الاطباء حسبما جاءت به الاخبار فرأينا ان لا نفرد هذا المعنى بباب يخصه وان لا نبسط القول فيه وان نقتصر من ذلك على لمحة تكون خاتمة لهذا الباب في الاشارة إلى انواع الاحكام التي يقام عليهم بها في الجملة لا في التفصيل وبالله التوفيق
فنقول ان القيام عليهم بالتثريب او التنكيل او الطرد او الابعاد او الانكار هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين ام لا وكون صاحبها مشتهرا بها او لا وداعيا اليها او لا ومستظهرا بالاتباع وخارجا عن الناس او لا وكونه عاملا بها على جهة الجهل او لا
وكل من هذه الاقسام له حكم اجتهادي يخصه اذ لم يأت في الشرع في البدعه حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه كما جاء في كثير من المعاصي كالسرقة والحرابة والقتل والقذف والجراح والخمر وغير ذلك
لا جرم ان المجتهدين من الامة نظروا فيها بحسب النوازل وحكموا باجتهاد الرأي تفريعا على ما تقدم لهم في بعضها من النص كما جاء في الخوارج من الاثر بقتلهم وما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صبيغ العراقى
فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماء انواع احدها الارشاد والتعليم واقامة الحجة كمسألة ابن عباس رضي الله عنه حين ذهب إلى الخوارج فكلمهم حتى رجع منهم ألفان او ثلاثة آلاف(168/122)
والثاني الهجران وترك الكلام والسلام حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة وما جاء عن عمر رضي الله عنه من قصة صبيغ العراقي
والثالث كما غرب عمر صبيغا ويجري مجراه السجن وهو
الرابع كما سجنوا الحلاج قبل قتله سنين عديدة والخامس ذكرهم بما هم عليه واشاعة بدعتهم كي يحذروا ولئلا يغتر بكلامهم كما جاء عن كثير من السلف في ذلك
والسادس القتال اذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم كما قاتل علي رضي الله عنه الخوارج وغيره من خلفاء السنة
والسابع القتل ان لم يرجعوا مع الاستتابة وهو قد اظهر بدعته واما من اسرها وكانت كفرا او ما يرجع اليه فالقتل بلا استتابة وهو الثامن لانه من باب النفاق كالزنادقة
والتاسع تكفير من دل الدليل على كفره كما اذا كانت البدعة صريحة في الكفر كالإباحية والقائلين بالحلول كالباطنية او كانت المسألة في باب التكفير بالمآل فذهب المجتهد إلى التكفير كابن الطيب في تكفيره جملة من الفرق وينبني على ذلك
الوجه العاشر وذلك انه لا يرثهم ورثتهم من المسلمين ولا يرثون احدا منهم ولا يغسلون اذا ماتوا ولا يصلى عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين ما لم يكن المستتر فان المستتر يحكم له بحكم الظاهر ورثته اعرف بالنسبة إلى الميراث
والحادي عشر الامر بأن لا يناكحوا وهو من ناحية الهجران وعدم المواصلة
والثاني عشر تجريحهم على الجملة فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ولا يكونون ولاة ولا قضاة ولا ينصبون في مناصب العدالة من امامة او خطابة
إلا انه قد ثبت عن جملة من السلف رواية جماعة منهم واختلفوا في الصلاة خلفهم من باب الادب ليرجعوا عما هم عليه
والثالث عشر ترك عيادة مرضاهم وهو من باب الزجر والعقوبة
والرابع عشر ترك شهود جنائزهم كذلك
والخامس عشر الضرب كما ضرب عمر رضي الله عنه صبيغا
وروى عن مالك رضي الله عنه في القائل بالمخلوق أنه يوجع ضربا ويسجن حتى يموت(168/123)
ورأيت في بعض تواريخ بغداد عن الشافعي انه قال حكم في أصحاب الكلام ان يضربوا بالجرائد ويحملوا على الابل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واخذ في الكلام يعني اهل البدع
فصل
فان قيل كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات وتقييد تلك المطلقات وفرع العلماء منها كثيرا من المسائل واصلوا منها أصولا يحتذى حذوها على وفق ما ثبت نقله اذ الظواهر تخرج على مقتضى ظهورها بالاجتهاد وبالحرى إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيسا على محل التخصيص
فلذلك قسم الناس البدع ولم يقولوا بذمها على الاطلاق
وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه احدها ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم
من سن سنة حسنه كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من اوزارهم شيئا
وأخرج الترمذي وصححه ان رسول الله صلى لله عليه وسلم قال من دل على خير فله أجر فاعله
وخرج ايضا عن جرير بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزرهم ومثل اوزار من اتبعه غير منقوص من اوزارهم شيئا حسن صحيح
فهذه الاحاديث صريحة في ان من سن سنة خير فذلك خير ودل على انه فيمن ابتدع من سن فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ولو كان المرد من عمل سنة ثابته في الشرع لما قال من سن ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
ما من نفس تقتل ظلما الا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنه أول من سن القتل فسن هاهنا على حقيقة لأنه اختراع لم يكن قبل معمولا به في الارض بعد وجود آدم عليه السلام
فكذلك قوله من سن سنة حسنة أي من اخترعها من نفسه لكن بشرط ان تكون حسنة فله من الاجر ما ذكر فليس المراد من عمل سنة ثابتة(168/124)
وانما العبارة عن هذا المعنى ان يقال من عمل بسنتي او سنة من سنتي وما اشبه ذلك
كما خرج الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال لبلال بن الحارث اعلم قال اعلم يا رسول الله قال اعلم يا بلال قال اعلم يا رسول الله قال انه من احيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فان له من الاجر مثل من عمل بها من غير ان ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضى الله ورسوله كان عليه مثل إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا حديث حسن
وعن انس رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا بني ان قدرت ان تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لآحد فافعل ثم قال لي يا بني وذلك من سنتي ومن احيا سنتي فقد احبني ومن احبني كان معي في الجنه حديث حسن
فقوله من احيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي واضح في العمل بما ثبت انه سنة وكذلك قوله من أحيا سنتي فقد احبني ظاهر في السنن الثابتة بخلاف قوله من سن كذا فإنه ظاهر في الاخترع اولا من غير ان يكون ثابتا في السنة
واما قوله لبلال بن الحارث ومن ابتدع بدعة ضلالة فظاهر ان البدعة لا تذم بإطلاق بل بشرط ان تكون ضلالة وان تكون لا يرضاها الله ورسوله فاقتضى هذا كله ان البدعة اذا لم تكن كذلك لم يلحقها ذم ولا تبع صاحبها وزر فعادت إلى انها سنة حسنة ودخلت تحت الوعد بالاجر
والثاني ان السلف الصالح رضي الله عنهم واعلاهم الصحابة قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسنا واجمعوا عليه ولا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم
على ضلالة وانما يجتمعون على هذا وما هو حسن فقد اجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية واطراح ما سوى ذلك من القراءات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/125)
ولم يكن في ذلك نص ولا حظر ثم اقتفى الناس اثرهم في ذلك الرأي الحسن فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه ومن سباقهم في ذلك مالك بن انس رضي الله عنه وقد كان من اشدهم اتباعا وابعدهم من الابتداع
هذا وان كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الحديث وغيره فانما هو محمول اما على الخوف من الاتكال على الكتب استغناء به عن الحفظ والتحصيل واما على ما كان رأيا دون ما كان نقلا من كتاب او سنة
ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الامر وقل المجتهدون في التحصيل فخافوا على الدين جملة
قال اللخمي لما ذكر كلام مالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه وخرج عليه الإجارة على كتبه وحكى الخلاف وقال لا ارى اليوم ان يختلف في ذلك انه جائز لان حفظ الناس وافهامهم قد نقصت وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب
قال مالك ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب وما كنت أقرأ على احد يكتب في هذه الالواح ولقد قلت لابن شهاب اكنت تكتب العلم فقال لا فقلت اكنت تحب القيدوا عليك الحديث فقال لا فهذا كان شأن الناس فلو سار الناس سيرتهم لضاع العلم ولم يكن بينا منه ولو رسمه او اسمه وهذا الناس اليوم يقرءون كتبهم ثم هم في التقصير على ما هم عليه وايضا فإنه لا خلاف عندنا في مسائل الفروع ان القول فيها بالاجتهاد والقياس واجب واذا كان كذلك كان اهمال كتبها وبيعها يؤدي إلى التقصير في الاجتهاد وان لا يوضع مواضعه لان في معرفة اقوال المتقدمين والترجيح بين اقاويلهم قوة وزيادة في وضع الاجتهاد مواضعه
انتهى ما قاله اللخمي وفي اجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم لان له وجها صحيحا فكذلك نقول كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح فليس بمذموم بل هو محمود وصاحبه الذي سنه ممدوح فأين ذمها باطلاق او على العموم وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور(168/126)
فأجاز كما ترى احداث الاقضيه واختراعها على قدر اختراع الفجار للفجور وان لم يكن لتلك المحدثات اصل وقتل الجماعة بالواحد وهو محكي عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم
واخذ مالك واصحابه بقول الميت دمى عند فلان ولم يأت له في الموطإ بأصل سماعي وانما علل بأمر مصطلحي وفي مذهبه من ذلك مسائل كثيرة فإن كان ذلك جائزا مع انه مخترع فلم لا يجوز مثله وقد اجتمعا في العلة لان الجميع مصالح معتبرة في الجملة وان لم يكن شيء من ذلك جائزا فلم اجتمعوا على جملة وفرع غيرهم على بعضها ولا يبقى الا ان يقال إنهم يتابعون على ما عمل هؤلاء دون غيرهم وإن اجتمعا في العلة المسوغة للقياس وعند ذلك يصير الاقتصار تحكما وهو باطل فما ادى اليه مثله فثبت ان البدع تنقسم
فالجواب وبالله التوفيق أن نقول
اما الوجه الاول وهو قوله صلى الله عليه وسلم
من سن سنة حسنة الحديث ليس المراد به الاختراع البتة والا لزم من ذلك التعارض بين الادله القطعية ان زعم مورد السؤال ان ما ذكره من الدليل مقطوع به فإن زعم انه مظنون فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به فيلزم التعارض بين القطعى والظني والاتفاق من المحققين ولكن فيه من وجهين
احدهما انه يقال انه من قبيل المتعارضين اذ تقدم اولا ان ادلة الذم تكرر عمومها في احاديث كثيره من غير تخصيص واذا تعارضت ادلة العموم والتخصيص لم يقبل بعد ذلك التخصيص
والثاني على التنزيل لفقد التعارض فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية وذلك لوجهين احدهما ان السبب الذي جاء لاجله الحديث هو الصدقة المشروعة بدليل ما في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار او العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فقمص وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/127)
لما رآهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن واقام فصلى ثم خطب فقال يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة الآية والآية التي في سورة الحشر اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة قال فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت
قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتهلل كأنه مذهبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من سن في الاسلام سنة حسنه فله اجرها واجر من عمل بها بعده من غير ان ينقص من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير ان ينقص من اوزارهم شيء
فتأملوا اين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من سن سنة سيئة تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على ابلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصره فانفتح بسببه باب الصدقه على الوجه الأبلغ فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى قال من سن في الاسلام سنة حسنة الحديث فدل على ان السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي وهو العمل بما ثبت كونه سنة وان الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر من احيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي الحديث إلى قوله ومن ابتدع بدعة ضلالة فجعل مقابل تلك السنة الابتداع فظهر ان السنة الحسنة ليست بمبتدعة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم
ومن احيا سنتي فقد احبني ووجه ذلك في الحديث الاول ظاهر لانه صلى الله عليه وسلم
لما مضى على الصدقة اولا ثم جاء ذلك الانصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية فكأنها كانت سنة ايقظها رضي الله تعالى عنه بفعله
فليس معناه من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة
ونحو هذا الحديث في رقائق ابن المبارك مما يوضح معناه عن حذيفة رضي الله عنه قال قام سائل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأل فسكت القوم(168/128)
ثم ان رجلا اعطاه فأعطاه القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من استن خيرا فاستن به فله اجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن استن شرا فاستن به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم فإذا قوله من سن سنة معناه من عمل بسنة لا من اخترع سنة
والوجه الثاني من وجهي الجواب ان قوله من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة لا يمكن حمله على الاختراع من اصل لان كونها حسنة او سيئة لا يعرف الا من جهة الشرع لان التحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة اهل السنة
وانما يقول به المبتدعة اعني التحسين والتقبيح بالعقل فلزم ان تكون السنة في الحديث اما حسنه في الشرع واما قبيحة بالشرع فلا يصدق الا على مثل الصدقة المذكورة وما اشبهها من السنن المشروعة
وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال عليه السلام لانه اول من سن القتل وعلى البدع لانه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم
واما قوله من ابتدع بدعة ضلالة فهو على ظاهره لان سبب الحديث لم يقيده بشيء فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها اسباب
ويصح ان يحمل على نحو ذلك قوله ومن سن سنة سيئه أي من اخترعها
وشمل ما كان منها مخترعا ابتداء من المعاصي كالقتل من احد ابني آدم وما كان مخترعا بحكم الحال اذ كانت قبل مهمله متناساة فأثارها عمل هذا العامل
فقد عاد الحديث والحمد لله حجة على أهل البدع من جهة لفظه وشرح الاحاديث الأخر له(168/129)
وانما يبقى النظر في قوله ومن ابتدع بدعة ضلالة وان تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوما والامر فيه قريب لان الإضافة فيه لم تفد مفهوما وان قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من اهل الأصول فان الدليل دل على تعطيله في هذا الموضع كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم في قول الله تعالى لا تأكلوا الربا اضعافا مضاعفة ولان الضلالة لازمة للبدعة باطلاق بالأدلة المتقدمة فلا مفهوم ايضا
والجواب عن الإشكال الثاني ان جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة لا من قبيل البدعة المحدثة
والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم
فهي من الأصول الفقهية الثابته عند اهل الأصول وان كان فيها خلاف بينهم
ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه
اما جمع المصحف وقصر الناس عليه فهو على الحقيقة من هذا الباب اذ انزل القرآن على سبعة احرف كلها شاف كاف تسهيلا على العرب المختلفات اللغات فكانت المصلحة في ذلك ظاهرة الا انه عرض في اباحة ذلك بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتح لباب الاختلاف في القرآن حيث اختلفوا في القراءة حسبما يأتي بحول الله تعالى فخاف الصحابة رضوان الله تعالى عليهم اختلاف الامة في ينبوع الملة فقصورا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه واطرحوا ما سوى ذلك علما بأن ما اطرحوه مضمن فيما اثبتوه لانه من قبيل القراءات التي يؤدي بها القرآن
ثم ضبطوا ذلك بالروايه حين فسدت الألسنة ودخل في الاسلام اهل العجمة خوفا من فتح باب آخر من الفساد وهو ان يدخل اهل الالحاد في القرآن او في القراءات ما ليس منها فيستعينوا بذلك في بث الحادهم الا ترى انه لما لم يمكنهم الدخول من هذا الباب دخلوا من جهة التأويل والدعوى في معاني القرآن حسبما يأتي ذكره ان شاء الله تعالى
فحق ما فعل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأن له اصلا يشهد له في الجمله(168/130)
وهو الامر بتبليغ الشريعة وذلك لا خلاف فيه لقوله تعالى يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وأمته مثله
وفي الحديث ليبلغ الشاهد منكم الغائب واشباهه والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومه لانه من قبيل المعقول المعنى فيصح بأي شيء امكن من الحفظ والتلقين والكتابه وغيرها كذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى اذا لم يعد على الاصل بابطال كمسألة المصحف ولذلك اجمع عليه السلف الصالح
واما ما سوى المصحف فالامر فيه اسهل فقد ثبت في السنة كتابة العلم
ففي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم
اكتبوا لابي شاه وعن ابي هريرة رضي الله عنه انه قال ليس احد من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
اكثر حديثا مني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
الا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا اكتب
وذكر اهل السير انه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم
كتاب يكتبون له الوحي وغيره منهم عثمان وعلي ومعاوية والمغيرة بن شعبة وابي بن كعب وزيد ابن ثابت وغيرهم وايضا فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب الا به اذا تعين لضعف الحفظ وخوف اندراس العلم كما خيف دروسه حينئذ وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم
وإنما كره المتقدمون كتب العلم لامر آخر لا لكونه بدعة فكل من سمى كتب العلم بدعة فإما متجوز واما غير عارف بوضع لفظ البدعة فلا يصح الاستدلال بهذه الاشياء على صحة العمل بالبدع
وان تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة وان البناء عليها غير صحيح عند جماعة من الأصوليين فالحجة عليهم اجماع الصحابة على المصحف والرجوع اليه
واذا ثبت اعتبارها في صوره ثبت اعتبارها مطلقا
ولا يبقى بين المختلفين نزاع الا في الفروع
وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم(168/131)
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ واياكم ومحدثات الامور فاعطى الحديث كما ترى ان ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأن ما سنوه لا يعدو احد امرين اما ان يكون مقصودا بدليل شرعي فذلك سنة لا بدعة
واما بغير دليل ومعاذ الله من ذلك ولكن هذا الحديث دليل على اثباته سنة اذ قد اثبته كذلك صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم
فدليله من الشرع ثابت فليس ببدعة ولذلك اردف اتباعهم بالنهي عن البدع باطلاق
ولو كان عملهم ذلك بدعة لوقع في الحديث التدافع
وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعه بالواحد لانه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو احد الخلفاء الراشدين وتضمين الصناع وهو منقول عن الخلفاء الاربعه رضي الله عنهم واما ما يروى عن عمر بن عبد العزيز فلم اره ثابتا من طريق صحيح
وان سلم فراجع إما لاصل المصالح المرسلة ان لم نقل ان اصله قصة البقرة
وان ثبت ان المصالح المرسلة مقول بها عند السلف مع ان القائلين بها يذمون البدع واهلها ويتبرأون منهم دل على ان البدع مباينة لها وليست منها في شيء ولهذه المسألة باب تذكر فيه
فصل
ومما يورد في هذا الموضع ان العلماء قسموا البدع باقسام احكام الشريعة الخمسة ولم يعدوها قسما واحدا مذموما فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم وبسط ذلك القرافي بسطا شافيا واصل ما اتى به من ذلك شيخه عز الدين بن عبد السلام وها انا اتى به على نصه فقال اعلم ان الاصحاب فيما رأيت متفقون على انكار البدع نص على ذلك ابن ابي زيد وغيره والحق التفصيل وانها خمسة اقسام قسم واجب وهو ما تناولته قواعد الوجوب وادلته من الشرع كتدوين القرآن والشرائع اذ خيف عليها الضياع وان التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب اجماعا واهمال ذلك حرام اجماعا فمثل هذا النوع لا ينبغي ان يختلف في وجوبه(168/132)
القسم الثاني المحرم وهو كل بدعه تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة كالمكوس والمحدثات من المظالم والمحدثات المنافية لقواعد الشريعة كتقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح بطريق التوريث وجعل المستند في ذلك كون المنصب كان لابيه وهو في نفسه ليس بأهل
القسم الثالث ان من البدع ما هو مندوب اليه وهو ما تناولته قواعد الندب وادلته كصلاة التراويح واقامة صور الائمة والقضاة وولاة الامور على خلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم بسبب ان المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل الا بعظمة الولاة في نفوس الناس
وكان الناس في زمن الصحابة رضي الله عنهم معظم تعظيمهم انما هو بالدين وسبق الهجرة
ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظمون الا بالصور فتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى ان يضع غيره في صورة أخرى تحفظ النظام
ولذلك لما قدم الشام وجد معاوية بن ابي سفيان قد اتخذ الحجاب واتخذ المراكب النفيسة والثياب الهائلة العلية وسلك ما سلكه الملوك فسأله عن ذلك فقال انا بارض نحن فيها محتاجون لهذا
فقال له لا آمرك ولا انهاك
ومعناه انت اعلم بحالك هل انت محتاج اليه
فدل ذلك من عمر وغيره على ان احوال الائمه وولاة الامور تختلف باختلاف الامصار والقرون والاحوال
فكذلك يحتاج إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديمة وربما وجبت في بعض الأحوال
القسم الرابع بدعة مكروهة وهي ما تناولته ادلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الايام الفاضلة او غيرها بنوع من العباده ولذلك في الصحيح خرجه مسلم وغيره ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام او ليله بقيام(168/133)
ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات كما ورد في التسبيح عقب الفريضة ثلاثا وثلاثين فتفعل مائة وورد صاع في زكاة الفطر فجعل عشرة اصواع بسبب ان الزيادة فيها اظهار على الشارع وقلة ادب معه
بل شأن العظماء اذا حددوا شيئا وقف عنده وعد الخروج عنه قلة ادب
والزيادة في الواجب او عليه اشد في المنع لانه يؤدي إلى ان يعتقد ان الواجب هو الاصل والمزيد عليه ولذلك نهى مالك رضي الله عنه عن ايصال ستة ايام من شوال لئلا يعتقد انها من رمضان وخرج ابو داود في مسنده ان رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك فهكذا هلك من قبلنا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
اصاب الله بك يا ابن الخطاب يريد عمر ان من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض واعتقدوا الجميع واجبا وذلك تغيير للشرائع وهو حرام اجماعا
القسم الخامس البدع المباحة وهي ما تناولته ادلة الاباحة وقواعدها من الشريعة كاتخاذ المناخل للدقيق ففي الآثار اول شيء احدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
اتخاذ المناخل
لأن تليين العيش واصلاحه من المباحات فوسائله مباحة
فالبدعه اذا عرضت تعرض على قواعد الشرع وادلته فأي شيء تناولها من الادلة والقواعد الحقت به من ايجاب او تحريم او غيرهما
وإن نظر اليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة مع قطع النظر فيما يتقاضاها كرهت فان الخبر كله في الاتباع والشر كله في الابتداع
وذكر شيخه في قواعد في فصل البدع منها بعد ما قسم احكامها إلى الخمسة ان الطريق في معرفة ذلك ان تعرض البدعة على قواعد الشريعة فان دخلت في قواعد الايجاب فهي واجبة إلى ان قال وللبدع الواجبة امثلة احدها الاشتغال بالذي يفهم به كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك واجب لان حفظ الشريعة واجب
والثاني حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة(168/134)
والثالث تدوين اصول الفقه
والرابع الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم
ثم قال وللبدع المحرمة امثلة منها مذهب القدرية ومذهب الجبرية والمرجئة والمجسمة والرد على هؤلاء من البدع الواجبة
قال وللمندوب امثله منها احداث الربط والمدارس وبناء القناطر ومنها كل احسان لم يعهد في الصدر الاول ومنها الكلام في دقائق التصوف والكلام في الجدل ومنها جمع المحافل للاستدلال في المسائل ان قصد بذلك وجهه تعالى
قال وللكراهة امثلة منها زخرفة المساجد وتزويق المصاحف
واما تلحين القرآن بحيث تتغير الفاظه عن الوضع العربي فالاصح انه من البدع المحرمة
قال وللبدع المباحة امثله منها المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ومنها التوسع في اللذيذ من المأكل والمشرب والملابس والمساكن ولبس الطيالسة وتوسيع الاكمام
وقد اختلف في بعض ذلك فجعله بعض العلماء من البدع المكروهة وجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما بعده كالاستعاذة والبسملة في الصلاه
انتهى محصول ما قال
وهو يصرح مع ما قبله بأن البدع تنقسم باقسام الشريعه فلا يصح ان تحمل ادلة ذم البدع على العموم بل لها مخصصات
والجواب ان هذا التقسيم امر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة ان لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده اذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب او ندب او اباحة لما كان ثم بدعة ولكان العمل داخلا في عموم الاعمال المأمور بها او المخير فيها
فالجمع بين تلك الاشياء بدعا وبين كون الادلة تدل على وجوبها او ندبها او اباحتها جمع بين متنافيين(168/135)
اما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعا لا من جهة اخرى اذ لو دل دليل على منع امر او كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة لامكان ان يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة الا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه
فما ذكره القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على انكار البدع صحيح وما قسمه فيها غير صحيح
ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ومع معرفته بما يلزمه في خرق الاجماع
وكأنه انما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل
فإن ابن عبد السلام ظاهر منه انه سمى المصالح المرسلة بدعا بناء والله اعلم على انها لم تدخل اعيانها تحت النصوص المعينه
وان كانت تلائم قواعد الشرع
فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانها بتسميته لها بلفظ البدع وهو من حيث فقدان الدليل المعين على المسألة واستحسانها من حيث دخولها تحت القواعد
ولما بنى على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الاعمال الداخلة تحت النصوص المعينة
وصار من القائلين بالمصالح المرسلة وسماها بدعا في اللفظ كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة كما سيأتي ان شاء الله تعالى
اما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الاقسام على غير مراد شيخه ولا على مراد الناس لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفا للاجماع ثم نقول اما قسم الواجب فقد تقدم ما فيه آنفا فلا نعيده
واما قسم التحريم فليس فيه ما هو بدعة هكذا باطلاق بل ذلك كله مخالفة للأمر المشروع فلا يزيد على تحريم اكل المال بالباطل الا من جهة كونه موضوعا على وزن الاحكام الشرعية اللازمة كالزكوات المفروضة والنفقات المقدرة وسيأتي بيان ذلك في موضعه ان شاء الله تعالى وقد تقدم في الباب الال منه طرف
فاذا لا يصح ان يطلق القول في هذا القسم بأنه بدعة دون ان يقسم الامر في ذلك(168/136)
واما قسم المندوب فليس من البدع بحال وتبيين ذلك بالنظر في الامثله التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد فقد قام بها النبي صلى الله عليه وسلم
في المسجد واجتمع الناس خلفه
فخرج ابو داود عن ابي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسه لم يقم بنا فلما كانت الخامسه قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلنا يا رسول الل لو نفلتنا قيام هذه الليل قال فقال ان الرجل اذا صلى مع الامام حتى ينصرف حسب له قيام ليله قال فلما كانت الرابعه لم يقم فلما كانت الثالثه جمع اهله ونسائه والناس فقام بنا حتى خشينا ان يفوتنا الفلاح قال قلت وما الفلاح قال السجود ثم لم يقم بنا بقية الشهر ونحوه في الترمذي وقال فيه حسن صحيح
لكنه صلى الله عليه وسلم
لما خالف افتراضه على الامه امسك عن ذلك ففي الصحيح عن عائشه رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم
صلى في المسجد ذات ليله فصلى بصلاته ناس ثم صلى القابله فكثر الناس ثم اجتمعوا الليله الثالثه او الرابعة فلم يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم
فلما اصبح قال قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج الا اني خشيت ان يفرض عليكم وذلك في رمضان وخرجه مالك في الموطإ
فتأملوا ففي هذا الحديث ما يدل على كونه سنه فان قيامه اولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا لان زمانه كان زمان وحي وتشريع فيمكن ان يوحى اليه اذا عمل به الناس وبالالزام فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجع الامر إلى اصله وقد ثبت الجواز فلا ناسح له(168/137)
وانما لم يقم ذلك ابو بكر رضي الله عنه لاحد امرين اما لانه رأى ان قيام الناس آخر الليل وما هم به عليه كان افضل عنده من جمعهم على امام اول الليل ذكره الطرطوشي واما لضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في هذه الفروع مع شغله بأهل الرده وغير ذلك مما هو اوكد من صلاة التراويح
فلما تمهد الاسلام في زمن عمر رضي الله عنه ورأى الناس في المسجد اوزاعا كما جاء في الخبر قال لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان امثل فلما تم له ذلك نبه على ان قيامهم آخر الليل افضل ثم اتفق السلف على صحة ذلك واقراره والامه لا تجتمع على ضلاله
وقد نص الاصوليون ان الاجماع لا يكون الا عن دليل شرعي
فإن قيل فقد سماها عمر رضي الله عنه بدعه وحسنها بقوله نعمت البدعة هذه واذا ثبت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع فالجواب انما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم
واتفق ان لم تقع في زمان ابي بكر رضي الله عنه لا انها بدعه في المعنى فمن سماها بدعه بهذا الاعتبار فلا مشاحه في الاسامي وعند ذلك فلا يجوز ان يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه لانه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه فقد قالت عائشه رضي الله تعالى عنها ان كان رسول الله صلى الله علي وسلم ليدع العمل وهو يجب ان يعمل به خشية ان يعمل به الناس فيفرض عليهم
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن الوصال رحمة بالامه وقال اني لست كهيئتكم اني ابيت عند ربي يطعمني ويسقيني وواصل الناس بعده لعلمهم بوجه علة النهي حسبما يأتي ان شاء الله تعالى
وذكر القرافي مي جملة الأمثله اقامة صور الائمة والقضاة الخ ما قال وليس ذلك من قبيل البدع بسبيل اما اولا فإن التجمل بالنسبة إلى ذوي الهيئات والمناصب الرفيعة مطلوب وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم(168/138)
حلة يتجمل بها للوفود ومن العلة في ذلك ما قاله القرافي من ان ذلك اهيب واوقع في النفوس من تعظيم العظماء ومثله التجمل للقاء العظماء كما جاء في حديث اشج عبد الفيس واما ثانيا فان سلمنا ان لا دليل عليه بخصوصه فهو من قبيل المصالح المرسلة وقد مر انها ثابته في الشرع
وما قاله من ان عمر كان يأكل خبز الشعير ويفرض لعامل نصف شاة فليس فيه تفخيم صورة الامام ولا عدمه بل فرض له ما يحتاج اليه خاصة والا فنصف شاة لبعض العمال قد لا يكفيه لكثرة عيال وطروق ضيف وسائر ما يحتاج اليه من لباس وركوب وغيرهما فذلك قريب من اكل الشعير في المعنى وايضا فإن ما يرجع إلى المأكول والمشروب لا تجمل فيه بالنسبة إلى الظهور للناس
وقوله فكذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديمة وربما وجبت في بعض الاحوال مفتقر إلى التأمل ففيه على الجمله انه مناقض لقوله في آخر الفصل الخير كله في الاتباع والشر كله الابتداع مع ما ذكر قبله
فهذا كلام يقتضي ان الابتداع شر كله فلا يمكن ان يجتمع مع فرض الوجوب
وهو قد ذكر ان البدعة قد تجب واذا وجبت لزم العمل بها وهي لما فاتت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها الامر بها والامر بتركها ولا يمكن فيهما الانفكاك وان كانا من جهتين لان ا لوقوع يستلزم الاجتماع وليسا كالصلاة في الدار المغصوبة لان الانفكاك في الوقوع ممكن وها هنا اذا وجبت فانما تجب على الخصوص وقد فرض ان الشر فيها على الخصوص فلزم التناقض واما على التفصيل فان تجديد الزخارف فيه من الخطإ ما لا يخفى
واما السياسات فان كانت جارية على مقتضى الدليل الشرعي فليست ببدع وان خرجت عن ذلك فكيف يندب اليها وهي مسألة النزاع
وذكر في قسم المكروه اشياء هي من قبيل البدع في الجملة ولا كلام فيها او من قبيل ا لاحتياط على العبادات المحضة ان لا يزاد فيها ولا ينقص منها وذلك صحيح لان الزيادة فيها والنقصان منها بدع منكرة فحالاتها وذرائعها يحتاط بها في جانب النهي(168/139)
وذكر في قسم المباح مسألة المناخل وليست في الحقيقة من البدع بل هي من باب التنعم ولا يقال فيمن تنعم بمباح انه قد ابتدع وانما يرجع ذلك اذا اعتبر إلى جهة الاسراف في المأكول لان الاسراف كما يكون في جهة الكمية يكون في جهة الكيفية فالمناخل لا تعدو القسمين فإن كان الاسراف من ماله فإن كره والا اغتفر مع ان الاصل الجواز
ومما يحكيه اهل التذكير من الاثار ان اول ما احدث الناس اربعة اشياء المناخل والشبع وغسل اليدين بالاشنان بعد الطعام والاكل على الموائد وهذا كله ان ثبت نقلا ليس ببدعه وانما يرجع إلى امر آخر وان سلم انه بدعة فلا نسلم انها مباحة بل هي ضلالة ومنهى عنها ولكنا نقول بذلك
فصل
واما ما قاله عز الدين فالكلام فيه على ما تقدم فأمثلة الواجب منها من قبل مالا يتم الواجب الا به كما قال فلا يشترط ان يكون معمولا به في السلف ولا ان يكون له اصل في الشريعه على الخصوص لانه من باب المصالح المرسله لا البدع
اما هذا الثاني فقد تقدم واما الاول فلأنه لو كان ثم من يسير إلى فريضة الحج طيرانا في الهواء او مشيا على الماء لم يعد مبتدعا بمشيه كذلك لان المقصود انما هو التوصل إلى مكة لاداء الفرض وقد حصل على الكمال فكذلك هذا
على ان هذه اشياء قد ذمها بعض من تقدم من المصنفين في طريقة التصوف وعدها من جملة ما ابتدع الناس وذلك غير صحيح ويكفي في رده اجماع الناس قبله على خلاف ما قال(168/140)
على انه نقل عن القاسم بن مخيمره انه ذكرت عنده العربية فقال اولها كبر وآخرها بغى وحكى ان بعض السلف قال النحو يذهب الخشوع من القلب ومن اراد ان يزدري الناس كلهم فلينظر في النحو ونقل نحو من هذه وهذه كلها لا دليل فيها على الذم لانه لم يذم النحو من حيث هو بدعة بل من حيث ما يكتسب به امر زائد كما يذم سائر علماء السوء لا لأجل علومهم بل لاجل ما يحدث لهم بالعرض من الكبر به والعجب وغيرهما ولا يلزم من ذلك كون العلم بدعة فتسمية العلوم التي يكتسب بها امر مذموم بدعا اما على المجاز المحض من حيث لم يحتج اليها اولا ثم احتيج بع او من عدم المعرفه بموضوع البدعة اذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها الكبر والزهو وغيرهما ولا يعود ذلك عليها بذم
ومما حكى بعض هذه المتصوفة عن بعض علماء الخلف قال العلوم تسعة اربعه منها سنة معروفة من الصحابة والتابعين وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف فاما الاربعه المعروفة فعلم الايمان وعلم القرآن وعلم الاثار والفتاوي واما الخمسة المحدثة فالنحو والعروض وعلم المقاييس والجدل في الفقه وعلم المعقول بالنظر
وهذا ان صح نقله اولا كما قال فان اهل العربية يحكون عن ابي الاسود الدؤلي ان علي بن ابي طالب رضي الله عنه هو الذي اشار عليه بوضع شيء في النحو حين سمع اعرابيا قارئا ان الله برئ من المشركين ورسوله بالجر وقد روى عن ابن ابي مليكة ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه امر ان لا يقرأ القرآن الا عالم باللغة وامر ابا الاسود فوضع النحو والعروض من جنس النحو واذا كانت الاشارة من واحد من الخلفاء الراشدين صار النحو والنظر في الكلام العربي من سنة الخلفاء الراشدين وان سلم انه ليس كذلك فقاعدة المصالح تعم علوم العربيه أي تكون من قبيل المشروع فهي من جنس كتب المصحف وتدوين الشرائع وما ذكر عن القاسم بن مخيمرة قد رجع عنه(168/141)
قال احمد بن يحي ثعلبا قال كان احد الائمة في الدين يعيب النحو ويقول اول تعلمه شغل وآخره يزدري العالم به الناس فقرأ يوما إنما يخشى الله من عباده العلماء برفع الله ونصب العلماء فقيل له كفرت من حيث لا تعلم تجعل الله يخشى العلماء فقال لا طعنت عن علم يدل إلى معرفة هذا ابدا
قال عثمان بن سعيد الداني الامام الذي ذكره احمد بن يحي هو القاسم ابن مخيمرة قال وقد جرى لعبد الله بن ابي اسحاق مع محمد بن سيرين كلام وكان بن سيرين ينتقص النحويين فاجتمعا في جنازة فقرأ ابن سيرين انما يخشى الله من عباده العلماء برفع اسم الله فقال له ابن ابي اسحاق كفرت يا ابا بكر
تعيب على هؤلاء الذين يقيمون كتاب الله فقال ابن سيرين ان كنت اخطأت فأستغفر الله
واما علم المقاييس فأصله في السنه ثم في علم السلف بالقياس
ثم قد جاء في ذم القياس اشياء حملوها على القياس الفاسد فذلك من قبيل النظر في الادله
وقد كان السلف الصالح يجتمعون للنظر في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها للتعاون على استخراج الحق فهو من قبيل التعاون على البر والتقوى ومن قبيل المشاورة المأمور به فكلاهما مأمور به واما علم المعقول بالنظر فاصل ذلك في الكتاب والسنة لان الله تعالى احتج في القرآن على المخالفين لدينه بالادلة العقليه كقوله لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا وقوله هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء وقوله اروني ماذا خلقوا من الارض ام لهم شرك في السموات وحكى عن ابراهيم عليه السلام محاجته للكفار بقوله فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي الخ وفي الحديث حين ذكرت العدوى فمن اعدى الاول إلى غير ذلك من الادله
فكيف يقال انه من البدع
وقول عز الدين ان الرد على القدرية وكذا غيرهم من اهل البدع من البدع الواجبة غير جار على الطريق الواضح
ولو سلم فهو من المصالح المرسلة
واما امثلة البدع المحرمة فظاهرة
واما امثلة المندوبه(168/142)
فذكر منها احداث الربط والمدارس فإن عنى بالربط ما بنى من الحصون والقصور فقد قصدا للرباط فيها فلا شك ان ذلك مشروع بشرعية الرباط ولا بدعة فيه وان عنى بالربط ما بنى لالتزام سكناها قصد الانقطاع إلى العبادة لان احداث الربط التي شأنها ان تبنى تدينا للمنقطعين للعباده في زعم المحدثين ويوقف عليها اوقاف يجري منها إلى الملازمين لها ما يقوم بهم في معاشهم من طعام ولباس وغيرهما لا يخلو ان يكون لها اصل في الشريعة ام لا فان لم يكن اصل دخلت في الحكم تحت قاعدة البدع التي هي ضلالات فضلا عن ان تكون مباحة فضلا عن ان تكون مندوبا اليها وان كان لها اصل فليست ببدعة فإدخالها تحت جنس البدع غير صحيح
ثم ان كثيرا ممن تكلم على هذه المسألة من المصنفين في التصوف تعلقوا بالصفة التي كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
يجتمع فيها فقراء المهاجرين وهم الذين نزل فيهم ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجه الآية وقوله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى الآية فوصفهم الله بالتعبد والانقطاع إلى الله بدعائه قصدا لله خالصا فدل على انهم انقطعوا لعبادة الله بدعائه قصدا لله لا يشغلهم عن ذلك شاغل فنحن انما صنعنا صفة مثلها او تقاربهها يجتمع فيها من اراد الانقطاع إلى الله ويلتزم العباده ويتجرد عن الدنيا والشغل بها
وذلك كان شأن الاولياء ينقطعون عن الناس ويشتغلون بإصلاح بواطنهم
ويولون وجوههم شطر الحق فهم على سيرة من تقدم
وانما يسمى ذلك بدعة باعتبار ما بل هي سنه واهلها متبعون للسنه فهي طريقة خاصه لأناس
ولذلك لما قيل لبعضهم في كم تجب الزكاة قال على مذهبنا ام على مذهبكم ثم قال اما على مذهبنا فالكل لله
واما على مذهبكم فكذا وكذا او كما قال وهذا كله من الأمور التي جرت عند كثير من الناس هكذا غير محققه ولا منزله على الدليل الشرعي ولا على احوال الصحابة والتابعين(168/143)
ولا بد من بسط طرف من الكلام في هذه المسأله بحول الله حتى يتبين الحق فيها لما انصف ولم يغالط نفسه وبالله التوفيق
وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما هاجر إلى المدينة كانت الهجرة واجبة على كل مؤمن بالله ممن كان بمكه او غيرها
فكان منهم من احتال على نفسه فهاجر بماله او شيء منه فاستعان به لما قدم المدينة في حرفته التي كان يحترف من تجارة او غيرها كأبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه هاجر بجميع ماله وكان خمسة آلاف ومنهم من فر بنفسه ولم يقدر على استخلاص شيء من ماله فقدم المدينة صفر اليدين
وكان الغالب على اهل المدينة العمل في حوائطهم واموالهم بأنفسهم فلم يكن لغيرهم معهم كبير فضل في العمل
وكان من المهاجرين من اشركهم الانصار في اموالهم وهم الاكثرون بدليل قصة بني النضير فان ابن عباس رضي الله عنهما قال لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم
بني النضير قال للانصار ان شئتم قسمتها بين المهاجرين وتركتم نصيبكم فيها وخلى المهاجرون بينكم وبين دوركم واموالكم فإنهم عيال عليكم فقالوا نعم ففعل ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم
غير انه اعطى ابا دجانة وسهل بن حنيف وذكر انهم فقراء وقد قال المهاجرون ايضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
يا رسول الله ما رأينا قوما ابذل من كثير ولا احسن من مواساة من قليل من قوم نزلنا بين اظهرهم يعني الانصار لقد كفونا المؤنة واشركونا في المهنأ حتى لقد خفنا ان يذهبوا بالاجر كله
فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لا ما دعوتم الله لهم واثنيتم عليهم
ومنهم من كان يلتقط نوى التمر فيرضها ويبيعها علقا للإبل ويتقون من ذلك الوجه
ومنهم من لم يجد وجها يكتسب به لقوت ولا لسكنى فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم
في صفة كانت في مسجده وهي سقيفة كانت من جملته اليها ويأوون وفيها يقعدون اذ لم يجدوا مالا ولا اهلا وكان النبي صلى الله عليه وسلم(168/144)
يحض الناس على اعانتهم والاحسان اليهم وقد وصفهم ابو هريرة رضي الله تعالى عنه اذ كان من جملتهم وهو اعرف الناس بهم قال في الصحيح واهل الصفة اضياف الاسلام لا يأوون على اهل ولا مال ولا على احد اذا اتته يعني النبي صلى الله عليه وسلم
صدقة بعث بها اليهم ولا يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها فوصفهم بأنهم أضياف الإسلام وحكم لهم - كما ترى - بحكم الأضياف
وإنما وجبت الضيافة في الجملة لأن من نزل بالبادية لا يجد منزلا ولا طعاما لشراء إذ لم يكن لأهل الوبر أسواق ينال منها ما يحتاج إليه من طعام يشتري ولا خانات يأوى إليها فصار الضيف مضطرا وإن كان ذا مال فوجب على أهل الموضع ضيافته وإيواؤه حتى يرتحل فإن كان لا مال له فذلك أحرى
فكذلك أهل الصفة لما لم يجدوا منزلا آواهم النبي صلى الله عليه وسلم
إلى المسجد حتى يجدوا كما أنهم حين لم يجدوا ما يقوتهم ندب النبى صلى الله عليه وسلم
إلى إعانتهم
وفيهم نزل قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طبيات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض - إلى قوله - للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله الآية
فوصفهم الله تعالى بأوصاف منها أنهم أحصروا في سبيل الله أي منعوا وحبسوا حين قصدوا الجهاد مع نبيه صلى الله عليه ووسلم كأن العدو أحصرهم فلا يستطيعون ضربا في الأرض لا لاتخاذ المسكن ولا للمعاش كأن العدو قد أحاط بالمدينة فلا هم يقدرون على الجهد حتى يكسبوا من غنائمه ولا هم يتفرغون للتجارة أو غيرها لخوفهم من الكفار ولضعفهم في أول الأمر فلم يجدوا سبيلا للكسب أصلا
وقد قيل إن قوله تعالى لا يستطيعون ضربا في الأرض أنهم قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصاروا زمنى(168/145)
وفيهم أيضا نزل للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ألا ترى كيف قال أخرجوا ولم يقل خرجوا فإن قد كان يحتمل أن يخرجوا اختيارا فبان أنهم إنما خرجوا منها اضطرارا ولا وجدوا سبيلا ان لا يخرجوا لفعلوا
ففيه دليل على أن الخروج من المال اختيارا ليس بمقصود للشارع وهو الذي تدل عليه أدلة الشريعة
فلأجل ذلك بوأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
الصفة فكانوا في أثناء ذلك ما بين طالب للقرآن والسنة كأبى هريرة فإنه قصر نفسه على ذلك
الا ترى إلى قوله في الحديث وكنت ألزم رسول صلى الله عليه وسلم
على ملء بطنى فأشهد إذا غابوا وأحفظ إذا نسوا وكان منهم من يتفرغ إلى ذكر الله وعبادته وقراءة القرآن فإذا غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم
غزا معه وإذا أقام أقام معه حتى فتح الله على رسوله وعلى المؤمنين فصاروا إلى ما صار الناس إليه غيرهم ممن كان ذا أهل ومال وطلب للمعاش واتخاذ المسكن لأن العذر الذي حبسهم في الصفة قد زال فرجعوا إلى الأصل لما زال العارض
فالذي تحصل أن القعود في الصفة لم يكن مقصودا لنفسه ولا بناء الصفة للفقراء مقصودا بحيث يقال إن ذلك مندوب إليه لمن قدر عليه
ولا هي شرعية تطلب بحيث يقال إن ترك الاكتساب والخروج عن المال والانقطاع إلى الزوايا يشبه حالة أهل الصفة وهي الرتبة العليا لأنها تشبه بأهل صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذين وصفهم الله تعالى في القرآن بقوله ولا تطرد الذين يدعون ربهم - وقوله - ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغذاة والعشى الآية ) فإن ذلك لم يكن على ما زعم هؤلاء بكل كان على ما تقدم
والدليل من العمل ان المقصود بالصفة لم يدم ولم يثابر أهلها ولا غيرهم على البقاء فيها ولا عمرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم(168/146)
ولو كان من قصد الشارع ثبوت تلك الحالة لكانوا هم أحق بفهمها أولا ثم بإقامتها والمكث فيها عن كل شغل وأولى بتجديد معاهدها لكنهم لم يفعلوا ذلك ألبتة فالتشبيه بأهل الصفة إذا في إقامة ذلك المعنى واتخاذ الزوايا والربط لا يصح فليفهم الموفق هذا الموضع فإنه مزلة قدم لمن لم يأخذ دينه عن السلف الأقدمين والعلماء الراسخين
ولا يظن العاقل أن القعود عن الكسب ولزوم الربط مباح أو مندوب إليه أفضل من غيره إذ ليس ذلك بصحيح ولن يأتى آخر هذه الأمة باهدى ممن كان عليها أولها ولا كفى المسكين المغتر بعمل الشيوخ المتأخرين إلى صدور هذه الطائفة المتصفين بالصوفية لم يتخذوا رباطا ولا زاوية ولا بنوا بناء يضاهون به الصفة للاجتماع على التعبد والانقطاع عن أسباب الدنيا كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن ادهم والجنيد وإبراهيم الخواص والحارث المحاسبى والشبيلى وغيرهم ممن سابق في هذا الميدان وإنما محصول هؤلاء أنهم خالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وخالفوا السلف الصالح وخالفوا شيوخ الطريقة التي انتسبوا إليها ولا توفيق إلا بالله
وأما المدارس
فلم يتلق بها أمر تعبدى يقال في مثله بدعة إلا على فرض أن يكون من السنة أن لا يقرأ العلم إلا بالمساجد وهذا لا يوجد
بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان من مسجد أو منزل أو سفر أو حضر او غير ذلك
حتى في الأسواق فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعنى بإعدادها الطلبة فلا يزيد ذلك على إعدادها له منزلا من منازله أو حائطا من حوائطه أو غير ذلك فأين مدخل البدعة هاهنا
وإن قيل إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره والتخصيص هاهنا ليس بتخصيص تعبدى وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعين سائر الأمور المحبسة وتخصيصها ليس ببدعة
فكذلك ما نحن فيه بخلاف الربط فإنها خصت تشبيها بالصفة بهما للتعبد فصارت تعبدية بالقصد والعرف حتى إن ساكنيها مباينون لغيرهم في النحلة والمذهب والزي والاعتقاد
وكذلك ما ذكر من بناء القناطر(168/147)
فإنه راجع إلى إصلاح الطرق وإزالة المشقة عن سالكيها وله اصل في شعب الإيمان وهو إماطة الأذى عن الطريق فلا يصح أن يعد في البدع بحال
وقوله وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول فيه تفصيل
فلا يخلو الإحسان المفروض أن يفهم من الشريعة أنه مقيد بقيد تعبدى أولا
فإن كان مقيدا بالتعبد الذي لا يعقل معناه فلا يصح أن يعمل به إلا على ذلك الوجه
وإن كان غير مقيد في أصل التشريع بأمرى تعبدى فلا يقال إنه غير بدعة على أي وجه وقع إلا على أحد ثلاثة أوجه أحدها أن يخرج أصلا شرعيا مثل الإحسان المتبع بالمن والأذى والصدقة من المديان المضروب على يده وما أشبه ذلك ويكون إذ ذاك معصية
والثاني أن يلتزم على وجه لا يتعدى بحيث يفهم منه الجاهل أنه لا يجوز إلا على ذلك الوجه
فحينئذ يكون الالتزام المشار إليه البدعة بل بدعة مذمومة وضلالة وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله تعالى فلا تكون إذا مستحبة
والثالث أن يجرى على رأى من يرى المعقول المعنى وغيره بدعة مذمومة كمن كره تنخيل الدقيق في الصيغة فلا تكون عنده البدعة مباحة ولا مستحبة وصلاة التراويح تقدم الكلام عليها
وأما الكلام في دقائق التصوف
فليس ببدعة بإطلاق
ولا هو مما صح بالدليل بإطلاق بل الامر ينقسم
ولفظ التصوف لا بد من شرحه اولا حتى يقع الحكم على أمر مفهوم لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين
فلنرجع إلى ما قال فيه المتقدمون
وحاصل ما يرجع فيه لفظ التصوف عندهم معنيان أحدهما التخلق بكل خلق سنى والتجرد عن كل خلق دني والآخر أنه الفناء عن نفسه والبقاء لربه
وهما في التحقيق إلى معنى واحد إلا أن أحدهما يصلح التعبير به عن البداية والآخر يصلح التعبير به عن النهاية
وكلاهما اتصاف إلا أن الأول لا يلزمه الحال والثاني يلزمه الحال وقد يعبر فيهما بلفظ آخر فيكون الأول عملا تكليفيا والثاني نتيجته
ويكون الأول اتصاف الظاهر والثاني اتصاف الباطن ومجموعهما هو التصوف(168/148)
وإذا ثبت هذا فالتصوف بالمعنى الأول لا بدعة في الكلام فيه لأنه إنما يرجل إلى تفقه ينبنى عليه العمل وتفصيل آفاته وعوارضه وأوجه تلافى الفساد الواقع فيه بالإصلاح
وهو فقه صحيح
وأصوله في الكتاب والسنة ظاهرة فلا يقال في مثله بدعة إلا إذا أطلق على فروع الفقه التى لم يلف مثلها في السلف الصالح أنها بدعة كفروع أبواب السلم والإجارات والجراح ومسائل السهو والرجوع عن الشهادات وبيوع الآجال وما اشبه ذلك
وليس من شأن العلماء إطلاق لفظ البدعة على الفروع المستنبطة التى لمتكن فيما سلف وإن دقت مسائلها
فكذلك لا يطلق على دقائق فروع الأخلاق الظاهرة والباطنة أنها بدعة
لأن الجميع يرجع إلى أصول شرعية
وأما بالمعنى فهو على أضرب احدها يرجع إلى العوارض الطارئة على السالكين إذا دخل عليهم نور التوحيد الوجداني فيتكلم فيها بحسب الوقت والحال وما يحتاج إليه في النازلة الخاصة رجوعا إلى الشيخ المربى وما بين له في تحقيق مناطها بفراسته الصادقة في السالك بحسبه وبحسب العارض فيداويه بما يليق به من الوظائف الشرعية والأذكار الشرعية أو بإصلاح مقصده إن عرض فيه العارض فقلما يطرأ العامل بل العارض إلا عند الإخلال ببعض الأصول الشرعية التي بنى عليها في بدايته
فقد قالوا إنما حرموا الوصول بتضييعهم الأصول
فمثل هذا لا بدعة فيها لرجوعه إلى اصل شرعى ففي الصحيح من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم
جاءه ناس من أصحابه رضى الله عنهم فقالوا يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا الشىء يعظم أن نتكلم به أو الكلام به - ما نحب أن لنا وأنا تكلمنا به قال أوقد وجدتموه قالوا نعم قال ذلك صريح في الإيمان الحديث في صحيح مسلم(168/149)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن احدنا يجد في نفسه يعرض بالشىء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به قال الله أكبر الله أكبر الله أكبر الحمد لله الذى رد كيده إلى الوسوسة
وفي حديث آخر من وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله
وعن ابن عباس رضى الله عنهما في مثله إذا وجدت شيئا من ذلك فقل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم - إلى أشباه ذلك وهو صحيح مليح
والثاني يرجع إلى النظر في الكرامات وخوارق العادات وما يتعلق بها مما هو خارق في الحقيقة أو غير خارق وما هو منها يرجع إلى أمر نفسى أو شيطاني أو ما أشبه ذلك من أحكامها فهذا النظر ليس ببدعة كما أنه ليس ببدعة النظر في المعجزات وشروطها والفرق بين النبى والمتنبى وهو من علم الأصول فحكمه حكمه
والضرب الثالث ما يرجع إلى النظر في مدركات النفوس من العالم الغائب واحكام التجريد النفسى والعلوم المتعلقة بعالم الأرواح وذوات الملائكة والشياطين والنفوس الإنسانية والحيوانية وما اشبه ذلك وهو بلا شك بدعة مذمومة إن وقع كالنظر فيه والكلام عليه بقصد جعله علما ينظر فيه وفنا يشتغل بتحصيله بتعلم أو رياضة فإنه لم يعهد مثله في السلف الصالح وهو في الحقيقة نظر فلسفي إنما يشتغل باستجلابه والرياضة لاستفادته أهل الفلسفة الخارجون عن السنة المعدودون في الفرق الضالة فلا يكون الكلام فيه مباحا فضلا عن أن يكون مندوبا إليه
نعم قد يعرض للسالك فيتكلم فيه مع المربى حتى يخرجه عن طريقه ويبعد بينه وبين فريقه لما فيه من إمالة مقصد السالك إلى أن يعبد الله على حرف زيادة إلى الخروج عن الطريق المستقيم بتتبعه والالتفات إليه إذ الطريق مبنى على الإخلاص التام بالتوجه الصادق وتجريد التوحيد عن الالتفات إلى الأغيار وفتح باب الكلام في هذا الضرب مضاد لذلك كله(168/150)
والضرب الرابع يرجع إلى النظر في حقيقة الفناء من حيث الدخول فيه والاتصاف بأوصافه وقطع أطماع النفس عن كل جهة توصل إلى غير المطلوب وإن دقت فإن فإن أهواء النفوس تدق وتسرى مع السالك في المقامات فلا يقطعها إلا من حسم مادتها وبت طلاقها وهو باب الفناء المذكور
وهذا نوع من أنواع الفقه المتعلق بأهواء النفوس ولا يعد من البدع لدخوله تحت جنس الفقه لأنه وإن دق راجع إلى ما جل من الفقه ودقته وجلته إضافيان والحقيقة واحدة
وثم أقسام أخر جميعها إما يرجع إلى فقه شرعى حسن في الشرع وإما إلى ابتداع ليس بشرعى وهو قبيح في الشرع
وأما الجدل وجمع المحافل للاستدلال على المسائل فقد مر الكلام فيه
وأما أمثلة البدع المكروهة فعد منها زخرفة المساجد وتزويق المصاحف وتلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي فإن أراد مجرد الفعل من غير اقتران أمر آخر فغير مسلم وإن أردا مع اقتران أصل التشريع فصحيح ما قال إن البدعة لا تكون بدعة إلا مع اقتران هذا القصد فإن لم يقترن فهي منهى عنها غير بدع
وأما أمثلة البدع المباحة
فعد منها المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر أما إنها بدع فمسلم
وأما إنها مباحة فممنوع إذ لا دليل في الشرع يدل على تخصيص تلك الأوقات بها بل هي مكروهة إذ يخاف بدوامها إلحاقها بالصلوات المذكورة كما خاف مالك رحمه الله وصل ستة أيام من شوال برمضان لإمكان أن يعدها من رمضان وكذلك وقع
فقد قال القرافى قال الشيح زكى الدين عبد العظيم المحدث إن الذى خشى منه مالك رضى الله عنه قد وقع بالعجم فصاروا يتركون المسحرين على عاداتهم والبواقين وشعائر رمضان إلى آخر الستة الأيام فحينئذ يظهرون شعائر العيد - قال - وكذلك شاع عند عامة مصر أن الصبح ركعتان إلا في يوم الجمعة فإنه ثلاث ركعات لأجل أنهم يرون الإمام يواظب على قراءة سورة السجدة يوم الجمعة في صلاة الصبح ويسجد فيها فيعتقدون أن تلك ركعة أخرى واجبة قال وسد هذا الذرائع متعين في الدين(168/151)
وكان مالك رحمه الله شديد المبالغة في سد الذرائع
وعد ابن عبد السلام من البدع المباحة التوسع في الملذوذات وقد تقدم ما فيه
والحاصل من جميع ما ذكر فيه قد وضح منه أن البدع لا تنقسم إلى ذلك الانقسام بل هي من قبيل المنهى عنه إما كراهة وإما تحريما حسبما يأتى إن شاء الله تعالى
فصل
ومما يتعلق به بعض المتكلفين أن الصوفية هم المشهورون باتباع السنة المقتدون بأفعال السلف الصالح المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التام والفرار عما يخالف ذلك ولذلك جعلوا طريقتهم مبنية على أكل الحلال واتباع السنة والإخلاص وهذا هو الحق
ولكنهم في كثير من الأمور يستحسنون أشياء لم تأت في كتاب ولا سنة ولا عمل بأمثالها السلف الصالح فيعملون بمقتضاها ويثابرون عليها ويحكمونها طريقا لهم مهيعا وسنة لا تخلف بل ربما أوجبوها في بعض الأحوال فلولا أن في ذلك رخصة لم يصح لهم ما بنوا عليه
فمن ذلك أنهم يعتمدون في كثير من الأحكام على الكشف والمعاينة وخرق العادة فيحكمون بالحل والحرمة ويثبتون على ذلك الإقدام والإحجام كما يحكى عن المحاسبى أنه كان إذا تناول طعاما فيه شبهة ينبض له عرق في اصبعه فيمتنع منه
وقال الشيلى اعتقدت وقتا أن لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البراري فرأيت شجرة تين فمددت يدى إليها لآكل فنادتني الشجرة احفظ عليك عهدك لا تأكل منى فإنى ليهودى
وقال إبراهيم الخواص رحمه الله دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة بالليل فإذا فيها سبع عظيم فخفت
فهتف بي هاتف اثتب فإن حولك سبعون ألف ملك يحفظونك فمثل هذه الأشياء إذا عرضت على قواعد الشريعة ظهر عدم البناء عليها
إذ المكاشفة أو الهاتف المجهول أو تحرك بعض العروق لا يدل على التحليل ولا التحريم لإمكانه في نفسه وإلا لو حضر ذلك حاكم أو غيره لكان يجب عليه أو يندب البحث عنه حتى يستخرج من يد واضعه بين ايديهم إلى مستحقه(168/152)
ولو هتف هاتف بأن فلانا قتل المقتول الفلاني او أخذ مال فلان أو زنى أو سرق
أكان يجب عليه العمل بقوله أو يكون شاهدا في بعض الأحكام بل لو تكلمت شجرة أو حجر بذلك أكان يحكم لحاكم به أو يبنى عليه حكم شرعى هذا مما لا يعهد في الشرع مثله
ولذلك قال العلماء لو أن نبيا من الأنبياء ادعى الرسالة وقال إنني إن أدع هذه الشجرة فتكلمنى ثم دعاها فأتت وكلمته وقالت إنك كاذب لكان ذلك دليلا على صدقه لا دليلا على كذبه لأنه تحدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه
وكون الكلام تصديقا أو تكذيبا أمر خارج عن مقتضى الدعوى لا حكم له
فكذلك نقول في هذه المسألة إذا فرضنا أن انقباض العرق لازم لكون الطعام حراما لا يدل ذلك على أن الحكم بالإمساك عنه إذا لم يدل عليه دليل معتبر في الشرع معلوم
وكذلك مسألة الخواص
فإن التوقى من مظان المهلكات مشروع فخلافه يظهر أنه خلاف المشروع وهو معتاد في أهل هاته الطريقة
وكذلك كلام الشجرة للشبلى من جملة الخوارق وبناء الحكم عليه غير معهود
ومن ذلك أنهم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جملة حتى إن شيخهم الذي مهد لهم الطريقة أبا القاسم القشيرى قال في باب وصية المريدين من رسالته إن اختلف على المريد فتاوى الفقهاء يأخذ بالأحوط ويقصد أبدا الخروج عن الخلاف فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين واصحاب الحوائج والأشغال وهؤلاء الطائفة - يعنى الصوفية - ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه
ولهذا قيل إذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عقده ونقض عهده فيما بينه وبين الله
فهذا الكلام ظاهر في أنه ليس من شأنهم الترخص في مواطن الترخص المشروع وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
والسلف الصالح من الصحابة والتابعين
فالتزام العزائم مع وجود مضار الرخص التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه فيه ما فيه(168/153)
وظاهره أنه بدعة استحسنوها قمعا للنفس عن الاسترسال في الميل إلى الراحة وإيثارا إلى ما يبنى عليه من المجاهدة
ومن ذلك أن القشيرى جعل من جملة ما يبنى عليه من أراد الدخول في طريقهم الخروج عن المال فإن ذلك الذي يميل إليه به عن الحق ولم يوجد من يدخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا إلا جرته تلك لعلاقة عن قريب إلى ما منه خرج إلى آخر ما قال
وهو في غاية الإشكال مع ظواهر الشريعة لأنا نعرض ذلك على الحالة الأولى و هي حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع أصحابه الكرام إذ لم يأمر أحدا بالخروج عن ماله ولا أخر صاحب صنعة بالخروج عن صنعته ولا صاحب تجارة بالخروج عن ماله ولا صاحب تجارة بترك تجارته وهم كانوا أولياء الله حقا والطالبون لسلوك طريق الحق صدقا وإن سلك من بعدهم الف سنة لم يبلغ شأوهم ولم يبلغ هداهم
ثم إنه كما يكون المال شاغلا في الطريق عن بلوغ المراد فكذلك يكون فراغ اليد منه جملة شاغلا عنه
وليس الماضى أولى بالاعتبار من الآخر
فأنت ترى كيف جعل هذا النوع - الذي لم يوجد في السلف عهده - اصلا في سلوك الطريق
وهو - كما ترى - محدث فما ذلك إلا لأن الصوفية استحسنوه لأنه بلسان جميعهم ينطق
ومن ذلك أنهم يقولون إنه لا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريديدن لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى
وهذا الفقير العام يستنكر في الحكم الشرعى
الا ترى ما جاء في الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم
من قوله اقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم وذلك فيما لم يكن حدا من حدود الله فلو كان العفو غير صحيح لكان مخالفا لهذا الدليل ولما جاء من فضل العفو وأيضا فإن الله يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف(168/154)
ومن جملة الرفق شرعية التجاوز والإغضاء إذ العبد لا بد له من زلة وتقصير ولا معصوم إلا من عصمة الله من ذلك اخذهم على المريد أن يقلل من غذائه لكن بالتدريج شيئا بعد شىء لا مرة واحدة وأن يديم الجوع والصيام وأن يترك التزويج ما دام في سلوكه ويعد ذلك كله من مشكلات التشريع بل هو شبيه بالتبتل الذى رده رسول الله صلى الله عليه وسلم
على بعض أصحابه حتى قال من رغب عن سنتى فليس منى
وإذا تؤمل ما ذكروه في شأن التدريج في ترك الغذاء وجده غير معهود في الزمان الأول والقرن الأفضل والجواب أن نقول - أولا - كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن لا يخلوا إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة أم لا فإن كان له أصل فهم خلقاء به كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلقاء بذلك وإن لم يكن له أصل في الشريعة فلا عمل عليه لأن السنة حجة على جميع الأمة وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة لأن السنة معصومة عن الخطإ وصاحبها معصوم وسائر الأمة لم تثتب لهم عصمة إلا مع إجماعهم خاصة وإذا اجتمعوا تضمن إجماعهم دليلا شرعيا كما تقدم التنبيه عليه
فالصوفية كغيرهم ممن لم تثبت له العصمة فيجوز عليهم الخطأ والنسيان والمعصية كبيرتها وصغيرتها فأعمالهم لا تعدو الأمرين
ولذلك قال العلماء كل كلام مأخوذ أو متروك إلا ما كان من كلام النبى صلى الله عليه وسلم
وقد قرر ذلك القشيري أحسن تقرير فقال فإن قيل فهل يكون الولى معصوما حتى لا يصر على الذنوب قيل أما وجوبا كما يقال في الأنبياء فلا وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب - وإن حصلت منهم آفات أو زلات - فلا يمتنع ذلك في وصفهم
قال لقد قيل للجنيد أيزنى العارف فأطرق مليا ثم رفع رأسه وقال وكان أمر الله قدرا مقدورا(168/155)
فهذا كلام منصف فكما يجوز على غيرهم المعاصى فالابتداع وغيره كذلك يجوز عليهم فالواجب علينا أن نقف مع الاقتداء بمن يمتنع عليه الخطأ ونقف على الاقتداء بمن لا يمتنع عليه الخطأ إذا ظهر في الاقتداء به إشكال بل نعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة فما قبلاه قبلناه وما لم يقبلاه تركناه ولا علينا إذا قام لنا الدليل على اتباع الشرع ولم يقم لنا دليل على اتباع أقوال الصوفية وأعمالهم إلا بعد عرضها وبذلك وصى شيوخهم وإن كان ما جاء به صاحب الوجد والذوق من الأحوال والعلوم والفهوم فليعرض على الكتاب والسنة فإن قبلاه صح وإلا لم يصح
فكذلك ما رسموه من الأعمال وأوجه المجاهدات وأنواع الالتزامات
ثم نقول ثالثا - إن هذه المسائل وأشباهها قد صارت مع ظاهر الشريعة كالمتدافعة فيحمل كلام الصوفية وأعمالهم مثلا على أنها مستندة إلى دلائل شرعية إلا أنه عارضها في النقل ادلة أوضح منها في أفهام المتفقهين وأنظار المجتهدين وأجرى على المعهود في سائر أصناف العلماء وأنظر في ألفاظ الشارع مما ظنناه مستند القوم
وإذا تعارضت الأدلة ولم يظهر في بعضها نسخ فالواجب الترجيح وهو إجماع من الأصوليين أو كالإجماع وفي مذهب القوم العمل بالاحتياط هو الواجب كما أنه مذهب غيرهم فوجب بحسب الجريان على آرائهم في السلوك أن لا يعمل بما رسموه مما فيه معارضة لأدلة الشرع ونكون في ذلك متبعين لآثارهم مهتدين بأنوارهم خلافا لمن يعرض عن الأدلة ويصمم على تقليدهم فيما لا يصح تقليدهم فيه على مذهبهم فالأدلة والأنظار الفقهية والرسوم الصوفية ترده وتذمه وتحمد من تحرى واحتاط وتوقف عند الاشتباه واستبرأ لدينه وعرضه(168/156)
وبقى الكلام على اعيان ما ذكر في السؤال من اقوالهم وعوائدهم وما يتنزل منها على مقتضى الأدلة وكيف وجه تنزيلها لا حاجة لنا إليه في هذا الموضع وقد بسط الكلام على جملة منها في كتاب الموافقات وإن فسح الله في المدة وأعان بفضله بسطنا الكلام في هذا الباب في كتاب مذهب أهل التصوف وبيان ما أدخل فيه مما ليس بطريق لهم والله الموفق للصواب
وقد تبين أن لا دليل في شىء مما يحكم به على بدعتهم والحمد لله
الباب الرابع
في ماخذ أهل البدع بالاستدلال
كل خارج عن السنة ممن يدعى الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصات مسائلهم وإلا كذب اطراحها دعواهم بل كل مبتدع من هذه الأمة إما أن يدعى أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق فلا يمكنه الرجوع إلى التعلق بشبهها وإذا رجع إليها كان الواجب عليه أن يأخذ الاستدلال مأخذ أهله العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة ومقاصدها كما كان السلف الأول يأخذونها إلا أن هؤلاء - كما يتبين بعد - لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاق
إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها
وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية وإما لعدم الأمرين جميعا
فبالحرى أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من المحققين للأمرين
وإذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ لكي تحذر وتتقى فنقول قال الله سبحانه وتعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما اصل المشى على طريق الصواب أو على طريق الخطإ أحدهما الراسخون في العلم وهم الثابتو الاقدام في علم الشريعة(168/157)
ولما كان ذلك متعذرا إلا على من حصل الأمرين المتقدمين لم يكن بد من المعرفة بهما معا على حسب ما تعطيه المنة الإنسانية وإذا ذاك يطلق عليه انه راسخ في العلم ومقتضى الآية مدحه فهو إذا أهل للهداية والاستنباط وحين خص أهل الزيغ باتباع المتشابه دل التخصيص على أن الراسخين لا يتبعونه فإذا لا يتبعون إلا المحكم وهو أم الكتاب ومعظمه
فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح وما سواه فاسد
إذ ليس بين الصحيح والفاسد واسطة في الأدلة يستند إليها إذ لو كان ثالث لنصت عليه الآية
ثم لما خص الزائغون بكونهم يبعون المتشابه أيضا علم أن الراسخين لا يتبعونه فإن تأولوه فبالرد إلى المحكم بأن أمكن حمله على المحكم بمقتضى القواعد فهذا المتشابه الإضافى لا الحقيقى
وليس في الآية نص على حكمه بالنسبة إلى الراسخين فليرجع عندهم إلى المحكم الذي هو أم الكتاب وإن لم يتأولوه بناء على أنه متشابه حقيقى فيقابلونه بالتسليم وقولهم آمنا به كل من عند ربنا وهؤلاء هم أولوا الألباب
وكذلك ذكر في أهل الزيغ أنهم يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة
فهم يطلبون به أهواءهم لحصول الفتنة فليس في نظرهم إذا في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه بل نظر من حكم بالهوى ثم أتى بالدليل كالشاهد له ولم يذكر مثل ذلك في الراسخين فهم إذن بضد هؤلاء حيث وقفوا في المتشابه فلم يحكموا فيه ولا عليه سوى التسليم
وهذا المعنى خاص بمن طلب الحق من الأدلة لا يدخل فيه من طلب في الأدلة ما يصحح هواه السابق(168/158)
والقسم الثاني من ليس براسخ في العلم وهو الزائغ فحصل له من الآية وصفان أحدهما بالنص وهو الزيغ لقوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ والزيغ هو الميل عن الصراط المستقيم وهو ذم لهم والوصف الثاني بالمعنى الذى عطاه التقسيم وهو عدم الرسوخ في العلم وكل منفى عنه الرسوخ فإلى الجهل ما هو مائل ومن جهة الجهل حصل له الزيع لأن من نفى عنه طريق الاستنباط واتباع الأدلة لبعض الجهالات لم يحل له أن يتبع الأدلة المحكمة ولا المتشابهة ولو فرضنا أنه يتبع المحكم لم يكن اتباعه مفيدا لحكمه لإمكان أن يتبعه على وجه واضح البطلان أو متشابه
فما ظنك به إذا اتبع المتشابه
ثم اتباعه للمتشابه - ولو كان من جهة الاسترشاد به لا للفتنة به - لم يحصل به مقصود على حال
فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة وهكذا المحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به
فكثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصار بالنظر على دليل ما واطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره او المعارضة له
وكثير ممن يدعى العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض أو أعرض عن غرض له عرض في الفتيا كجواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنموا على طريقة من عزيز لا طريقة الشرع بناء على نقل بعض العلماء أنه يجوز تنفيل السرية جميع ما غنمت ثم عزا ذلك - وهو مالكي المذهب - إلى مالك حيث قال في كلام روى عنه ما نفل الإمام فهو جائز فأخذ هذه العبارة نصا على جواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنم ولم يلتفت في النفل إلى أن السرية هي القطعة من الجيش الداخل لبلاد العدو لتغير على العدو ثم ترجع إلى الجيش لا أن السرية هي الجيش بعينه(168/159)
ولا التفت أيضا إلى أن النفل عند مالك لا يكون إلا من الخمس لا اختلاف عنه في ذلك أعلمه ولا عن أحد من أصحابه فما نفل الإمام منه فهو جائز لأنه محمول على الاجتهاد وكذلك الأمر في كل مسألة فيها الهوى أولا ثم يطلبه لها المخرج من كلام العلماء أو من أدلة الشرع وكلام العرب أبدا لإتساعه وتصرفه واحتمالاتها كثيرة لكن يعلم الراسخون المراد منه من أوله إلى آخره وفحواه أو بساط حاله أو قرائنه
فمن لا يعتبره من أوله آخره ويعتبر ما ابتنى عليه زل في فهمه وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض فيوشك أن يزل
وليس هذا من شأن الراسخين وإنما هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه
فقد حصل من الآية المذكورة أن الزيغ لا يجرى على طريق الراسخ بغير حكم الاتفاق وأن الراسخ لا زيغ معه بالقصد البتة فصل
إذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر فنقول
إن الراسخين طريقا يسلكونها في اتباع الحق وأن الزائغين على طريق غير طريقهم فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها وقد بين ذلك أهل أصول الفقه وبسطوا القول فيه ولم يبسطوا القول في طريق الزائغين فهل يمكن حصر مآخذها أولا فنظرنا في آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين وهي قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فأفادة الآية أن طريق الحق واحدة وأن الباطل طرقا متعددة لا واحدة وتعددها لم يحص بعدد مخصوص وهكذا الحديث المفسر للآية وهو قول ابن مسعود رضى الله عنه خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطأ فقال هذا سبيل الله مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه ثم تلا هذه الآية(168/160)
ففى الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل ولا لنا ايضا سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء
أما العقل فإنه لا يقضى بعدد دون آخر لأنه غير راجع إلى أمر محصور الا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات ووجوه الجهل لا تنحصر فصار طلب حصرها عناء من غير فائدة
وأما الاستقراء فغير نافع أيضا في هذا المطلب لأنا لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت وجدناها تزداد على الأيام ولا يأتى زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث إلى زماننا هذا
وإذا كان كذلك فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا بها فيما تقدم
لا سيما عند كثرة الجهل وقلة العلم وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد فلا يمكن إذا حصرها من هذا الوجه ولا يقال إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق
فإن أوجه المخالفة لا تنحصر أيضا
فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء
لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها
فمنها اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم
والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها كحديث الاكتحال يوم عاشوراء وإكرام الديك الأبيض واكل الباذنجان بنية وأن النبى صلى الله عليه وسلم
تواجد واهتز عند السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه وما أشبه ذلك
فإن أمثال هذه الأحاديث - على ما هو معلوم - جاهل ومخطىء في نقل العلم فلم ينقل الأخذ بشىء منها عمن يعتد به في طريقه العلم ولا طريقة السلوك
وإنما أخذ بعض العلماء بالحديث الحسن لإلحاقه عند المحدثين بالصحيح لأن سنده ليس فيه من يعاب بجرحة متفق عليها وكذلك أخذ من أخذ منهم بالمرسل ليس إلا من حيث ألحق بالصحيح في أن المتروك ذكره كالمذكور والمعدل فأما ما دون ذلك فلا يؤخذ به بحال عند علماء الحديث(168/161)
ولو كان من شأن اهل الإسلام إذا يبين عنه الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل من جاء لم يكن لانتصابهم للتعديل والتجريح معنى مع أنهم قد أجمعوا على ذلك ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصل فلذلك جعلوا الإسناد من الدين ولا يعنون حدثنى فلان عن فلان مجردا بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين يحدث عنهم حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا متهم إلا عمن تحصل الثقة بروايته لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبى صلى الله عليه وسلم
لنعتمد عليه في الشريعة ونسند إليه الأحكام
والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبى صلى الله عليه وسلم
قالها فلا يمكن أن يسند إليها حكم فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب نعم الحامل على اعتمادها في الغالب إنما هو ما تقدم من الهوى المتبع وهذا كله على فرض أن لا يعارض الحديث أصل من اصول الشريعة وأما إذا كان له معارض فأحرى أن لا يؤخذ به هدم لأصل من اصول الشريعة والإجماع على منعه إذا كان صحيحا في الظاهر وذلك دليل على الوهم من بعض الرواة أو الغلط من بعض الرواة أو النسيان
فما الظن به إذا لم يصح على أنه قد روى عن أحمد بن حنبل أنه قال الحديث الضعيف خير من القياس
وظاهره يقتضى العمل بالحديث غير الصحيح لأنه قدمه على القياس المعمول به عند جمهور المسلمين بل هو إجماع السلف رضى الله عنهم
فدل على أنه عنده أعلى رتبة في العمل من القياس(168/162)
والجواب عن هذا أنه كلام مجتهد يحتمل اجتهاده الخطأ والصواب إذ ليس له على ذلك دليل يقطع العذر وإن سلم فيمكن حمله على خلاف ظاهره لإجماعهم على طرح الضعيف الإسناد فيجب تأويله على أن يكون اراد به الحسن السند وما دار به على القول بإعماله أو أراد خير من القياس لو كان مأخوذا به فكأنه يرد القياس بذلك الكلام مبالغة في معارضة من اعتمده أصلا حتى رد به الأحاديث وقد كان رحمه الله تعالى يميل إلى نفى القياس ولذلك قال ما زلنا نلعن أهل الرأى ويلعنونا حتى جاء الشافعى فخرج بيننا
أو اراد بالقياس القياس الفاسد الذي لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا إجماع ففضل عليه الحديث الضعيف وإن لم يعمل به
وأيضا فإذا أمكن أن يحمل كلام أحمد على ما يسوغ لم يصح الاعتماد عليه في معارضة كلام الأئمة رضى الله تعالى عنهم فإن قيل هذا كله رد على الأئمة الذين اعتمدوا على الأحاديث التى لم تبلغ درجة الصحيح فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد كذلك نصوا أيضا على أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للاعتماد صحة الاسناد بل إن كان ذلك فبها ونعمت وإلا فلا حرج على من نقلها واستند إليها فقد فعله الأئمة ك مالك في الموطأ وابن المبارك في رقائقه وأحمد بن حنبل في رقائقه وسفيان في جامع الخير وغيرهم
فكل ما في هذا النوع من المنقولات راجع إلى الترغيب والترهيب وإذا جاز اعتماد مثله جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه كصلاة الرغائب والمعراج وليلة النصف من شعبان وليلة أول جمعة من رجب وصلاة الإيمان والأسبوع وصلاة بر الوالدين ويوم عاشوراء وصيام رجب والسابع والعشرين منه وما أشبه ذلك فإن جميعها راجع إلى الترغيب في العمل الصالح فالصلاة على الجملة ثابت أصلها وكذلك الصيام وقيام الليل كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص
وإذا تبث هذا فكل ما نقلت فضيلته في الأحاديث فهو من باب الترغيب فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد بخلاف الأحكام(168/163)
فإذا هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين لا من طريق الذين في قلوبهم زيغ حيث فرقوا بين أحاديث الاحكام فاشترطوا فيها الصحة وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك
فالجواب أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة وبيانه ان العمل المتكلم فيه إما أن يكون منصوصا على اصله جملة وتفصيلا أو لا يكون منصوصا عليه لا جملة ولا تفصيلا أو يكون منصوصا عليه جملة لا تفصيلا فالأول - لا إشكال في صحته كالصلوات المفروضات والنوافل المرتبة لأسباب وغيرها وكالصيام المفروض أو المندوب على الوجه المعروف إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان كصيام عاشوراء أو يوم عرفة والوتر بعد نوافل الليل وصلاة الكسوف
فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحا على ما شرطوا فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغيب فيها او تحذير من ترك الفرض منها وليست بالغة مبلغ الصحة ولا هي أيضا من الضعف بحيث لا يقبلها أحد أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها فلا بأس بذكرها والتحذير بها والترغيب بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح
والثاني ظاهر أنه غير صحيح وهو عين البدعة
لأنه لا يرجع إلا لمجرد الرأى المبنى على الهوى وهو أبدع البدع وافحشها كالرهبانية المنفية عن الإسلام والخصاء لمن خشى العنت والتعبد بالقيام في الشمس أو بالصمت من غير كلام أحد
فالترغيب في مثل هذا لا يصح إذ لا يوجد في الشرع ولا اصل له يرغب في مثله أو يحذر من مخالفته
والثالث ربما يتوهم أنه كالأول من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة فيسهل في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة
فمطلق التنفل بالصلاة مشروع فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من شعبان فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة(168/164)
وكذلك إذا ثبت اصل صيام ثبت صيام السابع والعشرين من رجب وما اشبه ذلك وليس كما توهموا لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم إثباته في التفصيل فإذا ثبت مطلق الصلاة لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص
وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أوغير ذلك حتى يثبت بالتفصيل بدليل صحيح
ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح
وليس فيما ذكر في السؤال شىء من ذلك إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلى والنهاري في الجملة وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة يقرأ في كل ركعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة
ومثله صيام اليوم الفلاني من الشهر الفلانى حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص ليس في شىء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام
والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه على الخصوص كما ثبت لعاشوراء مثلا أو لعرفة أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام فإنه ثبت له مزية على الصيام في مطلق الأيام
فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية الصلاة النافلة لأن مطلق المشروعية يقتضى أن الحسنة بعشر أمثالها - إلى سبعمائة ضعف في الجملة
وصيام يوم عاشوراء يقتضى أنه يكفر السنة التي قبله فهو أمر زائد على مطلق المشروعية ومساقه يفيد له مزية في الرتبة وذلك راجع إلى الحكم
فإذا هذا الترغيب الخاص يقتضى مرتبة في نوع من المندوب خاصة فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة بناء على قولهم إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لا بد فيها من الزيادة على المشروعات كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما(168/165)
فيلزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح وهو ناقض إلى ما اسسه العلماء ولا يقال إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط
لأنا نقول هذا تحكم من غير دليل بل الأحكام خمسة
فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت في احاديث الترغيب والترهيب ولا عليك
فعلى كل تقدير كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح فالترغيب بغير الصحيح مغتفر
وإن لم يثبت إلا من حديث الترغيب فاشترط الصحة ابدا وإلا خرجت عن طريق القوم المعدودين في أهل الرسوخ
فلقد غلط في هذا المكان جماعة ممن ينسب إلى الفقه ويتخصص عن العوام بدعوى رتبة الخواص
وأصل هذا الغلط عدم فهم كلام المحدثين في الموضعين وبالله التوفيق
فصل
ومنها ضد هذا
وهو ردهم للأحاديث التى جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ويدعون أنها مخالفة للمعقول وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله عز وجل في الآخرة
وكذلك حديث الذباب وقتله وان في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وأنه يقدم الذي فيه الداء
وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمر النبى صلى الله عليه وسلم
بسقيه العسل وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول
ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضى الله تعالى عنهم - وحاشاهم - وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم
كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها
كما روى عن أبى بكر بن محمد أنه قال قال عمرو بن عبيد لا يعفى عن اللص دون السلطان قال فحدثته بحديث صفوان ابن أميه عن النبى صلى الله عليه وسلم
حيث قال فهلا قبل ان تأتينى به قال أتحلف بالله أن النبى صلى الله عليه قاله قلت أفتحلف أنت بالله أن النبى صلى الله عليه وسلم(168/166)
لم يقله فحدثت بن ابن عون - قال - فلما عظمت الحلقة قال يا أبا بكر حدث
وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل
وقد سئل بعضهم هل يكفر من قال بروية البارى في الآخرة فقال لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر
وذهبت طائفة إلى نفى أخبار الآحاد جملة والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن حتى أباحوا الخمر بقوله ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية
ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت أو نهينت عنه فيقول لا ادرى ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وهذا وعيد شديد تضمنه النهى لا حق بمن ارتكب رد السنة
ولما ردوها بتحكم العقول كان الكلام معهم راجعا إلى أصل التحسين والتقبيح وهو مذكور في الأصول وسيأتى له بيان إن شاء الله
وقال عمر بن النضر سئل عمرو بن عبيد يوما عن شىء - وأنا عنده - فأجاب فيه
فقلت له ليس هكذا يقول أصحابنا قال ومن أصحابك لا أبا لك قلت أيوب ويونس وابن عون والتيمى
قال اولئك أنجاس أرجال أموات غير أحياء
وقال ابن علية حدثنى اليسع
قال تكلم واصل يعنى ابن عطاء يوما - قال - فقال عمرو بن عبيد ألا تسمعون ما كلام الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة
وكان واصل بن عطاء أول من تكلم في الاعتزال فدخل معه في ذلك عمرو بن عبيد فأعجب به فزوجه أخته
وقال لها زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة
ثم تجاوزوا الحد حتى ردوا القرآن بالتلويح والتصريح لرايهم السوء
فحكى عمرو بن على أنه سمع ممن يثق به أنه قال كنت عند عمرو بن عبيد - وهو جالس على دكان عثمان الطويل - فأتاه رجل فقال يا أبا عثمان ما سمعت من الحسن يقول في قوله الله عز وجل قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم قال تريد أخبرك برأى حسن
قال لا أريد إلا ما سمعت من الحسن(168/167)
قال سمعت الحسن يقول كتب الله على قوم القتل فلا يموتون إلا قتلا وكتب على قوم الهدم فلا يموتون إلا هدما وكتب على قوم الغرق فلا يموتون إلا غرقا وكتب على قوم الحريق فلا يموتون إلا حرقا
فقال له عثمان الطويل يا ابا عثمان ليس هذا قولنا قال عمرو قد قلت أريد أن أخبرك براي الحسن فأنا أكذب على الحسن
وعن الأثرم عن أحمد بن حنبل قال حدثنا معاذ
قال كنت عند عمرو ابن عبيد فجاءه عثمان بن فلان
فقال يا ابا عثمان سمعت - والله - بالكفر
قال ما هو
لا تعجل بالكفر
قال هاشم الأوقص زعم أن تبت يدا أبى لهب وقوله تعالى ذرنى ومن خلقت وحيدا لم يكن هذا في أم الكتاب والله تعالى يقول حم إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في ام الكتاب لدينا لعلى حكيم فما الكفر إلا هذا
فسكت ساعة ثم تكلم
والمسئلة الرابعة
أن نقول مما يسأل عنه قوله تعالى يا ايها النبى لم تحرم ما أحل الله لك الآية
فإن فيها إخبارا بأنه عليه لاصلاة والسلام حرم على نفسه ما أحله الله وقد يدل عليه لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا
ومثل هذا يجل مقام النبى صلى الله عليه وسلم
عن مقتضى الظاهر فيه وان يكون منهيا عنه ابتداء ثم يأتيه حتى يقال له فيه لم تفعل فلا بد من النظر في هذه المصارف
والجواب أن آية التحريم إن كانت هي السابقة على آية العقود فظاهر أنها مختصة بالنبى صلى الله عليه وسلم
إذ لو أريد الأمة - على قول من قال من الأصوليين - لقال لم تحرمومن ما أحل الله لكم كما قال يا ايها النبى إذا طلقتم النساء الآية
وهو بين لأن سورة التحريم قبل آية الأحزاب ولذلك لما آلى النبى صلى الله عليه وسلم
من نسائه شهرا بسبب هذه القصة نزل عليه في سورة الأحزاب يا أيها النبى قل لإزواجك إن كنتن الخ
وأيضا فيحتمل التحريم بمعنى الحلف على أن لا يفعل والحلف إذا وقع فصاحبه مخير بين أن يترك المحلوف عليه وبين أن يفعله ويكفر(168/168)
وقد جاء في آية التحريم قد فرض الله لكم تحلة إيمانكم فدل على أنه كان يمينا حلف صلى الله عليه وسلم
بها
وذلك أن النساء اختلفوا في هذا كالتحريم فقال جماعة إن كان تحريما لأم ولده مارية القبطية
بناء على أن الآية نزلت في شأنها وممن قال به الحسن وقتادة والشعبى ونافع مولى ابن عمر او كان تحريما لعسل زينب وهو قول عطاء وعبد الله بن عتبة وقال جماعة إنما كان تحريما بيمين
فقال والله لو كان الأمر كما تقول ما كان على أبى لهب من لوم ولا كان على الوحيد من لوم
قال عثمان - في مجلسه - هذا والله الدين - قال معاذ - ثم قال في آخره فذكرته لوكيع فقال يستتاب قائلها فإن تاب وإلا ضربت عنقه
ومثل هذا محكى لكن عن بعض المرموقين من ائمة الحديث فروى عن على بن المدينى عن المومل عن الحسن بن وهب الجمحى قال الذي كان بينى وبين فلان خاص فانطلق بأهله إلى بئر ميمون فأرسل إلى أن ائتنى فأتيته عشية فبت عنده
قال فهو في فسطاط وأنا في فسطاط آخر فجعلت أسمع صوته الليل كله كأنه دوى النحل
قال فلما أصبحنا جاء بغدائه فتغدينا قال وذكر ما بينى وبينه من الإخاء والحق
قال فقال لي أدعوك إلى رأى الحسن
قال وفتح لى شيئا من القدر
قال فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حتى لقى الله
قال فأنا يوما خارج من الطريق في الطواف وهو داخل أو أنا داخل وهو خارج فأخذ بيدى فقال يا أبا عمر حتى متى حتى متى
قال فلم أكلمه فقال مالى أرأيت لو أن رجلا قال تبت يدا أبى لهب ليست من القرآن ما كنت تقوله له قال فتنزعت يدى من يده
قال على قال مؤمل فحدثت به سفيان بن عيينة
فقال لى كنت أرى بلغ هذا كله
قال على وسمعته أنا وأحمد بن
قال حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه فقال ما أحوج صاحب هذا الرأى إلى أن يقتل فانظروا إلى تجاسرهم على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم(168/169)
كل ذلك ترجيح لمذاهبهم على محض الحق وأقربهم إلى هيبة الشريعة من يتطلب بها المخرج فيتأول لها الواضحات ويتبع المتشابهات وسيأتى
والجميع داخلون تحت ذمها
وربما احتج طائفة من نابتة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن وقد ذم الظن في القرآن كقوله تعالى إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقال إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا وما جاء في معناه حتى أحلوا أشاء ما حرمها الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم
وليس تحريمها في القرآن نصا وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا
والظن المراد في الآية وفي الحديث أيضا غير ما زعموا وقد وجدنا له محال ثلاثة أحدها الظن في أصول الدين فإنه لا يغنى عند العلماء لاحتماله النقيض عند الظان بخلاف الظن في الفروع فإنه معمول به عند أهل الشريعة للدليل الدال على إعماله فكان الظن مذموما إلا ما تعلق منه بالفروع وهذا صحيح ذكره العلماء في الموضع
والثاني أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح ولاشك أنه مذموم هنا لأنه من التحكم ولذلك اتبع في الآية بهوى النفس في قوله إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس فكأنهم مالوا إلى امر بمجرد الغرض والهوى ولذلك أثبت ذمه بخلاف الظن الذي أثاره دليل فإنه غير مذموم في الجملة لأنه خارج عن اتباع الهوى ولذلك أثبت وعمل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله كالفروع فإن قيل فقد تقدم من نقل ابن العربى في الرهبانية أنها السياحة واتخاذ الصوامع للعزلة - قال - وذلك مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان
وقد بسط الغزالى هذا الفصل في الإحياء عند ذكر العزلة
وذكر في كتاب آداب النكاح من ذلك ما فيه كفاية
وحاصله أن ذلك مشروع بل هو الأولى عند عروض العوارض وعندما يصير النكاح ومخالطة الناس وبالا على الإنسان وموديا إلى اكتساب الحرام والدخول فيما لا يجوز كما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم(168/170)
يوشك ان يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن وسائر ما جاء في هذا المعنى
وأيضا فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم
واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا والتبتل - على ما قاله زيد بن اسلم - رفض الدنيا من قولهم بتلت الحبل بتلا إذا قطعته ومعناه القطع من كل شىء إلا منه
وقال الحسن وغيره بتل إليه نفسك واجتهد
وقال ابن زيد تفرغ لعبادته هذا إلى ما جاء عن السلف الصالح من الانقطاع إلىعبادة الله ورفض أسباب الدنيا
والتخلى عن والحواضر إلى البوادي واتخاذ الخلوات في الجبال والبرارى حتى إن بعض الجبال الشامية قد خصها الله بالأولياء والمنقطعين إلى لبنان ونحوه فما وجه ذلك
فالجواب أن الرهبانية إن كانت بالمعنى المقرر في شرائع الأول فال نسلم أنها في شرعنا لما تقدم من الأدلة على نسخها كانت لعارض او لغير عارض إذ لا رهبانية في الإسلام وقد رد صلى الله عليه وسلم
التبتل حسبما تقدم
وإن كانت بمعنى الانقطاع إلى الله حسبما شرع وعلى حد ما انقطع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو المخاطب بقوله وتبتل إليه تبتيلا فهذا هو الذى والثالث أن الظن على ضربين ظن يستند إلى اصل قطعى وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت لأنها استندت إلى أصل معلوم فهي من قبيل المعلوم جنسه وظن لا يستند إلى قطعى بل إما مستند إلى غير شىء أصلا وهو مذموم - كما تقدم - وإما مستند إلى ظن مثله فذلك الظن إن استند أيضا إلى قطعى فكالأول أو إلى ظنى رجعنا إليه فلا بد أن يستند إلى قطعى وهو محمود أو إلى غير شيء وهو مذموم فعلى كل تقدير خبر واحد صح سنده فلا بد من استناده إلى اصل في الشريعة قطعى فيجب قبوله ومن هنا قبلناه مطلقا كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شىء فلا بد من ردها وعدم اعتبارها وهذا الجواب الأخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتاب الموافقات والحمد لله(168/171)
ولقد بالغ بعض الضالين في رد الأحاديث ورد قول من اعتمد على ما فيها حتى عدوا القول به مخالفا للعقل والقائل به معدود في المجانين
فحكى أبو بكر بن العربى عن بعض من لقى بالمشرق من المنكرين للرؤية أنه قيل له هل يكفر من يقول بإثبات رؤية البارى أم لا فقال لا لأنه قال بما لا يعقل ومن قال بما لا يقعل لا يكفر
قال ابن العربى فهذه منزلتنا عندهم فليعتبر الموفق فيما يؤدى إليه اتباع الهوى أعاذنا الله من ذلك بفضله
وزل بعض المرموقين في زماننا في هذا المسألة فزعم أن خبر الواحد كله زعم وهو ما حكى في الأثر بئس مطية الرجل زعموا والأثر الآخر إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وهذه من كلام هذا المتأخر وهلة عفا الله عنه
فصل
ومنها تخرصهم علىالكلام في القرآن والسنة العربيين مع العزوف عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ويدينون به ويخالفون الراسخين في العلم وإنما دخلوا في ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط وليسوا كذلك كما حكى عن بعضهم أنه سئل عن قول الله تعالى ريح فيها صر فقال هو هذا الصرصر يعنى صرار الليل
وعن النظام أنه كان يقول إذا آلى المرء بغير اسم الله لم يكن موليا
قال لأن الإيلاء مشتق من اسم الله وقال بعضهم في قول الله تعالى وعصى آدم ربه فغوى لكثرة أكله من الشجرة يذهبون إلى قول العرب غوى الفصيل إذا أكثر من اللبن حتى بشم ولا يقال فيه غوى وإنما غوى من الغى وفي قوله سبحانه ولقد ذرأنا لجهنم أي القينا فيها كأنه عندهم من قول العرب ذرته الريح وذلك لا يجوز لأن ذرأنا مهموز وذرته غير مهموز وكذلك إذا كان من أذرته الدابة عن ظهرها لعدم الهمزة
ولكنه رباعى وذرأنا ثلاثى
وحكى ابن قتبة عن بشر المريسى أنه كان يقول لجلسائه قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهيئها فسمع قاسم التمار قوما يضحكون فقال هذا كما قال الشاعر
إن سليمى والله يكلوها(168/172)
ضنت بشىء ما كان يرزؤها
وبشر المريسى رأس في الرأى وقاسم التمار رأس في علم الكلام
قال ابن قتيبة واحتجاجه ببشر أعجب من لحن بشر
واستدل بعضهم تحليل شحم الخنزير بقول الله تعالى ولحم الخنزير فاقتصر على تحريم اللحم دون غيره فدل على أنه حلال
وربما سلم بعض العلماء ما قالوا وزعم أن الشحم إنما حرم بالإجماع
والأمر أيسر من ذلك فإن اللحم يطلق على الشحم وغيره حقيقة حتى إذا خص بالذكر قيل شحم كما يقال عرق وعصب وجلد
ولو كان على ما قالوا لزم أن لا يكون العرق والعصب ولا الجلد ولا المخ ولا النخاع ولا غير ذلك مما خص بالاسم - محرما
وهو خروج عن القول بتحريم الخنزير
ويمكن ان يكون من خفى هذا الباب مذهب الخوارج في زعمهم أن لا تحكيم
استدلالا بقوله تعالى إن الحكم إلا لله فإنه مبنى على أن اللفظ ورد بصيغة العموم فلا يلحقه تخصيص فلذلك أعرضوا عن قول الله تعالى فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وقوله يحكم به ذوا عدل منكم وإلا فلو علموا تحقيقا قاعدة العرب في ان العموم لم يرد به الخصوص لم يسرعوا إلى الانكار ولقالوا في أنفسهم هل هذا العام مخصوص فيتأولون وفي الموضع وجه آخر مذكور في موضع غير هذا وكثيرا ما يوقع الجهل بكلام العرب في مجاز لا يرضى بها عاقل أعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله
فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها وتسقط مكالمة أهلها ولا يعد خلاف أمثالهم وما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الاصولية فهو عين البدعة إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى
فحق ما حكى عن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه حيث قال إنما هذا القرآن كلام فضعوه مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم
أي فضعوه على مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى
وعنه أيضا(168/173)
إنما أخاف عليكم رجلين - رجل تأول القرآن على غير تأويله ورجل ينفس المال على أخيه وعن الحسن رضى الله تعالى عنه أنه قيل له أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه قال نعم
فليتعلمها فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهها فيهلك
وعنه أيضا قال أهلكتكم العجمة تتأولون القرآن على غير تأويله
فصل
ومنها انحرافهم عن الاصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف
وطلب الأخذ بها تأويلا - كما أخبر الله تعالى في كتابه - إشارة إلى النصارى في قولهم بالثالوثى - بقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه
ويشترط في ذلك أن لا يعارضه اصل قطعى
فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك أو عارضه قطعى كظهور تشبيه فليس بدليل لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهرا في نفسه ودالا على غيره وإلا احتيج إلى دليل فإن دل الدليل على عدم صحته فأحرى أن لا يكون دليلا
ولا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملا فهي في محل التوقف وإن اقتضت عملا فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم
ويتناول الجزئيات حتى إلى الكليات
فمن عكس الأمر حاول شططا ودخل في حكم الذم لأن متبع الشبهات مذموم
فكيف يعتد بالمتشابهات دليلا أو بينى عليها حكم من الأحكام وإذا لم تكن دليلا في نفس الأمر فجعلها بدعة محدثة هو الحق
ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب - المنزه عن النقائص - من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات
ومن الأمثلة ايضا أن جماعة زعموا أن القرآن مخلوق تعلقا بالمتشابه والمتشابه الذى تعلقوا به على وجهين عقلى - في زعمهم - وسمعى(168/174)
فالعقلى أن صفة الكلام من جملة الصفات وذات الله عندهم بريئة من التركيب جملة وإثبات صفات الذات قول بتركيب الذات وهو محال لأنه واحد على الإطلاق فلا يمكن أن يكون متكلما بكلام قائم به كما لا يكون قادرا بقدرة قائمة به أوعالما بعلم قائم به - إلى سائر الصفات
وأيضا فالكلام لا يعقل إلا بأصوات وحروف وكل ذلك من صفات المحدثات والبارى تنزه عنها وبعد هذا الأصل يرجعون إلى تأويل قوله سبحانه وكلم الله موسى تكليما وأشباهه
وأما السمعى فنحو قوله تعالى الله خالق كل شىء والقرآن إما أن يكون شيئا أو لا شىء ولا شىء عدم والقرآن ثابت هذا خلف
وإن كان شيئا فقد شملته الآية فهو إذا مخلوق
وبهذا استدل المريسى على عبد العزيز المكى رحمه الله تعالى
وهاتان الشبهتان أخذ في التعلق بالمتشابهات
فإنهم قاسوا البارى على البرية ولم يعقلوا ما وراء ذلك فتركوا معانى الخطاب وقاعدة العقول
أما تركهم للقاعدة فلم ينظروا في قوله تعالى ليس كمثله شىء وهذه الآية نقلية عقلية لأن المشابه للمخلوق في وجه ما مخلوق مثله
إذ ما وجب للشىء وجب لمثله
فكما تكون الآية دليلا على نفى الشبه تكون دليلا لهولاء لأنهم عاملوه في التنزيه معاملة المخلوق حيث توهموا أن اتصاف ذاته بالصفات يقتضى التركيب
وأما تركهم لمعانى الخطاب فإن العرب لا تفهم من قوله السميع البصير و السميع العليم أو القدير وما أشبه ذلك - إلا من له سمع وبصر وعلم وقدرة اتصف بها فإخراجها عن حقائق معانيها التى نزل القرآن بها خروج عن أم الكتاب إلى اتباع ما تشابه منه من غير حاجة
وحيث ردوا هذه الصفات إلى الأحوال التي هي العالمية والقادرية فما الزموه في العلم والقدرة لازم لهم في العالمية والقادرية لأنها إما موجودة فيلزم التركيب أو معدومة والعدم نفى محض
وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف
فبناء على عدم النظر في الكلام النفسي وهو مذكور في الأصول(168/175)
وأما الشبهة السمعية فكأنها عندهم بالتبع لأن العقول عندهم هى العمدة المعتمدة ولكنهم يلزمهم بذلك الدليل مثل ما مر والله لأن قوله تعالى الله خالق كل شىء إما أن يكون على عمومه لا يتخلف عنه شىء اول ا
فإن كان على عمومه فتخصيصه إما بغير دليل - وهو التحكم - وإما بدليل فأبرزوه حتى ننظر فيه
ويلزم مثله في الإرادة إن ردوا الكلام إليها وكذلك غيرها من الصفات إن أقروا بها أو الأحوال إن أنكروها وهذا الكلام معهم بحسب الوقت
والذي يليق بالمسألة أنواع أخر من الأدلة التي تقتضى كون هذا المذهب بدعة لا يلائم قواعد الشريعة
ومن أغرب ما يوضع ههنا ما حكاه المسعودى وذكره الآجرى - في كتاب الشريعة - بأبسط مما ذكره المسعودى
واللفظ هنا للمسعودى مع إصلاح بعض الألفاظ
قال ذكر صالح بن على الهاشمى قال حضرت يوما من الايام جلوس المهتدى للمظالم فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته فأقبلت أرمقه ببصرى إذا نظر في القصص فإذا رفع طرفه إلى اطرقت فكأنه علم ما في نفسى
فقال لي يا صالح أحسب أن في نفسك شيئا تحب أن تذكره - قال - فقلت نعم يا أمير المؤمنين فامسك
فلما فرغ من جلوسه أمر أن لا أبرح ونهض فجلست جلوسا طويلا فقمت إليه وهو على حصير الصلاة فقال لى يا صالح أتحدثنى بما في نفسك أم أحدثك فقلت بل هو من أمير المؤمنين أحسن
فقال كاننى بك وقد استحسنت من مجلسنا فقلت أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن
فقال قد كنت على ذلك برهة من الدهر حتى أقدم على الواثق شيخا من أهل الفقه والحديث من أذنة من الثغر الشامي مقيدا طوالا حسن الشيبة فسلم غير هائب ودعا فأوجز فرأيت الحياء منه في حماليق عينى الواثق والرحمة عليه فقال يا شيخ أجب ابا عبد الله أحمد بن ابى دؤاد عما يسألك عنه
فقال يا أمير المؤمنين احمد يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة غضبا عليه(168/176)
فقال أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك فقال هون عليك يا أمير المؤمنين اتأذن لي في كلامه فقال له الواثق قد أذنت لك
فأقبل الشيخ على أحمد فقال يا احمد إلام دعوت الناس فقال أحمد إلى القول بخلق القرآن فقال له الشيخ مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاما إلا بالقول بها قال نعم
قال الشيخ فرسول الله صلى الله عليه وسلم
دعا الناس إليها أم تركهم قال لا
قال له يعلمها أم لم يعلمها قال علمها
قال
فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتركهم منه فأمسك فقال الشيخ يا أمير المؤمنين هذه واحدة
ثم قال له أخبرنى يا أحمد قال الله تعالى في كتابه العزيز اليوم أكملت لكم دينكم الآية فقلت أنت الدين لا يكون تاما إلا بمقالتك بخلق القرآن فالله تعالى عز وجل صدق في تمامه وكماله أم أنت في نقصانك فأمسك فقال الشيخ يا أمير المؤمنين وهذه ثانية
ثم قال بعد ساعة أخبرني يا احمد قال الله عز وجل
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته فمقالتك هذه التى دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى الأمة أم لا فأمسك فقال الشيخ يا أمير المؤمنين وهذه ثالثة
ثم قال بعد ساعة أخبرني يا أحمد لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم
مقالتك هذه التى دعوت الناس إليها اتسع له عن أن أمسك عنهم أم لا قال أحمد بل اتسع له ذلك
فقال الشيخ وكذلك لأبى بكر وكذلك لعمر وكذلك لعثمان وكذلك لعلى رحمة الله عليهم
قال نعم
فصرف وجهه إلى الواثق وقال يا أمير المؤمنين إذ لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولاصحابه فلا وسع الله علينا فقال الواثق نعم لا وسع الله علينا إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولأصحابه فلا وسع الله علينا
ثم قال الواثق اقطعوا قيوده فلما فكت جاذب عليها(168/177)
فقال الواثق دعوه ثم قال يا شيخ لم جاذبت عليها قال لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدى وكفتى
ثم أقول يا ربى سل عبدك لم قيدنى ظلما وارتاع بى اهلى فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر
ثم قال له الواثق يا شيخ اجعلنى في حل
فقال يا أمير المؤمنين ما خرجت من منزلى حتى جعلتك في حل إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولقرابتك منه
فتهلل وجه الواثق وسر ثم قال له أقم عندي أنس بك
فقال له مكاني في ذلك الثغر أنفع وأنا شيخ كبير ولي حاجة قال سل ما بدا لك
قال يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم قال قد أذنت لك وأمر له بجائزة
فلم يقبلها
فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها
فتأملوا هذه الحكاية ففيها عبرة لأولى الألباب
وانظروا كيف مأخذ الخصوم في إفحامهم لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض
فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها وعامها المرتب على خاصها ومطلقها المحمول على مقيدها ومجملها المفسر ببينها إلى ما سوى ذلك من مناحيها فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذى نظمت به حين استنبطت
وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوى فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا حتى يستنطق فلا ينطق باليد وحدها ولا بالرجل وحدها ولا بالرأس وحده ولا باللسان وحده بل بجملته التى سمى بها إنسانا
كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل منها أي دليل كان وإن ظهر لبادى الراى نطق ذلك الدليل(168/178)
فإنما هو توهمى لا حقيقى كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهما لا حقيقة من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان لأنه محال
فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كاعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة
وشأن متبعى المتشابهات أخذ دليل ما أي دليل كان عفوا وأخذا أوليا وإن كان ثم ما يعارضه من كلى أو جزئى
فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا
فمتبعه متبع متشابه ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ما شهد الله به ومن أصدق من الله قيلا
فصل وعند ذلك نقول
من اتباع المتشابهات الاخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها وبالعمومات من غير تأمل - هل لها مخصصات أم لا وكذلك العكس بأن يكون النص مقيدا فيطلق أو خاصا فيعم بالرأى من غير دليل سواءه
فإن هذا المسلك رمى ثابر السلف الصالح رضى الله عنهم إلى إخفاء الأعمال فيما استطاعوا أو خف عليهم الأقتداء بالحديث وبفعله عليه الصلاة والسلام لأنه القدوة والاسوة
ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائما أن يقام جماعة في المساجد البتة ما عدا رمضان - حسبما تقدم - ولا في البيوت دائما وإن وقع ذلك في الزمان الاول في الفرط كقيام ابن عباس رضى الله عنهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
عندما بات عند خالته ميمونة وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام قوموا فلأصل لكم
وما في الموطإ من صلاة يرفأ مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه وقت الضحى فمن فعله في بيته وقتا ما فلا حرج ونص العلماء على جواز ذلك بهذا القيد المذكور وإن كان الجواز قد وقع في المدونة مطلقا - فما ذكره تقييد له وأظن ابن حبيب نقل عن مالك مقيدا فإذا اجتمع في النافلة أن تلتزم التزام السنن الرواتب إما دائما وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض او المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع(168/179)
والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا عن اصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعا وإن أتى مطلقا من غير تلك التقييدات
فالتقييد في المطلقات في عماية واتباع للهوى في الدليل وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد فإذا قيد صار واضحا كما أن إطلاق المقيد رأى في ذلك المقيد معارض للنص من غير دليل
فمثال الأول أن الشريعة قد ورد طلبها على المكلفين على الإطلاق والعموم ولا يرفعها عذر إلا العذر الرافع للخطاب رأسا وهو زوال العقل فلو بلغ لمكلف في مراتب الفضائل الدينية إلى أي رتبة بلغ بقى التكليف عليه كذلك إلى الموت ولا رتبة لاحد يبلغها في الدين كرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم رتبة اصحابه البررة ولم يسقط عنهم من التكليف مثقال ذرة إلا ما كان من تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى الآحاد كالزمن لا يطالب بالجهاد والمقعد لا يطالب بالصلاة قائما والحائض لا تطلب بالصلاة المخاطب بها في حال حيضها ولا ما أشبه ذلك
فمن رأى أن التكليف قد يرفعه البلوغ إلى مرتبة ما من مراتب الدين - كما يقوله أهل الإباحة - كان قوله بدعة مخرجة عن الدين
ومنه دعاوى أهل البدع على الأحاديث الصحيحة منقاضتها للقرآن أو مناقضة بعضها بعضا وفساد معانيها أو مخالفتها للعقول - كما حكموا بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم
للمتحاكمين إليه والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله مائة الشاة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى المرأة هذه الرجم واغد يا انيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغذا عليها فاعترفت فرجمها - قالوا هذا مخالف لكتاب الله
لأنه قضى بالرجم والتغريب وليس للرجم ولا للتغريب في كتاب الله ذكر فإن كان الحديث باطلا فهو ما أردنا وإن كان حقا فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب(168/180)
فهذا اتباع للمتشابه لأن الكتاب في كلام العرب وفي الشرع يتصرف على وجوه منها الحكم والفرض كقوله تعالى كتاب الله عليكم وقال تعالى كتب عليكم الصيام - ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ) فكان المعنى لأقضين بينكما بكتاب الله أي بحكم الله الذى شرع لنا
كما أن الكتاب يطلق على القرآن فتخصيصهم الكتاب بأحد المحامل من غير دليل اتباع لما تشابه من الأدلة
وفي الحديث مثل أمتى كمطر لا يدرى أوله خير أم آخره قالوا فهذا يقتضى انه لم يثبت لأول هذه الأمة فضل على الخصوص دون آخرها ولا العكس ثم نقل إن الإسلام بدى غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء فهذا يقتضى تفضيل الأولين والآخرين على الوسط
ثم نقل خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فاقتضى أن الاولين افضل على الإطلاق
قالوا فهذا تناقض
وكذبوا ليس ثم تناقض ولا اختلاف
وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادى الرأى في المقولات الشرعية
فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا وإما أن يمكن فإن لم يمكن فهذا الفرض بين قطعى وظنى أو بين ظنيين فأما بين قطعيين فلا يقع في الشريعة ولايمكن وقوعه لأن تعارض القطعيين محال
فإن وقع بين قطعى وظنى بطل الظنى وإن وقع بين ظنيين فههنا للعلماء فيه الترجيح والعمل بالأرجح متعين وإن أمكن الجمع - فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع وإن كان وجه الجمع ضعيفا - فإن الجمع أولى عندهم وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الاصل رأسا إما جهلا به أو عنادا(168/181)
فإذا ثبت هذا فقوله خير القرون قرنى هو الاصل في الباب فلا يبلغ احد منا مبلغ الصحابة رضى الله عنهم وما سواه يحتمل التأويل على حال أو زمان أو في بعض الوجوه وأما قوله فطوبى للغرباء لا نص فيه على التفضيل المشار إليه بل هو دليل على جزاء حسن ويبقى النظر في كونه مثل جزاء الصحابة أو دونه أو فوقه محتمل فليس في الحديث عليه دليل فلا بد من حمله على محكم الأصل الأول ولا إشكال
ومن ذلك قولهم بالتناقض في قوله صلى الله عليه وسلم
لا تفضلونى على يونس ابن متى ولا تخيروا بين الأنبياء وبينى وقوله أنا سيد ولد آدم ولا فخر ووجه الجمع بينهما ظاهر
ومنه أنهم قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم
إذا استيقط أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن احدكم لا يدرى أين باتت يده إن هذا الحديث يفسد آخره أوله فإن أوله صحيح لولا قوله فإن أحدكم لا يدرى كذا
فما منا أحد إلا درى أي باتت يده
وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه ولو أن رجلا فعل ذلك في اليقظة لما طلب بغسل يده
فكيف يطلب بالغسل ولا يدرى هل مس فرجه ام لا
وهذا الاعتراض من النمط الذي قبله
إذ النائم قد يمس فرجه فيصيبه شىء من نجاسة في المحل لعدم استنجاء تقدم النوم أو يكون استجمر فوق موضع الاستجمار وهو لو كان يقظان فمس لعلم بالنجاسة إذا علقت بيده فيغسلها قبل غمسها في الإناء لئلا يفسد الماء
وإذا امكن هذا لم يتوجه الاعتراض
فجميع ما ذكر في هذا الفصل راجع إلى إسقاط الأحاديث بالرأى المذموم الذي تقدم الاستشهاد عليه أنه من البدع المحدثات فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها وهذا شأن السنة وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك(168/182)
فإن قيل كيف صارت هذه الاشياء من البدع الإضافية والظاهر منها إنها بدع حقيقية لأن تلك الاشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهى حقيقية إذ لم يضعها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
على هذا لم توجه فسارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة فإنها بدعة من غير إشكال هذا إذا نظرنا إليها بمآلها وإذا نظرنا إليها أولا فهى مشروعة من غير نسبة إلى بدعة اصلا
فالجواب أن السؤال صحيح إلا أن لوضعها أولا نظرين أحدهما من حيث مشروعة فلا كلام فيها
والثانى من حيث صارت كالسبب الموضوع لاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة فهى من هذا غير مشروعة
لأن وضع الاسباب للشارع لا للمكلف والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو بيت المقدس - مثلا - سببا لأن تتخذ سنة فوضع المكلف لها كذلك رأى غير مستند إلى الشرع فكان ابتداعا
وهذا معنى كونها بدعة إضافية
أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذى
فصل
ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها
بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهما أن المناطين واحد وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله
ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحا إلا مع اشتباه يعرض له أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعا
وبيان ذلك أن الدليل الشرعى إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات - مثلا - فأتى به المكلف في الجملة أيضا كذكر الله والدعاء والنوافل المسحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة
كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتين من جهة معناه ومن جهة عمل السلف الصلح به فإن إتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنا لعبادة مخصوصة والتزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية او الزمان أو المكان مقصود شرعا من غير أن يدل الدليل عليه(168/183)
كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه
فإذا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله فالتزم قول الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات - لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم بل فيه ما يدل على خلافه لأن التزام الأموار غير اللازمة شرعا شأنها أن تفهم التشريع بل فيه ما يلد على خلافه لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعا شأنها ان تفهم التشريع وخصوصا مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد
فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم
في المساجد وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف - فهم منها بلا شك أنها سنن إذا لم تفهم منه الفرضية فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به فصارت من هذه الجهة بدعا محدثة بذلك
وعلى ذلك ترك التزام السلف الصالح لتلك الأشياء أو عدم العمل بها وهم كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ند في مواضع كثيرة حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا الآية وقوله وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون بخلاف سائر العبادات
ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر الله
ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ولا قيدوه بأوقات مخصوصة بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الاوقات إلا ما عينه الدليل كالغداة والعشى
ولا اظهروا منه إلا ما الشارع على إظهاره كالذكر في العيدين وشبهه وما سوى ذلك فكانوا مثابرين على إخفائه
وسره ولذلك قال لهم حين رفعوا اصواتهم اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا وأشباهه ولم يظهروه في الجماعات
فكل من خالف هذا الاصل فقد خالف إطلاق الدليل أولا لأنه قيد فيه بالرأى(168/184)
وخالف من كان أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصالح رضى الله عنهم بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم
وفي فصل من الموافقات جملة من هذا وهو مزلة قدم
فقد يتوهم أن إطلاق اللفظ يشعر بجواز كل ما يمكن في مدلوله وقوعا وليس خصوصا في العبادات فإنها محمولة على التعبد على حسب ما تلقى النبى صلى الله عليه وسلم
والسلف الصالح كالصلوات حين وضعت بعيدة عن مدارك العقول في أركانها وترتبيها وأزمانها وكيفياتها ومقاديرها وسائر ما كان مثلها - حسبما يذكر في باب المصالح المرسلة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى - فلا يدخل العبادات الرأى والاستحسان هكذا مطلقا لأنه كالمنافى لوضعها ولأن العقول لا تدرك معانيها على التفصيل
وكذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها كمالك بن أنس رضى الله عنه فإنه حافظ على طرح الرأى جدا ولم يعمل فيها من أنواع القياس إلا قياس نفى الفارق حيث أظهر إليه وكذلك غيره من العلماء وإن تفاوتوا - فهم محافظون جميعا في العبادات على الاتباع لنصوصها ومنقولاتها بخلاف غيرها فبحسبها لا مطلقا فإن الإنسان قد أمر بذلك في الجملة - مثلا - فالمخصص كالمخالف لمفهوم التوسعة وإن لم يفهم من ذلك توسعة فلا بد من الرجوع إلى اصل الوقف مع المنقول لأنا إن خرجنا عنه شككنا في كون العبادة على ذلك الوجه مشروعة على الطريقتين المنبه عليها في كتاب الموافقات فيتعين الرجوع إلى المنقول وقوفا معه من غير زيادة ولا نقصان(168/185)
ثم إذا فهمنا كالتوسعة فلا بد من اعتبار أمر آخر وهو أن يكون العمل بحيث لا يوهم التخصيص زمانا دون غيره أو مكانا دون غيره او كيفية دون غيرها أو يوهم انتقال الحكم من الاستحباب - مثلا - إلى السنة أو الفرض لأنه قد يكون الدوام عليه على كيفية ما في مجامع الناس أو مساجد الجماعات أو نحو ذلك - موهما لكونه سنة أو فرضا بل هو كذلك الا ترى أن كل ما أظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم
وواظب عليه في جماعة إذا لم يكن فرضا فهو سنة عند العلماء كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ونحو لك بخلاف قيام الليل وسائر النوافل فإنها مستحبات وندب صلى الله عليه وسلم
إلى إخفائها
وإنما يضر إذا كانت تشاع ويعلن بها
ومن أمثلة هذا الأصل التزام الدعاء بعد الصوات بالهيئة الاجتماعية معلنا بها في الجماعات
وسيأتى بسط ذلك في بابه إن شاء الله تعالى
فصل
ومنها بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل - يدعون فيها أنها هي المقصود والمراد لا ما يفهم العربى - مسندة عندهم إلى أصل لا يعقل وذلك أنهم فما ذكر العلماء قوم أرادوا إبطال الشريعة جملة وتفصيلا وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحا فيرد ذلك في وجوههم وتمتد إليهم أيدى الحكام - فصرفوا أعناقهم إلى التحيل على ما قصدوا بأنواع من الحيل من جملتها صرف الهم من الظواهر إحالة لى أن لها بواطن هي المقصودة وأن الظواهر غير مرادة
فقالوا كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف و الحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة ورموز إلى بواطن
فما زعموا في الشرعيات أن الجنابة مبادرة الداعى للمستجيب بإفشاء سر اليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق
ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك(168/186)
ومعنى مجامعة البهيمة مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئا من صدقة النجوى - وهو مائة وتسعة عشر درهما عندهم - قالوا فلذلك أوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها والاحتلام أن يسبق لسانه إلى إفشاء السر في غير محله فعليه الغسل اي تجديد المعاهدة والطهر هو التبرى من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام
والتيمم الأخذ من المأذون إلى ان يسعد بمشاهدة الداعى والإمام
والصيام هو الإمساك عن كشف السر
ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية وأمور التكليف وامور الآخرة وكله حوم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلا إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة - بل هم منكرون للربوبية وهم المسمون بالباطنية
وربما تمسكوا بالحروف والأعداد بأن الثقب في رأس الآدمى سبع والكواكب السيارة سبع وأيام الأسبوع سبع فهذ يدل على أن دول الأئمة سبعة وبه يتم
وأن الطبائع أربع وفصول السنة أربع فدل على أن أصول الأربعة هي السابق والتالي الالهان - عندهم والناطق والأساس - وهما الإمامان - والبروج اثنا عشر يدل على أن الحجج اثنا عشر وهم الدعاة إلى أنواع من هذا القبيل
وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء ربما يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم
أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان الربقة وصاروا عرضة للمز وضحكة للعالمين
وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام المعصوم الذي زعموه وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلمين
ولكن لا بد من نكتة مختصرة في الرد عليهم فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم إما من جهة دعوى الضرورة وهو محال
لأن الضرورى هو ما يشترك فيه العقلاء علما وإدراكا وهذا ليس كذلك
وإما من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات
فنقول لمن زعم ذلك ما الذى دعاك إلى تصديق محمد صلى الله عليه وسلم(168/187)
وسوى المعجزة وليس لإمامك معجزة فالقرآن يدل على ان المراد ظاهره لا مازعمت
فإن قال ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها الناس فتعلمناه منه
قيل لهم من أي جهة تعلمتوها منه أبمشاهد قلبه بالعين أو بسماع منه ولا بد من الاستناد إلى السماح بالاذن
فيقال فلعل لفظه ظاهر له باطن لم تفهمه ولم يطلعك عليه فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه فإن قال صرح بالمعنى
وقال ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه أو والمراد ظاهره
قيل له وبماذا عرفت قوله أنه ظاهر لا رمز فيه بل أنه كما قال إذ يمكن أن يكون له باطن لم تفهمه أيضا حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز هو باطنه وليس مقتضى الظاهر
فإن قال ذلك يؤدى إلى حسم باب التفهيم
قيل له فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبى صلى الله عليه وسلم
فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية والجنة والنار والحشر والنشر والأنبياء والوحى والملائكة موكدا ذلك كله بالقسم
وأنتم تقولون إن ظاهره غير مراد وإن تحته رمزا
فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبى صلى الله عليه وسلم
لمصلحة وسر له في الرمز جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم خلاف ما يضمره لمصلحة وسر له فيه وهذا لا محيص لهم عنه
قال أبو حامد الغزالى رحمه الله ينبغى أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التى هي الباطنية
إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعها بدعوى الرمز وكل ما يتصور أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر أونقل أما النظر فقد ابطلوه وأما النقل فقد جوزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه فلا يبقى لهم معتصم والتوفيق بيد الله(168/188)
وذكر ابن العربي في العواصم مأخذا آخر في الرد عليهم أسهل من هذا - وقال إنهم لا قبل لهم به - وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السوال ب لم خاصة فكل من وجهت عليه منهم سقط في يده وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها ها هنا وتصور المذهب كاف في ظهور بطلانه إلا أنه مع ظهور فساده وبعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعا فاحشة منها مذهب المهدى المغربى فإنه عد نفسه الإمام المنتظر وأنه معصوم حتى أن من شك في عصمته أو في أنه المهدى المنتظر كافر
وقد زعم ذووه أنه ألف في الإمامة كتابا ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم السلام وأن مدة الخلافة ثلاثون سنة وبعد ذلك فرق وأهواء وشح مطاع وهوى متبع وإعجاب كل ذى رأى برأيه فلم يزل الأمر على ذلك والباطل
ظاهر والحق كامن والعلم مرفوع - كما أخبر عليه الصلاة و السلام - والجهل ظاهر ولم يبق من الدين إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه حتى جاء الله بالإمام فأعاد الله به الدين - كما قال عليه الصلاة والسلام بدىء الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء وقال إن طائفته هم الغرباء زعما من غير برهان زائد على الدعوى وقال في ذلك الكتاب جاء الله بالمهدى وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد وأن به قامت السموات والارض به تقوم ولا ضد له ولا مثل ولا ند وكذب تعالى الله عن قوله وهذا كما نزل أحاديث الترمذى وأبى داود في الفاطمى على نفسه وأنه هو بلا شك 5
وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيبا فقال الحمد لله الفعال لما يريد القاضى لما يشاء لا راد لأمره ولا معقب لحكمه وصلى الله على النبى المبشر بالمهدى يملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يبعثه الله إذا نسخ الحق بالباطل وأزيل العدل بالجور مكانه بالمغرب الاقصى وزمانه آخر الأزمان واسمه اسم النبى عله الصلاة والسلام ونسبه نسب النبى صلى الله عليه وسلم(168/189)
وقد ظهر جور الأمراء وامتلأت الأرض بالفساد وهذا آخر الزمان والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل
يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمى
فلما فرغ بادر إليه من اصحابه عشرة فقالوا هذه الصفة لا توجد إلا فيك فأنت المهدى فبايعوه على ذلك
وأحدث في دين الله أحداثا كثيرة زيادة إلى الإقرار بأنه المهدى المعلوم والتخصيص بالعصمة ثم وضع ذلك في الخطب وضرب في السكك بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة فمن لم يؤمن بها أو شك فيها فهو كافر كسائر الكفار وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها وهو نحو من ثمانية عشر موضعا كترك امتثال أمر من يستمع أمره وترك حضور مواعظه ثلاث مرات والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل وأشياء كثيرة
وكان مذهبه البدعة الظاهرية ومع ذلك فابتدع أشياء كوجوه من التثويب إذ كانوا ينادون عند الصلاة بتاصاليت الإسلام و بقيام تاصاليت و سوردين و باردى و واصبح ولله الحمد وغيره فجرى العمل بجميعها في زمان الموحدين وبقى أكثرها بعد ما انقرضت دولتهم حتى إنى أدركت بنفسى في جامع غرناطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم المهدى المعلوم إلى أن أزيلت وبقيت أشياء كثيرة غفل عنها أو أغفلت
وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن
ابن على منهم ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات فأمر - حين استقر بمراكش - خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السنة ويوصى بتقوى الله والاستعانة به والتوكل عليه وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق وأن لا مهدى إلا عيسى وأن ما ادعوه أنه المهدى بدعة أزالها واسقط
اسم من لا تثبت عصمته(168/190)
وذكر أن أباه المنصور هم بان يصدع بما به صدع وأن يرفع الحرف الذي رفع فلم يساعده الأجل لذلك ثم لما مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد وفد إليه جماعة من أهل ذلك المذهب المتسمين بالموحدين فقتلوا منه في الذروة والغارب وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته والوقوف على قدم الخدمة بين يديه والمدافعة عنه بما استطاعوا لكن على شرط ذكر المهدى وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات ونقش اسمه الخاص في السكك وإعادة الدعاء بعد الصلاة والنداء عليها بتاصاليت الإسلام عند كمال الأذان و بتقام تاصاليت وهي إقامة الصلاة وما أشبه ذلك من سودرين و وقادرى و أصبح ولله الحمد وغير ذلك
وقد كان الرشيد استمر على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله فلما انتدب الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك فأسعفوا فيه فلما احتلوا منازلهم أياما ولم يعد شىء من تلك العوائد ساءت ظنونهم وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم في دينهم وبلغ ذلك الرشيد فجدد تانيسهم بإعادتها
قال المؤرخ فيالله ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع تلك الأمور وانطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد وشملت الأفراح فيهم الكبير والصغير وهذا شأن صاحب البدعة فلن يسر بأعظم من انتشار بدعته وإظهارها ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأى الشيعة
فصل
ومنها رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم
حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولى لله أعظم من فلان وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور وهو باطل محض وبدعة فاحشة لأنه لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدا مبالغ المتقدمين فخير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/191)
وآمنوا به ثم الذين يلونهم وهكذا يكون الأمر أبدا إلى قيام الساعة فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في اول الإسلام ثم لا زال ينقص يشيئا فشيئا إلى آخر الدنيا لكن لا يذهب الحق جملة بل لا بد من طائفة تقوم به وتعتقده وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم لا ما كان عليه الأولون من كل وجه لأنه لو أنفق أحد من المتأخرين وزن أحد ذهبا ما بلغ مد أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا نصيفه وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان بشهادة التجربة العادية
ولما تقدم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصلى لا شك فيه وهو عند أهل السنة والجماعة فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولى أهل الأرض وليس في الأمة ولى غيره لكن الجهل الغالب والغلو في التعظيم والتعصب للنحل يؤدى إلى مثله او أعظم منه
والمتوسط
يزعم أنه مساو للنبى صلى الله عليه وسلم
إلا أنه لا يأتيه الوحى بلغنى هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم لحاملين لطريقتهم في زعمهم نظير ما ادعاه بعض تلامذة الحلاج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه والغالى يزعم فيه اشنع من هذا كما ادعى أصحاب الحلاج في الحلاج
وقد حدثنى بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال أقمت زمانا في بعض القرى البادية وفيها من هذه الطائفة المشار إليها كثير قال فخرجت يوما من منزلى لبعض شأنى فرأيت رجلين منهم قاعدين فاتهمت أنهما يتحدثان في بعض فروع طريقتهم فقربت منهما على استخفاء لأسمع من كلامهم - إذ من شأنهم الاستخفاء بأسرارهم - فتحدثا في شيخهم وعظم منزلته وأنه لا أحد في الدنيا مثله وطربا لهذه المقابلة طربا عظيما ثم قال أحدهما للآخر أتحب الحق هو النبى قال نعم هذا هو الحق
قال المخبر فقمت من ذلك المكان فارا أن يصيبنى معهم قارعة(168/192)
وهذا نمط الشيعة الإمامية ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب والتهالك في محبة المبتدع لما وسع ذلك عقل أحد ولكن النبى صلى الله عليه وسلم
قال لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع الحديث فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام حيث قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم فقال الله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وفي الحديث لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله
ومن تأمل هذه الأصناف وجد لها من البدع في فروع الشريعة كثيرا لأن البدعة إذا دخلت في الاصل سهلت مداخلتها الفروع
فصل
وأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات - وأقبلوا وأعرضوا بسببها فيقولون رأينا فلانا الرجل الصالح فقال لنا اتركوا كذا واعملوا كذا
ويتفق مثل هذا كثيرا للمتمرسين برسم التصوف وربما قال بعضهم رأيت النبى صلى الله عليه وسلم
في النوم فقال لى كذا وأمرنى بكذا فيعمل بها ويترك بها معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة وهو خطأ لأن الرويا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا كما يحكى عن الكتانى رحمه الله قال رأيت النبى صلى الله عليه وسلم
في المنام فقلت ادع ا لله أن لا يميت قلبى فقال قل كل يوم أربعين مرة يا حى يا قيوم لا إله إلا أنت فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته وكون الذكر يحيى القلب صحيح شرعا وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير وهو من ناحية البشارة وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين وإذا لم يوجد على اللزوم استقام(168/193)
وعن أبى يزيد البسطامى رحمه الله قال رأيت ربى في المنام فقلت كيف الطريق إليك فقال اترك نفسك وتعال
وشأن هذا الكلام من الشرع موجود فالعمل بمقتضاها صحيح لأنه كالتنبيه لموضع الدليل لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق والوقوف على قدم العبودية والآيات تدل على هذا المعنى كقوله تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وما أشبه ذلك فلو راى في النوم قائلا يقول إن فلانا سرق فاقطعه أو عالم فاسأله أو اعمل بما يقول لك أو فلان زنى فحده وما أشبه ذلك لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة وإلا كان عاملا بغير شريعة إذ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحى
ولا يقال إن الرؤيا من أجزء النبوة فلا ينبغى أن تهمل وايضا إن المخبر في المنام قد يكون النبى صلى الله عليه وسلم
وهو قد قال من رآنى في النوم فقد رآنى حقا فإن الشيطان لا يتمثل بى وإذا كان فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة
لأنا نقول إن كانت الرويا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحى بل جزء من أجزائه والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة وفيها كاف
وأيضا فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح وحصول الشروط مما ينظر فيه فقد تتوفر وقد لا تتوفر
وأيضا فهي منقسمة إلى الحلم وهو من الشيطان وإلى حديث النفس وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وتترك غير الصالحة
ويلزم أيضا على ذلك أن يكون تجديد وحى بحكم بعد النبى صلى الله عليه وسلم
وهو منهى عنه بالإجماع
يحكى أن شريك بن عبد الله القاضى دخل على المهدى فلما رآه قال على بالسيف والنطع قال ولم يا أمير المؤمنين قال رأيت في منامى كأنك تطأ بساطى وأنت معرض عنى فقصصت رؤياى على من عبرها فقال لى يظهر لك طاعة ويضمر معصية(168/194)
فقال له شريك والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه السلام فبلأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين فاستحيى المهدى وقال أخرج عنى
ثم صرفه وأبعده
وحكى الغزالى عن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن فروجع فيه فاستدل بأن رجلا راى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولم يدخلها فقيل هل دخلتها فقال أغنانى عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن فقام ذلك الرجل فقال لو افتى إبليس بوجوب قتلى في اليقظة هل تقلدونه في فتواه فقالوا لا فقال قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة
وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
الرائى بالحكم فلا بد من النظر فيها ايضا لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر بمخالف
فمحال لأنه صلى الله عليه وسلم
لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائى النومية لأن ذلك باطل بالإجماع
فمن رأي شيئا من ذلك فلا عمل عليه وعند ذلك نقول إن رؤياه غير صحيحة
إذ لو رآه حقا لم يخبره بما يخالف الشرع
لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى الله عليه وسلم
من رآنى في النوم فقد رآنى وفيه تأويلان أحدهما ما ذكره ابن رشد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية فلما نام الحاكم ذكر أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم
فقال له ما تحكم بهذه الشهادة فإنها باطلة
فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا وذلك باطل لا يصح أن يعتقد إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحى ومن سواهم إنما رؤياهم جزء من ستة واربعين جزء من النبوة
ثم قال وليس معنى قوله من رآنى فقد رآنى حقا أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة(168/195)
بدليل أن الرائى قد يراه مرات على صور مختلفة ويراه الرائى على صفة وغيره على صفة أخرى ولا يجوز أن تختلف صور النبى صلى الله عليه وسلم
ولا صفاته
وإنما معنى الحديث من رآنى على صورتى التي خلقت عليها
فقد رآنى إذ لايتمثل الشيطان بى إذ لم يقل من رآنى أنه رآنى فقد رآنى
وإنما قال من رآنى فقد رآنى
وأنى لهذا الرائي الذي رأي أنه رآه على صورة أنه رآه عليها وإن ظن أنه رآه ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها وهذا مالا طريق لأحد إلى معرفته
فهذا ما نقل عن ابن رشد
وحاصله يرجع إلى أن المرئى قد يكون غير النبى صلى الله عليه وسلم
وإن اعتقد الرائى أنه هو
والتأويل الثاني يقوله علماء التعبير إن لشيطان قد يأتى النائم في صورة ما من معارف الرائى وغيرهم فيشير له إلى رجل آخر هذا فلان النبى وهذا الملك الفلانى أو من اشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به
فيوقع اللبس على الرائي بذلك وله علامة عندهم
وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهى غير الموافقين للشرع فيظن الرائي أنه من قبل النبى صلى الله عليه وسلم
ولا يكون كذلك فلا يوثق بما يقول له او يأمر أو ينهى
وما أحرى هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهى فيه مخالفا لكمال الأول حقيق بأن يكون فيه موافقا وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال
نعم لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم لإمكان اختلاط أحد القسمين بالأخر وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة
نعم ياتى المرئى تأنيسا وبشارة ونذارة خاصة بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكما ولا يبنون عليها أصلا وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها والله أعلم
فصل
وقد رأينا أن نختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة وغيرها في معناها وفيه من نكت هذا الكتاب جملة اخرى فهو مما يحتاج إليه بحسب الوقت والحال وإن كان فيه طول ولكنه يخدما ما نحن فيه إن شاء الله تعالى(168/196)
وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهورى على صوت واحد ثم في الغناء والرقص إلى آخر الليل ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق هل هذا العمل صحيح في الشرع أم لا فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات المخالفة طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان فنفع الله بذلك من شاء من خلقه
ثم إن الجواب وصل إلى بعض البلدان فقامت القيامة على العاملين بتلك التبدع وخافوا اندراس طريقتهم وانقطاع أكلهم بها فأرادوا الانتصار لأنفسهم بعد أن راموا ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم واشتهرت في الانقطاع إلى الله والعمل بالسنة طريقتهم فلم يستقر لهم الاستدلال لكونهم على ضد ما كان عليه القوم فإنهم كانوا بنوا نحلتهم على ثلاثة أصول الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم
في الأخلاق والأفعال وأكل الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الاصول فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم
وكان من قدر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه هذه لكن حسن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل
فأجاب عفا الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرض إلى ما هم عليه من البدع والضلالات ولما سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدة أخرى فأتى به فرحل إلى غير بلده وشهر في شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة وأنه طالب للمناظرة فيها فدعى لذلك فلم يقم فيه ولا قعد غير أنه قال إن هذه حجتى والقى بالبطاقة التي بخط المجيب وكان هو ومجيبه واشياعه يطيرون بها فرحا فوصلت المسألة إلى غرناطة وطلب من الجميع النظر فيها
فلم يسع أحد له قوة على النظر فيها الأول أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به لأنه من النصيحة التى هي الدين القويم والصراط المستقيم(168/197)
ونص خلاصة السؤال ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالى الفاضلة يقرأون جزءا من القرآن ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت ويذكرون الله بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ثم يقوم من بينهم قوال يذكر شيئا في مدح النبى صلى الله عليه وسلم
ويلقى من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات الصالحين وذكر آلاء الله ونعمائه ويشوقهم بذكر المنازل الحجازية والمعاهد النبوية فيتواجدون اشتياقا لذلك ثم يأكلون ما حضر من الطعام ويحمدون الله تعالى ويرددون الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم
ويبتهلون بالادعية إلى الله في صلاح أمورهم ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون
فهل يجوز اجتماعهم على ما ذكر أم يمنعون وينكر عليهم ومن دعاهم من المحبين إلى منزله بقصد التبرك هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه المذكور أم لا
فأجاب بما محصوله مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي رياض الجنة
ثم اتى بشواهد على طلب ذكر الله
وأما الإنشادات الشعرية
فإنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وفي القرآن في شعراء الإسلام إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وذلك أن حسان بن ثابت وعبد الله ابن رواحة وكعبا لما سمعوا قوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون الآيات
بكوا عند سماعها فنزل الاستثناء وقد انشد الشعر بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لابيات أخت النضر لما طبع عليه من الرأفة والرحمة
وأما التواجد عند السماع فهو في الاصل رقة النفس واضطراب القلب فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن
قال الله تعالى الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم أي اضطربت رغبا أو رهبا
وعن اضطراب القلب يحصل اضطراب الجسم قال الله تعالى لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية
وقال ففروا إلى الله فإنما التواجد رقة نفسية وهزة قلبية ونهضة روحانية
وهذا هو التواجد عن وجد(168/198)
ولا يسمع فيه نكير من الشرع
وذكر السلمى أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع
وهي وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا ) الآية
وكان يقول إن القلوب مربوطة بالملكوت حركتها أنوار الأذكار وما يرد عليها من فنون السماع
ووراء هذا تواجد لا عن وجد فهو مناط الذم لمخالفة ما ظهر لما بطن وقد يغرب فيه الأمر عند القصد إلى استنهاض العزائم وأعمال الحركة في يقظة القلب النائم يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ولكن شتان ما بينهما
وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته وله في ذلك قصده ونيته فهذا ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر والله يتولى السرائر وإنما الأعمال بالنيات انتهى ما قيده
فكان مما ظهر لى في هذا الجواب أن ما ذكره في مجالس الذكر صحيح إذا كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم حتى يتعلم بعضهم من بعض ويأخذ بعضهم من بعض فهو مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم
ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده وهو الذي فهمه الصحابة رضى الله تعالى عنهم من الاجتماع على تلاوة كلام الله
وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماع على ذكر الله ففي رواية أخرى أنه قال لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة الحديث المذكور
لا الاجتماع للذكر على صوت واحد وإذا اجتمع القوم على التذكر لنعم الله أو التذاكر في العلم إن كانوا علماء أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضا بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته - وما أشبه ذلك مما كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم
في أصحابه وعمل به الصحابة والتابعون - فهذه المجالس كلها مجالس ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء(168/199)
كما يحكى عن ابن أبى ليلى أنه سئل عن القصص
فقال أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
يجلسون ويحدث هذا بما سمع وهذا بما سمع - فأما أن يجلسوا خطيبا فلا - وكان كالذى نراه معمولا به في المساجد من اجتماع الطلبة على معلم يقرئهم القرآن أو علما من العلوم الشرعية
أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم أمر دينهم ويذكرهم بالله ويبين لهم سنة نبيهم ليعملوا بها ويبين لهم المحدثات التي هي ضلالة ليحذروا منها ويتجنبوا مواطنها والعمل بها
فهذه مجالس الذكر على الحقيقة وهي التي حرمها الله أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف - وقل ما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن فضلا عن غيرها ولا يعرف كيف يتعبد ولا كيف يستنجى أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة
وكيف يعلمون ذلك وهم قد حرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة وتنزل فيها السكينة وتحف بها الملائكة فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا فاقتدوا بجهال أمثالهم وأخذوا يقرأون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم لا على ما قال أهل العلم فيها
فخرجوا عن الصراط المستقيم إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئا من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم ثم يقولون تعالوا نذكر الله فيرفعون اصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة طائفة في جهة
وطائفة في جهة أخرى على صوت واحد يشبه الغناء ويزعمون أن هذا من مجالس الذكر المندوب إليها وكذبوا فإنه لو كان حقا لكان السلف الصالح أولى بإدراكه وفهمه والعمل به وإلا فأين في الكتاب اوفى السنة الاجتماع للذكر على صوت واحد جهرا عاليا وقد قال تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين والمعتدون في التفسير هم الرافعون أصواتهم بالدعاء
وعن أبى موسى قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبى صلى الله عليه وسلم(168/200)
أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم وهذا الحديث من تمام تفسير الآية ولم يكونوا رضى الله عنهم يكبرون على صوت واحد ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا ممتثلين للآية
وقد جاء عن السلف أيضا النهى عن الاجتماع على الذكر والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها هؤلاء المبتدعون وجاء عنهم النهى عن المساجد المتخذة لذلك وهي الربط التي يسمونها بالصفة
ذكر من ذلك ابن وهب وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لمن وفقه الله
فالحاصل من هؤلاء أنهم حسنوا الظن بأنهم فيما هم عليه مصيبون وأساءوا الظن بالسلف الصالح أهل العمل الراجح الصريح وأهل الدين الصحيح
ثم لما طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجيب وهم لا يعلمون وقولوه ما لا يرضى به العلماء وقد بين ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا فأجاب بأن مجالس الذكر المذكورة في الأحاديث أنها هي التي يتلى فيها القرآن والتي يتعلم فيها العلم والدين والتى تعمر بالعمل والتذكير بالآخرة والجنة والنار
كمجالس سفيان الثورى والحسن وابن سيرين وأضرابهم أما مجالس الذكر اللسانى فقد صرح بها في حديث الملائكة السياحين لكن لم يذكر فيه جهرا بالكلمات ولا رفع أصوات وكذلك غيره
لكن الأصل المشروع إعلان الفرائض وإخفاء النوافل وأتى بالآية وبقوله تعالى إذ نادى ربه نداء خفيا وبحديث أربعوا على أنفسكم - قال وفقراء الوقت قد تخيروا بآيات وتمزوا بأصوات هي إلى الاعتداء أقرب منها إلى الأقتداء وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة أقرب منها إلى اعتدادها قرية وطاعة
انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد
وهي دليل على أن فتواه المحتج بها ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة
فإن سئل في هذ ه عن فقراء الوقت فأجاب بذمهم وأن حديث النبى صلى الله عليه وسلم
لا يتناول عملهم
وفي الأولى إنما سئل عن قوم يجتمعون لقراءة القرآن أو لذكر الله(168/201)
وهذا السؤال يصدق على قوم يجتمعون مثلا في المسجد فيذكرون الله كل واحد منهم في نفسه أو يتلوا القرآن نفسه كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين وما أشبه ذلك مما تقدم التنبيه عليه فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه - فلما سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بين ما ينبغى أن يعتمد عليه الموفق ولا توفيق إلا بالله العلى العظيم
وأما ما ذكره في الإنشادات الشعرية فجائز للإنسان أن ينشد الشعر الذي لا رفث فيه ولا يذكر بمعصية وأن يسمعه من غيره إذا أنشد على الحد الذي كان ينشد بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء وذلك أنه كان ينشد ويسمع لفوائد منها المنافحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن الإسلام وأهله ولذلك كان حسان بن ثابت رضى الله عنه قد نصب له منبر في المسجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود حتى يقولوا خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره اشعر من شاعرنا ويقول له
صلى الله عليه وسلم
اهجهم وجبريل معك وهذا من باب الجهاد في سبيل الله ليس للفقراء من فضله في غنائهم بالشعر قليل ولا كثير
ومنها أنهم كانوا يتعرضون لحاجاتهم ويستشفعون بتقديم الأبيات بين يدى طلباتهم(168/202)
كما فعل ابن زهير رضى الله عنه وأخت النضر بن الحارث مثل ما يفعل الشعراء مع الكبراء هذا لا حرج فيه ما لم يكن في الشعر ذكر مالا يجوز ونظيره في سائر الأزمنة تقديم الشعر للخلفاء والملوك ومن أشبههم قطعا من أشعارهم بين يدى حاجاتهم كما يفعله أهل الوقت المجردون للسعاية على الناس مع القدرة على الاكتساب وفي الحديث لا تصح الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى فإنهم ينشدون الأشعار التي فيها ذكر الله وذكر رسوله وكثيرا ما يكون فيها ما لا يجوز شرعا ويتمندلون بذكر الله ورسوله في الأسواق والمواضع القذرة ويجعلون ذلك آلة لأخذ ما في ايدي الناس لكن بأصوات مطربة يخاف بسببها على النساء ومن لا عقل له من الرجال
ومنها أنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار الجهادية تنشيطا لكلال النفوس وتنبيها للرواحل أن تنهض في أثقالها وهذا حسن لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجرى مجرى ما الناس عليه اليوم بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا من غير ان يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم بل كانوا يرققون الصوت ويمططونه على وجه يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى فلم يكن فيه إلذاذ ولا إطراب لهى وإنما كان لهم شىء من النشاط كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما حيينا أبدا
فيجيبهم صلى الله عليه وسلم
بقوله اللهم لا خير إلا خير الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة
ومنها أن يتمثل الرجل بالبيت أو الأبيات من الحكمة في نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يحركها لمقتضى معنى الشعر أو يذكرها ذكرا مطلقا كما حكى أبو الحسن القرافى الصوفى عن الحسن أن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقالوا يا امير المؤمنين إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنى
فقال عمر من هو فذكر الرجل
فقال قوموا بنا إليه فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تجسسنا عليه أمره(168/203)
قال فقام عمر مع جماعة من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم
حتى أتوا الرجل وهو في المسجد فلما ان نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال يا امير المؤمنين ما حاجتك وما جاء بك إن كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك وإن كانت الحاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال له عمر ويحك بلغنى عنك أمر ساءنى
قال وما هو يا أمير المؤمنين قال أتتمجن في عبادتك قال لا يا أمير المؤمنين لكنها عظة أعظ بها نفسى
قال عمر قلها فإن كان كلاما حسنا قلته معك وإن كان قبيحا نهتيك عنه
فقال
وفؤاد كلما عاتبته
في مدى الهجران يبغى تعبى
لا أراه الدهر إلا لاهيا
في تماديه فقد برح بى
يا قرين السوء ما هذا الصبا
فنى العمر كذا في اللعب
وشباب بان عنى فمضى
قبل أن أقضى منه أربى
ما أرجى بعده إلا الفنا
ضيق الشيب على مطلبى
ويح نفسى لا أراها أبدا
في جميل لا ولا في أدب
نفس لا كنت ولا كان الهوى
راقبى المولى وخافي وارهبى
قال فقال عمر رضى الله تعالى عنه
نفس لا كنت ولا كان الهوى
راقبى المولى وخافى وارهبى
ثم قال عمر على هذا فليغن من غنى
فتأملوا قوله بلغنى عنك امر ساءنى
مع قوله اتتمجن في عبادتك
فهو من اشد ما يكون في الإنكار حتى أعلمه أنه يردد لسانه أبيات حكمة فيها موعظة فحينئذ أقره وسلم له
هذا وما أشبهه كان فعل القوم وهم مع ذلك لم يقتصروا في التنشيط للنفوس ولا الوعظ على مجرد الشعر بل وعظوا أنفسهم بكل موعظة ولا كانوا يستحضرون لذكر الأشعار المغنين إذ لم يكن ذلك من طلباتهم ولا كان عندهم من الغناء المستعمل في أزماننا شىء وإنما دخل في الإسلام بعدهم حين خالط العجم المسلمين
وقد بين ذلك ابو الحسن القرافى فقال أي الماضين من الصدر الأول حجة على من بعدهم ولم يكونوا يلحنون الاشعار ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافى(168/204)
فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودا إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون
هذا ما قال فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك المحدث
وحتى سئل مالك بن أنس رضى الله عنه عن الغناء الذي يستعمله أهل المدينة
فقال إنما يفعله الفساق ولكن المتقدمون أيضا يعدون الغناء جزءا من أجزاء طريقة التعبد وطلب رقة النفوس وخشوع القلوب حتى يقصدونه قصدا ويتعمدون الليالى الفاضلة فيجتمعون لأجل الذكر الجهري والشطح والرقص والتغاشى والصياح وضرب الأقدام على وزن إيقاع الكف أو الآلات وموافقة النغمات
هل في كلام النبى صلى الله عليه وسلم
وعمله المنقول في الصحاح أو عمل السلف الصالح أو أحد من العلماء أثر أو في كلام المجيب ما يصرح بكلام مثل هذا بل سئل عن إنشاد الاشعار بالصوامع كما يفعله المؤذنون اليوم في الدعاء بالأسحار فأجاب بأن ذلك بدعة مضافة إلى بدعة لان الدعاء بالصوامع بدعة وإنشاد الشعر والقصائد بدعة أخرى إذ لم يكن ذلك في زمن السلف المقتدى بهم
كما أنه سئل عن الذكر الجهرى أمام الجنازة فأجاب بأن السنة في اتباع الجنائز الصمت والتفكير والاعتبار وان ذلك فعل السلف واتباعهم سنة ومخالفتهم بدعة وقد قال مالك لن يأتى آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها
وأما ما ذكره المجيب في التواجد عند السماع من أنه أثر رقة النفس واضطراب القلب فإنه لم يبين ذلك الأثر ما هو كما أنه لم يبين معنى كالرقة ولا عرج عليها بتفسير يرشد إلى فهم التواجد عند الصوفية وإنما في كلامه ان ثم أثرا ظاهرا يظهرعلى جسم المتواجد وذلك اإلاثر يحتاج إلى تفسير ثم التواجد يحتاج إلى شرح بحسب ما يظهر من كلامه
والذي يظهر في التواجد ما كان يبدو على جملة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/205)
وهو البكاء واقشعرار الجلد التابع للخوف الآخذ بمجامع القلوب وبذلك وصف الله عباده في كلامه حيث قال الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وقال تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق وقال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا - إلى قوله - أولئك هم المؤمنون حقا وعن عبد الله بن الشخير رضى الله عنه قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل يعنى من البكاء والأزيز صوت يشبه صوت غليان القدر
وعن الحسن قال قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع فربى لها ربوة عيد منها عشرين يوما
وعن عبيد الله بن عمر قال صلى بنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه صلاة الفجر فافتتح سوة يوسف فقرأها حتى إذا بلغ وأبيضت عيناه من الحزن وهو كظيم بكى حتى انقطع
وفي رواية لما انتهى إلى قوله إنما أشكوا بثى وحزنى إلى الله بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف
وعن أبى صالح قال لما قدم اهل اليمن في زمان ابى بكر رضى الله عنه سمعوا القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر هكذا كنا حتى قست قلوبنا
وعن ابن أبى ليلى أنه قرأ سورة مريم حتى انتهى إلى السجدة خرو سجدا وبكيا فسجد بها فلما رفع رأسه قال هذه السجدة قد سجدناها فأين البكاء إلى غير ذلك من الآثار الدالة على أن أثر الموعظة الذي يكون بغير تصنع إنما هو على هذه الوجوه وما أشبهها
ومثله ما استدل به بعض الناس من قوله تعالى وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض ذكره بعض المفسرين(168/206)
وذلك أنه لما ألقى الله الإيمان في قلوبهم حضروا عند ملكهم دقيانوس الكافر فتحركت فأرة أو هرة خاف لأجلها الملك فنظر الفتية بعضهم إلى بعض ولم يتمالكوا أن قاموا مصرحين بالتوحيد معلنين بالدليل والبرهان منكرين على الملك نحلة الكفر باذلين أنفسهم في ذات الله
فأوعدهم ثم اخلفهم فتواعدوا الخروج إلى الغار إلى أن كان منهم ما حكى الله تعالى في كتابه فليس في ذلك صعق ولا صياح ولا شطح ولا تغاش مستعمل ولا شىء من ذلك وهو شأن فقرائنا اليوم
وخرج سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال قلت لجدتي أسماء كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا قرأوا القرآن قالت كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم
قلت إن ناسا هاهنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية
فقالت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وخرج أبو عبيد من أحاديث ابى حازم
قال مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله فقال ما هذا فقالوا إذا قرىء عليه القرآن أو سمع الله يذكر خر من خشية الله
قال ابن عمر والله إنا لنخشى الله ولا نسقط
وهذا إنكار
وقيل لعائشة رضى الله عنها إن قوما إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم
فقالت إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال ولكنه - كما قال الله تعالى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون فقال ذلك فعل الخوارج
وخرج أبو نعيم على جابر بن عبد الله أن ابن الزبير رضى الله تعالى عنه قال جئت أبى فقال أين كنت فقلت وجدت أقواما يذكرون الله فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله فقعدت معهم فقال لا تقعد بعدها
فرآنى كأنه لم يأخذ ذلك في فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتلو القرآن(168/207)
ورأيت أبا بكر وعمر يلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشع لله من أبى بكر وعمر فرأيت ذلك كذلك فتركتهم وهذا بأن ذلك كله تعمل وتكلف لا يرضى به أهل الدين وسئل محمد بن سيرين عن الرجل يقرأ عنده فيصعق فقال ميعاد ما بيننا وبينه أن يجلس على حائط
ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن وقع فهو كما قال
وهذا الكلام حسن في المحق والمبطل لأنه إنما كان عند الخوارج نوعا من القحة في النفوس المائلة عن الصواب وقد تغالط النفس فيه فتظنه انفعالا صحيحا وليس كذلك
والدليل عليه أنه لم يظهر على أحد من الصحابة لا هو ولا ما يشبهه فإن مبناهم كان على الحق فلم يكونوا يستعملون في دين الله هذه اللعب القبيحة المسقطة للأدب والمروءة
نعم قد لا ينكر اتفاق الغشى ونحوه أو الموت لمن سمع الموعظة بحق فضعف عن مصابرة الرقة الحاصلة بسببها
فجعل ابن سيرين ذلك الضابط ميزانا للمحق والمبطل وهو ظاهر فإن القحة لا تبقى مع خوف السقوط من الحائط
فقد اتفق من ذلك بعض النوادر وظهر فيها عذر التواجد
فحكى عن أبى وائل قال خرجنا مع عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ومعنا الربيع بن خيثمة فمررنا على حداد فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط
ثم إن عبد الله مضى كما هو حتى أتينا على شاطىء الفرات على أتون فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا - إلى قوله - دعوا هنالك ثبورا فصعق الربيع ثم غشى عليه
فاحتملناه فأتينا به أهله - قال - ورابطه عبدالله إلى الظهر فلم يفق فرابطه إلى المغرب فأفاق ورجع عبد الله إلى أهله
فهذه حالات طرأت لواحد من أفاضل التابعين بمحضر صحابى ولم ينكر عليه لعلمه أن ذلك خارج عن طاقته فصار بتلك الموعظة الحسنة كالمغمى عليه فلا حرج إذا(168/208)
وحكى أن شابا كان يصحب الجنيد رضى الله عنه - وهو إمام الصوفية إذ ذاك - فكان الشاب إذا سمع شيائا من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوما إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبنى
فكان إذا سمع شيئا يتغير ويضبط نفسه حتى كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة فيوما من الأيام صاح صيحة تلفت نفسه فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف لأنه لو كانت صيحته الأولى غلبته لم يقدر على ضبط نفسه وإن كان بشدة كما لم يقدر على ضبط نفسه الربيع بن خيثمة وعليه ادبه الشيخ حين أنكر عليه ووعده بالفرقة إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا رعونة النفس فلما خرج الأمر عن كسبه - بدليل موته - كانت صيحته عفوا لا حرج عليه فيها إن شاء الله
بخلاف هؤلاء القوم الذين لم يشموا من أوصاف الفضلاء رائحة فأخذوا بالتشبه بهم فأبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج وباليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور وبعضهم يضرب على رأسه وما اشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى لكونه من أعمال الصبيان والمجانين المبكى للعقلاء رحمة لهم إذ لم يتخذ مثل هذا طريقا إلى الله وتشبها بالصالحين
وقد صح من حديث العرباض بن سارية رضى الله عنه قال وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب الحديث فقال الإمام الآجرى العالم السنى أبو بكر رضى الله عنه ميزوا هذا الكلام فإنه لم يقل صرخنا من موعظة ولا طرقنا على رءوسنا ولا ضربنا على صدورنا ولا زفنا ولا رقصنا - كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند المواعظ ويزعقون ويتناشون - قال - وهذا كله من الشيطان يلعب بهم وهذا كله بدعة وضلالة ويقال لمن فعل هذا
أعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم(168/209)
أصدق الناس موعظة وأنصح الناس لأمته وأرق الناس قلبا وخير الناس من جاء بعده - لا يشك في ذلك عاقل - ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا ولو كان هذا صحيحا لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك انتهى كلامه
وهو واضح فيما نحن فيه
ولا بد من النظر في الأمر كله الموجب للتأثر الظاهر في السلف الأولين مع هؤلاء المدعين فوجدنا الأولين يظهر عليهم ذلك الأثر بسبب ذكر الله أو بسماع آية من كتاب الله وبسبب رؤية اعتبارية - كما في قصة الربيع عند رؤيته للحداد والأتون وهو موقد النار - ولسبب قراءة في صلاة أو غيرها ولم نجد أحدا منهم - فيما نقل العلماء - يستعملون الترنم بالاشعار لترق نفوسهم فتتأثر ظواهرهم وطائفة الفقراء على الضد منهم فإنهم يستعملون القرآن والحديث والوعظ والتذكير فلا تتأثر ظواهرهم فإذا قام المزمر تسابقوا إلى حركاتهم المعروفة لهم فبالحرى أن لا يتأثروا على تلك الوجوه المكروهة المبتدعة
لأن الحق لا ينتج إلا حقا كما أن الباطل لا ينتج إلا باطلا(168/210)
وعلى هذا التقرير ينبنى النظر في حقيقة الرقة المذكورة وهي المحركة للظاهر وذلك ان الرقة ضد الغلظ فنقول هذا رقيق ليس بغليظ ومكان رقيق إذا كان لين التراب ومثله الغليظ فإذا وصف بذلك فهو راجع إلى لينه وتأثره ضد القسوة ويشعر بذلك قوله تعالى ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله لأن القلب الرقيق إذا أوردت عليه الموعظة خضع لها ولان وانقاد ولذلك قال تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم فإن الوجل تأثر ولين يحصل في القلب بسبب الموعظة فترى الجلد من أجل ذلك يقشعر والعين تدمع واللين إذا حل بالقلب - وهو باطن الإنسان _ حل بالجلد بشهادة الله - وهو ظاهر الإنسان - فقد حل الانفعال بمجموع الإنسان وذلك يقتضى السكون لا الحركة والانزعاج والسكون لا الصياح وهي حالة السلف الأولين - كما تقدم - فإذا رأيت أحدا سمع موعظة أي موعظة كانت فيظهر عليه من الأثر ما ظهر على السلف الصالح - علمت أنها رقة هي أول الوجد وأنها صحيحة لا اعتراض فيها
وإذا رأيت احدا سمع موعظة قرآنية أو سنية أو حكمية ولم يظهر عليه من تلك الآثار شىء حتى يسمع شعرا مرقما أو غناء مطربا فتأثر فإنه لا يظهر عليه في الغالب من تلك الآثار شىء وإنما يظهر عليه انزعاج بقيام أو دوران أو شطح أو صياح او ما يناسب ذلك
وسببه أن الذى حل بباطنه ليس بالرقة المذكورة أولا بل هو الطرب الذي يناسب الغناء لأن الرقة ضد القسوة - كما تقدم - والطرب ضد الخشوع - كما يقوله الصوفية - والطرب مناسب للحركة لأنه ثوران الطباع ولذلك اشترك فيه مع الإنسان الحيوان كالإبل والنحل ومن لا عقل له من الأطفال و غير ذلك
والخشوع ضده لأنه راجع إلى السكون وقد فسر به لغة كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب الإنسان من حزن أو سرور قال الشاعر
( طرب الواله أو كالمختبل )
والتطريب مد الصوت وتحسينه(168/211)
وبيانه أن الشعر المغنى به قد اشتمل على أمرين أحدهما ما فيه من الحكمة والموعظة وهذا مختص بالقلوب ففيها تعمل وبها تنفعل ومن هذه الجهة ينسب السماع إلى الأرواح
والثاني ما فيه من النغمات المرتبة على النسب التلحينية وهو المؤثر في الطبائع وفيهيجها إلى ما يناسبها وهي الحركات على اختلافها فكل تأثر في القلب من جهة السماع تحصل عنه آثار الكون والخضوع فهو رقة وهو التواجد الذي أشار إليه كلام المجيب - ولا شك أنه محمود - وكل تاثر يحصل عنه ضد السكون فهو طرب لا رقة فيه ولا تواجد ولا هو عند شيوخ الصوفية محمود لكن هؤلاء الفقراء ليس لهم من التواجد - في الغالب - إلا الثاني المذموم فهم إذا متواجدون بالنغم واللحون لا يدركون من معانى الحكمة شيئا
فقد باءوا إذا بأخسر الصفقتين
نعوذ بالله
وإنما جاءهم الغلط من جهة اختلاط المناطين عليهم ومن جهة أنهم استدلوا بغير هم
فقوله تعالى ففروا إلى الله وقوله لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا لا دليل فيه على هذا المعنى
وكذلك قوله تعالى إذ قاموا فقالوا ربنا أين فيه أنهم قاموا يرقصون أو يزفنون أو يدورون على اقدامهم ونحو ذلك فهو من الاستدلال الداخل تحت هذا الجواب
ووقع في كلام المجيب لفظ السماع عير مفسر ففهم منه المحتج أنه الغناء الذي تستعمله شيعته وهو فهم عموم الناس لا فهم الصوفية فإنه عندهم يطلق على كل صوت أفاد حكمة يخضع لها القلب ويلين لها الجلد
وهو الذي يتواجدون عنده التواجد المحمود فسماع القرآن عندهم سماع وكذلك سماع السنة وكلام الحكماء والفضلاء حتى اصوات الطير وخرير الماء وصرير الباب
ومنه سماع المنظوم أيضا إذا أعطى حكمة ولا يستمعون هذا الأخير إلا في الفرط وعلى غير استعداد وعلى غير وجه الالتذاذ والإطراب ولا هم ممن يداوم عليه أو يتخذه عادة لأن ذلك كله قادح في مقاصدهم التى بنوا عليها
قال الجنيد إذا رأيت المريد يحب السماع فأعلم أن فيه بقية من البطالة(168/212)
وإنما لهم من سماعه إذا اتفق وجه الحكمة إن كان فيه حكمة فاستوى عندهم النظم والنثر
وإن أطلق أحد منهم السماع فمن حيث فهم الحكمة لا من حيث يلائم الطباع لأن من سمعه من حيث يستحسنه فهو متعرض للفتنة فيصير إلى ما صار اليه السماع الملذ المطرب
ومن الدليل على أن السماع عندهم ما تقدم ما ذكر عن أبى عثمان المغربى أنه قال من ادعى السماع ولم يسمع صوت الطير وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مفتر مبتدع
وقال الحصري ايش أعمل بسماع ينقطع ممن يسمع منه وينبغى أن يكون سماعك سماعا متصلا غير منقطع
وعن أحمد بن سالم قال خدمت سهل بن عبد الله التسترى سنين فما رأيته تغير عند سماع شىء يسمعه من الذكر أو القرآن أو غيره فلما كان في آخر عمره قرىء بين يديه فاليوم لا يؤخذ منكم فدية تغير وارتعد وكاد يسقط فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك فقال يا حبيبى ضعفنا
وقال السلمى دخلت على ابى عثمان المغربى وواحد يستقى الماء من البئر على بكرة فقال لى يا أبا عبد الرحمن تدرى إيش تقول هذه البكرة فقلت لا
فقال تقول الله فهذه الحكايات وأشباهها تدل على أن السماع عندهم كما تقدم وأنهم لا يؤثرون سماع الاشعار على غيرها فضلا على أن يتصنعوا فيها بالأغانى المطربة ولما طال الزمان وبعدوا عن أحول السلف الصالح أخذ الهوى في التفريع في السماع حتى صار يستعمل منه المصنوع على قانون الألحان فتعشقت به الطباع وكثر العمل به ودام - وإن كان قصدهم به الراحة فقط - فصار قذى في طريق سلوكهم فرجعوا به القهقرى ثم طال الأمد حتى اعتقده الجهال في هذا الزمان وما قاربه أنه قربة وجزء من أجزاء طريقة التصوف وهو الأدهى
وقول المجيب وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته وله في دعوته قصده
مطابق حسب ما ذكر أولا بأن من دعا قوما إلى منزله لتعلم آية أو سورة من كتاب الله أو سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/213)
أو مذاكرة في علم أو في نعم الله أو مؤانسة في شعر فيه حكمة ليس فيه غناء مكروه ولا صحبه شطح ولا زفن ولا صياح وغير ذلك من المنكرات ثم ألقى إليهم شيئا من الطعام على غير وجه التكلف والمباهاة ولم يقصد بذلك بدعة ولا امتيازا لفرقة تخرج بأفعالها وأقوالها عن السنة فلا شك في استحسان ذلك لأنه داخل في حكم المأدبة المقصود بها حسن العشرة بين الجيران والإخوان والتودد بين الأصحاب وهى في حكم الاستحباب فإن كان فيها تذاكر في علم أو نحوه فهي من باب التعاون على الخير
ومثاله ما يحكى عن محمد بن حينف قال دخلت يوما على القاضى على بن أحمد فقال لى
يا أبا عبد الله قلت لبيك أيها القاضى قال هاهنا أحكى لكم حكاية تحتاج أن تكتبها بماء الذهب فقلت أيها القاضى أما الذهب فلا أجده ولكنى أكتبها بالحبر الجيد فقال بلغنى أنه قيل لأبى عبد الله أحمد بن حنبل أن الحارث المحاسبى يتكلم في علوم الصوفية ويحتج عليه بالآى فقال أحمد احب أن اسمع كلامه من حيث لا يعلم فقال أنا اجمع معه - فاتخذ دعوة ودعا الحارث وأصحابه ودعا أحمد فجلس بحيث يرى الحارث فحضرت الصلاة فتقدم وصلى بهم المغرب وأحضر الطعام فجعل يأكل ويتحدث معهم فقال أحمد هذا من السنة
فلما فرغوا من الطعام وغسلوا أيديهم جلس الحارث وجلس أصحابه فقال من أراد منكم أن يسأل شيئا فليسأل فسئل عن الإخلاص وعن الرياء ومسائل كثيرة فاستشهد بالآى والحديث واحمد يسمع لا ينكر شيئا من ذلك فلما هدى من الليل أمر الحارث قارئا يقرأ شيئا من القرآن على الحدو فقرأ فبكى بعضهم وانتحب آخرون ثم سكت القارىء فدعا الحارث بدعوات خفاف ثم قام إلى الصلاة فلما اصبحوا قال أحمد قد كان بلغنى أن ها هنا مجالس للذكر يجتمعون عليها فإن كان هذا من تلك المجالس فلا أنكر منها شيئا(168/214)
ففى هذه الحكاية أن أحوال الصوفية توزن بميزان الشرع وأن مجالس الذكر ليست ما زعم هؤلاء بل ما تقدم لنا ذكره وأما ما سوى ذلك مما اعتادوه فهو مما ينكر
والحارث المحاسبى من كبار الصوفية المقتدى بهم فإذا ليس في كلام المجيب مايتعلق به هؤلاء المتأخرون إذ باينو المتقدمين من كل وجه وبالله التوفيق
والأمثلة في الباب كثيرة لو تتبعت لخرجنا عن المقصود وإنما ذكرنا أمثلة
تبين من استدلالاتهم الواهية ما يضاهيها وحاصلها الخروج في الاستدلال عن الطريق الذي أوضحه العلماء وبينه الائمة وحصر أنواعه الراسخون في العلم ومن نظر إلى طريق أهل البدع في الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط لانها سيالة لا تقف عند حد
وعلى كل وجه يصح لك زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حتى ينسب النحلة التي التزمها إلى الشريعة
فقد رأينا وسمعنا عن بعض الكفار أنه استدل على كفره بآيات القرآن كما استدل بعض النصارى على تشريك عيسى بقوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - واستدل على أن الكفار من أهل الجنة بإطلاق قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر الآية - واستدل بعض اليهود على تفضيلهم علينا بقوله سبحانه أذكروا نعمتى التي أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين - وبعض الحلولية استدل على قوله بقوله تعالى ونفخت فيه من روحى - والتناسخى استدل بقوله في أي صورة ما شاء ركبك
وكذلك كل من اتبع المتشابهات أو حرف المناطات او حمل الآيات مالا تحمله عند السلف الصالح او تمسك بالأحاديث الواهية أو أخذ الأدلة ببادى الرأى له أن يستدل على كل فعل أو قول أو أعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك اصلا والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها بآية أو حديث من غير توقف - حسبما تقدم ذكره - وسيأتى له نظائر ايضا إن شاء الله(168/215)
فمن طلب خلاص نفسه تثبت حتى يتضح له الطريق ومن تساهل رمته ايدى الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله
الباب الخامس
في أحكام البدع الحقيقة والإضافية والفرق بينهما
ولا بد قبل النظر في ذلك من تفسير البدعة الحقيقية والإضافية فنقول وبالله التوفيق
إن البدعة الحقيقية هي التى لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل ولذلك سميت بدعة - كما تقدم ذكره - لأنها شىء مخترع على غير مثال سابق وإن كان المبتدع يأتى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع إذ هو مدع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة لكن تلك الدعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر ولا بحسب الظاهر أما بحسب نفس الأمر فبالعرض وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شبه ليست بأدلة إن تثبت أنه استدل وإلا فألامر واضح
وأما البدعة الإضافية فهي التي له شائبتات إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة
والاخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية وهي البدعة الإضافية أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة لى الجهة الأخرى بدعة لها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى شىء
والفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الاصل قائم ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة
كما سنذكره إن شاء الله(168/216)
ثم نقول بعد هذا إن الحقيقة لما كانت أكثر وأعم وأشهر في الناس ذكرا وافترقت الفرق وكان الناس شيعا وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية وهي اسبق في فهم العلماء - تركنا الكلام فيما يتعلق بها من الأحكام ومع ذلك فقلما تختص بحكم دون كالإضافية بل هما معا يشتركان في أكثر الأحكام التي هي مقصود هذا الكتاب أن تشرح فيه بخلاف الإضافية فإن لها أحكاما خاصة وشرحا خاص - وهو المقصود في هذا الباب إلا أن الإضافية أولا على ضربين أحدهما يقرب من الحقيقية حتى تكاد البدعة تعد حقيقية والآخر يبعد منها حتى يكاد يعد سنة محضة
ولما أنقسمت هذا الانقسام صار من الأكيد الكلام على كل قسم على حدته فلنعقد في كل واحد منهما فصولا بحسب ما يقتضيه الوقت وبالله التوفيق
فصل
قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله
فما رعوها حق رعايتها
فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون فخرج عبد الله بن حميد وإسماعيل بن إسحاق القاضى وغيرهما عن عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم
هل تدرى أى الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم
قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على إليتيه واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين الله - ودين عيسى بن مريم عليهما السلام - فساحوا في الجبال وترهبوا فيها هم الذين قال الله عز وجل فيهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون فالمؤمنون الذين آمنوا بى وصدقوا بى والفاسقون الذين كذبوا وجحدوا وهذا الحديث من أحاديث الكوفيين(168/217)
والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق في السياحة واطراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير ذلك ومنه لزوم الصوامع والديارة - على ما كان عليه أمر النصارى قبل الإسلام - مع التزام العبادة
وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين
ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله تعالى إلا ابتغاء رضوان الله متصلا ومنفصلا فإذا بنينا على الاتصال فكأنه يقول ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه الذى هو العمل بها ابتغاء رضوان الله
فالمعنى أنها مما كتبت عليهم أى مما شرعت لهم - لكن بشرط قصد الرضوان فما رعوها حق رعايتها بدليل أنها تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو قول طائفة من المفسرين لأن قصد الرضوان إذا كان شرطا في العمل بما شرع لهم فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد فإلى أين اسار بهم ساروا وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره رجعوا إلى ما أحكم وتركوا ما نسخ وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول كان ذلك ابتاعا للهوى لا اتباعا للمشروع واتباع المشروع هو الذي يحصل به الرضوان وقصد الرضوان بذلك
قال تعالى فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون فالذين آمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها إذ لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا أن هذا التقرير يقتضى أن المشروع لهم يسمى ابتداعا وهو خلاف ما دل عليه حد البدعة
والجواب أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع إذ شرط عليهم فلم يقوموا به
وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها وصارت بدعة كالمخل قصدا بشرط من شروط الصلاة مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها فحيث عرف بذلك وعلمه فلم يلتزمه ودأب على الصلاة دون شرطها فذلك العمل من قبيل البدع
فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/218)
فلما بعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع وهو عين البدعة
وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع - وهو قول فريق من المفسرين - فالمعنى ما كتبناها عليهم اصلا ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فلم يعملوا بها بشرطها وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم
إذ بعث إلى الناس كافة وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين أحدهما يرجع إلى أنها بدعة حقيقية - كما تقدم - لأنها داخلة تحت حد البدعة
والثاني يرجع إلى أنها بدعة إضافية لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق بل لأنهم أخلوا بشرطها فمن لم يخل منهم بشرطها وعمل بها قبل بعث النبى صلى الله عليه وسلم
حصل له فيها أجر حسبما دل عليه قوله فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم أي أن من عمل بها في وقتها ثم آمن بالنبى صلى الله عليه بعد بعثه وفيناه أجره
وإنما قلنا إنها في هذا الوجه إضافية لأنها لو كانت حقيقية لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه لأن هذا حقيقة البدعة فلم يكن لهم بها أجر بل كانوا يستحقون العقاب لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه فدل على أنهم فعلوا ما كان جائزا لهم فعله فلا تكون بدعتهم حقيقية لكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة وسيأتى بعد بحول الله
وعلى كل تقدير فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم لانه نسخ في شريعتنا فلا رهبانية في الإسلام
وقال النبى صلى الله عليه وسلم
من رغب عن سنتى فليس منى
على أن ابن العربى نقل في الآية أربعة أقوال الأول ما تقدم
والثاني أن الرهبانية رفض النساء وهو المنسوخ في شرعنا
والثالث اتخاذ الصوامع للعزلة
والرابع السياحة
قال وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان
وظاهره يقتضى أنها بدعة لأن الذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارا منهم بدينهم وسميت بدعة والندب إليها يقتضى أن لا ابتداع فيها فكيف يجتمعان ولكن للمسألة فقد يذكر بحول الله(168/219)
وقيل إن معنى قوله تعالى ورهبانية ابتدعوها إنهم تركوا الحق وأكلوا لحوم الخنازير وشربوا الخمر ولم يغتسلوا من جنابة وتركوا الختان فما رعوها يعنى الطاعة والملة حق رعايتها فالهاء راجعة إلى غير مذكور
وهو الملة المفهوم معناها من قوله وجعلنا في قلوب الذين ابتعوه رأفة ورحمة لأنه يفهم منه أن ثم ملة متبعة كما دل قوله إذا عرض عليه بالعشى على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله تعالى توارت بالحجاب وكان المعنى على هذا القول ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه وإنما أمرناهم بالحق فالبدعة فيه إذا حقيقية لا إضافية وعلى كل تقدير فهذا الوجه هو الذى قال به أكثر العلماء فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة
وخرج سعيد بن منصور وإسماعيل القاضى عن أبى أمامة الباهلى رضى الله عنه أنه قال أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم إنما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه فإن أناسا من بنى إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال ورهبانية ابتدعوها الآية
وفي رواية فإن ناسا من بنى إسرائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها وتلا هذه الآية ورهبانية ابتدعوها الآية وهذا القول بقرب من قول بعض المفسرين في قوله فما رعوها حق رعايتها يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها
قال بعض نقلة التفسير وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل وأن يرعوه حق رعايته
قال ابن العربى - وقذ زاغ عن منهج الصواب - من يظن أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها
قال وليس يخرج هذا عن مضمون الكلام ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ولا يكتب على أحد شىء إلا بشرع أو نذر
قال وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل والله أعلم(168/220)
وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وفقه إذا أكثر العلماء على القول الأول فإن هذه الملة لا بدعة فيها ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال للقطع بالدليل إذ كل بدعة ضلالة - حسبما - تقدم - فالأصل أن يتبع الدليل ولا عمل على خلافه
ومعه ذلك فلا نخلى - بحول الله - قول أبى أمامة رضى الله عنه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر وذلك أنه عد عمل عمر رضى الله عنه في جمع الناس في المسجد على قارىء واحد في رمضان بدعة لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل
وقد مر أنه إنما سماها باعتبار ما وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة عمل بها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإنما تركها خوفا من الافتراض فلما انقضى زمن الوحى زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه إلا أن ذلك لم يتأت لأبى بكر رضى الله عنه زمان خلافته لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه وكذلك صدر خلافة عمر رضى اله عنه حتى تأتى النظر فوقع منه لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم يجر به عمل من تقدمه دائما فسماه بذلك الأسم لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة
فكأن أبا أمامة رضى الله عنه اعتبر فيه نظر ذلك العمل به فسماه إحداثا موافقة لتسمية عمر رضى الله عنه ثم أمر بالمداومة عليه بناء على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب له هو مندوب فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه لأن الأخذ في التطوعات الغير اللازمة ولا السنن الراتبة يقع على وجهين أحدهما أن تؤخذ على اصلها فيما استطاع الإنسان فتارة ينشط(168/221)
لها وتارة لا ينشط أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوها وما اشبه ذلك كالرجال يكون له اليوم ما يتصدق به فيتصدق ولا يكون له ذلك غدا أو يكون له إلا أنه لاينشط للعطاء او يرى إمساكه اصلح في عادته الجارية له أو غير ذلك من الأمور الطارئة للإنسان
فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها ولا لوم عليه إذ لو كان ثم لوم أو عتب لم يكن تطوعا وهو خلاف الفرض
والثاني أن تؤخذ مأخذ الملتزمات كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبة من عمل صالح في وقت من الأوقات كالتزام قيام حظ من الليل مثلا وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص كعاشوراء وعرفة او يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداة والعشى وما أشبه ذلك
فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه لأنه لما نوى الدؤوب عليها في الاستطاعة أشبهت الواجبات والسننن الراتبة كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع لم يصر واجبا إذ تركه اصلا لا حرج فيه في الجملة أعنى ترك الالتزام ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات فإنها مستحبة في الاصل ومن حيث صارت رواتب أشبهت السنن والواجبات
وهذا المعنى هو المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين بعد العصر من صلاهما فسئل عنهما فقال يا ابنة أبى أمية سألت عن الركعتين بعد العصر أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة فلما فاتتاه صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضى الواجب
فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف بحسب ما فهمنا من الشرع(168/222)
وإذا كان كذلك فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الأخذ بالرفق والتيسير وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه أو يحرج بالتزامه فإن ترك الألتزام إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربه والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة فصار الإخلال به مكروها
والدليل على صحة الأخذ بالرفق وأنه الأولى والأحرى - وإن كان الدوام على العمل أيضا مطلوبا عتيدا - في الكتاب والسنة واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم على قول طائفة من المفسرين أن الكثير من الأمر واقع في التكاليف الإسلامية
ومعنى لعنتم لحرجتم ولدخلت عليكم المشقة ودين الله لا حرج فيه ولكن الله حبب إليكم الإيمان بالتسهيل والتيسير وزينة في قلوبكم الآية
وإنما بعث النبى صلى الله عليه وسلم
بالحنيفية السمحة ووضع الإصر الأغلال التي كانت على غيرهم
وقال الله تعالى في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم
عزيز عليهم ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم وقال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا وسمى الله تعالى الأخذ بالتشديد على النفس اعتداء فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا
ومن الأحاديث كثير كمسألة الوصال ففى الحديث عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت نهاهم النبى صلى الله عليه وسلم
عن الوصال رحمة لهم قالوا إنك تواصل
قال إنى لست كهيئتكم إنى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقينى
وعن أنس رضى الله عنه قال واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم
في آخر شهر رمضان فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال لو مد لنا شهر لواصلنا وصالا حتى يدع المتعمقون تعمقهم وهذا إنكار
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الوصل فقال رجل من المسلمين فإنك يا رسول الله تواصل
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/223)
ت وأيكم مثلى إنى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقينى
فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال بهم يوما ثم يوما
ثم رأوا الهلال
فقال لو تأخر الشهر لزدتكم كالمنكل حين أبوا أن ينتهوا ومن ذلك مسئلة قيام النبى - صلى الله عليه وسلم - بهم في رمضان
فإنه تركه مخافة أن يفرض عليهم فيعجزوا عنه فيقعوا في الإثم والحرج فكان ذلك رفقا منه بهم
قال القاضى أبو الطيب يحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إليه أنه إن واصل رفقا هذه الصلاة معهم فرضت عليهم
وقالت عائشة رضى الله تعالى عنها إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم
وقد قيل هذا المعنى في قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تخصوا يوم الجمعة بصيام
قال المهلب وجهه خشيت أن يستمر عله فيفرض
وبهذا المعنى يجتمع النهى مع قول مالك رضى الله عنه في الموطإ ولا يكون فيه إشكال
ومن ذلك حديث الحولاء بنت تويت
قالت عائشة رضى الله عنها دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة فقال من هذه - فقلت أمرأة لا تنام تصلى
فقالت - صلى الله عليه وسلم - لا تنام الليل خذوا من ا لعمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا
فأعاد لفظ لا تنام منكرا عليها - والله أعلم - غير راض فعلها لما خافه عليها من الكلل والسآمة أو تعطيل حق أوكد
ونحوه حديث أنس رضى الله عنه قال دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد - وحبل ممدود بين ساريتين - فقال ما هذا - قالوا حبل لزينب تصلى فإذا كسلت أو فترت أمسكت به
فقال حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد وفي رواية لا حلوه وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال بلغ النبى صلى الله عليه وسلم
انى أصوم اسرد واصلى الليل فإما أرسل إلى وإما لقيته فقال ألم أخبر أنك تصوم لا تفطر وتصلى الليل فلا تفعل
فإن لعينك حظا ولنفسك حظا ولأهلك حظا فصم وأفطر وصل ونم الحديث(168/224)
وفي رواية عن ابن سلمة قال حدثنى عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة فإما ذكرت للنبى صلى الله عليه وسلم
وإما أرسل إلى فأتيته فقال ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة فقلت بلى يا رسول الله ولم أر في ذلك إلا الخير قال فإن كان كذلك - أو قال كذلك - فحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فقلت يا نبى الله إني أطيق أفضل من ذلك
قال فإن لزوجك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ولجسدك عليك حقا قال فصم صوم داود نبى الله فإنه كان أعبد الناس قال فقلت يا نبى الله - وما صوم داود قال كان يصوم يوما ويفطر يوما - قال واقرأ القرآن في كل شهر قال فقلت يا نبى الله إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك
فإن لزوجك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ولجسدك عليك حقا قال فشددت فشدد الله على
قال وقال لى النبى - صلى الله عليه وسلم - إنك لا تدرى لعلك يطول بك عمر قال فصرت إلى الذي قال لى النبى - صلى الله عليه وسلم -
فلما كبرت وددت أنى كنت قبلت رخصة نبى الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية قال صم يوما وأفطر يوما وذاك صيام داود وهو أعدل الصيام قال - فقلت إنى اطيق أفضل من ذلك
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أفضل من ذلك قال عبد الله بن عمرو لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلى من أهلى ومالي
وفي الترمذى عن جابر رضى الله عنه قال ذكر رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبادة واجتهاد وذكر عنده آخر بدعة
فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - لا يعدل بالدعة والدعة المراد بها هنا الرفق والتيسير
قال فيه الترمذى حسن غريب
وعن أنس رضى الله عنه قال جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبى - صلى الله عليه وسلم -(168/225)
فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبى - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم أما أنا فإنى أصلى الليل ابدا وقال الآخر إنى أصوم الدهر ولا افطر
وقال الآخر إنى أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا
فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إنى لاخشاكم لله وأتقاكم له لكنى اصوم وافطر واصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى
والأحاديث في المعنى كثيرة وهي بجملتها تدل على الأخذ في التسهيل والتيسير وإنما يتصور ذلك على الوجه الأول من عدم الالتزام وإن تصور مع الالتزام فعلى جهة ما لا يشق الدوام فيه حسبما نفسره الآن
فصل
فأما إن التزم أحد ذلك التزاما فعلى وجهين إما على جهة النذر وذلك مكروه ابتداء ألا ترى إلى حديث ابن عمر رضى الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوما ينهانا عن النذر يقول إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح - وفي رواية - النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره وإنما يستخرج به من البخيل
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم
قال لا تنذروا فإن النذر لا يغنى من القدر شيئا وإنما يسبتخر به من البخيل
وإنما ورد هذا الحديث - والله أعلم - تنبيها على عادة العرب في انها كانت تنذر
إن شفى الله مريضى فعلى صوم كذا وإن قدم غائبى أو إن أغناني الله فعلى صدقة كذا
فيقول لا يغنى من قدر الله شيئا بل من قدر الله له الصحة او المرض او الغنى أو الفقر أو غير ذلك فالنذر لم يوضع سببا لذلك كما وضعت صلة الرحم سببا في الزيادة في العمر مثلا على الوجه الذي ذكره العلماء
بل النذر وعدمه في ذلك سواء ولكن الله يستخرج به من البخيل بشرعية الوفاء به لقوله تعالى وأفوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وقوله صلى الله عليه من نذر أن يطيع الله فليطعه وبه قال جماعة من العلماء كمالك والشافعى(168/226)
ووجه النهى أنه من باب التشديد على النفس وهو الذي تقدم الاستشهاد على كراهيته
وأما على جهة الالتزام غير النذرى فكأنه نوع من الوعد والوفاء بالعهد مطلوب فكأنه أوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الشرع فهو تشديد ايضا وعليه يأتى ما تقدم من حديث الثلاثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النبى صلى الله عليه وسلم
وقولهم أين نحن من النبى صلى الله عليه وسلم
الخ وقال أحدهم أما أنا فأفعل كذا الخ
ونحوه وقع في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخبر أن عبد الله ابن عمرو رضى الله عنهما يوقل لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت
وليس بمعنى النذر إذا لو كان كذلك لم يقل له صم من الشهر ثلاثة ايام كذا وقال له أوف بنذرك
لأنه صلى الله عليه وسلم
قال من نذر أن يطيع الله فليطعه
فأما الالتزام بالمعنى النذرى
فلا بد من الوفاء به وجوبا لا ندبا - على ما قاله العلماء - وجاء في الكتاب والسنة ما يدل عليه وهو مذكور في كتب الفقه فلا نطيل به
وأما بالمعنى الثاني فالأدلة تقتضى الوفاء به في الجملة ولكن لا تبلغ مبلغ العتاب على الترك حسبما دلت عليه الأدلة في مأخذ أبى أمامة رضى الله عنه للقيام في المسجد جماعة كان ذلك بصورة النوافل الراتبة المقتضية للدوام في القصد الأول فأمرهم بالدوام حتى لا يكونوا كمن عاهد ثم لم يوف بعهده فيصير معاتبا لكن هذا القسم على وجهين الوجه الأول أن يكون في نفسه مما لا يطاق أو مما فيه حرج أو مشقة فادحة أو يؤدى إلى تضييع ما هو أولى
فهذه هي الرهبانية التي قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم
من رغب عن سنتى فليس منى وسأتى الكلام في ذلك إن شاء الله(168/227)
والوجه الثاني أن لا يكون في الدخول فيه مشقة ولا حرج ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه المشقة والحرج أو تضييع ما هو أوكد فهاهنا أيضا يقع النهى ابتداء وعليه دلت الأدلة المتقدمة وجاء في بعض روايات مسلم تفسير ذلك حيث قال فشددت فشدد على وقال لى النبى صلى الله عليه وسلم
إنك لا تدرى لعلك يطول بك عمر فتأملوا كيف اعتبر في التزام ما لا يلزم ابتداء أن يكون بحيث لا يشق الدوام عليه إلى الموت قال فصرت إلى الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما كبرت وددت أننى قبلت رخصة نبى الله صلى الله عليه وسلم
وعلى ذلك المعنى ينبغى أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم
في حديث أبى قتادة رضى الله عنه كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما قال ويطيق أحد ذلك ثم قال في صوم يوم وإفطار يوم وددت أنى طوقت ذلك فمعناه - والله أعلم - وددت أنى طوقت الدوام عليه وإلا فقد كان يواصل الصيام ويقول إنى لست كهيئتكم إنى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقينى
وفي الصحيح كان يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم
فصل
إذا ثبت هذا فالدخول في عمل على نية الالتزام له إن كان في المعتاد بحيث إذا داوم عليه أورث مللا ينبغى أن يعتقد أن هذا الالتزام مكروه ابتداء إذ هو مود إلى أمور جميعها منهى عنه أحدهما أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته وذلك يضاهى ردها على مهديها وهو غير لائق بالمملوك مع سيده فكيف يليق بالعبد مع ربه
والثاني خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع وقال صلى الله عليه وسلم
إخبارا عن داود عليه السلام إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى تنبيها على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء العدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن تكيده بسبب ضعفه(168/228)
وقيل لعبد الله بن مسعود رضى الله عنه إنك لتقل الصوم فقال إنه يشغلنى عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلى منه ولذلك كره مالك إحياء الليل كله وقال لعله يصبح مغلوبا وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسوة ثم قال لا بأس به مالم يضر بصلاة الصبح
وقد جاء في صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتين ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل لأنه قوة على الوقوف والدعاء ولابن وهب في ذلك حكاية وقد جاء في الحديث إن لأهلك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ولنفسك عليك حقا فإذا انقطع إلى عبادة لا تلزمه في الأصل فربما أخل بشىء من هذه الحقوق
وعن أبى جحيفة رضى الله تعالى عنه قال آخر ما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين سلمان وأبى الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال ما شأنك متبذلة قالت إن اخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا
قال فلما جاء أبو الدرداء قرب إليه طعاما فقال كل فإنى صائم قال ما أنا بآكل حتى تأكل
قال فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان نم فنام ثم ذهب يقوم فقال له نم فنام فلما كان عند الصبح قال له سلمان قم الآن فقاما فصليا فقال سمان إن لنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولضيفك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط لكل ذى حق حقه
فأتيا النبى صلى الله عليه وسلم
فذكرا ذلك له فقال صدق سلمان قال الترمذي صحيح
وهذا الحديث قد جمع التنبيه على حق الأهل بالوطء والاستمتاع وما يرجع إليه والضيف بالخدمة والتأنيس والمواكلة وغيرها والولد بالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة والنفس بترك إدخال المشقات عليها وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم وبوظائف أخر فرائض ونوافل آكد مما هو فيه(168/229)
والواجب أن يعطى لكل ذى حق حقه وإذا التزم الإنسان أمرا من الامور المندوبة أو أمرين أو ثلاثة فقد يصده ذلك عن القيام بغيرها او عن كماله على وجهه فيكون ملوما والثالث خوف كراهية النفس لذلك العمل الملتزم لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه فتدخل المشقة بحيث لا يقرب من وقت العمل إلا والنفس تشمئز منه وتود لو لم تعمل أو تتمنى لو لم تلتزم وإلى هذا المعنى يشير يدث عائشة رضى الله تعالى عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه قال إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله
فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى يشبه الموغل بالعنف بالمنبت وهو المنقطع في بعض الطريق تعنيفا على الظهر - وهو المركوب - حتى وقف فلم يقدر على السير ولو رفق بدايته لوصل إلى رأس المسافة
فكذلك الإنسان عمره مسافة والغاية الموت ودابته نفسه فكما هو المطلوب بالرفق بنسفه حتى يسهل عليها قطع مسافة العمر بحمل التكليف فنهى في الحديث عن التسبب في تبغيض العبادة للنفس وما نهى الشرع عنه لايكون حسنا
وخرج الطبرى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال لما نزلت ي أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عليا ومعاذا فقال انطلقا فبشرا ويسرا ولا تعسرا فإني قد أنزلت على يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهد ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه 4وسراجا منيرا
وخرج مسلم عن سعيد بن ابى بردة عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم
بعثه ومعاذا إلى اليمن فقال بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا
وعنه أن النبى صلى الله عليه وسلم
كان إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا وهذا نهى عن التعسير الذي التزام الحرج في التعبد نوع منه
وفي الطبرى عن جابر بن عبد الله قال مر النبى صلى الله عليه وسلم(168/230)
على رجل يصلى على صخرة بمكة فأتى ناحية مكة فمكث مليا ثم انصرف فوجد الرجل يصلى على حاله فقال أيها الناس عليكم بالقصد والقسط - ثلاثا - فإن الله لن يمل حتى تملوا
وعن بريدة الأسلمى أن النبى صلى الله عليه وسلم
رأى رجلا يصلى فقال من هذا فقلت هذا فلان
فذكرت من عبادته وصلاته
فقال إن خير دينكم يسره
وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الحالة وإنما ذلك مخافة الكراهية للعمل وكراهية العمل مظنه للترك الذي هو مكروه لمن الزم نفسه لأجل نقض العهد وهو الوجه الرابع
وقد مر في الوجه الثالث ما يدل عليه فإن قوله صلى الله عليه وسلم
فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى مع قوله ولا تبغضوا إلى أنفسكم العبادة يدل على أن بعض العمل وكراهيته مظنة الانقطاع ولذلك مثل صلى الله عليه وسلم
بالمنبت - وهو المنقطع عن استيفاء المسافة - وهو الذي دل عليه قول الله تعالى فما رعوها حق رعايتها على التفسير المذكور
والخامس الخوف من الدخول تحت الغلو في الدين فإن الغلو هو المبالغة في الأمر ومجاوزة الحد فيه إلى حيز الإسراف وقد دل عليه مما تقدم اشياء حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم
يا أيها الناس عليكم أنفسكم بالقصد الحيدث
وقال الله عز وجل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم
غداة العقبة اجمع لى حصيات من حصى الحذف فلما وضعتهن في يده قال فأمثال هؤلاء ما مثل هؤلاء إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين فأشار إلى أن الآية في النهى عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط وأكثر هذه الأحاديث المقيدة آنفا أخرجها الطبرى
وخرج أيضا عن يحيى بن جعدة قال كان يقال اعمل وأنت مشفق ودع العمل وأنت تحبه عمل دائم وإن قل خير من عمل كثير منقطع وأتى معاذا رجل فقال أوصنى
قال أمطيعى أنت قال نعم قال صل ونم وافطر وصم واكتسب ولا تأت الله إلا وأنت مسلم وإياك ودعوة المظلوم(168/231)
وعن إسحاق بن سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لعبد الله بن مطرف يا عبد الله العلم أفضل من العمل والحسنة بين السيئتين وخير الأمور أوسطها وشر السير الحقحقة
ومعنى قوله إن الحسنة بين السيئتين أن الحسنة هي القصد والعدل والسيئتين مجاوزة الحد والتقصير وهو الذي دل على معناه قول الله تعالى ولاتجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط الآية وقوله والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية ومعنى الحقحقة ارفع السير وإتعاب الظهر وهو راجع إلى الغلو والإفراط
ونحوه عن يزيد بن مرة الجعفى قال العلم خير من العمل والحسنة بين السيئتين
وعن كعب الأحبار إن هذا الدين متين فلا تبغض إليك دين الله وأوغل برفق فإن المنبت لم يقطع بعدا ولم يستبق ظهرا واعمل عمل المرء الذي يرى أنه لا يموت اليوم واحذر حذر المرء الذي يرى أنه يموت غدا
وخرج ابن وهب نحوه عن عبدالله بن عمرو بن العاص
وهذه إشارة إلى الأخذ بالعمل الذي يقتضى المداومة عليه من غير حرج
وعن عمر بن إسحاق
قال أدركت من اصحاب رسول الله صلى الله عليه أكثر ممن سبقنى منهم فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم
وقال الحسن دين الله وضع فوق التقصير ودون الغلو
والأدلة في هذا المعنى جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين والحرج كما ينطلق على الحرج الحالي - كالشروع في عبادة شاقة في نفسها - كذلك ينطلق على الحرج المآلى إذ كان الحرج لازما مع الدوام
كقصة عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما وغيرها - مما تقدم - مع أن الدوام مطلوب حسبما اقتضاه قول أبى أمامة رضى الله عنه في قوله تعالى فما رعوها حق رعايتها وقوله صلى الله عليه وسلم
أحب العمل إلى الله ما دوام عليه صاحبه وإن قل فلذلك كان صلى الله عليه وسلم
إذا عمل عملا أثتبه حتى قضى ركعتين ما بين الظهر والعصر بعد العصر(168/232)
هذا إن كان العامل لا ينوى الدوام فيه فكيف إذا عقد في نيته أن لا يتركه فهو أحرى بطلب الدوام فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لعبد الله ابن عمرو يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل وهو حديث صحيح فنهاه صلى الله عليه وسلم
أن يكون مثل فلان وهو ظاهر في كراهية الترك من ذلك الفلان وغيره
فالحاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام - مطلوب الترك لعلة أكثيرية تفهم عند تقريره أنها إذا فقدت زال طلب الترك وإذا ارتفع طلب الترك رجع إلى اصل العمل - وهو طلب الفعل
فالداخل فيه على التزام شرطه داخل في مكروه ابتداء من وجه لإمكان عدم الوفاء بالشرط وفي المندوب إليه حملا على ظاهر العزيمة على الوفاء
فمن حيث الندب أمره الشارع بالوفاء ومن حيث الكراهية كره له أن يدخل فيه
وحين صارت الكراهة هي المقدمة كان دخوله في العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغير أمر فأشبه المبتدع الداخل في عبادة غير مأمور بها
فقد يستسهل بهذا الاعتبار إطلاق البدعة عليها كما استسهله أبو أمامة رضى الله عنه
ومن حيث كان العمل مأمورا به ابتداء قبل النظر في المآل أو مع قطع النظر عن المشقة أو مع اعتقاد الوفاء بالشرط - أشبه صاحبه من دخل في نافلة قصدا للتعبد بها وذلك صحيح جار على مقتضى أدلة الندب ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء كان نذرا أو التزاما بالقلب غير نذر
ولو كان بدعة
داخلة في حد البدعة لم يؤمر بالوفاء ولكان عمله باطلا
ولذلك جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رأى رجلا قائما في الشمس فقال ما بال هذا فقالوا نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم فقال صلى الله عليه وسلم
مروه فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صيامه
فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع بما ليس بمشروع وأمره بالوفاء بما هو مشروع في الاصل فلولا الفرق بينهما معنى لم يكن للتفرقة بينهما معنى مفهوم(168/233)
وأيضا فإذا كان الداخل مأمورا4 بالدوام لزم من ذلك أن يكون الدخول طاعة بل لا بد لأن المباح فضلا عن المكروه والمحرم لا يؤمر بالدوام عليه ولا نظير لذلك في الشريعة
وعليه أيد قوله صلى الله عليه وسلم
من نذر أن يطيع الله فليطعه ولأن الله مدح ومن أوفى بنذره في قوله سبحانه يوفون بالنذر في معرض المدح وترتب الجزاء الحسن وفي آية الحديد فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ولا يكون الأجر إلا على مطلوب شرعا
فتأملوا هذا المعنى فهو الذي يجرى عليه عمل السلف الصالح رضى الله عنهم
بمقتضى الأدلة وبه يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادى الرأى حتى تنتظم الآيات والأحاديث وسير من تقدم والحمد الله
غير انه يبقى بعدها إشكالان قويان وبالنظر في الجواب عنهما ينتظم معنى المسألة على تمامه فنعقد في كل إشكال فصلا
فصل الإشكال الاول
إن ما تقدم من الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها معارض بما دل على خلافه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقوم حتى تورمت قدماه فيقال له أو ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تاخر فيقول أفلا أكون عبدا شكورا ويظل اليوم الطويل في الحر الشديد صائما وكان صلى الله عليه وسلم
يواصل الصيام ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ونحو ذلك من اجتهاده في عبادة ربه
وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
اسوة حسنة ونحن مأمورون بالتأسى به
فإن أبيتم هذا الدليل بسبب أنه صلى الله عليه وسلبم كان مخصوصا بهذه القضية
ولذلك كان ربه يطعمه ويسقيه وكان يطيق من العمل مالا تطيقه أمته
فما قولكم فيما ثبت من ذلك عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين العارفين بتلك الأدلة التي استدللتم بها على الكراهية حتى إن بعضهم قعد من رجليه من كثرة التبتل وصارت جبهة بعضهم كركبة البعير من كثرة السجود(168/234)
وجاء عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله وكم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء كذا كذا سنة وسرد الصيام كذا وكذا سنة وكانوا هم العارفين بالسنة لا يميلون عنها لحظة
وروى عن ابن عمر وابن الزبير رضى الله عنهم أنهما كانا يواصلان الصيام وأجاز مالك - وهو إمام في الاقتداء - صيام الدهر يعنى إذا أفطر أيام العيد
ومما يحكى عن أويس القرنى رضى الله عنه أنه كان يقوم ليلة حتى يصبح ويقول بلغنى أن لله عبادا سجودا ابدا يريد أن يتنفل بالصلاة فتارة يطول فيها القيام وتارة الركوع وتارة السجود
وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر فكان علقمة يقول له ويحك لم تعذب هذا الجسد فيقول إن الأمر جد إن الأمر جد
وعن أنس بن مالك رضى الله عنه أن أمرأة مسروق قالت كان يصلى حتى تورمت قدماه فربما جلست خلفه أبكى مما أراه يصنع بنفسه
وعن الشعبينى قال غشى على مسروق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
وعن الربيع بن خيثم أنه قال أتيت أويسا القرنى فوجدته قد صلى الصبح وقعد فقلت لا اشغله عن التسبيح فلما كان وقت الصلاة قام فصلى إلى الظهر فلما صلى الظهر صلى إلى العصر فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب فلما صلى المغرب صلى إلى العشاء فلما صلى العشاء صلى إلى الصبح فلما صلى الصبح جلس فأخذته عينه ثم انتبه فسمعته يقول اللهم إنى أعوذ بك من عين نوامة وبطن لا تشبع(168/235)
والآثار في المعنى كثيرة عن الأولين وهي تدل على الأخذ بما هو شاق في الدوام ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسنة بل عدوهم من السابقين جعلنا الله منهم وأيضا فإن النهى ليس عن العبادة المطلوبة بل هو عن الغلو فيها - غلوا يدخل المشقة على العامل فإذا فرضنا من فقدت في حقه تلك العلة فلا ينتهض النهى في حقه كما إذا قال الشارع لا يقض القاضى وهو غضبان - وكانت علة النهى تشويش الفكر عن استيفاء الحجج - اطرد النهى مع كل مشوش وانتفى عند انتفائه حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج
و هذا صحيح جار على الاصول
وحال من فقدت في حقه العلة حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أوالرجاء أو المحبة فإن الخوف سوط سائق
والرجاء حاد قائد والمحبة سيل حامل فالخائف إن وجد المشقة - فالخوف مما هو اشق يحمله على الصبر على ما هو أهون وإن كان العمل شاقا
والراجى يعمل وإن وجد المشقة لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب
والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب فيسهل عليه الصعب
ويقرب عليه البعيد وهو القوى كذا ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته
وإذا كان كذلك صح الجمع بين الأدلة وجاز الدخول في العمل التزاما مع الإيغال فيه إما مطلقا وإما مع ظن انتفاء العلة وإن دخلت المشقة فيما بعد إذا صح مع العامل الدوام على العمل ويكون ذلك جاريا على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح
والجواب أن ما تقدم من أدلة النهى صحيح صريح وما نقل عن الأولين يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يحمل أنهم إنما عملوا على التوسط الذي هو مظنة الدوام فلم يلزموا أنفسهم بما لعله يدخل عليهم المشقة حتى يتركوا بسببه ما هو أولى أو يتركوا العمل أو يبغضوه لثقله على أنفسهم بل التزمواما كان على النفوس سهلا في حقهم فإنما طلبوا اليسر لا العسر وهو الذي كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/236)
وحال من تقدم النقل عنه المتقدمين بناء على أنهم إنما عملوا بمحض السنة والطريقة العامة لجميع المكلفين
وهذه طريقة الطبرى في الجواب
وما تقدم في السؤال مما يظهر منه خلاف ذلك فقضايا أحوال يمكن حملها على وجه صحيح إذا ثبت أن العامل ممن يقتدى به
والثانى يحتمل أن يكونوا عملوا على المبالغة فيما استطاعوا لكن لا على جهة الالتزام لا بنذر ولا غيره وقد يدخل الإنسان في اعمال يشق الدوام عليها ولا يشق في الحال فيغتنم نشاطه في حالة خاصة غير ناظر فيها فيما يأتى ويكون جاريا فيه على اصل رفع الحرج حتى إذا لم يستطعه تركه ولا حرج عليه لأن المندوب لا حرج في تركه في الجملة
ويشعر بهذا المعنى ما في هذا الحديث عن عائشة رضى الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصوم حتى نقول لا يفطر
ويفطر حتى نقول لا يصوم
وما رأتيه استكمل صيام شهر قط إلا رمضان الحديث
فتأملوا وجه اعتبار النشاط والفراغ من الحقوق المتعلقة او القوة في الأعمال وكذلك قوله في صيام يوم وإفطار يومين ليتنى طوقت ذلك
إنما يريد المداومة لأنه قد كان يوالى الصيام حتى يقولوا لا يفطر
ولا يعترض هذا المأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم
احب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل وإن كان عمله دائما لأنه محمول على العمل الذي يشق فيه الدوام
وأما ما نقل عنهم من أدلة صلاة الصبح بوضوء العشاء وقيام جميع الليل وصيام الدهر ونحوه فيحتمل أن يكون على الشرط المذكور وهو أن لا يلتزم ذلك وإنما يدخل في العمل حالا يغتنم نشاطه فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضا وإذا لم يخل بما هو أولى عمل كذلك فيتفق أن يدوم له هذا النشاط زمانا طويلا
وفي كل حالة هو في فسحة الترك لكنه ينتهز الفرصة مع الأوقات فلا بعد في أن يصحبه النشاط إلى آخر العمر فيظنه الظان التزاما وليس بالتزام
وهذا صحيح ولا سيما مع سائق الخوف أو حادى الرجاء أو حامل المحبة وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم(168/237)
وجعلت قرة عينى في الصلاة فلذلك قام صلى الله عليه وسلم
حتى تورمت قدماه وامتثل امر ربه في قوله تعالى قم الليل إلا قليلا الآية
والثالث أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمرا منضبطا بل هو إضافى مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم أو في قوة عزائمهم أو في قوة يقينهم أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفسهم فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين لأن أحدهما أقوى جسما أو أقوى عزيمة أو يقينا بالموعود والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذا الأمور وأشباهها وتقوى مع ضعفها
فنحن نقول كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى زيد فهو منهى عنه ولا يشق على عمرو فا ينهى عنه
فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقا عليهم وإن كان ما هو أقل منه شاقا علنيا فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن نذخل فيما دخلوا فيه إلا بشرط أن يمتد مناط المسئلة فيما بيننا وبينهم وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله
وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى بالجميع وهو الذي دلت عليه الأدلة
دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم إلا على القليل النادر منهم والشاهد لصحة هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم
إنى لست كهيئتكم إنى أبيت عند ربى يطعمنى ويسقينى يريد صلى الله عليه وسلم
أنه لا يشق عليه الوصال ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق
فعلى هذا من رزق أنموذجا مما أعطيه صلى الله عليه وسلم
فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فلا حرج
وأما رده صلى الله عليه وسلم
على عبد الله بن عمرو فيمكن أن يكون شهد بانه لا يطيق الدوام ولذلك وقع له ما كان متوقعا حتى قال ليتنى قبلت رخصة نبى الله صلى الله عليه وسلم
ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما ما في الوصال جاريا على أنهم أعطوا حظا مما أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/238)
وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب الموافقات والحمد لله وإذا كان كذلك لم يكن في العمل المنقول عن السلف مخالفة ما سبق
فصل
لكن يبقى النظر في تعليل النهى وأنه يقتضى انتفاءه عند انتفاء العلة وما ذكروه فيه صحيح في الجملة وفيه في التفصيل نظر وذلك أن العلة راجعة إلى أمرين احدهما الخوف من الأنقطاع والترك إذا التزم فيما يشق فيه الدوام و الآخر الخوف من التقصير فيما هو الآكد من حق الله وحقوق الخلق
أما الأول فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد اصل فيه أصلا راجعا إلى قاعدة معلومة لا مظنونة وهي بيان أن العمل المورث للحرج عند الدوام منفى عن الشريعة كما أن أصل الحرج منفى عنها لأنه صلى الله عليه وسلم
بعث بالحنيفية السمحة ولا سماح مع دخول الحرج
فكل من الزم نفسه ما يلقى فيه الحرج فقد يخرج عن الاعتدال في حق نفسه وصار إدخال للحرج على نفسه من تلقاء نفسه لا من الشارع فإن دخل في العمل على شرط الوافاء فإن وفى فحسن بعد الوقوع إذ قد ظهر أن ذلك العمل إما غير شاق لأنه قد أتى به بشرطه وإما شاق صبر عليه فلم يوف النفس حقها من الرفق وسيأتى وإن لم يوف فكأنه نقض عهد الله وهو شديد فلو بقى على اصل براءة الذمة من الالتزام لم يدخل عليه ما يتقى منه
لكن لقائل أن يقول إن النهى هاهنا معلق بالرفق الراجع إلىالعامل - كما قالت عائشة رضى الله تعالى عنها نهى النبى صلى الله عليه وسلم
عن الوصال رحمة لهم فكأنه قد اعتبر حظ النفس في التعبد
فقيل له افعل واترك
أي لا تتكلف ما يشق عليك كما لا تتكلف في الفرائض ما يشق عليك لأن الله إنما وضع الفرائض علىالعباد على وجه من التيسير يشترك فيه القوى والضعيف والصغير والكبير والحر والعبد والرجل والمرأة حتى إذا كان بعض الفرائض يدخل الحرج على المكلف يسقط عنه جملة أو يعوض عنه ما لا حرج فيه كذلك النوافل المتكلم فيها
وإذا روعى حظ النفس فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل(168/239)
فله أن لا يمكنها من حظها وأن يستعمله فيما قد يشق عليها بالدوام - بناء على القاعدة المؤصلة في اصول الموافقات في إسقاط الحظوظ
فلا يكون إذا منهيا - على ذلك التقدير - فكما يجب على الإنسان حق لغيره مادام طالبا له وله الخيرة في ترك الطلب به فيرتفع الوجوب
كذلك جاء النهى حفظا على حظوظ النفس
فإذا اسقطها صاحبها زال النهى ورجع العمل إلى اصل الندب
والجواب أن حظوظ النفوس بالنسبة إلى الطلب بها قد يقال إنه من حقوق الله على العباد وقد يقال إنه من حقوق العباد فلا ينهض ما قلتم إذ ليس للمكلف خيرة فيه
فكما أنه متعبد بالرفق بغيره كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم
إن لنفسك عليك حقا إلى آخر الحديث فقرن حق النفس بحق الغير في الطلب في قوله فأعط كل ذى حق حقه ثم جعل ذلك حقا من الحقوق
ولا يطلق هذا اللفظ إلا على ما كان لازما
ويدل عليه أنه لا يحل للإنسان أن يبيح لنفسه ولا لغيره دمه ولا قطع طرف من أطرافه ولا إيلامه بشىء من الآلام ومن فعل ذلك أثم واستحق العقاب وهو ظاهر
وإن قلنا إنه من حق العبد وراجع إلى خيرته
فليس ذلك على الإطلاق إذ قد تبين في الأصول أن حقوق العباد ليست مجردة من حق الله
والدليل على ذلك - فيما نحن فيه - أنه لو كان إلى خيرتنا بإطلاق لم يقع النهى فيه علينا
بل كنا نخير فيه ابتداء وإلى ذلك فإنه لو كان بخيرة المكلف محضا لجاز للناذر العبادة أن يتركها متى شاء ويفعلها متى شاء
وقد اتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالنذر فيجرى ما اشبه مجراه وأيضا فقد فهمنا من الشرع أنه حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ومن جملة التزيين تشريعه على وجه يستحسن الدخول فيه ولا يكون هذا مع شرعية المشقات(168/240)
وإذا كان الإيغال في الأعمال من شأنه في العادة أن يورث الكلل والكراهية والانقطاع - الذى هو كالضد لتحبيب الإيمان وتزيينه في القلوب - كان مكروها لأنه على خلاف وضع الشريعة فلم ينبغ أن يدخل فيه على ذلك الوجه
وأما الثاني فإن الحقوق المتعلقة بالمكلف على أصناف كثيرة وأحكامها تختلف حسبما تعطيه أصول الأدلة ومن المعلوم أنه إذا تعارض على المكلف حقان ولم يمكن الجمع بينهما فلا بد من تقديم ما هو آكد في مقتضى الدليل فلو تعارض على الجمع بينهما فال بد من تقديم ماهو آكد في مقتضى الدليل فلو تعارض على المكلف واجب ومندوب لقدم الواجب على المندوب وصار المندوب في ذلك الوقت غير مندوب بل صار واجب الترك عقلا أو شرعا من باب ما لا يتم الواجب إلا به وإذا صار واجب الترك فكيف يصير العامل به إذ ذاك متعبدا لله به بل هو متعبد بما هو مطلوب في أصول الأدلة لأن دليل الندب عتيد ولكنه مع ذلك بالنسبة إلى هذا التعبد مانع من العمل به وهو حضور الواجب فإن عمل بالواجب فلا حرج في ترك المندوب على الجملة إلا أنه غير مخلص من جهة ذلك الالتزام المتقدم وقد مر ما فيه
وإن عمل بالمندوب عصى بترك الواجب
وبقى النظر في المندوب هل وقع موقعه في الندب أم لا فإن قلت إن ترك المندوب هنا واجب عقلا فقد ينهض المندوب سببا للثواب مع ما فيه من كونه مانعا من أداء الواجب وإن قلنا إنه واجب شرعا بعد من انتهاضه سببا للثواب إلا على وجه ما وفيه ايضا ما فيه
فأنت ترى ما في التزام النوافل على كل تقدير فرضا إذا كان مؤديا للحرج وهذا كله إذا كان الالتزام صادا عن الوفاء بالواجبات مباشرة قصدا أو غير قصد ويدخل فيه ما في حديث سلمان مع أبى الدرداء رضى الله عنهما إذ كان التزام قيام الليل مانعا له من أداء حقوق الزوجة من الاستمتاع الواجب عليه في الجملة وكذلك التزام صيام النهار(168/241)
ومثله لو كان التزام صلاة الضحى أو غيرها من النوافل مخلا بقيامه على مريضه المشرف والقيام على إعانة أهله بالقوت أو ما أشبه ذلك
ويجرى مجراه - وإن لم يكن في رتبته - أن لو كان ذلك الالتزام يفضى به على ضعف بدنه أو نهك قواه حتى لا يقدر على الاكتساب لأهله او أداء فرائضه على وجهها أو الجهاد أو طلب العلم
كما نبه عليه حديث داود عليه السلام أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وقد جاء في مقروض الصيام في السفر من التخيير ما جاء ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال عام الفتح إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم
قال أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه فاصبحنا منا الصائم ومنا المفطر
قال ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا قال فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا إشارة إلى أن الصيام ربما أضعف عن ملاقاة العدو وعمل الجهاد
فصيام النفل أولى بهذا الحكم
وعن جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم
راى رجلا يظلل عليه والزحام عليه فقال ليس من البر الصيام في السفر يعنى أن الصيام في السفر وإن كان واجبا ليس برا في السفر إذا بلغ به الإنسان ذلك الحد مع وجود الرخصة فالرخصة إذا مطلوبة في مثله بحيث تصير به آكد من أداء الواجب فما ليس بواجب في اصله أولى
فالحاصل أن كل من ألزم نفسه شيئا يشق عليه فلم يأت طريق البر على حده
فصل
إذا ثبت ما تقدم ورد الإشكال الثاني وهو أن التزم النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل وإذا خالفت فالمتعبد بها على ذاك التقدير متعبد بما لم يشرع وهو عين البدعة
فإما أن تنتظمها أدلة ذم البدعة او لا فإن انتظمتها أدلة الذم فهو غير صحيح لأمرين
أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما كره لعبد الله بن عمرو ما كره وقال له إنى أطيق افضل من ذلك
فقال له صلى الله عليه وسلم(168/242)
لا أفضل من ذلك تركه بعد التزامه ولولا أن عبد الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه لما التزمه وداوم عليه حتى قال ليتنى قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلو قلنا إنها بدعة - وقد ذم كل بدعة على العموم - لكان مقرا له عل خطإ
وذلك لا يجوز كما أنه لاينبغى أن يعتقد في الصحابى أنه خالف امر رسول الله صلى الله عليه وسلم
قصدا للتعبد بما نهاه عنه
فالصحابة رضى الله تعالى عنهم أتقى لله من ذلك
وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام واشباهه وإذا كان كذلك لم يمكن أن يقال إنها بدعة
أن العامل بها دائما بشرط الوفاء إن التزم الشرط فأداها على وجهها فلقد حصل مقصود الشارع فارتفع النهى إذا فلا مخالفة للدليل فلا ابتداع
وإن لم يلتزم أداءها
فإن كان باختيار فلا إشكال في المخالفة المذكورة كالناذر يترك المندوب بغير عذر ومع ذلك فلا يسمى تركه بدعة ولا عمله في وقت العمل بدعة ولا يسمى بالمجموع مبتدعا
وإن كان لعارض مرض او غيره من الأعذار فلا نسلم أنه مخالف كما لا يكون مخالفا في الواجب إذا عارضه فيه عارض كالصيام للمريض والحج لغير المستطيع فلا ابتداع إذا
وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهى بل هو مما يتعبد به وليس من قبيل المصالح المرسلة ولا غيرها مما له اصل على الجملة
وحينئذ يشمل هذا الاصل كل ملتزم تعبدى كان له أصل أم لا لكن فحيث يكون له أص على الجملة لا على التفصيل كتخصيص ليلة مولد النبى صلى الله عليه وسلم
بالقيام فيها ويومه بالصيام أو بركعات مخصوصة وقيام ليلة أول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان والتزام الدعاء جهرا بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام وما أشبه ذلك مما له أصل جلى وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله(168/243)
والجواب عن الأول - أن الإقرار - صحيح ولا يمتنع أن يجتمع مع النهى الإرشاد لأمر خارجى فإن النهى لم يكن لأجل خلل في نفس العابدة ولا في ركن من أركانها وإنما كان لأجل الخوف من أمر متوقع كما قالت عائشة رضى الله تعالى عنه إن النهى عن الوصال كالتنكيل بهم ولو كان منهيا عنه بالنسبة إليهم لما فعل
فأنظر كيف اجتمع في الشىء الواحد كونه عبادة ومنهيا عنه لكن باعتبارين ونظيره في الفقهيات ما يقوله جماعة من المحققين في البيع بعد نداء الجمعة فإنه نهى عنه لا من جهة كونه بيعا بل من جهة كونه مانعا من حضور الجمعة - فيجيزون البيع بعد الوقوع ويجعلونه فاسدا وإن وجد التصريح بالنهى فيه للعلم بأن النهى ليس براجع إلى نفس البيع بل إلى أمر يجاوره ولذلك يعلل جماعة ممن يقول بفسخ البيع لأنه زجر للمتابعين لا لأجل النهى عنه فليس عند هؤلاء ببيع فاسد ايضا ولا النهى راجع إلى نفس البيع
فالأمر بالعبادة شىء وكون المكلف يوفى بها اولا شىء آخر فإقرار النبى صلى الله عليه وسلم
لابن عمرو رضى الله عنهما على ما التزم ونهيه إياه إبتداء لا يدل على الفساد وإلا لزم التدافع وهو محال إلا أن ها هنا نظرا آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسم صار في هذه المسائل كالمرشد للمكلف وكالمبتدىء بالنصيحة عند وجود مظنة الاستنصاح فلما تكلف المكلف على اجتهاده دون نصيحة الناصح الأعرف بعوارض النفوس صار كالمتبع لرايه مع وجود النص وإن كان بتأويل فإن سمى في اللفظ بدعة فبهذا الاعتبار وإلا فهو متبع للدليل المنصوص من صاحب النصيحة وهو الدال على الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة(168/244)
ومن هنا قيل فيها إنها بدعة إضافية لا حقيقية ومعنى كونها إضافية ان الدليل فيها مرجوح بالنسبة لمن يشق عليه الدوام عليها وراجح بالنسبة إلى من وفى بشرطها ولذلك وفي بها عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما بعد ما ضعف وإن دخل عليه فيها بعض الحرج حتى تمنى قبول الرخصة بخلاف البدعة الحقيقية فإن الدليل عليها مفقود حقيقة فضلا عن أن يكون مرجوحا فهذه المسألة تشبه مسألة خطإ المجتهد فالقول فيهما متقارب وسيأتى الكلام فيهما إن شاء الله تعالى
وأما قوله ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهى عنه فليس كما قال وذلك أن المندوب هو من حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق الأمر ويشبه المباح من جهة رفع الحرج على التارك فهو واسطة بين الطرفين لا يتخلى إلى واحد منهما إلا أن قواعد الشرع شرطت في ناحية العمل شرطا كما شرطت في ناحية تركة شرطا فشرط العمل به أن لا يدخل فيه مدخلا يؤديه إلى الحرج المؤدى إلى انخرام الندب فيه رأسا او انخرام ما هو أولى منه وما وراء هذا موكول إلى خيرة المكلف فإذا دخل فيه فلا يخلو أن يدخل فيه على قصد انخرام الشرط أو لا فإن كان كذلك فهو القسم الذي يأتى إن شاء الله وحاصله أن الشارع طلبه برفع الحرج وهو يطالب نفسه بوضعه وإدخاله على نفسه وتكليفها ما لايستطاع مع زيادة الإخلال بكثير من الواجبات والسنن التى هي أولى مما دخل فيه ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة
وإن دخل على غير ذلك القصد فلا يخلو أن يجرى المندوب على مجراه أو لا فإن أجراه كذلك بان يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطا ولم يعارضه ماهو أولى مما دخل فيه فهو محض السنة التي لا مقال فيها لاجتماع الأدلة على صحة ذلك العمل إذ قد أمر فهو غير تارك ونهى عن الإيغال وإدخال الحرج فهو متحرز فلا إشكال في صحته وهو كان شأن السلف الأول ومن بعدهم وإن لم يجره على مجراه ولكنه أدخل فيه رأى الالتزام والدوام فذلك الرأى مكروه ابتداء(168/245)
لكن فهم من الشرع أن الوفاء - إن حصل - فهو - إن شاء الله - كفارة النهى فلا يصدق عليه في هذا القسم معنى البدعة لأن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والموفين بعهدهم إذا عاهدوا وإن لم يحصل الوفاء تمحض وجه النهى وربما أثم في الالتزام غير النذرى ولأجل احتمال عدم الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة لا لأجل أنه عمل لا دليل عليه بل الدليل عليه قائم ولذلك إذا التزم الإنسان بعض المندوبات التي يعلم أو يظن أن الدوام فيها لايوقع في حرج اصلا - وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة المنبه عليها - لم يقع في نهى بل في محض المندوبات كالنوافل الرواتب مع الصلوات والتسبيح والتحميد والتكبير في آثارها والذكر اللسانى الملتزم بالعشى والإبكار وما أشبه ذلك مما لا يخل بما هو أولى ولا يدخل حرجا بنفس العمل به ولا بالدوام عليه
وفي هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريحا ومنه كان جمع عمر رضى الله عنه الناس في رمضان في المسجد ومضى عليه الناس ن لأنه كان أولا سنة ثابتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم إنه أقام للناس بما كانوا قادرين عليه ومحبين فيه وفي شهر واحد من السنة لا دائما وموكولا إلى اختيارهم لأنه قال والتي ينامون عنها أفضل
وقد فهم السلف الصالح ان القيام في البيوت أفضل فكان كثير منهم ينصرفون فيقومون في منازلهم ومع ذلك فقد قال نعمت البدعة هذا
فأطلق عليها لفظ البدعة - كما ترى - نظرا - والله أعلم - إلى اعتبار الدوام وإن كان شهرا في السنة وأنه لم يقع فيمن قبله عملا دائما أو انه أظهره في المسجد الجامع مخالفا لسائر النوافل وإن كان ذلك واقعا في أصله كذلك فلما كان الدليل على ذلك القيام على الخصوص واضحا قال نعمت البدعة هذه
فحسنها بصيغة نعم التى تقتضى من المدح ما تقتضيه صيغة التعجب لو قال ما أسحنها من بدعة وذلك يخرجها قطعا عن كونها بدعة(168/246)
وعلى هذا المعنى جرى كلام أبى أمامة رضى الله عنه مستشهدا بالآية حيث قال أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم
إنما معناه ما ذكرناه
ولأجله قال فدوموا عليه
ولو كان بدعة على الحقيقة لنهى عنه ومن هذه الجهة أجرينا الكلام على ما نهى صلى الله عليه وسلم
عنه من التعبد المخوف الحرج في المآل واستسهلنا وضع ذلك في قسم البدع الإضافية تنبيها على وجهها ووضعها في الشرع مواضعها حتى لا يغتر بها مغتر فيأخذها على غير وجهها ويحتج بها على العمل بالبدعة الحقيقية قياسا عليها ولا يدرى ما عليه في ذلك وإنما تجشمنا إطلاق اللفظ هنا وكان ينبغي أن لا يفعل لولا الضرورة وبالله التوفيق
فصل
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون روى في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد وهو تحريم ما أحل الله من الطيبات تدينا أو شبه التدين والله نهى عن ذلك وجعله اعتداء والله لا يحب المعتدين
ثم قرر الإباحة تقريرا زائدة على ما تقرر بقوله وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ثم أمرهم بالتقوى وذلك مشعر بأن تحريم ما احل الله خارج عن درجة التقوى
فخرج إسماعيل القاضى من حديث أبى قلابة رضى الله عنه قال أراد ناس من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
فغلظ
فيهم المقالة فقال إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم
فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم قال ونزلت فيهم يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
وفي الترمذي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال إن رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلم(168/247)
فقال يا رسول الله إنى إذا اصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتنى شهوتى فحرمت على اللحم
فأنزل الله الآية حديث حسن وفي رواية عن ابن عباس رضى الله عنهما قال نزلت هذه الآية في رهط من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
منهم أبو بكر وعمر وعلى وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الاسود الكندى وسالم مولى أبى حذيفة رضى الله عنهم اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون الجمحى فتوافقوا أن يجبوا أنفسهم بأن يعتزلوا النساء ولا يأكلوا لحما ولا دسما وأن يلبسوا المسوح ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتا وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أمرهم فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده فيه ولا إياهم فقال لامرأة عثمان أم حكيم ابنة أبى أمية بن حارثة السلمى أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه قالت ما هو يارسول الله فأخبرها فكرهت أن لا تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكرهت أن تبدى على زوجها فقالت إن كان أخبرك عثمان فقد صدق فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
قولى لزوجك وأصحابه إذا رجعوا إن رسول الله يقول لكم إنى آكل وأشرب وآكل اللحم والدسم وأنام وآتى النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى فلما رجع عثمان واصحابه أخبرتهم امرأته بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا لقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمرنا فما أعجبه فذروا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونزل فيها يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قال من الطعام والشراب والجماع ولا تعتدوا قال في قطع المذاكير إن الله لا يحب المعتدين قال الحلال إلى الحرام
وفي الصحيح عن عبد الله قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/248)
ليس معنا نساء فقلنا ألا نختصى فنهانا عن ذلك فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل يعنى - والله اعلم - نكاح المتعة المنسوخ ثم قرأ ابن مسعود يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
وذكر إسماعيل عن يحيى بن يعمر أن عثمان بن مظعون رضى الله عنه هم بالسياحة وهو يصوم النهار ويقوم الليل وكانت امرأته امرأة عطرة فتركت الكحل والخضاب فقالت لها امرأة من أزواج النبى صلى الله عليه وسلم
أشهيد أنت أم مغيب فقالت بل شهيد غير ان عثمان لا يريد النساء فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم
فلقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له أتؤمن بما نؤمن به قال نعم
قال فاصنع مثل ما نصنع لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية
وخرج سعيد بن منصور عن خضير عن أبى مالك قال نزلت في عثمان بن مظعون واصحابه كانوا حرموا عليهم كثيرا من الطعام والنساء وهم بعضهم أن يقطع ذكره فأنزل الله تعالى يا ايها الذين آمنوا لاتحرموا الآية
وعن قتادة قال نزلت في ناس من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ارادوا انه يتخلوا عن الدنيا وتركوا النساء وترهبوا منهم على بن أبى طالب وعثمان بن مظعون
وخرج ابن المبارك ان عثمان بن مظعون أتى النبى صلى الله عليه وسلم
فقال ائذن لى في الاختصاء فقال النبى صلى الله عليه وسلم
ليس منا من خصى ولا اختصى إن اختصاء أمتى الصيام قال يا رسول الله ائذن لى في السياحة
قال إن سياحة أمتى الجهاد في سبيل الله قال يا رسول الله ائذن لى في الترهب
قال إن ترهب أمتى الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة وفي الصحيح رد رسول الله صلى الله عليه وسلم
التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لاختصى
وهذا كله واضح في ان جميع هذه الأشياء تحريم لما هو حلال في الشرع وإهمال لما قصد الشارع إعماله - وإن كان يقصد سلوك طريق الآخرة - لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام(168/249)
وإلى منع تحريم الحلال ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلا أنه إذا كان التحريم غير محلوف عليه فلا كفارة وإن كان محلوفا عليه ففيه الكفارة ويعمل الحالف بما أحل الله له
ومن ذلك ما ذكر إسماعيل القاضي عن معقل أنه سأل ابن مسعود رضى الله عنه فقال إنى حلفت أن لا أنام على فراشى سنة
فتلا عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا الأية
أدن فكل وكفر عن يمينك ونم على فراشك
وفي رواية كان معقل يكثر الصوم والصلاة فحلف أن لا ينام على فراشه فأتى ابن مسعود رضى الله عنه فسأله عن ذلك فقرأ عليه الآية
وعن المغيرة قال قلت لإبراهيم في هذه الآية لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم أهو الرجل يحرم الشىء مما أحل الله له قال نعم
وعن مسروق قال أتى عبد الله بضرع فقال للقوم ادنوا فأخذوا يطعمون
فقال رجل إنى حرمت الضرع
فقال عبد الله
هذا من خطوات الشيطان
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم إدن فكل وكفر عن يمينك
وعلى ذلك جرت الفتيا في الإسلام إن كل من حرم على نفسه شيئا مما أحل الله له فليس ذلك التحريم بشىء فليأكل إن كان مأكولا وليشرب إن كان مشروبا وليلبس إن كان ملبوسا وليملك إن كان مملوكا
وكأنه إجماع منهم منقول عن مالك وأبى حنيفة والشافعة وغيرهم واختلفوا في الزوجة
ومذهب مالك أن التحريم طلاق كلاطلاق الثلاث وما سوى ذلك فهو باطل لأن القرآن شهد بكونه اعتداء حتى إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيره قاصدا به العتق فوطؤها حلال
وكذلك سائل الأشياء من اللباس والمسكن والصمت والاستظلال والاستضحاء
وقد تقدم الحديث في الناذر للصوم قائما في الشمس ساكتا فإنه تحريم للجلوس والكلام والاستظلال والنبى صلى الله عليه وسلم
أمره بالجلوس والكتلم والاستظلال
قال مالك أمره ليتم ما كان له فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية
فتأملوا كيف جعل مالك ترك الحلال معصية وهو مقتضى الآية في قوله تعالى ولا تعتدوا الآية(168/250)
ومقتضى قول ابن مسعود رضى الله عنه لصاحب الضرر هذا من خطوات الشيطان
وقد ضعف ابن رشد الحفيد الاستدلال من المالكية بالحديث وتفسير مالك له وذكر أن قوله في الحديث ويترك ما كان عليه فيه معصية ليس بالظاهرا أن ترك الكلام معصية وقد أخبر الله تعالى أنه نذر مريم - قال - وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية إلا ما يتعلق من جهة تعب الجسم والنفس وقد يستحب للحاج أن لا يستظل
فإن قيل فيه معصية
فبالقياس على ما نهى عنه عن التعب لا بالنص والاصل فيه أنه من المباحاث
وما قاله ابن رشد غير ظاهر ولم يقل مالك في الحديث ما قال استنباطا منه بل الظاهر انه استدل بالآية المتكلم فيها وحمل الحديث فعليها بترك الكلام وإن كان في الشرائع الأول مشروعا فهو منسوخ بهذه الشريعة فهو عمل في مشروع بغير مشروع
وكذلك القيام في الشمس زيادة من باب تحريم الحلال وإن استحب في موضع فلا يلزم استحبابه في آخر
فصل ويتعلق بهذا الموضع مسائل
إحداها أن تحريم الحلال وما اشبه ذلك يتصور في أوجه الأول التحريم الحقيقي وهو الواقع من الكفار كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامى وجميع ما ذكر الله تعالى تحريمه عن الكفار بالرأى المحض
ومنه قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وما أشبهه من التحريم الواقع في الإسلام رأيا مجردا
الثانى أن يكون مجرد ترك لا لغرض بل لأن النفس تكرهه بطبعها أو لا تكرهه حتى تستعمله أولا تجد ثمنه أو تشتغل بما هو آكد وما اشبه ذلك
ومنه ترك النبى صلى الله عليه وسل لأكل الضب لقوهل فيه إنه لم يكن بأرض قومى فأجدنى أعافه ولا يسمى مثل هذا تحريما لأن التحريم يستلزم القصد إليه وهذا ليس كذلك(168/251)
الثالث ان يمتنع لنذره التحريم أو ما يجرى مجرى النذر من العزيمة القاطعة للعذر كتحريم النوم على الفراش سنة وتحريم الضرع وتحريم الادخار لغد وتحريم اللين من الطعام واللباس وتحريم الوطء والاستلذاذا بالنساء في الجملة وما اشبه ذلك
الرابع أن يحلف على بعض الحلال ان لا يفعله ومثله قد يسمى تحريما
قال إسماعيل القاضى إذا قال الرجل لأمته والله لا أقربها
فقد حرمها على نفسه باليمين فإذا غشيها وجبت عليه كفارة اليمين
وأتى بمسئلة ابن مقرن في سؤاله ابن مسعود رضى الله عنه إذ قال إني حلفت أن لا أنام على فراشى سنة - قال - فتلا عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية وقال له كفر عن يمينك ونم على فراشك
فأمره أن لا يحرم ما أحل الله له وان يكفر من أجل اليمين
فهذا الإطلاق يقتضى أنه نوع من التحريم وله وجه ظاهر فقد أشار إليه إسماعيل إلى أن الرجل كان إذا حلف أن لا يفعل شيئا من الحلال لم يجز له أن يفعله حتى نزلت كفارة اليمين لأجل ما كان قبل من التحريم ولما وردت الكفارة سمى تحريما ومن ثم - والله أعلم - سميت كفارة
المسألة الثانية
أن الآية التى نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم
أما الأول فلا مدخل له ها هنا لأن التحريم تشريع كالتحليل والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع اللهم إلا أن يدخل مبتدع رأيا كان من أهل الجاهلية أو من أهل الإسلام فهذا أمر آخر يجل السلف الصالح عن مثله فضلا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الخصوص
وقد وقع للمهلب في شرح البخارى ما قد يشعر بأن المراد في الأية التحريم بالمعنى الأول(168/252)
فقال التحريم إنما هو لله ولرسوله فلا يحل لأحد أن يحرم شيئا وقد وبخ الله من فعل ذلك فقال لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا فجعل ذلك من الاعتداء وقال ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب - قال فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشىء
وما قاله المهلب يرده السبب في نزول الآية ليس كما تقرر ولذلك لم يعد المحرم الحكم لغيره كما هو شأن التحريم بالمعنى الاول فصار مقصورا على المحرم دون غيره
وأما التحريم بالمعنى الثاني فلا حرج فيه في الجملة لأن بواعث النفوس على الشىء أو صارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم فقد يمتنع الإنسان من الحلال لأمر يجده في استعماله ككثير ممن يمتنع من شرب العسل لوجع يعتريه به حتى يحرمه على نفسه لا بمعنى التحريم الأول ولا الثالث بل بمعنى التوقى منه كما تتوقى سائر المؤلمات
ويدخل ها هنا المعنى امتناع النبى صلى الله عليه وسلم
من أكل الثوم لأنه كان يناجى الملائكة وهي تتأذى من رائحته وكذلك كل ما تكره رائحته
ولعل هذا المحل أولى من قول من قال إن الثوم ونحوه كانت محرمة عليه بالمعنى المختص بالشارع والمعنيان متقاربان وكلاهما غير داخل في معنى الأمر
وأما التحريم بالمعنى الرابع فيحتمل أن يدخل في عبارة التحريم فيكون قوله تعالى لا تحرموا طيبات ما احل الله لكم قد شمل التحريم بالنذر والتحريم باليمين والدليل على ذلك ذكر الكفارة بعدها بقوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين الخ
وما تقدم من أنه كان تحريما مجردا قبل نزول الكفارة وان جمعت من المفسرين قالوا في قوله تعالى يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك إن التحريم كان باليمين حين حلف النبى صلى الله عليه وسلم
أن لا يشرب العسل وسيأتى ذكر ذلك بحول الله
فإن قيل هل يكون قول الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم(168/253)
إنى إذا اصبت اللحم انتشرت للنساء - الحديث - من قبيل التحريم الثاني لا من الثالث - لأن الرجل قد يحرم الشىء للضرر الحاصل به وقد تقدم آنفا أنه ليس بتحريم حقيقة فكذلك ها هنا لا يريد بالتحريم النذر بل يريد به التوقى أي إنى أخاف على نفسى العنت وكان هذا المعنى _ والله أعلم _ هو مقصود الصحابى رضى الله عنه
فالجواب أن من يلحقه الضرر وقت ما يتناول شيئا يمكنه أن يمسك عنه من غير تحريم _ والتارك لامر لا يلزمه أن يكون محرما له فكم من رجل ترك الطعام الفلانى أو النكاح لأنه فى الوقت لا يشتهيه أو لغير ذلك من الاعذار حتى إذا زال عذره تناول منه وقد ترك صلى الله عليه وسلم
أكل الضب ولم يكن تركه موجبا لتحريمه
والدليل على أن المراد بالتحريم الظاهر وأنه لايصح وإن كان تقدم أن النبى صلى الله عليه وسلم
رد عليه بالآية فلو كان وجود مثل تلك الاعذار مبيحا للتحريم بالمعنى الثالث لوقع التفصيل فى الآية بالنسبة إلى من حرم لعذر إو غير عذر
وأيضا فإن الانتشار للنساء ليس بمذموم فإنه النبى صلى الله عليه وسلم
قال من استطاع منكم الباءة فليتزوج الحديث فإنه أحب الانسان قضاء الشهوة تزوج فحصل له مافى الحديث زيادة إلى النسل المطلوب فى الملة فكان محرم ما يحصل به الانشار ساع فى التشبه بالرهبانية وكان ذلك منتفيا عن الاسلام كسائر ما ذكر فى الآية
والمسألة الثالثة
ان هذه الاية يشكل معناها مع قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة للآية فإن الله أخبر عن نبى من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أنه حرم على نفسه حلالا ففيه دليل لجواز مثله
والجواب أنه لا دليل فى الاية لان ما تقدم يقرر أن لا تحريم فى الاسلام فيبقى ما كان شرعا لغيرنا منفيا عن شرعنا كما تقرر فى الاصول(168/254)
خرج القاضى إسماعيل وغيره عن عباس رضى الله عنهما أن أسرائيل النبى يعقوب عليه السلام أخذه عرق النسا فكان يبيت وعليه زقاء فجعل عليه إن شفاه الله ليحرمن عليه العروق
وذلك قبل نزول التوراة
قالوا فلذلك نسل اليهود لا يأكلونها
وفي رواية جعل على نفسه أن لا يأكل لحوم الإبل - قال - فحرمته اليهود
وعن الكلبى أن يعقوب عليه السلام قال إن الله شفانى لأحرمن أطيب الطعام والشراب - أو قا ل - أحب الطعام أو الشراب إلى
فحرم لحوم الإبل وألبانها
قال القاضى الذي نحسب - والله أعلم - أن إسرائيل حين حرم على نفسه من الحلال ما حرم لم يكن في ذلك الوقت منهيا عن ذلك وأنهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا من الحلال لم يجز لهم أن يفعلوه حتى نزلت كفارة اليمين
قال الله تعال قد فرض الله لكم تحلة إيمانكم والحالف إذا حلف على شيء ولم يقل إن شاء الله كان الخيار إن شاء فعل وكفر وإن شاء لم يفعل - قال وهذه الاشياء وما اشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والمنسوخ فكان الناسخ في هذا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قال فلما وقع النهى لم يجز للانسان ان يقول الطعام على حرام وما أشبه ذلك من الحلال
فإن قال إنسان شيئا من ذلك كان قوله باطلا وإن حلف على ذلك بالله كان له أن يأتى الذى هو خير ويكفر عن يمينه قال إسماعيل بن إسحاق يمكن أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم
حرمها - يعنى جاريته - بيمين الله لأن الرجل إذا قال لأمته والله لا اقربك
فقد حرمها على نفسه باليمين فإذا غشيها وجبت عليه كفارة اليمين
ثم اتى بمسألة ابن مقرن
ويمكن أن يكون السبب شرب العسل وهو الذي وقع في البخارى من طريق هشام عن ابن جريج قال فيه شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت فلا تخبرى بذلك أحدا وإذا كان كذلك فلم يبق في المسألة إشكال
ولا فرق بين الجارية والعسل في الحكم لأن تحريم الجارية كيف ما كان بمنزلة تحريم ما يؤكل ويشرب(168/255)
وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحريم فيحتمل وجهين كالأول
أحدهما أن يكون التحريم في سورة التحريم بمعنى الحلف
والثاني أن تكون آية العقود غير متناولة للنبى صلى الله عليه وسلم
وأن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا لا تدخل فيه بناء على قوله من قال بذلك من الاصوليين وعند ذلك لا يبقى في القضية ما ينظر فيه ولا يكون للمحتج بالآية متعلق والله أعلم
فصل
إذا ثبت هذا فكل من عمل على هذا القصد فعمله غير صحيح لأنه عامل إما بغير شريعة لأنه لم يتبع أدلتها وإما عامل بشرع منسوخ والعمل بالمنسوخ مع العلم بالناسخ باطل بلا خلاف لأن الترهيب والامتناع من النساء وغير ذلك إن كان مشروعا ففيما قبل هذه الشريعة من الشرائع - وقد تقدم قول النبى صلى الله عليه وسلم
لكنى أصوم وأفطر واصلى وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى وهو معنى البدعة
نحن في تقريره وأنه السنة المتبعة والهدى الصالح والصراط المستقيم وليس في كلام زيد ابن اسلم وغيره في معنى التبتل ما يناقض هذا المعنى لأن رفض الدنيا ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية
واجعل سير السلف الصالح مرآة لك تنظر فيها معنى التبتل على وجه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
فلقد كانوا رضى الله تعالى عنهم مكتسبين للمال به فيما أبيح لهم منفقين له حيث ندبوا لم يتعلق بقلوبهم منه شىء إذا عن لهم أمر أو نهى بل قدموا أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم الباطلة على وجه لم يخل بحظوظهم فيه وهو التوسط الذي تقدم ذكره
ثم ندبهم الشارع إلى اتخاذ الأهل والولد فبادروا إلى الامتثال ولم يقولوا هو شاغل لنا عما أمرنا به(168/256)
لأن هذا القول مشعر بالغفلة عن معنى التكليف به فإن الاصل الشرعي أن كل مطلوب هومن جملة ما يتعبد به إلى الله تعالى ويتقرب به إليه فالعبادات المحضة ظاهر فيها ذلك والعادات كلها إذا قصد بها امتثال أمر الله عبادات إلا أنه إذا لم يقصد بها ذلك القصد ويجىء بها نحو الحظ مجردا فإذ ذاك لا تقع متعبدا أنها ولامثابا عليها وإن صح وقوعها شرعا
فالصحابة رضى الله تعالى عنهم قد فهموا هذا المعنى ولا يمكن مع فهم أن تتعارض الأوامر في حقهم ولا في حق من فهم منها ما فهموا منها فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل في الجريات على السنة وكذلك كلام الحسن وغيره في تفسير الآية صحيح إذا أخذ هذا المأخذ أي اتبع الهدى واتبع أمر ربك فإنه العليم بما يصلح لك والقائم على تدبيرك ولذلك قال على أثرها رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا أي بك وإنه وكيل لك بالنسبة إلى ما ليس من كسبك فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تحت كسبك مما هو تكليف في حقك ومن جملة ما توكل لك فيه أن لا تدخل نفسك في عمل تحرج بسببه حالا ومآلا
وقد فسر التبتل بأنه الإخلاص وهو قول مجاهد والضحاك وقال قتادة أخلص له العبادة والدعوة فعلى هذا التفسير لا تعلق فيها لمورد السؤال
وإذا تقرر هذا فالسياحة واتخاذ الصوامع وسكنى الجبال والكهوف إن كان على شرط أن لا يحرموا ما أحل الله من الأمور التي حرمها الرهبان بل على حد ما كانوا عليه في الحواضر ومجامع الناس لا يشددون على أنفسهم بمقدار ما يشق عليهم فلا إشكال في صحة هذه الرهبانية غير أنها لا تسمى رهبانية إلا بنوع من المجاز أو النقل العرفى الذي لم ثجر عليه معتاد اللغة فلا تدخل في مقتضى قوله تعالى ورهبانية ابتدعوها لا في الاسم ولا في المعنى
وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان فلا نسلم أنه في هذه الشريعة مندوب إليه ولا مباح بل هو مما لا يجوز لأنه كالشرع بغير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم(168/257)
فلا ينتظمه معنى قوله صلى الله عليه وسلم
من رغب عن سنتى فليس منى
وأما ما ذكره الغزالى وغيره من تفضيله العزلة على المخالطة وترجيح الغربة على اتخاذ أهل عند اعتوار العوارض فذلك يستمد من اصل آخر لا من هنا
وبيانه أن المطلوبات الشرعية لا تخلو أن يكون المكلف قادرا على الامتثال فيها مع سلامته عند العمل لها من وقوعه في منهى عنه ولا فإن كان قادرا في مجارى العادات بحيث لا يعارضه مكروه أو محرم فلا إشكال في كون الطلب متوجها عليه بقدر استطاعته على حد ما كان السلف الصالح عليه قبل وقوع الفتن وإن لم يقدر على ذلك إلا بوقوعه في مكروه أو محرم ففي بقاء الطلب هنا تفصيل - بحسب ما يظهر من كلام أبى حامد رحمه الله تعالى - إذ يكون المطلوب مندوبا لكنه لا يعمل به إلا بوقوعه في ممنوع فالمندوب ساقط عنه بلا إشكال كالمندوب للصدقة على المحتاج لا مال بيده إلا مال الغير فلا يجوز له العمل بالندب لأنه يقع بسببه في التصرف في مال الغير بغير إذنه و لا يجوز فهو كالفاقد لما يتصدق به وكالقادم على مريضه المشرف او دفن ميت يخاف تغييره بتركه ثم يقوم يصلى نافلة والمتزوج لا يجد إلا مالا حراما وأشباه ذلك(168/258)
وقد يكون المطلوب واجبا إلا أن وقوعه فيه يدخله في مكروه وهذا غير معتد به لأن القيام بالواجب آكد أو يوقعه في ممنوع فهذا هو الذي يتعارض على الحقيقة إلا أن الواجبات ليست على وزان واحد كما أن المحرمات كذلك فلا بد من الموازنة فإن ترجح جانب الواجب صار المحرم في حكم العفو أو في حكم التلافى إن كان مما تتلافى مفسدته وإن ترجح جانب المحرم سقط حكم الواجب أو طلب بالتلافى وإن كان تعادلا في نظر المجتهد فهو مجال نظر المجتهدين والأولى - عند جماعة - رعاية جانب المحرم لأن درء المفاسد آكد من جلب المصالح فإذا كانت العزلة مؤدية إلى السلامة فهي الاولى في أزمنة الفتن والفتن لا تختص بفتن الحروب فقط فهي جارية في الجاه والمال وغيرهما من مكتسبات الدنيا وضابطها ما صد عن طاعة الله ومثل هذا يجرى بين المندوب والمكروه وبين المكروهين
وإن كانت العزلة مؤدية إلى ترك الجمعيات والجماعات والتعاون على الطاعات واشباه ذلك فإنها أيضا سلامة من جهة أخرى ويقع التوازن بين المأمورات والمنهيات وكذلك النكاح إذا أدى إلى العمل بالمعاصى ولم يكن في تركه معصية كان تركه أولى ومن امثلة ذلك - غير أنه مشكل - ما ذكره الوليد بن مسلم بسنده إلى حبيب بن مسلمة أنه قال لمعن بن ثور هل تدرى لم اتحذت النصارى الديارات قال معن ولم قال إنه لما أحدث الملوك البدع وضيعوا أمر النبيين وأكلوا الخنازير اعتزلوهم لي الديارات وتركوهم وما ابتدعوا فتخلوا للعابدة قال حبيب لمعن فهل لك قال ليس بيوم ذلك(168/259)
فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع في ديننا كذلك ومراده أن اعتزال الناس عند اشتهارهم بالبدع وغلبة الأهواء على حد ما شرع في ديننا لا أن نفس ما فعلت النصارى في رهبانيتها متيسر لنا لما ثبت من نسخه فعلى هذه الأحرف جرى كلام الإمام أبى حامد وغيره ممن نقل هو عنهم واحتج بهم ويدل على ذلك أن جماعة ممن نقل عنهم الترغيب في الغزلة كانوا متزوجين بهم ولم يكن ذلك مانعا من البقاء على ما هم عليه بناء منهم على التحرى في الموازنة بين ما يلحقهم بسبب التزوج فلا إشكال إذا على هذا التقرير في كلام الغزالى ولا غيره ممن سلك مسكله لأنهم بنوا على اصل قطعى في الشرع محكم لا ينسخه شىء وليس من مسالتنا بسبيل ولكن ثم تحقيق زائد لا يسع إيراده هاهنا واصله ماخوذ من كتاب الموافقات من تمرن فيه حقق هذا المعنى على التمام وبالله تعالى التوفيق
والحاصل أن مضمون هذا الفصل يقتضى أن العمل على الرهبانية المنفية في الآية بدعة من البدع الحقيقية لا ألإضافية لرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها اصلا وفرعا
فصل
ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفا أن الحرج منفى عن الدين جملة وتفصيلا - وإن كان قد ثبت أيضا في الاصول الفقهية على وجه من البرهان أبلغ - فلنبن عليه فنقول قد فهم قوم من اصول السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممن ثبتت ولا يتهم أنهم كانوا يشددون على انفسهم ويلزمون غيرهم الشدة ايضا والتزام الحرج ديدنا في سلوك طريق الآخرة وعدوا من لم يدخل تحت هذا الالتزام مقصرا مطرودا أو محروما وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية ن فرشحوا بذلك ما التزموه فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية(168/260)
فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة أحدهما سهل والآخر صعب وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الاصعب الذي يشق على المكلف مثله ويترك الطريق الاسهل بناء على التشديد على النفس كالذى يجد للطهارة ماءين سخنا وباردا فيتحرى البارد الشاق استعماله ويترك الآخر فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد فالشارع لم يرض بشرعية مثله وقد قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما فصار متبعا لهواه ولا حجة له في قوله عليه الصلاة والسلام ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات
إسباغ الوضوء عند الكريهات الحديث من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سببا لمحو الخطايا ورفع الدرجات ففيه دليل على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس ولا يكون إلا بتحرى إدخال الكراهية عليها لأنا نقول لا دليل في الحديث على ما قلتم وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية ففيه أمر زائد كالرجل يجد ماء باردا في زمان الشتاء ولا يجده سخنا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ
وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الحرج تعارضه وهي قطعية وخبر الواحد ظنى فلا تعارض بينهما للاتفاق على تقديم القطعى ومثل الحديث قول الله تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة الآية
ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرد التشديد لا لغرض سواه فهو من النمط المذكور فوقه لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف وهو أيضا مخالف لقوله عليه الصلاة والسلامة إن لنفسك عليك حقا وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم(168/261)
يأكل الطيب إذا وجده وكان يحب الحلواء والعسل ويعجبه لحم الذراع ويستعذب له الماء فأين التشديد من هذا ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد المباح بدليل ما تقدم فإذا الاقتصار على البشيع في المأكول من غير عذر تنطع وقد مر ما فيه في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طليبات ما أحل الله لكم الآية
ومن ذلك الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة فإنه من قبيل التشديد والتنطع المذموم وفيه أيضا من قصد الشهرة ما فيه وقد روى عن الربيع بن زياد الحارثى أنه قال لعلى بن أبى طالب رضى الله عنه أغد بى على أخى عاصم
قال ما باله قال لبس العباء يريد النسك
فقال على رضى الله عنه على به
فأتى به مؤتزرا بعباءة مرتديا بالأخرى شعث الرأس واللحية فعبس في وجهه وقال ويحك أما استحييت من أهلك أما رحمت ولدك أترى الله اباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا بل أنت أهون على الله من ذلك أما سمعت الله يقول في كتابه والأرض وضعها للأنام - إلى قوله يخرج منها اللولو اوالمرجان أفترى الله أباح هذه لعباده إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثبتهم عليه وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول
قال عاصم فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك قال ويحك إن الله فرض على ائمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس
فتأملوا كيف لم يطالب الله العباد بترك الملذوذات وإنما طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها فالمتحرى للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعى مفتات على الشارع وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات من هذه الجهة
وإنما امتنعوا منه لعارض شرعى يشهد الدليل باعتباره كالامتناع من التوسع لضيق الحال في يده أو لان المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يتفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه(168/262)
وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها لاحتمالها في أنفسها
وهذه المسئلة مذكورة على وجهها في كتاب الموافقات ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس وحملها على ذلك في كل شىء من غير استثناء فهو من قبيل التشديد
ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء تهمة النفس وتمتعها واستلذاذها فلو كانت مخالفتها برا لشرع ولندب الناس إلى تركه فلم يكن مباحا بل مندوب الترك أو مكروه الفعل
وأيضا فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابا أو ندبا اشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور كما جعل في الأوامر إذا امتثلت وفي النواهي إذا اجتنبت أجورا منتظرة ولو شاء لم يفعل وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت جزاءا على خلاف الأول ليكون جميع ذلك منهضا لعزائم المكلفين في الامتثال حتى إنه وضع لأهل الأمتثال الثائرين على المبايعة في أنفس التكاليف أنواعا من اللذات العاجلة والأنوار الشارحة للصدور مالا يعدله من لذات الدنيا شىء حتى يكون سببا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها فيخف على العامل العمل حتى يتحمل منه لما لم يكن قادرا قبل على تحمله إلا بالمشقة المنهى عنها فإذا سقطت سقط النهى
بل تأملوا كيف وضع للاطعمة على اختلافها لذات مختلفات الألوان وللأشربة كذلك وللوقوع الموضوع سببا لاكتساب العيال - وهو اشد تعبا عن النفس - لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن نسف المتناول كوضع القبول في الأرض وترفيع المنازل والتقدم على سائر الناس في الأمور العظائم وهي أيضا تقتضى لذات تستصغر في جنبها لذات الدنيا(168/263)
وإذا كان كذلك فأين هذا الموضع الكريم من الرب اللطيف الخبير فمن يأتى متعبدا بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والاسباب الموصلة إلى محبته فيأخذ بالاشق والاصعب ويجعله هو السلم الموصل والطريق الاخص هل هذا كله إلى غاية في الجهالة وتلف في تيه الضلالة عافانا الله من ذلك بفضله فإذا سمعتم بحكاية تقتضى تشديدا على هذا السبيل أو يظهر منها تنطع أو تكلف فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح أو من غيرهم ممن لا يعرف ولا ثبت اعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء فإن كان الأول فلا بد أن يكون على خلاف ما ظهر لبادى الرأى - كما تقدم - وإن كان الثاني فلا حجة فيه وإنما الحجة في المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم
فهذه خمسة في التشديد في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها
فصل
قد يكون اصل العمل مشروعا ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة من باب الذارئع ولكن على غيرالوجه الذي فرغنا من ذكره وبيانه أن العمل يكون مندوبا إليه - مثلا - فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الاول من الندبية فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس ويجرى مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائما بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم فهذا صحيح لا إشكال فيه
واصله ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم
لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت وقوله أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة فاقتصر في الإظهار على المكتوبات - كما ترى - وإن كان ذلك في مسجده عليه السلام أو في المسجد الحرام أو في مسجد بيت المقدس حتى قالوا إن النافلة في البيت أفضل منها في احد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث(168/264)
وجرى مجرى الفرائض في الإظهار السنن كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك فبقى ما سوى ذلك حكمه الإخفاء ومن هنا التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأى في التشريع فكيف إذا عارضه الدليل وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلا
ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما وظاف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعا
ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنة
وهذا فساد عظيم لان اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العمل بالسنة نحو من تبديل الشريعة كما لو اعتقد في الفرض انه ليس بفرض او فيما ليس بفرض انه فرض ثم عمل على وفق اعتقاده فإنه فاسد فهب العمل في الأصل صحيحا فإخراجه عن بابه اعتقادا وعملا من باب إفساد الأحكام الشرعية ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سننا قصدا لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالاضحية وغيرها - كما تقدم ذلك
ولأجله أيضا نهى أكثرهم عن اتباع الآثار كما خرج الطحاوى وابن وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدى قال وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضى الله عنه فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها ألم تر كيف فعل ربك و لايلاف قريش ثم راى ناسا يذهبون مذهبا
فقال اين يذهب هؤلاء قالوا ياتون مسجدا ها هنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا من أدركته الصلاة في شىء من هذا المساجد التى صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها
وقال ابن وضاح سمعت عيسى بن يونس مفتى أهل طرسوس يقول امر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبى صلى الله عليه وسلم(168/265)
فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة قال ابن وضاح وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبى صلى الله عليه وسلم
ما عدا قباء وحده
وقال وسمعتهم يذكرون أن سفيان دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها وكذلك فعل غيره ايضا ممن يقتدى به وقدم وكيع أيضا مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان
قال ابن وضاح فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين فقد قال بعض من مضى كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير
وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ سنة ما ليس بسنة أو يعد مشروعا ما ليس معروفا
وقد كان مالك يكره المجىء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة وكان يكره مجىء قبور الشهداء ويكره مجىء قباء خوفا من ذلك مع ما جاء في الآثار من الترغيب فيه
ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه
وقال ابن كنانة واشهب سمعنا مالكا يقول لما أتاه سعد بن أبى وقاص قال وددت أن رجلى تكسرت وأنى لم افعل
وسئل ابن كنانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة فقال اثبت ما في ذلك عندنا قباء
إلا أن مالكا كان يكره مجيئها خوفا من أن يتخذ سنة
وقال سعيد بن حسان كنت أقرأ على ابن نافع فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء قال لى حرق عليه قلت ولم ذلك يا أبا محمد قال خوفا من أن يتخذ سنة
هو اعتقاد العمل سنة والعمل على وفقه فذلك بدعة حقيقية لا إضافية ولهذا الاصل أمثلة كثيرة وقعت الإشارة إليها في أثناء الكلام فلا معنى للتكرار(168/266)
واذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعا بالإضافة فما ظنك بالبدع الحقيقية فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معا لكن من جهتين فإذا بدعة اصبح ولله الحمد في نداء الصبح ظاهرة ثم لما عمل بها في المساجد والجماعات مواظبا عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما اشبها كان تشريعا أولا يلزمه أن يعتقد فيها الوجوب أوالسنة وهذا ابتداع ثان إضافى
ثم إذا اعتقد فيها ثانيا السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلاثة أوجه ومثله يلزم في كل بدعة أظهرت والتزمت
وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها فالأمر عليه أخف فيالله ويا للمسلمين ماذا يجنى المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه وقانا الله شرور أنفسنا بفضله
فصل من تماما ما قبله
وذلك أنه وقعت نازلة إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالأندلس من الدعاء للناس بآثار الصلوات بالهيئة الاجتماعية على الدوام - وهو ايضا معهود في أكثر البلاد فإن الإمام إذا سلم من الصلاة يدعو للناس ويؤمن الحاضرون - وزعم التارك أن تركه بناء منه على أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا فعل الأئمة بعده حسبما نقله العلماء في دواوينهم عن السلف والفقهاء
أما أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/267)
فظاهر لان حاله عليه السلام في أدبار الصلوات مكتوبات أو نوافل - كانت بين أمرين إما أن يذكر الله تعالى ذكرا هو في العرف غير دعاء فليس للجماعة منه حظ إلا أن يقولوا مثل قوله أو نحوا من قوله كما فى غير أدبار الصلوات كما جاء أنه كان يقول فى دبر كل صلاة لا أله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وقوله اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والاكرام وقوله سبحان ربك رب العزة عما يصفون الآية ونحو ذلك فإنما كان يقول فى خاصة نفسه كسائر الاذكار فمن قال مثل قوله فحسن ولا يمكن فى هذا كله هيئة اجتماع
وان كان دعاء فعامة ما جاء من دعائه عليه السلام بعد الصلاة مما سمع منه إنما كان يخص به نفسه دون الحاضرين كما في الترمذى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة رفع يديه الحديث إلى وقوله ويقول عند انصرافه من الصلاة اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا انت حسن صحيح وفي رواية أبى داود كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا سلم من الصلاة قال اللهم اغفرلى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما اسرفت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت
وحرج أبو داود كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول دبر كلا صلاة اللهم ربنا ورب كل شىء أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك اللهم ربنا ورب كل شىء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة اللهم ربنا ورب كل شىء اجعلنى مخلصا لك وأهلى في كل ساعة في الدنيا والآخرة ياذا الجلال والإكرام اسمع واستجب الله أكبر الله أكبر الله نور السموات والأرض الله أكبر الله أكبر حسبى الله ونعم الوكيل(168/268)
ولأبى داود في رواية رب أعنى ولا تعن على وانصرنى ولا تنصر على وأمكن لى ولا تمكن على واهدنى ويسرى هداى إلى وانصرنى على من بغى على إلى آخر الحديث
وفي النسائى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في دبر الفجر إذا صلى اللهم إنى اسألك علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا طيبا
وعن بعض الأنصار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول في دبر الصلاة اللهم اغفر لى وتب على إنك أنت التواب الغفور حتى يبلغ مائة مرة وفي رواية أن هذه الصلاة كانت صلاة الضحى
فتأملوا سياق هذا الأدعية كلها مساق تخصيص نفسه بها دون الناس فيكون مثل هذا حجة لفعل الناس اليوم إلا أن يقال قد جاء الدعاء للناس في مواطن كما في الخطبة التي استسقى فيها ونحو ذلك
فيقال نعم فاين التزام ذلك جهرا للحاضرين في دبر كل صلاة
ثم نقول إن العلماء يقولون في مثل الدعاء والذكر الوارد على اثر الصلاة إنه مستحب لا سنة ولا واجب
وهو دليل على أمرين
احدهما أن هذه الأدعية لم تكن منه عليه السلام على الدوام
والثاني انه لم يكن يجهر بها دائما ولا يظهرها للناس في غير مواطن التعليم إذ لو كانت على الدوام وعلى الإظهار لكانت سنة ولم يسع العلماء أن يقولوا فيها بغير السنة إذ خاصيته - حسبما ذكروه - الدوام والإظهار في مجامع الناس
ولا يقال لو كان دعاؤه عليه الاسلام سرا لم يؤخذ عنه
لأنا نقول من كانت عادته الإسرار فلا بد أن يظهر منه أو يظهر منه ولو مرة إما بحكم العادة بقصد التنبيه على التشريع فإن قيل ظواهر الأحاديث تدل على الدوام بقول الرواة كان يفعل فإن يدل على الدوام كقولهم كان حاتم يكرم الضيفان
قلنا
ليس كذلك بل يطلق على الدوام وعلى الكثير والتكرار على الجملة كا جاء في حيدث عائشة رضى الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة(168/269)
وروت أيضا أنه كان عليه الصلاة والسلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء بل قد يأتى في بعض الاحاديث كان يفعل فيما لم يفعله إلا مرة واحدة نص عليه أهل الحديث
ولو كان يداوم المداومة التامة للحق بالسنن كالوتر وغيره ولو سلم فاني هيئة الاجتماع فقد حصل أن الدعاة بهيئة الاجتماع دائما لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما لم يكن قوله ولا إقراره
وروى البخارى من حديث أم سلمة انه صلى الله عليه وسلم
كان يمكث إذا سلم يسيرا
قال ابن شهاب حتى ينصرف الناس فيما نرى وفي مسلم عن عائشة رضى الله عنها كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام
وأما فعل الأئمة بعده فقد نقل الفقهاء من حديث انس في غير كتب الصحيح صليت خلف النبى صلى الله عليه وسلم
فكان إذا سلم يقوم وصليت خلاف أبى بكر رضى الله عنه فكان إذا سلم وثب كأنه على رضفة يغنى الحجر المحمى ونقل ابن يونس الصقلى عن ابن وهب عن خارجة أنه كان يعيب على الأئمة قعودهم بعد السلام وقال إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تقوم وقال ابن عمر جلوسه بدعة وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال لأن يجلس على الرضف خير له من ذلك
وقال مالك في المدونة إذا سلم فليقم ولا يقعد إلا أن يكون في سفر أو فنائه
وعد الفقهاء اسرع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلاة ووجهوا ذلك بأن جلوسه هنالك يدخل عليه فيه كبر وترفع على الجماعة وانفراده بموضوع عنهم يرى به الداخل أنه إمامهم وأما انفراده به حال الصلاة فضرورى
قال بعض شيوخنا الذين استفدنا منهم وإذا كان هذا في انفراده في الموضع فكيف بما انضاف إليه من تقدمه أمامهم في التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه جهرا قال - ولو كان هذا حسنا لفعله النبى صلى الله عليه وسلم(168/270)
وأصحابه رضى الله عنهم ولم ينقل أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره حتى هل كان ينصرف من الصلاة عن اليمين أو عن الشمال وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على من فعله بما فيه كفاية
هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائما بدعة قبيحة واستدل على عدم ذلك في الزمان الأول بسرعة القيام والأنصراف لأنه مناف اللدعاء لهم وتامينهم على دعائه بخلاف الذكر ودعاء الإنسان لنفسه فإن الانصراف وذهاب الإنسان لحاجته غير مناف لهما
فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر فرد على ذلك الإمام ردا أمرع فيه على خلاف ما عليه الراسخون وبلغ من الرد - على زعمه - إلى أقصى غاية ما قدر عليه واستدل بأمور إذا تأملها الفطن عرف ما فيها
كالأمر بالدعاء إثر الصلاة قرآنا وسنة وهو - كما تقدم - لا دليل فيه ثم ضم إلى ذلك جواز الدعاء بهيئة الاجتماع في الجملة إلى في أدبار الصلوات ولا دليل فيه أيضا - كما تقدم - لاختلاف المتأصلين
وأما في التفصيل فزعم أنه ما زال معمولا به في جميع أقطار الأرض أو في جلها من الأئمة في مساجد الجماعات من غير نكير إلا نكير أبى عبد الله ثم أخذ في ذمه وهذا النقل تهور لا شك لانه نقل إجماع يجب على الناظر فيه والمحتج به قبل التزام عهدته أن يبحث عنه بحث أصل عن الإجماع لأنه لا بد من النقل عن جميع المجتهدين من هذه الأمة من أول زمان الصحابة رضى الله عنهم إلى الآن
هذا امر مقطوع به ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادعوا الإمامة
وقوله من غير نكير تجوز بل ما زال الإنكار عليهم من الائمة فقد نقل الطرطوشى عن مالك في ذلك أشياء تخدم المسئلة فحصل إنكار مالك لها في زمانه وإنكار الإمام الطرطوشى في زمانه واتبع هذا أصحابه وهذا أصحابه القرافى ثم القرافة قد عد ذلك من البدع المكروهة على مذهب مالك وسلمه ولم ينكره عليه أهل زمانه - فيما نعلمه - مع زعمه أن من البدع ما هو حسن(168/271)
ثم الشيوخ الذين كانوا بالأندلس حين دخلتها هذه البدعة - حسبما يذكر بحول الله - قد أنكروها وكان من معتقدهم في ذلك أنه مذهب مالك وكان الزاهد أبو عبد الله ابن مجاهد وتلميذه أبو عمران الميرتلى رحمهما الله ملتزمين لتركها حتى اتفق للشيخ أبى عبد الله في ذلك ما سنذكره إن شاء الله
قال بعض شيوخنا رادا على بعض من نصر هذا العمل فإنا قد شاهدنا العمل الأئمة الفقهاء الصلحاء المتبعين للسنة المتحفظين بامور دينهم يفعلون ذلك أئمة ومأمورين ولم نر من ترك ذلك إلا من شذ في أحواله - فقال - وأما احتجاج منكر ذلك بأن هذا لم يزل الناس يفعلونه فلم يأت بشىء لأن الناس الذين يقتدى بهم ثبت أنهم لم يكونوا يفعلونه
قال - ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار الجاهل يقول لو كان هذا منكرا لما فعله الناس
ثم حكى أثر الموطأ ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة - قال - فإذا كان هذا في عهد التابعين يقول كثرت الإحداثات فكيف بزماننا ثم هذا الإجماع لو ثبت لزم منه محضور لأنه مخالف لما نقل عن الأولين من تركه فصار نسخ إجماع بإجماع وهذا محال في الأصول
وايضا فلا تكون مخالفة المتأخرين لإجماع المتقدمين على سنة حجة على تلك السنة أبدا فما أشبه هذه المسئلة بما حكى عن أبى على بشاذان بسند يرفعه إلى أبى عبد الله بن إسحاق الجعفرى قال كان عبدالله بن الحسن - يعنى ابن الحسن بن علي بن أبى طالب رضى الله عنهم - يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يوما فقال رجل كان في المجلس
ليس العمل هذا فقال عبدالله أرايت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام أفهم الحجة على السنة فقال ربيعة اشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء انتهى
إلا أنى اقول أرأيت إن كثر المقلدون ثم أحدثوا بآرائهم فحكموا بها
أفهم الحجة على السنة ولا كرامة(168/272)
ثم عضد ما ادعاه بأشياء من جملتها قوله ومن امثال الناس اخطىء مع الناس ولا تصب وحدك أي أن خطأهم هو الصواب وصوابك هو الخطأ - قال - ومعنى ما جاء في حديث عليك بالجماعة فإنما ياكل القاصية فجعل تارك الدعاء على الكيفية المذكورة مخالفا للإجماع - كما ترى - وحض على اتباع الناس وترك المخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام لا تختلفوا فتختلف قلوبكم وكل ذلك مبنى على الإجماع الذي ذكروا أن الجماعة هم جماعة الناس كيف كانوا
وسيأتى معنى الجماعة المذكورة في حديث الفرق وأنها المتبعة للسنة وإن كانت رجلا واحد في العالم
قال بعض الحنابلة لا تعبأ بما يعرض من المسائل ويدعى فيها الصحة بمجرد التهويل أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك وقائل ذلك لا يعلم أحدا قال فيها بالصحة فضلا عن نفى الخلاف فيها وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يقدر المخالف - قال - وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد بن حنبل من ادعى الإجماع فهو كاذب وإنما هذه دعوى كثير وابن علية يريدون أن يبطلوا السنن بذلك
يعنى أحمد أن المتكلمين في الفقه على أهل البدع إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا هذا خلاف الإجماع
وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن بعض فقهاء المدينة أو فقهاء الكوفة - مثلا - فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء حتى كان بعضهم يسرد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الاحكام فلا يجد لها معتصما إلا أن يقول هذا لم يقل به أحد من العلماء وهو لايعرف إلا أبا حنيفة أو مالكا لم يقولوا بذلك ولو كان له علم لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقا كثيرا ففي هذا الكلام إرشاد لمعنى ما نحن فيه وأنه لا ينبغى أن ينقل حكم شرعى عن أحد من أهل العلم إلا بعد تحققه والتثبت لانه مخبر عن حكم الله فإياكم والتساهل فإنه مظنة الخروج عن الطريق الواضح إلى السيئات(168/273)
ثم عد من المفاسد في مخالفة الجمهور أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل وهذا دعوى من خالفه فيما قال وعلى تسليمها فليست بمفسدة على فرض اتباع السنة وقد جاء عن السلف الحض على العمل بالحق وعدم الاستيحاش من قلة أهله
وأيضا فمن شنع على المبتدع بلفظ الابتداع فأطلق العبارة بالنسبة إلى المجتمعين يوم عرفة بعد العصر للدعاء في غير عرفة - إلى نظائرها - فتشنيعه حق كما يقول بالنسبة إلى بشر المريسى ومعبد الجهنى وفلان ولا يدخل بذلك - إن شاء الله - في حديث من قال هلك الناس
فهو أهلكهم لأن المراد أن يقول ذلك ترفعا على الناس واستحقارا واما أن قاله تحزنا وتحسرا فلا بأس
قال بعضهم ونحن نرجو أن نعرج على ذلك - إن شاء الله - فالاستدلال به ليس على وجهه
وعد من المفاسد الخوف من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة المنهى عنها فكأنه يقول اترك اتباع السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب
وهذا شديد من القول وهو معارض بمثله فإن انتصابه لان يكون داعيا للناس بإثر صلواتهم دائما مظنة لفساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة وهو تعليل القرافي وهو أولى في طريق الاتباع فصار تركه للدعاء لهم مقرونا بالاقتداء بخلاف الداعى فإنه في غير طريق من تقدم فهو أقرب إلى فساد النية
وعد منها ما يظن به من القول برأى أهل البدع القائلين بأن الدعاء غير نافع وهذا كالذى قبله لأنه يقول للناس اتركوا اتباع النبى صلى الله عليه وسلم
في ترك الدعاء بهيئة الاجتماع بعد الصلوات لئلا يظن بك الابتداع
وهذا كما ترى(168/274)
قال ابن العربى ولقد كان شيخنا ابو بكر الفهرى يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الراس منه وهو مذهب مالك والشافعى وتفعله الشيعة - قال - فحضر عندي يوما في محرس أبى الشعراء بالثغر موضع تدريسى عند صلاة الظهر ودخل المسجد من المحرس المذكور فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخره قاعدا على طاقات البحر اتنسم الريح من شدة البحر ومعى في صف واحد أبو ثمنة رئيس البح وقائده في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ويتطلع على مراكب المنار فلما رفع الشيخ الفهرى يديه في الركوع وفي رفع الراس منه قال أبو ثمنة وأصحابه ألا ترى إلى هذا المشرقى كيف دخل مسجدنا قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد
فطار قلبى من بين جوانحى وقلت سبحان الله هذا الطرطوشى فقيه الوقت فقالوا لى ولم يرفع يديه فقلت كذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم
يفعل وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه وجعلت أسكتهم وأسكنهم حتى فرغ من صلاته وقمت معه إلى المسكن من المحرس ورأى تغير وجهي فأنكره وسألنى فأعملت فضحك وقال من أين لى أن أقتل على سنة فقلت له ويحل لك هذا فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك
فقال
دع هذا الكلام وخذ في غيره فتأملوا في هذه القصة ففيها الشفاء إذ لا مفسدة في الدنيا توازى مفسدة إماتة النفس وقد حصلت النسبة إلى البدعة ولكن الطرطوشى رحمه الله يرى ذلك شيئا فكلامه للاتباع أولى من كلام هذا الراد إذ بيهنما في العلم ما بينهما
وأيضا فلو اعتبر ما قال لزم اعتباره بمثله في كل من أنكر الدعاء بهيئة الاجتماع يوم عرفة في غير عرفة ومنهم نافع مولى ابن عمر ومالك والليث وعطاء وغيرهم من السلف ولما كان ذلك غير لازم فمسألتنا كذلك
ثم ختم هذا الاستدلال الإجماعى بقوله وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد الجماعات في هذه الأعصار في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة فيشبه أن يدخل ذلك مدخل حجة إجماعية عصرية(168/275)
فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائما لا يترك كما يفعل بالسننن - وهي مسألتنا المفروضة - فقد تقدم ما فيه
فصل
ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال على صحة ما زعم وهو أن الدعاء على ذلك الوجه لم يرد في الشرع نهى عنه مع وجود الترغيب فيه على الجملة ووجود العمل لديه
فإن صح أن السلف لم يعملوا به
فالترك ليس بموجب لحكم في المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج خاصة لا تحريم ولا كراهية
وجميع ما قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصا في العبادات - التى هي مسألتنا - إذ ليس لأحد من خلق الله ان يخترع في الشريعة من رأيه أمرا لا يوجد عليه منها دليل لأنه عين البدعة وهذا كذلك إذ لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهرا للحاضرين في آثار الصلوات دائما على حد ما تقام بحيث يعد الخارج عنه خارجا عن جماعة أهل الإسلام متجزا ومتميزا - إلى سائر ما ذكر وكك ما لايدل عليه دليل فهو البدعة
وإلى هذا فإن ذلك الكلام يوهم أن اتباع المتأخرين المقلدين خير من اتباع الصالحين من السلف ولو كان في أحد جائزين فكيف إذا كان أمرين احدهما متيقن أنه صحيح والآخر مشكوك فيه فيتبع المشكوك في صحته
ويترك مالا مريه في صحته ولو لعا من يتبعه
ثم إطلاقه القول بإن الترك لا يوجب حكما في المتروك إلا جواز الترك غير جار على أصول الشرع الثابتة
فنقول إن هنا اصلا لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف من نفسه وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسئلة ما أو تركه لامر ما على ضربين أحدهما أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقرر لأجله ولا وقع سبب تقريره كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم
فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثث بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/276)
على الخصوص مما هو معقول المعنى كتضمين الصناع ومسألة الحرام والجد مع الإخوة وعول الفرائض ومنه جمع المصحف ثم تدوين الشرائع وما اشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره للتقديم كلياته التي تستنبط بها منها إذا لم تقع اسباب الحكم فيها ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة والسلام فلم يذكر لها حكم مخصوص
فهذا الضرب إذا حدثت اسبابه فلا بد من النظر فيه وإجرائه على اصوله إن كان من العاديات أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع كمسائل السهو والنسيان في إجراء العبادات ولا إشكال في هذا الضرب لأن أصول الشرع عتيدة وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحى فالسكوت عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضى جواز الترك أو غير ذلك بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوجدت فيها ولا يجدها من ليس بمجتهد وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه
والضرب الثاني أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرا ما من الأمور وموجبه المقتضى له قائم وسببه في زمان الوحى وفيما بعده موجود ثابت إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلى الخاص موجودا ثم لم يشرع ولا نبه على السبطا كان صريحا في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس في سماع أشهب وابن نافع هو غاية فيما نحن فيه وذلك أن مذهبه في سجود الشكر الكراهية وأنه ليس بمشروع وعليه بنى كلامه
قال في العتبية وسئل ماك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرا فقال لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس
قيل له إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه - فيما يذكرونه - سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك قال ما سمعت ذلك وأنا أرى أن قد كذبوا على أبى بكر(168/277)
وهذا من الضلال ان يسمع المرء الشىء فيقول هذا لم تسمعه منى
قد فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعلى المسلمين بعده
أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا إذ ما قد كان في الناس وجرى على ايديهم سمع عنهم فيه شىء فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن احدا منهم سجد فهذا إجماع
وإذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه - تمام الرواية - وقد احتوت على فرض سؤال والجواب بما تقدم
وتقرير السؤال أن يقال في البدعة - مثلا - إنها فعل سكت الشارع عن حكمه في الفعل والترك فلم يحكم عليه بحكم على الخصوص فالاصل جواز فعله كما أن الاصل جواز تركه إذ هو معنى الجائز فإن كان له اصل جملى فأحرى أن يجوز فعله حتى يقوم الدليل على منعه أو كراهته وإذا كان كذلك فليس هنا مخالفة لقصد الشارع ولا ثم دليل خالفه هذا النظر بل حقيقة ما نحن فيه أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والسكوت عند الشارع لا يقتضى مخالفة ولا موافقة ولا يعين الشارع قصدا ما دون ضده وخلافه وإذا ثبت هذا فالعمل به ليس بمخالف إذ لم يثبت في الشريعة نهى عنه
وتقرير الجواب معنى ما ذكره مالك رحمه الله وهو أن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضى له إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان
إذ لو كان ذلك لائقا شرعا أو سائغا لفعلوه فهم كانوا أحق بإدراكه والسبق إلى العمل به وذلك إذا نظرنا إلى المصلحة فإنه لا يخلو إما ان يكون في هذه الأحداث مصلحة أولا والثانى لا يقول به أحد
والأول إما أن تكون تلك المصلحة الحادثة آكد من المصلحة الموجودة في زمان التكليف أولا ولا يمكن ان يكون مع كون المحدثة زيادة تكليف
ونقضه عن المكلف أحرى بالأزمنة المتأخرة لما يعلم من قصور الهمم واستيلاء الكسل ولأنه خلاف بعث النبى صلى الله عليه وسلم(168/278)
بالحنفية السمحة ورفع الحرج عن الامة وذلك في تكليف العبادات لان العادات أمر آخر - كما سياتى - وقد مر منه فلم يبق إلا أن تكون المصلحة الظاهرة الآن مساوية للمصلحة الموجودة في زمان التشريع أو أضعف منها وعند ذلك تصير الاحداث عبثا أو استدراكا على الشارع لأن تلك المصلحة الموجودة في زمان التشريع إن حصلت للأولين من غير هذا الإحداث إذا عبث إذ لايصح أن يحصل للأولين دون الآخرين فقد صارت هذه الزيادة تشريعا بعد الشارع بسبب الآخرين ما فات للأولين فلم يكمل الدين إذا - دونها ومعاذ الله من هذا المأخذ
وقد ظهر من العادات الجارية فيما نحن فيه أن ترك الأولين لامر ما من غير أن يعينوا فيه وجها مع احتماله في الأدلة الجملية ووجود المظنة دليل على أن ذلك الامر لا يعمل به وأنه إجماع منهم على تركه
قال ابن رشد في شرح مسألة العتبية الوجه في ذلك انه لم يرد مما شرع في الدين - يعنى سجود الشكر - فرضا ولا نفلا إذ لم يأمر بذلك النبى صلى الله عليه وسلم
ولا فعله ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الأمور
قال واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يفعل لك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح إذ لا يصح ان تتوفر الدواعى على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمر بالتبليغ
قال وهذا أصل من الاصول وعليه يأتى إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجود الزكاة فيها لعموم قول النبى صلى الله عليه وسلم
فيما سقت السماء والعيون البعل العشر وفيما سقى بالنضح نصف العشر لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبى صلى الله عليه وسلم
الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها
فكذلك نزل ترك نقل السجود عن النبى صلى الله عليه وسلم
في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها
ثم حكى خلاف الشافعى والكلام عليه والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق(168/279)
وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل وأنه بدعة منكرة من حيث وجد في زمانه عليه لاسلام المعنى المقتضى للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا كما كانا اول مرة وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امراة رفاعه على رجوعها إليه دل على ان التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها
وهو أصل صحيح إذا اعبتر وضح به ما نحن بصدده لأن التزام الدعاء بآثار الصلوات جهرا للحاضرين في مساجد الجماعات لو كان صحيحا شرعا أو جائزا لكان النبى صلى الله عليه اولى بذلك أن يفعله
وقد علل المنكر هذا الموضع بعلل تقتضى المشروعية وبنى على فرض أنه لم يأت ما يخالفه وأن الأصل الجواز في كل مسكوت عنه
أما ان الأصل الجواز فيمتنع لان طائفة من العلماء يذهبون إلى أن الاشياء قبل وجود الشرع على المنع دون الإباحة فما الدليل على ما قال من الجواز وإن سلمنا له ما قال فهل هو على الإطلاق أم لا أما في العاديات فمسلم ولا نسلم أن ما نحن فيه من العاديات بل من العبادات ولا يصح أن يقال فيما فيه تعبد إنه مختلف فيه على قولين هل هو على المنع أم هو على الإباحة بل هو أمر زائد على المنع لأن التعبديات إنما وضعوا للشارع فلا يقال في صلاة سادسة - مثلا - إنها على الإباحة فللمكلف وضعها - على أحد القولين - ليتعبد بها لله
لأنه باطل بإطلاق وهو اصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع
ولو سلم أنه من قبيل العاديات أو من قبيل ما يعقل معناه فلا يصح العمل به أيضا لان ترك العمل به من النبى صلى الله عليه وسلم
في جميع عمره وترك السلف الصالح له على توالى أزمنتهم قد تقدم أنه نص في الترك وإجماع من كل من ترك لان عمل الإجماع كنصه - كما اشار إليه مالك في كلامه(168/280)
وأيضا فما يعلل له لا يصح التعليل به وقد أتى الراد بأوجه منه أحدها أن الدعاء بتلك الهيئة ليظهر وجه التشريع في الدعاء وأنه بآثار الصلوات مطلوب وما قاله يقتضى أن يكون سنة بسبب الدوام والإظهار في الجماعات والمساجد وليس بسنة اتفاقا منا ومنه فانقلب إذا وجه التشريع
وايضا فإن إظهار التشريع كان في زمان النبى صلى الله عليه وسلم
اولى فكانت تلك الكيفية المتكلم فيها أولى للإظهار ولما لم يفعله عليه الصلاة والسلام دل على الترك مع وجود المعنى المقتضى فلا يمكن بعد زمانه في تلك الكيفية إلا الترك
والثاني أن الإمام يجمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إلى الإجابة وهذه العلة كانت في زمانه عليه السلام لأنه لا يكون أحدا أسرع إجابة لدعائه منه إذ كان مجاب الدعوة بلا إشكال بخلاف غيره وإن عظم قدره في الدين فلا يبلغ رتبته فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء لهم خمس مرات في اليوم والليلة زيادة إلى دعائهم لأنفسهم
وأيضا فإن قصد الاجتماع على الدعاء لا يكون بعد زمانه أبلغ في البركة من اجتماع يكون فيه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
واصحابه فكانوا بالتنبيه لهذه المنقبة أولى
والثالث قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لأنفسهم لئلا يدعوا بما لا يجوز عقلا أو شرعا وهذا التعليل الا ينهض فإن النبى صلى الله عليه وسلم
كان المعلم الأول
ومنه تلقينا ألفاظ الأدعية ومعانيها وقد كان من العرب من يجهل قد الربوبية فيقول
رب العباد ما لنا وما لك
أنزل علينا الغيث لا أبالك
وقال الآخر
ولا هم إن كنت الذى بعهدى
ولم تغيرك الأمور بعدى
وقال الآخر
أبنى ليتى لا أحبكم
وجد الإله بكم كما أجد(168/281)
وهي ألفاظ يفتقر اصحابها إلى التعليم وكانوا أقرب عهد بجاهلية تعامل الأصنام معاملة الرب الواحد سبحانه ولا تنزهه كما يليق بجلاله فلم يشرع لهم دعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات دائما ليعلمهم أو يعينهم على التعلم إذا صلوا معه بل علم في مجالس التعليم ودعا لنفسه إثر الصلاة حين بدا له ذلك ولم يلتفت إذ ذاك إلى النظر للجماعة وهو كان أولى الخلق بذلك
والرابع أن في الاجتماع على الدعاء تعاونا على البر والتقوى وهو مأمور به وهذا الاجتماع ضعيف فإن النبى صلى الله عليه وسلم
هو الذي أنزل عليه وتعاونوا على البر والتقوى وكذلك فعل ولو كان الاجتماع للدعاء إثر الصلاة جهرا للحاضرين من باب البر والتقوى لكان أول سابق إليه لكنه لم يفعله أصلا ولا أحد بعده حتى حدث ما حدث فدل على أنه ليس على ذلك الوجه بر ولا تقوى
والخامس إن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربى فربما لحن فيكون اللحن سبب عدم الإجابة وحكى عن الاصمعى في ذلك حكاية شعرية لا فقهية
وهذا الاجتماع إلى اللعب أقرب منه إلى الجد وأقرب ما فيه أن أحدا من العلماء لا يشترط في الدعاء أن لا يلحن كما يشترط الإخلاص وصدق التوجيه وعزم المسألة وغير ذلك من الشروط
وتعلم اللسان العربى لإصلاح الألفاظ في الدعاء وإن كان الإمام أعرف به هو كسائر ما يحتاج إليه الإنسان من أمر دينه فإن كان الدعاء مستحبا فالقراءة واجبة والفقه في الصلاة كذلك فإن كان تعليم الدعاء إثر الصلاة مطلوبا فتعليم فقه الصلاة آكد فكان من حقه أن يجعل ذلك من وظائف آثارالصلاة
فإن قيل بموجبه في المحرف المتعارف فهذه القاعدة تجتث أصله لأن السلف الصالح كانوا أحق بالسبق إلى فضله لجميع ما ذكر فيه من الفوائد ولذلك قال مالك فيها ترى الناس اليوم كانوا أرغب في الخير ممن مضى وهو إشارة إلى الاصل المذكور وهو أن المعنى المقتضى للإحداث - وهو الرغبة فالخير - كان أتم في السلف الصالح وهم لم يفعلوه فد لعلى أنه لا يفعل(168/282)
وأما ما ذكر من آداب الدعاء فكله مما لا يتعين له إثر لاصلاة بدليل أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم
علم منها جملة كافية ولم يعلم منها شياء إثر الصلاة ولا تركهم دون تعليم ليأخذوا ذلك منه في آخر الصلاة أو ليستغنوا بدعائه عن تعليم ذلك ومع أن الحاضرين للدعاء لا يحصل لهم من الإمام في ذلك كبير شىء وإن حصل فلمن كان قريبا منه دون من بعد
انتهى الجزء الأول
كتاب الإعتصام للشاطبي
الجزء الثاني
للعلامة المحقق الاصولى النظار الإمام
أبى إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمى الاطبى الغرناطى
رحمه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
ثم استدل المستنصر بالقياس فقال وإن صح أن السلف لم يعملوا به فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم مما هو خير - ثم قال بعد - قد قال عمر ابن عبد العزيز رضى الله عنه تحدث للناس أقضية بقدر ما احدثوا من الفجور فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور
وهذا الاستدلال غير جار على الاصول أما أولا فإنه في مقابلة النص وهو ما اشار إليه مالك في مسألة العتبية فذلك من باب فساد الاعتبار وأما ثانيا فإنه قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضى وهذا ليس كذلك وأما ثالثا فإن كلام عمر بن عبد العزيز فرع اجتهادى جاء عن رجل مجتهد يمكن أن يخطىء فيه كما يمكن أن يصيب وإنما حقيقة الأصل أن يأتى عن النبى صلى الله عليه وسلم
أو عن أهل الإجماع وهذا ليس عن واحد منهما
وأما رابعا فإن قياس بغير معنى جامع او بمعنى جامع طردى
ولكن الكلام فيه سيأتى - إن شاء الله - في الفرق بين المصالح المرسلة والبدع
وقوله إن السلف عملوا بما لم يعمل به من قبلهم حاش لله أن يكونوا ممن يدخل تحت هذه الترجمة(168/283)
وقوله مما هو خير أما بالنسبة إلى السلف فما عملوا خير وأما فرعه المقيس فكونه خيرا دعوى لان كون الشىء خيرا أو شرا لا يثبت إلا بالشرع أو لان الدعاء على تلك الهيئة خير شرعا وأما قياسه على قوله تحدث للناس أقضية فمما تقدم وفيه أمر آخر وهو التصريح بأن إحداث العبادات جائز قياسا على قول عمر وإنما كلام عمر بعد تسليم القياس عليه في معنى عادى يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم كتضمين الصناع أو الظنة في توجيه الأيمان دون مجرد الدعاوى فيقول إن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام لصحة الأمانة والديانة والفضيله فما حدثت أضدادها اختلف المناط فوجب اختلاف الحكم وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب بخلاف ما نحن فيه
فإنه على الضد من ذلك ألا ترى ان الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلا عن النوافل - وهى ما هي من القلة والسهولة - فما ظنك بهم إذا زيد عليهم اشياء أخرى يرغبون فيها ويرخصون على استعمالها فلا شك أن الوظائف تتكاثر حتى يؤدى إلى أعظم من الكسل الأول وإلى ترك الجميع فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته أو لمن شايعه فيها فلا بد من كسله مما هو اولى
فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلاة المحدثة لا يأتيه الصبح إلا وهو نائم أو في غاية الكسل فيخل بصلاة الصبح وكذلك سائر المحدثات فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال وقد مر أن ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنة ما هو خير منها
وأيضا فإن هذا القياس مخالف لأصل شرعى وهو طلب النبى صلى الله عليه وسلم
السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد وزيادة وظيفة لم تشرع فتظهر ويعمل بها دائما في مواطن السنن فهو تشديد بلا شك وإن سلمنا ما قال فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إلى إحداث البدع وأخذ هذا الكلام بيده حجة وبرهانا على صحة ما يحدثه كائنا ما كان وهو مرمى بعيد(168/284)
ثم استدل على جواز الدعاء إثر الصلاة في الجملة ونقل في ذلك عن مالك وغيره أنواعا من الكلام وليس محل النزاع بل جعل الأدلة شاملة لتلك الكيفية المذكورة وعقب ذلك بقوله وقد تظاهرت الأحاديث والآثار وعمل الناس وكلام العلماء على هذا المعنى كما قد ظهر - قال - ومن المعلوم أنه عليه السلام كان الإمام في الصلوات وأنه لم يكن ليخص نفسه بتلك الدعوات إذ قد جاء من سنته لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلا بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم
فتأملوا يا أولى الألباب فإن عامة النصوص فيما سمع من أدعيته في أدبار الصلوات إنما كان دعاء لنفسه وهذا الكلام يقول فيه إنه لم يكن ليخص نفسه بالدعاء دون الجماعة وهذا تناقض ومن الله نسأل التوفيق
وإنما حمل الناس الحديث على دعاء الإمام في نفس الصلاة من السجود وغيره لا فيما حمله عليه هذا المتأول ولما لم يصح العمل بذلك الحديث عند مالك أجاز للإمام أن يخص نفسه بالدعاء دون المأمومين
ذكره في النوادر ولما اعترضه كلام العلماء وكلام السلف مما تقدم ذكره أخذ يتأول ويوجه كلامهم على طريقته المرتكبة ووقع له في كلام على غير تأمل لايسلم ظاهره من التناقض والتدافع لوضوح أمره وكذلك في تأويل الاحاديث التى نقلها لكن تركت هنا استيفاء الكلام عليها لطوله وقد ذكرته في غير هذا الموضع والحمد لله على ذلك
فصل
ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه أم غير بدعة فيعمل به فإنا إذا اعتبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذرا من الوقوع في المحظور والمحظور هنا هو العمل بالبدعة فإذا العامل به لا يقطع أنه عمل ببدعة كما أنه لا يقطع أنه عمل بسنة فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية ولا يقال أيضا إنه خارج عن العمل بها جملة(168/285)
وبيان ذلك أن النهى الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في ذلك الممنوع الواقع فيه الاشتباه فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آكلا للميتة في الأشتباه فالنهى الأخف إذا منصرف نحو الميتة في الاشتباه كما انصرف إليها النهى الأشد في التحقق
وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية النهى في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة كما انصرف إليها في التحقق وكذلك سائر المشتبهات إنما ينصرف نهى الإقدام على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه فإذا الفعل الدائر بين كونه سنة أو بدعة إذا نهى عنه في باب الاشتباه نهى عن البدعة في الجملة فمن أقدم على منهى عنه في باب البدعة لانه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر فصار من هذا الوجه كالعامل بالبدعة المنهى عنها وقد مر أن بالبدعة الإضافية هي الواقعة ذات وجهين - فلذلك قيل إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية ولهذا النوع أمثلة أحدها إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في ان العمل الفلانى مشروع يتعبد به او غير مشروع فلا يتعبد به ولم يتبين له جمع بين الدليلين أو إسقاط أحدهما بنسخ أو ترجيح أو غيرهما - فقد ثبت في الاصول ان فرضه التوقف فلو عمل بمقتضى دليل التشريع من غير مرجح لكان عاملا بمتشابه لإمكان صحة الدليل بعدم المشروعية فالصواب الوقوف عن الحكم رأسا وهو الفرض في حقه
والثاني إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها فقال بعض العلماء يكون العمل بدعة وقال بعضهم ليس ببدعة ولم يتبين له الأرجح من العالمين بأعلمية أو غيرها فحقه الوقوف والسؤال عنهما حتى يتبين له الأرجح فيميل إلى تقليده دون الآخر فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح كان حكمه حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح فالمثالان في المعنى واحد
والثالث أنه ثبت في الصحاح عن الصحابة رضى الله عنهم أنهم يتبركون بأشياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/286)
ففى البخارى عن ابى جحيفة رضى الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالهاجرة فأتى بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به الحديث وفيه كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه وعن المسور رضى الله عنه في حديث الحديبية وما انتخم النبى صلى الله عليه وسلم
نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده وخرج غيره من ذلك كثيرا في التبرك بشعره وثوبه وغيرهما حتى انه مس بإصبعه أحدهم بيده فلم يحلق ذلك الشعر الذي مسه عليه السلام حتى مات
وبالغ بعضهم في ذلك حتى شرب دم حجامته - إلى أشياء لهذا كثيرة فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعا في حق من ثبتت ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأن يتبرك بفضل وضوئه ويتدلك بنخامته ويستشفى بآثاره كلها ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل صلى الله عليه وسلم
إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله وهو أن الصحابة رضى الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شىء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه إذ لم يترك صلى الله عليه وسلم
بعده في الأمة افضل من أبى بكرالصديق رضى الله عنه فهو كان خليفته ولم يفعل به شىء من ذلك ولا عمر رضى الله عنهما وهو كان أفضل الأمة بعده ثم كذلك عثمان ثم على ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركا تبرك به على أحد تلك الوجوه
أو نحوها بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبى صلى الله عليه وسلم
فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء(168/287)
وبقى النظر في وجه ترك ما تركوا منه ويحتمل وجهين أحدهما أن يعتقدوا في الاختصاص وان مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير لأنه عليه السلام كان نورا كله في ظاهره وباطنه فمن التمس منه نورا وجده على أي جهة التمسه بخلاف غيره من الأمة - وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله - لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبه ولا تقاربه فصار هذا النوع مختصا به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع وإحلال بضع الواهبة نفسها له وعدم وجوب القسم على الزوجات وشبه ذلك فعلى هذا المأخذ لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على احد تلك الوجوه ونحوها ومن اقتدى به كان اقتدؤه بدعة كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة
الثاني أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفا من أن يجعل ذلك سنة - كما تقدم ذكره في اتباع الآثار - والنهى عن ذلك او لان العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود وتبالغ بجهلها في التماس البركة حتى يداخلها المتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد فربما اعتقد في المبترك به ما ليس فيه وهذا التبرك هو أصل العبادة ولأجله قطع عمر رضى الله عنه الشجرة التى بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بل هو كان اصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية - حسبما ذكره أهل السير – فخاف عمر رضى الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله
فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم
ولقد حكى الفرغانى مذيل تاريخ الطبرى عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته حتى أدعوا فيه الإلهية تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا(168/288)
ولأن الولاية وإن ظهر لها في الظاهر آثار فقد يخفى أمرها لانها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله فربما ادعيت الولاية لمن ليس بولى او ادعاها هو لنفسه أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة او من باب
أو الخواص أو غير ذلك والجمهور لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر فيعظمون من ليس بعظيم ويقتدون بمن لا قدوة فيه - وهو الضلال البعيد - إلى غير ذلك من المفاسد
فتركوا العمل بما تقدم - وإن كان له أصل - لما يلزم عليه من الفساد في الدين
وقد يظهر باول وهلة أن هذا الوجه الثاني راجح لما ثبت في الأصول العلمية أن كل قربة أعطيها النبى صلى الله عليه فإن لأمته أنموذجا منها ما لم يدل دليل على الاختصاص
إلا أن الوجه الأول أيضا راجع من جهة أخرى وهو إطباقهم على الترك إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل به بعضهم بعده او عملوا به ولو في بعض الأحوال إما وقوفا مع أصل المشروعية وإما بناء على اعتقاد انتقاء العلة الموجبة للامتناع
وقد خرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال حدثنى رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم لم تفعلون هذا قالوا نلتمس الطهور والبركة بذلك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره فإن صح هذا النقل فهو مشعر بأن الأولى تركه وأن يتحرى ما هو الآكد والاحرى من وظائف التكليف ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها او دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتى بحول الله
فقد صارت المسئلة من أصلها دائرة بين أمرين أن تكون مشروعة فدخلت تحت حكم المتشابه والله أعلم
فصل(168/289)
ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون اصل العبادة مشروعا إلا انه تخرج عن اصل شرعيتها بغير دليل توهما أنها باقية على اصلها تحت مقتضى الدليل وذلك بان يقيد إطلاقها بالرأى أو يطلق تقييدها وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حد لها ومثال ذلك أن يقال إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقت دون وقت ولا حد فيه زمانا ما عدا ما نهى عن صيامه على الخصوص كالعيدين وندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول فإذا خص منه يوما من الجمعة بعينه أو أياما من الشهر بأعيانها - لا من جهة ما عينه الشاعر - فإن ذلك ظاهر بانه من جهة اختيار المكلف كيوم الأربعاء مثلا في الجمعة والسابع والثامن في الشهر وما أشبه ذلك بحيث لا يقصد بذلك وجها بعينه مما لا ينثنى عنه فإذا قيل له لم خصصت تلك الأيام دون غيرها لم يكن له بذلك حجة غير التصميم أو يقول إن الشيخ الفلانى مات فيه أو ما اشبه ذلك فلا شك أنه رأى محض بغير دليل ضاهى به تخصيص الشاعر أيامها بأعيانها دون غيرها فصار التخصيص من المكلف بدعة إذ هي تشريع بغير مستند
ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصا كتخصيص اليوم الفلانى بكذا وكذا من الركعات او بصدقة كذا وكذا او الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة او بختم القرآن فيها أو ما اشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط كان تشريعا زائدا
ولا حجة له في ان يقول إن هذا الزمان ثبت فضله على غيره فيحسن فيه إيقاع العبادات لأنا نقول هذا الحسن هل ثبت له أصل أم لا فإن ثبت فمسئلتنا كما ثبت الفضل في قيام ليالى رمضان وصيام ثلاثة ايام من كل شهر وصيام الأثنين والخميس فإن لم يثبت فما مستندك فيه والعقل لا يحسن ولا يقبح ولا شرع يستند إليه فلم يبق إلا انه ابتداع في التخصيص كإحداث الخطب وتحرى ختم القرآن في بعض ليالى رمضان(168/290)
ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه فإنه من باب وضع الحكمة غير موضعها فسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها - وهو الغالب - وهو فتنة تؤدى إلى التكذيب بالحق وإلى العمل بالباطل
وإما لايفهم منها شيئا وهو اسلم ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة الله
ثم إن القاها لمن لا يعقلها في معرض الانتفاع بعد تعقلها كان من باب التكليف بما لا يطاق
وقد جاء النهى عن ذلك
فخرج أبو داود حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن الغلوطات
قالوا وهي صعاب المسائل أو شرار المسائل وفي الترمذي - أو غيره - أن رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسم فقال يا رسول الله اتيتك لتعلمنى من غرائب العلم فقال عليه السلام ما صنعت في راس العلم قال وما رأس العلم قال هل عرفت الرب قال نعم قال فما صنعت في حقه قال ما شاء الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
اذهب فأحكم ما هنالك ثم تعال أعلمك من غرائب العلم وهذا المعنى هو مقتضى الحكمة لا تعلم الغرائب إلا بعد إحكام الأصول وإلا دخلت الفتنة وقد قالوا في العالم الربانى إنه الذى يربى بصغار العلم قبل كباره
وهذه الجملة شاهدها في الحديث الصحيح مشهور
وقد ترجم على ذلك البخارى فقال باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا ثم اسند عن علي ابن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله ثم ذكر حديث معاذ الذي أخبر به عند موته تأثما وإنما لم يذكره إلا عند موته لأنه النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن له في ذلك لما خشى تنزيله غير منزلته وعلمه معاذا لأنه من أهله
وفي مسلم مرفوعا عن ابن مسعود رضى الله عنه قال ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة قال ابن وهب وذلك أن يتأولوه غير تأويله ويحملوه إلى غير وجهه(168/291)
وخرج شعبة عن كثير بن مرة الحضرمى أنه قال إن عليك في علمك حقا كما أن عليك في مالك حقا لاتحدث بالعلم غير اهله فتجهل ولا تمنع العلم أهله فتأثم ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك
وقد ذكر العلماء هذا المعنى في كتبهم وبسطوه بسطا شافيا والحمد لله
وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا ممن لا يقدر قدر هذا الموضع يزل فيه فيحدث الناس بما لا تبلغه عقولهم وهو على خلاف الشرع وما كان عليه سلف هذه الأمة ومن ذلك ايضا جميع ما تقدم في فضل السنة التى يكون العمل بها ذريعة إلى البدعة من حيث إنها عمل بها ولم يعمل بها سلف هذه الأمة
ومنه تكرار السورة الواحدة في التلاوة أو في الركعة الواحدة فإن التلاوة لم تشرع على ذلك الوجه ولا أن يخص من القرآن شيئا دون شىء لا في صلاة ولا في غيرها فصار المخصص لها عاملا برأيه في التعبد لله
وخرج ابن وضاح عن مصعب قال سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة قل هو الله أحد ولا يقرأ غيرها كما يقرؤها فكرهه وقال إنما أنتم متبعون فاتبعوا الأولين ولم يبلغنا عنهم نحو هذا
وإنما أنزل القرآن ليقرأ ولا يخص شىء دون شىء
وخرج أيضا - وهو في العتبية من سماع ابن القاسم - عن مالك رحمه الله أنه سئل عن قراءة قل هو الله أحد مرارا في الركعة الواحدة فكره ذلك وقال هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا
ومحمل هذا عند ابن رشد من باب الذريعة ولأجل ذلك لم يأت مثله عن السلف وإن كانت تعدل ثلث القرآن - كما في الصحيح - وهو صحيح فتأمله في الشرح
وفي الحديث أيضا ما يشعر بأن التكرار كذلك عمل محدث في مشروع الاصل بناء على ما قاله ابن رشد فيه
ومن ذلك قراءة القرآن بهيئة الاجتماع عشية عرفة في المسجد للدعاء تشبها بأهل عرفة ونقل الأذان يوم الجمعة من المنار وجعل قدام الإمام
ففي سماع ابن القاسم وسئل عن القرى التي لا يكون فيها إمام إذا صلى بهم رجل منهم الجمعة أيخطب بهم قال نعم لا تكون الجمعة إلا بخطبة(168/292)
فقيل له أفيؤذن قدامه قال لا واحتج على ذلك يفعل أهل المدينة
قال ابن رشد
الأذان بين يدى الإمام في الجمعة مكروه لانه محدث
قال وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا زالت الشمس وخرج رقى المنبر فإذا رآه المؤذنون - وكانوا ثلاثة - قاموا فأذنوا في المشرفة واحدا بعد واحد كما يؤذن في غير الجمعة فإذا فرغوا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
في خطبته ثم تلاه أبو بكر وعمر رضى الله عنهما فزاد عثمان رضى الله عنه لما كثر الناس أذانا بالزوراء عند زوال الشمس يؤذن الناس فيه بذلك أن الصلاة قد حضرت وترك الاذان في المشرفة بعد جلوسه على المنبر على ما كان عليه فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان هشام فنقل الاذان الذي كان بالزوراء إلى المشرفة ونقل الاذان الذى كان بالمشرفة بين يديه وأمرهم أن يؤذنوا صفا وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا هذا
قال ابن رشد وهو بدعة قال والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدون بعده من السنة
وذكر ابن حبيب ما كان فعله عليه السلام وفعل الخلفاء بعده كما ذكر ابن رشد وكأنه نقله من كتابه وذكر قصة هشام
ثم قال والذي كان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
هي السنة
وقد حدثنى أسد بن موسى عن يحيى بن سليم عن جعفر بن محمد بن جابر بن عبيد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال في خطبته أفضل الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
وما قاله ابن حبيب من أن الأذان عند صعود الإمام على المنبر كان باقيا في زمان عثمان رضى الله عنه موافق لما نقله أرباب النقل الصحيح وأن عثمان لم يزد على ما كان قبله إلا ألأذان على الزوراء فصار إذا نقل هشام الاذان المشروع في المنار إلى ما بين يديه بدعة في ذلك المشروع
فإن قيل فكذلك أذان الزوراء محدث أيضا بل هو محدث من أصله غير منقول من موضعه فالذى يقال هنا يقال مثله في أذان هشام بل هو أخف منه(168/293)
فالجواب أن أذان الزوراء وضع هنالك على أصله من الإعلام بوقت الصلاة وجعله بذلك الموضع لأنه لم يكن ليسمع إذا وضع بالمسجد كما كان في زمان من قبله فصارت كائنة أخرى لم تكن فيما تقدم فاجتهد لها كسائر مسائل الاجتهاد وحين كان مقصود الأذان الإعلام فهو باق كما كان فليس وضعه هنالك بمناف إذ لم تخترع فيه أقاويل محدثة ولا ثبت أن الأذان بالمنار أو في سطح المسجد تعبد غير معقول المعنى فهو الملائم من أقسام المناسب بخلاف نقله إلى المنار إلى ما بين يدى الإمام فإنه قد أخرج بذلك أولا عن أصله من الإعلام إذ لم يشرع لأهل المسجد إعلام بالصلاة إلا بالإقامة وإذان جمع الصلاتين موقوف على محله ثم أذانهم على صوت واحد زيادة في الكيفية
ومن ذلك الأذان والإقامة في العيدين فقد نقل ابن عبد البر اتفاق الفقهاء على أن لا أذان ولا إقامة فيهما ولا في شىء من الصلوات المسنونات والنوافل وإنما الأذان للمكتوبات وعلى هذا مضى عمل الخلفاء أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وجماعة الصحابة رضى الله عنهم وعلماء التابعين وفقهاء الأمصار وأول من أحدث الاذان والإقامة في العيدين - فيما ذكر ابن حبيب - هشام بن عبد الملك أراد أن يؤذن الناس بالاذان بمجىء الإمام ثم بدأ بالخطبة قبل الصلاة كما بدأ بها مروان ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن الناس بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة لبعدهم عنه
قال ولم يرد مروان وهشام الاجتهاد فيما رايا إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال وقد حدثنى ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خان الرسالة لأن الله يقول اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا(168/294)
وقد روى أن الذى أحدث الأذان معاوية وقيل زياد وان ابن الزبير فعله آخر إمارته والناس على خلاف هذا النقل
ولقائل أن يقول إن الأذان هنا نظير أذان الزوراء لعثمان رضى الله عنه فما تقدم فيه من التوجيه الاجتهادى جار هنا ولا يكون بسبب ذلك مخالفا للسنة لأن قصة هشام نازلة لا عهد بها فيما تقدم لأن الأذان إعلام بمجىء الإمام لخفاء مجيئه عن الناس لبعدهم عنه ثم الإقامة للإعلام بالصلاة إذ لولا هي لم يعرفوا دخوله في ا لصلاة فصار ذلك أمرا لا بد منه كأذان الزوراء والجواب أن مجىء الإمام لم يشرع في الأذان وإن خفى على بعض الناس لبعده بكثرة الناس فكذلك لا يشرع فيما بعد لأن العلة كانت موجودة ثم لم تشرع إذ لا يصح أن تكون العلة غير مؤثرة في زمان النبى صلى الله عليه وسلم
والخلفاء بعده ثم تصير مؤثرة وأيضا فإحداث الأذان والإقامة انبنى على إحداث تقديم الخطبة على الصلاة وما انبنى على المحدث محدث ولأنه لما لم يشرع في النوافل أذان ولا إقامة على حال فهمنا من الشرع التفرقة بين النفل والفرض لئلا تكون النوافل كالفرائض في الدعاء إليها فكان إحداث الدعاء إلى النوافل لم يصادف محلا وبهذه الأوجه الثلاثة يحصل الفرق بين أذان الزوراء وبين ما نحن فيه فلا يصح أن يقاس أحدهما على الآخر والأمثلة في هذا المعنى كثيرة
ومن نوادرها التي لا ينبغى أن تغفل ما جرى به عمل جملة ممن ينتمى إلى طريقة الصوفية من تربصهم ببعض العبادات أوقاتا مخصوصة غير ما وقته الشرع فيها فيضعون نوعا من العبادات المشروعة في زمن الربيع ونوعا آخر في زمن الصيف ونوعا آخر في زمن الخريف ونوعا آخر في زمن الشتاء(168/295)
وربما وضعوا الأنواع من العبادات لباسا مخصوصا وأشباه ذلك من الأوضاع الفلسفية يضعونها شرعية أي متقربا بها إلى الحضرة الإلهية في زعمهم وربما وضعوها على مقاصد غير شرعية كأهل التصريف بالأذكار والدعوات ليستجلبوا بها الدنيا من المال والجاه والحظوة ورفعة المنزلة بل ليقتلوا بها إن شاءوا أو يمرضوا أو يتصرفوا وفق أغراضهم
فهذه كلها بدع محدثات بعضها أشد من بعض لبعد هذاك الأغراض عن مقاصد الشريعة الإسلامية الموضوعة مبرأة عن مقاصد المتخرصين مظهرة لمن تمسك بها عن أوضار اتباع الهوى إذ كل متدين بها عارف بمقاصدها ينزهها عن أمثال هذه المقاصد الواهية فالاستدلال على بطلان دعاويهم فيها من باب شغل الزمان بغير ما هو أولى
وقد تقرر - بحول الله - في أصل المقاصد من كتاب الموافقات ما يؤخذ منه حكم هذا النمط والبرهان على بطلانه لكن على وجه كلى مفيد وبالله التوفيق
وهذا كله إن فرضنا اصل العبادة مشروعا فإن كان اصلها غير مشروع فهى بدعة حقيقية مركبة كالأذكار والأدعية بزعم العلماء أنها مبنية على علم الحروف
وهو الذى اعتنى به البونى وغيره ممن حذا حذوه أو قاربه
فإن ذلك العلم فلسفة ألطف من فلسفة معلمهم الأول وهو أرسطا طاليس فردوها إلى أوضاع الحروف وجعلوها هي الحاكمة في العالم
وربما أشاروا عند العمل بمقتضى تلك الأذكار وما قصد بها إلى تحرى الأوقات والأحوال الملائمة لطبائع الكواكب ليحصل التأثير عندهم وحيا فحكموا العقول والطبائع - كما ترى - وتوجهوا شطرها وأعرضوا عن رب العقل والطبائع وإن ظنوا أنهم يقصدونه اعتقادا في استدلالهم لصحة ما انتحلوا على وقوع الأمر وفق ما يقصدون فإذا توجهوا بالذكر والدعاء المفروض على الغرض المطلوب حصل سواء عليهم أنفعا كان ام ضرا وخيرا كان أم شرا ويبنون على ذلك اعتقاد بلوغ النهاية في إجابة الدعاء
أو حصل نوع من كرامات الأولياء كلا ليس طريق(168/296)
من مرادهم ولا كرامات الأولياء أو إجابة الدعاء من نتائج أورادهم فلا تلاقى بين الأرض والسماء ولا مناسبة بين النار والماء
فإن قلت فلم يحصل التأثير حسبما قصدوا فالجواب إن ذلك في الاصل من قبيل الفتنة التي اقتضاها في الخلق ذلك تقدير العزيز العليم فالنظر إلى وضع الأسباب والمسببات أحكام وضعها البارى تعالى في النفوس يظهر عندها ما شاء الله من التأثيرات على نحو ما يظهر على المعيون عند الإصابة وعلى المسحور عند عمل السحر بل هو بالسحر أشبه لاستمدادهما من اصل واحد وشاهده ما جاء في الصحيح خرجه مسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الله يقول أنا عند ظن عبدي بى وأنا معه إذا دعانى - وفي بعض الروايات - أنا عند ظن عبدى بن فليظن بى ما شاء وشرح هذه المعانى لا يليق بما نحن فيه
والحاصل أن وضع الأذكار والدعوات على نحو ما تقدم من البدع المحدثات لكن تارة كون البدعة فيها إضافية باعتبار أصل المشروعية
فصل
فإن قيل فالبدع الإضافية هل يعتد بها عبادات حتى تكون من تلك الجهة متقربا بها إلى الله تعالى أم لا تكون كذلك فإن كان الأول فلا تأثير إذا لكونها بدعة ولا فائدة في ذكره إذ لا يخلو من أحد الأمرين إما أن لايعتبر بجبهة الابتداع في العبادة المفروضة
فتقع مشروعة يثاب عليها فتصير جهة الابتداع مغتفرة فلا على المتبدع فيها أن يبتدع
وإما ان يعتبر بجهة الابتداع فقد صار للابتداع أثر في ترتب الثواب فلا يصح أن يكون منفيا عنه بإطلاق وهو خلاف ما تقرر من عموم الذم فيه
وإن كان الثانى فقد تحدث البدعة الإضافية الحقيقية بالتقسيم الذى انبنى عليه الباب الذي نحن في شرحه لا فائدة فيه(168/297)
فالجواب أن حاصل البدعة الإضافية أنها لا ينحاز إلى جانب مخصوص في الجملة بل نيحاز بها الاصلان - اصل السنة واصل البدعة - لكن من وجهين وإذا كان كذلك اقتضى النظر السابق للذهن أن يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع
إلا أن هذا النظر لا يتحصل لأنه مجمل
والذي ينبغى أن يقال في جهة البدعة في العمل لا يخلو أن تنفرد أو تلتصق وإن التصقت فلا تخلو ان تصير وصفا للمشروع غير منفك إما بالقصد أو بالوضع الشرعي العادي أولا تصير وصفا وإن لم تصر وصفا فإما أن يكون وضعها إلى أن تصير وصفا أولا
فهذه أربعة أقسام لا بد من بيانها في تحصيل هذا المطلوب بحول الله
فأما القسم الأول وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع فالكلام فيه ظاهر مما تقدم إلا إن كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية وإلا فهو فعل من جملة الأفعال العادية لا مدخل له فيما نحن فيه فالعبادة سالمة والعمل العادي خارج من كل وجه
مثاله الرجل يريد القيام إلى الصلاة فيتنحنح مثلا أو يتمخط أو يمشى خطوات أو يفعل شيئا ولا يقصد بذا وجها راجعا إلى الصلاة وإنما يفعل ذلك عادة أو تقززا
فمثل هذا لا حرج فيه في نفسه ولا بالنسبة إلى الصلاة وهو من جملة العادات الجائزة إلا أنه يشترط فيه أيضا أن لا يكون بحيث يفهم منه الانضمام إلى الصلاة عملا أو قصدا فإنه إذ ذاك يصير بدعة
وسيأتى بيانه إن شاء الله
وكذلك أيضا إذا فرضنا أنه فعل قصد التقرب مما لم يشرع أصلا ثم قام بعده إلى الصلاة المشروعة ولم يقصد فعله لأجل الصلاة ولا كان مظنة لأن يفهم منه انضمامه إليها فلا يقدح في الصلاة وإنما يرجع الذم فيه إلى العمل به على الانفراد
ومثله لو أراد القيام إلى العبادة ففعل عبادة مشروعة من غير قصد الانضمام ولا جعله عرضة لقصد انضمامه فتلك العبادتان على اصالتهما وكقول الرجل عند الذبح أو العتق اللهم منك وإليك(168/298)
على غير التزام ولا قصد الانضمام وكقراءة القرآن في الطواف لا بقصد الطواف ولا على الالتزام فكل عبادة هنا منفردة عن صاحبتها فلا حرج فيها
وعلى ذلك نقول لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزا لانه على الشرط المذكور إذ لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام ولا كونه سنة تقام في الجماعات ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب وكما انه دعا أيضا في غير أعقاب الصلوات على هيئة الاجتماع لكن في الفرط وفي بعض الأحايين كسائر المستحبات التي لا يتربص بها وقتا بعينه وكيفية بعينها
وخرج عن أبى سعيد مولى أسيد قال كان عمر رضى الله عنه إذا صلى العشاء أخرج الناس من المسجد فتخلف ليلة مع قوم يذكرون الله فأتى عليهم فعرفهم فألقى درته وجلس معهم فجعل يقول يا فلان ادع الله لنا يا فلان ادع الله لنا حتى صار الدعاء إلى غير فكانوا يقولون عمر فظ غليظ فلم أر أحدا من الناس تلك الساعة ارق من عمر رضى الله عنه لا ثكالى ولا أحدا
وعن سلم العلوى قال قال رجل لأنس رضى الله عنه يوما يا أبا حمزة لو دعوت لنا بدعوات فقال اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة - قال - فأعادها مرارا ثلاثا
فقال يا أبا حمزة لو دعوت فقال مثل ذلك لا يزيد عليه
فإذا كان الأمر على هذا فلا إنكار فيه حتى إذا دخل فيه أمر زائد صار الدعاء فيه بتلك الزيادة مخالفا للسنة فقد جاء في دعاء الإنسان لغيره الكراهية عن السلف لا على حكم الأصالة بل بسبب ما ينظم إليه من الأمور المخرجة عن الأصل
ولنذكره هنا لاجتماع أطراف المسألة في التشبيه على الدعاء بهيئة الاجتماع بآثار الصلوات في الجماعات دائما(168/299)
فخرج الطبرى عن مدرك بن عمران نقال كتب رجل إلى عمر رضى لله عنه فادع الله لى فكتب إليه عمر إنى لست بنبى ولكن إذا أقيمت الصلاة فاستغفر الله لذنبك
فإباية عمر رضى الله عنه في هذا الموضع ليس من جهة أصل الدعاء ولكن من جهة أخرى وإلا تعارض كلامه مع ما تقدم فكأنه فهم من السائل أمرا زائدا على الدعاء فلذلك قال
لست بنبى ويدلك على هذا ما روى عن سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه أنه لما قدم الشام أتاه رجل فقال استغفر لى فقال غفر الله لك
ثم أتاه آخر فقال استفغر لى
فقال لا غفر الله لك ولا لذاك أنبى أنا
فهذا أوضح في أنه فهم من السائل أمرا زائدا وهو أن يعتقد فيه أنه مثل النبى أو انه وسيلة إلى أن يعتقد ذلك او يعتقد أنه سنة تلزم او يجرى في الناس مجرى السنن الملتزمة
ونحوه عن زيد بن وهب أن رجلا قال لحذيفة رضى الله عنه استغفر لى
فقال لا غفر الله لك
ثم قال هذا يذهب إلى نسائه فيقول استغفر لى حذيفة أترضين أن أدعو الله أن تكن مثل حذيفة فدل هذا على أنه وقع في قلبه أمر زائد يكون الدعاء له ذريعة حتى يخرج عن اصله لقوله بعد ما دعا على الرجل هذا يذهب إلى نسائه فيقول كذا
أي فيأتى نساؤه لمثلها ويشتهر الأمر حتى يتخذ سنة ويعتقد في حذيفة ما لا يحبه هو لنفسه وذلك يخرج المشروع عن كونه مشروعا ويؤدى إلى التشيع واعتقاد أكثر مما يحتاج إليه وقد تبين هذا المعنى بحديث رواه ابن علية عن ابن عون قال جاء رجل إلى إبراهيم
فقال يا أبا عمران ادع الله أن يشفينى
فكره ذلك إبراهيم وقطب وقال جاء رجل إلى حذيفة فقال ادع الله ان يفغر لي
فقال لا غفر الله لك
فتنحى الرجل فجلس فلما كان بعد ذلك قال فأدخلك الله مدخل حذيفة أقد رضيت الآن يأتى أحدكم الرجل كأنه قد أحصر شأنه
ثم ذكر إبراهيم السنة فرغب فيها وذكر ما أحدث الناس فكرهه
وروى منصور عن إبراهيم قال كانوا يجتمعون فيتذاكرون فلا يقول بعضهم لبعض استغفر لنا(168/300)
فتأملوا يا أولى الألباب ما ذكره العلماء من هذه هذا الأصنام المنظمة إلى الدعاء حتى كرهوا الدعاء إذا انضم إليه ما لم يكن عليه سلف الأمة فقس بعقلك ماذا كانوا يقولون في دعائنا اليوم بآثار الصلاة بل في كثير من المواطن وانظروا إلى اسبتارة إبراهيم ترغيبه في السنة وكراهيته ما أحدث الناس بعد تقرير ما تقدم
وهذه الآثار من تخريج الطبرى في تهذيب الآثار له وعلى هذا ينبنى ما خرجه ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن أيوب عن أبى قلابة عن أبى الدرداء رضى الله عنه أن ناسا من أهل الكوفة يقرأون عليك السلام ويأمرونك أن تدعو لهم وتوصيهم فقال اقرأوا عليهم السلام ومروهم أن يعطوا القرآن حقه فإنه يحملهم أو يأخذ بهم على القصد والسهولة ويجنبهم الجود والحزونة ولم يذكر أنه دعا لهم
وأما القسم الثاني - وهو أن يصير العمل العادى أو غيره كالوصف للعمل المشروع إلا أن الدليل على أن العمل المشروع لم يتصف في الشرع بذلك الوصف فظاهر الأمر انقلاب العمل المشروع غير مشروع
ويبين ذلك من الأدلة عموم قوله عليه الصلاة والسلام كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا العمل عند اتصافه بالوصف المذكور عمل ليس عليه أمرة عليه الصلاة واللام فهو إذا رد كصلاة الفرض مثلا إذا صلاها القادر الصحيح قاعدا أو سبح في موضع القراءة أو قرأ في موضع التسبيح وما أشبه ذلك
وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها فبالغ كثير من العلماء في تعميم النهى حتى عدوا صلاة الفرض في ذلك الوقت داخلا تحت النهى فباشر النهى الصلاة لأجل اتصافها بأنها واقعة في زمان مخصوص كما اعتبر فيها الزمان باتفاق في الفرض فلا تصلى الظهر قبل الزوال ولا المغرب قبل الغروب
ونهى عليه الصلاة والسلام عن صيام الفطر والأضحى والاتفاق على بطلان الحج في غير أشهر الحج(168/301)
فكل من تعبد لله تعالى بشىء من هذه العبادات الواقعة في غير أزمانها فقد تعبد ببدعة حقيقية لا إضافية فلا جهة لها إلى المشروع بل غلبت عليها جهة الابتداع فلا ثواب فيها على ذلك التقدير فلو فرضنا قائلا يقول بصحة الصلاة الواقعة في وقت الكراهية او صحة الصوم الواقع يوم العيد فعلى فرض ان النهى راجع إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف بل الأمر منفك منفرد - حسبما تبين بحول الله ويدخل في هذا القسم ما جرى به العمل في بعض الناس كالذى حكى القرافى عن العجم في اعتقاد كون صلاة الصبح يوم الجمعة ثلاث ركعات فإن قراءة سورة السجدة لما التزمت فيها وحوفظ
عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة فصارت السجدة إذا وصفا لازما وجزءا من صلاة صبح الجمعة فوجب أن تبطل
وعلى هذا الترتيب ينبغى أن تجرى العبادات المشروعة إذا خصت بأزمان مخصوصة بالرأى المجرد من حيث فهمنا أن للزمان تلبسا بالأعمال علىالجملة فصيرورة ذلك الزائد وصفا للمزيد فيه مخرج له عن اصله وذلك أن الصفة مع الموصوف من حيث هي صفة له لا تفارقه هي من جملته
وذلك لأنا نقول إن الصفة مع غير الموصوف إذا كانت لازمة له حقيقة أو اعتبارا ولو فرضنا ارتفاعها عنه لارتفع الموصوف من حيث هو موصوف بها كارتفاع الإنسان بارتفاع الناطق أو الضاحك فإذا كانت الصفة الزائدة على المشروع على هذه النسبة صار المجموع منهما غير مشروع فارتفع اعتبار المشروع الأصل(168/302)
ومن أمثلة ذلك أيضا قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة وكذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الزوايا وربما لطف اعتبار الصفة فيشك في بطلان المشروعية كما وقع في العتبية عن مالك في مسألة الاعتماد في الصلاة لا يحرك رجليه وأن أول من أحدثه رجل قد عرف - قال - وقد كان مساء أي يساء الثناء عليه فقيل له أفعيب قال قد عيب عليه ذلك وهذا مكروه من الفعل ولم يذكر فيها أن الصلاة باطلة وذلك لضعف وصف الاعتماد أن يؤثر في الصلاة ولطفه بالنسبة إلى كمال هيئتها وهكذا ينبغى أن يكون النظر في المسألة بالنسبة إلى اتصاف العمل بما يؤثر فيه أو لا يؤثر فيه فإذا غلب الوصف على العمل كان أقرب إلى الفساد وإذا لم يغلب لم يكن أقرب وبقى في حكم النظر فيدخل ها هنا نظر الاحتياط للعبادة إذا صار العمل في الاعتبار من المتشابهات
واعلموا أنه من حيث قلنا إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفا لها أو كالوصف - فإنما يعتبر باحد أمور ثلاثة إما بالقصد وإما بالعادة وإما بالشرع أو النقصان
أما بالعادة فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان فإن بينه وبين الذكر المشروع بونا بعيدا إذ هما كالمتضادين عادة وكالذى حكى ابن وضاح عن الاعمش عن بعض أصحابه قال مر عبد الله برجل يقص في المسجد على اصحابه وهو يقول سبحوا عشرا وهللوا عشرا فقال عبد الله إنكم لأهدى من اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
او اضل بل هذه يعنى أضل وفي رواية عنه أن رجلا كان يجمع الناس فيقول رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله - قال - فيقول القوم ويقول رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله - قال - فيقول القوم - قال - فمر بهم عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فقال لهم هديتم لما لم يهد نبيكم وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة(168/303)
وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كوما من حصى - قال - فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ويقول لقد أحدثتم بدعة وظلما وقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
علما فهذه أمور أخرجت الذكر المشروع كالذى تقدم من النهى عن الصلاة في الأوقات المكروهة أو الصلوات المفروضة إذا صليت قبل أوقاتها فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إلى النهى عنها والمنهى عنه لا يكون متعبدا وكذلك صيام يوم العيد
وخرج ابن وضاح من حديث أبان بن أبى عباس قال لقيت طلحة أبن عبيد الله الخزاعى فقلت له قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد من المسلمين يجتمعون في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونها وقال طلحة بدعة من أشد البدع والله لهم تعظيما للنيروز والمهرجان من عبادتهم
ثم استيقظ انس بن مالك رضى الله عنه فرقيت إليه وسالته كما سألت طلحة فرد على مثل قو ل طلحة كأنهما كانا على ميعاد
فجعل صوم تلك الأيام من تعظيم ما تعظمه النصارى وذاك القصد لو كان أفسد العبادة فكذلك ما كان نحوه
وعن يونس بن عبيد أن رجلا قال للحسن يا أبا سعيد ما ترى في مجلسنا هذا قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله وندعوا لأنفسنا ولعامة المسلمين قال - فنهى الحسن عن ذلك أشد النهى(168/304)
والنقل في هذا المعنى كثير فلو لم يبلغ العمل الزائد ذلك المبلغ كان أخف وانفرد العمل بحكمه والعمل المشروع بحكمه كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحمن ابن أبى بكرة قال كنت جالسا عند الاسود بن سريع وكان مجلسه في موخر المسجد الجامع فافتتح سورة بنى إسرائيل حتى بلغ وكبره تكبيرا فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوسا فجاء مجالد بن مسعود متوكئا على عصاه فلما رآه القوم قالوا مرحبا اجلس قال ما كنت لأجلس إليكم وإن كان مجلسكم حسنا ولكنكم صنعتم قبلى شيئا أنكره المسلمون فإياكم وما أنكر المسلمون فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن وأما رفع الصوت فكان خارجا عن ذلك فلم ينضم إلى العمل الحسن حتى إذا انضم إليه صار المجموع غير مشروع
ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعا فيقرأون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس
وسئل ابن القاسم أيضا عن نحو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ونها عنها ورآها بدعة
وقال في رواية أخرى عن مالك وسئل عن القراءة بالمسجد فقال لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شىء أحدث ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن
قال أبن رشد يريد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله سنة مثل ما بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح
قال فرأى ذلك بدعة
فقوله في الرواية والقرآن حسن(168/305)
يحتمل أن يقال إنه يعنى أن تلك الزيادة من الاجتماع وجعله في المسجد منفصل لا يقدح في حسن قراءة القرآن ويحتمل - وهو الظاهر - انه يقول قراءة حسن على غير ذلك الوجه بدليل قوله في موضع آخر ما يعجبنى أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الأسواق والطرق فيريد أنه لا يقرأ إلا على النحو الذي كان يقرؤه السلف وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده فلا تفعل أصلا وتحرز بقوله والقرآن حسن من توهم أنه يكره قراءة القرآن مطلقا فلا يكون في كلام مالك دليل على انفكاك الاجتماع من القراءة والله أعلم
وأما القسم الثالث وهو أن يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه انه من أوصافها أو جزء منها فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهى عن الذرائع وهو إن كان في الجملة متفقا عليه ففيه في التفصيل نزاع بين العلماء إذ ليس كل ما هو ذريعة إلى ممنوع يمنع بدليل الخلاف الواقع في بيوع الآجال وما كان نحوها غير أن أبا بكر الطرطوشى يحكى الاتفاق فى هذا النوع استقراء من مسائل وقعت للعلماء منعوها سدا للذريعة وإذا ثبت الخلاف في بعض التفاصيل لم ينكر ان يقول به قائل في بعض ما نحن فيه ولنمثله أولا ثم نتكلم حكمه بحول الله
فمن ذلك ما جاء في الحديث من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين
ووجه ذلك عند العلماء مخافة أن يعد ذلك من جملة رمضان
ومنه ما ثبت عن عثمان رضى الله عنه أنه كان لا يقصر في السفر فيقال له ألست قصرت مع النبى صلى الله عليه وسلم
فيقول بلى ولكنى امام الناس فينظر إلى الأعراب وأهل البادية أصلى ركعتين فيقول هكذا فرضت فالقصر في السفر سنة أو واجب ومع ذلك تركه خوف أو يتذرع به لأمر حادث في الدين غير مشروع
ومنه قصة عمر رضى الله عنه في غسله من الاحتلام حتى أسفر(168/306)
وقوله لمن راجعه في ذلك وأن يأخذ من أثوابهم ما يصلى به ثم يغسل ثوبه على السعة لو فعلته لكانت سنة بل اغسل ما رأيت وأنضح مالم أر
وقال حذيفة بن أسيد شهدت أبا بكر وعمر رضى الله عنهما وكانا لايضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة
ونحو ذلك عن ابن مسعود رضى الله عنه قال إنى لأترك أضحيتى - وإنى لمن ايسركم - مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة
وكثير من هذا عن السلف الصالح
وقد كره مالك إتباع رمضان بست من شوال ووافقه أبو حنيفة فقال لا أستحبها مع ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح وأخبر مالك عن غيره ممن يقتدى به أنهم كانوا لا يصومونها ويخافون بدعنها
ومنه ما تقدم في اتباع الآثار كمجىء قبا ونحو ذلك
وبالجملة فكل عمل أصله ثابت شرعا إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة فتركه مطلوب في الجملة أيضا من باب سد الذرائع ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد الإحرام وقبل القراءة وكره غسل اليد قبل الطعام وأنكر على من جعل ثوبه في المسجد أمامه في الصف
ولنرجع إلى ما كنا فيه فاعلموا أنه إن هذه مجتهد إلى عدم سد الذريعة في غير محل النص مما يتضمنه هذا الباب فلا شك أن العمل الواقع عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره ومن ذهب إلى سدها - ويظهر ذلك من كثير من السلف من الصحابة و التابعين وغيرهم - فلا شك أن ذلك العمل ممنوع ومنعه يقتضى بظاهره أنه ملوم عليه وموجب للذم إلا أن يذهب إلى ان النهى فيه راجع إلى أمر مجاور فهو محل نظر واشتباه ربما يتوهم فيه انفكاك الأمرين بحيث يصح أن يكون العمل مأمورا به من جهة نفسه ومنهيا عنه من جهة مآله
ولنا فيه مسلكان أحدهما التمسك بمجرد النهى في اصل المسألة كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعينا وقوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يجمع بين المتفرق ويفرق المجتمع خشية الصدقة ونهى عن البيع والسلف(168/307)
وعلله العلماء بالربا المتذرع إليه في ضمن السلف ونهى عن الخلوة بالأجنبيات وعن سفر المرأة مع غير ذى محرم وأمر النساء بالاحتجاب عن ابصار الرجال والرجال بغض الأبصار إلى اشباه ذلك مما عللوا الأمر فيه والنهى بالتذرع لا بغيره والنهى اصله أن يقع على المنهى عنه وإن كان معللا وصرفه إلى أمر مجاور خلاف اصل الدليل فلا يعدل عن الأصل إلا بدليل فكل عبادة نهى عنها فليست بعبادة إذ لو كانت عبادة لم ينه عنها فالعامل بها عامل بغير مشروع فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهى كان مبتدعا بها
لا يقال إن نفس التعليل يشعر بالمجاورة وإن الذى نهى عنه غير الذى أمر به وانفكاكهما متصور
لانا نقول قد تقرر أن المجاور إذا صار كالوصف اللازم انتهض النهى عن الجملة لا عن نفس الوصف بانفراده وهو مبين في القسم الثاني
المسلك الثاني ما دل في بعض مسائل الذرائع على ان الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه ومنه ما ثبت في الصحيح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أكبر الكبائر ان يسب الرجل والديه - قالوا يا رسول الله وهل يسب الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه فجعل سب الرجل لولدى غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه حتى ترجمه عنها بقوله أن يسب الرجل والديه ولم يقل أن يسب الرجل والدي من يسب والديه أو نحو ذلك وهو غاية معنى ما نحن فيه
ومثله حديث عائشة رضى الله عنها مع أم ولد زيد بن أرقم رضى الله عنه وقولها أبلغى زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن لم يبت وإنما يكون هذا الوعيد فيمن فعل ما لا يحل له لا ممن فعله كبيرة حتى ترغب آخرا بالآية فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وهي نازلة في غير العمل بالربا فعدت العمل بما يتذرع به إلى الربا بمنزلة العمل بالربا مع أنا نقطع أن زيد بن ارقم وام ولده لم يقصدوا قصد الربا كما لا يمكن ذا عقل أن يقصد والديه بالسب(168/308)
وإذا ثبت هذا المعنى في بعض الذرائع ثبت في الجميع إذ لا فرق فيما لم يدع مما لم ينص عليه إلا ألزم الخصم مثله في المنصوص عليه
فلا عبادة أو مباحا يتصور فيه أن يكون ذريعة إلى غير جائز لا وهو غير عبادة ولا مباح
لكن هذا القسم إنما يكون النهى بحسب ما يصير وسيلة إليه في مراتب النهى إن كانت البدعة من قبيل الكبائر فالوسيلة كذلك أو من قبيل الصغائر فهي كذلك والكلام في هذه المسألة يتسع ولكن هذه الإشارة كافية فيها
وبالله التوفيق
الباب السادس
في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة
اعلم أنا أذا بنينا على أن البدع منقسمة إلى الأحكام الخمسة فلا إشكال في اختلاف رتبتها لأن النهى من جهة انقسامه إلى نهى الكراهية ونهى التحريم يستلزم أن احدهما أشد في النهى من الآخر فإذا انضم إليهما قسم الإباحة ظهر الاختلاف في الأقسام فإذا اجتمع إليها قسم الندب وقسم الوجوب كان الاختلاف فيها أوضح - وقد مر من أمثلتها أشياء كثيرة - لكنا لا نبسط القول في هذا التقسيم ولا بيان رتبه بالأشد والأضعف لانه إما أن يكون حقيقيا فالكلام فيه عناء وإن كان غير حقيقى فقد تقدم أنه غير صحيح فلا فائدة في التفريع على مالا يصح وإن عرض في ذلك نظر أو تفريع فإنما يذكر بحكم التبع بحول الله
فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلاثة أقسام قسم الوجوب وقسم الندب - وقسم الإباحة - انحصر النظر فيما بقى وهو الذي ثبت من التقسيم غير انه ورد النهى عنها على وجه واحد ونسبته إلى الضلالة واحدة في قوله إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وهذا عام في كل بدعة فيقع السؤال هل لها حكم واحد أم لا فنقول ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة نخرج عنها الثلاثة فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين فمنها بدعة محرمة
ومنها بدعة مكروهة وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات لا تعدو الكراهة والتحريم فالبدع كذلك
هذا وجه(168/309)
ووجه ثان أن البدع إذا تومل معقولها وجدت رتبها متفاوتة فمنها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا الآية وقوله تعالى وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وقوله تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال وما اشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح
ومنها ما هو من المعاصى التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة
ومنها ما هو معصية ويتفق عليها ليست بكفر كبدعة التبتل والصيام قائما في الشمس والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع
ومنها ما هو مكروه كما يقول مالك في إتباع رمضان بست من شوال وقراءة القرآن بالإدارة والاجتماع للدعاء عشية عرفة وذكر السلاطين في اخطبة الجمعة - على ما قاله ابن عبد السلام الشافعى - وما أشبه ذلك فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة فلا يصح مع هذا أن يقال إنها على حكم واحد هو الكراهة فقط أو التحريم فقط
وجه ثالث إن المعاصى منها صغائر ومنها كبائر ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر وإن وقعت في التحسينات فهى أدنى رتبة بلا إشكال وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين
ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل ولا يمكن في المكمل ان يكون في رتبة المكمل فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع المقصد ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد فقد ظهر تفاوت رتب المعاصى والمخالفات(168/310)
وأيضا فإن الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين وليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين فيبيح الكفر الدم والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين
ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص فالقتل بخلاف العقل والمآل وكذلك سائر ما بقى وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب فليس قطع العضو كالذبح ولا الخدش كقطع العضو وهذا كله محل بيانه الأصول فصل
وإذا كان كذلك فالبدع من جملة المعاصى وقد ثبت التفاوت في المعاصى فكذلك يتصور مثله في البدع
فمنها ما يقع في الضروريات أي أنه إخلال بها ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات وما يقع في رتبة الضروريات منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال
فمثال وقوعه في الدين ما تقدم من اختراع الكفار وتغييرهم ملة إبراهيم عليه السلام من نحو قوله تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فروى عن المفسرين فيها أقوال كثيرة وفيها عن ابن المسيب أن البحيرة من الإبل هي التي يمنح درها للطواغيت والسائبة هي التي يسيبونها لطواغيتهم والوصيلة هي الناقة تبكر بالأنثى ثم تثنى بالأنثى يقولون وصلت انثيين ليس بينهما ذكر فيجدعونها لطواغيتهم والحامى هو الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدودة فإذا بلغ ذلك قالوا حمى ظهره فيترك فيسمونه الحامى
وروى إسماعيل القاضى عن زيد بن اسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(168/311)
إنى لأعرف أول من يسبب السوائب وأول من غير عهد إبراهيم عليه السلام قال قالوا من هو يا رسول الله قال عمرو بن لحيى أبو بنى كعب لقد رأيته يجر قصبه فى النار يؤذى ريحه أهل النار وإنى لأعرف أول من بحر البحائر قالوا من هو يا رسول الله قال رجل من بنى مدلج وكانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما ثم شرب البانهما بعد ذلك فلقد رأيته في النار هو وهما يعضانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما
وحاصل ما في هذه الآية تحريم ما أحل الله على نية التقرب به إليه مع كونه حلالا بحكم الشريعة المتقدمة
ولقد هم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يحرموا على أنفسهم ما أحل الله وإنما كان قصدهم بذلك الانقطاع إلى الله عن الدنيا وأسبابها وشواغلها فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأنزل الله عز وجل يا ايها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين
وسيأتى شرح هذه الآية في الباب السابع إن شاء الله تعالى وهو دليل على أن تحريم ما أحل الله - وإن كان بقصد سلوك طريق الآخرة - منهى عنه وليس فيه اعتراض على الشرع ولا تغيير له ولا قصد فيه الابتداع فما ظنك به إذا قصد به التغيير والتبديل كما فعل الكفار أو قصد به الابتداع في الشريعة وتمهيد سبيل الضلالة
فصل
ومثال ما يقع في النفس ما ذكر من نحل الهند في تعذيبها أنفسها بانواع العذاب الشنيع والتمثيل الفظيع والقتل بالاصناف التى تفزع منها القلوب وتقشعر منها الجلود كل ذلك على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العلى - في زعمهم - والفوز بالنعيم الاكمل بعد الخروج عن هذه الدار العاجلة ومبنى على اصول لهم فاسدة اعتقدوها وبنوا عليها اعمالهم(168/312)
حكى المسعودى وغيره من ذلك أشياء فطالعها من هنالك وقد وقع القتل في العرب الجاهلية ولكن على غير هذه الجهة وهو قتل الأولاد لشيئين أحدهما خوف الإملاق والاخر دفع العار الذى كان لاحقا لهم بولادة الإناث حتى أنزل الله في ذلك قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم - وقوله تعالى - وإذا المؤدة سئلت بأي ذنب قتلت - وقوله - وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا الآية
وهذا القتل محتمل أن يكون دينا وشرعه ابتدعوها ويحتمل أن يكون عادة تعودوها بحيث لم يتخذوها شرعة إلا أن الله تعالى ذمهم عليها فلا يحكم عليها بالبدعة بل بمجرد المعصية فنظرنا هل نجد لأحد المحتملين عاضدا يكون هو الأولى في حمل الآيات عليه فوجدنا قوله سبحانه وتعالى وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم فإن الآية صرحت أن لهذا التزين سببين أحدهما الإرداء وهو الإهلاك والآخر لبس الدين وهو قوله وليلبسوا عليهم دينهم ولا يكون ذلك إلا بتغيره وتبديله أو الزيادة فيه أو النقصان منه وهو الابتداع بلا إشكال ن وإنما كان دينهم أولا دين أبيهم إبراهيم فصار ذلك من جملة ما بدلوا فيه كالبحيرة والسائبة ونصب الاصنام وغيرها حتى عد من جملة دينهم الذي يدينون به
ويعضده قوله تعالى بعد فذرهم وما يفترون فنسبهم إلى الافتراء - كما ترى - والعصيان من حيث هو عصيان لا يكون افتراءا وإنما يقع الافتراء في نفس التشريع في أن هذا القتل من جملة ما جاء من الدين
ولذلك قال تعالى على إثر ذلك قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء علىالله قد ضلوا فجعل قتل الأولاد مع تحريم ما أحل الله من جملة الافتراء ثم ختم بقوله قد ضلوا وهذه خاصية البدعة - كما تقدم - فإذا ما فعلت الهند نحو مما فعلت الجاهلية وسيأتى مذهب المهدي المغربى في شرعية القتل(168/313)
على أن بعض المفسرين قال في قوله تعالى وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم أنه قتل الأولاد على جهة النذر والتقرب به إلى الله كما فعل عبد المطلب في ابنه عبد الله أبى النبى صلى الله عليه وسلم
وهذا القتل قد يشكل إذ يقال لعل ذلك من جملة ما اقتدوا فيه بأبيهم إبراهيم عليه السلام لان الله أمره بذبح أبنه فلا يكون ذلك اختراعا وافتراءا لرجوعها إلى أصل صحيح وهو عمل أبيهم عليه السلام وإن صح هذا القول وتؤول فعل إبراهيم عليه السلام على أنه لم يكن شريعة لمن بعده من ذريته فوجه اختراعه دينا ظاهر لا سيما عند عروض شبهة الذبح وهو شأن أهل البدع إذ لا بد لهم من شبهة يتعلقون بها - كما تقدم التنبيه عليه
وكون ما تفعل أهل الهند من هذا القبيل ظاهر جدا
ويجرى مجرى إتلاف النفس إتلاف بعضها كقطع عضو من الأعضاء او تعطيل منفعة من منافعه بقصد التقرب إلى الله بذلك فهو من جملة البدع وعليه يدل الحديث حيث قال رد رسول الله صلى الله عليه وسلم
التبتل على عثمان ابن مظعون ولو أذن له لاختصينا
فالخصاء بقصد التبتل وترك الاشتغال بملابسة النساء واكتساب الاهل والولد مردود مذموم وصاحبه معتد غير محبوب عند الله حسبما نبه قوله تعالى ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكذلك فقء العين لئلا ينظر إلى مالا يحل له
فصل
ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيها ومعمولا بها ومتخذة فيها كالدين المنتسب والملة الجارية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا وهو على أنواع
فجاء عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء
الأول منها - نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها _
والثانى نكاح الاستبضاع كالرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلى إلى فلان فاستبضعى منه(168/314)
ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع
والثالث أن يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع منهم رجل ان يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان فتسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها فلا يستطيع أن يمتنع منه الرجل
والرابع أن يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذى يرون فالتاط به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم
بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم
وهذا الحديث في البخارى مذكور
وكان لهم أيضا سنن أخر في النكاح خارجة عن المشروع كوراثة النساء كرها وكنكاح ما نكح الأب وأشباه ذلك جاهلية جارية مجرى المشروعات عندهم فمحا الإسلام ذلك كله والحمد لله
ثم أتى بعض من نسب إلى الفرق ممن حرف التأويل في كتاب الله فاجاز نكاح أكثر من أربع نسوة إما اقتداء - في زعمه - بالنبى صلى الله عليه وسلم
حيث أحل له أكثر من ذلك أن يجمع بينهن ولم يلتفت إلى إجماع المسلمين أن ذلك خاص به عليه السلام وإما تحريفا لقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فأجاز الجمع بين تسع نسوة في ذلك ولم يفهم المراد من الراوى ولا من قوله مثنى وثلاث ورباع فأتى ببدعة أجراها في هذه الامة لا دليل عليها ولا مستند فيها
ويحكى عن الشيعة أنها تزعم أن النبى صلى الله عليه وسلم(168/315)
أسقط عن أهل بيته ومن دان بحبهم جميع الاعمال وانهم غير مكلفين إلا بما تطوعوا وأن المحظورات مباحة لهم كالخنزير والزنا والخمر وسائر الفواحش وعندهم نساء يسمين النوابات يتصدقن بفروجهن على المحتاجين رغبة في الأجر وينكحون ما شاءوا من الأخوات والبنات والامهات لا حرج عليهم ولا في تكثير النساء
ومن هؤلاء هم العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية
ومما يحكي عنهم في ذلك أنه يكون للمرأة ثلاثة أزواج وأكثر في بيت واحد يستولدونها وتنسب الولد لكل واحد منهم ويهنأ به كل واحد منهم كما التزمت الإباحية خرق هذا الحجاب بإطلاق وزعمت أن الأحكام الشرعية إنما هي خاصة بالعوام وأما الخواص منهم فقد ترقوا عن تلك المرتبة فالنساء بإطلاق حلال لهم كما أن جميع ما في الكون من رطب ويابس حلال لهم أيضا مستدلين على ذلك بخرافات عجائز لا يرضاها ذو عقل قاتلهم الله أنى يؤفكون ) فصاروا أضر على الدين من متبوعهم إبليس لعنهم الله كقوله
وكنت امرءا من جند إبليس فانتهى
بى الفسق حتى صار إبليس من جندى
فلو مات قبلى كنت أحسن بعده
طرائق فسق ليس يحسنها بعدى
فصل
ومثال ما يقع في العقل أن الشريعة بينت ان حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله ولذلك قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول وقال إن الحكم إلا لله واشباه ذلك من الآيات والأحاديث
فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع وأنه محسن ومقبح فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه
ومن ذلك أن الخمر لما حرمت ونزل من القرآن في شأن من مات قبل التحريم وهو يشربها قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية
تأولها قوم - فيما ذكر - على أن الخمر حلال وأنها داخلة تحت قوله فيما طعموا(168/316)
فذكر إسماعيل بن إسحاق عن على رضى الله عنه قال شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبى سفيان فقالوا هي لنا حلال
وتأولوا هذه الآية ليس على الذين آمنوا الآية
قال فكتب فيهم إلى عمر
قال فكتب عمر إليه أن ابعث بهم إلى قبل أن يفسدوا من قبلك فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس فقالوا يا أمير المؤمنين نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينه ما لم يأذن به فاضرب أعناقهم وعلى رضى الله عنه ساكت قال فما تقول يا أبا الحسن فقال أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم فإنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به
فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين
فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله وبنص الكتاب وشهد فيهم على رضى الله عنه وغيره من الصحابة بانهم شرعوا في دين الله وهذه هي البدعة بعينها فهذا وجه
وأيضا فإن بعض الفلاسفة الإسلاميين تأول فيها غير هذا وأنه إنما يشربها للنفع لا للهو وعاهد الله على ذلك فكأنها عندهم من الأدوية أو غذاء صالح يصلح لحفظ الصحة
ويحكى هذا العهد عن ابن سيناء
ورأيت في بعض كلام الناس ممن عرف عنه أنه كان يستعين في سهره للعلم والتصنيف والنظر بالخمر فإذا رأى من نفسه كسلا أو فترة شرب منها قدر ما ينشطه وينفى عنه الكسل بل ذكروا فيها أن لها حرارة خاصة تفعل أفعالا كثيرة تطيب النفس وتصير الإنسان محبا للحكمة وتجعله حسن الحركة والذهن والمعرفة فإذا استعملها على الاعتدال عرف الأشياء وفهمها وتذكرها بعد النسيان
فلهذا - والله أعلم - كان ابن سينا لا يترك استعمالها - على ما ذكر عنه - وهو كله ضلال مبين عياذا بالله من ذلك
ولا يقال إن هذا داخل تحت مسألة التداوى بها(168/317)
وفيها خلاف شهير لانا نقول إنما ثبت عن ابن سينا أنه كان يستعملها استعمال الأمور المنشطة من الكسل والحفظ للصحة والقوة على القيام بوظائف الأعمال او ما يناسب ذلك لا في الأمراض المؤثرة في الأجسام
وإنما الخلاف في استعمالها في الأمراض لا في غير ذلك فهو ومن وافقه على ذلك متقولون على شريعة الله مبتدعون فيها وقد تقدم رأى أهل الإباحة في الخمر وغيرها ولا توفيق إلا بالله
فصل
ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا إنما البيع مثل الربا فإنهم لما استحلوا العمل به احتجوا بقياس فاسد فقالوا إذا فسخ العشرة التي اشترى بها إلى شهر في خمسة عشر إلى شهرين فهو كما لو باع بخمسة عشر إلى شهرين فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم فقال ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا ) ليس البيع مثل الربا
فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأى فاسد فكان من جملة المحدثاث كسائر ما أحدثوا في البيوع الجارية بينهم المبنية على الخطر والغرر
وكانت الجاهلية قد شرعت أيضا اشياء في الأموال كالحظوظ التي كانوا يخرجونها للأمير من الغنيمة حتى قال شاعرهم
لك المرباع فيها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول
فالمرباع ربع المغنم يأخذه الرئيس والصفايا جمع صفى وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم والنشيطة ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه فكان يختص به الرئيس دون غيره والفضول ما يفضل من الغنيمة عند القسمة
وكانت تتخذ الأرضين تحميها عن الناس أن لا يدخولها ولا يرعوها فلما نزل القرآن بقسمة الغنيمة في قوله تعالى واعلموا أن ما غنمتم من شىء الآية ارتفع حكم هذه البدعة إلا بعض من جرى في الإسلام على حكم الجاهلية فعمل باحكام الشيطان ولم يستقم على العمل بأحكام الله تعالى(168/318)
وكذلك جاء لا حمى إلا حمى الله ورسوله ثم جرى بعض الناس ممن آثر الدنيا على طاعة الله على سبيل حكم الجاهلية ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ولكن الآية والحديث وما كان في معناهما أثبت أصلا في الشريعة مطردا لا ينخرم وعاما لايتخصص ومطلقا لا يتقيد وهو أن الصغير من المكلفين والكبير والشريف والدنىء والرفيع والوضيع في احكام الشريعة سواء فكل من خرج عن مقتضى هذا الاصل خرج من السنة إلى البدعة ومن الاستقامة إلى الاعوجاج
وتحت هذا الرمز تفاصيل عظيمة الموقع
لعلها تذكر فيما بعد ان شاء الله وقد اشير إلى جملة منها
فصل
إذا تقرر أن البدع ليست فى الذم ولا فى النهى على رتبة واحدة وأن منها ما هو مكروه كما أن منها ما هو محرم فوصف الضلالة لازم لها وشامل لانواعها لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم
كل بدعة ضلالة
لكن يبقى ها هنا إشكال وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وقوله ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل واشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال فانه يقتضى أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر فى الشرع فدل على ان البدع المكروهة خروج عن الهدى
ونظيره فى المخالفات التى ليست ببدع المكروهة من الافعال كالالتفات اليسير فى الصلاة من غير حاجة والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك
ونظيره فى الحديث نهينا عن اتباع الجنائز ولم يحرم علينا فالمرتكب للمكروه لا يصح ان يقال فيه مخالف ولا عاص مع أن الطاعة ضدها المعصية
وفاعل المندوب مطيع لانه فاعل ما امر به فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه لا عاصيا لانه فاعل ما نهى عنه(168/319)
لكن ذلك غير صحيح اذ فلا يطلق عليه عاص فكذلك لا يكون فاعل البدعة المكروهة ضالا والا فلا فرق بين اعتبار الضد فى الطاعة واعتباره فى الهدى فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ والا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية
الا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة فليعم لفظ المعصية لكل فعل مكروه لكن هذا باطل فما لزم عنه كذلك
والجواب أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت - كما تقدم بسطة - وما التزمتم فى الفعل المكروه غير لازم فإنه لا يلزم فى الافعال أن تجرى على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع ولما استقرينا موارد الاحكام الشرعية وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقا عليها أو كالمتفق عليها وهى المباح وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح
فالامر والنهى ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهى وأنما يتعلق بها التخيير
وإذا تأملنا المكروه - حسبما قرره الاصوليون - وجدناه ذا طرفين طرف من حيث هو منهى عنه فيستوى مع المحرم فى مطلق النهى فربما يتوهم أن مخالفة نهى الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم فى مطلق المخالفة
غير أنه يصد عن هذا الاطلاق الطرف الآخر وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعلة ذم شرعى ولا إثم ولا عقاب فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية
وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن ينسب إليها المكروه من البدع وقد قال الله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال فليس إلا حق وهو الهدى والضلال وهو باطل فالبدع المكروهة ضلال(168/320)
وأما ثانيا فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض وإنما حقيقة المسالة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم - كما تقدم بيانه - وأما تعيين الكراهة التي معناها نفى إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص
أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رد على من قال أما أنا فأقوم الليل ولا انام وقال الآخر أما أنا فلا أنكح النساء - إلى آخر ما قالوا فرد عليهم ذلك صلى الله عليه وسلم
وقال من رغب عن سنتي فليس مني
وهذه العبارة أشد شىء في الإنكار ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر وكذلك ما في الحديث أنه عليه السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال ما بال هذا نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه قال مالك أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية ويعضد هذا الذي قاله مالك ما في البخاري عن قيس بن أبى حازم قال دخل على امرأة من قيس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال مالها فقال حجة مصمتة قال لها تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت الحديث الخ
وقال مالك أيضا في قوله عليه الصلاة والسلام من نذر ان يعصى الله فلا يعصه إن ذلك أن ينذر لرجل أن يمشى إلى الشام وإلى مصر واشباه ذلك مما ليس فيه طاعة أو ان لا أكلم فلانا فليس عليه في ذلك شىء إن هو كلمه لانه ليس لله في هذه الأشياء طاعة وإنما يوفي لله بكل نذر فيه طاعة من مشى إلى بيت الله أو صيام أو صدقة أو صلاة فكل ما لله فيه طاعة فهو واجب على من نذره(168/321)