وقال أحمد رضي الله عنه والشافعي رضي الله عنه وجماعة من العلماء : إنما تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس فقط ، لأن الأصل قتال الكفار وعدم رفع السيف عنهم حتى يسلموا ولم يأت رفع السيف بعد بذل الجزية إلا في هذه الطوائف الثلاث اليهود والنصارى والمجوس . جاء الكتاب في اليهود والنصارى ، وجاءت السنة الصريحة في المجوس ومن سواهم لا يرفع عنهم السيف بل لا بد من الإسلام أو السيف فقط؛ لأن الله جل وعلا قال : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ولم يقل : أو كفوا عنكم ، وقال : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فعمم بقتالهم جميعا وتعليق الحكم بالوصف المشتق يدل على أنه هو العلة فلما علق الحكم بالمشركين والكفار ولمن ترك الدين ولم يدن بالحق عرف أن هذا هو العلة وأنه هو المقتضي لقتالهم ، فالعلة : الكفر بالله مع شرط كونه من أهل القتال لا من غيرهم ، فإذا كانوا من أهل القتال قاتلناهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية إن كانوا من اليهود والنصارى والمجوس أو حتى يسلموا فقط إذا كانوا من غير هؤلاء الطوائف الثلاث وإلا فالسيف .
لكن من ليس من أهل القتال كالنساء والصبيان والعميان والمجانين والرهبان وأرباب الصوامع والزمنى ، ومن ليس من شأنهم القتال؛ لكونهم لا يستطيعون كمن تقدم ذكرهم ، وهكذا الشيوخ الفانون فهؤلاء لا يقاتلون عند جمهور العلماء؛ لأنهم ليسوا من أهل القتال فمن محاسن الإسلام تركهم وعدم قتالهم ، وفيه أيضا دعوة لهم ولأهاليهم وقومهم إلى الإسلام إذا عرفوا أن الإسلام يرحم هؤلاء ويعطف عليهم ولا يقتلهم ، فهذا من أسباب دخولهم في الإسلام أو عدم تفانيهم في العداء له .(155/193)
وبعض أهل العلم حكى الإجماع على عدم قتل النساء والصبيان وقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام النهي عن قتل النساء والصبيان في الأحاديث الصحيحة ، وقد جاء في أحاديث السنن النهي عن قتل الرهبان والشيوخ الفانين وأشباههم .
وذكر بعض أهل العلم أن آية السيف وهي قوله جل وعلا : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ الآية ليست ناسخة ولكن الأحوال تختلف ، وهكذا قوله جل وعلا : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الآية ، وقوله سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وهكذا قوله سبحانه
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وهكذا قوله سبحانه : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ(155/194)
فهذه الآيات وما في معناها قال بعض أهل العلم : ليست ناسخة لآيات الكف عمن كف عنا وقتال من قاتلنا وليست ناسخة لقوله : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ولكن الأحوال تختلف فإذا قوي المسلمون وصارت لهم السلطة والقوة والهيبة استعملوا آية السيف وما جاء في معناها وعملوا بها وقاتلوا جميع الكفار حتى يدخلوا في دين الله أو يؤدوا الجزية إما مطلقا كما هو قول مالك رحمة الله وجماعة ، وإما من اليهود والنصارى والمجوس على القول الآخر ، وإذا ضعف المسلمون ولم يقووا على قتال الجميع فلا بأس أن يقاتلوا بحسن قدرتهم ويكفوا عمن كف عنهم إذا لم يستطيعوا ذلك فيكون الأمر إلى ولي الأمر إن شاء قاتل ، وإن شاء كف ، وإن شاء قاتل قوما دون قوم على حسب القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين لا على حسب هواه وشهوته ولكن ينظر للمسلمين ، وينظر لحالهم وقوتهم ، فإن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية ، لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف ، وإذا قوي المسلمون قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقصدهم في بلادهم ويكفون عمن كف عنهم فينظرون في المصلحة التي تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها الرحمة للمسلمين والنظر في العواقب كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة أول ما هاجر .
وإذا صار عندهم من القوة والسلطان والقدرة والسلاح ما يستطيعون به قتال جميع الكفار أعلنوها حربا شعواء للجميع ، وأعلنوا الجهاد للجميع كما أعلن الصحابة ذلك في زمن الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم وكما أعلن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته بعد نزول آية السيف ، وتوجه إلى تبوك لقتال الروم ، وأرسل قبل ذلك جيش مؤتة لقتال الروم عام 8 من الهجرة وجهز جيش أسامة في آخر حياته صلى الله عليه وسلم(155/195)
وهذا القول ذكره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله واختاره وقال : ( إنه ليس هناك نسخ ولكنه اختلاف في الأحوال؛ لأن أمر المسلمين في أول الأمر ليس بالقوي وليس عندهم قدرة كاملة فأذن لهم في القتال لمن قاتلهم فقط ، ولما كان عندهم من القدرة بعد الهجرة ما يستطيعون به الدفاع أمروا بقتال من قاتلهم وبالكف عمن كف عنهم ، فلما قوي الإسلام وقوي أهله وانتشر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجا أمروا بقتال جميع الكفار ونبذ العهود وألا يكفوا إلا عن أهل الجزية من اليهود والنصارى والمجوس إذا بذلوها عن يد وهم صاغرون ) وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم واختاره الحافظ ابن كثير رحمه الله عند قوله جل وعلا في كتابه العظيم : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وهذا القول أظهر وأبين في الدليل؛ لأن القاعدة الأصولية أنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة ، والجمع هنا غير متعذر ، كما تقدم بيانه والله ولي التوفيق .
أما ما يتعلق بالجزية فقول من قال إنها تؤخذ من الجميع أظهر إلا من العرب خاصة . ووجه ذلك ما ثبت في الصحيح عن بريدة رضي الله عنه أن النبي 0 كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا ثم قال " امض باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله فعلق الحكم بالكفر ، فدل ذلك على أنهم يقاتلون لكفرهم ، إذا كانوا من أهل القتال ، كما تدل عليه آيات أخرى .(155/196)
ثم قال صلى الله عليه وسلم : اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا ثم قال بعد هذا : " وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام ثم قال بعد ذلك : فإن أبوا فاسألهم الجزية ثم قال بعد ذلك : فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم فأمر صلى الله عليه وسلم أميره على الجيش والسرية أن يدعو الأعداء أولا للإسلام ، فإن أجابوا كف عنهم ، فإن أبوا دعاهم إلى الجزية ، فإن أجابوا كف عنهم ، وإلا فاستعان بالله وقاتلهم .
ولم يفرق بين اليهود والنصارى وغيرهم ، بل قال : عدوك من المشركين
وهذا يظهر منه العموم ، ولكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن عامة العلماء لم يروا أخذها من العرب .
قالوا : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي تنزل عليه الآيات ، وهو أعلم بمعناها لم يأخذها من العرب ، بل قاتلهم حتى دخلوا في الإسلام . وهكذا الصحابة بعده لم يقبلوها من عربي ، بل قاتلوا العرب في الجزيرة حتى دخلوا كلهم في دين الله . والله جل وعلا قال في حقهم وغيرهم : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ وقال في الآية الأخرى : فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ولم يذكر الجزية في هذا المكان .
فالقول بأنها لا تؤخذ من العرب هو الأقوى والأظهر والأقرب ، وأما من سواهم فقول من قال : بعموم النص- أعني حديث بريدة- أظهر ، أخذا بالأدلة من القرآن والسنة جميعا ، ولأن المقصود من الجهاد هو إخضاعهم للحق ، ودعوتهم إليه ، وأن يكفوا عنا أذاهم وظلمهم ، فإذا فعلوا ذلك ودخلوا في دين الله ، فالحمد لله ، وإن أبوا طالبناهم بالجزية ، فإن بذلوها والتزموا الصغار والشروط التي تملى عليهم قبلناها منهم وكففنا عنهم .(155/197)
فإن أبوا أن يدخلوا في الإسلام ، وأن يبذلوا الجزية قاتلناهم؛ لما في ذلك من المصلحة لهم وللمسلمين ، ولأن ذلك هو الموافق لحديث بريدة رضي الله عنه مع الآيات في اليهود والنصارى ، ومع حديث عبد الرحمن في المجوس .
أما العرب فإن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يأخذوها منهم ، وهكذا من بعدهم الأئمة ، ويتضح من سيرتهم وعملهم أنه لا يجوز أن يبقى العرب على الشرك بالله أبدا ، بل إما أن يحملوا هذه الرسالة ، ويبلغوها الناس ، وإما أن يقضى عليهم ، فلا يبقوا في الأرض .
أما بقاؤهم بالجزية فغير لائق . . ولهذا جرى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفاؤه ، على عدم قبولها من العرب ، وإنما قبلوها من الأعاجم كالمجوس وأشباههم ، كما قبلوها من اليهود والنصارى .
أما قول من قال بأن القتال للدفاع فقط ، فهذا القول ما علمته لأحد من العلماء القدامى ، أن الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدفاع فقط ، وأن الكفار لا يبدءون بالقتال وإنما يشرع للدفاع فقط .
وقد كتب بعض إخواننا رسالة في الرد على هذا القول وفي الرد على رسالة افتراها بعض الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية ، زعم فيها أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط . وهذا الكاتب هو فضيلة العلامة : الشيخ سليمان بن حمدان رسالة ذكر فيها أن هذا القول منقول عن بعض أهل الكوفة ، وإنما اشتهر بين الكتاب مؤخرا . . وأما العلماء فلم يشتهر بينهم ، وإنما المعروف بين العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر أذن له في القتال مطلقا ، ثم فرض عليه الجهاد وأمر بأن يقاتل من قاتل ، ويكف عمن كف ، ثم بعد ذلك أنزل الله عليه الآيات الآمرة بالجهاد مطلقا ، وعدم الكف عن أحد حتى يدخل في دين الله ، أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها كما تقدم . وهذا هو المعروف في كلام أهل العلم .(155/198)
وقد تقدم ذكر قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجمع بين النصوص وأنه هو الأقرب ولا نسخ ، وإنما تختلف الأحوال بقوة المسلمين وضعفهم : فإذا ضعف المسلمون جاهدوا بحسن حالهم ، وإذا عجزوا عن ذلك اكتفوا بالدعوة ، وإذا قووا بعض القوة قاتلوا من بدأهم ومن قرب منهم ، وكفوا عمن كف عنهم ، وإذا قووا وصار لهم السلطان والغلبة ، قاتلوا الجميع وجاهدوا الجميع حتى يسلموا ، أو يؤدوا الجزية ، إلا من لا تؤخذ منهم كالعرب . عند جمع من أهل العلم .
وقد تعلق بعض الكتاب الذين قالوا : إن الجهاد للدفاع فقط ، بآيات لا حجة لهم فيها ، وقد سبق الجواب عنها ، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله . ومعلوم أن الدفاع قد أوجبه الله على المسلمين ضد من اعتدى عليهم ، كما قال تعالى : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وكما في الآيات السابقة .
والإسلام جاء بدعوة الكفار أولا إلى الدخول فيه ، فإن أبوا فالجزية ، فإن أبوا وجب قتالهم مع القدرة كما تقدم في حديث بريدة ، وإن رأى ولي الأمر المصالحة ، وعدم القتال لأسباب تتعلق بمصلحة المسلمين ، جاز ذلك ، لقوله سبحانه : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا الآية ، ولفعله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الحديبية .
وبذلك يعلم أنه لا حاجة للقتال إذا نجحت الدعوة ، وأجاب الكفار إلى الدخول في الإسلام .
فإن احتيج للقتال قوتل الكفار حينئذ بعد الدعوة والبيان والإرشاد فإن أبوا فالجزية إن كانوا من أهلها ، فإن أبوا وجب القتال أو المصالحة حسبما يراه ولي الأمر للمسلمين ، إذا لم يكن لدى المسلمين قدرة على القتال ، كما تقدم ، وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث :(155/199)
الأولى قوله جل وعلا : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا والجواب عن ذلك كما تقدم أن هذه الآية ليس معناها القتال للدفاع ، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال : كالرجل المكلف القوي ، وترك من ليس شأنه القتال : كالمرأة والصبي ونحو ذلك ، ولهذا قال بعدها : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
فاتضح بطلان هذا القول ، ثم لو صح ما قالوا ، فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله .
والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع هي قوله تعالى : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ وهذه لا حجة فيها؛ لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم ، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية ، هذا هو أحد القولين في معناها .
والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف ولا حاجة للنسخ بل هي مخصوصة بأهل الكتاب كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم فلا يكرهون إذا أدوا الجزية وهكذا من ألحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه ، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ، وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا . فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى .
والآية الثالثة التي تعلق بها من قال أن الجهاد للدفاع فقط قوله تعالى في سورة النساء : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا قالوا : من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله . وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة ثم نسخت بآية السيف وانتهى أمرها ، أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين فإذا قووا أمروا بالقتال كما هو القول الآخر كما عرفت وهو عدم النسخ .(155/200)
وبهذا يعلم بطلان هذا القول وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة ، وقد ألف بعض الناس رسالة افتراها على شيخ الإسلام ابن تيمية وزعم أنه لا يرى القتال إلا لمن قاتل فقط ، وهذه الرسالة لا شك أنها مفتراة وأنها كذب بلا ريب ، وقد انتدب لها الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمة الله عليه ورد عليها منذ أكثر من خمسين سنة وقد أخبرني بذلك بعض مشايخنا ، ورد عليه أيضا أخونا العلامة الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله القاضي سابقا في المدينة المنورة كما ذكرنا آنفا ورده موجود بحمد الله وهو رد حسن واف بالمقصود . فجزاه الله خيرا . وممن كتب في هذا أيضا أخونا الشيخ صالح بن أحمد المصوعي رحمه الله فقد كتب فيها رسالة صغيرة ، فند فيها هذه المزاعم وأبطل ما قاله هؤلاء الكتبة بأن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط .
وصنف أيضا أخونا العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله رسالة في الجهاد وبين فيها بطلان هذا القول وأنه قول لا أساس له من الصحة .
ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة ونظر في ذلك بعين البصيرة وتجرد عن الهوى والتقليد عرف قطعا بطلان هذا القول وأنه لا أساس له ومما جاء في السنة في هذا الباب مؤيدا للكتاب العزيز ما رواه الشيخان عن ابن عمر- رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله وما رواه الشيخان أيضا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوا صلاتنا وأكلوا ذبيحتنا واستقبلوا قبلتنا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا(155/201)
ومن ذلك ما رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : " قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله و ومن هذا ما رواه مسلم في الصحيح أيضا عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قال لا إله إلا الله وفي لفظ من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على أن القتال شرع لإزالة الكفر والضلال ودعوة الكفار للدخول في دين الله لا لأنهم اعتدوا علينا فقط ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " ولم يقل فإذا كفوا عنا أو اعتزلونا ، بل قال : " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك الحديث .
فدل ذلك على أن المطلوب دخولهم في الإسلام وإلا فالسيف ، إلا أهل الجزية كما تقدم ، وإنما اقتصر عليه الصلاة والسلام على الشهادتين والصلاة والزكاة لأنها الأسس العظيمة والأركان الكبرى فمن أخذ بها ودان بها وتمسك بها فإنه يؤدي ما وراءها عن إيمان وعن اطمئنان وإذعان من باب أولى .
وهذا ما أردت التنبيه عليه باختصار وإيجاز ، وأرجو أن يكون وافيا بالمطلوب من بيان الحق وإزهاق الباطل ، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه ، وأن يهدينا صراطه المستقيم ، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويهدينا لما فيه السعادة والنجاة وأن يوفق المسلمين جميعا للاستقامة على دينه والجهاد في سبيله ، والحذر من مكايد الأعداء إنه على كل شيء قدير .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين . _
الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب(155/202)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه
، أما بعد : فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة البلاد في عددها الصادر بعدد 1909 وتاريخ 12 / 12 / 1385 هـ بقلم بعض الكتاب ، تحت عنوان
( احذروا الغلو ) .
تهمة لا مبرر لها
فألفيت الكاتب عفا الله عنه قد أساء الظن بالإخوان المتطوعين القائمين بالدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ووصفهم بأنهم مخدوعون ومتشددون ومحاربون للجديد . إلى غير ذلك مما وقع في كلامه من الأخطاء .
وقد رأيت أن أنبه في هذه الكلمة على ما وقع في مقاله من الأخطاء ذات الأهمية نصحا له ولسائر الأمة ودفاعا عن الإخوان فيما نعلم براءتهم منه ، وتحريضا له ولغيره من الكتاب على التثبت في القول . ولزوم الاعتدال في الحكم والحذر من سوء الظن الذي لا ينبني على أساس مستقيم . وإلى القارئ تفصيل القول فيما وقع في مقال الكاتب المشار إليه من الأخطاء التي تستحق التنبيه عليها ، والإنكار على قائلها فنقول والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به :
بيان أن الشريعة كاملة لا غالية ولا جافية
أما ما ذكره الكاتب عن مضار الغلو والتشديد فصحيح .(155/203)
ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو في الدين ، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، ولكنها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدة في محلها حيث لا ينفع اللين والجدال بالتي هي أحسن ، كما قال سبحانه : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وقال تعالى : وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ الآية . فشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين الغلظة على الكفار والمنافقين حين لم تؤثر فيهم الدعوة بالحكمة واللين .
والآيات وإن كانت في معاملة الكفار والمنافقين دالات على أن الشريعة إنما جاءت باللين في محله حين يرجى نفعه . أما إذا لم ينفع واستمر صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق في عمله ولم يبال بالواعظ والناصح ، فإن الواجب الأخذ على يديه ومعاملته بالشدة وإجراء ما يستحقه من إقامة حد أو تعزير أو تهديد أو توبيخ حتى يقف عند حده وينزجر عن باطله . ولا ينبغي للكاتب وغيره أن ينسى ما ورد في هذا من النصوص والوقائع من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا .
وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى :
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ... ... وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه ... ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا
كتب هذا الرد في عام 1385 هـ ، وصدر في كتاب باسم ( الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب )
جمع الشريعة بين الشدة واللين كل في محله(155/204)
والخلاصة : أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله ، والشدة في محلها ، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك ، ولا يجوز أيضا أن يوضع اللين في محل الشدة ، ولا الشدة في محل اللين ، ولا ينبغي أيضا أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط ، ولا أنها جاءت بالشدة فقط ، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكل زمان ومكان ولإصلاح جميع الأمة . ولذلك جاءت بالأمرين معا ، واتسمت بالعدل والحكمة والسماحة فهي شريعة سمحة في أحكامها وعدم تكليفها ما لا يطاق ، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين والحكمة والرفق ، فإذا لم يؤثر ذلك وتجاوز الإنسان حده وطغى وبغى أخذته بالقوة والشدة وعاملته بما يردعه ويعرفه سوء عمله .
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين وصحابته المرضيين وأئمة الهدى بعدهم عرف صحة ما ذكرناه .
النصوص الآمرة باللين في مجاله
ومما ورد في اللين قوله تعالى : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ الآية .
وقوله تعالى في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
وقوله تعالى : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الآية .
النصوص الدالة على الشدة في مجالها
ومما ورد في الشدة الآيات المتقدم ذكرها .(155/205)
ومن الأحاديث ما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قوله تعالى : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
قال : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه وفي لفظ آخر : على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو لتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويهتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر معلومة لدى أهل العلم ، وقد هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم خمسين ليلة حتى تابوا فتاب الله عليهم وأنزل في ذلك قوله تعالى : لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إلى قوله : وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا الآية .(155/206)
فمما تقدم من الآيات والأحاديث يعلم الكاتب وغيره من القراء أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت باللين في محله والغلظة والشدة في محالهما ، وأن المشروع للداعية إلى الله أن يتصف باللين والرفق والحلم والصبر؛ لأن ذلك أكمل في نفع دعوته والتأثر بها كما أمره الله بذلك وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهى عنه؛ لقول الله سبحانه : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
ولا ينبغي للداعية أن يلجأ إلى الشدة والغلظة إلا عند الحاجة والضرورة وعدم حصول المقصود بالطريقة الأولى ، وبذلك يكون الداعي إلى الله سبحانه قد أعطى المقامين حقهما وترسم هدي الشريعة في الجانبين ، والله الموفق .
تفنيد مزاعم الكاتب وإرشاده إلى الطريق السليمة
ونحن في هذا لا نقصد موافقة الكاتب على ما نسبه للإخوان من التشديد ، فالذي عرفناه عنهم خلاف ذلك فهم - بحمد الله - على بينة وبصيرة ويعاملون الناس بالتي هي أحسن ويوجهونهم إلى الخير تحت إرشادات علماء البلاد والمسئولين فيها .
ولو فرضنا أنه وقع من بعضهم خطأ أو تشديد في غير محله فليسوا معصومين ، والواجب تنبيههم وإرشادهم إلى ما قد يقع منهم من الخطإ حتى يحذروه مستقبلا .
وكان الواجب على الكاتب حين بلغه عنهم ما يعتقده خلاف الشرع أن يتصل بأعيانهم مشافهة أو كتابة ويناصحهم فما أخذ عليهم أو يتصل بسماحة المفتي ، أو رئيس الهيئات ويبدي ما لديه حول الإخوان من النقد حتى يوجههم المشايخ إلى الطريق السوي .(155/207)
أما أن يكتب في صحيفة سيارة ما يتضمن التشنيع عليهم والحط من شأنهم ووصفهم بما هم براء منه فهذا لا يجوز من مؤمن يخاف الله ويتقيه ، لما فيه من كسر شوكة الحق والتثبيط عن الدعوة إليه والتلبيس على القراء ومساعدة السفهاء والفساق على باطلهم وعلى النيل من دعاة الحق ، والله المسئول أن يسامحنا وإياه ، وأن يوفق الجميع للتوبة النصوح والاستقامة على الحق ومناصرة الداعين إليه ، إنه خير مسئول .
مغالطات الكاتب
وأما قوله : ( وأنا لا أنكر على كل مؤمن أن يرشد إلى الخير ويوجه إلى الرشد ويستنكر الشر ويلفت النظر إليه بأخلاق القرآن والسنة وهي اللطف واللين والروية ، أما إذا اتسمت أقواله أو أفعاله بالقسوة والشدة فإن ذلك ليس من حقه؛ لأنه غير مأذون ولا مكلف من جهة أسند إلها هذا الأمر ، وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه وهو أضعف الإيمان لغير المسئول ، قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب ، ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة ) .
كشف المغالطات
فهذا الكلام فيه حق وباطل وإيهام .
وإليك أيها القارئ بيان ذلك بالتفصيل :
أما قوله : ( إنه لا ينكر على كل مؤمن أن يرشد إلى الخير ويوجه إلى الرشد . . ) إلخ . . فهذا حق ، والواجب على كل من لديه بصيرة أن يقوم بذلك : وهو سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل أتباعه على بصيرة .
كما قال تعالى : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي
فهذه الآية الكريمة ترشد إلى أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الكمال هم أهل البصيرة والدعوة إلى الحق وقال تعالى : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(155/208)
وهذه الآية العظيمة وإن كان الخطاب فيها موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمراد بها جميع الأمة ، وقد أوضح الله فيها سبيل الدعوة ومراتبها ، فالواجب على الدعاة أن يسيروا في دعوتهم إلى الله سبحانه على ضوئها ، وعلى الطريقة التي رسمها الله فيها سواء كان المدعو كافرا أو مسلما إلا من ظلم وعاند فقد تقدم في الأدلة السابقة ما يدل على شرعية الغلظة عليه ومعاملته بما يستحق في حدود الشريعة الكاملة .
وأما قول الكاتب : ( أما إذا اتسمت أقواله وأفعاله بالقسوة والشدة فإن ذلك ليس من حقه؛ لأنه غير مأذون ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه وهو أضعف الإيمان لغير المسئول ) .
فهذا فيه إجمال وخطأ ظاهر يتضح مما تقدم؛ وذلك لأن المطلوب من جميع الدعاة سواء كانوا مسئولين من جهة الحكومة أو متطوعين أن يكونوا في دعوتهم على المنهج الشرعي ، وأن لا تتسم أقوالهم وأفعالهم بالقسوة والشدة إلا عند الضرورة إليها كما سبق . وكلام الكاتب يوهم خلاف ذلك .
إرشاد الكاتب إلى ما رسمته الشريعة في الدعوة
وقوله : ( وغاية الأمر ) . إلخ هذا خطأ واضح .
والصواب أن مراتب الإنكار الثلاث مشروعة للمسئول وغيره ، وإنما يختلفان في القدرة فالمسئول من جهة الحكومة أقدر من غيره ، والإنكار بالقلب هو أضعف الإيمان في حق العاجز عن الإنكار باليد واللسان سواء كان مسئولا أو متطوعا وهو صريح الحديث الشريف ومقتضى القواعد الشرعية .(155/209)
وأما قول الكاتب : ( قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة ) . ففيه نظر ظاهر أيضا ، وهذا الأسلوب الذي أطلقه الكاتب ليس أسلوبا علميا ولا منسجما مع الأدلة الشرعية؛ لأن الدعوة إلى الله سبحانه وتعليم الناس ما يجهلونه من شرع الله لا ينبغي أن يعبر عنه بمثل هذا الأسلوب بل ينبغي أن يعبر عنه بأسلوب الحث والترغيب ولا سيما في الأمم والجماعات المحتاجة إلى ذلك فإن دعوتهم وإرشادهم إلى ما يجب عليهم من شرع الله من الأمور المتعينة على ولاة الأمر ، وعلى أهل العلم حسب القدرة فكيف يعبر عن مثل هذا الأمر العظيم بقول الكاتب : ( قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا ) إلخ .
تفنيد رأي الكاتب وتفصيل القول في أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأما قوله : ( ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة ) فهذا خطأ ظاهر أيضا؛ لأن الأجهزة والسلطات الحكومية إن كانت قد قامت بواجب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمشاركة غيرها لها في ذلك من المتطوعين حسنة جدا ومطلوبة شرعا؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى ، ومن باب المشاركة في جهاد شرعي وتوجيه صالح .
وقصارى ما هنالك أن الأجهزة والسلطات الحكومية قد أدت فرض الكفاية وصار القيام من غيرهم بمشاركتهم من باب السنن والتطوع وذلك من أفضل العبادات وأحبها إلى الله سبحانه .
وأما إن كانت الأجهزة والسلطات الحكومية لم تقم بالواجب على الوجه الأكمل ، فإن مشاركة غيرهم لهم في ذلك متعينة لأن فرض الكفاية لم يسقط بهم .
وقد تقرر في الأدلة الشرعية أن الدعوة إلى الله سبحانه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية إذا قام بها من يكفي سقط الفرض عن الباقين وصارت المشاركة فيها في حق الباقين سنة ، وإن لم يقم بها من يكفي إثم الجميع .(155/210)
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأفراد
وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين وذلك في حق من يرى المنكر وليس هناك من ينكره وهو قادر على إنكاره فإنه يتعين عليه إنكاره لقيام الأدلة الكثيرة على ذلك ومن أصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان أخرجه مسلم في صحيحه .
والإنكار بالقلب فرض على كل واحد لأنه مستطاع للجميع وهو بغض المنكر وكراهيته ومفارقة أهله عند العجز عن إنكاره باليد واللسان لقول الله سبحانه : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
وقال تعالى في سورة النساء : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ الآية .
وقال تعالى : وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا . ومعنى لا يشهدون الزور : لا يحضرونه .
تفسير الزور - وحكم الداعي إليه
والزور يشمل كل منكر ، ويدخل في ذلك الشرك والكفر وأعياد المشركين والاجتماع على شرب الخمور والتدخين والأغاني وآلات الطرب وأفلام السينما وأشباه ذلك من المنكرات ، ذكر معنى ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية .
وذكر البغوي رحمه الله عند تفسيرها قريبا من ذلك وقال :(155/211)
( أصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق ، وهذا هو الواقع من أهل الباطل فإنهم يحسنون المنكرات بوصفها بغير حقيقتها حتى يرغب فيها الناس وحتى لا ينفروا منها فيكون على فاعل ذلك إثم ما عمل وإثم الدعوة إليه ، وأعظم من ذلك الدعوة إليها بالقول ) .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا والأدلة في هذا المعنى كثيرة .
اختلاق الكاتب على العلماء
وقول الكاتب : ( وقد سرني أن علماءنا الأفاضل قد استنكروا هذا التجاوز منهم ونهوهم عنه ) . إلخ . فيه نظر وقد سبق لك أن الإخوان كانوا في دعوتهم وإنكارهم للمنكر يتحرون الطريقة الشرعية ويعاملون الناس بالرفق والحكمة ، ولا نعلم أنهم تعاطوا من الشدة والقسوة ما يوجب إنكار العلماء عليهم . فلا أدري عن أي مصدر وصل هذا الخبر إلى الكاتب .
ومعلوم أن على الناقل أن يتثبت في النقل ، وأن ينظر فيما ينقل وينشر بين الناس ، وإذا صح لديه الخبر نظر ، هل إعلانه أصلح أم تركه أحسن في العاقبة .
ولا شك أن هذا الخبر لو صح فليس من المصلحة نشره بين الناس وإعلانه في الصحف لما في ذلك من التنقص للدعاة إلى الحق وتثبيط عزائمهم وتشجيع أهل الفسق ضدهم في وقت يتكاتف فيه دعاة الباطل والمذاهب الهدامة على نشر باطلهم وإعلان مذاهبهم فالله المستعان .
دس رخيص يكذبه واقع الإخوان
وأما ما ذكره الكاتب عن الفتنة التي وقعت في صدر الإسلام وتمخض عنها قتل عثمان رضي الله عنه ، وما جرى من الخلاف بعد ذلك بين أهل الشام والعراق إلخ .(155/212)
فتلك أمور قد عني بها التاريخ وعرفها علماء الإسلام وغيرهم ، ولا شك أن لأعداء الإسلام والجهال به فيها دورا فعالا وقول أهل السنة والجماعة في هذه الفتنة معلوم ، وهو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم والترضي عنهم جميعا ، واعتقاد أنهم مجتهدون فيما فعلوا طالبون للحق والمصيب منهم له أجران ، والمخطئ له أجر واحد ، كما صح بذلك الحديث الشريف .
وإنما يهمنا هنا أمران :
أحدهما تخوف الكاتب من أن يكون هؤلاء الإخوان قاموا بما قاموا به عن تأثير جماعة سرية إجرامية تخريبية .
والجواب عن هذا أن يقال من عرف الإخوان وسير حالتهم يعلم يقينا أنهم بعيدون كل البعد عن هذه التهمة الشنيعة وعن هذا الظن السيئ ، والواجب على المسلم حمل أحوال إخوانه على أحسن المحامل وعلاج ما قد يقع من الخطإ بالطرق الشرعية التي تبني ولا تهدم ، وتشجع الحق ولا تخذله ، وتنصر الحق وتدمغ الباطل ، لا أن يظن بهم السوء ويشجع على إماتة دعوتهم وتشويه سمعتهم وتشجيع أهل الباطل ضدهم وتحريض ولاة الأمر على إيقاف حركتهم عملا بقوله تعالى :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وقول النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث .
خطأ كبير بسبب التقليد الأعمى
والأمر الثاني وصفه كعب الأحبار تقليدا لبعض المتأخرين بأنه يهودي أظهر الإسلام من أجل الكيد للإسلام وإفساد أهله .
والجواب أن هذا خلاف المعروف عن علماء الإسلام ونقلة الأخبار ، فقد روى عنه علماء الحديث وأثنى عليه معاوية رضي الله عنه وكثير من السلف الصالح .
وروى عنه مسلم في صحيحه . وذكره البخاري في كتابه الجامع الصحيح ولم يزنّه بريبة ، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة والتهذيب وابن الأثير في أسد الغابة ولم يتهموه بهذه التهمة .(155/213)
وقال الحافظ ابن حجر في التقريب ما نصه : ( كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار ثقة من الثانية مخضرم كان من أهل اليمن فسكن الشام مات في خلافة عثمان رضي الله عنه ) ، فكيف يجوز لمن يخاف الله ويتقيه أن يرمي شخصا أظهر الإسلام والدعوة إليه وشارك الصحابة في أعمالهم بأنه يهودي بدون حجة ولا برهان يسوغ ذلك .
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من رمي المسلم لأخيه بالصفات الذميمة وأن من رمى أخاه بما هو بريء منه كان الرامي أولى بذلك الوصف الذي رمى به أخاه .
وكونه يروي بعض الأخبار الإسرائيلية الغريبة لا يوجب رميه باليهودية ، والكيد للإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج .
وقد قام علماء الإسلام بنقد أخبار بني إسرائيل وتزييف ما خالف الحق منها وإبطاله ، فكعب في ذلك يشبه عبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن سلام ، ووهبا ، وغيرهم ممن نقل أخبار بني إسرائيل .
فكما أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لا يجوز أن يتهم باليهودية لكونه نقل كثيرا من أخبار بني إسرائيل من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كتبهم ، فهكذا كعب لا يجوز أن يرمي باليهودية والكيد للإسلام من أجل ذلك .
ولا يجوز أن يجعل في صف عبد الله بن سبأ وأشباهه من المعروفين بالكفر والإلحاد والكيد للإسلام .
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه
فهذا الحديث وما جاء في معناه يوجب على المسلم التثبت في الحكم على الناس والحذر من رمي أخيه بصفة ذميمة وهو بريء منها بمجرد الظن أو تقليد من لا يعتمد عليه والله المستعان .
فرية عظيمة واستهزاء بالدعاة واستنكار لفعل الواجب(155/214)
ثم قال الكاتب : ( أقول إن من جهل شيئا عاداه كما في المثل ، وقد كنا قبل وعينا الجديد وقبل معرفتنا بحقيقة المستحدثات العلمية الجديدة نكره استعمالها ونستعيبه . تم ذكر استعمال السيارات والطائرات والصواريخ . . . إلى أن قال : ما دمنا قد عرفنا هذا كله ولمسناه وتأكدنا فوائده وعدم معارضته للدين ، فلماذا يحاربه هؤلاء الطيبون المخدوعون ، ولماذا يسافرون من بلد إلى آخر لاستنكاره ومحاولة عدم استعماله؟ ) إلخ .
لا ريب أن من قرأ هذا الكلام وضم بعضه إلى بعض يفهم منه أن الإخوان الذين انتصب الكاتب لنقدهم ينكرون هذه المستحدثات الجديدة من السيارات والطائرات ، واللا سلكي وأشباه ذلك ، ومعلوم قطعا أن الإخوان الذين أشرنا إليهم لا ينكرون شيئا من ذلك ولا يعيبونه بل هم أنفسهم يستعملون ذلك فينتقلون في السيارات؛ ويركبون الطائرات ويستعملون اللاسلكي ، فما الذي دعا الكاتب إلى الوقوع في هذه الفرية الكبيرة والزلة الشنيعة .
أترك الجواب للقراء وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا من الهوى وخطوات الشيطان . وأما سفرهم إلى البلدان للدعوة والتوجيه فهو أمر يستحقون عليه الثناء والشكر وليس محلا للاستنكار والاستغراب .
نعم هو حقيق بالاستغراب بالنسبة إلى تخلف أكثر الناس عن هذه المهمة الشريفة التي هي طريقة الرسل وأتباعهم ، وليس هو محلا للاستغراب الذي ينتج عنه الاستنكار والتشنيع والظن السيئ .
وأما قوله ( المخدوعون ) فهي عبارة لا تليق من الكاتب وليس الإخوان محلا لها وقائلها أولى بها؛ لأن الإخوان بحمد الله على بينة من أمرهم؛ وليسوا مخدوعين ولا متأثرين بحركة هدامة ولا عاملين لغرض دنيء؛ بل غايتهم شريفة وعملهم مشكور ، ودافعهم هو الحق والغيرة له ، والخوف على المسلمين من عواقب ظهور المنكرات وعدم تغييرها ، وإنما المخدوع حقا من ظن بهم خلاف ذلك .(155/215)
وأما قوله : ( الطيبون ) وقوله فيما تقدم عن المغرضين والطامعين وأعداء الإسلام : ( أنهم استغلوا طيبة الصحابة ) أرجو أن لا يكون قصد بهذا الوصف التنقص لمن وصفهم ( بالطيب ) ؛ لأن سياق الكلام ووصف الصحابة والإخوان بالطيب في جانب كونهم مخدوعين يشير إلى أن المراد بوصف الطيب الغفلة والغباوة وعدم التنبه لعواقب الأمور ، هذا هو المعروف من بعض كتاب العصر؛ أرجو أن لا يكون الكاتب قصد هذا المقصد؛ وإن كان كلامه يقتضيه أو يحوم حوله ، ونسأل الله أن يعفو عنا وعنه وأن يمن علينا جميعا بالتوبة النصوح من أخطائنا وسيئات أعمالنا إنه خير مسئول .
تناقض مكشوف
وأما قول الكاتب بعدما تقدم : ( ليس لي بالطبع الإفتاء ولا أحمل مؤهلاته
فهذا من اختصاص علمائنا الأفاضل الذين استنكروا عمل هؤلاء المخدوعين الطيبين ) .
فيقال له أولا ما دمت تعرف أنك غير أهل للفتوى فما بالك أفتيت أولا وآخرا ، ولو تأملت كلمتك لعلمت أنك أفتيت فيها عدة فتاوى على غير هدى .
ومن أعظم الجرائم الفتوى بغير علم ، فكم ضل بها من ضل ، وهلك بها من هلك ، ولا سيما إذا كانت الفتوى معلنة على رءوس الأشهاد وممن قد يغتر به بعض الناس فإن الخطر بذلك عظيم والعواقب وخيمة وعلى المفتي بغير علم مثل آثام من تبعه ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا .
وقد أعظم الله سبحانه وتعالى شأن الفتوى بغير علم وحذر عباده منها وبين أنها من أمر الشيطان قال تعالى : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(155/216)
وقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا
ثم يقال للكاتب ثانيا من هو الذي استنكر من العلماء الأفاضل على الإخوان عملهم .
وقد سبق في صدر هذه الكلمة أنا لا نعلم أحدا من العلماء المعروفين بالغيرة والتحقيق استنكر عملهم ، بل المعروف من العلماء الأفاضل تأييدهم ومساعدتهم وشكرهم على أعمالهم الطيبة والدعاء لهم بالتوفيق والسداد ، وكيف يستنكر العلماء الأفاضل الدعوة إلى الله وإرشاد العباد إلى طاعته وتحريضهم على الصلاة في الجماعة والإنكار على من تخلف عن ذلك ، فلا يستنكر هذه الأعمال الجليلة مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر ويعرف شيئا مما ورد في الدعوة إلى الله سبحانه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضلا عن العالم الفاضل فعياذا بالله من القول عليه وعلى عباده بغير علم وعياذا بالله من خطل اللسان وسيئات العمل .
فما أعظم ما جناه الكاتب على نفسه وعلى غيره ممن قد يغتر بقوله وما أعظمها من جريمة .
اعتراف بالحق ثم التواء
ثم قال الكاتب بعد ذلك : ( ولكني أقول إذا كان الدين يحرم التماثيل المجسمة وما في حكمها سدا للذريعة وخوفا من العودة إلى عبادتها كما كان في الجاهلية الأولى وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية .
وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة أن نحارب الصور الماجنة الخليعة خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا ، فما هي حجة بعضنا في إنكار الصورة الظلية العاكسة التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة التي يستعملها شبابنا وشيوخنا ونساؤنا وبناتنا ، وما الفرق بين هذه الصورة الظلية العاكسة(155/217)
كالمرآة التي تشتمل عليها الجريدة والمجلة والمعرض والبيت والسينما وبين أختها المعروضة لا سلكيا في التلفزيون ، وكما قلت في كلمة سابقة أن التلفزيون لا يسجل إلا ما يعرض على شاشته من خير وشر ، ونحن في هذه البلاد المقدسة قادرون على اختيار الخير والنافع وعرضه على شاشة التلفزيون كعلم وكدرس وكتاريخ وكتسلية بريئة نحول فيها بين المجتمع وبين الفراغ والنميمة وسفاسف الأقوال والأفعال ) . انتهى المقصود .
والجواب عن هذا أن يقال لقد أحسن الكاتب في اعترافه بأن الدين الإسلامي يحرم التماثيل المجسمة وما في حكمها سدا للذريعة وخوفا من العودة إلى عبادتها كما كان في الجاهلية الأولى ، وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية ، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على ما ذكره الكاتب من تحريم التماثيل والزجر عنها ، ولعن المصورين ، والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة ، وأنهم يعذبون يوم القيامة ، ويقال لهم أحيوا ما خلقتم . وقد ثبت بالقرآن الكريم وبالأحاديث والآثار أن أسباب ضلال قوم نوح هي التماثيل كما قال تعالى : وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالًا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض أزواجه ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
فتبين مما تقدم أن التساهل ببيعها في الأسواق ونصبها في المكاتب والدوائر ونحوها من أعظم أسباب الشرك؛ ومن أعمال الجاهلية ومن أخلاق شرار الخلق عند الله .(155/218)
فالواجب على المسئولين جميعا في جميع الدول الإسلامية القضاء على هذه التماثيل والزجر عنها ومنع توريدها وإتلاف ما يوجد منها في كل مكان طاعة لله ورسوله وحذرا من عواقبها الوخيمة .
ولقد أحسن الكاتب أيضا في قوله ( وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة أن نحارب الصور الماجنة الخليعة خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا ) .
نعم والله قد أحسن الكاتب في هذا فالواجب علينا وعلى المسئولين في جميع الحكومات الإسلامية محاربة هذه الصور الخليعة التي غزت البلاد الإسلامية من كل مكان وانتشرت بين شبابنا وفتياتنا في كل بقعة إلا ما شاء الله فالواجب على أولي الأمر أن يحاربوها ويحاربوا الصحف والكتب التي تحملها إلى الناس كما يجب أن تحارب جميع الصحف والكتب التي تحمل أنواع الإلحاد والتخريب والدعوة إلى التفسخ من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة .
ويجب على أولي الأمر أيضا تكليف الحكام الإداريين وموظفي الأمن بالتعاون مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القضاء على هذه المعاول الهدامة والوسائل الفتاكة بديننا وأخلاقنا وفقهم الله لنصر دينه وحماية شريعته ومساعدة من قام بذلك إنه على كل شيء قدير .
فتوى في الصور بدون علم
وأما قول الكاتب بعد ذلك ( فما هي حجة بعضنا في إنكار الصورة الظلية العاكسة التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة ) إلخ .
والجواب أن يقال هذه فتوى من الكاتب بالتسوية بين الصورة الشمسية وبين الصورة في المرآة ومعلوم أن الفتوى تفتقر إلى علم بالأدلة الشرعية؛ وقد سبق اعتراف الكاتب بأنه ليست فيه صفة الفتوى ولا يحمل مؤهلاتها فما باله هداه الله أفتى هنا وجزم بالحكم بغير علم .
ويقال له أيضا لقد أخطأت في التسوية والقياس من وجهين أحدهما أن الصورة الشمسية لا تشبه الصورة في المرآة لأن الصورة الشمسية لا تزول عن محلها والفتنة بها قائمة .(155/219)
وأما الصورة في المرآة فهي غير ثابتة تزول بزوال المقابل لها وهذا فرق واضح لا يمتري فيه عاقل .
والثاني أن النص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم جاء بتحريم الصور مطلقا ونص على تحريم ما هو من جنس الصورة الشمسية كالصورة في الثياب والحيطان .
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه لما رأى عند عائشة سترا فيه تماثيل غضب وهتكه وقال إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون وقال في حديث آخر إن أصحاب هذه الصور - يشير إلى الصور التي في الثياب - يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه محا الصور التي في جدران الكعبة يوم الفتح وهي في حكم الصور الشمسية فلو سلمنا مشابهة الصورة الشمسية للصورة في المرآة لم يجز القياس لما قد تقرر في الشرع المطهر أنه لا قياس مع النص وإنما محل القياس إذا فقد النص كما هو معلوم عند أهل الأصول وعند جميع أهل العلم .
ذكر حديث يتعلق به مجيزو استعمال الصور والجواب عنه
وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة إلا رقما في ثوب فهذا الحديث لا شك في صحته وقد تعلق به بعض من أجاز الصور الشمسية .
والجواب عنه من وجوه
منها أن الأحاديث الواردة في تحريم التصوير ولعن المصورين والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة مطلقة عامة ليس فيها تقييد ولا استثناء فوجب الأخذ بها والتمسك بعمومها وإطلاقها .
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور المشبهة للشمسية وهي الصور الموجودة في الستور والحيطان غضب وتلون وجهه وأمر بهتك الستور التي فيها الصور ومحو الصور التي في الجدران وباشر محوها بنفسه لما رآها في جدران الكعبة كما سبقت الإشارة إلى ذلك .
ومنها أن الاستثناء المذكور إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه تصاوير ولم يرد في سياق الأحاديث المانعة من التصوير وفرق عظيم بين الأمرين .(155/220)
ومنها أن قوله إلا رقما في ثوب يجب أن يحمل على النقوش التي ليست بصور أو على الصور التي قطع رأسها أو طمس أو التي في الثياب التي تمتهن باتخاذها وسائد وبسطا ونحو ذلك لا فيما ينصب ويرفع كالستور على الأبواب والجدران والملابس فإن الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم ذلك وأنه يمنع من دخول الملائكة كما ورد ذلك في حديث عائشة وأبي هريرة وغيرهما .
وبما ذكرناه يتضح الجمع بين الأحاديث وأن الاستثناء إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع دخول الملائكة البيت الذي فيه الصور وأن المراد بها الصور الممتهنة في الوسائد والبسط ونحوها أو مقطوعة الرأس أو النقوش التي ليست صورة لحيوان والله ولي التوفيق .
جمع العلماء بين الأحاديث في الصور بما يزيل الإشكال
وقد جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح والنووي في شرح مسلم بين الأحاديث بما ذكرته آنفا وأنا أنقل لك أيها القارئ كلامهما وبعض كلام غيرهما في هذه المسألة ليتضح لك الصواب ويزول عنك الإشكال إن شاء الله والله الهادي إلى إصابة الحق وهو حسبنا ونعم الوكيل .
قال الحافظ في الفتح قال الخطابي ( والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤها وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن ) اهـ .
وقال الخطابي رحمه الله أيضا ( إنما عظمت عقوبة المصور؛ لأن الصور كانت تعبد من دون الله ولأن النظر إليها يفتن وبعض النفوس إليها تميل ) اهـ .
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم
( باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه وأن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب ) .(155/221)
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء ( تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله سواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها ) .
وأما تصوير صورة الشجرة ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس صورة حيوان فليس بحرام هذا حكم نفس التصوير .
وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام .
وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام .
إلى أن قال لا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له هذا تلخيص مذهبنا في المسألة
وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم .
وقال بعض السلف ( إنما ينهى عما كان له ظل ولا بأس بالصور التي ليس لهل ظل وهذا مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة ) اهـ .
قال الحافظ بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا قلت ( ويؤيد التعميم فيما له ظل وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره ولا صورة إلا لطخها أي طمسها الحديث ) وفيه من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم اهـ .
قلت وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم محا الصور التي في جدران الكعبة وهي لا ظل لها .
وخرح مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته
وهذا يعم الصور التي لها ظل والتي لا ظل لها .(155/222)
والأمر في ذلك واضح لا غبار عليه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به ونسأله تعالى لنا ولجميع المسلمين التوفي لما يرضيه والسلامة من أسباب غضبه إنه سميع الدعاء
وأما التلفزيون فهو آلة خطيرة وأضرارها عظيمة كالسينما أو أشد وقد علمنا عنه من الرسائل المؤلفة في شأنه ومن كلام العارفين به في البلاد العربية وغيرها ما يدل على خطورته وكثرة أضراره بالعقيدة والأخلاق وأحوال المجتمع وما ذلك إلا لما يبث فيه من تمثيل الأخلاق السافلة والمرائي الفاتنة والصور الخليعة وشبه العاريات والخطب الهدامة والمقالات الكفرية والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم وأزيائهم وتعظيم كبرائهم وزعمائهم والزهد في أخلاق المسلمين وأزيائهم والاحتقار لعلماء المسلمين وأبطال
الإسلام وتمثيلهم بالصور المنفرة منهم والمقتضية لاحتقارهم والإعراض عن سيرتهم وبيان طرق المكر والاحتيال والسلب والنهب والسرقة وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس .
ولا شك أن ما كان بهذه المثابة وترتبت عليه هذه المفاسد يجب منعه والحذر منه وسد الأبواب المفضية إليه فإذا أنكره الإخوان المتطوعون وحذروا منه فلا لوم عليهم في ذلك؛ لأن ذلك من النصح لله ولعباده .(155/223)
ومن ظن أن هذه الآلة تسلم من هذه الشرور ولا يبث فيها إلا الصالح العام إذا روقبت فقد أبعد النجعة وغلط غلطا كبيرا؛ لأن الرقيب يغفل ولأن الغالب على الناس اليوم هو التقليد للخارج والتأسي بما يفعل فيه ولأنه قل أن توجد رقابة تؤدي إلى ما أسند إليها ولا سيما في هذا العصر الذي مال فيه أكثر الناس إلى اللهو والباطل وإلى ما يصد عن الهدى والواقع شاهد بذلك كما في الإذاعة والتلفزيون في بعض الجهات فكلاهما لم يراقب الرقابة الكافية المانعة من أضرارهما ونسأل الله أن يوفق حكومتنا لما فيه صلاح الأمة ونجاتها وسعادتها في الدنيا والآخرة وأن يصلح لها البطانة وأن يعينها على إحكام الرقابة على هذه الوسائل حتى لا يبث منها إلا ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم إنه جواد كريم .
وهذا آخر ما أردنا التنبيه عليه من أخطاء الكاتب نصحا لله ولعباده ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا والكاتب وسائر المسلمين للتفقه في الدين ولكل ما فيه صلاح أمر ديننا ودنيانا إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه
حكم الإسلام فيمن أنكر تعدد الزوجات
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله .
اطلعت على ما نشرته صحيفة اليمامة في عددها الصادر في 18 / 3 / 1385 هـ تحت عنوان حول مشكلة الأسبوع وقرأت ما كتبه الأستاذ ناصر بن عبد الله في حل مشكلة الأخت في الله معل المنوه عنها في العدد الصادر في 11 / 3 / 1385 هـ تحت عنوان خذيني إلى النور
وقرأت أيضا ما كتبه ابن السراة في حل المشكلة ذاتها فألفيت ما كتبه الأستاذ ناصر حلا جيدا مطابقا للحق ينبغي للأخت صاحبة المشكلة أن تأخذ به وأن تلزم الأخلاق الفاضلة والأدب الصالح والصبر الجميل وبذلك تتغلب على جميع الصعوبات وتحمد العاقبة إن شاء الله .(155/224)
وإذا كان الضرر الذي تشكو منه من جهة الزوج وعدم عدله فلتطلب منه إصلاح السيرة بلطف وإحسان وصبر جميل وبذلك نرجو أن تدرك مطلوبها وبقاؤها في البيت عنده أقرب إلى العدل إن شاء الله .
أما إن كان الضرر من الضرة فالواجب على الزوج أن يمنع ضرر الضرة أو يسكن صاحبة المشكلة في بيت وحدها ويقوم بما يلزم لها من النفقة وإيجاد مؤنسة إذا كانت لا تستطيع البقاء في البيت وحدها والواجب عليه أن ينصف من نفسه وأن يتحرى العدل ويبتعد عن جميع أنواع الضرر فإن لم يقم بذلك ولم تجد في أقاربه وأصدقائه من يحل المشكلة فليس أمامها سوى رفع أمره إلى المحكمة .
وينبغي لها قبل ذلك أن تضرع إلى الله سبحانه وتسأله بصدق أن يفرج كربتها ويسهل أمرها ويهدي زوجها وضرتها للحق والإنصاف .
وعليها أيضا أن تحاسب نفسها وأن تستقيم على طاعة ربها وأن تتوب إليه سبحانه من تقصيرها في حقه وحق زوجها فإن العبد لا يصيبه مصيبة إلا بما كسب من سيئات كما قال الله سبحانه وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ وقال تعالى مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ
وأما حل ابن السراة للمشكلة فهو حل صادر من جاهل بالشريعة وأحكامها وهو في أشد الحاجة إلى أن يؤخذ إلى النور ويوجه إلى الحق؛ لأنه قد وقع فيما هو أشد خطورة وأكثر ظلمة مما وقعت فيه صاحبة المشكلة وما ذاك إلا لأنه عاب تعدد الزوجات وزعم أنه داء خطير يجب أن نحاربه بكل وسيلة من شأنها الحد من تفشي هذا الداء العضال الذي يهدد استقرار مجتمعنا وأهاب بالحكومة إلى منعه .
وزعم أيضا أن الذي يسعى في تعدد الزوجات جاهل يجب علينا أن نتعاون على الحيلولة دون تحقيق رغباته الحيوانية واستئصال هذا الداء من شأفته .
وزعم أيضا أنه ما دخل التعدد في أسرة إلا وشتت شملها وأقض مضجعها إلخ .(155/225)
وأقول أن هذا الكلام لا يصدر من شخص يؤمن بالله واليوم الآخر ويعلم أن الكتاب العزيز والسنة المطهرة جاءا بالتعداد وأجمع المسلمون على حله فكيف يجوز لمسلم أن يعيب ما نص الكتاب العزيز على حله بقوله تعالى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا الآية .
فقد شرع الله لعباده في هذه الآية أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع بشرط العدل وهذا الجاهل يزعم أنه داء خطير ومرض عضال مشتت للأسرة ومقض للمضاجع يجب أن يحارب ويزعم أن الراغب فيه مشبه للحيوان وهذا كلام شنيع يقتضي التنقص لكل من جمع بين زوجتين فأكثر وعلى رأسهم سيد الثقلين محمد صلى الله عليه وسلم .
فقد جمع صلى الله عليه وسلم بين تسع من النساء ونفع الله بهن الأمة وحملن إليها علوما نافعة وأخلاقا كريمة وآدابا صالحة .
وكذلك النبيان الكريمان داود وسليمان عليهما السلام فقد جمعا بين عدد كثير من النساء بإذن الله وتشريعه وجمع كثير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان وفي تعدد النساء مع تحري العدل مصالح كثيرة وفوائد جمة .
منها عفة الرجل وإعفافه عددا من النساء .
ومنها كفايته لهن وقيامه بمصالحهن .
ومنها كثرة النسل الذي يترتب عليه كثرة الأمة وقوتها وكثرة من يعبد الله .
ومنها مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم بهم الأمم يوم القيامة .
إلى غير ذلك من المصالح الكثيرة التي يعرفها من يعظم الشريعة وينظر في محاسنها وحكمها وأسرارها وشدة حاجة العباد إليها بعين الرضا والمحبة والتعظيم والبصيرة .
أما الجاهل الذي ينظر إلى الشريعة بمنظار أسود وينظر إلى الغرب والشرق بكل عينيه معظما مستحسنا كل ما جاء منهما فمثل هذا بعيد عن معرفة محاسن الشريعة وحكمها وفوائدها ورعايتها لمصالح العباد رجالا ونساء .(155/226)
وقد كان التعدد معروفا في الأمم الماضية ذوات الحضارة وفي الجاهلية بين العرب قبل الإسلام فجاء الإسلام وحدد من ذلك وقصر المسلمين على أربع وأباح للرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك لحكم وأسرار ومصالح اقتضت تخصيصه صلى الله عليه وسلم بالزيادة على أربع وقد قصره الله على تسع كما في سورة الأحزاب .
وقد ذكر علماء الإسلام أن تعدد الزوجات من محاسن الشريعة الإسلامية ومن رعايتها لمصالح المجتمع وعلاج مشاكله .
ولولا ضيق المجال وخوف الإطالة لنقلت لك أيها القارئ شيئا من كلامهم لتزداد علما وبصيرة .
وقد تنبه بعض أعداء الإسلام لهذا الأمر واعترفوا بحسن ما جاءت به الشريعة في هذه المسألة رغم عداوتهم لها إقرارا بالحق واضطرارا للاعتراف به .
وأنا أنقل لك بعض ما اطلعت عليه من ذلك وإن كان في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام علماء الإسلام ما يشفي ويغني عن كلام كتاب أعداء الإسلام ولكن بعض الناس قد ينتفع من كلامهم أكثر مما ينتفع من كلام علماء الإسلام بل أكثر مما ينتفع من الآيات والأحاديث وما ذاك إلا لما قد وقع في قلبه من تعظيم الغرب وما جاء عنه فلذلك رأيت أن أذكر هنا بعض ما اطلعت عليه من كلام كتاب وكاتبات الغرب .
قال في المنار جزء 4 صفحة 485 منه نقلا عن جريدة ( لندن ثروت ) بقلم بعض الكتاب ما ترجمته ملخصا ( لقد كثرت الشاردات من بناتنا وعم البلاء ودل الباحثون عن أسباب ذلك وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحبا وماذا عسى يفيدهن بشيء حزني ووجعي وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعا إذ لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة .(155/227)
ولله در العالم ( توس ) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكافل للشفاء وهو الإباحة للرجل التزوج بأكثر من واحدة وبهذه الوساطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبى على الاكتفاء بامرأة واحدة فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة .
أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلا وعالة وعارا في المجتمع الإنساني فلو كان تعدد الزوجات مباحا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب والهوان ولسلم عرضهن وعرض أولادهن فإن مزاحمة المرأة للرجل ستحل بنا الدمار ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل وعليه ما ليس عليها وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين ) .
ونقل في صفحة 362 عن كاتبة أخرى أنها قالت ( لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة حيث الخادمة والرقيق تنعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء .
نعم إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطة الرجال فما بالنا لا نسعى وراءها بجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها اهـ .
وقال غيره قال غوستاف لوبون إن نظام تعدد الزوجات نظام حسن يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تمارسه ويزيد الأسر ارتباطا ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تجدهما في أوربا ) .
ويقول برنارد شو الكاتب :
( إن أوربا ستضطر إلى الرجوع إلى الإسلام قبل نهاية القرن العشرين شاءت أم أبت )(155/228)
هذا بعض ما اطلعت عليه من كلام أعداء الإسلام في محاسن الإسلام وتعدد الزوجات وفيه عظة لكل ذي لب والله المستعان .
أما حكم ابن السراة فلا شك أن الذي قاله في تعدد النساء تنقص للإسلام وعيب للشريعة الكاملة واستهزاء بها وبالرسول صلى الله عليه وسلم وذلك من نواقض الإسلام فالواجب على ولاة الأمور استتابته عما قال فإن تاب وأعلن توبته في الصحيفة التي أعلن فيها ما أوجب كفره فالحمد لله .
ويجب مع ذلك أن يؤدب بما يردعه وأمثاله وإن لم يتب وجب أن يقتل مرتدا ويكون ماله فيئا لبيت المال لا يرثه أقاربه .
قال تعالى قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
وقال تعالى في حق الكفرة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
فنبه سبحانه عباده إلى أن من استهزأ بدينه أو كره ما أنزل كفر وحبط عمله .
وقال سبحانه في آية أخرى ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ
ولا ريب أن ابن السراة قد كره ما أنزل الله من إباحة تعدد النساء وعاب ذلك؛ وزعم أنه داء عضال فيدخل في حكم هذه الآيات والأدلة على هذا المعنى كثيرة .
ونسأل الله أن يهدينا وسائر المسلمين لمحبة ما شرعه لعباده والتمسك به والحذر مما خالفه وأن ينصر دينه وحزبه ويخذل الباطل وأهله إنه سميع قريب .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه
تعليق على ما نشرته صحيفة اليمامة في عددها الصادر في 18 / 3 /1385 هـ تحت عنوان حول مشكلة الأسبوع
نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه ويطلع عليه من إخواني المسلمين وفقني الله وإياهم لما يرضيه وجنبني وإياهم مساخطه ومعاصيه آمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد .(155/229)
فإن وصيتي لكل مسلم تقوى الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال وأن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه وذلك كثير بين الناس قال الله سبحانه وتعالى مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وقال تعالى : وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
وهناك أشياء قد يجرها الكلام ينبغي التنبيه عليها والتحذير منها لكونها من الكبائر التي توجب غضب الله وأليم عقابه وقد فشت في بعض المجتمعات من هذه الأشياء :
1- الغيبة : وهي ذكرك أخاك بما يكره لو بلغه ذلك سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو في دينه أو دنياه بل وحتى في ثوبه وداره ودابته فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قال أفرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته رواه مسلم
والغيبة محرمة لأي سبب من الأسباب سواء كانت لشفاء غيظ أو مجاملة للجلساء ومساعدتهم على الكلام أو لإرادة التصنع أو الحسد أو اللعب أو الهزل تمشية الوقت فيذكر عيوب غيره بما يضحك وقد نهى الله سبحانه وتعالى عنها وحذر منها عباده في قوله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ .(155/230)
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه رواه مسلم . وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت رواه البخاري ومسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه رواه البزار وأبو داود ، والأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الغيبة وذمها ، والتحذير منها كثيرة جدا .
2- مما ينبغي اجتنابه والابتعاد عنه والتحذير منه ( النميمة ) التي هي نقل الكلام من شخص إلى آخر ، أو من جماعة إلى جماعة ، أو من قبيلة إلى قبيلة لقصد الإفساد والوقيعة بينهم وهي كشف ما يكره كشفه سواء أكره المنقول عنه أو المنقول إليه . أو كره ثالث وسواء أكان ذلك الكشف بالقول أو الكتابة أو الرمز أو بالإيماء ، وسواء أكان المنقول من الأقوال أو الأعمال ، وسواء كان ذلك عيبا أو نقصا في المنقول عنه أو لم يكن ،
فيجب أن يسكت الإنسان عن كل ما يراه من أحوال الناس إلا ما في حكايته منفعة لمسلم أو دفع لشر .(155/231)
والباعث على النميمة إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي عليه أو الاستمتاع بالحديث والخوض في الفضول والباطل وكل هذا حرام ، وكل من حملت إليه النميمة بأي نوع من أنواعها يجب عليه عدم التصديق؛ لأن النمام يعتبر فاسقا مردود الشهادة قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وعليه أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله لقوله تعالى : وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وأن يبغضه في الله وألا يظن بأخيه المنقول عنه السوء بل يظن به خيرا؛ لقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث متفق على صحته .
وعليه ألا يتجسس على من حُكي له عنه وألا يرضى لنفسه ما نهى عنه النمام فيحكي النميمة التي وصلته .
وأدلة تحريم النميمة كثيرة من الكتاب والسنة منها قوله تعالى وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ وقوله تعالى وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ وعن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة نمام متفق عليه
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس رواه مسلم
والنميمة من الأسباب التي توجب عذاب القبر لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير ثم قال بلى كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة متفق عليه .(155/232)
وإنما حرمت الغيبة والنميمة لما فيهما من السعي بالإفساد بين الناس وإيجاد الشقاق والفوضى وإيقاد نار العداوة والغل والحسد والنفاق وإزالة كل مودة وإماتة كل محبة بالتفريق والخصام والتنافر بين الأخوة المتصافين ولما فيهما أيضا من الكذب والغدر والخيانة والخديعة وكيل التهم جزافا للأبرياء وإرخاء العنان للسب والشتائم وذكر القبائح ولأنهما من عناوين الجبن والدناءة والضعف هذا إضافة إلى أن أصحابهما يتحملون ذنوبا كثيرة تجر إلى غضب الله وسخطه وأليم عقابه
3- ومما يجب اجتنابه والبعد عنه الخصلة الذميمة ألا وهي الحسد وهي أن يتمنى الإنسان زوال النعمة عن أخيه في الله سبحانه سواء أكانت نعمة دين أو دنيا وهذا اعتراض على ما قضاه الله وقسمه بين عباده وتفضل به عليهم وظلم من الحاسد لنفسه فينقص إيمانه بذلك ويجلب المصائب والهموم لنفسه ويفتك بها فتكا ذريعا قال الله سبحانه وتعالى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب رواه أبو داود .(155/233)
4- كما أنه ينبغي الابتعاد عن الظلم وهو الجور ووضع الشيء في غير موضعه الشرعي وأكبره الشرك بالله سبحانه وتعالى ومبارزته بالمخالفة والمعصية قال الله سبحانه وتعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وقال عز وجل : وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وكذا أخذ مال الغير بغير حق أو اغتصاب شيء من أرضه أو الاعتداء عليه وهو أيضا كبيرة من الكبائر ومعصية لله وهو والعياذ بالله ناشئ عن ظلمة في القلب لأنه لو استنار قلبه بنور الهدى لاعتبر قال الله سبحانه وتعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ وقال تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وقال تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ وقال تعالى وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا الحديث . وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة الحديث . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه متفق عليه . وهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على وجوب الحذر من الظلم في الأنفس والأعراض والأموال ، لما في ذلك من الشر العظيم والفساد الكبير والعواقب الوخيمة كما تدل على وجوب التوبة إلى الله سبحانه مما سلف من ذلك والتواصي بترك ما حرم الله من الظلم وغيره من سائر المعاصي .
وفقني الله وإياكم لمحاسن الأخلاق وصالح الأعمال وجنبنا مساوئ الأخلاق ومنكرات الأعمال ، وهدانا صراطه المستقيم ، إنه جواد كريم .(155/234)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نصيحة عامة لحكام المسلمين وشعوبهم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه .
أما بعد : فإني أوصي إخواني المسلمين في كل مكان حكومات وشعوبا بتقوى الله سبحانه في جميع الأمور؛ لأنها وصية الله سبحانه ووصية رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وقال سبحانه : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ الآية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أمته في خطبه بتقوى الله ، والتقوى كلمة جامعة تجمع الدين كله وتشمل العناية بمصالح الدنيا والآخرة ، وهي الدين كله وهي البر وهي الإيمان والإسلام والهدى والصلاح ، وسمى الله سبحانه دينه تقوى؛ لأن من استقام عليه وحافظ عليه وقاه الله شر الدنيا والآخرة ، وأهم التقوى إخلاص العبادة لله وحده ، والصدق في متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وتحكيم شريعته في جميع الأمور والحذر مما يخالفها ، كما قال الله سبحانه : وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ الآية ، وقال سبحانه : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقال عز وجل : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقال سبحانه : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ولا يخفى على ذوي الألباب أن في تحكيم الشريعة صلاح أمر الدنيا والآخرة ، كما أن فيه جمع الكلمة على الحق ،(155/235)
والقضاء على الفساد ، ومن أهم التقوى التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه واتحاد العلماء واجتماع كلمتهم على الحق وإرشادهم العامة إلى أسباب النجاة وتحذيرهم من أسباب الهلاك ومناصحتهم لولاة الأمور وإعانتهم على الخير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم كما أوصي الجميع بالحذر من جميع أنواع الشرك والبدع والمعاصي لأن ظهورها في المجتمع سبب لهلاك الجميع ، والحذر منها والتواصي بتركها من أعظم أسباب النجاة ، ولا صلاح للمجتمع الإسلامي إلا بالتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذه هي أخلاق المؤمنين وصفاتهم ، كما قال الله سبحانه : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وقال صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة " قيل لمن يا رسول الله؟ قال " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم خرجهما الإمام مسلم في صحيحه ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وجميع إخواننا المسلمين وجميع قادة المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه وصلاح عباده وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا ، وأن يمن على الجميع بالفقه في دينه والثبات عليه والدعوة إليه على بصيرة إنه وليّ ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .(155/236)
نصيحة عامة للمسلمين
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل عباده المؤمنين ، ووفقني وإياهم للتمسك بالحق والفقه في الدين ، وأعاذني وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين ، آمين .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فالموجب لهذا هو النصيحة والتذكير عملا بقوله سبحانه : وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وقوله تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقول النبي صلى الله عليه وسلم : الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وقوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه وقوله صلى الله عليه وسلم : مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر إذا عرف ذلك فلا يخفى عليكم ما قد أصاب المسلمين من الغفلة والإعراض عما خلقوا له ، وإقبال أكثرهم على عمارة الدنيا والتمتع بشهواتها ، وإشغال الأوقات بوسائل الحياة فيها ونسيان الآخرة والاستعداد لها حتى أفضى بهم ذلك إلى ما قد وقع من التفرق والاختلاف والشحناء والتباغض والموالاة والمعاداة لأجل الدنيا وحظوظها العاجلة وعدم رفع الرأس بأمر الآخرة والتزود لها ، فنتج عن ذلك أنواع من الشرور منها مرض القلوب وموت الكثير منها؛ لأن حياة القلوب وصحتها بذكر الله والاستعداد للقائه والاستقامة على أمره وخشيته ومحبته والخوف منه والرغبة فيما عنده ، كما قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وقال تعالى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي(155/237)
بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وقال تعالى أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا فحياة القلوب وصحتها ونورها وإشراقها وقوتها وثباتها على حسب إيمانها بالله ومحبتها له وشوقها إلى لقائه وطاعتها له ولرسوله وموتها ومرضها وظلمتها وحيرتها على حسب جهلها بالله وبحقه وبعدها عن طاعته وطاعة رسوله وإعراضها عن ذكره وتلاوة كتابه وبسبب ذلك يستولي الشيطان على القلوب فيعدها ويمنيها ويبذر فيها البذور الضارة التي تقضي على حياتها ونورها وتبعدها من كل خير وتسوقها إلى كل شر كما قال الله تعالى وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وقال تعالى لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ وقال تعالى الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وقال تعالى وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا فالواجب علينا جميعا هو التوبة إلى الله سبحانه والإنابة إليه ، وعمارة القلوب بمحبته وخشيته وخوفه ورجائه والشوق إليه والإقبال على طاعته وطاعة رسوله ، والحب في ذلك والبغض فيه وموالاة المؤمنين ومحبتهم ومساعدتهم على الحق وبغض الكافرين والمنافقين ومعاداتهم والحذر من خداعهم ومكرهم والركون إليهم ومد النظر إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الزائلة عن قريب ، قال الله تعالى وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ(155/238)
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وقال تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ وقال تعالى : إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ وقال تعالى : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وجاء عنه صلى الله عليه وسلم قال من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ومتى أناب العباد إلى ربهم وتابوا إليه من سالف ذنوبهم واستقاموا على طاعته وطاعة رسوله جمع الله قلوبهم وشملهم على الهدى ونصرهم على الأعداء وأعطاهم ما يحبون وصرف عنهم ما يكرهون وجعل لهم العزة والكرامة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا وقال تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى(155/239)
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
كلمة توجيهية وجهها سماحته للمسلمين عامة في عام 1376 هـ وقرئت في المساجد بعد صلاة الجمعة
وإني أنصحكم وأوصيكم ونفسي بأمور :(155/240)
الأمر الأول النظر والتفكر في الأمر الذي خلقنا لأجله قال الله تعالى قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا وقال تعالى : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وقال تعالى : أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ولا شك أن كل مسلم يعلم أنه لم يخلق عبثا بل خلق لعبادة الله وحده وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ وقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فقد أمر الله سبحانه جميع الثقلين بما خلقهم لأجله وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان ذلك والدعوة إليه ثم قال تعالى وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وقال تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال سبحانه : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وقال تعالى هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ فالواجب على من نصح نفسه أن يهتم بالأمر الذي خلق لأجله أعظم اهتمام وأن يقدمه على كل شيء وأن يحذر من إيثار الدنيا على الآخرة وتقديم الهوى على الهدى وطاعة النفس والشيطان على طاعة الملك الرحمن وقد(155/241)
حذر الله عباده من ذلك أشد تحذير فقال تعالى فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى
الأمر الثاني :
من الأمور التي أوصيكم ونفسي بها هو الإقبال على تلاوة القرآن العظيم والإكثار منها ليلا ونهارا مع التدبر والتفكر والتعقل لمعانيه العظيمة المطهرة للقلوب ، المحذرة من متابعة الهوى والشيطان فإن الله سبحانه أنزل القرآن هداية وموعظة وبشيرا ونذيرا ومعلما ومرشدا ورحمة لجميع العباد فمن تمسك به واهتدى بهداه فهو السعيد الناجي ، ومن أعرض عنه فهو الشقي الهالك . قال الله تعالى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وقال تعالى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي فحث على كتاب الله ورغب فيه ، وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع : إني تارك فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله وسنتي وقال صلى الله عليه وسلم خيركم من تعلم القرآن وعلمه وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق فيأتي بناقتين كوماوين في غير إثم أو قطع رحم؟ فقالوا كلنا يا رسول الله نحب ذلك قال أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين في كتاب الله خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من(155/242)
الإبل وكل هذه الأحاديث أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم . والآيات والأحاديث في فضل القرآن والترغيب في تلاوته وتعلمه وتعليمه كثيرة معلومة . والمقصود من التلاوة هو التدبر والتعقل للمعاني ثم العمل بمقتضى ذلك كما قال تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا وقال تعالى : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ فبادروا رحمكم الله إلى تلاوة كتاب ربكم وتدبر معانيه وعمارة الأوقات والمجالس بذلك . والقرآن الكريم هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم الذي من تمسك به وصل إلى الله وإلى دار كرامته ومن أعرض عنه شقي في الدنيا والآخرة . واحذروا رحمكم الله ما يصدكم عن كتاب الله ويشغلكم عن ذكره من الصحف والمجلات وما أشبهها من الكتب التي ضررها أكثر من نفعها . وإذا دعته الحاجة إلى مطالعة شيء من ذلك فليجعل لذلك وقتا مخصوصا ، وليقتصر على قدر الحاجة ، وليجعل لتلاوة كتاب الله وسماعه ممن يتلوه وقتا مخصوصا يستمع فيه كلام ربه ، ويداوي بذلك أمراض قلبه ويستعين به على طاعة خالقه ومربيه المالك للضر والنفع والعطاء والمنع لا إله غيره ولا رب سواه . ومما ينبغي الحذر منه حضور مجالس اللهو والغناء وسماع الإذاعات الضارة ، ومجالس القيل والقال ، والخوض في أعراض الناس . وأشد من ذلك وأضر حضور مجالس السينما وأشباهها ، ومشاهدة الأفلام الخليعة الممرضة للقلوب الصادة عن ذكر الله وتلاوة كتابه ، الباعثة على اعتناق الأخلاق الرذيلة وهجر الأخلاق الحميدة ، إنها والله من أشد آلات اللهو ضررا ، وأعظمها قبحا ، وأخبثها عاقبة فاحذروها رحمكم الله واحذروا مجالسة أهلها والرضى بعملهم القبيح . ومن دعا الناس إليها فعليه إثمها ومثل آثام من ضل بها ، وهكذا كل من دعا إلى باطل أو زهد في حق يكون عليه إثم ذلك ومثل آثام من تبعه على ذلك . وقد صح بذلك(155/243)
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ونسأل الله أن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم إنه سميع فريب .
الأمر الثالث :
من الأمور هو تعظيم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبة في سماعها والحرص على حضور مجالس الذكر التي يتلى فيها كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فإن السنة ، هي شقيقة القرآن ، وهي المفسرة لمعانيه ، والموضحة لأحكامه الدالة على تفاصيل ما شرعه الله لعباده . فيجب على كل مسلم أن يعظم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن يحرص على حفظ وفهم ما تيسر منها ، وينبغي له أن يكثر من مجالسة أهلها فإنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم وقد قال الله تعالى : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وقال تعالى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قيل يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال حلق الذكر قال أهل العلم حلق الذكر هي المجالس التي يتلى فيها كتاب الله وأحاديث رسوله عليه السلام ويبين فيها ما أحل الله لعباده وما حرمه عليهم وما يتصل بذلك من تفاصيل أحكام الشريعة وبيان أنواعها ومتعلقاتها فاغتنموا رحمكم الله حضور مجالس الذكر وعظموا القرآن والأحاديث واعملوا بما تستفيدون منها واسألوا عما أشكل عليكم لتعرفوا الحق بدليله فتعملوا به وتعرفوا الباطل بدليله فتحذروه وتكونوا بذلك من الفقهاء في الدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وقال صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وقال صلى الله عليه وسلم من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه والله المسئول(155/244)
أن يوفقنا وإياكم لما رضيه وأن يمن على الجميع بالفقه في الدين والقيام بحق رب العالمين وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن ومكائد الشيطان إنه سميع الدعاء قريب الإجابة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
نصيحة عامة ( أ )
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان وأعاذني وإياهم من مضلات الفتن ونزغات الشيطان آمين .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :(155/245)
فالموجب لهذا هو النصيحة والتذكير عملا بقوله تعالى وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وقوله تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وقول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم إذا علمتم هذا فالذي أوصيكم به ونفسي تقوى الله سبحانه وخشيته في السر والعلانية والتقوى هي وصيه الله ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته أوصيكم بتقوى الله وقد أمر الله عباده بالتقوى ووعدهم عليها مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وتيسير الأمور والرزق الطيب من حيث لا يحتسبون قال الله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وقال تعالى إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ(155/246)
وقال تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وقال تعالى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وقال تعالى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا والآيات في الأمر بالتقوى والحث عليها وبيان ما أعد الله للمتقين من الخير العظيم في الدنيا والآخرة كثيرة معلومة والتقوى كلمة جامعة للخير كله وحقيقتها فعل ما أوجب الله على عباده من الطاعات واجتناب ما حرم عليهم من المعاصي والتواصي بذلك والتعاون عليه فمن فعل ما أوجب الله عليه من الطاعة واجتنب ما حرم عليه من المعصية ابتغاء مرضاة الله وحذرا من عقابه فقد اتقى الله حق تقواه وأفلح كل الفلاح فالواجب علينا وعليكم يا إخواني تقوى الله سبحانه بفعل أوامره واجتناب نواهيه والتواصي بذلك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الطاقة وقد رأيتم وسمعتم ما حصل بسبب الإخلال بالتقوى من قسوة القلوب وكثرة الغفلة عما أوجب الله على عباده وغلاء الأسعار وجدب كثير من البلاد وتأخر نزول الغيث عنها وليس لذلك دواء إلا الرجوع إلى الله ولزوم تقواه والتوبة إليه من سالف الذنوب والتواصي بذلك فمتى رجع العباد إلى الله سبحانه وأنابوا إليه واتقوه بفعل أمره وترك نهيه وتابوا إليه من ذنوبهم واستغاثوه وتضرعوا إليه بقلوب خاشعة وألسنة صادقة وخوف ورجاء أعطاهم ما يحبون وصرف عنهم ما يكرهون وأصلح قلوبهم وأعمالهم كما وعدهم الله بذلك في الآيات المذكورة والأحاديث المعلومة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في التقوى أمور أعظمها وأكبرها إخلاص العبادات القولية والفعلية لله فلا يعبد العبد إلا ربه ولا يتوكل إلا عليه ولا يستغيث إلا به ولا يخاف إلا منه ولا يرجو إلا إياه؛ لأن نواصي العباد وأزمة الأمور كلها بيده سبحانه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما(155/247)
منع كما قال تعالى فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وقال تعالى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وقال تعالى : وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وقال تعالى وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ومتى صرف العبد شيئا من العبادة لغير الله فقد أشرك بالله والشرك يحبط العمل ويوجب الخلود في النار قال الله تعالى : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال تعالى : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ومن أعظم التقوى المحافظة على الصلوات الخمس وأداء الرجال لها في الجماعة وإقامتها في المساجد كما شرع الله ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وقال تعالى : إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا وقد وعد الله المحافظين عليها بالفردوس الأعلى والكرامة في الجنات ، كما قال تعالى : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ إلى قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقال تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة وقال صلى الله عليه وسلم : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وقد علم من الدين أن الصلاة لا يحافظ عليها إلا مؤمن ولا يتخلف عنها إلا منافق ، وقد ذم الله أهل النفاق وتوعدهم بالدرك الأسفل من النار قال الله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ(155/248)
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى وقال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا
وقد هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت الذين يتخلفون عن الصلاة في المساجد ، وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ( لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم ) وفي صحيح مسلم أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي فقال عليه السلام هل تسمع النداء بالصلاة قال نعم قال فأجب وفي لفظ لا أجد لك رخصة وقال صلى الله عليه وسلم : من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر فاتقوا الله عباد الله وعظموا الصلاة وأحكموها وحافظوا عليها في المساجد ، وتواصوا بذلك ، وأنكروا على من تخلف عنها لتسلموا جميعا من غضب الله وعقابه ، وتفوزوا برحمته وكرامته في الدنيا والآخرة .
نصيحة قرئت على الناس في المساجد في عام 1388 هـ .(155/249)
ومن أعظم التقوى أيضا أداء الزكاة التي افترضها الله على عباده الأغنياء في أموالهم وجعلها طهرة لهم وإحسانا ومواساة لإخوانهم الفقراء ، وتوعد من بخل بها بالعذاب الأليم ، قال الله تعالى : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وقال تعالى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وقال تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم يؤد زكاة ماله عذب به يوم القيامة فاتقوا الله عباد الله وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم رجاء ثواب الله سبحانه وحذرا من عقابه وشكرا له على نعمه ورحمة لإخوانكم الفقراء وأبشروا بالخلف والأجر الجزيل كما قال تعالى وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وقال تعالى : وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وأكثروا من صلاة النافلة وصدقة التطوع؛ لأن النوافل تكمل بها الفرائض وتضاعف بها الأجور ، والصلاة والصدقة من أعظم الأسباب في دفع العقوبات وتكفير السيئات ومضاعفة الحسنات ،(155/250)
ومن أعظم التقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قوام للدين وأهله ولا صلاح لهم في معاشهم ومعادهم إلا بالقيام بذلك والتواصي به والصبر على ما فيه من المشقة ، قال الله تعالى : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وقال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفي هذه الآية الدلالة الصريحة على أن العبد لا يكون من المؤمنين على الحقيقة الموعودين بالرحمة والفوز بالجنة إلا إذا اتصف بهذه الخصال المذكورة التي من أهمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومتى ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتساكتوا استحقوا المقت من الله واللعنة وحلول العقوبات كما قال تعالى لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قرأ : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ(155/251)
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ إلى قوله فَاسِقُونَ ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو لتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه وقال صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فاتقوا الله عباد الله وخذوا على أيدي سفهائكم وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لتسلموا جميعا من غضب الله وحلول نقمته ومن أهم ذلك محاسبة كل عبد نفسه وإلزامها بتقوى الله وقيامه على من تحت يده من زوجة وأهل وخادم وإلزامهم بما أوجب الله عليهم وزجرهم عما حرم الله عليهم عملا بقوله تعالى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا وقوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ وقول النبي صلى الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ومن المنكرات التي يجب على العباد إنكارها والحذر منها الزنا واللواط والسرقة والظلم والغيبة والنميمة واللعن والسباب والكبر وإسبال الثياب وحلق اللحى وأخذ شيء منها وإطالة الشوارب وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأكل الربا وأكل أموال اليتامى وشرب المسكرات والانشغال بآلات اللهو كالسينما والرباب واستماع أصوات المغنيات والمزامير من الراديو وغيره والتهاجر والتقاطع والشحناء لأجل الدنيا وحطامها والغش وشهادة الزور واليمين الفاجرة والكذب وكثرة الحلف في المعاملات إلى غير ذلك من(155/252)
المنكرات التي نهى الله ورسوله عنها فالواجب علينا وعليكم يا إخواني اجتناب هذه المنكرات وأشباهها والحذر منها والتحذير منها والتوبة إلى الله مما سلف منها لتفوزوا بجزيل الثواب وتسلموا من غضب الرب وحلول العقاب والله المسئول أن يوفقني وإياكم لما يرضيه من القول والعمل وأن يثبتنا جميعا على دينه وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن يوفق الله ولاة أمورنا لما يرضيه وأن يصلح بطانتهم وأن ينصر بهم الدين ويقمع بهم المفسدين إنه سميع الدعاء قريب الإجابة وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
نصح وتذكير للمرضى بمصح بحنّس في لبنان
من عبد العزيز بن عبد الله آل باز إلى من يراه من إخواننا المسلمين بمصح بحنس شفاهم الله من أمراض القلوب والأبدان وحبب إلي وإليهم الإيمان وكره إلي وإليهم الكفر والفسوق والعصيان آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
لا يخفى أن الله سبحانه خلق الثقلين لعبادته وهي توحيده في العبادة وطاعة أمره واجتناب ما نهى عنه في كل زمان ومكان وقد أرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا الأمر العظيم والدعوة إليه قال الله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ وقال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال تعالى الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ(155/253)
وقال تعالى : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وقال تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
والآيات في هذا المعنى كثيرة فالواجب عليكم أن تتقوا الله سبحانه وأن تهتموا بهذا الأمر العظيم وتناصحوا فيه وأن تحذروا التشبه بأعداء الله من النصارى وغيرهم والتخلق بأعمالهم الذميمة وأهم شيء بعد التوحيد الصلوات الخمس والمحافظة عليها في أوقاتها وملازمة الزي الإسلامي في الرأس واللحية وغير ذلك والحذر من التشبه بأعداء الله في كل شيء لم يأت به الشرع فاتقوا الله في ذلك وتعاونوا على البر والتقوى واحذروا وساوس الشيطان وطاعته وطاعة أوليائه الصادين عن كل خير الداعين إلى كل منكر حماكم الله من شرهم وألهمكم رشدكم وأعاذنا وإياكم من ما يوجب غضبه ونقمته وقد بلغني عن بعضكم ما أحزن القلب وشوه السمعة من التهاون بالصلاة وحلق اللحى وإطالة الشوارب وشرب الدخان واتخاذ التواليت وعيب من لم يفعل ذلك وذلك والله عظيم وخطره كبير وربما أفضى بأهله إلى موت القلوب والانسلاخ من الدين فاتقوا الله في ذلك واستقيموا على شرعه واحذروا معصيته والتشبه بأعدائه لأن ذلك من وسائل زيغ القلوب كما قال تعالى فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ(155/254)
وقال تعالى : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأخلاق المشار إليها ودل القرآن الكريم على أن التهاون بشأن الصلاة من خصال أهل النفاق وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خالفوا المشركين قصوا الشوارب وأعفوا اللحى وفي بعض الروايات وأوفوا اللحى وفي الصحيحين أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع وفي رواية أحمد وغيره احلقه كله أو دعه كله وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من تشبه بقوم فهو منهم وقد تكاثرت النصوص من القرآن والسنة في الأمر بمخالفة المشركين والتحذير من أخلاقهم لما في التشبه بهم من المضرة العظيمة وهي أن ذلك وسيلة إلى الرضا بدينهم والزهد في الإسلام وتعاليمه وكراهة الداعين إليه فاتقوا الله في ذلك واحذروا ما حذركم الله ورسوله منه وأنتم تشاهدون كثيرا من الأجانب إذا وصلوا بلاد المسلمين يبقون على زيِّهم الخبيث وأخلاقهم السافلة ولا يتشبهون بأخلاق المسلمين التي جاء بها الشرع فأنتم أحق وأولى أن تلزموا زيَّكم وأخلاقكم العالية وإن عابها المشركون عليكم وفي الحديث من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس وفي لفظ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس - ومن التمس رضا الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا وفي لفظ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس(155/255)
وأما الدخان فخبثه ومضرته وإسكاره لبعض الناس أمر معلوم عند كل من جربه وقد صرح المحققون من أهل العلم بتحريمه ووجوب تأديب من شربه وقد قال الله تعالى يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ والدخان من الخبائث بإجماع أهل المعرفة به فيكون محرما بنص هذه الآية ومحرم من وجهين آخرين وهما مضرته وإسكاره لبعض الناس فالواجب عليكم الحذر من كل هذه الأخلاق الرذيلة والتناصح في ذلك والتوبة إلى الله سبحانه مما سلف وسؤاله عز وجل الهداية والتوفيق والسلامة من كل ما يسخطه وهذه نصيحة مختصرة دعاني إليها حب الخير لكم والخوف عليكم من طاعة الشيطان ونوابه والله المسئول أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم وأن يجعلنا وإياكم ممن يقبل النصيحة ويجتنب أسباب الفضيحة إنه على كل شيء قدير وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب صلاح المجتمع
كما أنه هو سفينة النجاة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد فإن من أهم الواجبات الإسلامية التي يترتب عليها صلاح المجتمع وسلامته ونجاته في الدنيا والآخرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك هو سفينة النجاة كما ثبت في صحيح البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا من نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا قال النبي صلى الله عليه وسلم فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا(155/256)
فتأمل أيها المسلم هذا المثل العظيم من سيد ولد آدم ورسول رب العالمين وأعلم الخلق بأحوال المجتمع وأسباب صلاحه وفساده تجده واضح الدلالة على عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه سبيل النجاة وطريق صلاح المجتمع ويتضح من ذلك أيضا أنه واجب على المسلمين وفرض عليهم القيام به؛ لأنه هو الوسيلة إلى سلامتهم من أسباب الهلاك وقد أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم بسبب صفاتها الحميدة التي من أهمها قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال عز وجل كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وتأمل أيها المسلم الذي يهمه دينه وصلاح مجتمعه كيف بدأ الله سبحانه في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الإيمان ، مع كون الإيمان شرطا لصحة جميع العبادات يتبين لك عظم شأن هذا الواجب ، وأنه سبحانه إنما قدم ذكره لما يترتب عليه من الصلاح العام .
وقال عز وجل : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
فانظر يا أخي كيف بدأ في هذه الآية بذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل الصلاة والزكاة ، وما ذاك إلا لما تقدم بيانه من عظم شأنه وعموم منفعته وتأثيره في المجتمع ، وتدل الآية أيضا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أخلاق المؤمنين والمؤمنات وصفاتهم الواجبة التي لا يجوز لهم التخلي عنها أو التساهل بها ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .(155/257)
وقد ذم الله سبحانه من ترك هذا الواجب من كفار بني إسرائيل ولعنهم على ذلك فقال سبحانه في كتابه المبين من سورة المائدة : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وفي هذه الآية إرشاد من الله سبحانه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن سبب لعن كفار بني إسرائيل وذمهم هو عصيانهم واعتداؤهم ، وأن من ذلك عدم تناهيهم عن المنكر فيما بينهم لتحذر هذه الأمة سبيلهم الوخيم ويبتعدوا عن هذا الخلق الذميم ، ويتضح من ذلك أن هذه الأمة متى تخلقت بأخلاق كفار بني إسرائيل المذمومة استحقت ما استحقه أولئك من الذم واللعن؛ لأنه لا صلة بين العباد وبين ربهم إلا صلة العبادة والطاعة ، فمن استقام على عبادة الله وحده وامتثال أوامره وترك نواهيه استحق من الله الكرامة فضلا منه وإحسانا وفاز بالثناء الحسن والعاقبة الحميدة ، ومن حاد عن سبيل الحق استحق الذم واللعن وباء بالخيبة والخسران ،
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم رحمه الله في صحيحه .
وروى مسلم أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل(155/258)
فاتق الله أيها المسلم في نفسك وجاهدها لله واستقم على أمره وجاهد من تحت يديك من الأهل والذرية وغيرهم ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر حسب طاقتك في كل مكان وزمان عملا بهذه الأدلة الشرعية التي ذكرتها لك آنفا ، وتخلق بأخلاق المؤمنين واحذر من أخلاق الكافرين والمجرمين ، واحرص جهدك على نجاتك ونجاة أهلك وإخوانك المسلمين ، كما قال عز وجل وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا
وقال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أيها الناس إن الله يقول لكم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيبكم وتسألوني فلا أعطيكم وتستنصروني فلا أنصركم أخرجه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه وهذا لفظ ابن حبان والمعروف يا أخي هو كل ما أمر الله به ورسوله والمنكر هو كل ما نهى الله عنه ورسوله فيدخل في المعروف جميع الطاعات القولية والفعلية ويدخل في المنكر جميع المعاصي القولية والفعلية ثم اعلم يا أخي أن كل مسلم راع على من تحت يده ومسئول عن رعيته كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته(155/259)
فاتق الله يا عبد الله وأعد جوابا لهذا السؤال قبل أن ينزل بك من أمر الله ما لا قبل لك به والله المسئول أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم وأن يوفقنا وسائر المسلمين للقيام بأمره والثبات على دينه والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر والتواصي بالحق والصبر عليه بصدق وإخلاص إنه ولي ذلك والقادر علي وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه
نشرت بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في العدد الرابع السنة الأولى ربيع الأول سنة 1389 هـ
حكم الشريعة في غلام أحمد برويز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه أما بعد فقد اطلعت على ما نشرته ( مجلة الحج ) في عددها الثاني الصادر في 16 شعبان عام 1382 هـ من الاستفتاء المقدم إليها من أخينا العلامة الشيخ محمد يوسف البنوري مدير المدرسة العربية الإسلامية بكراتشي عن حكم الشريعة الإسلامية في غلام أحمد برويز الذي ظهر أخيرا في بلاد الهند وعن حكم معتقداته التي قدم فضيلة المستفتي نماذج منها لاستفتائه وعن حكم من اعتنق تلك العقائد واعتقدها ودعا إليها؟ إلخ
والجواب كل من تأمل تلك النماذج التي ذكرها المستفتي في استفتائه من عقائد غلام أحمد برويز وهي عشرون أنموذجا موضحة في الاستفتاء المنشور في المجلة المذكورة كل من تأمل هذه النماذج المشار إليها من ذوي العلم والبصيرة يعلم علما قطعيا لا يحتمل الشك بوجه ما أن معتنقها ومعتقدها والداعي إليها كافر كفرا أكبر مرتد عن الإسلام يجب أن يستتاب(155/260)
فإن تاب توبة ظاهرة وكذب نفسه تكذيبا ظاهرا ينشر في الصحف المحلية كما نشر فيها الباطل من تلك العقائد الزائفة وإلا وجب على ولي الأمر للمسلمين قتله وهذا شيء معلوم من دين الإسلام بالضرورة والأدلة عليه من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم كثيرة جدا لا يمكن استقصاؤها في هذا الجواب وكل أنموذج من تلك النماذج التي قدمها المستفتي من عقائد [غلام أحمد برويز] يوجب كفره وردته عن الإسلام عند علماء الشريعة الإسلامية
وإلى القارئ الكريم نبذة من تلك النماذج التي أشرنا إليها ليعلم مدى بشاعتها وشناعتها وبعدها عن الإسلام وأن معتقدها لا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا بما أخبر الله به عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الآخرة والجنة والنار وليعلم أيضا أن معتقدها بعيد كل البعد عما جاءت به الرسل شديد العداوة والحقد والكيد للإسلام والمسلمين بارع في المكر والتلبيس متجرد من الحياء والأدب نسأل الله تعالى العافية والسلامة لنا وللمسلمين من شر ما ابتلي به هذا الزنديق الملحد
النموذج الأول من عقائد الملحد [غلام أحمد برويز] على ما نشرته المجلة المذكورة في الاستفتاء المنوه عنه آنفا يقول ( إن جميع ما ورد في القرآن الكريم من الصدقات والتوريث وما إلى ذلك من الأحكام المالية كل ذلك مؤقت تدريجي إنما يتدرج به إلى دور مستقل يسميه هو نظام الربوبية فإذا جاء ذلك الوقت تنتهي هذه الأحكام؛ لأنها كانت مؤقتة غير مستقلة )
النموذج الثاني ( أن الرسول والذين معه قد استنبطوا من القرآن أحكاما فكانت شريعة وهكذا كل من جاء بعده من أعضاء شورائية لحكومة مركزية لهم أن يستنبطوا أحكاما من القرآن فتكون تلك الأحكام شريعة ذلك العصر وليسوا مكلفين بتلك الشريعة السابقة ثم لا تختص تلك بباب واحد بل العبادات والمعاملات والأخلاق كلها يجري فيه ذلك ومن أجل ذلك القرآن لم يعين تفصيلات العبادة )(155/261)
النموذج الثالث قوله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أن المراد من إطاعة الله ورسوله هو إطاعة مركز الأمة أي الحكومة المركزية والمراد بأولي الأمر الجمعيات التي تنعقد تحتها فالحكومة المركزية تستقل بالتشريع وليس المراد بإطاعة الله إطاعة كتابه القرآن ولا بإطاعة الرسول إطاعة أحاديثه فكل حكومة مركزية قامت بعد عهد الرسالة منصبها منصب الرسول فإطاعة الله والرسول إنما هي إطاعة تلك الحكومة والرسول كان مطاعا من جهة أنه كان أميرا وإماما للحكومة المركزية والحكومة المركزية هي المطاعة )
النموذج الرابع ( قد صرح القرآن الكريم بأنه لا يستحق الرسول أن يكون مطاعا وليس له أن يأمرهم بطاعته وليس المراد من إطاعة الله وإطاعة الرسول إلا إطاعة مركز نظام الدين الذي ينفذ أحكام القرآن فقط )
النموذج السادس ( ليس المراد بالجنة والنار أمكنة خاصة بل هي كيفيات للإنسان )
النموذج التاسع عشر ( الإيمان بالقدر خيره وشره مكيدة مجوسية جعلتها عقيدة للمسلمين
فهذه أيها القارئ الكريم نماذج نقلتها لك من الاستفتاء المنشور في المجلة حسب ترتيبها فيها لتعلم صحة ما ذكرته لك آنفا وإذا قرأت بقية النماذج التي في المجلة علمت من كفره وشناعة آرائه ما يؤيد ذلك ويرشدك إلى كثير من آيات الله الساطعة وبراهينه القاطعة على حكمته في عباده وقدرته العظيمة على تقليب القلوب والقضاء عليها بالزيغ حتى تصل إلى حد لا يكاد يتصوره العقل البشري فسبحان الله ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(155/262)
وهذه النماذج التي نقلنا يدل على بطلانها وعلى بطلان بقية النماذج الأخرى آيات كثيرات وأحاديث صحيحة وإجماع أهل العلم فمن الآيات قوله سبحانه وتعالى قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وهذا الملحد لم يؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل على الرسل قبله بل أنكر ذلك غاية الإنكار كما يدل على ذلك إنكاره طاعة الله ورسوله وتأييد شريعته وإنكاره الجنة والنار وإنكار القدر فيكون بذلك غير مهتد بل هو من أهل الشقاق والكفر والإلحاد وقال تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
وهذا الملحد لا يدين بذلك ويرى أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقيدة بحياته وأنه لم يطع لكونه رسول الله وإنما أطيع لكونه أمير الحكومة المركزية .(155/263)
وهذا الملحد أيضا لا يرى طاعة الله ولا يلتزم بها وإنما الطاعة عنده للحكومة المركزية كيفما كانت . وهذا صريح في تكذيب الله وتكذيب كتابه وصريح في إنكار الإسلام وإنكار أن يكون هو الدين الذي يجب التزامه ، وإنما الدين عنده ما شرعته الحكومة المركزية وأمرت به وإن خالف القرآن والسنة ، وقال تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا الملحد كما سبق لا يدين بهذه الآية فيكون مكذبا لله ومعترضا على الله فيكون في الآخرة من الخاسرين والخاسر في الآخرة الخسارة المطلقة هو الكافر المستوجب للخلود في النار نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وقال تعالى إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وقال عز وجل : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ
وهذا الزائغ الملحد لا يدين بهذه الآيات ولا يوجب طاعة الله ورسوله ولا التحاكم إليهما كما سبق ، بل يرى كل ذلك للحكومة المركزية ، وهذا كله كاف في تكفيره وشناعة عقيدته وتكذيبه لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين ومن كان بهذه المثابة فكفره وزيغه وبعده عن الهدى لا يحتاج إلى إقامة الأدلة لكونه أظهر وأبين من الشمس في رابعة النهار في اليوم الصحو ، والآيات في معنى ما ذكرته كثيرة .(155/264)
وأما الأحاديث فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال : " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قيل يا رسول الله ومن يأبى؟ قال " من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " رواه البخاري .
وفي القرآن الكريم يقول الله سبحانه : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ويقول : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
وهذا الملحد لا يؤمن ببعثته ولا بوجوب طاعته ولا يراه رسولا إلى الناس عامة وإنما يطاع عند هذا الزنديق في حياته فقط لكونه أمير الحكومة المركزية لا لكونه رسول الله فسبحان الله ما أشنع هذا القول وما أبعده عن الهدى
وقد أجمع المسلمون إجماعا قطعيا معلوما من الدين بالضرورة ومنقولا في كتب أهل العلم التي تحكي الإجماع والخلاف على أن من كذب الله سبحانه أو كذب رسوله صلى الله عليه وسلم ولو في شيء يسير أو أجاز الخروج عن دينه أو قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول إلى العرب خاصة أو إلى أهل زمانه خاصة فهو كافر مرتد عن الإسلام يباح دمه وماله ليس في ذلك بين أهل العلم بحمد الله خلاف فلا حاجة إلى التطويل بنقل إجماعهم من مصادره(155/265)
وأرجو أن يكون فيما ذكرته كفاية للقارئ والمستفتي؛ لأن كفر هذا الملحد [غلام أحمد برويز] على حسب ما ذكر من آرائه ومعتقداته يعلم بالبداهة لعامة المسلمين فضلا عن علمائهم فلا ضرورة إلى بسط الأدلة عليه ونسأل الله أن يعافي المسلمين من شره وأمثاله وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا ويبطل كيدهم ويميتهم بغيظهم لم يدركوا ما أرادوا إنه على كل شيء قدير وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله المبعوث إلى الناس عامة بالشريعة الكاملة إلى يوم القيامة وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين
تعقيب من سماحة الشيخ على ما نشر في مجلة الحج " التضامن الإسلامي" حول عقيدة غلام أحمد برويز نشر في الصحف عام 1382 هـ عندما كان سماحته نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
حكم السحر والكهانة وما يتعلق بها
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد فنظرا لكثرة المشعوذين في الآونة الأخيرة ممن يدعون الطب ويعالجون عن طريق السحر أو الكهانة وانتشارهم في بعض البلاد واستغلالهم للسذج من الناس ممن يغلب عليهم الجهل رأيت من باب النصيحة لله ولعباده أن أبين ما في ذلك من خطر عظيم على الإسلام والمسلمين لما فيه من التعلق بغير الله تعالى ومخالفة أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
فأقول مستعينا بالله تعالى يجوز التداوي اتفاقا وللمسلم أن يذهب إلى دكتور أمراض باطنية أو جراحية أو عصبية أو نحو ذلك ليشخص له مرضه ويعالجه بما يناسبه من الأدوية المباحة شرعا حسبما يعرفه في علم الطب؛ لأن ذلك من باب الأخذ بالأسباب العادية ولا ينافي التوكل على الله وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الداء وأنزل معه الدواء عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله ولكنه سبحانه لم يجعل شفاء عباده فيما حرمه عليهم(155/266)
فلا يجوز للمريض أن يذهب إلى الكهنة الذين يدعون معرفة المغيبات ليعرف منهم مرضه كما لا يجوز له أن يصدقهم فيما يخبرونه به فإنهم يتكلمون رجما بالغيب أو يستحضرون الجن ليستعينوا بهم على ما يريدون وهؤلاء حكمهم الكفر والضلال إذا ادَّعوا علم الغيب
وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود وخرجه أهل السنن الأربع وصححه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم رواه البزار بإسناد جيد
ففي هذه الأحاديث الشريفة النهي عن إتيان العرافين والكهنة والسحرة وأمثالهم وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة وسلطان إنكار إتيان الكهان والعرافين ونحوهم ومنع من يتعاطى شيئا من ذلك في الأسواق وغيرها والإنكار عليهم أشد الإنكار والإنكار على من يجيء إليهم
ولا يجوز أن يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يأتي إليهم من الناس فإنهم جهال لا يجوز التأسي بهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم لما في ذلك من المنكر العظيم والخطر الجسيم والعواقب الوخيمة ولأنهم كذبة فجرة(155/267)
كما أن في هذه الأحاديث دليلا على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصدهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه والمصدق لهم في دعواهم على الغيب يكون مثلهم وكل من تلقى هذه الأمور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمونه علاجا كنم نمتهم بالطلاسم أو صب الرصاص ونحو ذلك من الخرافات التي يعملونها فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم
كما لا يجوز أيضا لأحد من المسلمين أن يذهب إليهم ليسألهم عمن سيتزوج ابنه أو قريبه أو عما يكون بين الزوجين وأسرتيهما من المحبة والوفاء أو العداوة والفراق ونحو ذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى والسحر من المحرمات الكفرية كما قال الله عز وجل في شأن الملكين في سورة البقرة وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
فدلت هذه الآيات الكريمة على أن السحر كفر وأن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه كما دلت على أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعا ولا ضرا وإنما يؤثر بإذن الله الكوني القدري؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخير والشر ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ولبسوا بها على ضعفاء العقول فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل(155/268)
كما دلت الآية الكريمة على أن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وأنه ليس لهم عند الله من خلاق أي من حظ ونصيب وهذا وعيد عظيم يدل على شدة خسارتهم في الدنيا والآخرة وأنهم باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان ولهذا ذمهم الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ والشراء هنا بمعنى البيع نسأل الله العافية والسلامة من شر السحرة والكهنة وسائر المشعوذين
كما نسأله سبحانه أن يقي المسلمين شرهم وأن يوفق حكام المسلمين للحذر منهم وتنفيذ حكم الله فيهم حتى يستريح العباد من ضررهم وأعمالهم الخبيثة إنه جواد كريم وقد شرع الله سبحانه لعباده ما يتقون به شر السحر قبل وقوعه وأوضح لهم سبحانه ما يعالج به بعد وقوعه رحمة منه لهم وإحسانا منه إليهم وإتماما لنعمته عليهم
نشر جزء من هذه المقالة في الجزء الثاني من كتاب مجموع فتاوى بعنوان ( بيان أشياء التي يتقي بها شر السحر) وكذلك صدرت المقالة بكاملها بنشرة من الرئاسة بعنوان : رسالة في حكم السحر والكهانة ونشرت في مجلة اليمامة ، ومجلة البحوث الإسلامية
وفيما يلي بيان للأشياء التي يتقى بها خطر السحر قبل وقوعه والأشياء التي يعالج بها بعد وقوعه من الأمور المباحة شرعا أما ما يتقى به خطر السحر قبل وقوعه(155/269)
فأهم ذلك وأنفعه هو التحصن بالأذكار الشرعية والدعوات والمعوذات المأثورة ومن ذلك قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام ومن ذلك قراءتها عند النوم وآية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم وهي قوله سبحانه اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
ومن ذلك قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، خلف كل صلاة مكتوبة ، وقراءة السور الثلاث ثلاث مرات في أول النهار بعد صلاة الفجر وفي أول الليل بعد صلاة المغرب ،
ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل وهما قوله تعالى : آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ إلى آخر السورة .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح " وصح عن أيضا صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " والمعنى والله أعلم : كفتاه من كل سوء ،(155/270)
ومن ذلك الإكثار من التعوذ بـ ( كلمات الله التامات من شر ما خلق ) في الليل والنهار وعند نزول أي منزل في البناء أو الصحراء أو الجو أو البحر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك "
ومن ذلك أن يقول المسلم في أول النهار وأول الليل ثلاث مرات : ( بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ) لصحة الترغيب في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك سبب للسلامة من كل سوء ،
وهذه الأذكار والتعوذات من أعظم الأسباب في اتقاء شر السحر وغيره من الشرور لمن حافظ عليها بصدق وإيمان وثقة بالله واعتماد عليه وانشراح صدر لما دلت عليه ، وهي أيضا من أعظم السلاح لإزالة السحر بعد وقوعه مع الإكثار من الضراعة إلى الله وسؤاله سبحانه أن يكشف الضرر ويزيل البأس ،
ومن الأدعية الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في علاج الأمراض من السحر وغيره - وكان صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه - : " اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما " يقولها ثلاثا ،
ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله : " بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك " ويكرر ذلك ثلاث مرات .(155/271)
ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضا وهو علاج نافع للرجل إذا حبس من جماع أهله أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه ويجعلها في إناء ويصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل ، ويقرأ فيها آية الكرسي و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وآيات السحر التي في سورة الأعراف ، وهي قوله سبحانه : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ والآيات التي في سورة يونس وهي قوله سبحانه : وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ والآيات التي في سورة طه قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب منه ثلاث مرات ويغتسل بالباقي وبذلك يزول الداء إن شاء الله وإن دعت الحاجة لاستعماله مرتين أو أكثر فلا بأس حتى يزول الداء(155/272)
ومن علاج السحر أيضا وهو من أنفع علاجه بذل الجهود في معرفة موضع السحر في أرض أو جبل أو غير ذلك فإذا عرف واستخرج وأتلف بطل السحر هذا ما تيسر بيانه من الأمور التي يتقى بها السحر ويعالج بها والله ولي التوفيق
وأما علاجه بعمل السحرة الذي هو التقرب إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات فهذا لا يجوز؛ لأنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون؛ لأنهم لا يؤمنون ولأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب ويلبسون على الناس وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم كما سبق بيان ذلك في أول هذه الرسالة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن النشرة؟ فقال هي من عمل الشيطان رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد جيد والنشرة هي حل السحر عن المسحور ومراده صلى الله عليه وسلم بكلامه هذا النشرة التي يتعاطاها أهل الجاهلية وهي سؤال الساحر ليحل السحر أو حله بسحر مثله من ساحر آخر أما حله بالرقية والمتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فلا بأس بذلك كما تقدم وقد نص على ذلك العلامة ابن القيم والشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد رحمة الله عليهما ونص على ذلك أيضا غيرهما من أهل العلم والله المسئول أن يوفق المسلمين للعافية من كل سوء وأن يحفظ عليهم دينهم ويرزقهم الفقه فيه والعافية من كل ما يخالف شرعه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه
يجب ألا يبقى في جزيرة العرب إلا المساجد والمسلمون
- أسئلة وأجوبة -
س- سماحة الشيخ تختلف نظرة المطلعين على أحوال العالم الإسلامي باختلاف موقعهم ووعيهم فمنهم من يراه عالما ممزقا متخلفا منكوبا على الدوام ومنهم من يراه حركة ويقظة وبعثا مباركا كيف نوفق بين الرؤيتين مقارنة بالواقع؟(155/273)
ج- كل نظرة لها وجه فالعالم الإسلامي ممزق من جانب لاختلافه وعدم اتفاقه على تحكيم الشريعة والتحاكم إليها وهو مع ذلك والحمد لله يموج بالحركة والنشاط حركة الشباب الإسلامي والكثير من العلماء الأخيار الطيبين الذين يدعون إلى الله ويوجهون إليه وينصحون ولاة الأمور بالرجوع إلى الصواب والاجتماع على الحق
فالعالم الإسلامي يشتمل على هذا وهذا ونرجو أن تتغلب النظرة الثانية على الأولى وأن يجمعهم الله على الاتفاق على حكم الله وأن يصلح شئونهم
نشرت بمجلة الإصلاح التي تصدر بالإمارات العربية - دبي ، العدد 70 ربيع الأول 1404 هـ ، صـ 14 ، 15
وقلوبهم
س- يقرر كل منصف ومخلص أن
نجاة مجتمعات المسلمين تكون باتباع هدى الله وبتطبيق أحكامه
ما هي الوسيلة الصحيحة والمنهج الواقعي الذي يوصل المجتمعات اليوم إلى حياة إسلامية شاملة؟
ج- هذا هو الصواب لا طريق إلى النجاة ولا سبيل إلى تعاونهم إلا إذا اعتصموا بحبل الله وكتابه وسنة رسوله /168 والسبيل إلى ذلك هو أن يكون كل واحد حريصا على أن يجتمع مع أخيه لنصر الحق وإقامة دين الله وتحكيم شرعه أما ما دام كل واحد لا يبالي إلا بكرسيه ورئاسته ولا يهمه أمر المسلمين واجتماع الكلمة بينه وبين الرؤساء الآخرين فهذا هو سبيل التمزق الذي يمكن الأعداء من حصولهم على مطالبهم ومن تمزيقهم للمسلمين زيادة على ما هم فيه
س- إذن أتقع المسئولية على الحكام والمسئولين بالدرجة الأولى أم على الشعوب والأفراد؟(155/274)
ج- المسئولية على الرؤساء والحكام وعلى العلماء والأعيان جميعا على العلماء والأعيان النصح والمتابعة لهذا الأمر بجد ونشاط وعليهم أن لا ييأسوا وعلى الحكام أن يستجيبوا وأن يتقوا الله وأن يتعاونوا فيما بينهم على البر والتقوى وأن يبدؤوا بأنفسهم وأن يحكموا شرع الله في أنفسهم وفي بلادهم وبذلك ينصرهم الله ويعينهم على الحق ويهدي لهم شعوبهم وكذلك أيضا يخيف الله بهم عدوهم ويمكنهم من أخذ حقوقهم لأن الله هو الذي ينصر لا غيره
كما قال سبحانه وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ومن نصر الله نصره الله كما قال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وكما قال عز وجل : وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ
س- تشهد سماحة الدعوة الإسلامية جهودا متعددة ومخلصة ولكنها فيما بينها مختلفة وربما متنازعة كيف نوفق بين هذه الإمكانات والجهود الطيبة كيف نوجهها جميعا لتصب في خدمة الدعوة الإسلامية؟
ج- لا شك أن الاختلاف من أعظم البلاء ومن أسباب إضاعة الجهود ومن أسباب ضياع الحق فاختلاف الجمعيات والمراكز الإسلامية فيما بينها يضر الدعوة الإسلامية والطريق الوحيد أن يجتهدوا في التوفيق فيما بينهم في مطالبهم وهي أن يعملوا جميعا على المطلب الذي فيه عزة الإسلام وسلامة المسلمين والواجب على كل جمعية وكل مركز وكل جماعة تريد الآخرة أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يخلصوا لله في عملهم وأن يكون همهم نصر دين الله حتى يجتمع الجميع على الحق عملا بقوله تعالى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى(155/275)
س- لا تزال البلاد الإسلامية تشهد دعوات مشبوهة لوضع العروبة مكان الإسلام ولإحلال الرابطة القومية محل الأخوة الإسلامية . ما هي العلاقة الصحيحة والسليمة بين العروبة والإسلام؟
ج- هذه نداءات باطلة ، القومية والعروبة ، أو الاشتراكية أو الشيوعية أو أي دعوة سوى الإسلام كلها دعاوى باطلة ونعرات جاهلية يجب أن يُقضى عليها ، ولا يجوز أن تبقى أبدا ، يجب على أعيان البلد ورؤسائها وعلمائها أن يحاربوا هذه الدعوات ، والعروبة خادمة لشرع الله وليست أساسا يطلب التجمع حوله ،
ولقد نزل القرآن بلغة العرب لينفذوا حكم الله وليخدموا شريعته بما أعطاهم الله من اللغة والقوة ، أما هم فليسوا بشيء بدون الإسلام وبدون الحكم بالإسلام كانوا متمزقين في غاية من الجهالة والتناحر والاختلاف فجمعهم الله بالإسلام والهدى وباتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، لا بعروبتهم ، فإذا ضيعوا هذا ضاعوا وهلكوا .
س- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يجتمع في جزيرة العرب دينان " لكننا نجد في معظم بلدان الجزيرة العربية وجودا كثيفا للعمالة غير الإسلامية وصل بها الأمر إلى حد بناء دور عبادة لها سواء النصارى أم الهندوس أم السِّيخ . ما الموقف الواجب على حكومات هذه البلدان اتخاذه حيال هذه الظاهرة المؤلمة ذات الخطر الداهم؟
ج- لقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجتمع في الجزيرة دينان " وصح عنه أيضا أنه أمر بإخراج اليهود والنصارى من الجزيرة ، وأمر أن لا يبقى فيها إلا مسلم ، وأوصى عند موته صلى الله عليه وسلم بإخراج المشركين من الجزيرة ، فهذا أمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيه شك ،(155/276)
والواجب على الحكام أن ينفذوا هذه الوصية كما نفذها خليفة المسلمين عمر رضي الله عنه بإخراج اليهود من خيبر وإجلائهم ، فعلى الحكام في السعودية وفي الخليج وفي جميع أجزاء الجزيرة ، عليهم جميعا أن يجتهدوا كثيرا في إخراج النصارى والبوذيين والوثنيين والهندوس وغيرهم من الكفرة وألا يستقدموا إلا المسلمين .
هذا هو الواجب وهو مبين بيانا جليا في قواعد الشرع الحنيف . فالمقصود والواجب إخراج الكفار من الجزيرة وأن لا يستعمل فيها إلا المسلمون من بلاد الله ، ثم إن عليهم أيضا أن يختاروا من المسلمين ، فالمسلمون فيهم من هو مسلم بالادعاء لا بالحقيقة ، وعنده من الشر ما عنده ، فيجب على من يحتاج إلى مسلمين ليستأجرهم أن يسأل أهل المعرفة حتى لا يستقدم إلا المسلمين الطيبين المعروفين بالمحافظة على الصلاة والاستقامة .
أما الكفار فلا يستخدمهم أبدا إلا عند الضرورة الشرعية ، أي : التي يقدرها ولاة الأمر ، وفق شرع الإسلام وحده .
س- وفي حالة اقتضاء الضرورة ، هل يصح أن تبنى لهم دور العبادة؟
ج- لا يجوز أن يبنى في الجزيرة معابد للكفرة لا النصارى ولا غيرهم ، وما بني فيها يجب أن يهدم مع القدرة . وعلى ولي الأمر أن يهدمها ويزيلها ولا يبقي في الجزيرة مبادئ أو معاقل للشرك ولا كنائس ولا معابد ، بل يجب أن تزال من الجزيرة حتى لا يبقى فيها إلا المساجد والمسلمون .
س- نود في النهاية أن نستمع إلى نصيحة من سماحتكم للمسلمين في هذه المناسبة .(155/277)
ج- أوصي إخواني المسلمين أن يتقوا الله في كل حال ، وأن يستقيموا على دينه وأن يخشوه سبحانه وتعالى أينما كانوا وأن يراقبوه ، وأن يحاسبوا أنفسهم حتى لا يدعوا ما أوجب الله عليهم وحتى لا يرتكبوا ما حرم الله عليهم ، وأوصيهم بالتعاون على البر والتقوى ، وبالتناصح والتواصي بالحق والصبر عليه أينما كانوا ، وأوصيهم أيضا بالتفقه في الدين وحضور حلقات العلم وسؤال العلماء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " . وقال صلى الله عليه وسلم : " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة " فتعلم العلم بطلبه من أهم المهمات .
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفق المسلمين أينما كانوا لما يرضيه وأن يصلح ولاة أمرهم وقادتهم ، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم ، وأن يوفق القادة وأعوانهم وسائر شعوبهم لتحكيم الشريعة والتحاكم إليها والثبات عليها والتواصي بها والحذر مما يخالفها ، إنه سميع قريب ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
الدروس المهمة لعامة الأمة
الدرس الأول : سورة الفاتحة وما أمكن من قصار السور ، من سورة الزلزلة إلى سورة الناس تلقينا وتصحيحا للقراءة ، وتحفيظا وشرحا لما يجب فهمه .
الدرس الثاني : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بشرح معانيها مع بيان شروط لا إله إلا الله ومعناها " لا إله " نافيا جميع ما يعبد من دون الله " إلا الله " مثبتا العبادة لله وحده لا شريك له .
وأما شروط لا إله إلا الله فهي : العلم المنافي للجهل ، واليقين المنافي للشك ، والإخلاص المنافي للشرك ، والصدق المنافي للكذب ، والمحبة المنافية للبغض ، والانقياد المنافي للترك ، والقبول المنافي للرد ، والكفر بما يعبد من دون الله .
وقد جمعت في البيتين الآتيين :
علم يقين وإخلاص وصدقك مع ... ... محبة وانقياد والقبول لها(155/278)
يزيد ثامنها الكفران منك بما ... ... سوى الإله من الأشياء قد ألها
الدرس الثالث : أركان الإيمان وهي ستة : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وباليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى .
سبق أن صدرت نشرة ضمن مطبوعات الرئاسة عام 1403 هـ فزيد عليها عند إعدادها للطبع هنا .
الدرس الرابع : بيان أقسام التوحيد
وهي ثلاثة : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات .
وأقسام الشرك ثلاثة : شرك أكبر ، وشرك أصغر ، وشرك خفي .
فالشرك الأكبر يوجب حبوط العمل والخلود في النار لمن مات عليه ، كما قال الله تعالى : وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال سبحانه : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ وأن من مات عليه فلن يغفر له ، والجنة عليه حرام ، كما قال الله عز وجل : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وقال سبحانه إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
ومن أنواعه دعاء الأموات والأصنام ، والاستغاثة بهم ، والنذر لهم ، والذبح لهم ونحو ذلك .(155/279)
أما الشرك الأصغر : فهو ما ثبت بالنصوص من الكتاب أو السنة تسميته شركا ، ولكنه ليس من جنس الشرك الأكبر ، كالرياء في بعض الأعمال ، والحلف بغير الله ، وقول ما شاء الله وشاء فلان ، ونحو ذلك ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : /5 أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " فسئل عنه؟ فقال " الرياء رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي عن محمود بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه بإسناد جيد ، ورواه الطبراني بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع ابن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله صلى الله عليه وسلم : " من حلف بشيء دون الله فقد أشرك " رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ورواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " .
وقوله صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه . وهذا النوع لا يوجب الردة ، ولا يوجب الخلود في النار ، ولكنه ينافي كمال التوحيد الواجب .
أما النوع الثالث : وهو الشرك الخفي ، فدليله قول النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ " قالوا بلى يا رسول الله قال " الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه " رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه . ويجوز أن يقسم الشرك إلى نوعين فقط : أكبر وأصغر ، أما الشرك الخفي فإنه يعمهما . . فيقع في الأكبر كشرك المنافقين؛ لأنهم يخفون عقائدهم الباطلة ، ويتظاهرون بالإسلام رياء وخوفا على أنفسهم . ويكون في الشرك الأصغر كالرياء ، كما في حديث محمود بن لبيد الأنصاري المتقدم وحديث أبي سعيد المذكور . . والله ولي التوفيق .
الدرس الخامس : أركان الإسلام(155/280)
وهي خمسة : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا .
الدرس السادس : شروط الصلاة
وهي تسعة : الإسلام ، والعقل ، والتمييز ، ورفع الحدث ، وإزالة النجاسة ، وستر العورة ، ودخول الوقت ، واستقبال القبلة ، والنية .
الدرس السابع : أركان الصلاة
وهي أربعة عشر : القيام مع القدرة ، وتكبيرة الإحرام ، وقراءة الفاتحة ، والركوع ، والاعتدال بعد الركوع ، والسجود على الأعضاء السبعة ، والجلسة بين السجدتين ، والطمأنينة في جميع الأفعال ، والترتيب بين الأركان ، والتشهد الأخير ، والجلوس له ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتسليمتان
الدرس الثامن : واجبات الصلاة
وهي ثمانية : جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام ، وقول سمع الله لمن حمده للإمام والمنفرد ، وقول ربنا ولك الحمد للكل ، وقول سبحان ربي العظيم في الركوع ، وقول سبحان ربي الأعلى في السجود ، وقول رب اغفر لي بين السجدتين ، والتشهد الأول ، والجلوس له .
الدرس التاسع : بيان التشهد
وهو ( التحيات ) : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
ثم يصلي على النبي عليه السلام ويبارك عليه فيقول : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .(155/281)
ثم يستعيذ بالله في التشهد الأخير من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال ، ثم يتخيّر من الدعاء ما شاء ولا سيما المأثور من ذلك ، ومنه : - اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ،
أما في التشهد الأول فيقوم بعد الشهادتين إلى الثالثة في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وإن صلى على النبي فهو أفضل لعموم الأحاديث في ذلك ثم يقوم إلى الثالثة .
الدرس العاشر : سنن الصلاة
ومنها :
1- الاستفتاح .
2- جعل كف اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر حين القيام .
3- رفع اليدين مضمومتي الأصابع ممدودة حذو المنكبين أو الأذنين ، عند التكبير الأول ، وعند الركوع والرفع منه ، وعند القيام من التشهد الأول إلى الثالثة .
4- ما زاد عن واحدة في تسبيح الركوع والسجود .
5- ما زاد عن واحدة في الدعاء بالمغفرة بين السجدتين .
6- جعل الرأس حيال الظهر في الركوع .
7- مجافاة العضدين عن الجنبين ، والبطن عن الفخذين في السجود .
8- رفع الذراعين عن الأرض حين السجود .
9- جلوس المصلي على رجله اليسرى ، ونصب اليمنى في التشهد الأول وبين السجدتين .
10- التورك في التشهد الأخير .
11- نصب الرجل اليمنى حين الجلوس .
12- الصلاة والتبريك على محمد وآل محمد وعلى إبراهيم وآل إبراهيم في التشهد الأول
13- الدعاء في التشهد الأخير .
14- الجهر بالقراءة في صلاة الفجر وصلاة الجمعة وصلاة العيدين والاستسقاء وفي الركعتين الأوليين من صلاة المغرب والعشاء .
15- الإسرار بالقراءة في الظهر والعصر وفي الثالثة من المغرب والأخيرتين من العشاء .(155/282)
16- قراءة ما زاد عن الفاتحة من القرآن ، مع مراعاة بقية ما ورد من السنن في الصلاة سوى ما ذكرنا ، ومن ذلك ما زاد على قول المصلي : ربنا ولك الحمد ، بعد الرفع من الركوع في حق الإمام والمأموم والمنفرد ، فإنه سنة ، ومن ذلك أيضا وضع اليدين على الركبتين مفرجتي الأصابع حين الركوع .
الدرس الحادي عشر : مبطلات الصلاة
وهي ثمانية :
1- الكلام العمد مع الذكر والعلم ، أما الناسي والجاهل فلا تبطل صلاته بذلك .
2- الضحك .
3- الأكل .
4- الشرب .
5- انكشاف العورة .
6- الانحراف الكثير عن جهة القبلة .
7- العبث الكثير المتوالي في الصلاة .
8- انتقاض الطهارة .
الدرس الثاني عشر : شروط الوضوء
وهي عشرة : الإسلام والعقل والتمييز والنية واستصحاب حكمها بأن لا ينوي قطعها حتى تتم طهارته ، وانقطاع موجب الوضوء ، واستنجاء أو استجمار قبله ، وطهورية ماء وإباحته ، وإزالة ما يمنع وصوله إلى البشرة ، ودخول وقت الصلاة في حق من حدثه دائم .
الدرس الثالث عشر : فروض الوضوء
وهي ستة : غسل الوجه ومنه المضمضة والاستنشاق ، وغسل اليدين مع المرفقين ، ومسح جميع الرأس ومنه الأذنان ، وغسل الرجلين مع الكعبين ، والترتيب والموالاة ، ويستحب تكرار غسل الوجه واليدين والرجلين ثلاث مرات . وهكذا المضمضة والاستنشاق .
والفرض من ذلك مرة واحدة ، أما مسح الرأس فلا يستحب تكراره كما دلّت على ذلك الأحاديث الصحيحة .
الدرس الرابع عشر : نواقض الوضوء وهي ستة
الخارج من السبيلين ، والخارج الفاحش النجس من الجسد ، وزوال العقل بنوم أو غيره ، ومسّ الفرج باليد قبلا كان أو دبرا من غير حائل ، وأكل لحم الإبل ، والردة عن الإسلام ، أعاذنا الله والمسلمين من ذلك .
تنبيه هام : أما غسل الميت : فالصحيح أنه لا ينقض الوضوء ، وهو قول أكثر أهل العلم ، لعدم الدليل على ذلك . لكن لو أصابت يد الغاسل فرج الميت من غير حائل وجب عليه الوضوء .(155/283)
والواجب عليه ألا يمس فرج الميت إلا من وراء حائل .
وهكذا مسّ المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا سواء كان ذلك عن شهوة أو غير شهوة في أصح قولي العلماء ، ما لم يخرج منه شيء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم صلّى ، ولم يتوضأ .
أما قول الله سبحانه في آيتي النساء والمائدة : أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فالمراد به الجماع في الأصح من قولي العلماء ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف والخلف . . . والله ولي التوفيق .
الدرس الخامس عشر : التحلي بالأخلاق المشروعة لكل مسلم
ومنها الصدق والأمانة والعفاف والحياء والشجاعة ، والكرم والوفاء والنزاهة عن كل ما حرم الله ، وحسن الجوار ، ومساعدة ذوي الحاجة حسب الطاقة ، وغير ذلك من الأخلاق التي دل الكتاب أو السنة على شرعيتها
الدرس السادس عشر : التأدب بالآداب الإسلامية
ومنها السلام والبشاشة والأكل باليمين والشرب بها ، والتسمية عند الابتداء ، والحمد عند الفراغ ، والحمد بعد العطاس ، وتشميت العاطس إذا حمد الله . وعيادة المريض واتباع الجنائز للصلاة والدفن . والآداب الشرعية عند دخول المسجد أو المنزل والخروج منهما ، وعند السفر ومع الوالدين والأقارب والجيران ، والكبار والصغار ، والتهنئة بالمولود ، والتبريك بالزواج والتعزية في المصاب ، وغير ذلك من الآداب الإسلامية في اللبس والخلع والانتعال .
الدرس السابع عشر : التحذير من الشرك ، وأنواع المعاصي
ومنها : السبع الموبقات " المهلكات " وهي الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .
ومنها عقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم ، وشهادة الزور والأيمان الكاذبة وإيذاء الجار ، وظلم الناس في الدماء والأموال والأعراض ، وغير ذلك مما نهى الله عنه ، أو رسوله صلى الله عليه وسلم .(155/284)
الدرس الثامن عشر : تجهيز الميت والصلاة عليه ، وإليك تفصيل ذلك :
تجهيز الميت
1- إذا تيقن موته ، أغمضت عيناه وشد لحياه .
2- يجب تغسيل الميت المسلم إلا أن يكون شهيدا مات في المعركة فإنه لا يغسل ولا يصلى عليه بل يدفن في ثيابه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغسل قتلى أحد ولم يصل عليهم .
3- وصفة غسل الميت أنه تستر عورته ، ثم يرفع قليلا ، ويعصر بطنه عصرا رفيقا ثم يلف الغاسل على يده خرقة أو نحوها فينجيه بها ، ثم يوضئه وضوء الصلاة ، ثم يغسل رأسه ولحيته بماء وسدر أو نحوه ، ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر ، ثم يغسله كذلك مرة ثانية وثالثة ، يمر في كل مرة يده على بطنه ، فإن خرج منه شيء غسله ، وسد المحل بقطن أو نحوه . فإن لم يستمسك فبطين حر أو بوسائل الطب الحديثة كاللزق ونحوه .
ويعيد وضوءه ، وإن لم ينق بثلاث زيد إلى خمس أو إلى سبع . ثم ينشفه بثوب ، ويجعل الطيب في مغابنه ومواضع سجوده ، وإن طيبه كله كان حسنا ، ويجمر أكفانه بالبخور ، وإن كان شاربه أو أظفاره طويلة أخذ منها ، ولا يسرح شعره ، والمرأة يظفر شعرها ثلاثة قرون ، ويسدل من ورائها .
4- تكفين الميت الأفضل أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض ، ليس فيها قميص ولا عمامة ، يدرج فيها إدراجا ، وإن كفن في قميص وإزار ولفافة فلا بأس ، والمرأة تكفن في خمسة أثواب : في درع ، وخمار ، وإزار ولفافتين .(155/285)
ويكفن الصبي في ثوب واحد إلى ثلاثة أثواب ، وتكفن الصغيرة في قميص ولفافتين والواجب في حق الجميع ثوب واحد يستر جميع الميت . لكن إذا كان الميت محرما فإنه يغسل بماء وسدر ويكفن في إزاره وردائه أو في غيرهما ولا يغطى رأسه ولا وجهه ولا يطيب لأنه يبعث يوم القيامة ملبيا كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإن كان المحرم امرأة كفنت كغيرها لكن لا تطيب ولا يغطى وجهها بنقاب ولا يداها بقفازين ولكن يغطى وجهها ويداها بالكفن الذي كفنت فيه كما تقدم بيان صفة تكفين المرأة .
5- أحق الناس بغسله والصلاة عليه ودفنه وصيه في ذلك ثم الأب ثم الجد ثم الأقرب فالأقرب من العصبات .
والأولى بغسل المرأة وصيتها ثم الأم ثم الجدة ، ثم الأقرب فالأقرب من نسائها . وللزوجين أن يغسل أحدهما الآخر ، لأن الصديق رضي الله عنه غسلته زوجته . ولأن عليا رضي الله عنه غسل زوجته فاطمة رضي الله عنها .
6- صفة الصلاة على الميت :
يكبر أربعا ، ويقرأ بعد الأولى الفاتحة ، وإن قرأ معها سورة قصيرة أو آية أو آيتين فحسن للحديث الصحيح الوارد في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم كصلاته في التشهد ، ثم يكبر الثالثة ويقول : اللهم اغفر لحينا وميتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ، اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله ووسع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وأدخله الجنة ، وأعذه من عذاب القبر ، وعذاب النار ، وافسح له في قبره ، ونور له فيه ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تضلّنا بعده . ثم يكبر الرابعة ، ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه .(155/286)
ويستحب أن يرفع يديه مع كل تكبيرة ، وإذا كان الميت امرأة يقال : " اللهم اغفر لها . . إلخ " وإذا كانت الجنائز اثنتين يقال : " اللهم اغفر لهما " وبالجمع إن كانت أكثر .
أما إذا كان فرطا فيقال بدل الدعاء له بالمغفرة : " اللهم اجعله فرطا وذخرا لوالديه ، وشفيعا مجابا ، اللهم ثقل به موازينهما ، وأعظم به أجورهما ، وألحقه بصالح سلف المؤمنين ، واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام ، وقه برحمتك عذاب الجحيم "
- والسنة أن يقف الإمام حذاء رأس الرجل ، ووسط المرأة ، وأن يكون الرجل مما يلي الإمام إذ اجتمعت الجنائز . والمرأة مما يلي القبلة . وإن كان معهم أطفال قدم الصبي على المرأة ، ثم المرأة ثم الطفلة ، ويكون رأس الصبي حيال رأس الرجل ، ووسط المرأة حيال رأس الرجل . وهكذا الطفلة يكون رأسها حيال رأس المرأة ، ويكون وسطها حيال رأس الرجل ، ويكون المصلون جميعا خلف الإمام إلا أن يكون واحدا لم يجد مكانا خلف الإمام فإنه يقف عن يمينه .
والحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله وصحبه .
إيضاح الحق في دخول الجني في الإنسي والرد على من أنكر ذلك
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه . .(155/287)
أما بعد . . فقد نشرت بعض الصحف المحلية وغيرها في شعبان من هذا العام أعني عام 1407 هـ أحاديث مختصرة ومطولة عما حصل من إعلان بعض الجن - الذي تلبس ببعض المسلمات في الرياض - إسلامه عندي بعد أن أعلنه عند الأخ عبد الله بن مشرف العمري المقيم في الرياض ، بعدما قرأ المذكور على المصابة وخاطب الجني وذكره بالله ووعظه وأخبره أن الظلم حرام وكبيرة عظيمة ودعاه إلى الإسلام لما أخبره الجني أنه كافر بوذي ودعاه إلى الخروج منها ، فاقتنع الجني بالدعوة وأعلن إسلامه عند عبد الله المذكور ، ثم رغب عبد الله المذكور وأولياء المرأة أن يحضروا عندي بالمرأة حتى أسمع إعلان إسلام الجني فحضروا عندي فسألته عن أسباب دخوله فيها فأخبرني بالأسباب ونطق بلسان المرأة لكنه كلام رجل وليس كلام امرأة ، وهي في الكرسي الذي بجواري وأخوها وأختها وعبد الله بن مشرف المذكور وبعض المشايخ يشهدون ذلك ويسمعون كلام الجني ، وقد أعلن إسلامه صريحا وأخبر أنه هندي بوذي الديانة ، فنصحته وأوصيته بتقوى الله ، وأن يخرج من هذه المرأة ويبتعد عن ظلمها ، فأجابني إلى ذلك ، وقال : أنا مقتنع بالإسلام ، وأوصيته أن يدعو قومه للإسلام بعدما هداه الله له فوعد خيرا وغادر المرأة وكان آخر كلمة قالها : السلام عليكم .
ثم تكلمت المرأة بلسانها المعتاد وشعرت بسلامتها وراحتها من تعبه . ثم عادت إلي بعد شهر أو أكثر مع أخويها وخالها وأختها وأخبرتني أنها في خير وعافية وأنه لم يعد إليها والحمد لله ، وسألتها عما كانت تشعر به حين وجوده بها فأجابت بأنها كانت تشعر بأفكار رديئة مخالفة للشرع وتشعر بميول إلى الدين البوذي والاطلاع على الكتب المؤلفة فيه ، ثم بعدما سلمها الله منه زالت عنها هذه الأفكار ورجعت إلى حالها الأولى البعيدة من هذه الأفكار المنحرفة .(155/288)
وقد بلغني عن فضيلة الشيخ علي الطنطاوي أنه أنكر مثل حدوث هذا الأمر وذكر أنه تدجيل وكذب ، وأنه يمكن أن يكون كلاما مسجلا مع المرأة ولم تكن نطقت بذلك . وقد طلبت الشريط الذي سجل فيه كلامه وعلمت منه ما ذكر ، وقد عجبت كثيرا من تجويزه أن يكون ذلك مسجلا مع أني سألت الجني عدة أسئلة وأجاب عنها ، فكيف يظن عاقل أن المسجل يسأل ويجيب ، هذا من أقبح الغلط ومن تجوبز الباطل ، وزعم أيضا في كلمته أن إسلام الجني على يد الإنسي يخالف قول الله تعالى في قصة سليمان : وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ولا شك أن هذا غلط منه أيضا هداه الله وفهم باطل فليس في إسلام الجني على يد الإنسي ما يخالف دعوة سليمان .
فقد أسلم جم غفير من الجن على يد النبي صلى الله عليه وسلم . . وقد أوضح الله ذلك في سورة الأحقاف وسورة الجن وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه فذعتّه ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول أخي سليمان عليه السلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرده الله خاسئا(155/289)
هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم : إن عفريتا من الجن جعل يفتك علي البارحة ليقطع علي الصلاة وإن الله أمكنني منه فذعته فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم ثم ذكرت قول أخي سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرده الله خاسئا وروى النسائي على شرط البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حتى وجدت برد لسانه على يدي ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس ورواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد وفيه : فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها(155/290)
وخرج البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به جـ 4 ص 487 من الفتح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت : والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة ، قال فخليت عنه ، فأصبحت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته فخليت سبيله . قال : أما إنه قد كذبك وسيعود ، فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرصدته فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال ولا أعود ، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة " قلت : يا رسول الله ، شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله " قال : " أما إنه قد كذبك وسيعود " فرصدته الثالثة ، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ثم تعود . . قال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت : ما هي؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فعل أسيرك البارحة " قلت : يا رسول الله ، زعم أن يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله ، قال : " ما هي؟ " قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء(155/291)
على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة " ؟ قال : لا قال " ذاك شيطان
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان عن صفية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . وروى الإمام أحمد رحمه الله في المسند جـ 4 ص 216 بإسناد صحيح أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، حال الشيطان بيني وبين صلاتي وبين قراءتي ، قال : " ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أنت حسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا " قال : ففعلت ذاك فأذهبه الله عز وجل عني
كما ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان معه قرين من الملائكة وقرين من الشياطين حتى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الله أعانه عليه فأسلم فلا يأمره إلا بخير . وقد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على جواز دخول الجني بالإنسي وصرعه إياه ، فكيف يجوز لمن ينتسب إلى العلم أن ينكر ذلك بغير علم ولا هدى ، بل تقليدا لبعض أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة؟ فالله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأنا أذكر لك أيها القارئ ما تيسر من كلام أهل العلم في ذلك إن شاء الله . _
رد إرسل للشيخ علي الطنطاوي بتاريخ 2 /11 / 1408 هـ
بيان كلام المفسرين رحمهم الله في قوله تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ
قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ما نصه :(155/292)
يعني بذلك يخبله الشيطان في الدنيا وهو الذي يخنقه فيصرعه " من المس " يعني : من الجنون . وقال البغوي رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه : لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ أي : الجنون . يقال مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونا . ا هـ .
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية المذكورة ما نصه : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ أي : لا يقومون من قبورهم بوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم قياما منكرا .
وقال ابن عباس رضي الله عنه آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن عوف ابن مالك وسعيد بن جبير ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان نحو ذلك . انتهى المقصود من كلامه رحمه الله .
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره على قوله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس . ا هـ .
وكلام المفسرين في هذا المعنى كثير من أراده وجده .(155/293)
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه [إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين] الموجود في مجموع الفتاوى جـ 19 ص 9 إلى ص 65 ما نصه بعد كلام سبق . ( ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر الرازي وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن ، إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك . ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون أن الجني يدخل في بدن المصروع ، كما قال تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل قلت لأبي إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي فقال يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه . وهذا مبسوط في موضعه ) .
وقال أيضا رحمه الله في جـ 24 من الفتاوى ص 276- 277 ما نصه . ( وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة قال الله تعالى : الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " ) .(155/294)
وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : ( قلت : لأبي إن أقواما يقولون : إن الجني لا يدخل بدن المصروع ، فقال : يا بني ، يكذبون . هو ذا يتكلم على لسانه ) ، وهذا الذي قاله أمر مشهور ، فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ، ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما ، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله ، وقد يجر المصروع غير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول الآلات وينقل من مكان إلى مكان ، ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان . وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع ، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع ، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك ) . ا هـ .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه [زاد المعاد في هدي خير العباد] جـ 4 ص 66 إلى 69 ما نصه :
( الصرع صرعان : صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية ، وصرع من الأخلاط الرديئة ، والثاني : هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه .
وأما صرع الأرواح . فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه . ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدافع أثارها ، وتعارض أفعالها وتبطلها . وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه . فذكر بعض علاج الصرع . وقال : ( هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة ، وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج .
وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح ، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع وليس معهم إلا الجهل ، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك ، والحس والوجود شاهد به ، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها .(155/295)
إلى أن قال : وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم ) .
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين : أمر من جهة المصروع ، وأمر من جهة المعالج ، فالذي من جهة المصروع : يكون بقوة نفسه . وصدق توجهه إلى فاطر . هذه الأرواح وبارئها . والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان . فإن هذا نوع محاربة . والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين : أن يكون السلاح صحيحا في نفسه جيدا وأن يكون الساعد قويا فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل . فكيف إذا عدم الأمران جميعا ، ويكون القلب خرابا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه ، ولا سلاح له .
والثاني من جهة المعالج : بأن يكون فيه هذان الأمران أيضا ، حتى أن من المعالجين من يكتفي بقوله : ( اخرج منه ) أو يقول : ( بسم الله ) أو يقول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : اخرج عدو الله أنا رسول الله
وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه . ويقول قال لك الشيخ : اخرجي ، فإن هذا لا يحل لك ، فيفيق المصروع ، وربما خاطبها بنفسه وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب . فيفيق المصروع ولا يحس بألم ، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارا . . . إلى أن قال : وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة ، وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية ، فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه وربما كان عريانا فيؤثر فيه هذا . . ) . انتهى المقصود من كلامه رحمه الله .(155/296)
وبما ذكرناه من الأدلة الشرعية وإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على جواز دخول الجني بالإنسي ، يتبين للقراء بطلان قول من أنكر ذلك وخطأ فضيلة الشيخ علي الطنطاوي في إنكاره ذلك .
وقد وعد في كلمته أنه يرجع إلى الحق متى أرشد إليه فلعله يرجع إلى الصواب بعد قراءته ما ذكرنا ، نسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق .
ومما ذكرنا أيضا يعلم أن ما نقلته صحيفة الندوة في عددها الصادر في 14 / 10 / 1407 هـ ص 8 عن الدكتور محمد عرفان من أن كلمة جنون اختفت من القاموس الطبي ، وزعمه أن دخول الجني في الإنسي ونطقه على لسانه أنه مفهوم علمي خاطئ مائة في المائة . كل ذلك باطل نشأ عن قلة العلم بالأمور الشرعية وبما قرره أهل العلم من أهل السنة والجماعة ، وإذا خفي هذا الأمر على كثير من الأطباء لم يكن ذلك حجة على عدم وجوده بل يدل ذلك على جهلهم العظيم بما علمه غيرهم من العلماء المعروفين بالصدق والأمانة والبصيرة بأمر الدين ، بل هو إجماع من أهل السنة والجماعة ، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عن جميع أهل العلم ، ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنه نقل ذلك عن أهل السنة والجماعة ونفل ذلك أيضا عن أبي الحسن الأشعري العلامة أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي المتوفي سنة 799 هـ في كتابه [آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان] في الباب الحادي والخمسين من كتابه المذكور .
وقد سبق في كلام ابن القيم رحمه الله أن أئمة الأطباء وعقلاءهم يعترفون به ولا يدفعونه ، وإنما أنكر ذلك جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم وزنادقتهم . فاعلم ذلك أيها القارئ وتمسك بما ذكرناه من الحق ولا تغتر بجهلة الأطباء وغيرهم ولا بمن يتكلم في هذا الأمر بغير علم ولا بصيرة ، بل بالتقليد لجهلة الأطباء وبعض أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ، والله المستعان . .
تنبيه(155/297)
قد دل ما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام أهل العلم على أن مخاطبة الجني ووعظه وتذكيره ودعوته للإسلام وإجابته إلى ذلك ليس مخالفا لما دل عليه قوله تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام في سورة ص أنه قال : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وهكذا أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وضربه إذا امتنع من الخروج كل ذلك لا يخالف الآية المذكورة بل ذلك واجب من باب دفع الصائل ونصر المظلوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يفعل ذلك مع الإنسي . .
وقد سبق في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم : ذعت الشيطان حتى سال لعابه على يده الشريفة عليه الصلاة والسلام وقال لولا دعوة أخي سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس وفي رواية لمسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وهكذا كلام أهل العلم ، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق ، واسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه ، والثبات عليه ، وأن يمن علينا جميعا بإصابة الحق في الأقوال والأعمال ، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من القول عليه بغير علم ، ومن إنكار ما لم نحط به علما ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان .
حكم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :(155/298)
فلقد شاع بين كثير من الناس من الكتاب وغيرهم ما يسمى بعلم تحضير الأرواح ، وزعموا أنهم يستحضرون أرواح الموتى بطريقة اخترعها المشتغلون بهذه الشعوذة يسألونها عن أخبار الموتى من نعيم وعذاب وغير ذلك من الشئون التي يظن أن عند الموتى علما بها في حياتهم . ولقد تأملت هذا الموضوع كثيرا فاتضح لي أنه علم باطل وأنه شعوذة شيطانية يراد منها إفساد العقائد والأخلاق والتلبيس على المسلمين والتوصل إلى دعوى علم الغيب في أشياء كثيرة .
ولهذا رأيت أن أكتب في ذلك كلمة موجزة لإيضاح الحق والنصح للأمة كشف التلبيس عن الناس ، فأقول : لا ريب أن هذه المسألة مثل جميع المسائل يجب ردها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما أثبتاه أو أحدهما أثبتناه ، وما نفياه أو أحدهما نفيناه ، كما قال الله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
ومسألة ( الروح ) من الأمور الغيبية التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها ومعرفة كنهها فلا يصح الخوض فيها إلا بدليل شرعي ، قال الله تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا وقال سبحانه في سورة النمل : قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ الآية .(155/299)
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في المراد بالروح في قوله تعالى في سورة الإسراء وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا فقال بعضهم : إنه الروح الذي في الأبدان وعلى هذا فالآية دليل على أن الروح أمر من أمر الله لا يعلم الناس عنه شيئا إلا ما علمهم الله إياه؛ لأن ذلك أمر من الأمور التي اختص الله سبحانه بعلمها وحجب ذلك عن الخلق ، وقد دل القران الكريم والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أرواح الموتى تبقى بعد موت الأبدان ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى الآية .
وثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد فريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نراه انطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ، قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه .(155/300)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله ( والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به ) ونقل ابن القيم أن ابن عباس رضي الله عنهما قال في تفسير قوله تعالي اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
( بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها ) ثم قال ابن القيم رحمه الله : ( وقد دل على التقاء أرواح الأحياء والأموات أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره ويخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبر ) . فهذا هو الذي عليه السلف من أن أرواح الأموات باقية إلى ما شاء الله وتسمع ، ولكن لم يثبت أنها تتصل بالأحياء في غير المنام ، كما أنه لا صحة لما يدعيه المشعوذون من قدرتهم على تحضير أرواح من يشاءون من الأموات ويكلمونها ويسألونها فهذه إدعاءات باطلة ليس لها ما يؤيدها من النقل ولا من العقل ، بل إن الله سبحانه وتعالى هو العالم بهذه الأرواح والمتصرف فيها وهو القادر على ردها إلى أجسامها متى شاء ذلك ، فهو المتصرف وحده في ملكه وخلافه لا ينازعه منازع . أما من يدعي غير ذلك فهو يدعي ما ليس له به علم ، ويكذب على الناس فيما يروجه من أخبار الأرواح؛ إما لكسب مال ، أو لإثبات قدرته على ما لا يقدر عليه غيره ، أو للتلبيس على الناس لإفساد الدين والعقيدة .(155/301)
وما يدعيه هؤلاء الدجالون من تحضير الأرواح إنما هي أرواح شياطين يخدمها بعبادتها وتحقيق مطالبها وتخدمه بما يطلب منها كذبا وزورا في انتحالها أسماء من يدعونه من الأموات ، كما قال الله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ وقال تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وذكر علماء التفسير أن استمتاع الجن بالإنس بعبادتهم إياهم بالذبائح والنذور والدعاء وأن استمتاع الإنس بالجن قضاء حوائجهم التي يطلبونها منهم ، وإخبارهم ببعض المغيبات التي يطلع عليها الجن في بعض الجهات النائية ، أو يسترقونها من السمع أو يكذبونه وهو الأكثر ولو فرضنا أن هؤلاء الإنس لا يتقربون إلى الأرواح التي يستحضرونها بشيء من العبادة فإن ذلك لا يوجب حل ذلك وإباحته لأن سؤال الشياطين والعرافين والكهنة والمنجمين ممنوع شرعا ، وتصديقهم فما يخبرون به أعظم تحريما وأكبر إثما بل هو من شعب الكفر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة وفي مسند أحمد والسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم(155/302)
وقد جاء في هذا المعنى أحاديث وآثار كثيرة ، ولا شك أن هذه الأرواح التي يستحضرونها بزعمهم داخلة فيما منع منه النبي صلى الله عليه وسلم: لأنها من جنس الأرواح التي تقترن بالكهان والعرافين من أصناف الشياطين فيكون لها حكمها ، فلا يجوز سؤالها ولا استحضارها ولا تصديقها ، بل كل ذلك محرم ومنكر بل وباطل ، لما سمعت من الأحاديث والآثار في ذلك ، ولأن ما ينقلونه عن هذه الأرواح يعتبر من علم الغيب ، وقد قال الله سبحانه : قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ
وقد تكون هذه الأرواح هي الشياطين المقترنة بالأموات الذين طلبوا أرواحهم فتخبر بما تعلمه من حال الميت في حياته مدعية أنها روح الميت الذي كانت مقترنة به ، فلا يجوز تصديقها ولا استحضارها ولا سؤالها كما تقدم الدليل على ذلك . وما يحضره ليس إلا الشياطين والجن يستخدمهم مقابل ما يتقرب به إليهم من العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله فيصل بذلك إلى حد الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة -
نعوذ بالله من ذلك - .
كلمة من سماحته نشرت بالصحف المحلية والإسلامية في حدود عام 1395 هـ(155/303)
ولقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في دار الإفتاء السعودية فتوى عن التنويم المغناطيسي الذي هو أحد أنواع تحضير الأرواح هذا نصها : ( التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة باستخدام جني يسلطه المنوم على المنوم فيتكلم بلسانه ويكسبه قوة على بعض الأعمال بسيطرته عليه إن صدق مع المنوم وكان طوعا له مقابل ما يتقرب به المنوم إليه ، ويجعل ذلك الجني المنوم طوع إرادة المنوم يقوم بما يطلبه منه من الأعمال بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوم ، وعلى ذلك لكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقا أو وسيلة للدلالة على مكان سرقة أو ضالة أو علاج مريض ، أو القيام بأي عمل آخر بواسطة المنوم غير جائز بل هو شرك لما تقدم ، ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها الله سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم ) انتهى كلام اللجنة .
وممن كشف حقيقة هذه الدعوى الباطلة الدكتور محمد محمد حسين في كتابه [الروحية الحديثة حقيقتها وأهدافها] وكان ممن خدع بهذه الشعوذة زمنا طويلا ، ثم هداه الله إلى الحق وكشف زيف تلك الدعوى بعد أن توغل فيها ولم يجد فيها سوى الخرافات والدجل ، وقد ذكر أن المشتغلين بتحضير الأرواح يسلكون طرقا مختلفة ، منهم المبتدئون الذين يعتمدون على كوب صغير أو فنجان يتنقل بين حروف قد رسمت فوق منضدة ، وتتكون إجابات الأرواح المستحضرة - حسب زعمهم - من مجموع الحروف بحسب ترتيب تنقله فيها ، ومنهم من يعتمد على طريقة السلة يوضع في طرفها قلم يكتب الإجابات على أسئلة السائلين ، ومنهم من يعتمد على وسيط كوسيط التنويم المغناطيسي .(155/304)
وذكر أنه يشك في مدعي تحضير الأرواح وأن وراءهم من يدفعهم بدليل الدعاية التي عملت لهم ، فتسابقت إلى تتبع أخبارهم ونشر ادعاءاتهم صحف ومجلات لم تكن من قبل تنشط لشيء يمس الروح أو الحياة الآخرة ، ولم تكن في يوم من الأيام داعية إلى الدين أو الإيمان بالله . وذكر أنهم يهتمون بإحياء الدعوة الفرعونية وغيرها من الدعوات الجاهلية ، كما ذكر أن الذين روجوا لأصل هذه الفكرة هم أناس فقدوا عزيزا عليهم فيعزون أنفسهم بالأوهام ، وأن أشهر من روج لهذه البدعة السيد أوليفر لودج الذي فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى ، ومثله مؤسس الروحية في مصر أحمد فهمي أبو الخير الذي مات ابنه عام 1937 م ، وكان رزق به بعد طول انتظار .
وذكر الدكتور محمد محمد حسين أنه مارس هذه البدعة فبدأ بطريقة الفنجان والمنضدة فلم يجد فيها ما يبعث على الاقتناع ، وانتهى إلى مرحلة الوسيط ، وحاول مشاهدة ما يدعونه من تجسيد الروح أو الصوت المباشر ويرونه دليل دعواهم فلم ينجح هو ولا غيره؛ لأنه لا وجود لذلك في حقيقة الأمر ، وإنما هي ألاعيب محكمة تقوم على حيل خفية بارعة ترمي إلى هدم الأديان . وأصبحت الصهيونية العالمية الهدامة ليست بعيدة عنها . ولما لم يقتنع بتلك الأفكار الفاسدة وكشف حقيقتها انسحب منها وعزم على توضيح الحقيقة للناس ويقول : ( إن هؤلاء المنحرفين لا يزالون بالناس حتى يستلوا من صدورهم الإيمان وما استقر في نفوسهم من عقيدة ويسلمونهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام . ومدعو تحضير الأرواح لا يثبتون للرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلا صفة الوساطة الروحية كما قال زعيمهم أرثر فندلاي في كتابه [على حافة العالم الأثري] عن الأنبياء هم : وسطاء في درجة عالية من درجات الوساطة والمعجزات التي جرت على أيديهم ليست إلا ظواهر روحية كالظواهر التي تحدث في حجرة تحضير الأرواح ) .(155/305)
ويقول الدكتور حسين : ( إنهم إذا فشلوا في تحضير الأرواح قالوا : الوسيط غير ناجح أو مجهد أو إن شهود الجلسة غير متوافقين ، أو إن بينهم من حضر إلى الاجتماع شاكا أو متحديا ) . ومن بين مزاعمهم الباطلة أنهم زعموا أن جبريل عليه السلام يحضر جلساتهم ويباركها - قبحهم الله - انتهى المقصود من كلام الدكتور محمد محمد حسين .
ومما ذكرناه في أول الجواب وما ذكرته اللجنة والدكتور محمد محمد حسين في التنويم المغناطيسي يتضح بطلان ما يدعيه محادثو الأرواح من كونهم يحضرون أرواح الموتى ويسألونهم عما أرادوه ، ويعلم أن هذه كلها أعمال شيطانية وشعوذة باطلة داخلة فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الكهنة والعرافين وأصحاب التنجيم ونحوهم ، والواجب على المسئولين في الدول الإسلامية منع هذا الباطل والقضاء عليه وعقوبة من يتعاطاه حتى يكف عنه ، كما أن الواجب على رؤساء تحرير الصحف الإسلامية أن لا ينقلوا هذا الباطل وأن لا يدنسوا به صحفهم ، وإذا كان لابد من نقل فليكن نقل الرد والتزييف والإبطال والتحذير من ألاعيب الشياطين من الإنس والجن ومكرهم وخداعهم وتلبيسهم على الناس ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وهو المسئول سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين ، ويمنحهم الفقه في الدين ، ويعيذهم من خداع المجرمين وتلبيس أولياء الشياطين إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ، أما بعد :(155/306)
فقد سئلت عن حكم التوسل بالموتى وزيارة القبور؟ ، فأجبت بما يلي : إذا كانت الزيارة لسؤال الموتى والتقرب إليهم بالذبائح والنذر لهم والاستغاثة بهم ودعوتهم من دون الله فهذا شرك أكبر . وهكذا ما يفعلونه مع من يسمونهم بالأولياء سواء كانوا أحياء أو أمواتا ، حيث يعتقدون فيهم أنهم ينفعونهم أو يضرونهم أو يجيبون دعوتهم أو يشفون مرضاهم ، كل هذا شرك أكبر والعياذ بالله . وهذا كعمل المشركين مع اللات والعزى ومناة ومع أصنامهم وآلهتهم الأخرى .
والواجب على ولاة الأمر والعلماء في بلاد المسلمين أن ينكروا هذا العمل ، وأن يعلموا الناس ما يحب عليهم من شرع الله ، وأن يمنعوا هذا الشرك وأن يحولوا بين العامة وبينه ، وأن يهدموا القباب التي على القبور ويزيلوها؛ لأنها فتنة ولأنها من أسباب الشرك ولأنها محرمة ، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور ، وأن تجصص ، وأن يقعد عليها ، وأن يصلى إليها ، ولعن من اتخذ عليها المساجد فلا يجوز البناء عليها لا مساجد ولا غيرها ، بل يجب أن تكون بارزة ليس عليها بناء كما كانت قبور المسلمين في المدينة المنورة ، وفي كل بلد إسلامي لم يتأثر بالبدع والأهواء .
أما زيارة القبور للذكرى والدعاء للميت والترحم عليه فذلك سنة في حق الرجال من دون شد رحل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة خرجه مسلم في صحيحه . وكان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وخرج الترمذي رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال " السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر(155/307)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
نشر هذا السؤال وجوابه بالمجلة العربية التي تصدر بالرياض
الإجابة على أسئلة تتعلق بحكم التقرب بذبح الخرفان في أضرحة الأولياء الصالحين والصلاة بجوارها
سماحة الشيخ المحترم عبد العزيز بن باز .
أخوكم في الله - من الجمهورية التونسية - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد :
كل أملي في الله ثم فيكم يا فضيلة الشيخ بأن تجيبوا على أسئلتي عبر مجلتي المحبوبة [الدعوة] ولكم الشكر سلفا . .
السؤال الأول :
ذهبت إلى الريف مرة وصادف أن أتى يوم عيد الأضحى ، فرأيت الناس نساء ورجالا قد سارعت إلى مقبرة لزيارة القبور . . وراعني في صباح يوم العيد أن أقام كل من حضر؛ الصلاة في المقبرة . . وكان قد تقدمهم كهل فصلى بهم جميعا إلا أنا بقيت في حيرة وذهول مما رأيت ولم أصل معهم تلك الصلاة التي أسموها بصلاة العيد . سؤالي : ما حكم الإسلام في هذه الصلاة؟ علما بأن أهل الريف الذين أقصدهم ليس لديهم لا مسجد ولا جامع . . إذ يسكنون الخيام متفرقين عن بعضهم البعض . . ملاحظة : ( عندما أقول إنهم صلوا في المقبرة يعني بجوارها . . بعيدين عن القبور كل البعد ) . .
السؤال الثاني :
أزور كل حين وحين أهلي وعشيرتي بعد فراق يدوم أحيانا ستة شهور وأحيانا سنة كاملة . . وعندما أصل البيت تستقبلني النسوة " صغارا وكبارا " فيقبلنني تقبيلا محتشما ومخجلا . . والحق يقال أن هذه عادة متفشية جدا عندنا ولا تعني شيئا عند عشيرتي ، إذ هي لا تمثل حسب رأيهم حراما يرتكب لكني أنا الذي أكسب ثقافة إسلامية لا بأس بها والحمد لله بقيت في حيرة وذهول من هذا الأمر . .(155/308)
سؤالي : كيف يمكنني أن أتلافى تقبيل النسوة علما بأني لو صافحتهن لغضبن مني شديد الغضب ولقلن هو لا يحترمنا ويكرهنا ولا يحبنا - الحب الذي يربط الأفراد لا الحب الذي يربط بين الفتى والفتاة . . وهل أكون ارتكبت معصية إذا قبلتهن؟ علما بأنني لا أملك نية خبيثة في ذلك .
السؤال الثالث :
التقرب بذبح الخرفان في أضرحة الأولياء الصالحين ما زال موجودا في عشيرتي . . نهيت عنه لكنهم لم يزدادوا إلا عنادا . قلت لهم : إنه إشراك بالله . قالوا : نحن نعبد الله حق عبادته ، لكن ما ذنبنا إن زرنا أولياءه وقلنا لله في تضرعاتنا : " بحق وليك الصالح فلان . . اشفنا أو أبعد عنا الكرب الفلاني . . " قلت : ليس ديننا دين وساطة . قالوا : اتركنا وحالنا . سؤالي : ما الحل الذي تراه صالحا لعلاج هؤلاء . . ماذا أعمل تجاههم . . وكيف أحارب البدعة؟ وشكرا .
ج1- الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . . صلاة العيد إنما تقام في المدن والقرى ولا تشرع إقامتها في البوادي والسفر ، هكذا جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم صلوا صلاة العيد في السفر ولا في البادية . وقد حج حجة الوداع عليه الصلاة والسلام فلم يصل الجمعة في عرفة وكان ذلك اليوم هو يوم عرفة ولم يصل صلاة العيد في منى وفي اتباعه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم عنهم كل الخير والسعادة ، والله ولي التوفيق .(155/309)
ج2- لا يجوز للمسلم أن يصافح أو يقبل غير زوجته ومحارمه بل ذلك من المحرمات ومن أسباب الفتنة وظهور الفواحش ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني لا أصافح النساء وقالت عائشة رضي الله عنها : ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط حين البيعة إنما كان يبايعهن بالكلام وأقبح من المصافحة للنساء غير المحارم تقبيلهن سواء كن من بنات العم أو بنات الخال أو من الجيران أو من سائر القبيلة كل ذلك محرم بإجماع المسلمين . .
ومن أعظم الوسائل لوقوع الفواحش المحرمة . فالواجب على المسلم الحذر من ذلك وإقناع جميع النساء المعتادات لذلك من الأقارب وغيرهم بأن ذلك محرم ولو اعتاده الناس ، ولا يجوز للمسلم ولا للمسلمة فعله وإن اعتاده قرابتهم أو أهل بلدهم ، بل يجب إنكار ذلك وتحذير المجتمع منه ، ويكتفي بالكلام في السلام من غير مصافحة ولا تقبيل .
ج3- من المعلوم بالأدلة من الكتاب والسنة ، أن التقرب بالذبح لغير الله من الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات شرك بالله ومن أعمال الجاهلية والمشركين ، قال الله عز وجل : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ والنسك هو : الذبح ، بين سبحانه في هذه الآية أن الذبح لغير الله شرك بالله كالصلاة لغير الله .(155/310)
وقال تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أمر الله سبحانه نبيه في هذه السورة الكريمة أن يصلي لربه وينحر . خلافا لأهل الشرك الذين يسجدون لغير الله ويذبحون لغيره . وقال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ قال سبحانه : وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ والآيات في هذا المعنى كثيرة والذبح من العبادة فيجب إخلاصه لله وحده وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله من ذبح لغير الله وأما قول القائل ( أسأل الله بحق أوليائه أو بجاه أوليائه أو بجاه النبي ) فهذا ليس من الشرك ولكنه بدعة عند جمهور أهل العلم ومن وسائل الشرك؛ لأن الدعاء عبادة وكيفيته من الأمور التوقيفية ولم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما يدل على شرعية أو إباحة التوسل بحق أو جاه أحد من خلقه فلا يجوز للمسلم أن يحدث توسلا لم يشرعه الله سبحانه؛ لقول الله سبحانه وتعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وقول النبي صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد متفق على صحته وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري في صحيحه جازما بها من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ومعنى قوله فهو رد أي مردود على صاحبه لا يقبل منه فالواجب على أهل الإسلام التقيد بما شرعه الله والحذر مما أحدثه الناس من البدع أما التوسل المشروع فهو التوسل بأسماء الله وصفاته وبتوحيده وبالأعمال الصالحات والإيمان بالله ورسوله ومحبة الله ورسوله ونحو ذلك من أعمال البر والخير ويلحق بالتوسل المشروع التوسل بدعاء الحي وشفاعته كما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال اللهم إنا(155/311)
كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون انتهى والله ولي التوفيق
نشرت مجلة الدعوة في العدد 866 الإثنين 16 / 1 / 1403 هـ
هل الرسول أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه
يسأل أحد القراء فيقول ما الحكم في قوم يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي رضي الله عنه ويقولون أن الصحابة رضي الله عنهم تآمروا عليه؟
الجواب هذا القول لا يعرف عن أحد من طوائف المسلمين سوى طائفة الشيعة وهو قول باطل لا أصل له في الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما دلت الأدلة الكثيرة على أن الخليفة بعده هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه عنه وعن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه صلى الله عليه وسلم لم ينص على ذلك نصا صريحا ولم يوص به وصية قاطعة ولكنه أمر بما يدل على ذلك حيث أمره بأن يؤم الناس في مرضه ولما ذكر له أمر الخلافة بعده قال عليه الصلاة والسلام يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ولهذا بايعه الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومن جملتهم علي رضي الله عنه وأجمعوا على أن أبا بكر أفضلهم وثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ويقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وتواترت الآثار عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وكان يقول رضي الله عنه لا أوتى بأحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري ولم يدع يوما لنفسه أنه أفضل الأمة ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى له بالخلافة ولم يقل أن الصحابة رضي الله عنهم ظلموه وأخذوا حقه ولما توفيت فاطمة رضي الله عنها بايع الصديق بيعة ثانية تأكيدا للبيعة الأولى وإظهارا للناس أنه مع الجماعة وليس في نفسه شيء من بيعة أبي بكر رضي الله عنهم جميعا ولما طعن(155/312)
عمر وجعل الأمر شورى بين ستة من العشرة المشهود لهم بالجنة ومن جملتهم علي رضي الله عنه لم ينكر على عمر ذلك لا في حياته ولا بعد وفاته ولم يقل أنه أولى منهم جميعا فكيف يجوز لأحد من الناس أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول إنه أوصى لعلي بالخلافة وعلي نفسه لم يدع ذلك ولا ادعاه أحد من الصحابة له بل قد أجمعوا على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان واعترف بذلك علي رضي الله عنه وتعاون معهم جميعا في الجهاد والشورى وغير ذلك ثم أجمع المسلمون بعد الصحابة على ما أجمع عليه الصحابة فلا يجوز بعد هذا لأي أحد من الناس ولا لأي طائفة لا الشيعة ولا غيرهم أن يدعوا أن عليا هو الوصي وأن الخلافة التي قبله باطلة كما لا يجوز لأي أحد من الناس أن يقول إن الصحابة ظلموا عليا وأخذوا حقه بل هذا من أبطل الباطل ومن سوء الظن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جملتهم علي رضي الله عنه وعنهم أجمعين
وقد نزه الله هذه الأمة المحمدية وحفظها من أن تجتمع على ضلالة وصح عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الكثيرة أنه قال لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة فيستحيل أن تجتمع الأمة في أشرف قرونها على باطل وهو خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ولا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر كما لا يقوله من له أدنى بصيرة بحكم الإسلام والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم
وقد بسط الكلام في هذه المسألة الإمام العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه [منهاج السنة] فمن أراد ذلك فليراجعه وهو كتاب عظيم جدير بالعناية والمراجعة والاستفادة منه والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
نشر في مجلة الدعوة العدد 1009 يوم الإثنين 16 /1 / 1406 هـ
القول بإباحة تحديد النسل مخالف للشريعة والفطرة ومصالح الأمة(155/313)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أما بعد فقد نشرت بعض الصحف المحلية منذ أمد قريب خبرا مفاده أن فضيلة المفتي العام في الأردن قد أفتى بإباحة تحديد النسل وأن الحكومة إذا قررته لزم العمل به واشتهر هذا الخبر بين الناس وصار حديث المجالس لاستغرابه واستنكار المسلمين له ومن أجل ذلك كثر السؤال عن حكم هذه المسألة وهل هذه الفتوى صواب أم خطأ فرأيت أن من الواجب على أمثالي بيان ما يدل عليه شرع الله عز وجل في هذه المسألة فأقول اعلم أيها القارئ وفقني الله وإياك لإصابة الحق أني اطلعت على الفتوى المذكورة وتأملت ما اعتمد عليه فضيلة المفتي العام في الأردن في إصداره هذه الفتوى المشتملة على القول بإباحة تحديد النسل وأن الحكومة إذا قررته كان العمل به لازما فألفيته قد ركز فتواه على قوله عز وجل وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وعلى الأحاديث الدالة على إباحة العزل هذه أدلة المفتي التي اعتمد عليها في هذه الفتوى العظيمة(155/314)
وهناك أمر آخر مهد به الفتوى وهو قوله بالحرف الواحد في أول الفتوى ( لقد عظمت مخاوف العالم من تزايد السكان في كل مكان وصار الخبراء يعدون ذلك منذرا له بالويل والثبور وعظائم الأمور ) ثم قال في آخر الفتوى ما نصه ( إذا قررت الحكومة هذا فإن العمل به يكون لازما؛ لأن من المتفق عليه أن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف يكون حتما ) انتهى المقصود من كلام المفتي وكل من تأمل ما اعتمده المفتي في هذه الفتوى من ذوي العلم والبصيرة يعلم أنه أبعد النجعة وخالف الصواب ورمى في غير مرمى وتحقق بأن ما ذكره من الأدلة لا يدل على ما ذهب إليه بوجه من الوجوه بل هي في جانب والفتوى في جانب آخر كما قال الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغربا ... ... شتان بين مشرق ومغرب
أما الآية الكريمة فقد ذكرها الله سبحانه بعد قوله عز وجل وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ثم قال تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فأمر الله تعالى بالنكاح ورغب فيه ووعد المتزوح بالغنى إن كان فقيرا ترغيبا له في النكاح وتشجيعا له على الإقدام عليه واثقا بالله معتمدا على فضله وسعة جوده وعلمه بأحوال عباده ولذا ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ثم أمر من لا حيلة له في النكاح أن يستعفف حتى يغنيه الله من فضله فأي حجة في هذه الآية على قطع النسل أو تحديده وقد زعم فضيلة المفتي أن أمر الله بالاستعفاف لمن لا يستطع النكاح يدل على جواز القطع والتحديد؛ لأن تأخير النكاح بسبب العجز يفضي إلى تأخير النسل أو قطعه إن مات قبل أن يتزوج وهذا احتجاج غريب واستدلال نادر الوجود لا يمت إلى الآية بصلة بل هو من غرائب الاستدلالات ونوادر الاحتجاج فالله المستعان(155/315)
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هاتين الآيتين ما نصه ( هذا أمر بالتزويج وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر واحتجوا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تزوجوا الولود تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة وفي رواية حتى بالسقط والأيامى جمع أيم ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له وسواء كان قد تزوج ثم فارق أو لم يتزوج واحد منهما حكاه الجوهري عن أهل اللغة يقال رجل أيم وامرأة أيم وقوله تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الآية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى فقال إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد الأزرق حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد يعني ابن عبد العزيز قال بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ رواه ابن جرير وذكر البغوي عن عمر نحوه وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة(155/316)
وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها على أن يعلمها ما معه من القرآن والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث تزوجوا فقراء يغنكم الله فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن وفي القرآن غنية عنه وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ولله الحمد والمنة وقوله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجا بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباء فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء انتهى المقصود وبما ذكرناه آنفا وما نقلناه عن الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيتين يتضح للقراء حقيقة معناهما وأنهما يدلان على شرعية النكاح والحث عليه لما فيه من المصالح العظيمة التي منها قضاء الوطر وعفة الفرج وغض البصر وتكثير النسل أما الاستدلال بهما على جواز قطع الحمل وتحديد النسل ففي غاية من الغرابة والبعد عن الصواب(155/317)
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فهو دال على ما دلت عليه الآيتان من الحث على النكاح والترغيب فيه وبيان بعض حكمه وأسراره ودال أيضا على أن من عجز عن النكاح يشرع له الاشتغال بالصوم؛ لأنه يضعف الشهوة ويضيق مجاري الشيطان فهو من أسباب العفة وغض البصر وليس فيه حجة بوجه ما على إباحة قطع الحمل أو تحديد النسل وإنما فيه تأخير عند العجز إلى زمن القدرة وشرعية تعاطي أسباب العفة حتى لا يقع في الحرام وأما الاحتجاج بأحاديث العزل على تحديد النسل فهو من جنس ما قبله بعيد عن الصواب مخالف لمقاصد الشرع؛
لأن العزل هو إراقة المني خارج الفرج لئلا تحمل المرأة وهذا إنما يفعله الإنسان عند الحاجة إليه مثل كون المرأة مريضة أو مرضعة فيخشى أن يضرها الحمل أو يضر طفلها فيعزل لهذا الغرض أو نحوه من الأغراض المعقولة الشرعية إلى وقت ما ثم يترك ذلك وليس في هذا قطع للحمل ولا تحديد للنسل وإنما فيه تعاطي بعض الأسباب المؤخرة للحمل لغرض شرعي وهذا لا محذور فيه في أصح الأقوال عند العلماء كما دلت عليه أحاديث العزل ثم إن العزل لا يلزم منه عدم الحمل فقد يسبقه المني أو بعضه فتحمل المرأة بإذن الله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الواردة في العزل ليس من نفس مخلوقة إلا الله خلقها وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس من كل الماء يكون الحمل فأي حجة في أحاديث العزل على تحديد النسل لمن تأمل المقام وأعطاه حقه من النظر وتجرد عن العوامل الأخرى نسأل الله لنا ولفضيلة المفتي العام في الأردن ولسائر إخواننا التوفيق لإصابة الحق والعافية من خطأ الفهم إنه خير مسئول
مقال نشر في حدود عام 1385 هـ عندما كان سماحة الشيخ نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .(155/318)
ومن تأمل ما ذكرناه وما نقلناه عن أهل العلم يعلم أن القول بإباحة تحديد النسل قول مخالف للشريعة الكاملة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ومخالف للفطرة السليمة فإن الله سبحانه فطر العباد علي محبة الأولاد وبذل الأسباب في تكثير النسل وقد امتن الله بذلك في كتابه وجعله من زينة الدنيا فقال تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وقال تعالى الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا من تأمل المقام أيضا عرف أن القول بتحديد النسل مخالف لمصالح الأمة فإن كثرة النسل من أسباب قوة الأمة وعزتها ومنعتها وهيبتها وتحديد النسل بضد ذلك يفضي إلي قلتها وضعفها بل إلى فنائها وانقراضها وهذا واضح لجميع العقلاء لا يحتاج إلى تدليل وأما تخوف المفتي من كثرة السكان وقول الخبراء إن ذلك ينذر بالويل والثبور فهذا شيء لا ينبغي للعاقل فضلا عن العالم أن يلتفت إليه بأن يعلق به أحكاما تخالف الشريعة وعلم الغيب إلى الله سبحانه هو خالق العباد ورازقهم وهو القائل في كتابه الكريم وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ وهو القائل عز وجل وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا والقائل وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والقائل فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن الله سبحانه إذا خلق الجنين أمر الملك أن يكتب رزقه وأجله وعمله فكل مخلوق له رزقه المقدر على(155/319)
حسب ما يسر الله من الأسباب فكيف يليق بالعاقل أن يستحسن أو يبيح تحديد النسل خوفا من ضيق العيش والله سبحانه المتكفل بالرزق والقادر على كل شيء وإذا كان السكان قد تزايدوا في كل مكان فأسباب الإنتاح والرزق قد كثرت أيضا في كل مكان وقد تسهلت وتنوعت أكثر مما كانت قبل وأحسن مما كانت قبل وهذا من دلائل حكمة الله سبحانه وكمال قدرته وعظيم عنايته بمصالح عباده ثم كيف يليق بمسلم أن يسيء ظنه بربه حتى يبيح للأمة تحديد النسل وحتى يلزم بذلك إذا قررته الدولة خوفا من ضيق العيش وعدم حصول الرزق فأين الإيمان بالله وأين الثقة بخبره وأين التوكل عليه ثم في هذا الظن السيء مشابهة للكفرة الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر فأنكر الله عليهم ذلك وعابهم به في قوله سبحانه وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقال سبحانه في آية الإسراء وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا(155/320)
وأما قول المفتي في آخر الفتوى ( وإذا قررت الدولة ذلك يكون العمل به لازما؛ لأن من المتفق عليه أن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف يكون حتما ) فهذا القول في غاية السقوط بل هو ظاهر البطلان لأن الحكومة إنما تطاع في المعروف لا فيما يضر الأمة ويخالف الشرع المطهر والقول لتحديد النسل مخالف للشرع ومصلحة الأمة فكيف تلزم طاعتها فيه قال الله عز وجل في حق نبيه صلى الله عليه وسلم وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف ولكن الله عز وجل أراد إعلام الأمة وإرشادها إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تكون في المعروف وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنما الطاعة في المعروف وقال عليه الصلاة والسلام لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهذه كلمة موجزة أردنا بها إظهار الحق وكشف اللبس وإرشاد المسلمين إلى ما نعلم من شرع الله سبحانه في هذه المسألة ونسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه وأن يمن على الجميع بالفقه في دينه والثبات عليه وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه على كل شيء قدير وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه
حكم الإسلام في إحياء الآثار(155/321)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وبعد فقد نشرت بعض الصحف مقالات حول إحياء الآثار والاهتمام بها لبعض الكتاب ومنهم الأستاذ صالح محمد جمال وقد رد عليه سماحة العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد فأجاد وأفاد وأحسن أجزل الله مثوبته ولكن الأستاذ أنور أبا الجدايل هداه الله وألهمه رشده لم يقتنع بهذا الرد أو لم يطلع عليه فكتب مقالا في الموضوع نشرته جريدة المدينة بعددها الصادر برقم 5448 وتاريخ 22 / 4 / 1402 هـ بعنوان ( طريق الهجرتين ) قال فيه ( والكلمة المنشورة بجريدة المدينة بالعدد 5433 وتاريخ 7 / 4 / 1402 هـ للأستاذ البحاثة عبد القدوس الأنصاري عطفا على ما قام به الأديب الباحث الأستاذ عبد العزيز الرفاعي من تحقيق للمواقع التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الذي سلكه في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة تدفعنا إلى استنهاض همة المسئولين إلى وضع شواخص تدل عليها كمثل خيمتين أدنى ما تكونان إلى خيمتي أم معبد مع ما يلائم بقية المواقع من ذلك بعد اتخاذ الحيطة اللازمة لمنع أي تجاوز يعطيها صفة التقديس أو التبرك أو الانحراف عن مقتضيا الشرع لأن المقصود هو إيقاف الطلبة والدارسين ومن يشاء من السائحين على ما يريدونه من التعرف على هذا الطريق ومواقعه هذه لمعرفة ما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته السرية المتكتمة هذه من متاعب وذلك لمجرد أخذ العبرة وحمل النفوس على تحمل مشاق الدعوة إلى الله تأسيا بما تحمله في ذلك عليه الصلاة والسلام على أن تعمل لها طرق فرعية معبدة تخرج من الطريق العام وتقام بها نزل واستراحات للسائحين وأن يعنى أيضا بتسهيل الصعود إلى أماكن تواجده صلى الله عليه وسلم بدءا بغار حراء ثم ثور والكراع حيث تعقبه سراقة بن مالك حتى الوصول إلى قباء وما سبق ذلك من مواقع في مكة المكرمة كدار الأرقم بن أبي الأرقم والشعب الذي قوطع هو وأهله فيه(155/322)
وطريق دخوله في فتح مكة ثم نزوله بالأبطح وكذا في الحديبية وحنين وبدر وكذلك مواقعه في المدينة المنورة ومواقع غزواته وتواجده في أريافها ثم طريقه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وإلى تبوك وتواجده فيهما لإعطاء المزيد من الإحاطة والإلمام بجهاده الفذ في نشر الدعوة الإسلامية والعمل على التأسي به في ذلك ) ا هـ
كما دعا الدكتور فاروق أخضر في مقاله المنشور في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3354 وتاريخ 13 / 1 / 1402 هـ إلى تطوير الأماكن الأثرية في المملكة لزيارتها من قبل المسلمين بصفة مستمرة لضمان الدخل بزعمه بعد نفاذ البترول ومما استدل به ( أن السياحة الدينية في المسيحية في الفاتيكان تعتبر أحد الدخول الرئيسية للاقتصاد الإيطالي وأن إسرائيل قد قامت ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا على اعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس ) كما أشار إلى أنها ستؤدي من الفوائد أيضا ( في تثبيت العلم بالإسلام عند الأطفال المسلمين إلخ ) ونظرا لما يؤدي إليه إحياء الآثار المتعلقة بالدين من مخاطر تمس العقيدة أحببت إيضاح الحق وتأييد ما كتبه أهل العلم في ذلك والتعاون معهم على البر والتقوى والنصح لله ولعباده وكشف الشبهة وإيضاح الحجة فأقول إن العناية بالآثار على الوجه الذي ذكر يؤدي إلى الشرك بالله جل وعلا؛ لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس لا يدركها والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها وما فيها من أشجار أو أحجار ويصلي عندها ويدعو من نسبت إليه ظنا منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه ولحصول الشفاعة وكشف الكربة ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية في نفوسهم والذين يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم حتى يحصل بسبب ذلك على بعض الكسب المادي وليس هناك غالبا من يخبر زوارها بأن المقصود(155/323)
العبرة فقط بل الغالب العكس ويشاهد العاقل ذلك واضحا في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة وأصبحوا يعبدونها من دون الله ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها أولياء فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أن الشيطان لا يفتر في تحين الأوقات المناسبة لإضلال الناس قال الله تعالى عن الشيطان إنه قال قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وقال أيضا سبحانه عن عدو الله الشيطان قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ وقد أغوى آدم فأخرجه من الجنة مع أن الله سبحانه وتعالى حذره منه وبين له أنه عدوه كما قال تعالى في سورة طه وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ومن ذلك قصة بني إسرائيل مع السامري حينما وضع لهم من حليهم عجلا ليعبدوه من دون الله فزين لهم الشيطان عبادته مع ظهور بطلانها وثبت في جامع الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال صلى الله عليه وسلم الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة لتركبن سنن من كان قبلكم شبه قولهم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فدل ذلك على أن الاعتبار بالمعاني والمقاصد لا بمجرد الألفاظ ولعظم جريمة الشرك وخطره في إحباط العمل نرى(155/324)
الخليل عليه السلام يدعو الله له ولبنيه السلامة منه قال الله تعالى وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ الآية فإذا خافه الأنبياء والرسل - وهم أشرف الخلق وأعلمهم بالله وأتقاهم له - فغيرهم أولى وأحرى بأن يخاف عليه ذلك ويجب تحذيره منه كما يجب سد الذرائع الموصلة إليه ومهما عمل أهل الحق من احتياط أو تحفظ فلن يحول ذلك بين الجهال وبين المفاسد المترتبة على تعظيم الآثار؛ لأن الناس يختلفون من حيث الفهم والتأثر والبحث عن الحق اختلافا كثيرا ولذلك عبد قوم نوح عليه السلام ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا مع أن الأصل في تصويرهم هو التذكير بأعمالهم الصالحة للتأسي والاقتداء بهم لا للغلو فيهم وعبادتهم من دون الله ولكن الشيطان أنسى من جاء بعد من صورهم هذا المقصد وزين لهم عبادتهم من دون الله وكان ذلك هو سبب الشرك في بني آدم روى ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه
عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت(155/325)
أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى فإن الله جل وعلا أمر بالحذر من طريقهم؛ لأنه طريق ضلال وهلاك ولا يجوز التشبه بهم في أعمالهم المخالفة لشرعنا وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما جاء به أنبياؤهم فلهذا ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك طريقهم والحاصل أن المفاسد التي ستنشأ عن الاعتناء بالآثار وإحيائها محققة ولا يحصى كميتها وأنواعها وغاياتها إلا الله سبحانه فوجب منع إحيائها وسد الذرائع إلى ذلك ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أعلم الناس بدين الله وأحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأكملهم نصحا لله ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار ولم يعظموها ولم يدعوا إلى إحيائها بل لما رأى عمر رضي الله عنه بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بويع النبي صلى الله عليه وسلم تحتها أمر بقطعها خوفا على الناس من الغلو فيها والشرك بها فشكر له المسلمون ذلك وعدوه من مناقبه رضي الله عنه .
ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمرا مشروعا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه وسبق أنهم أعلم الناس بشريعة الله وأحبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وأنصحهم لله ولعباده ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء حين كانوا بمكة أو غار ثور ولم يفعلوا ذلك أيضا حين عمرة القضاء ولا عام الفتح ولا في حجة الوداع ولم يعرجوا على موضع خيمتي أم معبد ولا محل شجرة البيعة فعلم أن زيارتها وتمهيد الطرق إليها أمر مبتدع لا أصل له في شرع الله وهو من أعظم الوسائل إلى الشرك الأكبر ولما كان البناء على القبور واتخاذ مساجد عليها من أعظم وسائل الشرك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعن اليهود والنصارى على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد وأخبر عمن يفعل ذلك أنهم شرار الخلق(155/326)
وقال فيما ثبت عنه في صحيح مسلم رحمه الله عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه زاد الترمذي بإسناد صحيح وأن يكتب عليه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة على وجوب سد الذرائع القولية والفعلية واحتج العلماء على ذلك بأدلة لا تحصى كثرة وذكر منها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه [إعلام الموقعين] تسعة وتسعين دليلا كلها تدل على وجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي وذكر منها قول الله تعالى وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية وقوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس سدا لذريعة عبادة الشمس من دون الله .
ومنعا للتشبه بمن فعل ذلك كما ذكر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة .(155/327)
فالواجب على علماء المسلمين وعلى ولاة أمرهم أن يسلكوا مسلك نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في هذا الباب وغيره وأن ينهوا عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسدوا الذرائع والوسائل المفضية إلى الشرك والمعاصي والغلو في الأنبياء والأولياء حماية لجناب التوحيد وسدا لطرق الشرك ووسائله والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين وأن يفقههم في الدين وأن يوفق علماءهم وولاة أمرهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة وأن يوفق قادة المسلمين لتحكيم شريعة الله والحكم بها في كل شئونهم وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين
مؤتمر القمة الإسلامي وعوامل النصر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .(155/328)
أما بعد فإن من تأمل القرآن الكريم الذي أنزله الله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين يجد فيه بيانا شافيا لعوامل النصر وأسباب التمكين في الأرض والقضاء على العدو مهما كانت قوته ويتضح له أن تلك الأسباب والعوامل ترجع كلها إلى عاملين أساسيين وهما الإيمان الصادق بالله ورسوله والجهاد الصادق في سبيله ومعلوم أن الإيمان الشرعي الذي علق الله به النصر وحسن العاقبة يتضمن الإخلاص لله في العمل والقيام بأوامره وترك نواهيه كما يتضمن وجوب تحكيم الشريعة في كل أمور المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يتضمن أيضا وجوب إعداد ما يستطاع من القوة للدفاع عن الدين والحوزة ولجهاد من خرج عن الحق حتى يرجع إليه أما العامل الثاني وهو الجهاد الصادق فهو أيضا من موجبات الإيمان ولكن الله سبحانه نبه عليه وخصه بالذكر في مواضع كثيرة من كتابه كذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أمر به الأمة ورغبها فيه لعظم شأنه ومسيس الحاجة إليه؛ لأن أكثر الخلق لا يردعه عن باطله مجرد الوعد والوعيد بل لابد في حقه من وازع سلطاني يلزمه بالحق ويردعه عن الباطل ومتى توافر هذان العاملان الأساسيان وهما الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله لأي أمة أو دولة كان النصر حليفها وكتب الله لها التمكين في الأرض والاستخلاف فيها وعد الله الذي لا يخلف وسنته التي لا تبدل(155/329)
وقد وقع لصدر هذه الأمة من العز والتمكين والنصر على الأعداء ما يدل على صحة ما دل عليه القرآن الكريم وجاءت به سنة الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام وكل من له أدنى إلمام بالتاريخ الإسلامي يعرف صحة ما ذكرناه وأنه أمر واقع لا يمكن تجاهله وليس له سبب سوى ما ذكرنا آنفا من صدق الرعيل الأول في إيمانهم بالله ورسوله والجهاد في سبيله قولا وعملا وعقيدة وإليك أيها الأخ الكريم بعض الآيات الدالة على ما ذكرنا لتكون على بينة وبصيرة ولتقوم بما تستطيعه من الدعوة إلى سبيل ربك وتنبيه إخوانك المسلمين على أسباب النصر وعوامل الخذلان ولأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقد أجمع أهل التفسير على أن نصر الله سبحانه هو نصر دينه بالعمل به والدعوة إليه والجهاد لمن خالفه ويدل على هذا المعنى الآية الأخرى من سورة الحج وهي قوله سبحانه وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وقال تعالى وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ولا ريب أن المؤمن هو القائم بأمر الله المصدق بأخباره المنتهي عن نواهيه المحكم لشريعته وقال عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ(155/330)
وقال عز وجل في بيان صفات المؤمنين والمتقين لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(155/331)
تأمل يا أخي هذه الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ثم حاسب نفسك بتطبيقها حتى تكون من المؤمنين الصادقين والمتقين الفائزين ولا ريب أن الواجب على كل من ينتسب إلى الإسلام من ملك أو زعيم أو أمير أو غيرهم أن يحاسب نفسه وأن يجاهدها على التخلق بهذه الأخلاق الكريمة والعمل بهذه الأعمال الصالحة وأن يلزم من تحته من الشعوب بهذه الأخلاق والأعمال التي أوجبها الله على المسلمين وأن يصدق في ذلك ويستعين بالله عليه وأن يولي الأخيار الذين يعينونه على تنفيذ أمر الله ورسوله حسب الإمكان وأن يبعد ضدهم حسب الإمكان وأن يتعاون مع غيره من الملوك والزعماء والأعيان في هذا الأمر الجليل الذي به عزتهم ونصرهم وتمكينهم في الأرض كما قال عز وجل وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وقال سبحانه في سورة الأنفال آمرا لعباده بإعداد القوة وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ وأمرهم بالحذر من الأعداء ومكايدهم فقال تعالى في سورة النساء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وقال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا(155/332)
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(155/333)
فانظر يا أخي هذا التعليم العظيم والتوجيه البليغ من فاطر الأرض والسموات وعالم السرائر والخفيات الذي بيده تصريف قلوب الجميع وبيده أزمة الأمور وتصريفها يتضح لك من ذلك عناية الإسلام بالأسباب وحثه عليها وتحذيره من إهمالها والغفلة عنها ويتبين لك من ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يعرض عن الأسباب أو يتهاون بشأنها كما أنه لا يجوز له الاعتماد عليها بل يجب أن يكون اعتماده على الله وحده مؤمنا بأنه سبحانه هو الذي بيده النصر وهذا هو حقيقة التوكل الشرعي وهو الأخذ بالأسباب والعناية بها مع الاعتماد على الله والتوكل عليه وقد نبه الله سبحانه على هذا المعنى في عدة آيات منها قوله سبحانه وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فذكر التقوى أولا وهي أعظم الأسباب لأن حقيقتها طاعة الله ورسوله في كل شيء ومن ذلك الأخذ بالأسباب الحسية والمعنوية والسياسية والعسكرية ثم ذكر التوكل فقال سبحانه وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ - أي كافيه - وقال عز وجل إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
مجلة التوحيد المصرية من صـ 11 - 15 .(155/334)
أما الجهاد الصادق فذكره الله سبحانه في عدة آيات وذكر ما يترتب عليه من النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة وبين صفات المجاهدين الصادقين ليتميزوا من غيرهم فقال تعالى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
فتأمل أيها المؤمن هذه الصفات العظيمة للمجاهد الصادق حتى يتضح لك حال المسلمين اليوم وحال المجاهدين السابقين وحتى تعرف سر نجاح أولئك وخذلان من بعدهم وأنه لا سبيل إلى إدراك النصر في الدنيا والسعادة في الآخرة إلا بالتخلق بالأخلاق التي أمر الله بها ودعا إليها وعلق بها النصر وقد أوضحها الله سبحانه في كتابه المبين في هذه الآيات التي ذكرناها وغيرها وقال عز وجل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(155/335)
وقد جمع الله سبحانه في هذه الآيات أسباب النصر وردها سبحانه إلى عاملين أساسيين وهما الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله ورتب على ذلك مغفرة الذنوب والفوز بالجنة في الآخرة والنصر في الدنيا والفتح القريب وأخبر سبحانه أن المسلمين يحبون النصر والفتح ولهذا قال وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ
فإذا كان ملوكنا وزعماؤنا في مؤتمرهم هذا يرغبون رغبة صادقة في النصر والفتح القريب والسعادة في الدنيا والآخرة وقد أوضح الله لهم السبيل وأبان لهم العوامل والأسباب المفضية إلى ذلك فما عليهم إلا أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة مما سلف من تقصيرهم وعدم قيامهم بما يجب عليهم من حق الله وحق عباده وأن يتعاهدوا صادقين على الإيمان بالله ورسوله وتحكيم شريعته والاعتصام بحبله وجهادهم الأعداء صفا واحدا بكل ما أعطاهم الله من قوة وأن ينبذوا المبادئ المخالفة لشريعة الله وحقيقة دينه وأن يعتمدوا عليه سبحانه لا على غيره من المعسكر الشرقي أو الغربي وأن يأخذوا بالأسباب ويعدوا ما استطاعوا من القوة بكل وسيلة أباحها الشرع وأن يكونوا مستقلين ومنحازين عن سائر الكتل الكافرة من شرقية وغربية متميزين بإيمانهم بالله ورسوله واعتصامهم بدينه وتمسكهم بشريعته وأما السلاح وأصناف العدة فلا بأس بتأمينها من كل طريق وبكل وسيلة لا تخالف الشرع المطهر .
والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا المؤتمر مباركا وأن ينفع به عباده وأن يجمع به شمل المسلمين ويصلح به قادتهم ويوفق المجتمعين فيه لما فيه رضاه وعز دينه وذل أعدائه ورد الحق المسلوب إلى مستحقه ونبذ ما خالف الإسلام من مبادئ وأخلاق إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان
مكانة المرأة في الحياة
هذا جواب لسؤال وارد من مجلة الجيل بالرياض عن مكانة المرأة في الإسلام(155/336)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم إلى يوم الدين وبعد :
فإن للمرأة المسلمة مكانة رفيعة في الإسلام وأثرا كبيرا في حياة كل مسلم فهي المدرسة الأولى في بناء المجتمع الصالح إذا كانت هذه المرأة تسير على هدى من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأن التمسك بهما يبعد كل مسلم ومسلمة عن الضلال في كل شيء وضلال الأمم وانحرافها لا يحصل إلا بابتعادها عن نهج الله سبحانه وتعالى وما جاء به أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام قال صلى الله عليه وسلم تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي
ولقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أهمية المرأة أما وزوجة وأختا وبنتا وما لها من حقوق وما عليها من واجبات وجاءت السنة المطهرة بتفصيل ذلك .
والأهمية تكمن فيما يلقى عليها من أعباء وتتحمل من مشاق تفوق في بعضها أعباء الرجل؛ لذلك كان من أهم الواجبات شكر الوالدة وبرها وحسن صحبتها وهي مقدمة في ذلك على الوالد قال تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ
وقال تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أمك قال ثم من؟ قال أبوك ومقتضى ذلك أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر .(155/337)
ومكانة الزوجة وتأثيرها على هدوء النفوس أبانته الآية الكريمة قال تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً قال الحافظ بن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى مَوَدَّةً وَرَحْمَةً المودة هي : المحبة ، والرحمة هي : الرأفة ، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها ، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد .
ولقد كان للوقفة الفريدة التي وقفتها خديجة رضي الله عنها أكبر الأثر في تهدئة روع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء لأول مرة فجاء إليها ترجف بوادره فقال : دثروني دثروني لقد خشيت على نفسي " فقالت : رضي الله عنها : أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث ، وتحمل الكل وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق
وأيضا لا ننسى أثر عائشة رضي الله عنها حيث أخذ عنها الحديث كبار الصحابة وكثير من النساء الأحكام المتعلقة بهن . وبالأمس القريب وعلى زمن الإمام محمد بن سعود رحمه الله نصحته زوجته بأن يتقبل دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عندما عرض عليه دعوته ، فإنه كان لنصيحتها له أكبر الأثر في اتفاقهما على تجديد الدعوة ونشرها ، حيث نلمس بحمد الله اليوم أثر ذلك برسوخ العقيدة في أبناء هذه الجزيرة .
ولا شك أن لوالدتي رحمة الله عليها فضلا كبيرا وأثرا عظيما في تشجيعي على الدراسة والإعانة عليها ضاعف الله مثوبتها وجزاها عني خير الجزاء .
ومما لا شك فيه أن البيت الذي تسوده المودة والمحبة والرأفة والتربية الإسلامية سيؤثر على الرجل فيكون بإذن الله موفقا في أمره ، ناجحا في أي عمل يسعى إليه من طلب علم أو كسب تجارة أو زراعة إلى غير ذلك من أعمال . والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(155/338)
حكم قيادة المرأة للسيارة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد :
فقد كثر حديث الناس في صحيفة الجزيرة عن قيادة المرأة للسيارة ، ومعلوم أنها تؤدي إلى مفاسد لا تخفى على الداعين إليها ، منها : الخلوة المحرمة بالمرأة ، ومنها : السفور ، ومنها : الاختلاط بالرجال بدون حذر ، ومنها : ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور ، والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلى المحرم واعتبرها محرمة ، وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت ، والحجاب ، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع قال تعالى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية .(155/339)
وقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وقال تعالى : وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما " فالشرع المطهر منع جميع الأسباب المؤدية إلى الرذيلة بما في ذلك رمي المحصنات الغافلات بالفاحشة وجعل عقوبته من أشد العقوبات صيانة للمجتمع من نشر أسباب الرذيلة .(155/340)
وقيادة المرأة من الأسباب المؤدية إلى ذلك ، وهذا لا يخفى ولكن الجهل بالأحكام الشرعية وبالعواقب السيئة التي يفضي إليها التساهل بالوسائل المفضية إلى المنكرات - مع ما يبتلي به الكثير من مرضى القلوب من محبة الإباحية والتمتع بالنظر إلى الأجنبيات ، كل هذا يسبب الخوض في هذا الأمر وأشباهه بغير علم وبغير مبالاة بما وراء ذلك من الأخطار وقال الله تعالى : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ وقال سبحانه : وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ
وقال صلى الله عليه وسلم : ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير فهل بعده من شر؟ قل : " نعم " قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : " نعم ، وفيه دخن " قلت : وما دخنه؟ قال : " قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر " قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال : " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " قلت يا رسول الله صفهم لنا؟ قال : " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " . قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " . قلت : فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك متفق عليه .(155/341)
وإنني أدعو كل مسلم أن يتق الله في قوله وفي عمله ، وأن يحذر الفتن والداعين إليها ، وأن يبتعد عن كل ما يسخط الله جل وعلا أو يفضي إلى ذلك ، وأن يحذر كل الحذر أن يكون من هؤلاء الدعاة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف . وقانا الله شر الفتن وأهلها ، وحفظ لهذه الأمة دينها وكفاها شر دعاة السوء ، ووفق كتاب صحفنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه وصلاح أمر المسلمين ونجاتهم في الدنيا والآخرة ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
أهمية الغطاء في وجه المرأة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم . . . وفقه الله لكل خير
آمين .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فكتابكم المؤرخ بدون وصل وصلكم الله بهداه وهذا نصه : " أرجو من فضيلتكم إجابتي عن أهمية الغطاء على وجه المرأة وهل هو واجب أوجبه الدين الإسلامي ، وإذا كان كذلك فما هو الدليل على ذلك ، إنني أسمع الكثير وأعتقد أن الغطاء عم استعماله في الجزيرة على عهد الأتراك ومنذ ذلك الوقت سار التشديد على استعماله حتى أصبح يراه الجميع أنه فرض على كل امرأة ، كما قرأت أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة الراشدين كانت المرأة تشارك الرجل في الكثير من الأعمال كما تساعده في الحروب ، فهل هذه الأشياء حقيقة أم أن فهمي غلط لا أساس له إنني أنتظر الإجابة من فضيلتكم لفهم الحقيقة وحذف ما هو مشوه؟ انتهى .(155/342)
الجواب : الحجاب كان أول الإسلام غير مفروض على المرأة وكانت تبدي وجهها وكفيها عند الرجال ، ثم شرع الله سبحانه الحجاب للمرأة وأوجب ذلك عليها صيانة لها وحماية لها من نظر الرجال الأجانب إليها وحسما لمادة الفتنة بها وذلك بعد نزول آية الحجاب وهي قوله تعالى في الآية من سورة الأحزاب وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ الآية ، والآية المذكورة وإن كانت نزلت في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، فالمراد منها : هن وغيرهن من النساء لعموم العلة المذكورة والمعنى في ذلك .
وقال سبحانه وتعالى في السورة نفسها وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية ، فإن هذه الآية تعمهن وغيرهن بالإجماع ، ومثل قوله عز وجل في سورة الأحزاب أيضا
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا الأية . وأنزل الله في ذلك أيضا آيتين أخريين في سورة النور وهما قوله تعالى : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ(155/343)
بُعُولَتِهِنَّ الآية والبعولة هم : الأزواج ، والزينة هي : المحاسن والمفاتن والوجه أعظمها وقوله سبحانه : إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا المراد به : الملابس في أصح قولي العلماء ، كما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لقوله تعالى :
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ووجه الدلالة من هذه الآية على وجوب تحجب النساء - وهو ستر الوجه وجميع البدن عن الرجال غير المحارم - أن الله سبحانه رفع الجناح عن القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا وهن العجائز إذا كن غير متبرجات بزينة ، فعلم بذلك أن الشابات يجب عليهن الحجاب وعليهن جناح في تركه .
وهكذا العجائز المتبرجات بالزينة عليهن أن يتحجبن لأنهن فتنة ، ثم إنه سبحانه أخبر في آخر الآية أن استعفاف القواعد غير المتبرجات خير لهن وما ذاك إلا لكونه أبعد لهن من الفتنة ، وقد ثبت عن عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما ما يدل على وجوب ستر المرأة وجهها عن غير المحارم ولو كانت في حال الإحرام كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها في الصحيحين ما يدل على أن كشف الوجه للمرأة كان في أول الإسلام ثم نسخ بآية الحجاب .(155/344)
وبذلك تعلم أن حجاب المرأة أمر قديم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد فرضه الله سبحانه ، وليس من عمل الأتراك ، أما مشاركة النساء للرجال في كثير من الأعمال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كعلاج الجرحى وسقيهم في حال الجهاد ، ونحو ذلك فهو صحيح مع التحجب والعفة والبعد عن أسباب الريبة ، كما قالت أم سليم رضي الله عنها : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي الجرحى ونحمل الماء ونداوي المرضى هكذا كان عملهن لا عمل نساء اليوم في كثير من الأقطار التي يدعي أهلها الإسلام اللاتي اختلطن بالرجال في مجالات الأعمال وهن متبرجات مبتذلات فآل الأمر إلى تفشي الرذيلة ، وتفكك الأسر ، وفساد المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ونسأل الله أن يهدي الجميع صراطه المستقيم ، وأن يوفقنا وإياك وسائر أخواننا للعلم النافع والعمل به ، إنه خير مسئول .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
التحذير من دفع الرشوة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه أو يسمعه من إخواني المسلمين سلك الله بي وبهم صراطه المستقيم ، ووقاني وإياهم عذاب الجحيم ، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أما بعد :
فإن مما حرمه الإسلام ، وغلظ في تحريمه : الرشوة ، وهي دفع المال في مقابل قضاء مصلحة يجب على المسئول عنها قضاؤها بدونه . ويشتد التحريم إن كان الغرض من دفع هذا المال إبطال حق أو إحقاق باطل أو ظلما لأحد .(155/345)
وقد ذكر ابن عابدين رحمه الله في حاشيته : ( أن الرشوة هي : ما يعطيه الشخص لحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد ) . وواضح من هذا التعريف أن الرشوة أعم من أن تكون مالا أو منفعة يمكنه منها ، أو يقضيها له . والمراد بالحاكم : القاضي ، وغيره كل ممن يرجى عنده قضاء مصلحة الراشي ، سواء كان من ولاة الدولة وموظفيها أو القائمين بأعمال خاصة كوكلاء التجار والشركات وأصحاب العقارات ونحوهم ، والمراد بالحكم للراشي ، حماس المرتشي على ما يريده الراشي : وتحقيق رغبة الراشي ومقصده ، سواء كان ذلك حقا أو باطلا .
والرشوة - أيها الإخوة في الله - من كبائر الذنوب التي حرمها الله على عباده ، ولعن رسوله صلى الله عليه وسلم من فعلها ، فالواجب اجتنابها والحذر منها ، وتحذير الناس من تعاطيها ، لما فيها من الفساد العظيم ، والإثم الكبير ، والعواقب الوخيمة ، وهي من الإثم والعدوان اللذين نهى الله سبحانه وتعالى عن التعاون عليهما في قوله عز من قائل : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وقد نهى الله عز وجل في أكل أموال الناس بالباطل ، فقال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وقال سبحانه : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ والرشوة من أشد أنواع أكل الأموال بالباطل؛ لأنها دفع المال إلى الغير لقصد إحالته عن الحق .(155/346)
وقد شمل التحريم في الرشوة أركانها الثلاثة ، وهم : الراشي والمرتشي والرائش : وهو الوسيط بينهما ، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش رواه أحمد والطبراني من حديث ثوبان رضي الله عنه .
واللعن من الله هو : الطرد والإبعاد عن مظان رحمته ، نعوذ بالله من ذلك ، وهو لا يكون إلا في كبيرة ، كما أن الرشوة من أنواع السحت المحرم بالقرآن والسنة ، فقد ذم الله اليهود وشنع عليهم لأكلهم السحت في قوله سبحانه : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وكما قال تعالى عنهم : وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وقال تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ(155/347)
وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من هذا المحرم وبيان عاقبة مرتكبيه منها : ما رواه ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به " قيل : وما السحت؟ قال : " الرشوة في الحكم وروي عن الإمام أحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة ، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : السحت : الرشوة في الدين وقال أبو محمد موفق الدين ابن قدامة رحمه الله في المغني : قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى : أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ هو الرشوة وقال : إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر؛ لأنه مستعد للحكم بغير ما أنزل الله : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
وروي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين " فقال تعالى يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له(155/348)
فاتقوا الله أيها المسلمون ، واحذروا سخطه ، وتجنبوا أسباب غضبه فإنه جل وعلا غيور إذا انتهكت محارمه ، وقد ورد في الحديث الصحيح لا أحد أغير من الله " . وجنبوا أنفسكم وأهليكم المال الحرام والأكل الحرام ، نجاة بأنفسكم وأهليكم من النار التي جعلها الله أولى بكل لحم نبت من الحرام كما أن المأكل الحرام سبب لحجب الدعاء وعدم الإجابة لما مر من حديث أبي هريرة عند مسلم ، ولما رواه الطبراني عن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال : تليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يقبل الله منه عملا أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به
ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم عن رواية الطبراني رحمه الله ، فدل ذلك على أن عدم إطابة المطعم وحلية المأكل مانع من استجابة الدعاء ، حاجب عن رفعه إلى الله ، وكفى بذلك وبالا وخسرانا على صاحبه نعوذ بالله من ذلك . وقد دعاكم الله إلى وقاية أنفسكم وأهليكم من النار ، والنجاة بها من عذاب الله وأليم عقابه ، حيث قال سبحانه وتعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ(155/349)
مَا يُؤْمَرُونَ فاستجيبوا أيها المسلمون لنداء ربكم وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه ، واحذر وا أسباب غضبه ، تسعدوا في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
والله المسئول أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ومن المتعاونين على البر والتقوى ، الملتزمين بكتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، وأن ينصر دينه ، ويعلي كلمته ، ويوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
نشر بالعدد التاسع عشر بمجلة البحوث الإسلامية التي تصدر عن هيئة كبار العلماء بالمملكة صـ 319
حكم إعفاء اللحية
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه . أما بعد .
فقد سألني بعض الإخوان عن الأسئلة التالية :
1- هل تربية اللحية واجبة أو جائزة .
2- هل حلقها ذنب أو إخلال بالدين .
3- هل حلقها جائز مع تربية الشنب .
والجواب عن هذه الأسئلة : أن نقول : صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحفوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين " وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس " .(155/350)
وخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " قال العلامة الكبير والحافظ الشهير أبو محمد ابن حزم . ( اتفق العلماء على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض . ا . هـ . )
والأحاديث في هذا الباب وكلام أهل العلم - فيما يتعلق بإحفاء الشوارب وتوفير اللحى وإكرامها وإرخائها - كثير لا يتيسر استقصاء الكثير منه في هذه الكلمة ومما تقدم من الأحاديث وما نقله ابن حزم من الإجماع يعلم الجواب عن الأسئلة الثلاثة . وخلاصته أن تربية اللحية وتوفيرها وإرخاءها فرض لا يجوز تركه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك وأمره على الوجوب ، كما قال الله عز وجل : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وهكذا قص الشارب واجب وإحفاؤه أفضل أما توفيره أو اتخاذ الشنبات فذلك لا يجوز؛ لأنه يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم : " قصوا الشوارب " " أحفوا الشوارب " " جزوا الشوارب " " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " وهذه الألفاظ الأربعة كلها جاءت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي اللفظ الأخير وهو قوله صلى الله عليه وسلم " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " وعيد شديد وتحذير أكيد ، وذلك يوجب للمسلم الحذر مما نهى الله عنه ورسوله والمبادرة إلى امتثال ما أمر الله به ورسوله . ومن ذلك يعلم أيضا أن إعفاء الشارب واتخاذ الشنبات ذنب من الذنوب ومعصية من المعاصي ، وهكذا حلق اللحية وتقصرها من جملة الذنوب والمعاصي التي تنقص الإيمان وتضعفه ويخشى منها حلول غضب الله ونقمته .(155/351)
وفي الأحاديث المذكورة آنفا الدلالة على أن إطالة الشوارب وحلق اللحى وتقصيرها من مشابهة المجوس والمشركين . وقد علم أن التشبه بهم منكر لا يجوز فعله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم " وأرجو أن يكون في هذا الجواب كفاية ومقنع .
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
وجوب إعفاء اللحية
س : سائل من المملكة المغربية ، أرسل سؤالا واحدا يقول فيه : هل يعد إعفاء اللحية من الأشياء التي يجب توافرها في المسلم؟
ج : يجب على المسلم توفير لحيته وإعفاؤها وإرخاؤها امتثالا لأمر سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : " قصوا الشوارب وأعفوا اللحى ، خالفوا المشركين " متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . وقال صلى الله عليه وسلم جزوا الشوارب وأرخوا اللحى ، خالفوا المجوس . خرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(155/352)
ومعلوم أن الخير كله في الدنيا والآخرة إنما يتحقق بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه ، وأن الشر كله في معصية الله ورسوله واتباع الهوى والشيطان ، قال تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وقال تعالى : فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى وذم سبحانه المشركين لاتباعهم الظن والهوى ، فقال عز وجل في سورة النجم : إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى وقال صلى الله عليه وسلم : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى " قيل يا رسول الله : ومن يأبى؟ قال : " من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى رواه البخاري في صحيحه .
والآيات والأحاديث في الأمر بطاعة الله ورسوله والنهي عن معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جدا .
ونسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا لطاعة ربهم وتوحيده والإخلاص له واتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك بما جاء به . إنه سميع قريب .
جواب مهم يتعلق بحكم حلق اللحى والمعاصي وهل تحبط بها الأعمال
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم رئيس تحرير جريدة عرب نيوز وفقه الله .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فقد اطلعت على ترجمة ما جاء في جريدتكم عدد يوم الجمعة الموافق 24 / 2 / 1984 م صفحة 7 في الصفحة المخصصة للديانة جواب السؤال التالي الذي وردكم من س . ر . خان ص . ب . 7125 جدة وهذا نص السؤال : ( ما حكم الإسلام عن اللحية والشارب؟ هل يوجد عقاب معين بعد الوفاة للذي يحلق اللحية؟ هل حالق اللحية يفقد ثواب عبادته والأعمال الصالحة التي يأتي بها في حياته؟ .(155/353)
فرأيت الجواب الذي نشرته الجريدة قاصرا وليس وافيا بالمطلوب والجواب الصحيح أن يقال : إن إعفاء اللحية وقص الشارب أمر مفترض من الشارع صلى الله عليه وسلم حيث قال فيما صح عنه : " قصوا الشوارب واعفوا اللحى خالفوا المشركين " متفق على صحته . وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس " .
وهذان الحديثان الصحيحان وما جاء في معناهما كلها تدل على وجوب إعفاء اللحية وإرخائها وعدم التعرض لها بقص أو حلق ، وعلى وجوب قص الشارب ولم يرد في ذلك عقوبة معينة ، ولكن الواجب على المسلم أن يمتثل أمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن ينتهي عما نهى الله عنه ورسوله ولو لم يرد في ذلك عقاب معين . ويجز لولي الأمر أن يعاقب من خالف الأوامر والنواهي بما يراه من العقوبات الرادعة فيما دون عقوبات الحدود ردعا للناس عن ارتكاب محارم الله والتعدي على حدوده .(155/354)
وقد ثبت عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن . ومن مات على ذلك فهو تحت مشيئة الله كسائر المعاصي إن شاء غفر له وإن شاء سبحانه عاقبه بما يستحق على ما فعله من المعاصي ، ومن جملة ذلك حلق اللحى وإطالة الشوارب . قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن جميع الذنوب التي دون الشرك تحت مشيئة الله سبحانه ، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سلك مسلكهما من أهل البدع . وبذلك يعلم أن حلق اللحى وإطالة الشوارب وغيرهما من المعاصي التي دون الشرك لا تحبط الأعمال الصالحة ولا تبطل ثوابها ولكنها تنقص الإيمان وتضعفه وإنما تحبط الأعمال بالشرك وأنواع الكفر الأكبر لا بالمعاصي كما قال الله سبحانه وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال عز وجل وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
نشر في جريدة عرب نيوز في عام 1404 هـ
حكم حلق اللحية في حق العسكري
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ . . . المكرم وفقه الله ، آمين .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، بعده :
كتابكم المؤرخ 4 / 8 / 1395 هـ وصل وصلكم الله بهداه وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما ، وهذا نصها وجوابها
الأول : ما حكم حلق اللحية في حق العسكري الذي يؤمر بذلك وما حكم من قال في حق المحلوق أنه مخنث .(155/355)
والجواب : حلق اللحية لا يجوز وهكذا قصها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين " وقوله عليه الصلاة والسلام : " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس " والواجب على المسلم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء؛ لقول الله سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ الآية .
وأولي الأمر هم : الأمراء والعلماء ، والواجب طاعتهم فيما يأمرون به ما لم يخالف الشرع فإذا خالف الشرع ما أمروا به لم تجب طاعتهم في ذلك الشيء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الطاعة في المعروف " وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وحكومتنا بحمد الله لا تأمر الجندي ولا غيره بحلق اللحية ، وإنما يقع ذلك من بعض المسئولين وغيرهم ، فلا يجوز أن يطاعوا في ذلك ، والواجب أن يخاطبوا بالتي مي أحسن وأن يوضح لهم أن طاعة الله ورسوله مقدمة على طاعة غيرهما .
أما قول بعض الوعاظ : أن حالق لحيته مخنث ، فهذا كلام قاله بعض العلماء المتقدمين ومعناه المتشبه بالنساء؛ لأن التخنث هو : التشبه بالنساء ، وليس معناه أنه لوطي كما يظنه بعض العامة اليوم ، والذي ينبغي للواعظ وغيره أن يتجنب هذه العبارة لأنها موهمة فإن ذكرها فالواجب بيان معناها حتى يتضح للسامعين مراده ، وحتى لا يقع بينه وبيهم ما لا تحمد عقباه ، ولأن المقصود من الوعظ والتذكر هو إرشاد المستمعين وتوجيههم إلى الخير وليس المقصود تنفيرهم من الحق وإثارة غضبهم .
الثاني : ما حكم شرب الدخان وهل هو من جنس حلق اللحية(155/356)
والجواب : شرب الدخان من المحرمات؛ لكونه من الخبائث التي حرمها الله ، ولأنه يشتمل على أضرار كثيرة والدليل على تحريمه قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ الآية ، وقوله عز وجل في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ الآية ، وقد فسر العلماء الطيبات بأنها الأطعمة والأشربة المغذية النافعة التي لا ضرر فيها ، ومعلوم أن الدخان ليس بهذا الوصف ، بل هو من الخبائث الضارة المحرمة ، وهو أعظم من حلق اللحى من بعض الوجوه وحلق اللحى أعظم منه من وجوه أخر؛ لأن حلق اللحية معصية ظاهرة يراها الناس في وجه صاحبها؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحى وإرخائها وتوفيرها وقص الشوارب وإحفائها .
أما الدخان فقد يستتر به صاحبه ولا يطلع عليه الناس فليس مثل حلق اللحية لكنه أضر على البدن والعقل والمال من حلق اللحية ولأنه يؤذي من لم يعتده فهو منكر يضر صاحبه ويضر غيره برائحته الكريهة .
وبالجملة : فشرب الدخان وحلق اللحى كلاهما منكر ومضر بالمجتمع وسبب لفساد عظيم مع ما في ذلك من المخالفة الظاهرة للشريعة الإسلامية ومع ما في ذلك أيضا من المضار الاقتصادية ، ولأن ذلك أيضا قد يفضي إلى تأسي ذرية من يفعل ذلك وأهل بيته وأصدقائه به في هذه المعصية .
حكم إعفاء اللحية
س : أعفيت لحيتي والحمد لله ، والآن كلما واجهني أحد من أهلي أو معارفي استنكروا لحيتي ورموني بكلمات جارحة وطلبوا مني تقصيرها وأنا مصمم على إعفائها ، هل يجوز تقصيرها أم أواظب على إعفائها ، وأضرب بكلامهم عرض الحائط؟ .(155/357)
جـ : الواجب عليك أن تستمر في إعفائها وإرخائها طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالا لأمره وأن تضرب بكلامهم عرض الحائط ، وأن تنكر عليهم كلامهم وتذكرهم بالله وأن هذا لا يجوز لهم بل عملهم هذا في الحقيقة نيابة عن الشيطان ، لأنهم بهذا صاروا نوابا له يدعون إلى معاصي الله ، نسأل الله العافية ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين " ويقول " جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس " ويقول : " وفروا اللحى "
فالواجب إرخاؤها وإعفاؤها وتوفيرها وعدم طاعة كل من يدعو إلى قصها أو حلقها ، نسأل الله السلامة ، وهذا مصداق الحديث : " أنه يأتي في آخر الزمان شياطين يدعون إلى عصيان الله وإلى ارتكاب محارمه
وقد جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه المتفق على صحته لما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشر الذي يقع بعده صلى الله عليه وسلم ذكر له أنه يقع بعد ذلك في آخر الأمة دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا؟ قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا
نسأل الله العافية ، فهؤلاء وأضرابهم من جنس من ذكرهم السائل فالواجب الحذر منهم وعدم الاستجابة إلى ما يدعون إليه مما يخالف الشرع المطهر ، والله المستعان ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
وجوب إعفاء اللحية وتحريم حلقها أو تقصيرها
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه . . وبعد :
فقد ورد إلي سؤال عن حكم حلق اللحية أو قصها وهل يكون من حلقها متعمدا معتقدا حل ذلك كافرا ، وهل يقتضي حديث ابن عمر رضي الله عنهما وجوب إعفاء اللحية وتحريم حلقها أم لا يقتضي إلا استحباب الإعفاء؟(155/358)
الجواب : قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين متفق على صحته ورواه البخاري في صحيحه بلفظ : ( قصوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين ) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس " وهذا اللفظ في الأحاديث المذكورة يقتضي وجوب إعفاء اللحى وإرخائها وتحريم حلقها وقصها لأن الأصل في الأوامر هو الوجوب والأصل في النواهي هو التحريم ما لم يرد ما يدل على خلاف ذلك وهذا هو المعتمد عند أهل العلم ، وقد قال الله سبحانه : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وقال عز وجل : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قال الإمام أحمد رحمه الله : ( الفتنة : الشرك ) لعله إذا رد بعض قوله - يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم - أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ولم يرد في الكتاب ولا في السنة ما يدل على أن الأمر في هذه الأحاديث ونحوها للاستحباب ، أما الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها فهو حديث باطل عند أهل العلم؛ لأن في إسناده رجلا يدعى عمر بن هارون البلخي وهو متهم بالكذب ، وقد انفرد بهذا الحديث دون غيره من رواة الأخبار مع مخالفته للأحاديث الصحيحة ، فعلم بذلك أنه باطل لا يجوز التعويل عليه ولا الاحتجاح به في مخالفة السنة الصحيحة ، والله المستعان .(155/359)
ولا شك أن الحلق أشد في الإثم؛ لأنه استئصال للحية بالكلية ومبالغة في فعل المنكر والتشبه بالنساء،أما القص والتخفيف فلا شك أن ذلك منكر ومخالف للأحاديث الصحيحة ولكنه دون الحلق . أما حكم من فعل ذلك فهو عاص وليس بكافر ولو اعتقد الحل بنا على فهم خاطئ أو تقليد لبعض العلماء .
والواجب أن ينصح ويحذر من هذا المنكر؛ لأن حكم اللحية في الجملة فيه خلاف بين أهل العلم هل يجب توفيرها أو يجوز قصها ، أما الحلق فلا أعلم أحدا من أهل العلم قال بجوازه ولكن لا يلزم من ذلك كفر من ظن جوازه لجهل أو تقليد ، بخلاف الأمور المحرمة المعلومة من الدين بالضرورة لظهور أدلتها فإن استباحتها كفر أكبر إذا كان المستبيح ممن عاش بين المسلمين ، فإن كان ممن عاش بين الكفرة أو في بادية بعيدة عن أهل العلم فإن مثله توضح له الأدلة فإذا أصر على الاستباحة كفر ، ومن أمثلة ذلك الزنا والخمر ولحم الخنزير وأشباهها فإن هذه الأمور وأمثالها معلوم تحريمها من الدين بالضرورة وأدلتها ظاهرة في الكتاب والسنة فلا يلتفت إلى دعوى الجهل بها إذا كان من استحلها مثله لا يجهل ذلك كما تقدم . .
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح ، وأن يمنحنا الفقه في دينه والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ، إنه سميع قريب . . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
رد على سؤال عن حكم اللحية
**من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم . وفقه الله لما فيه رضاه ، وزاده من العلم والإيمان وجعله مباركا أينما كان آمين . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد :
فأرجو أنكم والأولاد ومن لديكم من خواص المسئولين في خير وعافية ، أسبغ الله عليكم وافر نعمه ، ووفقنا وإياكم لشكرها إنه خير مسئول .(155/360)
ثم أفيدكم أن مندوبكم ذكر لي أنكم ترغبون أن أكتب لكم في موضوع اللحية ، وبناء على ذلك يسرني أن أخبركم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعفى لحيته ، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم ، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال : " قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين " وروى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وفروا اللحى وقصوا الشوارب خالفوا المشركين وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب إعفاء اللحى وإرخائها وتوفيرها وعلى تحريم حلقها أو قصها . وتعلمون حفظكم الله أن الواجب على المسلم امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته أينما كان ومن أي جنس كان وعلى أي مستوى كان؛ لقوله سبحانه : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وقوله عز وجل : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وقوله عز وجل : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وقوله سبحانه : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(155/361)
والآيات في هذا الأمر كثيرة ، فالواجب عليكم العناية بتوفير اللحية وإعفائها وإرخائها ونصيحة من حولكم بذلك وأمرهم بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء وذلك هو طريق العزة والسعادة والنجاة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة ، وفقكم الله لما فيه صلاح دينكم ودنياكم ولما فيه صلاح العباد والبلاد ، ونصر بكم دينه وأعانكم على كل خير إنه جواد كريم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
رد على خطاب خاص برقم 186 / خ في 17 / 2 /1407 هـ .
بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق وما ورد في ذلك من آيات وأحاديث وآثار
** الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين . . أما بعد :
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأبناء أعزاء للتواصي بالحق والتذكير به والدعوة إليه ، والنصح لله ولعباده .
أسأل الله أن يصلح قلوبنا جميعا ، وأعمالنا ، وأن يمنحنا جميعا وجميع المسلمين الفقه في الدين ، والثبات عليه ، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان ، وأن يولي عليهم خيارهم ، وأن يوفق حكام المسلمين جميعا للتمسك بشريعته ، والحكم بها ، وإلزام الشعوب بها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
تم أشكر إخواني القائمين على هذا النادي ، وعلى رأسهم الأخ الكريم صاحب الفضيلة الدكتور راشد الراجح مدير جامعة أم القرى ورئيس النادي ، على دعوتهم لي لهذه المحاضرة وعنوانها : [حرمة مكة المكرمة ومكانة البيت العتيق ، وما ورد في ذلك من الآثار] .(155/362)
أيها الإخوة في الله لا يخفى على كل من له أدنى علم ، وأدنى بصيرة حرمة مكة ، ومكانة البيت العتيق؛ لأن ذلك أمر قد أوضحه الله في كتابه العظيم في آيات كثيرة ، وبينه رسوله محمد عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة ، وبينه أهل العلم في كتبهم ومناسكهم ، وفي كتب التفسير .
والأمر بحمد الله واضح ولكن لا مانع من التذكير بذلك ، والتواصي بما أوجبه الله من حرمتها والعناية بهذه الحرمة ، ومنع كل ما يضاد ذلك ويخالفه ، يقول الله عز وجل في كتابه المبين : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
أوضح الله سبحانه في هذه الآيات . أن البيت العتيق ، هو أول بيت وضع للناس وأنه مبارك ، وأنه هدى للعالمين . وهذه تشريفات عظيمة ، ورفع لمقام هذا البيت ، وتنويه بذلك . وقد ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال عليه الصلاة والسلام " المسجد الحرام " قلت ثم أي؟ قال " المسجد الأقصى " قلت كم بينهما؟ قال " أربعون عاما " قلت ثم أي؟ قال " حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن ذلك مسجد " . ويبين هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " الحديث .
هذا البيت العتيق هو أول بيت وضع للناس للعبادة والطاعة ، وهناك بيوت قبله للسكن ، ولكن أول ببت وضع للناس ليعبد الله فيه ويطاف به ، هو هذا البيت ، وأول من بناه هو خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وساعده في ذلك ابنه إسماعيل .(155/363)
أما ما روي أن أول من عمره هو آدم فهو ضعيف ، والمحفوظ والمعروف عند أهل العلم أن أول من عمره هو خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأول بيت وضع بعده للعبادة هو المسجد الأقصى على يد يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، وكان بينهما أربعون سنة ، ثم عمره بعد ذلك بسنين طويلة سليمان نبي الله عليه الصلاة والسلام ، وهذا البيت العتيق هو أفضل بيت ، وأول بيت وضع للناس للعبادة ، وهو بيت مبارك لما جعل الله فيه من الخير العظيم بالصلاة فيه ، والطواف به ، والصلاة حوله ، والعبادة ، كل ذلك من أسباب تكفير الذنوب ، وغفران الخطايا ، قال تعالى : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
فالله سبحانه قد جعل هذا البيت مثابة للناس يثوبون إليه ، ولا يشبعون من المجيء إليه ، بل كلما صدروا أحبوا الرجوع إليه ، والمثابة إليه ، لما جعل الله في قلوب المؤمنين من المحبة له والشوق إلى المجيء إليه ، لما يجدون في ذلك من الخير العظيم ، ورفع الدرجات ، ومضاعفة الحسنات ، وتكفير السيئات ، ثم جعله آمنا يأمن فيه العباد ، وجعله آمنا للصيد الذي فيه ، فهو حرم آمن ، يأمن فيه الصيد الذي أباح الله للمسلمين أكله خارج الحرم ، يأمن فيه حال وجوده به ، حتى يخرج لا ينفر ولا يقتل .
محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في النادي الثقافي الأدبي في مكة المكرمة مساء الأحد 26 / 11 / 1408 هـ .
ويقول سبحانه : وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا يعني وجب أن يؤمن ، وليس المعنى أنه لا يقع فيه أذى لأحد ، ولا قتل ، بل ذلك قد يقع ، وإنما المقصود أن الواجب تأمين من دخله ، وعدم التعرض له بسوء .(155/364)
وكانت الجاهلية تعرف ذلك ، فكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يؤذيه بشيء حتى يخرج ، فهذا البيت العتيق ، وهذا الحرم العظيم ، جعله الله مثابة للناس وأمنا ، وأوجب على نبيه إبراهيم وإسمعيل أن يطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود أي المصلين ، وقال في الآية الأخرى : وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ .
والقائم هنا هو : المقيم وهو : العاكف ، والطائف معروف ، والركع السجود هم : المصلون . فالله جلت قدرته أمر نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل أن يطهرا هذا البيت ، وهكذا جميع ولاة الأمور ، يجب عليهم ذلك . ولهذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يوم فتح مكة ، وأخبر أنه حرم آمن ، وأن الله حرمه يوم خلق السماوات والأرض ، ولم يحرمه الناس ، وقال : لا ينفر صيده ولا يعضد شجره ولا يختلى خلاه ولا يسفك فيه دم ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف ويعني عليه الصلاة والسلام بهذا : حرمة هذا البيت . فيجب على المسلمين ، وعلى ولاة الأمور ، كما وجب على إبراهيم وإسماعيل والأنبياء وعلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم أن يحترموه ويعظموه ، وأن يحذروا ما حرم الله فيه من إيذاء المسلمين ، والظلم لهم ، والتعدي عليهم حجاجا أو عمارا أو غيرهم .(155/365)
فالعاكف : المقيم ، والطائف معروف ، والركع السجود هم : المصلون . فالواجب تطهير هذا البيت للمقيمين فيه ، والمتعبدين فيه ، وإذا وجب على الناس أن يحترموه ، وأن يدفعوا عنه الأذى فالواجب عليهم أيضا أن يطهروا هذا البيت ، وأن يحذروا معاصي الله فيه ، وأن يتقا غضبه وعقابه ، وأن لا يؤذي بعضهم بعضا ، ولا أن يقاتل بعضهم بعضا ، فهو بلد آمن محترم يجب على أهله أن يعظموه وأن يحترموه ، وأن يحذروا معصية الله فيه ، وأن لا يظلم بعضهم بعضا ، ولا يؤذي بعضهم بعضا؛ لأن السيئة فيه عظيمة ، كما أن الحسنات فيه مضاعفة .
والسيئات عند أهل العلم والتحقيق تضاعف لا من جهة العدد ، فإن من جاء بالسيئة فإنما يجزى مثلها ، ولكنها مضاعفة بالكيفية . فالسيئة في الحرم ليست مثل السيئة في خارجه ، بل هي أعظم وأكبر ، حتى قال الله في ذلك : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ومن يرد فيه : أي يهم فيه ويقصد . فضمن يرد معنى يهم ولهذا عداه بالباء ، بقوله : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ أي : من يهم فيه بإلحاد بظلم . فإذا كان من هم بالإلحاد وأراده استحق العذاب الأليم ، فكيف بمن فعله .
إذا كان من يهم ومن يريد متوعدا بالعذاب الأليم ، فالذي يفعل الجريمة ، ويتعدى الحدود فيه من باب أولى في استحقاقه العقاب ، والعذاب الأليم . ويقول جل وعلا في صدر هذه الآية : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وهذا يبين لنا أنه محرم ، وأنه لا فرق فيه بين العاكف وهو المقيم ، والباد ، وهو : الوارد والوافد إليه من حاج ومعتمر وغيرهما .(155/366)
وهذا هو أول الآية في قوله تعالى : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وبين جل وعلا عظمة هذا المكان ، وأن الله جعله آمنا وجعله حرما ، ليس لأحد من المقيمين فيه ولا من الواردين إليه ، أن يتعدى حدود الله فيه ، أو أن يؤذي الناس فيه . ومن ذلك بعلم أن التعدي على الناس وإيذاءهم في هذا الحرم الآمن بقول أو فعل ، من أشد المحرمات المتوعد عليها بالعذاب الأليم ، بل من الكبائر .
ولما فتح الله على نبيه مكة عليه الصلاة والسلام ، خطب الناس وقال : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ولم يحرمه الناس وأن الله جل وعلا لم يحله لي إلا ساعة من نهار وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب وقال : إنه لا يحل لأحد أن يسفك فيه دما أو يعضد فيه شجرة ولا ينفر صيده ولا يختلى خلاه ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد أي معرف .
فإذا كان الصيد والشجر محترمين فيه ، فكيف بحال المسلم ، فمن باب أولى أن يكون تحريم ذلك أشد وأعظم وأكبر؛ فليس لأحد أن يحدث في الحرم شيئا مما يؤذي الناس لا بقول ولا بفعل ، بل يجب أن يحترمه ، وأن يكون منقادا لشرع الله فيه ، وأن يعظم حرمات الله أشد من أن يعظمها في غيره ، وأن يكون سلما لإخوانه يحب لهم الخير ، ويكره لهم الشر ، ويعينهم على الخير وعلى ترك الشر ، ولا يؤذي أحدا لا بكلام ولا بفعل ، ثم قال جل وعلا في سورة آل عمران : فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ فالله جعل فيه آيات بينات ، وهي التي فسرها العلماء بمقام إبراهيم ، أي مقامات إبراهيم ، لأن كلمة مقام لفظ مفرد مضاف إلى معرفة فيعم جميع مقامات إبراهيم ، فالحرم كله مقام إبراهيم تعبد فيه ، ومن ذلك المشاعر؛ عرفات والمزدلفة ومنى ، كل ذلك من مقام إبراهيم ، ومن ذلك الحجر الذي كان يقوم عليه وقت البناء ، والذي يصلي إليه الناس الآن كله من مقامات إبراهيم .(155/367)
ففي ذلك ذكرى لأولياء الله المؤمنين ، ليتأسوا بنبي الله إبراهيم ، كما أمر الله نبينا بذلك في قوله تعالى : ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا فأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم الخليل أبي الأنبياء جميعا . ونبي الله محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل جميعا ، وأكملهم بلاغا ونفعا للناس ، وتوجيها لهم إلى الخير ، وإرشادا لهم إلى الهدى ، وأسباب السعادة . فالواجب على كل مسلم من هذه الأمة أن يتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم في أداء الواجبات ، وترك المحرمات ، وكف الأذى عن الناس ، وإيصال الخير إليهم . فمن الواجب على ولاة الأمور من العلماء أن يبينوا وأن يرشدوا ، والواجب على ولاة الأمور من الأمراء والمسئولين أن ينفذوا حكم الله ، وينصحوا ، وأن يمنعوا كل من أراد إيذاء المسلمين في مكة من الحجاج والعمار وغيرهم كائنا من كان من الحجاج أو من غير الحجاج ، من السكان أو من غير السكان ، من جميع أجناس الناس .
يجب على ولاة الأمور تجاه هذا الحرم الشريف ، أن يصونوه وأن يحفظوه ، وأن يحموه من كل أذى كما أوجب الله ذلك ، وأوجب نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك يعلم أن ما حدث في العام الماضي عام 1407 هـ من بعض حجاج إيران من الأذى ، أمر منكر ، وأمر شنيع لا تقره شريعة ولا يقره ذو عقل سليم ، بل شريعة الله تحرم ذلك ، وكتاب الله يحرم ذلك وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تحرم ذلك .(155/368)
وهذا ما بينه أهل العلم وأجمعوا عليه من وجوب احترام هذا البيت وتطهيره من كل أذى ، وحمايته من كل معصية ، ومن كل ظلم ، ووجوب تسهيل أمر الحجيج والعمار وإعانتهم على الخير ، وكف الأذى عنه ، وأنه لا يجوز لأحد أبدا لا من إيران ولا من غير إيران أن يؤذوا أحدا من الناس ، لا بكلام ولا بفعال ، ولا بمظاهرات ولا بمسيرات جماعية تؤذي الناس ، وتصدهم عن مناسك حجهم وعمرتهم ، بل يجب على الحاج أن يكون كإخوانه المسلمين في العناية بالهدوء والإحسان إلى إخوانه الحجاج وغيرهم ، والرفق بهم وإعانتهم على الخير والبعد عن كل أذى .
هكذا يجب على الحجيج من كل جنس ، ومن كل مكان طاعة لله عز وجل ، وتعظيما لبيته العتيق ، وإظهارا لحرمة هذا المكان العظيم : مكة المكرمة وتنفيذا لأمر الله ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرا على منهج رسوله ، ومنهج أصحابه رضي الله عنهم . هذا هو الواجب على الجميع ، وهذا الأمر بحمد الله واضح لا يخفى على أحد ، وإنما يؤذي الناس في هذا البيت العتيق من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، أو من يجهل أحكام الله أو يقصد ظلم العباد ، فيكون عليه من الوزر ما يستحق بسبب إيذائه وظلمه .
وأما من آمن بالله واليوم الآخر ، إيمانا صحيحا ، فإن إيمانه يردعه عن كل ما حرم الله في هذا المكان وغيره . فإن الإيمان يردع أهله عن التعدي على حدود الله ، وارتكاب محارمه سبحانه ، وإنما يقدم العبد على المعصية لضعف إيمانه .(155/369)
والواجب على ولاة الأمور إزاء المسجد الحرام ، والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة : العناية بحمايتهما ودفع الأذى عنهما وعن سكانهما ، وعمن يقصدهما من العمار والحجاج ، والزوار ، طاعة لله ولرسوله ، وتعظيما لأمر الله عز وجل ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعونا للجميع على طاعة الله ورسوله وتأمينا لقلوبهم حتى لا يذهلوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم ، أو يقعوا في شيء مما حرمه الله عليهم ، والله يقول سبحانه وتعالى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ويقول سبحانه : وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ فلا بد من التواصي بالحق والصبر ، والتعاون علي البر والتقوى في هذا المكان وغيره ، بل إن هذا المكان أعظم من غيره ، وأفضل من غيره ، فإن مكة المكرمة هي أفضل البقاع ، وهي أحب البلاد إلى الله وأفضل مكان وأعظم مكان ، ثم يليها المدينة المنورة ، ثم المسجد الأقصى ، هذه هي المساجد الثلاثة التي خصها الله بمزيد التشريف على غيرها ، وهي أعظم مساجد الله ، وأفضل مساجد الله ، وأولى مساجد الله بالاحترام والعناية . وأعظم ذلك هذا البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا ، وواجب على أهله والوافدين إليه أن يعرفوا قدره ، وأن يعرفوا فضله ، حتى لا يقعوا فيما حرم الله .
وهذا واجب الجميع من المقيم والوارد ، ويجب على المقيمين فيه والساكنين فيه أن يعرفوا قدره ، وأن يعظموه ، وأن يحذروا ما حرم الله فيه . فإذا كان المريد فيه بذنب له عذاب أليم فكيف بالفاعل ، وليس الوارد إليه هو المخاطب بهذا الأمر إذ المقيم أولى وأولى ، لأنه دائم فيه .(155/370)
والواجب عليه أن يعلم ما حرم الله ، وأن يبتعد عن معصية الله ، وأن يجتهد في طاعة الله ورسوله ، وأن يكون عونا لإخوانه في مكة وإخوانه الوافدين إليها في حج وعمرة ، وأن يكون مرشدا لهم في الخير .
وهكذا على سكان مكة أن يعينوهم ويوجهوهم إلى الخير ، ويرشدوهم إلى أسباب النجاة ، وأن يحذروا إيذاءهم بأي أذى من قول أو فعل ، وأن يكونوا دعاة للحق . هكذا يجب في هذين المسجدين ، وفي هاتين البلدتين ، ويجب على المسلم في كل زمان ومكان أن يتقي الله وأن يعظم حرماته ، وأن يتعاون مع إخوانه على البر والتقوى ، وأن يبتعد عن كل ما حرم الله عز وجل ، ويجب على ولاة الأمور الضرب بيد من حديد ، على كل من خالف أمر الله ، أو أراد أن يتعدى حدوده ، أو يؤذي عباده ، طاعة لله سبحانه وتعالى ، وطاعة لرسوله عليه الصلاة والسلام ، وحماية للمسلمين من الحجاج والعمار والزوار وغيرهم ، واحتراما لهذا البلد العظيم ، وهذا البلد الأمين ، أن تنتهك فيه حرمات الله ، أو يتعدى فيه على حدود الله ، أو يؤمن فيه من لا يخاف الله ويراقبه على إيذاء عباده ، وتعكير صفو حجهم وأمنهم بفعل سيئ ، أو بقول سيئ .
ونسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلا ، أن يوفق المسلمين في كل مكان لكل ما فيه رضاه ، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم ، وأن يرزقهم أداء حقه ، والبعد عن محارمه أينما كانوا ، وأن يمنحهم الفقه في الدين ، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح البلاد والعباد ، وأن يعينهم على أداء الواجب ، وعلى حماية بيته العتيق ، ومدينة رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام من كل أذى ، ومن كل سوء ، وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا ، وأن يشغلهم بأنفسهم عن إيذاء عباده ، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم أينما كانوا ، وأن يكفي المسلمين شرهم إنه جل وعلا جواد كريم وسميع قريب . .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(155/371)
مضاعفة الحسنات كما وكيفا ومضاعفة السيئات كيفا لا كما
** وجهت إلي مجلة التوعية الإسلامية بالحج أسئلة ، من بينها السؤال التالي وهو :
سؤال : هل تضاعف السيئة في مكة مثل ما تضاعف الحسنة ولماذا تضاعف في مكة دون غيرها؟
الجواب : الأدلة الشرعية على أن الحسنات تضاعف في الزمان الفاضل والمكان الفاضل مثل رمضان وعشر ذي الحجة ، والمكان الفاضل كالحرمين فإن الحسنات تضاعف في مكة والمدينة مضاعفة كبيرة وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا " رواه أحمد وابن حبان بإسناد صحيح .
فدل ذلك على أن الصلاة بالمسجد الحرام تضاعف بمائة ألف صلاة في سوى المسجد النبوي ، وتضاعف بمائة صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وبقية الأعمال الصالحة تضاعف ، ولكن لم يرد فيها حد محدود إنما جاء الحد والبيان في الصلاة ، أما بقية الأعمال كالصوم والأذكار وقراءة القرآن والصدقات فلا أعلم فيها نصا ثابتا يدل على تضعيف محدد ، وإنما فيها في الجملة ما يدل على مضاعفة الأجر وليس فيها حد محدود .
والحديث الذي فيه : " من صام في مكة كتب الله له مائة ألف رمضان " حديث ضعيف عند أهل العلم .
والحاصل أن المضاعفة في الحرم الشريف بمكة المكرمة لا شك فيها - أعني مضاعفة الحسنات - لكن ليس في النص فيما نعلم حد محدود ما عدا الصلاة فإن فيها نصا يدل على أنها مضاعفة بمائة ألف صلاة كما سبق .
أما السيئات فالذي عليه المحققون من أهل العلم أنها لا تضاعف من جهة العدد ولكن تضاعف من جهة الكيفية ، أما العدد فلا ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا(155/372)
فالسيئات لا تضاعف من جهة العدد لا في رمضان ولا في الحرم ولا في غيرها ، بل السيئة بواحدة دائما وهذا من فضله سبحانه وتعالى وإحسانه . ولكن سيئة الحرم ، وسيئة رمضان ، وسيئة عشر ذي الحجة أعظم إثما من السيئة فيما سوى ذلك ، فسيئة في مكة أعظم وأكبر وأشد إثما من سيئة في جدة والطائف مثلا ، وسيئة في رمضان ، وسيئة في عشر ذي الحجة أشد وأعظم من سيئة في رجب ، أو شعبان ونحو ذلك .
فهي تضاعف من جهة الكيفية لا من جهة العدد ، أما الحسنات فهي تضاعف كيفية وعددا بفضل الله سبحانه وتعالى ، ومما يدل على شدة الوعيد في سيئات الحرم وأن سيئة الحرم عظيمة وشديدة ، قول الله تعالى : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
فهذا يدل على أن السيئة في الحرم عظيمة حتى إن في الهم بالسيئة فيه هذا الوعيد . وإذا كان من هم بالإلحاد في الحرم متوعدا بالعذاب الأليم فكيف بحال من فعل في الحرم الإلحاد بالسيئات والمنكرات فإن إثمه يكون أكبر من مجرد الهم وهذا كله يدلنا على أن السيئة في الحرم لها شأن خطير . وكلمة إلحاد تعم كل ميل إلى باطل سواء كان في العقيدة أو غيرها؛ لأن الله تعالى قال : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ
فنكر الجميع ، فإذا ألحد أحد أي إلحاد فإنه متوعد بهذا الوعيد . وقد يكون الميل عن العقيدة إلى الكفر بالله فيكفر بذلك فيكون ذنبه أعظم وإلحاده أكبر .
وقد يكون الميل إلى سيئة من السيئات كشرب الخمر والزنا وعقوق الوالدين أو أحدهما فتكون عقوبته أخف وأقل من عقوبة الكافر .
وإذا كان الإلحاد بظلم العباد بالقتل أو الضرب أو أخذ الأموال أو السب أو غير ذلك فهذا نوع آخر ، وكله يسمى إلحادا ، وكله يسمى ظلما ، وصاحبه على خطر عظيم ، لكن الإلحاد الذي هو الكفر بالله والخروج عن دائرة الإسلام أشد من سائر المعاصي وأعظم منها ، كما قال الله سبحانه وتعالى : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(155/373)
والله ولي التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه .
نشرت بالعدد التاسع من مجلة التوعية الإسلامية في الحج التي تصدر بمكة صـ 388
الأدلة من الكتاب والسنة تحرم الأغاني والملاهي وتحذر منها
** لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد في عددها السابع والستين والثامن والستين بقلم أبي تراب الظاهري تحت عنوان : [الكتاب والسنة لم يحرما الغناء ولا استعمال المعازف والمزامير والاستماع إليها] وتأملت ما ذكره في هذا المقال من الأحاديث والآثار وما اعتمده في القول بحل الغناء وآلات الملاهي تبعا لإمامه أبي محمد ابن حزم الظاهري ، فتعجبت كثيرا من جرأته الشديدة تبعا لإمامه أبي محمد على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الملاهي ، بل على ما هو أشنع من ذلك ، وهو القول بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة ، وعجبت أيضا من جرأتهما الشديدة الغريبة على القول بحل الغناء وجميع آلات الملاهي مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك من الآيات والأحاديث والآثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم ، فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم ، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان ، ولقد أنكر أهل العلم قديما على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة وعابوه بها ، وجرى عليه بسببها محن كثيرة فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه وعن سائر المسلمين .
ولقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير برهان ، وأخبر عز وجل أن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه ، قال تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(155/374)
وقال تعالى : وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ فحذر الله سبحانه عباده في هذه الآيات الكريمات من التحليل والتحريم بغير علم ، وبين سبحانه أن القول عليه بغير علم في رتبة رهيبة فوق الشرك ، ونبه عباده على أن الشيطان يحب منهم القول على الله بغير علم ، ويأمرهم به ليفسد عليهم بذلك دينهم وأخلاقهم ومجتمعهم ، فالواجب على كل مسلم أن يحذر القول على الله بغير علم ، وأن يخاف الله سبحانه ويراقبه فيما يحلل ويحرم ، وأن يتجرد من الهوى والتقليد الأعمى ، وأن يقصد إيضاح حكم الله لعباد الله على الوجه الذنب بينه الله في كتابه أو أرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته نصحا لله ولعباده ، وحذرا من كتمان العلم ورغبة في ثواب الله على ذلك ، فنسأل الله لنا ولسائر إخواننا التوفيق لهذا المسلك الذي سلكه أهل العلم والإيمان ، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، إنه على كل شيء قدير ،(155/375)
وأنا ذاكر لك أيها القارئ - إن شاء الله - ما وقع في كلام أبي تراب وإمامه أبي محمد من الأخطاء ، وموضح لك ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة والآثار في تحريم الغناء وآلات الملاهي ، وذاكر من كلام أهل العلم في هذا الباب ما يشفي ويكفي ، حتى تكون من ذلك على صراط مستقيم وحتى يزول عن قلبك - إن شاء الله - ما قد علق به من الشبه والشكوك التي قد يبتلي بها من سمع مقال أبي تراب وأضرابه من الكتاب ، وبالله نستعين ، وعليه نتوكل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
مجلة راية الإسلام - العددان 2 - 3 السنة الثانية محرم وصفر سنة 1381 هـ ص 70 - 75 ، والرابع والخامس ، ربيع الأول والثاني 1381 هـ ص 11 ، ص 23 .
قال أبو تراب : ( وتحقيق المسألة أن الغناء وآلاته والاستماع إليه مباح ، لم يرد في الشريعة - التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم - نص ثابت في تحريمه البتة ، والأدلة تؤخذ من الأصلين وهما الكتاب والسنة ، وما سواهما فهو شغب وباطل مردودة ولا يحل لمؤمن أن يعدو حدود الله قطعا . . . إلى أن قال في أثناء مقاله . . .
قال الحافظ أبو محمد ابن حزم : بيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير ، حلال كله ، من كسر شيئا من ذلك ضمنه إلا أن يكون صورة مصورة ، فلا ضمان على كاسرها ، لما ذكرنا من قبل؛ لأنها مال من مال مالكها ) .
أقول : لقد أخطأ أبو محمد ، وأخطأ بعده أبو تراب في تحليل ما حرم الله من الأغاني وآلات الملاهي ، وفتحا على الناس أبواب شر عظيم ، وخالفا بذلك سبيل أهل الإيمان وحملة السنة والقرآن ، من الصحابة وأتباعهم بإحسان ، وإن ذلك لعظيم ، وخطره جسيم ، فنسأل الله لنا وللمسلمين العافية من زيغ القلوب ورين الذنوب ، وهمزات الشيطان ، إنه جواد كريم .(155/376)
ولقد ذهب أكثر علماء الإسلام وجمهور أئمة الهدى إلى تحريم الأغاني وجميع المعازف ، وهي آلات اللهو كلها ، وأوجبوا كسر آلات المعازف وقالوا : لا ضمان على متلفها ، وقالوا : إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف ، كالطبل والمزمار والعود وأشباه ذلك ، حرم بالإجماع ، إلا ما يستثنى من ذلك من دق النساء الدف في العرس ونحوه ، على ما يأتي بيانه - إن شاء الله تعالى - وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح إجماع علماء الإسلام على ما ذكرنا من تحريم الأغاني والمعازف إذا اجتمعا ، كما سيأتي نص كلامه فيما نقله عنه العلامة ابن القيم رحمه الله ، وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب ومرضها وصدها عن القرآن الكريم واستماع العلوم النافعة ، ولا شك أن ذلك من مكايد الشيطان ، التي كاد بها الناس وصاد بها من نقص علمه ودينه حتى استحسن سماع قرآن الشيطان ومزموره ، بدلا من سماع كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي ، ووصفوه بالسفه والفسق ، وقالوا : لا تقبل شهادته ، كما سيأتي بعض كلامهم في ذلك - إن شاء الله - وما ذلك إلا لما ينشأ عن الاشتغال بالغناء والمعازف من ضعف الإيمان ، وقلة الحياء والورع ، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه ، ولما يبتلي به أرباب الغناء والمعازف من شدة الغفلة ، والارتياح إلى الباطل ، والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير ، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنا واللواط وشرب الخمور ، ومعاشرة النسوان والمردان ، إلا من عصم الله من ذلك . ومعلوم عند ذوي الألباب ما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال ،
وإليك - أيها القارئ الكريم - بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم .(155/377)
قال الله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هاتين الآيتين ما نصه : ( لما ذكر حال السعداء وهم : الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه ، كما قال تعالى : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الآية ، عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله ، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء والألحان وآلات الطرب ، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال : هو والله الغناء . وروى ابن جرير ، حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يزيد بن يونس ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله ابن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فقال عبد الله بن مسعود : الغناء ، والله الذي لا إله إلا هو ، يرددها ثلاث مرات . حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، أخبرنا حميد الخراط ، عن عمار عن سعيد بن جبير ، عن أبي الصهباء ، أنه سأل ابن مسعود عن قول الله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال : الغناء ؛ وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بديمة ، وقال الحسن البصري :(155/378)
نزلت هذه الآية : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، في الغناء والمزامبر . وقال قتادة : قوله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، والله ، لعله لا ينفق فيه مالا ، ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق ، وما يضر على ما ينفع ) انتهى كلامه .(155/379)
فتأمل - أيها القارئ الكريم - هاتين الآيتين الكريمتين ، وكلام هذا الإمام في تسيرهما ، وما نقل عن أئمة السلف في ذلك ، يتضح لك ما وقع فيه أرباب الأغاني والملاهي من الخطر العظيم ، وتعلم بذلك صراحة الآية الكريمة في ذمهم وعيبهم ، وأن اشتراءهم للهو الحديث ، واختيارهم له من وسائل الضلال والإضلال ، وإن لم يقصدوا ذلك ، أو يعلموه ، وذلك لأن الله سبحانه مدح أهل القرآن في أول السورة ، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة ، وأخبر أنهم أهل الهدى والفلاح ، حيث قال عز وجل : 3 الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ثم قال سبحانه بعد هذا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية وذلك يدل على ذم هؤلاء المشترين ، وتعرضهم للضلال بعد الهدى ، وما كان وسيلة للضلال والإضلال فهو مذموم ، يجب أن يحذر ويبتعد عنه ، وهذا الذي قاله الحافظ ابن كثير في تفسير الآية قاله غيره من أهل التفسير كابن جرير والبغوي والقرطبي وغير واحد ، حتى قال الواحدي في تفسيره : أكثر المفسرين على أن لَهْوَ الْحَدِيثِ هو الغناء ، وفسره آخرون بالشرك ، وفسره جماعة بأخبار الأعاجم وبالأحاديث الباطلة التي تصد عن الحق؛ وكلها تفاسير صحيحة؛ لا منافاة بينها ، والآية الكريمة تذم من اعتاد ما يصد عن سبيل الله ويلهيه عن كتابه ، ولا شك أن الأغاني وآلات الملاهي من أقبح لَهْوَ الْحَدِيثِ الصاد عن كتاب الله وعن سبيله ، قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - في تفسيره - لما ذكر أقوال المفسرين في لَهْوَ الْحَدِيثِ - ما نصه : والصواب من القول في ذلك أن يقال : عني به كل ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله ،(155/380)
مما نهى الله عن استماعه ، أو رسوله ، لأن الله تعالى عم بقوله لَهْوَ الْحَدِيثِ ولم يخصص بعضا دون بعض ، فذلك على عمومه ، حتى يأتي ما يدل على خصوصه ، والغناء والشرك من ذلك؛ انتهى كلامه .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ من في موضع رفع بالابتداء ، لَهْوَ الْحَدِيثِ الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما ، ثم بسط الكلام في تفسير هذه الآية ، ثم قال : المسألة الثانية : وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس ، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون ، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن ، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن ، وذكر الخمور والمحرمات ، لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق ، فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان في حفر الخندق ، وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع ، فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام ) انتهى كلامه .(155/381)
وهذا الذي قاله القرطبي كلام حسن ، وبه تجتمع الآثار الواردة في هذا الباب ، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : دخل علي النبي وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ، فاضطجع على الفراش وحول وجهه ، ودخل أبو بكر رضي الله عنه ، فانتهرني ، وقال : مزمار الشيطان عند النبي ، فأقبل عليه رسول الله ، فقال : " دعهما " فلما غفل غمزتهما فخرجتا وفي رواية لمسلم فقال رسول الله : يا أبا بكر ، إن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا . وفي رواية له أخرى ، فقال : " دعهما يا أبا بكر ، فإنها أيام عيد " وفي بعض رواياته أيضا " جاريتان تلعبان بدف " فهذا الحديث الجليل يستفاد منه أن كراهة الغناء وإنكاره وتسميته مزمار الشيطان أمر معروف مستقر عند الصحابة رضي الله عنهم ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها ، وسماه مزمار الشيطان ، ولم ينكر عليه النبي تلك التسمية ، ولم يقل له : إن الغناء والدف لا حرج فيهما وإنما أمره أن يترك الجاريتين ، وعلل ذلك بأنها أيام عيد ، فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذا للجواري الصغار في أيام العيد ، لأنها أيام فرح وسرور ، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا غناء الأنصار الذي تقاولوا به يوم بعاث ، فيما يتعلق بالشجاعة والحرب ، بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم ، فإنه يثير الغرائز الجنسية ، ويدعو إلى عشق الصور ، وإلى كثير من الفتن الصادة للقلوب عن تعظيم الله ومراعاة حقه ، فكيف يجوز لعاقل أن يقيس هذا على هذا ، ومن تأمل هذا الحديث علم أن ما زاد على ما فعلته الجاريتان منكر ، يجب التحذير منه حسما لمادة الفساد ، وحفظا للقلوب عما يصدها عن الحق ، ويشغلها عن كتاب الله وأداء حقه .(155/382)
وأما دعوى أبي تراب أن هذا الحديث حجة على جواز الغناء مطلقا ، فدعوى باطلة ، لما تقدم بيانه ، والآيات والأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب ، كلها تدل على بطلان دعواه . وهكذا الحديث الذي رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي ، عن عامر بن سعد البجلي ، أنه رأى أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد ، وهم في عرس وعندهم غناء ، فقلت لهم : ( هذا وأنتم أصحاب رسول الله ، فقالوا : إنه رخص لنا في الغناء في العرس ، والبكاء على الميت من غير نوح ) فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقا ، وإنما يدل على جوازه في العرس ، لإعلان النكاح ، ومن تأمل هذا الحديث عرف أنه دليل على منع الغناء ، لا على جوازه ، فإنه لما رخص لهم " في الغناء " في العرس لحكمة معلومة ، دل على منعه فيما سواه ، إلا بدليل خاص ، كما أن الرخصة للمسافر في قصر الرباعية يدل على منع غيره من ذلك ، وهكذا الرخصة للحائض والنفساء في ترك طواف الوداع يدل على منع غيرهما من ذلك ، والأمثلة لهذا كثيرة ، وأيضا فإنكار عامر بن سعد على هؤلاء الصحابة الغناء وإقرارهم له على ذلك ، دليل على أن كراهة الغناء والمنع منه أمر قد استقر عند الصحابة والتابعين وعرفوه عن النبي . والله المستعان .(155/383)
قال العلامة ابن القيم - رحمة الله عليه - في كتابه " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان " ما نصه : ( ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين ، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة ، ليصد القلوب عن القرآن ، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان ، فهو قرآن الشيطان ، والحجاب الكثيف عن القرآن ، وهو رقية اللواط والزنا ، وبه ينال الفاسق من معشوقه غاية المنى ، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكرا وغرورا ، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه ، فقبلت وحيه ، واتخذت لأجله القرآن مهجورا ) . . . إلى أن قال - رحمه الله . ( ولقد أحسن القائل :
تلي الكتاب فأطرقوا لاخيفة ... ... لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء ، فكالحمير تناهقوا ... ... والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن ... ... فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... ... تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... ... شهواتها ، يا ذبحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع ... ... أسبابه ، عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه ... ... وانظر إلى النسوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم فأي الخمرتين أحق بالت ... ... حريم والتأثيم عند الله
وقال آخر :
برئنا إلى الله من معشر ... ... بهم مرض من سماع الغنا
وكم قلت : يا قوم أنتم على ... ... شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة . . . . ... ... إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم ... ... لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا ... ... رجعنا إلى الله في أمرنا(155/384)
فعشنا على سنة المصطفى ... ... وماتوا على تنتنا ، تنتنا
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى ، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض ، وتحذر من سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة ) . انتهى كلامه رحمه الله . _
شبهة يجب أن تكشف
زعم أبو تراب . تبعا لابن حزم ، أن قوله سبحانه لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا الآية . . دليل على أن مشتري لَهْوَ الْحَدِيثِ من الأغاني والملاهي ، لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال أو الإضلال ، أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه فلا بأس في ذلك ، والجواب أن يقال : هذه شبهة باطلة من وجوه ثلاثة :
الأول ، أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الآية الكريمة ، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها ، ولم يقيدوا ذلك بهذا الشرط الذي قاله أبو تراب ، وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم .(155/385)
الوجه الثاني : أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها ، لأن الله سبحانه قال : لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية ، ولا قصد للإضلال أو الضلال ، ولو كان اشترى لهو الحديث وهو يعلم أنه يضل به أو يقصد ذلك لم يقل الله عز وجل لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لأن من علم أنه اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله لا يقال له : إنه لا يعلم وهكذا من قصد ذلك لا يقال : إنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم لأن من علم أن غايته الضلال أو قصد ذلك قد اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بعلم وقصد ، لا ليضل بغير علم ، فتأمل وتنبه - أيها القارئ الكريم - يتضح لك الحق ، وعليه تكون " اللام " في قوله لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لام العاقبة ، أو لام التعليل ، أي تعليل الأمر القدري . ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره ، وعلى كونها للعاقبة يكون المعنى : أن من اشترى لهو الحديث من الغناء والمعازف ، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله ، والإضلال واتخاذ سبيل الله هزوا ، والإعراض عن آيات الله ، استكبارا واحتقارا ، وإن لم يشعر بذلك ، ولم يقصده .(155/386)
وعلى المعنى الثاني ، وهو كونها لتعليل الأمر القدري ، يكون المعنى : أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله ، وعلى كلا التقديرين فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث ووعيده بأن مصيره إلى الضلال والاستهزاء بسبيل الله ، والتولي عن كتاب الله ، وهذا هو الواقع الكثير ، والمشاهد ممن اشتغل بلهو الحديث من الأغاني والمعازف ، واستحسنها وشغف بها ، يكون مآله إلى قسوة القلب والضلال عن الحق إلا من رحم الله ، وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة في مصادرها وموردها على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد والتحذير منها ، حذرا من الوقوع في غاياتها ، كما نهى النبي عن شرب القليل الذي لا يسكر ، حذرا من الوقوع في المسكر ، حيث قال عليه الصلاة والسلام " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ونهى عن الصلاة بعد الصبح ، وبعد العصر ، لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما وقع فيه بعض المشركين من عبادة الشمس عند طلوعها وغروبها ، ونظائر ذلك كثيرة يعرفها من له أدنى علم بالشريعة المطهرة ، والله المستعان .(155/387)
الوجه الثالث : أنه لو كان الذم مختصا بمن اشترى لهو الحديث لقصد الضلال أو الإضلال ، لم يكن في تنصيص الرب عز وجل على لَهْوَ الْحَدِيثِ فائدة؛ لأن الذم حينئذ لا يختص به ، بل يعم كل من فعل شيئا يقصد به الضلال أو الإضلال حتى ولو كان ذلك الشيء محبوبا إلى الله سبحانه وتعالى ، كمن اشترى مصحفا يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم ، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه عز وجل ، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال ، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير ، وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه ، وزعما أن الآية تختص بهذا الصنف ، وهو خطأ بين ، وعدول بالآية عن معناها الصحيح ، وإضاعة لمعناها الأكمل . فعرفت - أيها القارئ الكريم - من هذه الأوجه الثلاثة ، كشف شبهة أبي تراب وبطلانها ، واتضح لك أن الآية الكريمة حجة ظاهرة على ذم الأغاني والملاهي وتحريمهما ، وأنها وسيلة للضلال والإضلال والسخرية بسبيل الله ، والإعراض عن كتابه ، وإن لم يشعر مشتروها بذلك ، وهذا هو الذي فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة ، وهم أولى بالاتباع رضي الله عنهم ، وسبق لك كشف شبهة أبي تراب في تعلقه بحديث الجاريتين ، وكشف شبهته الأخرى في تعلقه بحديث أبي مسعود البدري وصاحبيه في الرخصة لهم في الغناء وقت العرس ، وأوضحنا فيما تقدم أن الحديثين المذكورين حجة ظاهرة على أبي تراب ، وإمامه ابن حزم في النهي عن الأغاني والمنع منها لا على جوازها والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .(155/388)
وقد تكلم العلامة ابن القيم رحمه الله على الآية المتقدمة ، وهي قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية ، بكلام حسن يؤيد ما تقدم وهذا نصه قال رحمه الله : ( قال الواحدي وغيره : أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث ، الغناء ، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه وقاله عبد الله بن مسعود في رواية أبى الصهباء عنه ، وهو قول مجاهد وعكرمة ، وروى ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال : هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلا ونهارا ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير ، والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل ، وهذا قول مكحول ، وهذا اختيار أبي إسحاق أيضا ، وقال : أكثر ما جاء في التفسير ، أن لَهْوَ الْحَدِيثِ ههنا ، هو الغناء ، لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى .(155/389)
قال الواحدي : قال أهل المعاني : ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن ، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار ، وهو كثير في القرآن ، قال : ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية لعله أن لا يكون أنفق مالا ، قال : وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق ، قال الواحدي : وهذه الآية على هذا التفسير ، تدل على تحريم الغناء ، قال : وأما غناء القينات فذلك أشد ما في الباب ، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه ، وهو ما روي أن النبي قال : " من استمع إلى قينة صب في أذنه الآنك يوم القيامة " . والآنك الرصاص المذاب ، وقد جاء تفسير لَهْوَ الْحَدِيثِ بالغناء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي مسند الإمام أحمد ، ومسند عبد الله بن الزبير الحميدي وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة ، والسياق للترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام " وفي مثل هذا نزلت هذه الآية : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهذا الحديث ، وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم ، فعبيد الله بن زحر ثقة ، والقاسم ثقة ، وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات سنذكرها إن شاء الله تعالى .(155/390)
ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث : بأنه الغناء ، فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ، قال أبو الصهباء : سألت ابن مسعود عن قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ فقال : والله الذي لا إله إلا هو ، هو الغناء يرددها ثلاث مرات وصح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أيضا أنه الغناء ، قال الحاكم أبو عبد الله في التفسير من كتاب المستدرك : ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند ، وقال في موضع آخر من كتابه : هو عندنا في حكم المرفوع ، وهذا وإن كان فيه نظرة فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم ، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه ، فعليهم نزل ، وهم أول من خوطب به من الأمة ، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول علما وعملا وهم العرب الفصحاء على الحقيقة ، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل ، ولا تعارض بين تفسير لَهْوَ الْحَدِيثِ بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم ونحو ذلك ، مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة ، يشغلهم به عن القرآن ، فكلاهما لهو الحديث
ولهذا قال ابن عباس : لَهْوَ الْحَدِيثِ الباطل والغناء ، فإن الصحابة من ذكر هذا ، ومنهم من ذكر الآخر ، ومنهم من جمعهما ، والغناء أشد لهوا وأعظم ضررا من أحاديث الملوك وأخبارهم ، فإنه رقية الزنا ، ومنبت النفاق ، وشرك الشيطان ، وخمرة العقل ، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل ، لشدة ميل النفوس إليه ، ورغبتها فيه .(155/391)
إذا عرف هذا ، فأهل الغناء ومستمعوه ، لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن وإن لم ينالوا جميعه ، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرا ، كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا ، وهو الثقل والصمم وإذا علم منه شيئا ، استهزأ به ، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا ، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم ، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم يوضحه أنك لا تجد أحدا عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعملا وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء ، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن ، عدل عن هذا إلى ذاك ، وثقل عليه سماع القرآن ، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ، ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته ، وأقل ما في هذا أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه .
والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها ، فأما من مات قلبه ، وعظمت فتنته ، فقد سد على نفسه طريق النصيحة وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ انتهى كلامه رحمه الله .(155/392)
ومن الآيات الدالة على ذم الأغاني والمعازف وهي آلات الملاهي قوله تعالى : وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا وقوله تعالى : - وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وقد فسر الصوت والزور : بالغناء وآلات الملاهي وفسر الصوت أيضا : بكل صوت يدعو إلى باطل ، وفسر الزور بكل منكر ، ولا منافاة بين التفاسير ، ومدلول الآيتين ، يعم ذلك كله ، ولا ريب أن الأغاني والملاهي من أقبح الزور ، ومن أخبث أصوات الشيطان لما يترتب عليها من قسوة القلوب ، وصدها عن ذكر الله وعن القرآن ، بل وعن جميع الطاعات إلا من رحم الله ، كما قد سلف بيان ذلك .
وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي فكثيرة ، وأصحها ما رواه البخاري في صحيحه ، حيث قال : وقال هشام بن عمار : حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثنا عطية بن قيس الكلابي ، حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري ، قال : حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري ، والله ما كذبني ، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " وهو صريح في ذم مستحلي المعازف ، حيث قرنهم مع مستحلي الزنا والخمر والحرير ، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال المعازف ، وهي آلات الملاهي ، كالطنبور والعود ، والطبل وغير ذلك من آلات الملاهي .(155/393)
وقد أجمع أهل اللغة على تفسير المعازف بآلات الملاهي ، وما ذاك إلا لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها ، واشتغالها عن الصلاة والقرآن ، وإذا انضم إليه الغناء ، صار الإثم أكبر ، والفساد أعظم ، كما سيأتي كلام أهل العلم في ذلك ، وقد تقدم لك بعضه . وأما الحر : فيروى بالحاء المهملة والراء ، وهو الفرج ، والمراد به الزنا ، ويروى بالخاء المعجمة والزاي ، وهو نوع من الحرير ، وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث ، وتلقوه بالقبول ، واحتجوا به على تحريم المعازف كلها ، وقد أعله ابن حزم وأبو تراب بعده ، تقليدا له بأنه منقطع بين البخاري رحمه الله وبين شيخه هشام بن عمار ، لكونه لم يصرح بسماعه منه ، وإنما علقه عنه تعليقا ، وقد أخطأ ابن حزم في ذلك ، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول ، وخطؤه فيه ، لأن هشاما من شيوخ البخاري ، وقد علقه عنه جازما به ، وما كان كذلك فهو صحيح عنده ، وقد قبل منه أهل العلم ذلك وصححوا ما علقه جازما به إلى من علقه عنه وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة ، ولعل البخاري لم يصرح بسماعه منه ، لكونه رواه عنه بالإجازة ، أو في معرض المذاكرة أو لكونه رواه عنه بواسطة بعض شيوخه الثقات فحذفه اختصارا أو لغير ذلك من الأسباب المقتضية للحذف . وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام ، فقد رواه عنه غيره متصلا ، عن هشام بن عمار . . إلخ . . بأسانيد صحيحة ، وبذلك بطلت شبهة ابن حزم ومقلده أبي تراب ، واتضح الحق لطالب الحق ، والله المستعان .(155/394)
وإليك أيها القارئ الكريم كلام أهل العلم في هذا الحديث ، وتصريحهم بخطأ ابن حزم في تضعيفه ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري - رحمه الله - لما ذكر هذا الحديث ، وذكر كلام الزركشي ، وتخطئته ابن حزم في تضعيفه ، قال ما نصه : ( وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها- يعني الزركشي - فقد سبقه إليها ابن الصلاح في علوم الحديث ، فقال : التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها ، وصورته صورة الانقطاع ، وليس حكمه حكمه ، ولا خارجا ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف ، ولا التفات إلى أبي محمد ابن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا : وقال هشام بن عمار ، وساقه بإسناده ، فزعم ابن حزم ، أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام ، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف ، وأخطأ في ذلك من وجوه ، والحديث صحيح معروف الاتصال ، بشرط الصحيح ، والبخاري قد يفعل مثل ذلك ، لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب ، التي لا يصحبها خلل الانقطاع ) انتهى .(155/395)
ثم قال الحافظ بعدما نقل كلام ابن الصلاح المذكور بأسطر ما نصه : ( وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم ، يكون صحيحا إلى من علق عنه ، ولو لم يكن من شيوخه ، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا ، إلى من علق عنه بشرط الصحة ، أزال الإشكال ، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع ، وصنفت كتاب " تغليق التعليق " وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي ، وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار ، جاء عنه موصولا في مستخرج الإسماعيلي ، قال : حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا هشام بن عمار ، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين ، فقال : حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد ، حدثنا هشام بن عمار ، قال وأخرجه أبو داود في سننه ، فقال : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، بسنده ) . انتهى .
وقال العلامة ابن القيم رحمة الله عليه في الإغاثة ، لما ذكر هذا الحديث ما نصه : ( هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به ، فقال : باب فيمن يستحل الخمر ، ويسميه بغير اسمه ، وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر ، أو أبو مالك الأشعري - والله ما كذبني - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولوا ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي ، وزعم أنه منقطع ، لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه :(155/396)
أحدها : أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال : قال هشام ، فهو بمنزلة قوله عن هشام . الثاني : أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه ، إلا وقد صح عنده أنه حدث به ، وهذا كثيرا ما يكون لكثرة ما رواه عنه ، عن ذلك الشيخ وشهرته ، فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس .
الثالث : أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به ، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك . الرابع : أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة ، التمريض ، فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه ، يقول : ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويذكر عنه ، ونحو ذلك فإذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد جزم وقطع بإضافته إليه . الخامس : أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحا ، فالحديث صحيح ، متصل عند غيره ، قال أبو داود في كتاب [اللباس] : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ، حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثنا عطية بن قيس ، قال سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري ، قال : حدثني أبو عامر أو أبو مالك فذكره مختصرا ، ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه : [الصحيح] ، مسندا ، فقال أبو عامر ولم يشك .
ووجه الدلالة منه أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ، ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز ، فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صح عن الصحابة رضي الله عنهم لبسه ، إذ الخز نوعان : أحدهما من حرير ، والثاني من صوف ، وقد روى هذا الحديث
من وجهين .(155/397)
وقال ابن ماجة في سننه ، حدثنا عبد الله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير " وهذا إسناد صحيح ، وقد توعد مستحلي المعازف فيه ، بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير ، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال ، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عباس ، وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي ، وعائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك ، وعبد الرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة .
ونحن نسوقها لتقربها عيون أهل القرآن ، وتشجي بها حلوق أهل سماع الشيطان ، ثم ساقها كلها ) .
ولولا طلب الاختصار لنقلتها لك - أيها القارئ الكريم - ولكني أحيل الراغب في الاطلاع عليها على كتاب الإغاثة ، حتى يرى ويسمع ما تقر به عينه ويشفى به قلبه ، وهي على كثرتها وتعدد مخارجها حجة ظاهرة وبرهان قاطع على تحريم الأغاني والملاهي ، والتنفير منها ، تضاف إلى ما تقدم من الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الأغاني والمعازف ، ويدل الجميع على أن استعمالها والاشتغال بها من وسائل غضب الله ، وحلول عقوبته والضلال والإضلال عن سبيله ، نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من ذلك ، والسلامة من مضلات الفتن ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وأما كلام العلماء في الأغاني والمعازف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، فهو كثير جدا وقد سبق لك بعضه ، وإليك جملة من كلامهم على سبيل التكملة والتأييد لما تقدم ، والله ولي التوفيق .(155/398)
روى علي بن الجعد وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع ) ، وقد روى ذلك عن النبي مرفوعا ، والمحفوظ أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله ، في كتاب الإغاثة ، لما ذكر هذا الأثر ، ما نصه : ( فإن قيل : فما وجه إنباته للنفاق في القلب ، من بين سائر المعاصي؟
قيل : هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها ، وأنهم هم أطباء القلوب ، دون المنحرفين عن طريقتهم ، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها ، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل ، وهكذا والله فعلوا ، بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها ، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة ، لم تكن في السلف ، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع ، وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر ، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى ، وقام كل جهول يطبب الناس .
فاعلم أن للغناء خواص ، لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ، ونباته فيه ، كنبات الزرع بالماء ، فمن خواصه :(155/399)
أنه يلهي القلب ، ويصده عن فهم القرآن وتدبره ، والعمل بما فيه ، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا ، لما بينهما من التضاد ، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ، ويأمر بالعفة ، ومجانبة شهوات النفوس ، وأسباب الغي ، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان ، والغناء يأمر بضد ذلك كله ، ويحسنه ، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها ، ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح ، فهو والخمر رضيعا لبان ، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان ، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه ، وخدينه وصديقه ، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ ، وهو جاسوس القلب ، وسارق المروءة ، وسوس العقل ، يتغلغل في مكامن القلب ، ويطلع على سرائر الأفئدة ، ويدب على محل التخيل ، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة؛ فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن ، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه ، وذهبت مروءته ، وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره ، وفرح به شيطانه ، وشكا إلى الله تعالى إيمانه ، وثقل عليه قرآنه ، وقال : يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد .
فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه ، وأبدى من سره ما كان يكتمه ، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب ، والزهزهة والفرقعة بالأصابع ، فيميل برأسه ، ويهز منكبيه ، ويضرب الأرض برجليه ، ويدق على أم رأسه بيديه ، ويثب وثبة الذباب ، ويدور دوران الحمار حول الدولاب ، ويصفق بيديه تصفيق النسوان ، ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران ، وتارة يتأوه تأوه الحزين ، وتارة يزعق زعقات المجانين ) ، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول :
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... ... على طيب السماع إلى الصباح؟
ودارت بيننا كأس الأغاني ... ... فأسكرت النفوس بغير راح(155/400)
فلم تر فيهم إلا نشاوى ... ... سرورا والسرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه ... ... أجاب اللهو : حي على السماح
ولم نملك سوى المهجات شيئا ... ... أرقناها لألحاظ الملاح
وقال بعض العارفين : ( السماع يورث النفاق في قوم ، والعناد في قوم ، والكذب في قوم ، والفجور في قوم ، والرعونة في قوم ) . وأكثر ما يورث عشق الصور ، واستحسان الفواحش . وإدمانه يثقل القرآن على القلب ، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية ، وإن لم يكن هذا نفاقا ، فما للنفاق حقيقة .
وسر المسألة : أنه قرآن الشيطان - كما سيأتي - فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا .
وأيضا فإن أساس النفاق : أن يخالف الظاهر الباطن ، وصاحب الغناء بين أمرين : إما أن يتهتك فيكون فاجرا ، أو يظهر النسك فيكون منافقا ، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة ، وقلبه يغلي بالشهوات ، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو ، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه ، فقلبه بذلك معمور ، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر ، وهذا محض النفاق .
وأيضا فإن الإيمان قول وعمل : قول بالحق ، وعمل بالطاعة وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن . والنفاق قول الباطل وعمل البغي وهذا ينبت على الغناء .
وأيضا فإن علامات النفاق : قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة وناقر الصلاة وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه .
وأيضا : فإن النفاق مؤسس على الكذب والغناء من أكذب الشعرة فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به ، ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق .
وأيضا : فإن النفاق غش ومكر وخداع والغناء مؤسس على ذلك .
وأيضا : فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات ، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات .
قال الضحاك : الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب .(155/401)
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده : ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن ، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء .
فالغناء يفسد القلب وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق .
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل القرآن تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق ) .
وقال ابن القيم في موضع آخر من الإغاثة : " قال الإمام أبو بكر الطرطوشي [وهو من أئمة المالكية] في خطبة كتابه في تحريم السماع :
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه والباطل باطلا فنتجنبه وقد كان الناس فيما مضى يستسر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها ثم كثر الجهل وقل العلم وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا ثم ازداد الأمر إدبارا ، حتى بلغنا أن طائفة من أخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والنقير واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله ، وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين وخالفت الفقهاء وحملة الدين : وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله ، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصي الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها والله ولي التوفيق .(155/402)
ثم قال : أما مالك فإنه ينهى عن الغناء وعن استماعه وقال : إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب ، وسئل مالك رحمه الله عما رخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال : إنما يفعله عندنا الفساق ، قال :
وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب . وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه ) انتهى كلام الطرطوشي .
قلت مراده بالطائفة التي أحبت الغناء واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله جماعة من الصوفية أحدثوا بدعة سماع الغناء وزعموا أنه ينشطهم على العبادة والتقرب إلى الله بأنواع القربات ، فأنكر علماء زمانهم عليهم ذلك وصاحوا بهم من كل جانب ، وأجمع علماء الحق على أن ما أحدثته هذه الطائفة بدعة منكرة . وألف الطرطوشي كتابه المشار إليه في الرد عليهم وبيان بطلان مذهبهم .
ومن هنا يعلم القارئ أن المفتونين بسماع الغناء والملاهي طائفتان :
الطائفة الأولى : اتخذته دينا وعبادة وهم شر الطائفتين وأشدهما إثما وخطرا لكونهم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله وجعلوا الغناء والملاهي اللذين هما أداة الفسق والعصيان دينا يتقربون به إلى الملك الديان .(155/403)
الطائفة الثانية : اتخذوا الغناء والملاهي لهوا ولعبا وترويحا عن النفوس وتسليا بذلك عن مشاغل الدنيا وأتعابها وهم مخطئون في ذلك وعلى خطر عظيم من الضلال والإضلال ، ولكنهم أخف من الطائفة الأولى لكونهم لم يتخذوا ذلك دينا وعبادة وإنما اتخذوه لهوا ولعبا وتجميما للنفوس ، وقد صرح أهل العلم بتحريم هذا وهذا وإنكار هذا وهذا ، ثم قال العلامة ابن القيم رحمة الله عليه بعد ما نفل كلام الطرطوشي المتقدم ما نصه : قلت مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب وقوله فيه أغلظ الأقوال وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب ، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق وترد به الشهادة وأبلغ من ذلك أنهم قالوا : أن السماع فسق والتلذذ به كفر ، هذا لفظهم ، ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه قالوا : ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره .
وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي : أدخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض ، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض ، قالوا ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا ، ومن شاء أزعجه عن داره .
وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء : إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته . وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ .
قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه ولا تصح يعني الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر ولم يذكر فيه خلافا ، وقال في المهذب : ولا يجوز على المنافع المحرمة كالغناء لأنه محرم فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم .
فقد تضمن كلام الشيخ أمورا أحدها :
أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة .
الثاني أن الاستئجار عليها باطل .(155/404)
الثالث أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضا عن الميتة والدم .
الرابع أنه لا يجوز لرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك فإنه بذل ماله في مقابلة محرم وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة .
الخامس : أن الزمر حرام ن وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراما فكيف بما هو أشد منه كالرد والطنبور واليراع ، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك فأقل ما فيه أنه من شعار العشاق وشاربي الخمور .
وكذلك فال أبو زكريا النووي في روضته :
القسم الثاني : أن يغني ببعض آلات الغناء بما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه قال وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم ثم ذكر عن الغزالي الجواز قال والصحيح تحربم اليراع : وهو الشبابة ، وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع .(155/405)
وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه : ( وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ، ولم يثبت عن أحد ممن يعتبر بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدف منفردا فمن لا يحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد اختلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع بهذه الملاهي ، وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه ، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد ، قال : وقولهم في السماع المذكور أنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى : وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء المسلمين منهما ، المحللون لما حرم الله والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه والشافعي وقدماء أصحابه والعارفون بمذهبه من أغلظ الناس قولا في ذلك وقد تواتر عن الشافعي أنه قال خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن . فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله أنه يصد عن القرآن وهو شعر يزهد في الدنيا يغني به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه ، فليت شعري ما يقول في من سماع التغبير عنده كتفلة في بحر ، قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم ، فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل .(155/406)
قال سفيان بن عيينة : ( كان يقال احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين )
وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه : سألت أبي عن الغناء قال :
( الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ) ثم ذكر قول مالك : ( إنما يفعله عندنا الفساق ) قال عبد الله : وسمعت أبي يقول : سمعت يحيى القطان يقول : ( لو أن رجلا عمل بكل رخصة : بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا ) .
قال أحمد : وقال سليمان التيمي : ( لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ) ونص على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها ، وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان ، ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها فقال لا تباع إلا على أنها ساذجة ) فقالوا : إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين فقال : ( لا تباع إلا على أنها ساذجة ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام ) وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد فإن أعظم المحرمات وأشدها فساد للدين .
قال الشافعي رحمه الله : ( وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته ) وأغلظ القول فيه وقال : ( هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثا ) .
قال القاضي أبو الطيب : ( وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقا ) . قال :(155/407)
وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول : ( وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن ) قال : ( وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام ومستمعه فاسق واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما ) قلت : يريد بهما إبراهيم بن سعد وعبيد الله بن الحسن فإنه قال : ( وما خالف في الغناء إلا رجلان إبراهيم بن سعد فإن الساجي حكى عنه أنه كان لا يرى به بأسا والثاني عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة وهو مطعون فيه ) انتهى كلام ابن القيم رحمه الله .
ونقل القرطبي في تفسيره عن الطبري ما نصه : ( فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه ، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري .
انتهى قلت وإبراهيم بن سعد وعبيد الله بن الحسن العنبري من ثقات أتباع التابعين ولعل ما نقل عنهما من سماع الغناء إنما هو في الشيء القليل الذي يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ولا يجوز حملهما على سماع الغناء المحرم ، وهكذا ما يروى عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من سماع الغناء وشراء الجواري المغنيات يجب أن يحمل على الشيء اليسير الذي لا يصد عن الحق ولا يوقع في الباطل مع أن ابن عمر والحسن البصري قد أنكرا عليه ذلك .
ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق أولى بالاتباع ، وأنه لا يجوز مخالفة الجماعة والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان ، بل يجب حمل أهلها على أحسن المحامل مهما وجد إلى ذلك من سبيل ، إذا كانوا أهلا لإحسان الظن بهم لما عرف من تقواهم وإيمانهم . وسبق لك أيها القارئ قول سليمان التيمي : ( لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ) .(155/408)
وذكر القرطبي في تفسيره ما نصه ( قال أبو الفرج : وقال القفال من أصحابنا : لا تقبل شهادة المغني والرقاص ، قلت : وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة لا يجوز ، وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك ) انتهى ما نقله القرطبي .
وهذا آخر ما تيسر إملاؤه في هذه المسألة - أعني مسألة الأغاني والمعازف - ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار وكلام أهل العلم لطال بنا الكلام وفيما تقدم كفاية ومقنع لطالب الحق .
وأما صاحب الهوى فلا حيلة فيه ونسأل الله لنا ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه والسلامة من أسباب غضبه وموجبات نقمه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونصيحتي لأبي تراب وغيره من المشغوفين بالغناء والمعازف أن يراقبوا الله ويتوبوا إليه وأن ينيبوا إلى الحق .
لأن الرجوع إلى الحق فضيلة والتمادي في الباطل رذيلة ، ولولا طلب الاختصار لنبهنا على جميع ما وقع في مقال أبي تراب من الأخطاء وصاحب البصرة يعرف ذلك مما تقدم ، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم .
حكم الغناء واجتماع الناس على آلات الملاهي والأغاني
[سؤالان وجها لسماحة الشيخ عن الغناء فأجاب عليهما وهما : ]
س1 : ما حكم الأغاني هل هي حرام أم لا ، رغم أنني أسمعها بقصد التسلية فقط؟ وما حكم العزف على الربابة والأغاني القديمة؟ وهل القرع على الطبل فى الزواج حرام بالرغم من أنني سمعت أنها حلال ولا أدري؟ - أثابكم الله وسدد خطاكم .(155/409)
الجواب : إن الاستماع إلى الأغاني حرام ومنكر ، ومن أسباب مرض القلوب وقسوتها وصدها عن ذكر الله وعن الصلاة . وقد فسر أكثر أهل العلم قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية : بالغناء . وكان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقسم على أن لهو الحديث هو : الغناء . وإذا كان مع الغناء آلة لهو كالربابة والعود والكمان والطبل صار التحريم أشد . وذكر بعض العلماء أن الغناء بآلة لهو محرم إجماعا .
فالواجب الحذر من ذلك ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " والحر هو : الفرج الحرام - يعني الزنا - والمعازف هي الأغاني وآلات الطرب . وأوصيك وغيرك بسماع إذاعة القرآن الكريم وبرنامح نور على الدرب ففيهما فوائد عظيمة ، وشغل شاغل عن سماع الأغاني وآلات الطرب .
أما الزواج فيشرع فيه ضرب الدف مع الغناء المعتاد الذي ليس فيه دعوة إلى محرم ولا مدح لمحرم في وقت من الليل للنساء خاصة لإعلان النكاح والفرق بينه وبين السفاح كما صحت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
أما الطبل فلا يجوز ضربه في العرس ، بل يكتفى بالدف خاصة ، ولا يجوز استعمال مكبرات الصوت في إعلان النكاح وما يقال فيه من الأغاني المعتادة لما في ذلك من الفتنة العظيمة والعواقب الوخيمة وإيذاء المسلمين ، ولا يجوز أيضا إطالة الوقت في ذلك بل يكتفى بالوقت القليل الذي يحصل به إعلان النكاح لأن إطالة الوقت تفضي إلى إضاعة صلاة الفجر والنوم عن أدائها في وقتها وذلك من أكبر المحرمات ومن أعمال المنافقين .
نشر هذا السؤال مع جوابه ضمن رسالة عنوانها رسالة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم طبعت على نفقة أحد المحسنين عام 1408 هـ الطبعة الرابعة ص 24 - 25 . وكذالك في كتاب الدعوة جـ 1 صـ 224 .(155/410)
س2 : ما حكم ما يتعاطاه بعض الناس من الاجتماع على آلات الملاهي كالعود والكمان والطبل وأشباه ذلك وما يضاف إلى ذلك من الأغاني ويزعم أن ذلك مباح .
الجواب : قد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ذم الأغاني وآلات الملاهي والتحذير منها ، وأرشد القرآن الكريم إلى أن استعمالها من أسباب الضلال واتخاذ آيات الله هزوا ، كما قال تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وقد فسر أكثر العلماء لهو الحديث بالأغاني وآلات الطرب وكل صوت يصد عن الحق وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " والمعازف هي : الأغاني وآلات الملاهي .
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي آخر الزمان قوم يستحلونها كما يستحلون الخمر والزنا والحرير وهذه من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم فإن ذلك وقع كله ، والحديث يدل على تحريمها وذم من استحلها ، كما يذم من استحل الخمر والزنا ، والآيات والأحاديث في التحذير من الأغاني وآلات اللهو كثيرة جدا .(155/411)
ومن زعم أن الله أباح الأغاني وآلات الملاهي فقد كذب وأتى منكرا عظيما نسأل الله العافية من طاعة الهوى والشيطان . وأعظم من ذلك وأقبح وأشد جريمة من قال إنها مستحبة ، ولا شك أن هذا من الجهل بالله والجهل بدينه بل من الجرأة على الله والكذب على شريعته ، وإنما يستحب ضرب الدف في النكاح للنساء خاصة لإعلانه والتمييز بينه وبين السفاح ، ولا بأس بأغاني النساء فيما بينهن مع الدف إذا كانت تلك الأغاني ليس فيها تشجيع على منكر ولا تثبيط عن واجب ، ويشترط أن يكون ذلك فيما بينهن من غير مخالطة للرجال ، ولا إعلان يؤذي الجيران ، ويشق عليهم ، وما يفعله بعض الناس من إعلان ذلك بواسطة المكبر فهو منكر لما في ذلك من إيذاء المسلمين من الجيران وغيرهم ولا يجوز للنساء في الأعراس ولا غيرها أن يستعملن غير الدف من آلات الطرب كالعود والكمان والرباب وشبه ذلك بل ذلك منكر وإنما الرخصة لهن في استعمال الدف خاصة . أما الرجال فلا يجوز لهم استعمال شيء من ذلك لا في الأعراس ولا في غيرها ، وإنما شرع الله للرجال التدرب على آلات الحرب كالرمي وركوب الخيل والمسابقة بها وغير ذلك من أدوات الحرب كالتدرب على استعمال الرماح والدرق والدبابات والطائرات وغير ذلك كالرمي بالمدافع والرشاش والقنابل وكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله .
وأسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ، وأن يوفقهم للفقه في دينه وتعلم ما ينفعهم في جهاد عدوهم والدفاع عن دينهم وأوطانهم ، إنه سميع مجيب
نشرهذا السؤال وجوابه في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية العدد الثالث السنة الثانية محرم 1390 هـ صـ 185 ، 186 .
حكم الأغاني في الإسلام(155/412)
لقد اطلعت على ما كتبته بعض الصحف المحلية عن بعض الكتاب من الدعوة إلى تزويد الإذاعة السعودية بالأغاني والمطربين المشهورين والمطربات المشهورات ، تأسيا باليهود وأشباههم في ذلك ورغبة في جذب أسماع المشغوفين بالغناء والراغبين في سماعه من الإذاعات الأخرى إلى سماعه من الإذاعة السعودية ، وقرأت أيضا ما كتبه فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم والشيخ حسن بن عبد الله وكاتب آخر لم يفصح عن اسمه من الرد على هذه الدعوة الحمقاء والفكرة النكراء والرغبة المنحرفة إلى أسباب الردى ، فجزى الله أنصار الحق كل خير وهدى الله من حاد عنه إلى رشده وكفى المسلمين شره وفتنته .(155/413)
أيها القارئ الكريم إن الإذاعة في حد ذاتها أداة ذات حدين إن أحسنت استعمالها فهي لك وإن أسأت استعمالها فهي عليك . ولا شك أن الواجب في نفس الأمر شرعا وعقلا أن تكون هذه الأداة أداة تعمير وتوجيه وإرشاد إلى ما ينفع الأمة في الدين والدنيا ، ولا يجوز بوجه من الوجوه أن تكون أداة تخريب وإفساد وإشغال للأمة بما يضرهم ولا ينفعهم . ولا ريب أيضا عند ذوي العقول الصحيحة والفطر السليمة أن تزويد الإذاعة بالأغاني والمطربين والمطربات من سبل الفساد والتخريب لا من سبل الإصلاح والتعمير ويا ليت هؤلاء الذين دعوا إلى التأسي باليهود وأشباههم في الأغاني ارتفعت همتهم فدعوا إلى التأسي بهم في إيجاد المصانع النافعة والأعمال المثمرة ، ولكن ويا للأسف انحطت أخلاق هؤلاء ونزلت همتهم حتى دعوا إلى التأسي بأعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المسلمين عموما والعرب خصوصا في خصلة دنيئة من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال ، بل من الأمراض المخدرة للشعوب والسالبة لحريتها وأفكارها ، والصارفة لها عن معالي الأمور ومكارم الأخلاق وعن النشاط في ميادين الإصلاح إلى ضد ذلك ومن أراد أن يعرف مثالا لسقوط الهمم وضعف التفكير وانحطاط الأخلاق فهذا مثاله ، دعوة من بلاد إسلامية إلى خلق من أحط الأخلاق يتأسى فيه بأمة من أحط الأمم وأشدها عداوة للإسلام والعرب وقد غضب الله عليها ولعنها ، فالمتأسي بها له نصيب من ذلك ولا شك أن هذا من آيات الله التي ميز بها بين عباده وجعلهم أصنافا متباينة ، هذا همته فوق الثريا ينشد الإصلاح أينما كان ، ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ويدعو إلى الأعمال المثمرة والمصانع النافعة للأمة في دينها ودنياها في عصر العلم المادي والجموح الفكري والتيارات الجارفة المتنوعة ، وشخص آخر قد انحطت همته إلى الثرى يدعو إلى سفاسف الأمور وخبيث الأخلاق ، يدعو إلى ما يضعف الأمة ويشغلها عن طرق الإصلاح وكسب القوة وعمارة البلاد بكل عمل جدي(155/414)
مثمر ، يدعو إلى التأسي بالأمة العاملة في الخسيس لا في الحسن وفي الفساد لا في الإصلاح وفي الشر لا في الخير وفي ما يضر لا ما ينفع ، هذه والله العبر التي لا يزال الله سبحانه يوجدها بين عباده ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة ، فسبحان الله ما أعظم شأنه وسبحان الله ما أحكمه وأعلمه بأحوال عباده .
( 1 ) مجلة راية الإسلام ، العدد الثاني والثالث ، السنة الثانية محرم وصفر سنة 1381 هـ ص 12 - 15 .
أيها القارئ الكريم إن تزويد الإذاعة بالأغاني والطرب وآلات الملاهي فساد وحرام بإجماع من يعتد به من أهل العلم وإن لم يصحب الغناء آلة اللهو فهو حرام عند أكثر العلماء وقد علم بالأدلة المتكاثرة أن سماع الأغاني والعكوف عليها ولا سيما بآلات اللهو كالعود والموسيقى ونحوهما من أعظم مكايد الشيطان ومصائده التي صاد بها قلوب الجاهلين وصدهم بها عن سماع القرآن الكريم وحبب إليهم العكوف على الفسوق والعصيان ، والغناء هو قرآن الشيطان ومزماره ورقية الزنا واللواط والجالب لأنواع الشر والفساد .(155/415)
وقد حكى أبو بكر الطرطوشي وغير واحد من أهل العلم عن أئمة الإسلام ذم الغناء وآلات الملاهي والتحذير من ذلك ، وحكى الحافظ العلامة أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عن جميع العلماء تحريم الغناء المشتمل على شيء من آلات الملاهي كالعود ونحوه وما ذاك إلا لما في الغناء وآلات الطرب من إمراض القلوب وإفساد الأخلاق والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولا شك أن الغناء من اللهو الذي ذمه الله وعابه وهو مما ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ولاسيما إذا كان من مطربين ومطربات قد اشتهروا بذلك فإن ضرره يكون أعظم وتأثيره في إفساد القلوب أشد ، قال الله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ قال الواحدي وغيره : ( أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث : الغناء انتهى ) وكان ابن مسعود رضي الله عنه - وهو أحد كبار الصحابة وعلمائهم - يحلف بالله الذي لا إله إلا هو على أن لهو الحديث هو الغناء ، وقال رضي الله عنه : ( الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع ) وقد ورد عن السلف من الصحابة والتابعين أثار كثيرة بذم الغناء وآلات الملاهي والتحذير من ذلك ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليكونن من أمتي أقواما يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " رواه البخاري والحر هو الفرح الحرام والمراد بذلك الزنا ، وأما المعازف فهي آلات الملاهي كلها كالموسيقى والطبل والعود والرباب والأوتار وغير ذلك .(155/416)
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب : [الإغاثة] لا خلاف بين أهل اللغة في تفسير المعازف بآلات اللهو كلها ) وخرج الترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ " فقال رجل من المسلمين متى ذلك يا رسول الله؟ قال " إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور " وخرج أحمد في مسنده بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الني صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر " والكوبة هي : الطبل ، قاله سفيان أحد رواة الحديث .
وقد روي في ذم الغناء والملاهي أحاديث وآثار كثيرة لا تحتمل هذه الكلمة ذكرها ، وفيما ذكرنا كفاية ومقنع لطالب الحق ولا شك أن الداعين إلى تزويد الإذاعة بالأغاني وآلات الملاهي قد أصيبوا في تفكيرهم حتى استحسنوا القبيح واستقبحوا الحسن ، ودعوا إلى ما يضرهم ويضر غيرهم ولم ينتبهوا للأضرار والمفاسد والشرور الناتجة عن ذلك ، وما أحسن قول الله تعالى حيث يقول : أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وصدق الشاعر حيث يقول :
يقضى على المرء في أيام محنته ... ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن من دعا إلى ضلالة فعليه إثمها ومثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا .(155/417)
ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " فيا له من خطر عظيم ووعيد شديد لمن حبذ الباطل ودعا إليه وإن نصيحتي لهؤلاء الداعين إلى الغناء والملاهي أن يتوبوا إلى الله من معصيتهم وأن يراجعوا الحق ويسألوا الله الهداية فهو خير لهم من التمادي في الباطل والله سبحانه يتوب على من تاب ويحلم على من عصى ويملي ولا يغفل .
نسأل الله لنا ولهم ولسائر المسلمين الهداية والعافية من نزغات الشيطان .
ومما تقدم من الأدلة والآثار وكلام أهل العلم يعلم كل من له أدنى بصيرة أن تطهير الإذاعات مما يضر الأمم واجب متحتم لا يسوغ الإخلال به سواء كانت الإذاعة شرقية أو غربية إذا كانت تحت ولاية المسلمين ، فكيف إذا كانت الإذاعة في مهبط الوحي ومنبع النور ومحل القبلة التي يوجه المسلمون إليها وجوههم أينما كانوا في اليوم والليلة خمس مرات ، لا شك أنها أولى وأحق بالتطهير والصيانة من كل ما يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم .(155/418)
ولا ريب أن تزويدها بالأغاني وآلات الملاهي مما يضر المسلمين ضررا ظاهرا في دينهم ودنياهم ، فوجب أن تصان وسائل إعلامنا من ذلك ، وأن تكون وسائل إعلام إسلامية محضة تنشر الحق وتدعو إليه وتحذر من الباطل وتنفر منه ، تزود الناس ما ينفعهم ويرضي الله عنهم في الدنيا والآخرة وتكون نبراسا يهتدي به المسلمون أينما كانوا ، فتارة تزودهم بالعلوم النافعة والتوجيهات السديدة وتلاوة القرآن الكريم وتفسيره بما جاء عن الرسول والسلف الصالح ونشر محاسن الإسلام وبيانه لهم سليما من شوائب الشرك والبدع ، وطورا تسمعهم أحاديث طبية وأحاديث زراعية وتوجيهات تجارية وتعليمات تربوية وإرشادات منزلية إلى غير ذلك من أوجه النفع وطرق الإصلاح الديني والدنيوي .
هكذا يجب أن تكون وسائل إعلامنا ، وهكذا يجب على المسئولين أن يوجهوها ويطهروها مما لا يليق بها ، وأنهم والله مسئولون عن ذلك يوم القيامة أمام العزيز الجبار يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم(155/419)
ولقد أحسنت حكومتنا وفقها الله في إيجاد إذاعة خاصة بالقرآن الكريم والتفسير والأحاديث الدينية ، وصارت بذلك قدوة لكثير من الدول الإسلامية ، كما أحسنت في إيجاد البرنامج العظيم الفائدة ، وهو برنامج نور على الدرب لما يشتمل عليه من استقبال أسئلة المسلمين في أنواع العلوم والإجابة عليها من جماعة من خواص أهل العلم والفقه في الدين والسير على منهج السلف الصالح ، فجزى الله حكومتنا عن ذلك أحسن الجزاء وأفضله وأدام توفيقها لكل خير وإني أتوجه بهذه الكلمة بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جميع العلماء وعن جميع المسلمين الذين يغارون لله ويغضبون إذا انتهكت محارمه ، أتوجه بذلك إلى جميع ولاة أمور المسلمين وأسألهم أن يصونوا وسائل الإعلام عن البرامج الهدامة ويطهروها من كل ما يضر المسلمين وأن لا يولوا على شئونها إلا من يخاف الله ويتقيه ، وذلك مما أوجب الله عليهم وهم الرعاة للمسلمين وكل راع مسئول عن رعيته ، فأسأل الله أن يوفقهم لإصلاح هذه الوسائل الإعلامية وأن يعينهم على صيانتها من كل ما يضر العباد والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين لكل خير وأن ينصر بهم الحق وأن يصون بهم الشريعة ويحمي بهم حماها من جميع البدع والمنكرات ، وأن يصلح لهم البطانة ويمنحهم التوفيق في كل ما يأتون ويذرون ، بأن يوفق جميع المسئولين في حكوماتهم للتمسك بالشرع والتعظيم لحرماته والحذر مما يخالفه إنه على كل شيء قدير ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه
الإجابة عن سؤال حول الغناء(155/420)
قرأت في صحيفة عكاظ في العدد 6101 السبت 29 ربيع الثاني 1403 هـ في خبر مفاده : أن هناك مطربا سعوديا اعتزل الغناء ، وفي إحدى الرحلات الجوية بين القاهرة وباريس التقى هذا المطرب بأحد رجال الدين وتجاذب معه أطراف الحديث حول الغناء ومشروعيته ، ولم ينزل المطرب من الطائرة إلا وقد أقنعه رجل الدين بمشروعية الغناء بالأدلة والبراهين وعاد وقام بعدة أغان تعتبر باكورة إنتاجه .
س- هل الغناء مشروع في الإسلام وبالأدلة والبراهين أيضا خصوصا هذا النوع الخليع في الوقت الحاضر والمصحوب بالموسيقى؟
جـ- الغناء محرم عند جمهور أهل العلم وإذا كان معه آلة لهو كالموسيقى والعود والرباب ونحو ذلك حرم بإجماع المسلمين .
ومن أدلة ذلك قول الله سبحانه : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فسره جمهور المفسرين : بالغناء ، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقسم على ذلك ويقول : ( إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل ) وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " الحديث رواه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به ورواه غيره بأسانيد صحيحة والمعازف هي : الغناء وآلات اللهو وبهذا يعلم أن هذا الذي أفتى - إن صح النقل - بمشروعية الغناء قد قال على الله بغير علم وأفتى فتوى باطلة سوف يسأل عنها يوم القيامة والله المستعان .
( 1 ) نشرت بمجلة الدعوة ، العدد 907 يوم 21 / 11 / 1403 هـ .
حكم الاستماع إلى الأغاني
س1 : ما حكم الاستماع إلى الأغاني؟(155/421)
جـ- الاستماع إلى الأغاني لا شك في حرمته وما ذاك إلا لأنه يجر إلى معاص كثيرة وإلى فتن متعددة ، ويجر إلى العشق والوقوع في الزنا والفواحش واللواط ويجر إلى معاص أخرى كشرب المسكرات ولعب القمار وصحبة الأشرار ، وربما أوقع في الشرك والكفر بالله على حسن أحوال الغناء واختلاف أنواعه ، والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
فأخبر سبحانه أن بعض الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قرئ ليضل بضم الياء وقرئ ليضل بفتح الياء مع كسر الضاد فيهما ، واللام للتعليل والمعنى أنه بتعاطيه واستعاضته لهو الحديث وهو الغناء يجره ذلك إلى أن يضل في نفسه ويضل غيره يضل بسبب ما يقع في قلبه من القسوة والمرض فيضل عن الحق لتساهله بمعاصي ، الله ومباشرته لها ، وتركه بعض ما أوجب الله عليه مثل ترك الصلاة في الجماعة وترك بر الوالدين ومثل لعب القمار والميل إلى الزنا والفواحش واللواط إلى غير ذلك مما قد يقع
بسبب الأغاني .
قال أكثر المفسرين : ( معنى لَهْوَ الْحَدِيثِ في الآية الغناء ) وقال جماعة آخرون : ( كل صوت منكر من أصوات الملاهي فهو داخل في ذلك كالمزمار والربابة والعود والكمان وأشباه ذلك وهذا كله يصد عن سبيل الله ويسبب الضلال والإضلال ) .(155/422)
وثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي الجليل أحد علماء الصحابة رضي الله عنهم أنه قال في تفسير الآية إنه والله الغناء وقال إنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل والآية تدل على هذا المعنى فإن الله قال : لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني : يعمي عليه الطريق كالسكران . لأن الغناء يسكر القلوب ويوقع في الهوى والباطل فيعمى عن الصواب إذا اعتاد ذلك حتى يقع في الباطل من غير شعور بسبب شغله بالغناء وامتلاء قلبه به وميله إلى الباطل وإلا عشق فلانة وفلان وإلى صحبة فلانة وفلان ، وصداقة فلانة وفلان وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا معناه : هو اتخاذ سبيل الله هزوا ، وسبيل الله هي دينه ، والسبيل تذكر وتؤنث فالغناء واللهو يفضي إلى اتخاذ طريق الله لهوا ولعبا وعدم المبالاة في ذلك وإذا تلي عليه القرآن تولى واستكبر وثقل عليه سماعه لأنه اعتاد سماع الغناء وآلات الملاهي فيثقل عليه سماع القرآن ولا يستريح لسماعه وهذا من العقوبات العاجلة .
فالواجب على المؤمن أن يحذر ذلك وهكذا على كل مؤمنة الحذر من ذلك ، وجاء في المعنى أحاديث كثيرة كلها تدل على تحريم الغناء وآلات اللهو والطرب وأنها وسيلة إلى شر كثير وعواقب وخيمة وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه [إغاثة اللهفان] الكلام في حكم الأغاني وآلات اللهو فمن أراد المزيد من الفائدة فليراجعه فهو مفيد جدا والله المستعان وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
( 1 ) نشرت في المجلة العربية .
حكم الاستماع إلى الموسيقى(155/423)
الموسيقى وغيرها من آلات اللهو كلها شر وبلاء ، ولكنها مما يزين الشيطان التلذذ به والدعوة إليه حتى يشغل النفوس عن الحق بالباطل ، وحتى يلهيها عما أحب الله إلى ما كره الله وحرم فالموسيقى والعود وسائر أنواع الملاهي كلها منكر ولا يجوز الاستماع إلا وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف والحر هو : الفرج الحرام
- يعني الزنا - والمعازف هي : الأغاني وآلات الطرب .
وأوصيك وغيرك من النساء والرجال بالإكثار من قراءة القرآن الكريم والاستماع لبرنامج [نور على الدرب] ، ففيهما فوائد عظيمة وشغل شاغل عن سماع الأغاني وآلات الطرب ، وفق الله الجميع لكل ما يحب ويرضى إنه سميع مجيب .
( 1 ) نشرت في المجلة العربية .
حكم استماع الأناشيد الإسلامية
س1 : ما حكم استماع أشرطة الأناشيد الإسلامية؟
جـ- الأناشيد تختلف فإذا كانت سليمة ليس فيها إلا الدعوة إلى الخير والتذكير بالخير وطاعة الله ورسوله والدعوة إلى حماية الأوطان من كيد الأعداء والاستعداد للأعداء ، ونحو ذلك ، فليس فيها شيء . أما إذا كان فيها غير ذلك من دعوة إلى المعاصي واختلاط النساء بالرجال أو تكشفهن عندهم أو أي فساد كان فلا يجوز استماعها .
( 1 ) نشرت في المجلة العربية .
أسئلة وأجوبة عن الغزو الفكري
س1 : ما هو تعريف الغزو الفكري في رأيكم؟
جـ : الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة وهو أخطر من الغزو العسكري ، لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية ، وسلوك المآرب الخفية في بادئ الأمر ، فلا تحس به الأمة المغزوة ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس تحب ما يريده لها عدوها أن تحبه وتكره ما يريد منها أن تكرهه .(155/424)
وهو داء عضال يفتك بالأمم ، ويذهب شخصيتها ، ويزيل معاني الأصالة والقوة فيها والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها ، ولا تدري عنه ولذلك يصبح علاجها أمرا صعبا وإفهامها سبيل الرشد شيئا عسيرا .
وهذا الغزو يقع بواسطة المناهج الدراسية والثقافية العامة ووسائل الإعلام والمؤلفات الصغيرة والكبيرة وغير ذلك من الشئون التي تتصل بالأمم ، ويرجو العدو من ورائها صرفها عن عقيدتها والتعلق بما يلقيه إليها ، نسأل الله السلامة والعافية .
مجلة البحوث الإسلامية ، العدد 8 ، صـ 286 - 293 .. أجراها مع سماحته قسم التحرير .
س2 : هل يتعرض العرب عامة والمملكة العربية السعودية خاصة لهذا النوع من الغزو ؟
جـ : نعم ، يتعرض المسلمون عامة ومنهم العرب وغيرهم ، والمملكة وغيرها لغزو فكري عظيم تداعت به عليهم أمم الكفر من الشرق والغرب ومن أشد ذلك وأخطره :
1- الغزو النصراني الصليبي .
2- الغزو الصهيوني .
3- الغزو الشيوعي الإلحادي .
أما الغزو النصراني الصليبي فهو اليوم قائم على أشده ومنذ أن انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين الغازين لبلاد المسلمين بالقوة والسلاح أدرك النصارى أن حربهم هذه وإن حققت انتصارات فهى وقتية لا تدوم ، ولذا فكروا في البديل الأنكى وتوصلوا بعد دراسات واجتماعات إلى ما هو أخطر من الحروب العسكرية وهو أن تقوم الأمم النصرانية فرادى وجماعات بالغزو الفكري لناشئة المسلمين .(155/425)
لأن الاستيلاء على الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء على الأرض ، فالمسلم الذي لم يلوث فكره لا يطيق أن يرى الكافر له الأمر والنهي في بلده ، ولهذا يعمل بكل قوته على إخراجه وإبعاده ولو دفع في سبيل ذلك حياته وأغلى ثمن لديه ، وهذا ما حصل بعد الانتصارات الكبيرة للجيوش الصليبية الغازية . أما المسلم الذي تعرض . لذلك الغزو الخبيث فصار مريض الفكر عديم الإحساس فإنه لا يرى خطرا في وجود النصارى أو غيرهم في أرضه ، بل قد يرى أن ذلك من علامات الخير ومما يعين على الرقي والحضارة ، وقد استغنى النصارى بالغزو الفكري عن الغزو المادي لأنه أقوى وأثبت ، وأي حاجة لهم في بعث الجيوش وإنفاق الأموال مع وجود من يقوم بما يريدون من أبناء الإسلام عن قصد أو عن غير قصد وبثمن أو بلا ثمن ، ولذلك لا يلجأون إلى محاربة المسلمين علانية بالسلاح والقوة إلا في الحالات النادرة الضرورية التي تستدعي العجل كما حصل في غزوة أوغندة أو الباكستان ، أو عندما تدعو الحاجة إليها لتثبيت المنطلقات وإقامة الركائز وإيجاد المؤسسات التي تقوم بالحرب الفكرية الضروس كما حصل في مصر وسوريا والعراق وغيرها قبل الجلاء .
أما الغزو الصهيوني فهو كذلك لأن اليهود لا يألون جهدا في إفساد المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم ، ولليهود مطامع في بلاد المسلمين وغيرها ، ولهم مخططات أدركوا بعضها ، ولا زالوا يعملون جاهدين لتحقيق ما تبقى ، وهم وإن حاربوا المسلمين بالقوة والسلاح واستولوا على بعض أرضهم فإنهم كذلك يحاربونهم في أفكارهم ومعتقداتهم ، ولذلك ينشرون فيهم مبادئ ومذاهب ونحلا باطلة . كالماسونية والقاديانية والبهائية والتيجانية وغيرها ، ويستعينون بالنصارى وغيرهم في تحقيق مآربهم وأغراضهم .أما الغزو الشيوعي الإلحادي فهو اليوم يسري في بلاد الإسلام سريان النار في الهشيم نتيجة للفراغ وضعف الإيمان في الأكثرية ، وغلبة الجهل وقلة التربية الصحيحة والسليمة .(155/426)
فقد استطاعت الأحزاب الشيوعية في روسيا والصين وغيرهما أن تتلقف كل حاقد وموتور من ضعفاء الإيمان أو معدومي الإيمان وتجعلهم ركائز في بلادهم ينشرون الإلحاد والفكر الشيوعي الخبيث وتعدهم وتمنيهم بأعلى المناصب والمراتب ، فإذا ما وقعوا تحت سيطرتها أحكمت أمرها فيهم وأدبت بعضهم ببعض وسفكت دماء من عارض أو توقف حتى أوجدت قطعانا من بني الإنسان حربا على أممهم وأهليهم وعذابا على إخوانهم وبني قومهم ، فمزقوا بهم أمة الإسلام وجعلوهم جنودا للشيطان يعاونهم في ذلك النصارى واليهود بالتهيئة والتوطئة أحيانا ، وبالمدد والعون أحيانا أخرى ، ذلك أنهم وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم جميعا يد واحدة على المسلمين يرون أن الإسلام هو عدوهم اللدود ولذا نراهم متعاونين متكاتفين بعضهم أولياء بعض ضد المسلمين فالله سبحانه المستعان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
س3 : ما هي الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره؟
جـ : الوسائل التي يستخدمها الغرب لترويج أفكاره كثيرة منها :
1- محاولة الاستيلاء على عقول أبناء المسلمين وترسيخ المفاهيم الغربية فيها لتعتقد أن الطريقة الفضلى هي طريقة الغرب في كل شيء ، سواء فيما يعتقده من الأديان والنحل أو ما يتكلم به من اللغات أو ما يتحلى به من الأخلاق ، أو ما هو عليه من عادات وطرائق
2- رعايته لطائفة كبيرة من أبناء المسلمين في كل بلد وعنايته بهم وتربيتهم حتى إذا ما تشربوا الأفكار الغربية وعادوا إلى بلادهم أحاطهم بهالة عظيمة من المدح والثناء حتى يتسلموا المناصب والقيادات في بلدانهم ، وبذلك يروجون الأفكار الغربية وينشئون المؤسسات التعليمية المسايرة للمنهج الغربي أو الخاضعة له .(155/427)
3- تنشيطه لتعليم اللغات الغربية في البلدان الإسلامية وجعلها تزاحم لغة المسلمين وخاصة اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي أنزل الله بها كتابه والتي يتعبد بها المسلمون ربهم في الصلاة والحج والأذكار وغيرها ، ومن ذلك تشجيع الدعوات الهدامة التي تحارب اللغة العربية وتحاول إضعاف التمسك بها في ديار الإسلام في الدعوة إلى العامية وقيام الدراسات الكثيرة التي يراد بها تطوير النحو وإفساده وتمجيد ما يسمونه بالأدب الشعبي والتراث القومي .
4- إنشاء الجامعات الغربية والمدارس التبشيرية في بلاد المسلمين ودور الحضانة ورياض الأطفال والمستشفيات والمستوصفات وجعلها أوكارا لأغراضه السيئة وتشجيع الدراسة فيها عند الطبقة العالية من أبناء المجتمع ومساعدتهم بعد ذلك على تسلم المراكز القيادية والوظائف الكبيرة حتى يكونوا عونا لأساتذتهم في تحقيق مآربهم في بلاد
المسلمين .
5- محاولة السيطرة على مناهج التعليم في بلاد المسلمين ورسم سياستها ، إما : بطريق مباشر كما حصل في بعض بلاد الإسلام حينما تولى [دنلوب] القسيس تلك المهمة فيها ، أو بطريق غير مباشر عندما يؤدي المهمة نفسها تلاميذ ناجحون درسوا في مدارس دنلوب وتخرجوا فيها فأصبح معظمهم معول هدم في بلاده وسلاحا فتاكا من أسلحة العدو ، يعمل جاهدا على توجيه التعليم توجيها علمانيا لا يرتكز على الإيمان بالله والتصديق برسوله وإنما يسير نحو الإلحاد ويدعو إلى الفساد .(155/428)
6- قيام طوائف كبيرة من النصارى واليهود بدراسة الإسلام واللغة العربية وتأليف الكتب وتولي كراسي التدريس في الجامعات حتى أحدث هؤلاء فتنة فكرية كبيرة بين المثقفين من أبناء الإسلام بالشبه التي يلقونها لطلبتهم أو التي تمتلئ بها كتبهم وتروج في بلاد المسلمين ، حتى أصبح بعض تلك الكتب مراجع يرجع إليها بعض الكاتبين والباحثين في الأمور الفكرية أو التاريخية . ولقد تخرج على يد هؤلاء المستشرقين من أبناء المسلمين رجال قاموا بنصيب كبير في إحداث الفتنة الكبرى ، وساعدهم في ذلك ما يحاطون به من الثناء والإعجاب ، وما يتولونه من مناصب هامة في التعليم والتوجيه والقيادة ، فأكملوا ما بدأه أساتذتهم وحققوا ما عجزوا عنه لكونهم من أبناء المسلمين ومن جلدتهم ينتسبون إليهم ويتكلمون بلسانهم ، فالله المستعان . - 443
انطلاق الأعداد الكثيرة من المبشرين الداعين إلى النصرانية بين المسلمين وقيامهم بعملهم ذلك على أسس مدروسة وبوسائل كبيرة عظيمة يجند لها مئات الآلاف من الرجال والنساء وتعد لها أضخم الميزانيات ، وتسهل لها السبل ، وتذلل لها العقبات : يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
وإذا كان هذا الجهد منصبا على الطبقة العامية غالبا فإن جهود الاستشراق موجهة إلى المثقفين كما ذكرت آنفا وأنهم يتحملون مشاق جساما في ذلك العمل في بلاد إفريقيا وفي القرى النائية من أطراف البلدان الإسلامية في شرق آسيا وغيرها ، ثم هم بعد كل حين يجتمعون في مؤتمرات يراجعون حسابهم وينظرون في خططهم ، فيصححون ويعدلون ويبتكرون ، فلقد اجتمعوا في القاهرة سنة 1906م ، وفي أدنمبرج سنة 1910م ، وفي لكنو سنة 1911م وفي القدس 1935م ، وفي القدس كذلك في عام 1935م ولا زالوا يوالون الاجتماعات والمؤتمرات ، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله .(155/429)
8- الدعوة إلى إفساد المجتمع المسلم وتزهيد المرأة في وظيفتها في الحياة وجعلها تتجاوز الحدود التي حد الله لها وجعل سعادتها في الوقوف عندها وذلك حينما يلقون بين المسلمين الدعوات بأساليب شتى وطرق متعددة إلى أن تختلط النساء بالرجال ، وإلى أن تشتغل النساء بأعمال الرجال ، يقصدون من ذلك إفساد المجتمع المسلم والقضاء على الطهر والعفاف الذي يوجد فيه ، وإقامة قضايا وهمية ودعاوى باطلة في أن المرأة في المجتمع المسلم قد ظلمت ، وأن لها الحق في كذا وكذا ويريدون إخراجها من بيتها وإيصالها إلى حيث يريدون ، في حين أن حدود الله واضحة وأوامره صريحة وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلية بينة ، يقول الله سبحانه وتعالى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ويقول سبحانه : وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ الآية . ويقول وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ويقول : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ويقول صلى الله عليه وسلم إياكم والدخول على النساء " قال رجل من الأنصار : يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال : " الحمو الموت " . وقال : لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما
9- إنشاء الكنائس والمعابد وتكثيرها في بلاد المسلمين؟ وصرف الأموال الكثيرة عليها وتزيينها وجعلها بارزة واضحة في أحسن الأماكن ، وفي أكبر الميادين .(155/430)
10- تخصيص إذاعات موجهة تدعو إلى النصرانية والشيوعية ، وتشيد بأهدافهما ، وتضلل بأفكارها أبناء المسلمين السذج الذين لم يفهموا الإسلام ، ولم تكن لهم تربية كافية علمية ، وخاصة في أفريقيا حيث يصاحب هذا الإكثار من طبع الأناجيل وتوزيعها ، في الفنادق وغيرها ، وإرسال النشرات التبشيرية والدعوات الباطلة إلى الكثير من أبناء المسلمين .
هذه بعض الوسائل التي يسلكها أعداء الإسلام اليوم من الشرق والغرب ، في سبيل غزو أفكار المسلمين . وتنحية الأفكار السليمة الصالحة لتحل محلها أفكار أخرى غربية ، شرقية أو غربية ، وهي كما ترى أيها القارئ جهود جبارة ، وأموال طائلة ، وجنود كثيرة ، كل ذلك لإخراج المسلمين من الإسلام ، وإن لم يدخلوا في النصرانية أو اليهودية أو الماركسية ، إذ يعتقد القوم أن المهمة الرئيسية في ذلك هي إخراجهم من الإسلام ، وإذا تم التوصل إلى هذه المرحلة فما بعدها سهل وميسور .
ولكننا مع هذا نقول : إن الله سيخيب آمالهم ويبطل كيدهم ، إذا صدق المسلمون في محاربتهم والحذر من مكائدهم ، واستقاموا على دينهم لقوله عز وجل : وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ لأنهم مفسدون وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين ، قال الله تعالى : وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وقال سبحانه : إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهْلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا(155/431)
وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال سبحانه وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ولا شك أن الأمر يحتاج من المسلمين إلى وقفة عقل وتأمل ، ودراسة في الطريق التي يجب أن يسلكوها ، والموقف المناسب الذي يجب أن يقفوه وأن يكون لهم من الوعي والإدراك ما يجعلهم قادرين على فهم مخططات أعدائهم ، وعاملين على إحباطها وإبطالها .
ولن يتم لهم ذلك إلا بالاستعصام بالله والاستمساك بهديه والرجوع إليه والإنابة له والاستعانة به ، وتذكر هديه في كل شيء وخاصة في علاقة المؤمنين بالكافرين ، وتفهم معنى سورة " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " وما ذكره سبحانه في قوله : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وقوله : وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا
أسأل الله سبحانه أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها رشدا وأن يعيذها من مكائد أعدائها ويرزقها الاستقامة في القول والعمل حتى تكون كما أراد الله لها من العزة والقوة والكرامة ، إنه خير مسئول وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أسئلة وأجوبتها حول العقيدة
طائفة الصوفية المتسولة
س1 : سائل من سوريا يقول : يوجد ناس عندنا يقولون إننا أبناء الشيخ عيسى أو أبناء غيره من الشيوخ المعروفين عندنا ،ويأتون يسألون الناس وقد لبسوا لباسا أخضر على رءوسهم من حرير ، في أيديهم أسياخ من حديد إذا أعطيتهم أرضيتهم ، وإذا لم تعطهم غضبوا وضربوا أنفسهم بهذا الحديد في بطونهم وفي رءوسهم؟(155/432)
جـ1 : هؤلاء من بعض الطوائف التي تسمى الصوفية . وهؤلاء يلعبون على الناس ويخدعونهم ، بزعمهم أنهم أولاد فلان ، أو فلان ويزعمون أنهم يستحقون على الناس المساعدة ، وهؤلاء ينبغي منعهم من هذا العمل وتأديبهم عليه من جهة الدولة ، لما في ذلك من كف شرهم عن الناس على السؤال بهذه الطريقة المنكرة .
ولا يعطى مثل هؤلاء لأن عطاءهم يشجعهم . . وإذا ضربوا أنفسهم فلا حرج عليك من ذلك ، وإنما الحرج عليهم . والواجب نصيحتهم وتحذيرهم من هذا العمل المنكر . وهو من التشويش والتلبيس الذي يخدعون به الناس ، وهم في الحقيقة يعملون هذه الأمور الشيطانية بتزيين من الشيطان ، وتلبيس منه ، وهو ما يسمى بالتقمير ، وهو من أنواع السحر ، يفعلون هذا الشيء في رأي الناظر ، وهم لا يفعلونه في الحقيقة ، ولو فعلوه حقيقة لضرهم . لأن السلاح والحديد وأشباه ذلك يضر الإنسان إذا ضرب به نفسه ، ولكنهم يسحرون العيون بما يفعلون ، كما ذكر الله عن سحرة فرعون ، حيث قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف : فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وقال تعالى في سورة طه : قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يساعدوا مثل هؤلاء لأن مساعدتهم معناها مساعدة على المنكر وعلى التلبيس وعلى الشعوذة وعلى إيذاء المسلمين وخداعهم .
فالواجب منع هؤلاء والقضاء على منكرهم هذا ، وحسم مادتهم بالأدب البليغ ، أو السجن من جهة الدولة ، حتى يرتدعوا عن هذا العمل . . وفق الله قادة المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده .
هذه الأسئلة منتقاة من برنامج ( نور على الدرب ) الذي يبث من الإذاعات السعودية .
بيوت الأفراح والمغالاة فيها(155/433)
س2 : نشكو من بيوت الأفراح والمغالاة فيها . لا سيما أن كثيرا من الناس اتخذها عادة . ويشترط لزواج ابنته أن يكون البيت الفلاني . . . وهذا يثقل كاهل العريس ، نرجو التوجيه؟
جـ2 : لا ريب أن السنة عدم التكلف في المهور والولائم من أجل تسهيل زواج الشباب والفتيات وأن يتواصى أهل الزوج وأهل الزوجة بترك التكلفة وبقلة المهور تشجيعا للشباب على الزواج .
ولا شك أن قصور الأفراح مما يثقل كاهل الزوج والزوجة في بعض الأحيان ، وكذلك الولائم . . مما يشق عليهما أيضا .
فالمشروع للجميع عدم التكلف في ذلك كله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
خير الصداق أيسره ، وخيرهن أقلهن مؤنة فالمشروع للجميع الحرص على اتباع السنة فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن عوف : " أولم ولو بشاة " . والنبي صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بخبز ولحم ، ودعا الناس إلى وليمته .
والمقصود : أن جنس الولائم مشروع في النكاح ، لكن ينبغي للمسلم عدم التكلف بجعل الطعام الكثير الذي يفضي إلى إلقائه في القمائم والمحلات المرغوب عنها ، ويمنعها الفقراء والمحاويج ، وإذا اكتفوا بقصورهم ولم يتوسعوا في دعوة الناس . . فالأمر في هذا أحسن . لأن المهم إعلان النكاح ، والقيام بالوليمة ولو بشاة واحدة ، أو شاتين ودعوة بعض الأقارب وعدم التوسع في ذلك أرفق بالجميع .
حكم الذهاب إلى الكهنة والمنجمين
س3 : أرجو الإجابة عن صحة ديانة من يذهب إلى الكهنة والمنجمين ، والإيمان بأقوالهم ذلك أنهم يأتون بما يشبه الصحيح . ومن ذلك أنهم يخبرون المرء باسم قريب من أقاربه ويصفون له منزله وربما وصفوا له ما عنده من المال والأولاد . إلخ؟(155/434)
جـ3 : هذا موجود في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله وبعده ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهان ، وعن سؤالهم ، قال عليه الصلاة والسلام : " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ورواه مسلم في صحيحه . وقال صلى الله عليه وسلم : " من اتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وسأله بعض الناس عن إتيان الكهان فقال عليه الصلاة والسلام " لا تأتهم فليسوا بشيء " وقالوا يا رسول الله إنهم يصدقون في بعض الأحيان؟ قال " تلك الكلمة يسمعها الشيطان الجني من السماء وهو يسترق السمع فيقرها في أذن وليه من الإنس وهو الكاهن والساحر فيصدق في تلك الكلمة ولكنهم يكذبون ويزيدون عليها مائة كذبة وفي رواية " أكثر من مائة كذبة " فيقول الناس إنه صدق يوم كذا وكذا ، فيكون ذلك وسيلة إلى تصديقه في كذبه كله .
فالكهان لهم أصحاب من شياطين الجن . ويسمى الرئي ، يعني : الصاحب من الجن الذي يخبره عن بعض الغيبيات ، وعن بعض ما يقع في البلدان وهذا معروف في الجاهلية وفي الإسلام فيقول لصاحبه من السحرة والكهنة ، وقع كذا في بلد كذا وليلة كذا . لأن الجن يتناقلون الأخبار فيما بينهم . والشياطين منهم . كذلك بسرعة هائلة من سائر الدنيا ، فلهذا قد يغتر بهم من يسمع صدقهم في بعض المسائل .
وقد يسترقون السمع ، فيسمعون بعض ما يقع في السماء بين الملائكة مما تكلم الله عز وجل به من أمور أهل الأرض ، وما يحدث فيها ، فإذا سمعوا تلك الكلمة قروها في أذن أصحابهم من الكهنة والسحرة والمنجمين ، فيقولون سوف يقع كذا وكذا . إلى آخره . . ولا يكتفي بهذا بل يكذب معها الكذب الكثير حتى يروج بضاعته ، ويأخذ أموال الناس بالباطل ، بسبب هذه الحوادث ، والناس بسبب هذا يصدقون الكهنة والمنجمين ويأتونهم ، والمرضى يتعلقون بخيط العنكبوت ، ويتشبثون بكل شيء بسبب ما قد سمعوا عنهم أنهم صدقوا في كذا كذا .(155/435)
فالواجب عدم إتيانهم ، وعدم سؤالهم ، وعدم تصديقهم ، ولو قدر أنهم صدقوا في بعض الشيء لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن إتيانهم وسؤالهم ، ونهى عن تصديقهم . . وهذا هو الواجب على الجميع . . وأن يسلكوا في علاج المرضى ما شرع الله من القراءة والدواء المباح مما يعرفه الأطباء . . هذه هي الأسباب والوسائل الشرعية ، وفيها غنية إن شاء الله عما حرمه الله .
وجوب النهي عن المنكر على الجميع
س4 : سائلة تقول : أنا أعمل ممرضة في وحدة مدرسية وأنكرت منكرا رأيته في عملي كان ذلك سببا لطردي من العمل ، وسببا لتعاستي ومتاعبي النفسية وأصبحت أنهى أولادي عن إنكار أي منكر . . أرجو التوجيه أثابكم الله؟
ج4 : لا شك أن الذي حصل عليك غلط كبير ممن فعله ، إذا كنت قد أنكرت المنكر عن علم وبصيرة . . والواجب عليك إنكار المنكر ، ولا يضرك كونك طردت من العمل واستغني عنك ، فقد أرضيت ربك عز وجل ، وفعلت ما يجب عليك فعله .
والأمور جميعها بيد الله سبحانه ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان والله يقول في كتابه العزيز جل وعلا : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ ويقول عز من قائل : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
فإذا فعلت ذلك طاعة لله ، والتماسا لمرضاته ، فإن العاقبة تكون لك حميدة ، ولا يضرك ما حصل وسوف يغنيك الله عن ذلك ، والله هو الرزاق جل وعلا . وبيده الخير كله . وهو القائل : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا(155/436)
فعلى المؤمنة تقوى الله عز وجل ، سواء كانت مدرسة أو ممرضة أو غير ذلك . . وهكذا الطبيبة والمديرة ونحوهما ، وعلى الجميع الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، كما يجب على الرجال لما تقدم من الآيات والحديث .
وقد أخطأت في نهيك أولادك عن إنكار المنكر ، فاتقي الله وتوبي إليه من ذلك ، وأوصيهم بما أوجب الله عليهم
معنى الكفر في الطعن في الأنساب والنياحة على الميت
س5 : ما هو شرح حديث اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في الأنساب والنياحة على الميت ، وما معنى الكفر في هذا الحديث؟
جـ5 : هذا حديث صحيح رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، والطعن في النسب هو التنقص لأنساب الناس وعيبها على قصد الاحتقار لهم والذم ، أما إن كان من باب الخبر فلان من بني تميم ، ومن أوصافهم كذا . . أو من قحطان أو من قريش أو من بني هاشم . . يخبر عن أوصافهم من غير طعن في أنسابهم . فذلك ليس من الطعن في الأنساب ، وأما النياحة فمعناها رفع الصوت بالبكاء على الميت وهي محرمة . والمراد بالكفر هنا كفر دون كفر . وليس هو الكفر المطلق المعرف بأداة التعريف ، كقوله عليه الصلاة والسلام : بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " خرجه مسلم في صحيحه وهذا هو الكفر الأكبر في أصح قولي العلماء .
وقد ذكر العلماء أن الكفر كفران ، والظلم ظلمان والفسق فسقان ، وهكذا الشرك شركان : أكبر وأصغر . فالشرك الأكبر مثل دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم أو للأصنام والأشجار والأحجار والكواكب . والشرك الأصغر مثل لولا الله وفلان ، وما شاء الله وشاء فلان ، والواجب أن يقول : لولا الله ثم فلان ، وما شاء الله ثم شاء فلان .
وكذا الحلف بغير الله كالحلف بالنبي ، أو حياة فلان ، أو بالأمانة ، فهذا من الشرك الأصغر .(155/437)
وهكذا الرياء اليسير مثل كونه يستغفر ليسمع الناس ، أو يقرأ يرائي الناس ، فهو شرك أصغر ، والظلم ظلمان : ظلم أكبر وهو الشرك بالله كقوله تعالى : وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وكقوله سبحانه : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ
أما الظلم الأصغر فهو مثل ظلم الناس في دمائهم وأموالهم ، وظلم العبد نفسه بالمعاصي كالزنا وشرب المسكر ونحوها ، نعوذ بالله من ذلك
كيفية العلاج من أمراض حسية ومعنوية
س7 : زوجتي أصيبت بمرض معين وأصبحت تخاف من كل شيء ولا تستطيع البقاء وحدها وآخر يقول : إنه يشكو نفس الحالة . وذلك أنه لا يستطيع الذهاب إلى المسجد للصلاة مع الجماعة ، ويسأل عن العلاج حتى لا يلجأ إلى الكهان والمشعوذين؟
جـ7 : إن الله جل وعلا ما أنزل داء إلا وأنزل له شفاء علمه من علم وجهله من جهل ، وأن الله سبحانه وتعالى جعل فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة - العلاج لجميع ما يشكو منه الناس من أمراض حسية ومعنوية ، وقد نفع الله بذلك العباد وحصل به من الخير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل .
والإنسان قد تعرض له أمور لها أسباب فيحصل له من الخوف والذعر مل لا يعرف له سببا بينا .
والله جعل فيما شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والأمن والشفاء ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى .(155/438)
فنصيحتي لهذين السائلين وغيرهما أن يستعملوا ما شرعه الله تعالى من الأوراد الشرعية التي يحصل بها الأمن والطمأنينة وراحة النفوس والسلامة من مكايد الشيطان ، ومن ذلك قراءة آية الكرسي ، وهي قوله تعالى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ إلى آخر الآية ، وهي أعظم آية في كتاب الله ، وأفضل آية في كتاب الله عز وجل . لما اشتملت عليه من التوحيد والإخلاص لله عز وجل وبيان عظمته جل وعلا ، وأنه الحي القيوم المالك لكل شيء . ولا يعجزه شيء سبحانه وبحمده .
فإذا قرأ هذه الآية خلف كل صلاة ، كانت له حرزا من كل شر ، وهكذا قراءتها عند النوم فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأها عند النوم لا يزال عليه من الله حافظ ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح .
فليقرأها الخائف عند النوم وبعد كل صلاة ، وليطمئن قلبه وسوف لا يرى ما يسوءه إن شاء الله ، إذا صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما قال ، واطمأن قلبه لذلك وأيقن أنما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق الذي لا ريب فيه .
وقد شرع الله سبحانه وتعالى أن يقرأ المسلم والمسلمة بعد كل صلاة : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتني ، فهذا أيضا من أسباب العافية والأمن والشفاء من كل سوء و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن .(155/439)
والسنة أن يقرأ الإنسان هذه السور الثلاث بعد صلاة الفجر ، وبعد صلاة المغرب ثلاث مرات . . وهكذا إذا أوى إلى فراشه يقرؤهن ثلاث مرات لصحة الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ومما يحصل به الأمن والعافية والطمأنينة والسلامة من كل شر ، أن يستعيذ الإنسان بكلمات الله التامات ، من شر ما خلق ثلاث مرات صباحا ومساء : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فقد جاءت الأحاديث دالة على أنها من أسباب العافية وهكذا : باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات صباحا ومساء ، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قالها ثلاث مرات صباحا لم يضره شيء حتى يمسي ومن قالها مساء لم يضره شيء حتى يصبح .
فهذه الأذكار والتعوذات من القرآن والسنة كلها من أسباب الحفظ والسلامة والأمن من كل سوء .
فينبغي لكل مؤمن ومؤمنة الإتيان بها في أوقاتها ، والمحافظة عليها ، وهما مطمئنان وواثقان بربهما سبحانه وتعالى . القائم على كل شيء والعالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا إله غيره ولا رب سواه ، وبيده التصرف والمنع والضر والنفع ، وهو المالك لكل شيء عز وجل .
والرسول صلى الله عليه وسلم هو أصدق الناس ، فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى كما قال تعالى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى عليه من ربه أفضل الصلاة ، وأتم التسليم .
شروط قبول الدعاء
س8 : هذا الذكر وهذا الدعاء سلاح تصفونه لكل مؤمن فهل تشترطون شروطا أخرى لمن يحمل هذا السلاح؟(155/440)
جـ8 : نعم ، من أعظم الشروط الثقة بالله والتصديق له ولرسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان بأن الله هو الحق ولا يقول إلا الحق والإخلاص لله سبحانه والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم مع الإيمان بأن الرسول عليه الصلاة والسلام بلغ الحق وهو الصادق فيما يقول ، وأن يأتي بذلك عن إيمان وثقة بالله ورغبة فيما عنده وأنه سبحانه مدبر الأمور ومصرف الأشياء ، وأنه القادر على كل شيء سبحانه وتعالى لا عن شك ولا عن سوء ظن بل عن حسن ظن بالله وثقة به .
وأنه متى تخلف المطلوب فلعلة من العلل المذكورة أو غيرها فالعبد عليه أن يأتي بالأسباب والله مسبب الأسباب وهو الحكيم العليم وقد يحصل الدواء ولكن لا يزول الداء لأسباب أخرى جهلها العبد والله فيها حكيم سبحانه وتعالى ، وهذا يشمل الدواء الحسي والمعنوي ، الحسي الذي يقوم به الأطباء من أدوية وعمليات ونحو ذلك ، والمعنوي الذي يحصل بالدعاء والقراءة ونحو ذلك من الأسباب الشرعية ، ومع هذا كله قد يتخلف المطلوب لأسباب كثيرة منها الغفلة عن الله سبحانه ومنها المعاصي ولا سيما أكل الحرام وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن تعجل له دعوته في الدنيا وإما أن تدخر له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من الشر مثل ذلك " قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال " الله أكثر "
وبذلك يعلم المؤمن والمؤمنة أن إجابته قد تؤجل إلى الآخرة لأسباب اقتضتها حكمة الله سبحانه ، وقد يصرف عنه بأسباب الدعاء شر كثير بدلا من أن يعطى طلبه ، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم العليم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره كما قال عز وجل إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والله ولي التوفيق .(155/441)
تم ولله الحمد الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع في التوحيد وما يلحق به من كتاب مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز .(155/442)
بسم الله الرحمن الرحيم
يتعتبر موقع ميجا أبلود ثاني أشهر موقع عالمي لرفع الملفات المجانية، وعند الاشتراك فيه تصبح الروابط أبدية، ومن ميزاته:
دعم البرامج التي تدعم إكمال التحميل بعد انقطاعه.
وإمكانية تحميل أكثر من ملف في نفس الوقت.
س/ هل سبق لك أن حملت ملف من هذا الموقع أم لا؟
ج/ إن كانت الإجابة نعم فابدأ خطوات الشرح من ثانيا، أما إن كانت الإجابة لا فابدأ خطوات الشرح من البداية
الشرح بالصور
أولا: إن كانت هذه هي أول مرة تعمل على تحميل ملف من هذا الموقع ستظهر لك الصفحة التالية:
ملاحظة هامة جدا:
هذه الخطوات فقط مرة واحدة ولا يلزم تكرارها مع كل رابط فقط مرة واحدة فقط
ثانيا: انسخ الرابط وضعه في شريط العناوين ثم اضغط enter ثم أكمل بحسب الصور كما يلي:
للاستفسار المراسلة على بريد
ikourd@gmail.com
لا تنسونا من دعوة صالحة(156/1)
فتوى في حكم الاحتفال بالمولد النبوي
سئل فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله كما في "فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" إعداد وترتيب أشرف عبد المقصود (1/126) السؤال التالي:
ما الحكم الشرعي في الاحتفال بالمولد النبوي ؟
فأجاب فضيلته:
(نرى أنه لا يتم إيمان عبد حتى يحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويعظمه بما ينبغي أن يعظمه فيه، وبما هو لائق في حقه - صلى الله عليه وسلم - ولا ريب أن بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أقول مولده بل بعثته لأنه
لم يكن رسولاً إلا حين بعث كما قال أهل العلم نُبىءَ بإقرأ وأُرسل بالمدثر، لا ريب أن بعثته عليه الصلاة والسلام خير للإنسانية عامة، كما قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ]الأعراف:158[، وإذا كان كذلك فإن من تعظيمه وتوقيره والتأدب معه واتخاذه إماماً ومتبوعاً ألا نتجاوز ما شرعه لنا من العبادات لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفى ولم يدع لأمته خيراً إلا دلهم عليه وأمرهم به ولا شراً(157/1)
إلا بينه وحذرهم منه وعلى هذا فليس من حقنا ونحن نؤمن به إماماً متبوعاً أن نتقدم بين يديه بالاحتفال بمولده أو بمبعثه، والاحتفال يعني الفرح والسرور وإظهار التعظيم وكل هذا من العبادات المقربة إلى الله، فلا يجوز أن نشرع من العبادات إلا ما شرعه الله ورسوله وعليه فالاحتفال به يعتبر من البدعة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { كل بدعة ضلالة } قال هذه الكلمة العامة، وهو - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بما يقول، وأفصح الناس بما ينطق، وأنصح الناس فيما يرشد إليه، وهذا الأمر لا شك فيه، لم يستثن النبي - صلى الله عليه وسلم - من البدع شيئاً لا يكون ضلالة، ومعلوم أن الضلالة خلاف الهدى، ولهذا روى النسائي آخر الحديث: { وكل ضلالة في النار } ولو كان الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المحبوبة إلى الله ورسوله لكانت مشروعة، ولو كانت مشروعة لكانت محفوظة، لأن الله تعالى تكفل بحفظ شريعته، ولو كانت محفوظة ما تركها الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون لهم بإحسان وتابعوهم، فلما لم يفعلوا شيئاً من ذل علم أنه ليس من دين الله، والذي أنصح به إخواننا المسلمين عامة أن يتجنبوا مثل هذه الأمور التي لم يتبن لهم مشروعيتها لا في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عمل الصحابة رضي الله عنهم، وأن يعتنوا بما هو بيّن ظاهر من الشريعة، من الفرائض والسنن المعلومة، وفيها كفاية وصلاح للفرد وصلاح للمجتمع.(157/2)
وإذا تأملت أحوال هؤلاء المولعين بمثل هذه البدع وجدت أن عندهم فتوراً عن كثير من السنن بل في كثير من الواجبات والمفروضات، هذا بقطع النظر عما بهذه الاحتفالات من الغلو بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الموديء إلى الشرك الأكبر المخرج عن الملة الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه يحارب الناس عليه، ويستبيح دماءهم وأموالهم وذراريهم، فإننا نسمع أنه يلقى في هذه الاحتفالات من القصائد ما يخرج عن الملة قطعاً كما يرددون قول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي صفحاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
مثل هذه الأوصاف لا تصح إلا لله عز وجل، وأنا أعجب لمن يتكلم بهذا الكلام إن كان يعقل معناه كيف يسوغ لنفسه أن يقول مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام:(فإن من جودك الدنيا وضرتها) ومن للتبعيض والدنيا هي الدنيا وضرتها هي الآخرة، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس كل جوده، فما الذي بقي لله عز وجل، ما بقي لله عز وجل، ما بقي له شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وكذلك قوله:(ومن علومك علم اللوح والقلم) ومن: هذه للتبعيض ولا أدري ماذا يبقى لله تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب.(157/3)
ورويدك يا أخي المسلم.. إن كنت تتقي الله عز وجل فأنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلته التي أنزله الله.. أنه عبد الله ورسوله فقل هو عبدالله ورسوله، واعتقد فيه ما أمره ربه أن يبلغه إلى الناس عامة: { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } ]الأنعام:50[، وما أمره الله به في قوله: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً } ]الجن:21[، وزيادة على ذلك: { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } ]الجن:22[، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لو أراد الله به شيئاً لا أحد يجيره من الله سبحانه وتعالى.
فالحاصل أن هذه الأعياد أو الاحتفالات بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام لا تقتصر على مجرد كونها بدعة محدثة في الدين بل هي يضاف إليها شئ من المنكرات مما يؤدي إلى الشرك.
وكذلك مما سمعناه أنه يحصل فيها اختلاط بين الرجال والنساء، ويحصل فيها تصفيق ودف وغير ذلك من المنكرات التي لا يمتري في إنكارها مؤمن، ونحن في غِنَى بما شرعه الله لنا ورسوله ففيه صلاح القلوب والبلاد والعباد).
انتهت فتوى الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في حكم الاحتفال بالمولد.
* * *(157/4)
شبكة مشكاة الإسلامية
فتوى في زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور
أجاب عنها : شيخ الإسلام ابن تيمية ( رحمه الله )
نص السؤال
سئل أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى :
عمن يزور القبور ويستنجد بالمقبور في مرض به أو بفرسه أو بعيره يطلب إزالة المرض الذي بهم ويقول يا سيدي أنا في جيرتك أنا في حسبك فلان ظلمني فلان قصد أذيتي ويقول إن المقبور يكون واسطة بينه وبين الله تعالى وفيمن ينذر للمساجد والزوايا والمشايخ حيهم وميتهم بالدراهم والإبل والغنم والشمع والزيت وغير ذلك يقول إن سلم ولدي فللشيخ علي كذا وكذا وأمثال ذلك وفيمن يستغيث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذاك الواقع وفيمن يجيء إلى شيخه ويستلم القبر ويمرغ وجهه عليه ويمسح القبر بيديه ويمسح بهما وجهه وأمثال ذلك وفيمن يقصده بحاجته ويقول يا فلان ببركتك أو يقول قضيت حاجتي ببركة الله وبركة الشيخ وفيمن يعمل السماع ويجيء إلى القبر فيكشف ويحط وجهه بين يدي شيخه على الأرض ساجدا وفيمن قال إن ثم قطبا غوثا جامعا في الوجود أفتونا مأجورين وأبسطوا القول في ذلك
بداية الجواب
فأجاب :(158/1)
الحمد لله رب العالمين الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له واستعانته والتوكل عليه ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار كما قال تعالى : [تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ(2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3)(الزمر:1-3)] وقال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن:18) ، وقال تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(لأعراف: من الآية29) وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (الاسراء:56)أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) (الاسراء:57) قالت طائفة من السلف : كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة قال الله تعالى هؤلاء الذين تدعونهم عبادي كما أنتم عبادي ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي .
فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم ؟!(158/2)
وقال تعالى : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً) (الكهف:102) ، وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (سبأ:22)(وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)(سبأ: من الآية23) فبين سبحانه أن من دُعي من دون الله من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه وأنه ليس له شريك في ملكه بل هو سبحانه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للملك أعوان وظهراء وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى فنفى بذلك وجوه الشرك وذلك أن من يدعون من دونه إما أن يكون مالكا وإما أن لا يكون مالكا وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا وإما أن لا يكون شريكا وإذا لم يكن شريكا فإما أن يكون معاونا وإما أن يكون سائلا طالبا فالأقسام الأول الثلاثة وهي الملك والشركة والمعاونة منتفية وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه كما قال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وكما قال تعالى وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى وقال تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) (الزمر:43) (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (الزمر:44) ، وقال تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ(158/3)
وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (السجدة:4) ، وقال تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأنعام:51) ، وقال تعالى )مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79) (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:80) فإذا جعل من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كافرا فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا .(158/4)
وتفصيل القول : أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم أو وفاء دينه من غير جهة معينة أو عافية أهله وما به من بلاء الدنيا والآخرة وانتصاره على عدوه وهداية قلبه وغفران ذنبه أو دخوله الجنة أو نجاته من النار أو أن يتعلم العلم والقرآن أو أن يصلح قلبه ويحسن خلقه ويزكي نفسه وأمثال ذلك فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ سواء كان حيا أو ميتا اغفر ذنبي ولا انصرني على عدوي ولا اشف مريضي ولا عافني أو عاف أهلي أو دابتي وما أشبه ذلك ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان فهو مشرك بربه من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه قال الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (المائدة:116) . وقال تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) .(158/5)
وأما ما يقدر عليه العبد : فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض فإن مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها قال الله تعالى : (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (الشرح:7) (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:8) ، وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ) وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه .
وثبت في الصحيحين : أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) والإسترقاء : طلب الرقية وهو من أنواع الدعاء ومع هذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة إلا وكل الله بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك ولك مثل ذلك ) .
ومن المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة عليه وطلبنا الوسيلة له وأخبر بما لنا في ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك فقال في الحديث : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم اسألوا لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة ) .(158/6)
ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء من فوقه وممن هو دونه فقد روي طلب الدعاء من الأعلى والأدنى فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روي عنه بسند ضعيف قوله : ( لا تنسنا من دعائك يا أخي ) لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشرا وأن من سأل له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك وفرق بين من طلب من غيره شيئا لمنفعة المطلوب منه ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط ، وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أويسا القرني وقال لعمر : (إن استطعت أن يستغفر لك فافعل ) . في الصحيحين أنه كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شيء فقال أبو بكر لعمر استغفر لي لكن في الحديث أن أبا بكر ذكر أنه حنق على عمر وثبت أن أقواما كانوا يسترقون وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرقيهم وثبت في الصحيحين أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستسقي لهم فدعا الله لهم فسقوا وفي الصحيحين أيضا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فدعا فقال : ( اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ) فيسقون .
وفي السنن أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله فسبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال : ( ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ) فأقره على قوله إنا نستشفع بك على الله وأنكر عليه نستشفع بالله عليك لأن الشافع يسأل المشفوع إليه والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به
كيفية الزيارة الشرعية للقبور(158/7)
وأما زيارة القبور المشروعة فهو أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : ( سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ) وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) والله تعالى يثيب الحي إذا دعا للميت المؤمن كما يثيبه إذا صلى على جنازته ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ذلك بالمنافقين فقال عز من قائل : (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)(التوبة: من الآية84) ، فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحي إلى الميت ولا مسألته ولا توسله به بل فيها منفعة الحي للميت كالصلاة عليه والله تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه ويثيب هذا على عمله فإنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له ) .
فصل : حكم من يأتي إلى قبر نبي أو صالح ويسأله ويستنجد به
وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات :(158/8)
أحدها : أن يسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضي دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(الزمر: من الآية3) وقال سبحانه وتعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) (الزمر:43) (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (الزمر:44) وقال تعالى : ( مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(السجدة: من الآية4) وقال تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ )(البقرة: من الآية255) فبين الفرق بينه وبين خلقه فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته إما رغبة وإما رهبة وإما حياء وإما مودة وإما غير ذلك والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ) فبين أن الرب سبحانه يفعل ما يشاء لا يكرهه أحد على ما اختاره كما قد يكره الشافع المشفوع إليه وكما يكره السائل(158/9)
المسؤول إذا ألح عليه وآذاه بالمسألة فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى : (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) (الشرح:7) (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح:8) .
والرهبة تكون من الله كما قال تعالى : ( وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(البقرة: من الآية40) و قال تعالى : ( فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن)(المائدة: من الآية44) وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا وقال كثير من الضلال هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد من الله لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك من أقوال المشركين فإن الله تعالى يقول : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )(البقرة: من الآية186) وقد روي أن الصحابة قالوا يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟! فأنزل الله هذه الآية .
…وفي الصحيح أنهم كانوا في سفر وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا بل تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) .(158/10)
وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقولوا إياك نعبد وإياك نستعين وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)(الزمر: من الآية3) ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت هذا فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك فهذا جهل وضلال وكفر وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره ألا تسمع إلى ما خرجه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول : ( إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به قال ويسمي حاجته أمر العبد أن يقول أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم ) . وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى درجة عند الله منك فهذا حق لكن كلمة حق أريد بها باطل فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله يقضي حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله تعالى فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء مثلا لما فيه من العدوان فالنبي والصالح لا يعين على ما يكره الله ولا يسعى فيما يبغضه الله وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول .
طلب الدعاء من الغير حيا كان أو ميتا(158/11)
وإن قلت هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته فهذا هو القسم الثاني وهو أن لا تطلب منه الفعل ولا تدعوه ولكن تطلب أن يدعو لك كما تقول للحي ادع لي وكما كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي كما تقدم وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول ادع لنا ولا اسئل لنا ربك ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحد من الأئمة ولا ورد فيه حديث بل الذي ثبت في الصحيح : أنهم لما أجدبوا زمن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس وقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين يا رسول الله أدع الله لنا واستسق لنا ونحن نشكوا إليك مما أصابنا ونحو ذلك لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان بل كانوا إذا جاءوا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون عليه فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون الله وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع وذلك أن في الموطأ وغيره عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي السنن عنه أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني .
وفي الصحيح عنه أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما فعلوا قالت عائشة رضي الله عنها وعن أبويها : ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا .(158/12)
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس : (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) . وفي سنن أبي داود عنه قال : (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) وفي الجزء الأخير من الحديث ضعف ولهذا قال علماؤنا لا يجوز بناء المسجد على القبور وقالوا إنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئا من الأشياء لا من درهم ولا من زيت ولا من شمع ولا من حيوان ولا غير ذلك كله نذر معصية وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) .(158/13)
واختلف العلماء هل على الناذر كفارة يمين على قولين ولهذا لم يقل أحد من أئمة السلف أن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة أو فيها فضيلة ولا أن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور قبور الأنبياء والصالحين سواء سميت مشاهد أو لم تسم وقد شرع الله ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء فقال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا )(البقرة: من الآية114) ولم يقل المشاهد ، و قال تعالى : ( وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)(البقرة: من الآية187) ولم يقل في المشاهد ، وقال تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)(لأعراف: من الآية29) ، وقال تعالى : (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18) ، وقال تعالى : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن:18) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا ) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ) .(158/14)
وأما القبور فقد ورد نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذها مساجد ولعن من يفعل ذلك وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين كما ذكره البخاري في صحيحه والطبراني وغيره في تفاسيرهم وذكره وثيمة وغيره في قصص الأنبياء في قوله تعالى : (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23) ، قالوا هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما ) .
وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) .(158/15)
واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين الصحابة وأهل البيت وغيرهم أنه لا يتمسح به ولا يقبله بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود وقد ثبت في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قال : ( والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك ) ، ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان موجودا فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم ورخص فيه أحمد وغيره لأن ابن عمر رضي الله عنهما فعله وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسم مادة الشرك وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين ولم يثبت عن ابن عمر وضع اليد على المنبر وهذاما يظهر الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرجل الصالح في حياته وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد بحضوره فإذا كان الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحون أحياء لا يتركون أحدا يشرك بهم بحضورهم بل ينهونهم عن ذلك ويعاقبونهم عليه ولهذا قال المسيح عليه السلام : (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة:117) .(158/16)
وقال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما شاء الله وشئت فقال : ( أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده وقال لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ) ، ولما قالت الجويرية : وفينا رسول الله يعلم ما في غد قال : ( دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين) ، وقال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) ولما صفوا خلفه قياما قال :
( لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا ) ، وقال أنس :لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك ، ولما سجد له معاذ نهاه وقال : ( إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها )، ولما أتي علي بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار فهذا شأن أنبياء الله وأوليائه وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علوا في الأرض وفسادا كفرعون ونحوه ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أربابا والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم كما أشرك بالمسيح وعزير فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالح في حياته وحضوره وبين سؤاله في مماته ومغيبه ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم لا في مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب كما ذكره السائل ويستغيث به عند المصائب يقول يا سيدي فلان كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الناس(158/17)
بقدره وحقه أصحابه ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك لا في مغيبه ولا بعد مماته وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب فإن الكذب مقرون بالشرك وقد قال تعالى : (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (الحج:30)(حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِه)(الحج: من الآية31) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ) ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (لأعراف:152) .
وقال الخليل عليه السلام : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) (الصافات:86) (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات:87) ، فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رد عليه وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخا وقد تغويهم الشياطين كما تغوي عباد الأصنام كما كان يجري في العرب في أصنامهم ولعباد الكواكب وطلاسمها من الشرك والسحر كما يجري للتتار والهند والسودان وغيرهم من أصناف المشركين من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك فكثير من هؤلاء قد يجري له نوع من ذلك لا سيما عند سماع المكاء والتصدية فإن الشياطين قد تنزل عليهم وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع من الإرغاء والإزباد والصياح المنكر ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين .
…………التوسل بالجاه والحرمة(158/18)
وأما القسم الثالث : وهو أن يقول اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك افعل بي كذا وكذا فهذا يفعله كثير من الناس لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه إلا ما رأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبد السلام فإنه أفتى أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعنى الاستفتاء قد روى النسائي والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول : ( اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي اللهم فشفعه في ) ، فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته قالوا وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة بالله لكن فيه سؤال بجاهه كما في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول : ( اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) قالوا ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة والله تعالى قد جعل على نفسه حقا قال الله تعالى : ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(الروم: من الآية47) ونحو قوله : ( كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً)(الفرقان: من الآية16) ، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : ( يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ؟!) قال الله ورسوله أعلم ! قال : (حق الله على العباد أن يعبدوه(158/19)
ولا يشركوا به شيئا . ( أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟) فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم ) ، وقد جاء في غير حديث كان حقا على الله كذا كذا كقوله من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قيل وما طينة الخبال قال عصارة أهل النار وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به وبعد مماته وفي مغيبه بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره كما في صحيح البخاري : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وقد بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه ويتوسلون بشفاعته ودعائه كما في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله لنا أن يمسكها عنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : ( اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ) ، قال وأقلعت فخرجنا نمشي في الشمس ففي هذا الحديث أنه قال ادع الله لنا أن يمسكها عنا وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر قال إني لأذكر قول أبي طالب في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل(158/20)
فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه ولما مات توسلوا بالعباس رضي الله عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون وما كانوا يستسقون به بعد موته ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره وكذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا فلذلك قال العلماء : يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير فإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه ولا استحبوا ذلك في الإستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية والدعاء هو العبادة كما ثبت في الصحيح عن النبي والعبادة مبناها على السنة والاتباع لا على الأهواء والابتداع وإنما يعبد الله بما شرع لا يعبد بالأهواء والبدع قال تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله وقال تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور ) .
حكم من إذا أصابته نائبة أو خوف استنجد بشيخه(158/21)
وأما الرجل إذا أصابته نائبة أو خاف شيئا فاستغاث بشيخه يطلب تثبيت قلبه من ذلك الواقع فهذا من الشرك وهو من جنس دين النصارى فإن الله هو الذي يصيب بالرحمة ويكشف الضر قال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:107) ، وقال تعالى : (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) (فاطر:2) ، وقال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأنعام:40)(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) (الأنعام:41) ، قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (الاسراء:56)(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) (الاسراء:57) .(158/22)
فبين أن من يدعى من الملائكة والأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا فإذا قال قائل أنا أدعو الشيخ ليكون شفيعا لي فهو من جنس دعاء النصارى لمريم والأحبار والرهبان والمؤمن يرجو ربه ويخافه ويدعوه مخلصا له الدين وحق شيخه أن يدعو له ويترحم عليه فإن أعظم الخلق قدرا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أعلم الناس بأمره وقدره وأطوع الناس له ولم يكن يأمر أحدا منهم عند الفزع والخوف أن يقول يا سيدي يا رسول الله ولم يكونوا يفعلون ذلك في حياته ولا بعد مماته بل كان يأمرهم بذكر الله ودعائه والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173)(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:174) .
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني وأصحابه حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول عند الكرب : ( لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش الكريم لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ) .(158/23)
وقد ثبت أنه علم نحو هذا الدعاء بعض أهل بيته وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حزبه أمر قال : ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) وفي رواية : ( صلى ) وكلتاهما صحيحتان وروي أنه علم ابنته فاطمة أن تقول : ( يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض لا إله إلا أنت برحمتك استغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك ) .
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم البستي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن وقال لأمته إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وذكر الله والاستغفار فأمرهم عند الكسوف بالصلاة والدعاء والذكر والعتق والصدقة ولم يأمرهم أن يدعوا مخلوقا ولا ملكا ولا نبيا ولا غيرهم ومثل هذا كثير في سنته لم يشرع للمسلمين عند الخوف إلا ما أمر الله به من دعاء الله وذكره والاستغفار والصلاة والصدقة ونحو ذلك فكيف يعدل المؤمن بالله ورسوله عما شرع الله ورسوله إلى بدعة ما أنزل الله بها من سلطان تضاهي دين المشركين والنصارى فإن زعم أحد أن حاجته قضيت بمثل ذلك وأنه مثل له شيخه ونحو ذلك فعباد الكواكب والأصنام ونحوهم من أهل الشرك يجري لهم مثل هذا كما قد تواتر ذلك عمن مضى من المشركين وعن المشركين في هذا الزمان فلولا ذلك ما عبدت الأصنام ونحوها قال الخليل عليه السلام : ((158/24)
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)(ابراهيم: من الآية35) (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاس)(ابراهيم: من الآية36) .
أول ظهور الشرك
وفي الصحيح : ( إن أول ما ظهر الشرك في أرض مكة بعد إبراهيم الخليل من جهة عمرو بن لحي الخزاعي) الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجر أمعائه في النار وهو أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم قالوا إنه ورد الشام فوجد فيها أصناما بالبلقاء يزعمون أنهم ينتفعون بها في جلب منافعهم ودفع مضارهم فنقلها إلى مكة وسن للعرب الشرك وعبادة الأصنام والأمور التي حرمها الله ورسوله من الشرك والسحر والقتل والزنا وشهادة الزور وشرب الخمر وغير ذلك من المحرمات قد يكون للنفس فيها حظ مما تعده منفعة أو دفع مضرة ولولا ذلك ما أقدمت النفوس على المحرمات التي لا خير فيها بحال وإنما يوقع النفوس في المحرمات الجهل أو الحاجة فأما العالم بقبح الشيء والنهي عنه فكيف يفعله والذين يفعلون هذه الأمور جميعها قد يكون عندهم جهل بما فيه من الفساد وقد تكون بهم حاجة إليها مثل الشهوة إليها وقد يكون فيها من الضرر أعظم مما فيها من اللذة ولا يعلمون ذلك لجهلهم أو تغلبهم أهواؤهم حتى يفعلوها والهوى غالبا يجعل صاحبه كأنه لا يعلم من الحق شيئا فإن حبك للشيء يعمي ويصم ولهذا كان العالم يخشى الله .(158/25)
وقال أبو العالية : سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله عز وجل : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ )(النساء: من الآية17) فقالوا : كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وليس هذا موضع البسط لبيان ما في المنهيات من المفاسد الغالبة وما في المأمورات من المصالح الغالية بل يكفي المؤمن أن يعلم أن ما أمر الله به فهو لمصلحة محضة أو غالبة وما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة أو غالبة وأن الله لا يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم ولا نهاهم عما نهاهم بخلا به عليهم بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم ولهذا وصف نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه : ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ )(لأعراف: من الآية157) .
بيان حكم التمسح بالقبر وتقبيله وتمريغ الخد عليه
وأما التمسح بالقبر أي قبر كان وتقبيله وتمريغ الخد عليه فمنهي عنه باتفاق المسلمين ولو كان ذلك من قبور الأنبياء ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هذا من الشرك قال الله تعالى : (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23)(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً )(نوح: من الآية24) وقد تقدم أن هؤلاء أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح وأنهم عكفوا على قبورهم مدة ثم طال عليهم الأمد فصوروا تماثيلهم لا سيما إذا اقترن بذلك دعاء الميت والاستغاثة به وقد تقدم ذكر ذلك وبيان ما فيه من الشرك وبينا الفرق بين الزيارة البدعية التي تشبه أهلها بالنصارى والزيارة الشرعية .
حكم وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وتقبيل الأرض(158/26)
وأما وضع الرأس عند الكبراء من الشيوخ وغيرهم أو تقبيل الأرض ونحو ذلك فإنه مما لا نزاع فيه بين الأئمة في النهي عنه بل مجرد الإنحناء بالظهر لغير الله عز وجل منهي عنه ففي المسند وغيره أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما رجع من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال ما هذا يا معاذ فقال يا رسول الله رأيتهم في الشام يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم ويذكرون ذلك عن أنبيائهم فقال كذبوا يا معاذ لو كنت آمرا أحد يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها يا معاذ أرأيت إن مررت بقبري أكنت ساجدا قال لا قال لا تفعل هذا أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل قد ثبت في الصحيح من حديث جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه قاعدا من مرض كان به فصلوا قياما فأمرهم بالجلوس وقال : ( لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا ) ، وقال : (من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ) ، فإذا كان قد نهاهم مع قعوده وإن كانوا قاموا للصلاة حتى لا يتشبهوا بمن يقومون لعظمائهم وبين أن من سره القيام له كان من أهل النار فكيف بما فيه من السجود له ومن وضع الرأس وتقبيل الأيادي .
وقد كان عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه وهو معدود من الخلفاء قد وكل أعوانا يمنعون الداخل من تقبيل الأرض ويؤدبهم إذا قبل أحد الأرض وبالجملة فالقيام والقعود والركوع والسجود حق للواحد المعبود خالق السماوات والأرض وما كان حقا خالصا لله لم يكن لغيره فيه نصيب مثل الحلف بغير الله عز وجل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) متفق عليه ، وقال أيضا : ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) فالعبادة كلها لله وحده لا شريك له: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5) .(158/27)
…وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ) .
وإخلاص الدين لله هو أصل العبادة ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرك دقه وجله وحقيره وكبيره حتى أنه قد تواتر عنه أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها بألفاظ متنوعة تارة يقول : ( لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها ) ، وتارة ينهى عن الصلاة بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس وتارة يذكر أن الشمس إذا طلعت طلعت بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ونهى عن الصلاة في هذا الوقت لما فيه من مشابهة المشركين في كونهم يسجدون للشمس في هذا الوقت وأن الشيطان يقارن الشمس حينئذ ليكون السجود له فكيف بما هو أظهر شركا ومشابهة للمشركين من هذا وقد قال الله تعالى فيما أمر رسوله أن يخاطب به أهل الكتاب : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64) .(158/28)
وذلك لما فيه من مشابهة أهل الكتاب من اتخاذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ونحن منهيون عن مثل هذا ومن عدل عن هدي نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهدي أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى ما هو من جنس هدي النصارى فقد ترك ما أمر الله به ورسوله وأما قول القائل : ( انقضت حاجتي ببركة الله وبركتك) فمنكر من القول فإنه لا يقرن بالله في مثل هذا غيره حتى أن قائلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما شاء الله وشئت فقال : ( أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده وقال لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم ما شاء محمد ) . وفي الحديث : أن بعض المسلمين رأى قائلا يقول : نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون أي تجعلون لله ندا يعني تقولون ما شاء الله وشاء محمد فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك .(158/29)
وفي الصحيح عن زيد بن خالد قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الفجر بالحديبية في إثر سماء من الليل فقال : ( أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم ! قال : (قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ) ، والأسباب التي جعلها الله أسبابا لا تجعل مع الله شركاء وأندادا وأعوانا وقول القائل ببركة الشيخ قد يعني بها دعاءه وأسرع الدعاء إجابة دعاء لغائب وقد يعني بها بركة ما أمره به وعلمه من الخير وقد يعني بها بركة معاونته له على الحق وموالاته في الدين ونحو ذلك وهذه كلها معان صحيحة وقد يعني بها دعائه للميت والغائب إذ استقلال الشيخ بذلك التأثير أو فعله لما هو عاجز عنه أو غير قادر عليه أو غير قاصد له متابعته أو مطاوعته على ذلك من البدع المنكرات ونحو هذه المعاني الباطلة والذي لا ريب فيه أن العمل بطاعة الله تعالى ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض ونحو ذلك هو نافع في الدنيا والآخرة وذلك بفضل الله ورحمته .
بيان حقيقة القطب الغوث الفرد الجامع(158/30)
وأما سؤال السائل عن القطب الغوث الفرد الجامع فهذا قد يقوله طوائف من الناس ويفسرونه بأمور باطلة في دين الإسلام مثل تفسير بعضهم أن الغوث هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم حتى يقول إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام والغالية في علي رضي الله عنه وهذا كفر صريح يستتاب منه صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإنه ليس من المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته ولهذا كان ما يقوله الفلاسفة في العقول العشرة الذين يزعمون أنها الملائكة وما يقوله النصارى في المسيح ونحو ذلك كفر صريح باتفاق المسلمين وكذلك أعني بالغوث ما يقوله بعضهم من أن في الأرض ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا يسمونهم النجباء فينتقي منهم سبعون هم النقباء ومنهم أربعون هم الأبدال ومنهم سبعة هم الأقطاب ومنهم أربعة هم الأوتاد ومنهم واحد هو الغوث وأنه مقيم بمكة وأن أهل الأرض إذا نابهم نائبة في رزقهم ونصرهم فزعوا إلى الثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وأولئك يفزعون إلى السبعين والسبعون إلى الأربعين والأربعون إلى السبعة والسبعة إلى الأربعة والأربعة إلى الواحد وبعضهم قد يزيد في هذا وينقص في الأعداد والأسماء والمراتب فإن لهم فيها مقالات متعددة حتى يقول بعضهم : أنه ينزل من السماء على الكعبة ورقة خضراء باسم غوث الوقت واسمه خضر على قول من يقول منهم إن الخضر هو مرتبة وإن لكل زمان خضرا فإن لهم في ذلك قولين وهذا كله باطل لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قاله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا من المشايخ الكبار المتقدمين الذين يصلحون للإقتداء بهم ومعلوم أن سيدنا رسول رب العالمين وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم كانوا خير الخلق في زمنهم وكانوا بالمدينة ولم يكونوا بمكة وقد روى بعضهم حديثا في هلال غلام المغيرة بن شعبة وأنه أحد السبعة والحديث باطل باتفاق أهل المعرفة وإن كان قد روى(158/31)
بعض هذه الأحاديث أبو نعيم في حلية الأولياء والشيخ أبو عبدالرحمن السلمي في بعض مصنفاته فلا تغتر بذلك فإن فيه الصحيح والحسن والضعيف والموضوع والمكذوب الذي لا خلاف بين العلماء في أنه كذب موضوع وتارة يرويه على عادة بعض أهل الحديث الذين يروون ما سمعوا ولا يميزون بين صحيحه وباطله وكان أهل الحديث لا يروون مثل هذه الأحاديث لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( من حديث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) .(158/32)
وبالجملة فقد علم المسلمون كلهم أن ما ينزل بالمسلمين من النوازل في الرغبة والرهبة مثل دعائهم عند الاستسقاء لنزول الرزق ودعائهم عند الكسوف والاعتداد لرفع البلاء وأمثال ذلك إنما يدعون في ذلك الله وحده لا شريك له لا يشركون به شيئا لم يكن للمسلمين قط أن يرجعوا بحوائجهم إلى غير الله عز وجل بل كان المشركون في جاهليتهم يدعونه بلا واسطة فيجيبهم الله أفتراهم بعد التوحيد والإسلام لا يجيب دعاءهم إلا بهذه الواسطة التي ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى : (وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ )(يونس: من الآية12) ، وقال تعالى : (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(الاسراء: من الآية67) ، وقال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأنعام:40)(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) (الأنعام:41) ، وقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (الأنعام:42) )فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:43) .(158/33)
…والنبي صلى الله عليه وآله وسلم استسقى لأصحابه بصلاة وبغير صلاة وصلى بهم للاستسقاء وصلاة الكسوف وكان يقنت في صلاته فيستنصر على المشركين وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده وكذلك أئمة الدين ومشايخ المسلمين وما زالوا على هذه الطريقة ولهذا يقال ثلاثة أشياء ما لها من أصل باب النصيرية ومنتظر الرافضة وغوث الجهال فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس أنه يقيم العالم فذاك شخصه موجود ولكن دعوى النصيرية فيه باطلة وأما محمد بن الحسن المنتظر والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله ولا يمدانهم فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيما الوضوء وهو الغرة والتحجيل ومن هؤلاء من أولياء الله من لا يحصيه إلا الله عز وجل وأنبياء الله الذين هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم بل قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْك)(غافر: من الآية78) وموسى لم يكن يعرف الخضر والخضر لم يكن يعرف موسى بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر وأنى بأرضك السلام فقال له أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم وقد كان بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه ومن قال إنه نقيب الأولياء أو أنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل .
القول الفصل في الخضر عليه السلام(158/34)
والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم ولم يكن مختفيا عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم ولا في دنياهم فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقال لهم نبيهم : ( لو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ) ، وعيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى من السماء وحضوره مع المسلمين ، وقال : (كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها) ، فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم وإذا كان الخضر حيا دائما فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قط ولا أخبر به أمته ولا خلفاءه الراشدين .(158/35)
…وقول القائل إنه نقيب الأولياء فيقال له من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيهم الخضر وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجل مثل شخص رأى رجلا ظن أنه الخضر وقال إنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصا تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال : وقد ذكر له الخضر من أحالك على غائب فما أنصفك وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
حكم إمكانية تسمية أفضل أهل الزمان بالقطب والغوث
وأما إن قصد القائل بقوله القطب الغوث الفرد الجامع أنه رجل يكون أفضل أهل زمانه فهذا ممكن لكن من الممكن أيضا أن يكون في الزمان اثنان متساويان في الفضل وثلاثة وأربعة ولا يجزم بأن لا يكون في كل زمان أفضل الناس إلا واحدا وقد تكون جماعة بعضهم أفضل من بعض من وجه دون وجه وتلك الوجوه إما متقاربة وإما متساوية ثم إذا كان في الزمان رجل هو أفضل أهل الزمان فتسميته بالقطب الغوث الجامع بدعة ما أنزل الله بها من سلطان ولا تكلم بهذا أحد من سلف الأمة وأئمتها وما زال السلف يظنون في بعض الناس أنه أفضل أو من أفضل أهل زمانه ولا يطلقون عليه هذه الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان لا سيما أن من المنتحلين لهذا الاسم من يدعي أن أول الأقطاب هو الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ثم يتسلل الأمر إلى ما دونه إلى بعض مشايخ المتأخرين وهذا لا يصح لا على مذهب أهل السنة ولا على مذهب الرافضة فأين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد قارب سن التمييز والاحتلام .(158/36)
وقد حكي عن بعض الأكابر من الشيوخ المنتحلين لهذا أن القطب الفرد الغوث الجامع ينطبق علمه على علم الله تعالى وقدرته على قدرة الله تعالى فيعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه الله وزعم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كذلك وأن هذا انتقل عنه إلى الحسن وتسلسل إلى شيخه فبينت أن هذا كفر صريح وجهل قبيح وأن دعوى هذا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفر دع ما سواه وقد قال الله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)(الأنعام: من الآية50) وقال تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)(لأعراف: من الآية188) ، وقال تعالى : ( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا)(آل عمران: من الآية154) ، وقال تعالى: ( يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ )(آل عمران: من الآية154) ، وقال تعالى : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ) (آل عمران:127)(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (آل عمران:128) ، وقال تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56) . …والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نطيع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (النساء:80) ، وأمرنا أن نتبعه فقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(آل عمران: من الآية31) ، وأمرنا أن(158/37)
نعزره ونوقره وننصره وجعل له من الحقوق ما بينه في كتابه وسنة رسوله حتى أوجب علينا أن يكون أحب الناس إلينا من أنفسنا وأهلينا فقال تعالى:(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (الأحزاب: من الآية6) ، وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )(التوبة: من الآية24) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) ، وقال له عمر رضي الله عنه : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: ( لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ) قال : فلأنت أحب إلي من نفسي قال : ( الآن يا عمر ) ، وقال : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ) .
وقد بين في كتابه حقوقه التي لا تصلح إلا له وحقوق رسله وحقوق المؤمنين بعضهم على بعض كما بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وذلك مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور:52) .
…فالطاعة لله ورسوله والخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) (التوبة:59) .(158/38)
…فالإيتاء لله والرسول والرغبة لله وحده وقال تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا لأن الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله وأما الحسب فهو لله وحده كما قال وقالوا حسبنا الله ولم يقل حسبنا الله ورسوله . وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (لأنفال:64) أي يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين وهذا هو الصواب المقطوع به في هذه الآية ولهذا كانت كلمة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام حسبنا الله ونعم الوكيل والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله .
تمت …
تجد هذه الرسالة بكاملها في مجموع الفتاوى : المجلد / 27 ، الصفحات : ( 64 – 105 )(158/39)
فرق معاصرة
تنتسب إلى الإسلام
وبيان موقف الإسلام منها
تأليف
د. غالب بن علي عواجي
عضو هئية التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
الجزء الأول
http://www.saaid.net
مقدمة الطبعة الثالثة .
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين،وبعد :
فإن دراسة الفرق ومعرفة الأخطار التي تجلبها على المسلمين من أهم ما ينبغي أن يهتم به عامة المسلمين ، فضلاً عن طلاب العلم والدعاة إلى الله تعالى .
وقد كان الصحابي الجليل حذيفة ري الله عنه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر ؛ بينما طبيعة الإنسان هي السؤال عن الخير ، وقد بيَّن سبب ذلك بقوله : (( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الخير وكنت أساله عن الشر ؛ مخافة أن يدركني )) .
ولقد مرت بالمسلمين ولا تزال تمر بهم الأخطار متلاحقة يتبع بعضها بعضاً بعد أن تكالب الأعداء على مختلف اتجاهاتهم ،، ووقفوا صفاً واحداً متناسين ما بينهم من عداوات واختلاف في العقائد الحرب المسلمين وفتنتهم عن دينهم الحنيف ، في الوقت الذي غفل فيه المسلمون عن واقعهم وركن كثير منهم إلى أعدائهم أعداء عقيدتهم – فنفر بعضهم عن البعض الآخر بسبب تلك المؤامرات الخفية والظاهرة ، وما تبعها من اختلاف المسلمين في الموالاة والأهواء .
وقد حذَّرنا الله عز وجل من الركون إلى الذين ظلموا فقال تعالى : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } .
ومعلوم أنه لن تعود للمسلمين عزتهم ومكانتهم بين الأمم إلا إذا عادوا بصدق وإخلاص إلى كتاب ربهم وإلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم .(159/1)
ولكن ومهما شعر بمرارة هذا التفرق ومهما بذلت من المحاولات لتكريس الفرقة – فإن الأمل يزداد في تجاوز المسلمين لهذا المحن . ومما يبشر بالخير ويجدد الآمال – هو إقبال الشباب على معرفة أسباب تلك التركة المشؤومة التي ورثوها ، تلك التركة التي تحكم الفرقة بينهم وتجعل منهم أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون ، فجندوا أنفسهم للقضاء عليها وإعادة الوحدة الإسلامية بين قلوب المسلمين ؛ ليصبحوا مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وهي محاولات تحتاج إلى الصبر والإخلاص والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وإجلاء الأمور على حقيقتها ؛ فإن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من التذكير ، وإذا شاء الله شيئاً يسره : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }.
وقد طمعت في أن أدلي بدلوي المتواضع ؛ لأتقدم إليك أخي القارئ بما يعتلج في صدري إزاء هذا التفرق الحاصل بين المسلمين ؛ لأذكرك بالأسباب التي أدت إليه وما يبيته أعداء دينك لك ، وما هو الواجب علينا أن نقوم به إزاء عقيدتنا ووحدة قلوبنا ، وكشف كل المحاولات التي تهدف إلى تعميق الفرقة بيننا ، وإلى إبعادنا عن تحقيق قوله الله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وقوله تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ }.(159/2)
أخي القارئ الكريم ، لقد كنت ولا زلت أنظر إلى ما قدمته إليك في هذا الكتاب على أنه دون ما كان ينبغي أن يبذل ، وحسبي أنها إحدى الصيحات للوقوف في وجه تيار دعاة التفرقة وبيان أمرهم ومكائدهم ضد تآلف قلوب المسلمين ورغبتهم الشريرة في أن يبقى المسلمون على هذا التمزق والتنافر .
ورغم ذلك فقد أخبرني الناشر للكتاب أن طلاب العلم قد أقبلوا على شرائه برغبة لم يكن يتوقعها كما ذكر لي ذلك ؛ مما جعل الطبعة الأولى في سنة 1414هـ ، 1993م تنفد بسرعة ، فطلب إلي وألح في الطلب أن يعيد طباعته في سنة 1415هـ فأبيت بسبب لا أكتمك إياه ؛ وهو أن تلك الطبيعة فيها أخطاء كثيرة جداً ، وفيها تحريفات ونقص ، وترك علامات الترقيم مما حدى بكثير من الغيورين وفقهم الله إلى إرسال ملاحظاتهم التي استفدت منها كثيراً .
وتوقفت عن طباعة الكتاب حتى أنتهي من تصحيح كل الملاحظات ، فإذا بي أفاجأ بظهور طبعة جديدة عليها الطبعة الثانية في سنة 1416هـ 1996م وهي تصوير عن الطبعة السابقة وبنفس العيوب السابقة تماماً ، وقد آلمني هذا التصرف جداً إضافة إلى ما تلقيته من بعض الفضلاء من عتاب على نشره في الطبعة الثانية دون تصحيح لظنه رضاي عنها ، مما جعلني أضاعف الجهد في تصحيح الكتابة للطبعة الثالثة التي هي في الحقيقة الطبعة الثانية بعد أن أخبرني الناشر بأنه لا يأمن أن تصدر عدة طبعات دون علمي بها ولا استشارتي فيها .
وها أنا أقدم إليك هذه الطبعة على عجل ، وهي مصححة وفيها اختلاف كثير عن الطبعات السابقة ، مع طلبي من كل قارئ لها أن يتكرم بإبلاغي عن أي خطأ يجده لنتلافاه في المستقبل إن شاء الله تعالى ؛ فإن الكمال لله تعالى والنقص من طبيعة البشر .
وفي الختام أتوجه بالشكر الجزيل إلى كل من أسهم في تقويم الكتاب ونبهني إلى الأخطاء ممن أعرفهم وممن لا أعرفهم .(159/3)
أسأل الله عز وجل أن يتولى ثوابهم وأن يجزل لهم الأجر وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم إن شاء الله تعالى ، وأن يعفو عن تقصيري وأن يجعلنا جميعاً من ورثة جنة النعيم .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
غالب بن علي عواجى
في 20/10/1417 هـ .
المدينة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ....
وبعد ....
فأحمد الله تعالى على ما هيأ للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية من طلاب علم ، جاؤوا من بلدان بعيدة وأماكن مختلفة للتزود بالعلم النافع في دينهم ودنياهم ، ألّف الله بين قلوبهم في هذه الجامعة الإسلامية المباركة ، وصاروا كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد ؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ....(159/4)
ولا شك أن هذا المجتمع الطيب مما تزداد القلوب به انشراحاً ؛ فهي فرصة ثمينة للطلاب والمدرسين أتيحت لهم بفضل الله ثم بجهود القائمين على خدمة الإسلام والمسلمين بكل سخاء ، وحين أسند إليَّ تدريس مادة الفرق منذ العام الدراسي 1405 هـ ، كنت مستشعراً أهمية هذه المادة المفيدة لتفهيم أبناء المسلمين ما يبيته لهم أعداؤهم من الإصرار على تفتيت وحدتهم ، والتشويش على أفكارهم – إن لم يتمكنوا من إخراجهم عن دينهم نهائياً – وهم يعلمون هذا تحت ستار إظهار الإسلام والانتساب إليه ؛ مما جعل الكثير من أبناء المسلمين يقعون ضحية تلك المؤامرات الخفية منها والظاهرة ، ومما يدعو إلى الأسف زهد كثير من المسلمين عن البحث في حقيقة تلك الفرق فجعلوا الأخطار التي تبين لهم ، فلم يعد البحث عن تلك الطوائف والتصدى لها مثال أخذ ورد بين الكثير من طلاب العلم – فضلاً عن العامة – وفي مقابل هذا أقول بكل تفاؤل : إنه مما يسرني جداً في أثناء تدريسي لهذه المادة شدة رغبة وإقبال الشباب على تفهم ودراسة أفكار تلك الطوائف ومعرفة جذورها التاريخية وعقائدها المختلفة وأفكارها المتباينة بحماس واضح ورغبة صادقة ؛ بعد ما اتضح لهم مقدار الحاجة إلى مثل هذه الدراسة .(159/5)
ولقد كانت هذه الفرق التي يموج بها العالم الإسلامي ودراستها ، ومعرفة مخاطرها الظاهرة والخفية على الإسلام والمسلمين محل اهتمامي ؛ فكنت أقرأ كل ما تيسر لي الاطلاع عليه من كتب علماء السنة ، وما كتبه غيرهم ، ثم أثبت كل ما استحسنته وكان صواباً من تلك الكتب أثناء دراستي لها من فوائد علمية ، وآراء مهمة ، ومناقشات هادفة ، فجمعت شتات كثير من الفوائد التي تهم الراغب في دراسة الفرق مع بيان الحق ورد كل ما يعارض الاعتقاد السليم ، ولم أهتم بذكر الفرق الفرعية بكل طائفة إلا ما دعت إليه الحاجة وهو قليل وقد كتبت كل ذلك لنفسي ، فلما اجتمع لي ما استحسنته من إثبات شتات كثير من المعلومات عن الفرق في مكان واحد رجوت الله تعالى أن ينفعني وإخواني طلاب العلم به ، وأن يكون منجداً أولياً لدراسي الفرق .
ولرغبة الأحبة من طلاب العلم قدمته لهم ، سائلاً المولى جلت قدرته أن يجدوا فيه ما ينفعهم ويعينهم على فهم حقيقة تلك الفرق التي يدرسونها .
مع اعتذاري عما يوجد فيه من سهو أو تقصير ؛ فالخير أردت والكمال لله وحده . ولكل امرئ ما نوى ....
وقد قسمت هذه الدراسة إلى : أبواب . وفصول لكل باب :
الباب الأول مقدمة في دراسة الفرق ، وتشمل الفصول الآتية :
الفصل الأول : الهدف من دراسة الفرق
الفصل الثاني : أهمية دراسة الفرق
الفصل الثالث : النهي عن التفرق وفيه مبحثان :
المبحث الأول : الأدلة من القرآن الكريم .
المبحث الثاني : الأدلة من السنة النبوية .
الفصل الرابع : حصر الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق ، ويشتمل على مبحثين
المبحث الأول : من الفرق ؟
المبحث الثاني : معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (( كلها في النار إلا واحدة )) .
الفصل الخامس : كيف ظهر الخلاف والتفرق بين المسلمين
الفصل السادس : مدى سعة الخلاف الذي كان يحصل بين الصحابة وموقفهم منه. وكيف تطور بعدهم إلى تمزيق وحدة الأمة الإسلامية(159/6)
الفصل السابع : مظاهر الخلاف بين المسلمين
الفصل الثامن : كيف تبدأ الفرق في الظهور
الفصل التاسع : منهج العلماء في عدَّ الفرق
الفصل العاشر : ما المراد بأمة الإسلام؟
الفصل الحادي عشر : أهم أسباب نشأة الفرق
الباب الثاني : فرقة السلف أهل السنة والجماعة
الفصل الأول : تمهيد حول دراسة هذه الطائفة
الفصل الثاني : الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة
الفصل الثالث : عقيدة فرقة أهل السنة والجماعة
الفصل الرابع : أسماء هذه الطائفة وألقابهم
الفصل الخامس : ما هي عقيدة السلف وما هو منهجهم في مسائل الاعتقاد والاستدلال لها؟ وما معنى كلمة عقيدة
الفصل السادس : أقوال السلف في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع
الفصل السابع : لزوم السلف جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك
الفصل الثامن : الثناء على السلف رحمهم الله تعالى
الفصل التاسع : جهودهم في خدمة الإسلام
الفصل العاشر : بيان وسطية أهل السنة في مسائل الاعتقاد وسلامتهم من ضلالتي الإفراط والتفريط صلى الله عليه وسلم
الفصل الحادي عشر : علامات وسمات الفرقة الناجية وعلامات وسمات الفرق الهالكة مزايا العقيدة السلفية وأصحابها
الفصل الثاني عشر : ذكر أشهر أئمة أهل السنة ومؤلفاتهم في العقيدة
الفصل الثالث عشر : تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة
الباب الثالث : دراسة عن الخوارج ، وفيه الفصول الآتية :
الفصل الأول : تمهيد وجود الخوارج في الماضي والحاضر
الفصل الثاني : التعريف بالخوارج لغة واصطلاحاً .
الفصل الثالث : أسماء الخوارج وسبب تلك التسميات
الفصل الرابع : متى خرج الخوارج
الفصل الخامس : محاورات الإمام علي للخوارج في النهروان
الفصل السادس : أسباب خروج الخوارج
الفصل السابع : حركات الخوارج الثورية وفرقهم وعددهم
الفصل الثامن : دراسة أهم فرق الخوارج، وهم الإباضية
وتشمل دراسة هذه الطائفة ما يلي .
تمهيد .
زعيم الإباضية .
هل الإباضية خوارج ؟(159/7)
فرق الإباضية .
دولة الإباضية .
موقف الإباضية من المخالفين لهم :
أ- موقفهم من سائر المخالفين .
ب- موقفهم من الصحابة .
عقائد الإباضية .
الفصل التاسع : إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للخوارج ، ويشمل الآتية :
المسألة الأولى : هل الخوارج يقولون بالتأويل أم بظاهر النص فقط ؟
المسألة الثانية : موقف الخوارج من صفات الله تعالى .
المسألة الثالثة : حكم مرتكبي الذنوب عند الخوارج .
المسألة الرابعة : الإمامة العظمى .
المسألة الخامسة : موقفهم من عامة المسلمين المخالفين لهم .
المسألة السادسة : حكم الخوارج في أطفال مخالفهم .
الفصل العاشر : الحكم على الخوارج
الباب الرابع : وقد خصص لدراسة الشيعة ، من خلال الفصول الآتية :
الفصل الأول : التعريف بالشيعة لغة واصطلاحاً، وبيان التعريف الصحيح
الفصل الثاني : بيان متى ظهر التشيع.
الفصل الثالث : مراحل دعوى التشيع
الفصل الرابع : أسماء الشيعة
الفصل الخامس : فرق الشيعة وتشمل :
تمهيد .
السبب في تفرقهم .
عدد فرقهم .
السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرقهم .
الفصل السادس : دراسة أهم فرق الشيعة
السبئية .
الكيسانية .
المختارية .
الزيدية .
الرافضة : وتشمل دراستها ما يلي :
أ- تعريفهم لغة واصطلاحاً .
ب- سبب تسميتهم بالرافضة .
ج- وجودهم قبل اتصالهم بزيد .
د- أسماؤهم قبل اتصالهم بزيد .
هـ فرقهم وهم :
المحمدية .
الاثنا عشرية : وتشمل دراستها :
أ- أسماؤهم وسبب تلك التسميات .
ب- سبب انتشار مذهبهم وأماكن انتشارهم .
ج- فرقهم وأهمها :
الشيخية .
الرشتية .
الفصل السابع : إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للشيعة ، ويشمل المسائل الآتية :
قصر استحقاق الخلافة في آل البيت على علي وذريته رضي الله عنهم ، وإنها كانت بنص من النبي صلى الله عليه وسلم فيهم .
دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء .
تدينهم بالتقية .
دعواهم المهدية والرجعة .
موقفهم من القرآن الكريم .
موقفهم من الصحابة .(159/8)
القول بالبداء على الله تعالى .
وتحت كل عنصر من العناصر السابقة إيضاح تام له وبيان الحق في كل تلك المسائل ، وبيان أدلة الشيعة ومناقشتها وإبراز العقيدة السلفية في كل مسألة إن شاء الله تعالى .
الفصل الثامن : الشيعة في العصر الحاضر وهل تغير خلفهم عن سلفهم؟
الفصل التاسع : الحكم على الشيعة
الباب الخامس : وقد كان لدراسة الباطنية ، وقد اشتمل على الفصول الآتية :
الفصل الأول : تمهيد - في بيان خطر هذه الطائفة
الفصل الثاني : متى ظهر مذهب الباطنية
الفصل الثالث : الغرض من إقامة هذا المذهب وكيف تأسس
الفصل الرابع : أسماء الباطنية وسبب تسميتهم بتلك الأسماء
الفصل الخامس : الطرق والحيل التي يستعملها الباطنيون لإغواء الناس
الفصل السادس : عقائد الباطنية ويشمل :
عقائدهم في الألوهية
عقائدهم في النبوات .
عقائدهم في الآخرة .
عقائدهم في التكاليف الشرعية .
الباب السادس : وهو دراسة عن النصيرية ، وقد اشتمل على الفصول الآتية :
الفصل الأول : تمهيد في بيان خطر النصيرية
الفصل الثاني : زعيم النصيرية وسبب انفصاله عن الشيعة وموقفهم منه
الفصل الثالث : أسماء هذه الطائفة والسبب في إطلاقها عليهم
الفصل الرابع : نشأة النصيرية .
الفصل الخامس : تكتم النصيرية على عقائدهم
الفصل السادس : طريقتهم في تعليم مذهبهم
الفصل السابع : أهم عقائد النصيرية
تأليه علي رضي الله عنه وبرأه الله منهم .
القول بالتناسخ .
تقديس الخمر – عبدالنور .
الفصل الثامن : عبادات النصيرية
الفصل التاسع : أعياد النصيرية
الفصل العاشر : موقف النصيرية من الصحابة
الفصل الحادي عشر : فرق النصيرية
الفصل الثاني عشر : أماكن النصيرية
الفصل الثالث عشر : محاولات لم تثمر
الباب السابع : وكان لدراسة الدروز ، وفيه الفصول الآتية :
الفصل الأول : في بيان خطر هذه الفرقة
الفصل الثاني : التعريف بالدروز لغة واصطلاحاً وبيان أصل الدروز .
الفصل الثالث : زعيم الدروز .(159/9)
الفصل الرابع : أسماء الدروز
الفصل الخامس : كيف انتشرت العقيدة الدرزية
الفصل السادس : معاملة الدروز لمن يكشف شيئاً من عقائدهم
الفصل السابع : أماكن الدروز
الفصل الثامن : طريقة الدروز في تعليم ديانتهم
الفصل التاسع : من هو الحاكم بأمر الله الذي ألهه الدروز وبيان هلاكه .
الفصل العاشر : أهم عقائد الدروز
ألوهية الحاكم .
القول بالتناسخ .
إنكار القيامة .
عداوتهم للأنبياء .
إنكارهم التكاليف .
الفصل الحادي عشر: الدروز في العصر الحاضر
- كمال جنبلاط ودوره في تثبيت عقيدة الدروز
الفصل الثاني عشر : الفرق بين النصيرية والدروز
الباب الثامن : دراسة عن البهائية ، وفيه الفصول الآتية :
الفصل الأول : نبذة عن أساس ظهور البهائية وبيان صلتها بالبابية. ثم بيان الطالب الآتية :
زعيم البابية
صلة البابية بالمستعمرين في ذلك الوقت .
نهاية الشيرازي .
مؤتمر بدشت وما تم فيه من خطط .
الكتاب المقدس للبابية .
هزيمة البابية .
الفصل الثاني : خطر البهائية
الفصل الثالث : زعيم البهائية .
اسمه ومولده – دوره في مؤتمر بدشت – ثقافته – عمالته هو وأسرته لأعداء الإسلام من الإنجليز والروس واليهود – وفاته .
الفصل الرابع : المبادئ التي نادى بها البهائيون : ويشمل .
زعمهم وحدة جميع الأديان .
وحدة الأوطان .
وحدة اللغة .
السلام العالمي .
المساواة بين الرجل والمرأة .
عقائد أخرى للبهائيين .
الفصل الخامس : أمثلة من تأويلات البهائية للقرآن الكريم
الفصل السادس : موقف البهائية من السنة النبوية .
الفصل السابع : السبب في انتشار تعاليم البهائية .
الفصل الثامن : كتاب البهائية الذي يقدسونه .د
الفصل التاسع : أماكن البهائية
الباب التاسع : وفيه دراسة عن القاديانية ، وقد انتظم تمهيدا وفصول .
تمهيد: التحذير من ظهور دجالين يدعون النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم:
الفصل الأول : كيف نشأت القاديانية
الفصل الثاني : زعيم القاديانية(159/10)
الفصل الثالث : ختم النبوة وموقف القادياني منه
الفصل الرابع : كيف وصل القادياني إلى دعوى النبوة
اتجاهه إلى التأليف والناظرات .
إلهاماته .
دعواه أنه المسيح الموعود وأمثلة من تأويلاته الباطلة للنصوص بمساعدة صديقه الحكيم البهيروي .
ادعاؤه النبوة .
الفصل الخامس : نبوءات الغلام المتنبئ .
الفصل السادس: غلوه وتفضيله نفسه على الأنبياء وغيرهم
الفصل السابع : أهم عقائد القاديانية .
التناسخ .
التشبيه .
الفصل الثامن : علاقة القاديانية بالإسلام وبالمسلمين وبغير المسلمين، وموقف علماء الهند وباكستان من القاديانيين .
الفصل التاسع : أسباب انتشار القاديانية .
الفصل العاشر : وفاة القادياني .
الفصل الحادي عشر : بعض زعماء القاديانية
الحكيم نور الدين البهيروي .
محمود أحمد .
الخواجة كمال الدين
شخصيات أخرى .
الفصل الثاني عشر : الفرع اللاهوري .
زعيمه .
مبادئه .
الباب العاشر : دراسة الصوفية ، وفيه الفصول الآتية :
الفصل الأول : تمهيد في بيان انحراف الصوفية بصفة عامة .
الفصل الثاني : التعريف بالصوفية لغة واصطلاحاً .
الفصل الثالث : هل توجد علاقة بين المتصوفة وأهل الصفة .
الفصل الرابع : أسماء الصوفية وسبب تسميتهم بها
الفصل الخامس : متى ظهر المذهب الصوفي
الفصل السادس : حقيقة التصوف
الفصل السابع : أقسام المتصوفة وذكر طرقهم واختيار الطريقة التجانية نموذجاً ودراستها بإيجاز .
الفصل الثامن : الخلوات الصوفية ومنها الخلوات التجانية .
الفصل التاسع : مغالطات لجنة جماعة الصوفية في مدينة "الورن" في نيجيريا
الفصل العاشر : كيفية الدخول في المذهب الصوفي .
الفصل الحادي عشر : أصول الصوفية .
الفصل الثاني عشر:إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للصوفية ويشمل :
عقيدة المتصوفة في الإله عز وجل .
عقيدة المتصوفة في الحلول .
وحدة الوجود .
وحدة الشهود، وبيان العلاقة بين وحدة الشهود ووحدة الوجود .
الولاية وبيان المصطلحات الصوفية .(159/11)
الفصل الثالث عشر : الكشف الصوفي .
الفصل الرابع عشر : الشطحات الصوفية .
الفصل الخامس عشر : التكاليف في نظر الصوفية .
الفصل السادس عشر : الأذكار الصوفية .
الفصل السابع عشر : الوجد والرقص عند الصوفية .
الفصل الثامن عشر : الكرامات وخوارق العادات عند الصوفية .
الفصل التاسع عشر : تراجم زعماء الصوفية .
الباب الحادي عشر : دراسة المرجئة ، وفيه الفصول الآتية .
أولاً: تمهيد:
الفصل الأول : التعريف بالإرجاء لغة واصطلاحاً وبيان أقوال العلماء في ذلك
الفصل الثاني : الأساس الذي قام عليه مذهب المرجئة .
الفصل الثالث : كيف نشأ الإرجاء وكيف تطور إلى مذهب .
الفصل الرابع : بيان أول من قال بالإرجاء .
الفصل الخامس : أصول المرجئة .
الفصل السادس : أقسام المرجئة .
الفصل السابع : أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها .
الفصل الثامن : مذهب أهل السنة في تعريف الإيمان .
الفصل التاسع : منزلة مذهب المرجئة عند السلف
الباب الثاني عشر : الجهمية
تمهيد : هل توجد آراء الجهمية في وقتنا الحاضر؟
الفصل الأول : التعريف بالجهمية وبمؤسسها
الفصل الثاني : نشأة الجهمية
الفصل الثالث : بيان مصدر مقالة الجهمية .
الفصل الرابع : ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالاً . ثم دراسة الآتية :
إنكار الجهمية جميع الأسماء والصفات ، شبهاتهم والرد عليهم .
قولهم بالإرجاء والجبر .
إنكارهم الصراط .
إنكارهم لميزان .
قولهم بفناء الجنة والنار .
الفصل الخامس : الحكم على الجهمية
الباب الثالث عشر : المعتزلة ، وتشمل دراستهم الفصول الآتية :
الفصل الأول : نشأتهم .
الفصل الثاني : أسماء المعتزلة وسبب تلك التسميات .
الفصل الثالث : مشاهير المعتزلة .
الفصل الرابع : ذكر أهم عقائد المعتزلة إجمالا .
الفصل الخامس : الأصول الخمسة للمعتزلة بيانها، والرد عليها . ويشمل :
التوحيد .
العدل .
الوعد والوعيد .
القول بالمنزلة بين المنزلتين .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .(159/12)
الباب الرابع عشر : " الأشاعرة أو السبعية " وتشمل دراستهم المطالبة الآتية :
1- ظهور الأشاعرة:
2 - أبو الحسن الأشعري:
3 – عقيدته .
4- عقيدته كما بينها في كتابه الإبانة .
5 - أشهر زعماء الأشعرية .
6 - موقف الأشاعرة من صفات الله تعالى .
الباب الخامس عشر : الماتريدية :
1 - التعريف بمؤسس الماتريدية:
2 - أهم آراء الماتريدي إجمالا:
الباب السادس عشر : دراسة أهم المسائل التي اتفق عليها أهل الكلام من الأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية ، وتشمل :
1 - تقديم العقل على النقل.
2 – جهل أولئك بمعنى توحيد الألوهية .
3- معنى التأويل عندهم الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى المرجوح .
4 – تعطيل النصوص عن مدلولاتها.
بيان شبههم والرد عليها في كل تلك المسائل .
5- جدول مختصر لبيان ثبوت صفات الله تعالى وتأويل الخلف لها .
هذا وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجد فيه قارئه ما يؤمله من الاستفادة وأن ينفع به .
وأرجوا من كل محب اطلع عليه أن يرشدني إلى ما يجد فيه من أخطاء ؛ فإن المؤمن للمؤمن كالمرآة ، وهو من التعاون الذي حث الله عز وجل عليه في كتابه الكريم .
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
20/ 3/ 1414 هـ
المدينة النبوية
الفصل الأول
الهدف من دراسة الفرق
دراستنا للفرق ليس إقراراً أو فرحاً بها، أو شماتة على الآخرين، وإنما ندرسها مع أسفنا الشديد للتفرق الحاصل بين المسلمين، والذي نرجو من وراء هذه الدراسة أن تحقق أهدافاً طيبة في خدمة الإسلام، وفي كسر حدة الخلافات التي مزقت المسلمين وفرقتهم إلى فرق وأحزاب.(159/13)
والتي تهدف كذلك إلى جمع كلمتهم، ولفت أنظارهم إلى مواقع الخلاف فيما بينهم؛ ليبتعدوا عما وقع فيه من سبق من هذه الأمة، فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، فهي نوع من أنواع العلاج لتلك المآسي الحالَّة بالمسلمين، وسبب من الأسباب التي تبذل لينفع الله بها إن شاء؛ لأن معرفة الدواء النافع يتوقف على معرفة الداء.
ولا يحتاج المسلمون لجمع كلمتهم، وإعادة مجدهم وعزهم وانتصارهم على جحافل الكفر والطغيان إلا إلى العودة الصادقة والنية الخالصة، فإن الأسس التي قام عليها عز الإسلام والمسلمين فيما سبق لا تزال كما هي قائمة قوية جديدة على مر الأيام والليالي –كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وتلك الأهداف التي نتطلع إلى تحقيقها كثيرة نذكر أهمها فيما يأتي:
1- تذكير المسلمين بما كان عليه أسلافهم من العزة والكرامة والمنعة حينما كانوا يداً واحدة، وقلباً واحداً.
2- لفت أنظارهم إلى الحال الذي يعيشونه، ومدى ما لحقهم من الخسارة بسبب تفرقهم.
3- توجيه الأمة الإسلامية إلى الوحدة فيما بينهم، وذلك بالتركيز على ذم التفرق وبيان مساوئه، وبيان محاسن اتحاد المسلمين، وجمعهم على طريق واحد.
4- تبصير المسلمين بأسباب الخلافات التي مزقتهم فيما سبق من الزمان ليجتنبوها بعد أن يتدارسوها فيما بينهم بعزم قوي وصدق نية.
5- معرفة ما يطرأ على العقيدة الإسلامية الصحيحة من أفكار وآراء هدامة مخالفة لحقيقة الإسلام بعيدة عن طريقه الواضحة.
6- رصْد تلك الحركات والأفكار التي يقوم بها أولئك الخارجون عن الخط السوي والصراط المستقيم؛ لتعرية دورهم الخطر في تفريق وحدة الأمة الإسلامية بتعريف الناس بأمرهم، وجلاء حقيقتهم للتحذير منهم، وبيان ما يقومون به من خدمة تلك الأفكار وترويجها.(159/14)
ذلك أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم في وضوح تام؛ فلكل قوم وارث ( (1) قال ولي الله الهلوى (( إذا قرأت القرآن فلا تحسب أن المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا ، بل الواقع أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم بطريق الأ نموذج بحكم الحديث (( لتتبعن سنن من كان قبلكم )) الحديث أخرجه الترمذي ( ج ص 475 ) .
انظر (( مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم ص نقلا عن الفوز الكبير ص 26 )) . 1).
7- حتى تبقى الفرقة الناجية علماً يهتدي به بعيدة عن تلك الشوائب الطارئة على العقيدة.
8- وصل حاضر هذه الأمة بماضيها، وبيان منشأ جذور الخلافات بينهم والتي أدت إلى تفرقهم فيما مضى من الزمان للتحذير منها، وللرد على أولئك الذين يحاولون دعوة المسلمين إلى قطع صلتهم بماضيهم، والبناء من جديد كما يزعمون.
9- ثم إن دراستنا للفرق وإن كان يبدو عليها أنها بمثابة جمع لتراث الماضين- فإنه يراد من وراء ذلك دعوة علماء المسلمين إلى القيام بدارسته وفحصه واستخراج الحق من ذلك، واستبعاد كل ما من شأنه أن يخرج بالمسلمين عن عقيدتهم الصحيحة أو يفرق كلمتهم.
وهذا فيما أرى هو أنجح الطرق وأقربها إلى إشعار المخالفين بالإنصاف وطلب الحق للاستدلال على خلافهم وخروجهم عن الصواب من كتبهم ومن كلام علمائهم لقطع كل حجة مخالفة بعد ذلك.
*********************************
الفصل الثاني
أهمية دراسة الفرق
ورد شبهة من يريد عدم دراستها
بيّنّا فيما مضى بعض الأهداف التي ندرس الفرق من أجلها، ونجيب هنا عن شبهة لكثير من الناس ربما يرددها بعضهم منخدعاً بحسن نية، والبعض الآخر يرددها بنية سيئة.
وهي: لماذا نشغل أنفسنا بدراسة فرق انتهت، وربما لم يعد لها ذكر على الألسنة..وقد رد العلماء عليها قديماً وحديثاً وانتهى الأمر؟
والجواب: إن هذا التساؤل قد انطوى على مغالطات خفية ونية سيئة، أو جهل شنيع، وذلك:(159/15)
أولاً: إن هذه الفرق وإن كانت قديمة فليست العبرة بأشخاص مؤسسي تلك الفرق ولا بزمنهم، ولكن العبرة بوجود أفكار تلك الفرق في وقتنا الحاضر.
فإننا إذا نظرنا إلى فرقة من تلك الفرق الماضية نجد أن لها امتداداً يسري في الأمة سريان الوباء.
وأقرب مثال على ذلك فرقة المعتزلة، أليس أفكارهم لا زالت حية قوية يتشدق بها بعض المغرضين من الذين استهوتهم الحضارة الغريبة أو الشرقية، فراحوا يمجدون العقل ويحكمونه في كل الأمور، ويصفون من يعتمد على ما وراء ذلك بالتأخر والانزواء .
إنهم يريدون الخروج عن النهج الإسلامي ولكنهم لم يجرءوا صراحة على ذلك، فوجدوا أن التستر وراء تلك الآراء التي قال بها من ينتسب إلى الإسلام خير وسيلة لتحقيق ذلك، فذهبوا إلى تمجيد تلك الأفكار لتحقيق أهدافهم البعيدة.
ثانياً: مما هو معلوم أن كل الأفكار والآراء التي سبقت لها أتباع ينادون بتطبيقها، فالنزعة الخارجية وتنطع أهلها في الدين، واستحلال دماء المسلمين لأقل شبهة، وتكفيرهم الشخص بأدنى ذنب- قائمة الآن في كثير من المجتمعات الإسلامية على أشدها، موهمين الشباب ومن قلت معرفته بالدين أن الدين هو هذا المسلك فقط.
كذلك نرى الصوفية وقد اقتطعت من المسلمين أعداداً كثيرة، مثقفين وغير مثقفين، جَرَفَهُم التيار الخرافي فراحوا ينادون بالجهل والخرافات، واتباع المنامات، وتحضير الأرواح، ومعرفة المغيبات، وتعظيم الأشخاص والغلو فيهم.
وغير ذلك من مسالك الصوفية التي سندرسها بالتفصيل إن شاء الله تعالى.(159/16)
وعلى هذا، فدراستنا هذه وإن كنت في ظاهرها دراسة للماضي، ومراجعة للتاريخ لفرق المبتدعة الذين جَنَوا على ماضي المسلمين إلا أنها دراسة حاضرة كذلك من حيث إنها تكشف جذور البلاء الذي شتت قوى المسلمين وفرقهم شيعاً، وجعل بأسهم بينهم شديداً، بل هي نور يضيء لشبابنا طريقه وسط هذا الظلام الفكري المفتعل، الذي لا يخدم إلا أعداء الإسلام وشانئيه بتوجيه الأنظار إلى تلك الفرق التي تعمل في الظلام لنشر أفكارها، وفرض مخططاتها المعادية للإسلام.
ثالثاً: إن دراسة الفرق والدعوة إلى الاجتماع واتحاد كلمة المسلمين -فيه تكثير لعدد الفرقة الناجية بانضمام أولئك الخارجين عن الحق ووقوفهم إلى جانب إخوانهم أهل الفرقة الناجية؛ فيكثر عددهم فيصح فيهم ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من قيام فرقة من المسلمين : (( ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك)) ( (2) أخرجه الترمذي ( ج 4ص 485 و 504 ) . 2) وتَرْكُنا لدراسة الفرق يفوِّت علينا هذا الخير العظيم.
رابعاً: أضف إلى ذلك أن ترك الناس دون دعوة إلى التمسك بالدين الصحيح، ودون بيان أضرار الفرق المخالفة، فيه إبطال لما فرضه الشرع من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الفرق التي ظهرت، ما من فرقة منها إلا وقد قامت مبادئها على كثير من المنكرات، وهي تدعي أنها هي المحقة وما عداها على الضلال، فألبسوا الحق بالباطل، وأظهروا مروقهم وخروجهم وفجورهم عن منهج الكتاب والسنة في أثواب براقة لترويج بدعهم، والدعوة لها.(159/17)
خامساً: إن عدم دراسة الفرق والرد عليها وإبطال الأفكار المخالفة للحق، ففيه إفساح المجال للفرق المبتدعة أن تفعل ما تريد، وأن تدعو إلى كل ما تريد من بدع وخرافات دون أن تجد من يتصدى لها بالدراسة والنقد كما هو الواقع؛ فإن كثيراً من طلاب العلم- فضلاً عن عوام المسلمين- يجهلون أفكار فرق يموج بها العالم، وهي تعمل ليلاً ونهاراً لنشر باطلهم، ولعل هذه الغفلة من المسلمين عن التوجه لكشف هذه الفرق المارقة لعله من تخطيط أولئك المارقين الذين نجحوا في حجب الأنظار عنهم وعن مخططاتهم الإجرامية.
ولا أدل على ذلك من أنك تجد بعض الأفكار وبعض العبارات يرددها كثير من المسلمين دون أن يعرفوا أن مصدرها إما من المعتزلة ( (3) أي تقديس المعتزلة للعقل، وجعله هو الحكم الفاصل في كل قضية ، وتقديمه علي النصوص . 3)، أو من الصوفية ( (4) مثل إطلاق لفظ العشق علي الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، كقولهم (( عاشق النبي ..... يصلي عليه )) . 4) ، أو البهائية ( (5) مثل تقديس العدد 19 . 5) ، أو القاديانية ( (6) مثل تأويل آيات القرآن بالهوى . 6) ، أو الخوارج ( (7) مثل تكفير المجتمعات الإسلامية . 7) ، أو الشيعة ( (8) مثل بغضهم الصحابة ، ومثل انتظار محمد بن الحسن العسكري ، ومثل المبالغة في حب الحسين ، الخ ... 8) ، إلى غير ذلك.
ومن المعلوم أن ذلك إنما يعود إلى الجهل بأفكار هذه الطوائف ( (9) انظر كتاب (( مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم )) تأليف محمد العبدة ، وطارق عبدالحكيم ( ص 27- 28 وكذا ص 36 – 38 ) . 9).
******************************
الفصل الثالث
النهي عن التفرق
لقد كان هذا الأمر مما عني به القرآن الكريم أيما عناية وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن اهتدى بهديه من أصحابه البررة والتابعين لهم بإحسان، ويشتمل هذا الفصل على مبحثين وهما:
المبحث الأول: الأدلة من القرآن الكريم:(159/18)
ومما جاء في القرآن الكريم، وهي آيات كثيرة نثبت منها قوله تعالى:
1- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }( (10) سورة الأنعام: الآية153 .10) .
2- {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا } ( (11) سورة آل عمران: الآية10311).
3- { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ( (12) سورة الأنعام: الآية15912).
والآيات واضحة في معناها ودلالتها ولا تحتاج إلا إلى التطبيق بجد وإخلاص، فهي تحذر من التفرق وتدعو إلى الوحدة وجمع كلمة المسلمين، والسير في طريق واحد. فإذا تفرق المسلمون بعد ذلك فهم خارجون عن السير فيه، وحينما تفرق المسلمون أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، زعمت كل فرقة أنها هي الناجية، وما عداها هالك، حتى التبس الأمر على كثير من المسلمين فلم يهتد إلى الفرقة الناجية بسبب تلك المزاعم، ولا ينبغي أن نأبه لتلك المزاعم، بل نعرض كل ما نسمع على كتاب الله وسنة نبيه، فما وافقهما فهو الحق، وما خالفهما عرفنا أنه باطل وهذا هو الميزان الذي ينبغي أن نزن به كل قول ومعتقد مهما كان مصدره كما هو حال أهل السنة في عرضهم للأقوال والمعتقدات على كتاب الله وسنة رسوله، وهو توفيق من الله لهم، وهم الفرقة الناجية، وهم أهل الحق إلى أن تقوم القيامة.
المبحث الثاني : الأدلة من السنة النبوية:
ومن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى اجتماع كلمة المسلمين وتحذيرهم عن التفرق أحاديث كثيرة منها على سبيل المثال:(159/19)
1- ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال: ((هذه سبيل الله)) ثم خط خطوطاً عن يمينه، وخطوطاً عن يساره ثم قال: (( هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه)) ثم قرأ هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }( (13) أخرجه الدارمي في مسنده ولا شك أن الحديث ينطبق تماماً على الفرق الخارجة عن الحق ، فإن علي رأس كل طائفة شياطين يدعون الناس إلي مسالكهم ، والسير في سبيلهم . 13) .
2- وفي حديث العرباض بن سارية قوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))( (14) أخرجه الترمذي جـ 4صـ 209 وأبو داود جـ 2 صـ 506 واللفظ له . 14) .
3- وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة عند ظهور الخلاف والتفرق في الدين بقوله: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) قال حذيفة: قلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) ( (15) متفق عليه البخاري جـ 13 صـ 35 ومسلم جـ 4 صـ 514 . 15).
4- وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة...وهي الجماعة)) ( (16) أخرجه أبو داود في كتاب السنة 2/503 ، والترمذي 5/25، 26، وابن ماجه 2/ 1322، وأحمد 2/ 322 ، 3/ 120، 145 . 16).(159/20)
وفي رواية عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)) ( (17) أخرج نحوه أبو داود عن أبي هريرة ( ج 2 ص 503 ) . 17).
ولا بد لنا من وقفة عند هذا الحديث الذي أضاف إلى التحذير من الافتراق الإخبار بهلاك تلك الفرق الضالة إلا واحدة منها، ثم حصر الفرق في العدد المذكور، ورغم كثرة الروايات المختلفة لحديث المذكور إلا أنه لم يخل عن الاختلاف في صحته، وسنقف هنا عند دراسته على الأمور التالية:
سند الحديث:
رُوي هذا الحديث بعدة أسانيد، إلا أن العلماء وقفوا بالنسبة لقبوله المواقف التالية:
1- منهم من لم يصححه، ولم يجوز الاستدلال به. وهم بعض العلماء كابن حزم وغيره.
2- ومنهم من اكتفى بتعدد طرقه. وتعدد الصحابة الذين رووا هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- ومنهم من أخذ به وحاول أن يحصر الفرق في العدد المذكور كالبغدادي رحمه الله وغيره ( (18) انظر (( الفرق بين الفرق )) تعليق محمد محي الدين ص 6 . 18) .
وحينما تعرض شيخ الإسلام –رحمه الله- للكلام عن الفرق، قال عن الحديث: ((مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن وروي من طرق)) ( (19) منهاج السنة ج 5 ص 48- 49 . 19). وفي مجموع الفتاوى ورد قوله: ((الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد، كسنن أبي داود والترمذي والنسائي)) ( (20) مجموع الفتاوى ج 3 ص 345 . 20).
* * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
حصر الفرق في العدد المذكور في حديث الافتراق
ويشمل مبحثين:(159/21)
والواقع أن حصر الفرق في العدد المذكور تفصيلاً ليشمل كل فرقة –فيه إشكال، وذلك أن أصول الفرق لا تصل إلى هذا العدد، وفروعها تختلف وجهات نظر العلماء في عدّها أصلية أو فرعية، ثم إن فروع الفرق تصل إلى أكثر من هذا العدد، فهل نعد الأصول مع الفروع؟ أو الأصول فقط؟ أو الفروع فقط؟.
كذلك فإن الفرق ليس لظهورها زمن محدد، أي لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد لنهاية تفرق أمته. وعلى هذا فإن الصواب أن يقال: إن الحديث فيه إخبار عن افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون تحديدهم بزمن بعينه، بحيث لا يصدق إلا على أهله فقط، وإنما أخبر عن افتراق أمته، وأمته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة...إذاَ فلا نحددها بزمن.
وينبغي أيضاً أن نعد الفرق في أي عصر ظهرت فيه، بغض النظر عن وصولها إلى العدد المذكور في الحديث أو عدم وصولها، فلا بد أن يوجد هذا العدد على الوجه الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر به، في عصرنا أو في غير عصرنا ( (21) انظر الاعتصام ج 2 ص 222 . وانظر تعليق محمد محي الدين عبدالحميد في أول كتاب (( الفرق بين الفرق )) ، ص 7 . 21) .
المبحث الأول: من الفرق الناجية؟
أما من هي الفرق الناجية، فقد اختلف العلماء في المراد بهم على أقوال، هي إجمالاً:
1- قيل: إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام.
2- وقيل: هم العلماء المجتهدون الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة)) ( (22) أخرجه ابن ماجه 2/1303 ، وابن أبي عاصم في السنة 1/41 ، وأبو داود 4/ 452، والترمذي 4/ 466 وقال : غريب من هذا الوجه ، الحاكم في المستدرك 1/ 155 22) ، أي لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة، وخصهم شيخ الإسلام بعلماء الحديث والسنة.
3- إنهم خصوص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية: ((ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) ( (23) أخرجه الترمذي .5 / 26. 23).(159/22)
4- إنهم جماعة غير معروف عددهم ولا تحديد بلدانهم، أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم بإخبار الله له أنهم على الحق حتى يأتي أمر الله. ولعل هذا هو الراجح من تلك الأقوال ونحن نطمع إن شاء الله أن نكون منهم مادمنا على التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى منهج سلفنا الكرام.
5- وفيه قول خامس، أن الجماعة هم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير ( (24) الاعتصام – بتصرف – ج 2 ص 260 – 264 ، وقد فصل القول فيها . وانظر مجموع الفتاوى ج 3 ص 345 . 24).
المبحث الثاني معنى قوله صلى لله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة))
وأما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((كلها في النار)) فقد ذكر الشاطبي ما حاصله:
1- أن هذه الفرق لا بد أن ينفذ فيها الوعيد لا محالة.
2- أنهم مثل أهل الكبائر تحت المشيئة ( (25) الاعتصام جـ2 ص 247- 248.25).
3- أن الأولى عدم التعرض لتعيين الفرق غير الناجية بالحكم عليها بالنار، لأن النبي عليه السلام نبه عليها تنبيهاً إجمالياً لا تفصيلياً إلا القليل منهم كالخوارج( (26) ذكره الشاطبي في الموافقات . انظر أهم الفرق في هذا الكتاب .26).
والذي يظهر لي أن الفرق تختلف في بعدها أو قربها من الحق، فبعضها يصح أن يطلق على أصحابها أنهم أهل بدعة أو معصية وحكمهم حكم أصحاب الكبائر، وبعضها لا يصح وصف أصحابها إلا بالكفر لخروجهم عن الإسلام مثل فرق الباطنية والسبئية والميمونية من الخوارج..الخ، ويكون حكمهم حكم الكفار الخارجين عن الملة، ولو تظاهروا بالإسلام.
* * * * * * * * *
الفصل الخامس
كيف ظهر الخلاف والتفرق بين المسلمين(159/23)
كان الخلاف في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي فور وصوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حين يحكم فيه، وبعد وفاته وحتى آخر عصر الخلفاء الراشدين كان المسلمون على منهج واحد في أصول الدين وفي فروعه، إلا أنه قد وجدت بعض الأمور التي كانت محل خلاف بين الصحابة رضي الله عنهم، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولكنهم قضوا عليها بثباتهم ونياتهم الصادقة –بعد توفيق الله لهم- نذكر منها على سبيل الإيجاز ما يلي:
ما أصاب بعض الصحابة من الدهشة من موت الرسول صلى الله عليه وسلم هل مات الرسول كما مات غيره من الأنبياء؟ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}( (27) الزمر :30 27)، أم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت وإنما هو في غيبوبة وسيفيق منها، حتى قال عمر رضي الله عنه: من قال إن رسول الله مات-ضربته بالسيف؟
وحينما جاء أبو بكر رضي الله عنه قضى على هذا الخلاف، وأقر الجميع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم.
هكذا يذكر أصحاب المقالات، ومن وجهة نظري لا أرى أن هذا يشكل خلافاً حقيقياً وإنما هي حالة طارئة مرّت بالمسلمين دون أن تشكل ظاهرة خلافية.
اختلفوا كذلك في موضع دفنه:
1- فأراد أهل مكة رده إلى مكة.
2- وأراد أهل المدينة دفنه بها.
3- وقال آخرون بنقله إلى بيت المقدس.
ولكل فريق من هؤلاء حججه على ما يراه لكن الخليفة الراشد الصديق رضي الله عنه قضى على هذا الخلاف حينما روي لهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه ))( (28) أخرجه الترمذي 3/ 338 ، وصححه الألباني صحيح الجامع 5649 . 28) ...والخلاف في هذه المسألة يعتبر خلافاً خطيراً؛ إذ لو وقف كل فريق عند رأيه وعاند لأدى ذلك إلى فتنة عظيمة.
اختلفوا في تسيير جيش أسامة، هل يبقى بالمدينة كما يرى عمر وغيره، لضرورة الحاجة إليه؟ أم يذهب لما وجهه الرسول عليه السلام كما يرى أبو بكر؟(159/24)
وقد شرح الله صدورهم لتوجيهه، وكان في ذلك خير عظيم.
ثم اختلفوا في قتال مانعي الزكاة، هل يقاتلون كما يقاتل الكفار لأنهم فرقوا بين ركنين من أركان الإسلام؟ أم لا يقاتلون ما داموا يشهدون الشهادتين، ويؤدون الصلاة؟.
ثم انتهى الخلاف بقبول رأي أبي بكر في قتال هؤلاء. وحتى الذين خالفوا في قتال مانعي الزكاة ما كانوا يريدون تركهم مطلقاً، وإنما كانوا يرون تأخير حسابهم معهم إلى حين القضاء على من هو أخطر منهم وأشد شوكة0
وكالاختلاف في الإمامة لمن تكون لقريش أم للأنصار؟ واجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، ورجوعهم أخيراً إلى مبايعة أبي بكر الصديق حينما تبين لهم الحق في قوله.
ثم تفاقم التصدع والانشقاق الخطير شيئاً فشيئاً إلى أن انتهى بمقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، حينما سعى في ذلك عدو الله ابن سبأ، ثم أصبح المسلمون فرقاً وأحزاباً وفشت بينهم العداوة والبغضاء إلا من رحم الله ( (29) ذكر البغدادي جملة من تلك الاختلافات ابتداء من ص 14 في كتابه (( الفرق بين الفرق )) .29)؛ مصدقاً لقول عثمان رضي الله عنه: ((فوالله لئن قتلتموني لا تحابون بعدي ولا تصلون بعدي جميعاً ولا تقتلون بعدي جميعاً عدواً أبداً))( (30) انظر البداية والنهاية ج 7 / 184.30).
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس
مدى سعة الخلاف الذي كان يحصل بين الصحابة
وموقفهم منه.
وكيف تطور بعدهم إلى تمزيق وحدة الأمة الإسلامية
رأينا فيما سبق أن الصحابة اختلفوا في مسائل لو أنها عند غيرهم لأريقت في بعضها الدماء، ولكن الصحابة ما كانوا يريدون الخلاف لذاته أو لأهوائهم كما حصل فيما بعد عند غيرهم.(159/25)
إلاّ أن جل خلافهم إنما كان حول فهم نص من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهي أمور أكثرها اجتهادية شبيهة بما كان يحصى أحياناً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما حصل في أمر صلاة العصر حينما توجهوا إلى بني قريضة، وكان أحدهم إذا تبين له صحة وجهة نظر أخيه ترك خلافه، ورجع إلى الحق، بل وربما يرجع عن خلافه في مثل المسائل الاجتهادية؛ حرصاً على جمع الكلمة، وسداً لمنافذ الخلافات أو فتح الثغرات التي يأوي إليها المتربصون بهم...
ومما ورد في كره الصحابة للخلاف، ورجوع بعضهم عنه في مسائل الاجتهاد خوفاً من تفرق الكلمة ما جاء في صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه قال: ((اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي))( (31) صحيح البخاري جـ 7 صـ 71 .31).
قال ابن حجر في معناه نقلاً عن أيوب: ((إن ذلك بسبب قول علي في بيع أم الولد، وأنه كان يرى هو وعمر أنهن لا يبعن وأنه رجع عن ذلك فرأى بيعهن)) قال عبيدة( (32) راوي الحديث عن علي .32): فقلت له رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلى من رأيك وحدك في الفرقة، فقال علي ما قال، قلت وقد وقعت في رواية حماد بن زيد أخرجها ابن المنذر عن علي بن عبد العزيز عن أبي نعيم عنه، وعنده قال لي عبيدة: بعث إلى علي وإلى شريح فقال: ((إني أبغض الاختلاف فاقضوا كما كنتم تقضون)) ثم قال ابن حجر في شرح قول علي رضي الله عنه: ((فإني أكره الاختلاف)) أي الذي يؤدي إلى النزاع.
قال ابن التين: ((يعني مخالفة أبي بكر وعمر، وقال غيره: المراد المخالفة التي تؤدي إلى النزاع والفتنة ( (33) فتح الباري جـ 7 صـ 73 .33)، وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه ما يفيد رجوعه عن خلافه خوفاً من قيام فتنة ))( (34) انظر البداية والنهاية جـ 7 صـ 218 .34).
وظل الخلاف في حياتهم لا يراد به إلا الوصول إلى الحق والتمسك به.(159/26)
ثم جاء من بعدهم أشكال من الناس بعضهم كان منافقاً فأظهر الإسلام والموافقة، ثم عمل في الداخل على تضخيم الخلاف، وفتح ثغرة في مفاهيم المسلمين، وجادل بالتأويل والشبهات، وبعضهم استغل اختلاف الصحابة في بعض المسائل، واتخذ منه سبيلاً لتمزيق وحدة الأمة الإسلامية بتقليب الأدلة ومعارضة بعضها ببعض، وإذكاء التعصب، وزيادة حدة الخلاف ليحقق هدفه في الحقد على المسلمين( (35) انظر مقالات الإسلاميين جـ 1 ص 34 ( تعليق محمد محي الدين ) .35).
ثم تطور الخلاف بين المسلمين من سيء إلى أسوأ، إلى أن وصل الحال إلى الواقع المؤسف الذي نعيشه اليوم من التباكي على الوحدة الإسلامية التي صارت صعبة المنال، بما اقترفوه من أفكار نفرت بعضهم عن بعض، وأذكى علماؤهم الأحقاد، وضخموا حجم الخلافات حتى صاروا فرقاً متناحرة، وتكثروا من ألقاب المدح بما لم يفعلوا، وصدق عليهم قول الشاعر الأندلسي:
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وتوالت على المسلمين الضربات والإهانات، وتأمر عليهم أهل الشرق والغرب، ونسوا أن الله طلب منهم أن يكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، فذل المسلمون ذلاً شنيعاً وخصوصاً في عصرنا الحاضر، ولكنهم لم يستيقظوا من الضربات، ولا تدري هل ذلك من هول ما أصابهم، أم يطلبون المزيد من الإهانات.(159/27)
والعرب بخصوصهم الذين كانوا قبل الإسلام أذل الناس، يريد الكثير منهم الآن العودة إلى تلك الجاهلية التي أخرجهم الله منها، وأبدلهم بالهدى والنور بعد أن كانوا على شفا حفرة من النار، وسيعلمون لو تم لهم ما يريدون- لا سمح الله- كم جَنَوْا على أنفسهم وعلى أمتهم، وهؤلاء أحد عوامل الهدم وإضعاف المسلمين. فقد توالت على المسلمين عوامل كثيرة أضعفتهم، عوامل خارجية أتقن تخطيطها أعداؤهم، فضربوهم في عقر دارهم، وحاربوا الدعوات الإسلامية بشتى الأساليب، وتأثر كثير ممن ينتسب إلى الإسلام بالدعايات المضللة، وبقي قلة من المخلصين قد خذلهم القريب والبعيد وهم نواة الخير في الأرض، ولن يخذلهم الله تعالى.
وعوامل داخلية من العصبية البغيضة، وإثارة النعرات الجاهلية، واتباع الهوى، واتخاذ رؤساء جهالاً معجبين بآرائهم، وصاروا كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((غثاء كغثاء السيل))( (36) أخرجه أحمد في المسند جـ 5 صـ 278 .36)، ولهذا فإن هذه الكثرة تُرى في المسلمين لا تُفْرِحْ كثيراً، فقد رأينا كيف وقفوا عاجزين أما أعدائهم في كل مكان، اللهم إلا فئات قليلة صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
* * * * * * * * * * * * * * *
الفصل السابع
مظاهر الخلاف بين المسلمين
مر المسلمون بخلافات عديدة، والمتتبع لكل تلك الخلافات يجد أنها:
1- إما أن تكون خلافات عملية جردت فيها السيوف والمدافع والبنادق، ولا شك أنها نتيجة لخلافات عقدية في أكثرها، وإن كانت تبدوا أنها سياسية، وبعضها خلافات سياسية خصوصاً في القرون الأولى.
وهذه الخلافات يهتم بها كتّاب التاريخ، يسجلونها ويوضحون أسبابها، ويذكرون نتائجها، وهي كثيرة على مدى التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً.
قديماً ما وقع بين علي رضي الله عنه والخوارج، وما وقع بين الخوارج والدولة الأموية، وما وقع بين الدولة الأموية وابن الزبير.(159/28)
وحديثاً ما نراه واضحا في لبنان وغيره من فتك الشيعة- الذين يتظاهرون بالإسلام- بأهل السنة وتنكيلهم بهم إلى حد الاستهتار بدمائهم، أو بين أهل السنة وبين مم يتظاهر بالإسلام على ديانة القاديانية أو البهائية أو غيرهم، ممن يتظاهر بالإسلام ويصوب السلاح إلى صدور المسلمين.
2- وإما أن تكون خلافات علمية، وهذه خاض غمارها العلماء، كل فريق يؤيد ما يذهب إليه، وينقض ما ذهب إليه المخالف دون أن يصغي لأدلة من يخالفه بعين الإنصاف –في أكثر الأحوال-، حتى إن كل فريق من المختلفين يقول: رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
وهذه الخلافات وإن لم تكن عملية، إلا أنها في كثير من القضايا أسهمت في إذكاء نار العداوة والبغضاء بين المسلمين، وساعدت في نفره المسلمين بعضهم عن بعض، خصوصاً بعد أن تولاها قوم معجبون بآرائهم، جهال بمعرفة النصوص وما تهدف إليه؛ فتعصبوا لمشايخهم وأفكارهم، ثم انطووا على ذلك ( (37) انظر تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة 1/ 16 .37) .
ودارس الفرق يهمه الإلمام بالأمرين جميعاً؛ حتى يتسنى له الحكم على الأمور بوضوح، فإن معرفة الحوادث التاريخية، ومعرفة الأفكار والمعتقدات ثم عرضها على كتاب الله وسنة نبيه، ثم الاسترشاد بما فهمه السلف من تلك النصوص هو بالإضافة إلى أنه من الإحسان إلى النفس وإلى الآخرين، طريق الإنصاف، ومعرفة الداء ودوائه.
* * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن
كيف تبدأ الفرق في الظهور
يذكر علماء الفرق أنه عندما يريد شخص معرفة ظهور فرقة من الفرق على وجه التحديد، فإن ذلك من غير اليسير الوصول إليه والجزم به دون تخمين أو شك، وذلك:
لأن الفرقة لا تستحق هذا الاسم إلا بعد مرورها بمراحل متعددة، تبدأ فكرة صغيرة، فردية أو جماعية، ثم تتكون شيئاً فشيئاً إلى أن تصبح فرقة ذات منهج مميز لها سياسياً أو اجتماعياً.
وهذا ما عناه الأستاذ أبو زهرة حين قال:(159/29)
((إن رأينا أن الأفكار التي تشيع وتنتشر، من الصعب الوصول إلى مبدئها على وجه الجزم واليقين من غير حدس أو تخمين))( (38) تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة 1/ 125.38).
والتخطيط لقيام الفرقة قد تطول مدته وقد تقصر، حسبما يتهيأ لها من الظروف والعوامل المساعدة لقيامها، وعلى هذا فإنه ينبغي حسبما يبدو لي أن نفرق بين ظهور الفرقة كفرقة ذات أفكار وآراء اعتقادية وبين ظهورها كفكرة.
والصعوبة إنما تكمن في ظهورها فكرة، وأما تحديد ظهورها فرقة فهو ما سجله العلماء عن ظهور كل الفرق والطوائف.
* * * * * * * * * * * * ** * * *
الفصل التاسع
منهج العلماء في عدَّ الفرق
لم يوجد لعلماء الفرق قانون يسيرون عليه في عدّهم للفرق الإسلامية، بل سلكوا طرقا عديدة، كل واحد منهم يعدها حسب اجتهاده، وما وصل إليه علمه.
وفي هذا يقول الشهر ستاني – رحمه الله-: ((اعلم أن لأصحاب المقالات طرقاً في تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل ونص)).
ثم قال: ((فما وجدت مصنّفين منهم متفقين على منهاج واحد في تعديد الفرق، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أنه ليس كل من تميز عن غيره- بمقالة ما في مسألة ما –عُدّ صاحب مقالة، وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد)).
وقال أيضاً: ((وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط إلا أنهم استرسلوا في إيراد مذاهب الأمة كيف ما اتفق، وعلى الوجه الذي وجد، لا على قانون مستقر وأصل مستمر))( (39) الملل والنحل ج 1 ص 14 .39).(159/30)
والواقع أننا نجد مصداق كلام الشهر ستاني عند تتبع العلماء للفرق، وأقرب مثال لذلك أنك تجد أمهات الفرق عند الأشعري عشر أصناف، وعند الشر ستاني نفسه أربع فرق، وعند غيرهما ثمان فرق، وعند آخرين ثلاثاً، وبعضهم يجعلها خمساً، إلى غير ذلك مما يوحي بعدم وجود قانون لعدّ الفرق مستقلة أو تابعة لغيرها؛ إذا كان هَمُّ الأولين فيما يبدو تسجيل ما يجدون من آراء فردية كانت أو جماعية.
ولعل بعض هؤلاء العلماء اختلط عليه الأمر فيمن يستحق أن يطلق عليه أنه من أهل ملة الإسلام فيعتبر خلافه، أو لا يعتبره من المسلمين فلا يذكر خلافه، وهذه المسألة تحتاج إلى إيضاح نوجز ما ذكره البغدادي عنها فيما يلي:
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل العاشر
ما المراد بأمة الإسلام؟
اختلف المنتسبون إلى الإسلام في الذين يدخلون بالاسم العام في ملة الإسلام، وحاصل الأقوال في هذه المسألة كما يلي:
1- أن هذه التسمية تشمل كل مقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأن كل ما جاء به حق، كائناً قوله بعد ذلك ما كان.
وهذا قول زعيم طائفة الكعبية من المعتزلة أبي القاسم الكعبي.
2- أنها تشمل كل من يرى وجوب الصلاة إلى جهة الكعبة.
3- أنها تشمل كل من أقر بالشهادتين ظاهراً ولو كان مضمراً للنفاق والكفر.
والواقع : أن تلك الأقوال لا تخلو من إيراد عليها وانتقاد لها، فقول الكعبي الأول، وقول مجسمة خراسان الأخير ينقضه ما موقع من يهود إصبهان من إقرارهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل، وكذا قال قوم من موشكانية اليهود- نسبة إلى زعيمهم موشكان- فإنهم أقروا بجميع شرائع الإسلام، ونفوا أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم نبي إلى كافة البشر، بما فيهم اليهود.
ومع ذلك فإنهم ليسوا بمسلمين، ولا تعتبر أقوالهم ضمن أقوال الفرق الإسلامية( (40) انظر الفرق بين الفرق ص 12 – 14 .40).(159/31)
والصحيح في هذا كله أنه لا يدخل في الإسلام إلا من أقر به ظاهراً وباطناً، والتزم بالإيمان بالشريعة الإسلامية، ثم إذا كان له بعض البدع فإنه ينزل من الإسلام حسب قربه أو بعده عنه، ويعامل على هذا الأساس، ويحترز من تكفير شخص بعينه إلا إذا ظهر كفره من قوله أو فعله أو اعتقاده بعد إقامة الحجة عليه.
* * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الحادي عشر
أهم أسباب نشأة الفرق
أ- تمهيد: التفرق في عصرنا الحاضر.
ب- الأسباب العامة للتفرق.
أ- التفرق في عصرنا الحاضر:
سبق أن عرفنا نهي الدين عن التفرق، وذكرنا الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية على ذلك، كما تبين لنا كذلك الخطر الذي يكمن في طريق الأمة الإسلامية، والذي يعوقها عن الوصول إلى الغاية التي أمرهم الله بها. وكيف أنهم حينما يتفرقون ويصبحون أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون-يصبحون أمة ضعيفة لا قيمة لها، كما هي سنة الله في الذين خَلَوا من قبل.
ويجري عليهم نفس المصير الذي جرى على الأمم قبلهم، لأنه لا نجاة ولا عزة إلا بالتمسك بالإسلام الذي رفع الله به أقواماً قبلوه وأذل به آخرين استكبروا عنه، وأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة ومن الجهل إلى العلم، وعاش الناس في ظلاله عيشة في منتهى السعادة.
وقد مضت تلك الأيام غرة في جبين الدهر، ولسان حال المسلمين اليوم يقول:
وودّ بجدع الأنف لو عاد عهدها وعاد له فيها مصيف ومريع
تنكر للإسلام كثير ممن يتظاهر به، ويزعم أنه يسير على نهجه فألحق بالمسلمين الذل بعد ذلك العز الذي غمر شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، وكان هؤلاء أشد على الإسلام والمسلمين من أعدائه الظاهرين حين أعرضوا عن تعاليم الإسلام المشرقة، وصاروا صعاليك يستجدون موائد الشرق والغرب القذرة، وعملوا ليلاً ونهاراً، سراً وإعلاناً على إضعاف المسلمين وتشكيكهم في دينهم وتشتيت أمرهم.(159/32)
وقد ساعدهم على ذلك أعداء الإسلام الذين يتربصون به الدوائر {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}( (41) سورة الفتح :641)والذين يمدونهم بكل ما لديهم من التشجيع المادي والمعنوي، فإذا بهم يتحولون إلى وحوش وسباع ضارية، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
لقد تربى هؤلاء على موائد الكفرة ودرسوا في مدارسهم، وأتقنوا مناهجه ثم أظهروا أنفسهم أبطالاً فاتحين، واتخذوا لأنفسهم شعارات براقة خادعة وهم ما بين ثوري اشتراكي شيوعي، أو بعثي زنديق حاقد، أو رأسمالي جشع حقود حسود، أو ماسوني أينما يوجه لا يأت بخير، فابتلي المسلمون بهم أشد البلاء، وتوالت عليهم المحن، وظهر الإلحاد، وتفرقت بسببهم الكلمة، وظهر قرن الشر، وفشت الدعارة علانية، وصار المتمسكون بدينهم غرباء.
وبعد تلك المحن كلها مما لا يمكن وصفه امتن الله على المؤمنين، وظهرت بوادر صحوة يتمنى كل مسلم أن تتم بخير، مع الخوف الشديد أن توجه تلك الصحوات وجهة في غير مسارها الصحيح، فتنتكس الأمة انتكاساً ربما لا تقوم لهم قائمة - لا سمح الله- إذا نجح هؤلاء النقلابيون على كل شيء حتى على دينهم ورسالة نبيهم، لأنهم يريدون قلب كل شيء، وتحويل كل معتقد إلى معتقداتهم الفاسدة، ثم السير بهم في تلك السبل التي تربوا عليها، وهي السبل التي حذرنا الله من سلوكها، إن المتتبع لنشاط هؤلاء ودوافعهم تنكشف له اللعب السياسية والاجتماعية الخطيرة التي تدفع بأتباعها من ظهورهم إلى حيث لا يدرون، ومن حيث لا تمكنهم من معرفة ما هم واردون عليه.
قد أحاطوهم بصراخ وعويل أفقدوهم حتى مجرد اللحظة التي يفكرون فيها، وبخبث ودهاء تظافرت جهودهم يصدق بعضها بعضاً، الجريدة، والمجلة، والكتاب، والتلفزيون، والإذاعة، وإعلانات الشوارع، وندوات المجالس، ونثر ونظم، وتمثيليات وفكاهات؛ فأحاطوهم من كل جهة، ودخلوا معهم في كل مجال من مجالات الحياة.(159/33)
وجعلوهم لا يفكرون إلا فيهم، وفي تنفيذ دعاياتهم في كل وقت -وهم يمشون، أو على مكاتبهم، أو في بيوتهم، أو في اجتماعاتهم، أو في انفرادهم؛ حتى أخذوا منهم كل أوقاتهم، وخدعوهم عن كل ما يمت إلى تدبر أمرهم فأصبحوا فريسة سهلة، لا حراك بها أمام هؤلاء سراق عقول البشر الذين يصطادون في الماء العكر، قد دخلوا في المجتمعات المحافظة على سلامة عقيدتها كما تدخل الجراثيم.
فأصبح الكثير من شباب الأمة الإسلامية - إلا من رحم الله- عقولهم معهم وأيديهم تكتب عنهم وتمجدهم وأرجلهم تمشي إلى مجالسهم، وألسنتهم تنطق بدعاياتهم وأكاذيبهم وحيلهم. ولا شك أن ثمن ذلك كله تفرق الكلمة وتشتت الآراء تحت غطاء إصلاح وتقدم الأمة، والوصول إلى التطور والتجديد، أو غير ذلك من الأكاذيب.
جندوا كل أولئك لهدف واحد هو محاربة الدين والعادات الإسلامية، وتفكيك الروابط المتينة التي بناها الإسلام والتي تقف دون رغباتهم الجنسية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
وجنَّدوهم كذلك لقطع أوصال الأمة وإلقاء بذور الشقاق بينهم- على طريقة فَرِّقْ تَسُد- ودربوهم على طريقة إلصاق التهم بالآخرين من أهل الحق وتشويه سمعتهم، ثم ألقوا بينهم مختلف الآراء الفكرية شغلوا الأمة بها.
ولم يفلحوا في شيء مثلما أفلحوا في تفريق كلمة المسلمين، وإشاعة الفرقة والعداوة بينهم، وبغي بعضهم على بعض، والتفنن في اللمز ورفع الشعارات، وهذا ما يفسره لنا وَلَعُهُمْ بقيام الأحزاب المتناقضة في الآراء لإلهاء الناس عن مراقبة ما يقومون به.(159/34)
ونتج عن ذلك استحكام الفرقة، ونشوء الأحزاب والجماعات المتصارعة، وإفساح المجال واسعاً لكل طامع في تفتيت الأمة، الذين هم كالجسد الواحد؟ إنهم يلهثون لاستعباد عقول الناس بأي ثمن كان، حتى ولو كان تفرقة أهل البيت الواحد ما دام ذلك يحقق لهم مصالحهم، ويجعلهم قادة للقطعان الذين يتبعونهم بغير تدبر ولا روية منخدعين بزخارف أقوال أولئك الذين فسدت فطرهم، وانتكست مفاهيمهم، حتى أصبحوا يرون المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً، والحق باطلاً.
عقاب من الله لهم لانحرافهم عن النهج الرباني، وعن الصراط المستقيم، والسبيل المبين إلى سبل وشبهات على رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه كما تقدم بيان المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذا المسلك في الحديث الثابت عنه ( (42) تقدم تخريجه .42) وبالبحث عن أسباب تفرق الأمة الإسلامية، قديماً وحديثاً، يتضح أن أسباباً عديدة عملت مجتمعة على ذلك التفرق بعضها معلن وبعضها خفي، وهذا لا يمنع أنه قد يوجد لكل طائفة من العوامل ما لا توجد عند الطوائف الأخرى، ولهذا فإنه من الإطالة البحث عن الأسباب التي أدت إلى خروج كل طائفة من الطوائف التي يموج بها العالم الإسلامي .
وتفصيل ذلك والتوسع فيه كل طائفة على حدة ودراسة تلك الأسباب والمقارنة بينها وبين الأسباب للطوائف الأخرى فهذا يحتاج إلى دراسة خاصة، تبدأ بذكر ما جرى بين المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحداث مروراً ببيان الخلاف الحاد الذي أنتجه أمر الخلافة لمن تكون وكيف تمت في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، ومواقف الناس منها .
ثم بيان ما حصل من ابن سبأ من مؤامرات ومواقف خبيثة أدت إلى ارتكاب جريمة مروعة في عصر الصحابة؛ وهي قتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه علانية، وما أعقب ذلك من مواجهة حربية بين علي رضي الله عنه وطلحة والزبير ومن معهما في معركة الجمل بتأثير أعداء الله السبيئة.(159/35)
ثم امتداد الفتنة بصورة شاملة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في معركة صفين، وما نتج عنها بعد ذلك من أمر التحكيم الذي شطر جيش علي رضي الله عنه إلى حزبين متضادين هما: الخوارج والشيعة، وما أحدثه هؤلاء من أفكار نسبوها إلى الدين الإسلامي بعد ذلك.
وتلك الأحداث كانت بمثابة مرض ألمّ بجسم الأمة أفقده الكثير من المناعة؛ فظهرت بوادر أمراض كثيرة فيه، فَبَزَغَ قرن الشيطان عند ذلك وتوالت المصائب وأسباب التفرق المتعددة الأشكال، فظهرت العصبيات البغيضة، والقوميات المتصارعة، والرغبة في السيطرة والزعامة، وتفاوتت المفاهيم فظهرت المذاهب الفكرية للفرق المختلفة، من خوارج، ومعتزلة، وقدرية، ومرجئة، وشيعة...الخ، فأسسوا الآراء التي فرقت المسلمين، وغذوها بالتأويلات الفاسدة اتباعاً لأهوائهم.
وظهر الغلو الممقوت نتيجة لتمجيد كل طائفة لآرائها ولرجالها وقويت الرغبة لدى كل طائفة للاستقلال بأتباعها.
ثم جاء دور التلاعب بالنصوص من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلة الله عليه وسلم، وجرت كل طائفة مفاهيم تلك النصوص إلى ما يوافق ما أسسته من مفاهيم سقيمة وعقائد خاطئة فاختلفوا من بعد ما جاءهم البينات.
ولئن كانت دراسة كل تلك الأمور بالتفصيل والتوسع غير واردة هنا لما قدمناه سابقاً فإنه يمكن الاقتصار والإشارة إلى أهم الأسباب التي أدت إلى ذلك التفرق الحاصل في العالم الإسلامي بصورة إجمالية عامة، سواء كان ذلك في الزمن القديم أو في الأزمان التي جاءت بعده.
ب- الأسباب العامة:
1- وجود علماء انحرفت عقائدهم، على رأس كل طائفة منهم مردة أسهموا في تثبيت الفرقة بين المسلمين.
2- غلبة الجهل وفشوه بين أوساط المسلمين في مختلف العصور بصفة عامة.
3- عدم فهم النصوص فهماً سليماً ، حتى وإن كانت النيّة ربما تكون حسنة عند البعض منهم.
4- موافقة الخلاف والفرقة لهوى في النفس فأصروا عليه.
5- تدخل سلطان العصبية البغيضة.
6- استحكام قوة الحسد في النفوس.(159/36)
7- الرغبة في إحياء البدع والخرافات، وميل كثير من النفوس إليها.
8- تقديس العقل وتقديمه على النقل.
9- بث الدعايات المنفرة عن الاعتقاد الصحيح الموافق للكتاب والسنة الذي يُمثله السلف الصالح.
10- وجود تأثيرات خارجية.
أما بالنسبة للسبب الأول وهو وجود العلماء الذين انحرفت عقائدهم؛ فمما لا يكاد يجهله طالب العلم أن أكثر العقبات التي تواجه الداعية إلى الله هم هؤلاء الأصناف الذين تمكنوا من استجلاب العامة، وجذبهم إليهم، حتى أصبحوا يقدسونهم، ويرون أن لا علم إلا ما كان لديهم، ولا حق إلا ما سلكوه، وحذروا من الالتقاء معه في أي شيء، ولنا في ضحايا علماء البريلوية، وعلماء الصوفية، وعلماء الباطنية وغيرهم-أمثلة قريبة على تثبيت وإحكام الفرقة بين المسلمين.
ومن الغريب في الأمر أن البينات التي هي أقوى شيء لقطع النزاع، وانتهاء الاختلافات صارت البينات هي التي قام عليها محور الاختلاف كما ذكر الله ذلك في كتابه الكريم، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}( (43) سور آل عمران:10543) ،وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}( (44) سورة البينة:444).
ومن المعلوم أن أصحاب هذا الاختلاف بعد وجود البينات.. إنما هم علماء السوء الذين يظهرون منها ما يوافقهم ويخفون منها ما لم يتفق وهواهم.
وفتنة هؤلاء من أعظم الفتن حيث أضلوا الناس بغير علم ولا هدى، ومن حيث كان أتباعهم يتوقعون منهم معرفة الحق والوصول إليه، فصار هؤلاء العلماء يحرمون ما يشاءون ويحللون ما يشاءون، ويفتون بما يريدون، ثم جعلوا أتباعهم وراء ستار كثيف من الجهل والنفور عن الآخرين؛ لئلا يكتشف جهلهم.(159/37)
وجرت الرياح بما تشتهي سفنهم ووجدت لهم عوامل كثيرة ساعدتهم وقوَّت من عزائمهم فأبعدوا الهوة بينهم وبين الوصول إلى الحق واجتماع الكلمة عليه، وقد حذرنا من لا ينطق عن الهوى سوء فعل هؤلاء حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين))( (45) انظر اقتضاء الصراط المستقيم صـ 34 نقلاً عن البرقاني في صحيحه .45) .
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم:- ((أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن))( (46) جامع بيان العلم وفضله صـ 193 وعزاه إلى ابن عدي في الكامل عن عمر رضي الله عنه .46).
أما بالنسبة للسبب الثاني وهو غلبة الجهل وفشوه بين أوساط عوام المسلمين، فقد مرت بالمسلمين في عصورهم المختلفة فترات حلّ فيها الجهل واستحكمت الخرافات في النفوس محل العلم والاعتقاد الصحيح فضعف نور الإيمان في نفوس هؤلاء، وقلَّ وجود علماء متكاتفين متعاونين على إظهار وقمع الباطل؛ فانتشرت الخرافات وقوي أمر التحزب الباطل والفرقة الممقوتة.
وقد عاب الله تعالى في كتابه الكريم الجهل وأخبر أن سبب ترك الناس لدين الله وتفرقهم فيه إنما هو الجهل.
قال تعالى في شأن موسى وقومه حين وصل بهم الجهل إلى أن طلبوا من موسى أن بنصب لهم إلهاً: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}( (47) سورة لأعراف: الآية13847).
وآيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم فيها ذم الجهل والدعوة إلى العلم والمعرفة.
وكذا في السنة النبوية أحاديث كثيرة في ذم الجهل والتحذير من قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضوا وأضلوا))( (48) أخرجه البخاري جـ 1 / 194 ومسلم جـ 16 / 223 .48) .(159/38)
وقد نشأ عن الجهل الغلو في تعظيم بعض المخلوقين تعظيماً خارجاً عن هدي الإسلام، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- عن نوع من أنواع أسباب الاختلاف بين المسلمين وتفرقهم وهو الغلو.. قال: ((ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلاّل المتعبدة والمتصوفة..حتى خالط كثيراً منهم من مذاهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى، أو مثله، أو دونه)).
وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}( (49) سورة التوبة : 31 . 49) الآية. وفسره النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم: ((أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم)) وكثير من أتباع المستعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به، وإن تضمن تحليل حرام، أو تحريم حلال( (50) اقتضاء الصراط المستقيم صـ 19 .50).
وقد دخل رجل على ربيعة بن عبد الرحمن فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم.. ثم قال ربيعة في شأن الجهال حين يتزعمون الناس، ويخرجونهم بفتاواهم عن الحق ..قال: ((ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق))( (51) جامع بيان العلم وفضله صـ 21 .51).
وأما عدم فهم النصوص فهماً سليماً فقد أدى ذلك إلى نتائج سيئة، حيث أخذت كل فرقة تؤول النصوص لصالحها، وتقوية ما تذهب إليه من أفكار وآراء، ومصداق ذلك أنك ترى النص الواحد من الكتاب أو من السنة يفسر بعدة أفكار، متعارضة في بعض الأحيان حسب ما تذهب إليه كل طائفة.
وصار بعضهم يعيب البعض الآخر، وذموا أهل السنة، وسخروا من مفاهيمهم، وفرحوا بما عندهم من تلك التأويلات الملفقة، وصار حال أهل السنة معهم كما قال الشاعر:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم(159/39)
وكان لهذه المواقف نتائج ظاهرة هي تفرق الأمة الإسلامية وظهورهم طوائف، كل طائفة لا تلوي على أخرى بعد أن تحجرت العقول وجمد كل ذي رأي على رأيه، وقدم فهمه على مفاهيم من هو أفقه منه، واستنكف أن يرجع عما تقرر في ذهنه، وهي قضية طالما وقفت حجر عثرة في طريق الدعوة إلى الإصلاح واجتماع الكلمة قديماً وحديثاً.
وأما موافقة الخلاف لهوى في النفوس فإنه أمر خطير بل هو من أشد الأمور التي تفرق بسببها المسلمون قديماً وحديثاً، وبالاسترسال مع الهوى أقصى العقل وأهملت الشرائع وأخرجت النصوص عن مدلولاتها وقامت البدع وانتشرت الخرافات، بل وسفكت الدماء أحياناً كثيرة، وهو الذي حال بين كثير من البشر وأنبيائهم.
والنصوص من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في ذم الهوى لا تخفى على أي مسلم من عوام المسلمين فضلاً عن طلاب العلم، لقد أخبر الله تعالى أن الهوى أحيانا يحل في بعض النفوس محل الإله فقال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}( (52) سورة الجاثية: 2352).وأخبر تعالى أن الهوى هو الذي حال بين الأنبياء وأممهم، إذ لم يستفيدوا من أنبيائهم لاستكبارهم الذي أملاه عليهم هواهم قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ }( (53) البقرة: 8753).
وآيات أخرى كثيرة في ذم إتباع الهوى وعواقبه الوخيمة.
وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه: ((وثلاث مهلكات: هوى متبع وشح مطاع وإعجاب المرء بنفسه))( (54) الترغيب والترهيب جـ1 /162 .54).
وعن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد ذكره حديث افتراق الأمة:
((وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب لصاحبه))، وقال عمرو: ((الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله))( (55) سنن أبي داود جـ2 ص 504 .55).(159/40)
وأما تدخل سلطان العصبية البغيضة فكان إحدى المعاول الهدامة لوحدة الأمة الإسلامية ؛ حيث غطت على أبصار وقلوب أتباعها فحجبتهم عن النظر إلى الآخرين بعين الأخوة والترابط العام ومحاولة تألف القلوب وجمع الكلمة.
فأخذت كل طائفة تمجد أفكارها، وتتحزب حولها، وتشنع على الآخرين، فكم سفكت بسببها من الدماء وكم خربت من مدن عامرة وكم خرج بسببها عن الدين من بشر، وقديماً قالت ربيعة عن الكذاب مسيلمة: ((كذاب ربيعة خير من صادق مضر)) ( (56) تاريخ الطبري جـ3 صـ286 .56)؛ لأن سلطان العصبية لا عقل عنده، والتعصب كما يقول بعض العلماء: ((ظاهرة ذميمة لا يؤدي إلا إلى التفرقة والتعادي...وثمرة التعصب الاختلاف والفرقة والتباغض)) ( (57) مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم صـ84 – 85 .57).
وليس هذا فحسب؛ بل إنه المستنقع الخصب لانتشار أوبئة البدع على اختلاف أنواعها، وما تؤدي إليه من تعظيم الآباء والمشايخ، وتقديم أفكارهم على النصوص الشرعية من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، معرضين عن قول الله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}( (58) المائدة:10458).
وقال تعالى حاكياً عن حالهم وهم في النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}( (59) الأحزاب:6759).(159/41)
وهذه الطاعة الناشئة عن التعصب هي التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة( (60) سمعه يقرأ قول الله تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} التوبة: من الآية31.60).
قال: (( أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه))( (61) سنن الترمذي كتاب التفسير5 / 278 .61).
وإذا وصل الحال إلى هذا الحد فكيف تتفق الكلمة وكيف يحصل الاتحاد بين المسلمين وتنتهي الفرقة البغيضة.
وأما استحكام قوة الحسد في النفوس. فهذا هو الداء العضال الذي يأكل الأخضر واليابس ويفرق الكلمة ويجعل المسلمين شيعاً وأحزاباً متباغضة،هذا العامل متمم لعامل العصبية البغيضة، وقد ابتلي به كثير من أصحاب النفوس المريضة والقلوب الغافلة؛ حيث أوجد لدى هؤلاء النفور التام والاستكبار الممقوت عن قبول الحق وتجاوز الخلافات التي تحصل بين الناس.
وهؤلاء ماضون على طريقة أول الحاسدين لبني آدم وهو إبليس؛ حيث قال فيما أخبرنا عنه: {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}( (62) الاسراء: من الآية6162) وقوله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}( (63) لأعراف:12 .63).
إن أول نتائج الحسد استحكام الفرقة بين المسلمين وبغي بعضهم على بعض وظهور العداوة والبغضاء، وغير ذلك من المفاسد التي لا يعلمها إلا الله.(159/42)
وقد قال نبي الهدى صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من الأدواء المهلكة: ((الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب- أو قال-: العشب)) ( (64) رواه أبو داود ج 2 ص 574 .64) وفي رواية أخرى ((الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار))( (65) رواه ابن ماجه جـ2 ص 1408 .65) الحديث.
وفي التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة على مدى الضرر الذي لحق بوحدة الأمة الإسلامية من جراء الحسد قديماً وحديثاً، فقد ورد عن بعض العلماء أن ما حصل بين ربيعة ومضر في الزمن القديم من العداوة والحروب إنما كان ناشئاً عن الحسد لمضر؛ لمكان النبوة فيهم، ومن هنا قال المأمون فيما يذكر عنه: ((لو خرج اثنان ثائران لكان أحدهما من ربيعة)) ( (66) انظر الفرق بين الفرق ص 301 وضحى الإسلام جـ1 ص 43 .66)، وتقدم قول أهل العصبية السخيفة: ((كذاب ربيعة خير من صادق مضر)).
وأما عامل حب البدع والخرافات وميل أكثر النفوس إليها، فمما هو واضح أن الابتداع في الدين وإحياء الأمور البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان، ثم التصميم على تنفيذ تلك البدع –كان من أعظم الأسباب في تفرق كلمة المسلمين ونفور بعضهم من بعض كما أنه كان من أعظم العوامل التي أبعدت الكثير من الناس عن تفهم العقيدة الحنيفية، وأخرجتهم إلى حمأة الجهل والتعلق بالخرافات واعتبارها من الدين.
فكان لحب البدع وإحيائها أكبر الأثر في قيام كثير من الحركات والفرق على امتداد تاريخ الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمننا الحاضر.(159/43)
وكأن لسان حال هؤلاء يقول لا حاجة بنا إلى الشرع الذي لا يوافق ما نريد فشرعوا لأنفسهم ما شاءوا من الزيادة والنقص في دينهم؛ فاختلط الأمر على كثير من الناس، التفريق بين الشرع الذي جاء به المرسلون وبين التشريع الذي أحدثه أصحاب البدع ورؤوس الفرق، فأصبح التفرق بين المسلمين بعد ذلك نتيجة حتمية؛ فإن النفوس إذا لم تشتغل بالحق اشتغلت بالباطل.
ولم يهتم أصحاب تلك البدع بتفهم ما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى التزام الشرع الحنيف، والابتعاد عن كل ما يضاد منهج الله وصراطه المستقيم، والتمسك بعه وحده كما قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} ( (67) الأنعام: الآية15367)
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }( (68) الأنعام: الآية15968) كما لم يهتم أولئك بنصح نبيهم لهم وتحذيره إياهم من الوقوع في البدع التي تحيط الأعمال وتسبب لأصحابها الوبال في الدنيا والآخرة.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))( (69) رواه البخاري في كتاب الصلح ج 5 ص 301 ومسلم في الأقضية جـ1 ص 313 .69). وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد))( (70) رواه مسلم جـ4 ص 312 .70). وهذا تحذير شديد وترهيب خطير، وأخطر منه أن ضرر صاحب البدعة قد لا يقتصر عليه وحده , فهو يضر نفسه ويضر غيره ، ويتحمل إثم نفسه وإثم غيره ممن تسبب في إغاوئهم، وهو ما يفسره قوله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئاً))( (71) رواه مسلم جـ5 صـ532 .71).(159/44)
وأما عامل تقديس العقل وتقديمه على النقل فإنه سيأتي الكلام عنه إن شاء الله في آخر هذه الدراسة بمزيد من الإيضاح.
واعتبار هذا العامل من الأسباب المفرقة لصفوف المسلمين من الوضوح بمكان، فإن المعتزلة ومن تبعهم حينما قدسوا العقل وقدموه على النقل، واعتبروه المرجع الأول والأخير والحكم الفصل في كل قضايا الدين، فتحوا بهذا الموقف فتنة وتفريق بين المسلمين، لم يستطع أحد إغلاقه إلى يومنا الحاضر.
إن العقل له حدود إذا تجاوزها الشخص خرج عن الحق من حيث يطلبه، سنة الله في خلقه، وصارت نعمة العقل العظيمة آفة في حق صاحبها حين تجاوز حدوده.
ويعود تمجيد العقل وتقديسه إلى ما أحدثته ترجمة الكتب اليونانية وظهور عل الكلام المذموم والفلسفة والمنطق واحتدام الخصام بين الطوائف الإسلامية في تطبيق هذه الأفكار المخالفة للشريعة الإسلامية، وانقسام المسلمين بعد ذلك بين مؤيد ومخالف ومحتال للتوفيق بين هذه الأفكار والشريعة الإسلامية، فازداد الخرق على الواقع، وظهر شر كثير فقيَّض الله من عباده من وقف في طريق هؤلاء وأزال الشبهة( (72) وعلى رأس هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه البديع ((درء تعارض العقل والنقل)) وما كتبه تلميذه شمس الدين ابن القيم .72).
وأما بالنسبة لموقف المخالفين للسلف من التهجم عليهم وبث الدعايات الكاذبة عنهم، وإغراء بعض المسلمين بالنفرة عن البعض الآخر؛ فإن موقف السلف كما هو معروف من سلوكهم لا يحبون الغمز واللمز واللغو الباطل وإلصاق التهم بالآخرين ظلماً وعدواناً؛ لأنهم على خلق وأدب إسلامي يمنعهم من ذلك، يتمثلون قول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }( (73) المائدة: من الآية873).(159/45)
بخلاف المواقف الشائنة للمخالفين لهم من أهل الضلال والتفرق الممقوت، فإنهم لا يبالون ما قالوه من السباب وكيل التهم وقذف الألقاب الظالمة عليهم جزافاً، والغرض من كل ذلك هو التنفير عنهم وعن عقيدتهم السلفية، والنتيجة من كل ذلك زيادة إحكام التفرق وتعميقه بين المسلمين.
فمن الأوصاف الظالمة التي أطلقها هؤلاء على أصحاب العقيدة السلفية- وصفهم بالمشبهة والحشوية والمجسمة والنابتة والنواصب، وغير ذلك من الألقاب التي أطلقها هؤلاء على أهل السنة؛ ليتم لهم تنفير الناس عنهم، كما كان الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يطلقون عليه ألقاباً كاذبة، بقصد التنفير عنه فوصفوه بأنه شاعر وكاهن ومجنون وصابئ وساحر، وسموه مذمماً، وهو أفضل الخلق وسيد الأولين والآخرين.
وكبار الفرق الذين بثوا الدعاية السيئة والألقاب الشنيعة على السلف هم الخوارج والمعتزلة والروافض والجهمية والقدرية والأشاعرة والماتريدية والصوفية، وكل طائفة من هذه الطوائف أطلقت ما حلا لها من الألقاب الظالمة على أهل السنة فسموهم مجسمة وحشوية ونابتة ...إلخ.
وفي كل طائفة من هذه الطوائف علماء ومجادلون هم وراء كل تلك التشنيعات.
وما أبعد هؤلاء عن امتثال قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}( (74) الحجرات:1174).(159/46)
((إن كل فرقة من تلك الفرق قد ألبست الحق بالباطل فأخرجت للناس بدعها وضلالها تحت لافتات إسلامية، وفي قوالب إسلامية، ليغتر بها العامة فيتبعوهم معتقدين أنهم على الكتاب والسنة مقيمون، ولمذهب السلف الصالح متبعون))( (75) مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم ص 32 .75).
وأما ما قيل عن وجود تأثيرات خارجية أسهمت هي الأخرى في تفرق كلمة المسلمين فقد وقع ذلك بالفعل. وهذه التأثيرات تكمن في الأمور التالية:
(أ) في اختلاط المسلمين بغيرهم، ودخول غير المسلمين في الإسلام، وإصرارهم- متعمدين وغير متعمدين- على التمسك ببعض الأفكار التي كانوا عليها قبل دخلوهم في الإسلام، ومحاولتهم تغطية تلك الأفكار بغطاء إسلامي، على طريقتهم الخاصة؛ فنتج عن ذلك نشوة جماعات تتمسك به وتعادي من يخالفها، وبالتالي تكونت هذه الجماعات في شكل فرق إسلامية فيما بعد.
(ب) وجود حركة ثقافية، وترجمات لكتب عديدة تحتوي على أمور جديدة غريبة أخذت حيزاً من تفكير المسلمين، وتنمية الخلاف بينهم قديما كما فعله المأمون، وحديثاً هذه الحركة القوية لترجمة كتب الملاحدة والماديين.
(ج) تأثر بعض المسلمين بغيرهم من أهل الديانات السابقة بعد أن عايشوهم، كما ظهر ذلك في بعض المعتقدات التي تبنتها جماعات تدعي الإسلام، وكان أساس تلك المعتقدات إما فارسي، وإما هندي، وإما نصراني، وإما يهودي تأثر بهم المسلمون بحكم الاختلاط والتقارب.
(د) وأيضاً ما قد يواجهه المسلمون من ضغوط ينتج عنها – على الزمن البعيد- جيل من المسلمين ينظر إلى تلك الأمور على أنها حقائق وعقيدة صحيحة للآباء والأجداد. ومن هنا ينشأ المزيد من التفرق بين المسلمين.(159/47)
(هـ) دخول كثير من الناس في الإسلام ظاهراً، وهم يبيتون النية لهدمه وزعزعته في صدور أهله! وأكثر هذا الصنف هم اليهود والنصارى. وقد ظهر تأثير هؤلاء على المسلمين بوضوح في آراء كثير من الفرق التي تنتمي إلى الإسلام مثل آراء الروافض الغلاة والجهمية والمعتزلة والنصيرية، وغير هؤلاء ممن ظهرت الأفكار الأجنبية واضحة في معتقداتهم، وقد نبه علماء الإسلام على هذه القضية وأولوها عنايتهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن تأثير المسلمين بغيرهم من الأمم خصوصاً فارس والروم: ((وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل منه في هذه الأمم من الآثار الرومية قولاً وعملاً، والآثار الفارسية قولا وعملا ما لا خفاء فيه على مؤمن عليم بدين الإسلام وبما حدث فيه))( (76) اقتضاء الصراط المستقيم ص 11 .76).
ويقول ابن حزم رحمه الله: (( والأصل في أكثر خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام؛ أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسهم، حتى إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأبناء ( (77) لعلها الأسياد كما نقلها الملك محمد صديق خان في خبئية الأكوان ص 75 .77) ، وكانوا يعدُّون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب- وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطراً- تعاظمهم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام))( (78) الفصل 2 / 115 .78) إلى آخر ما ذكر من مشاهير أولئك القوم وحيلهم في إخراج المسلمين عن دينهم.(159/48)
ويقول طارق عبد الحكيم: ((وبعد أن تم الفتح الإسلامي لبلاد فارس، ودخل الفرس في دين الله أفواجاً، ولكن -بطبيعة الحال- لم يكن من السهل أن يعرف كل الفرس المسلمون الإسلام كما أراده الله عز وجل، فالأعداد المسلمة غفيرة، والعادات والأديان والأفكار القديمة متأصلة في النفوس، فكان أن ترعرعت نبتة الرفض البغيضة في تلك البلاد( (79) الواقع أن نبته الرفض والغلو فيه إنما أسسه ابن سبأ . وقد انتشر بسرعة بين الفرس لملائمة تلك الأفكار لما رسخ في أذهان الفرس من تعظيم ملوكهم . 79) ، واستمدت أفكارها الرئيسية بشأن الإمام المعصوم، وآل بيته مما رسخ في الأذهان من قديم)).
وهو يشير هنا إلى ما قاله ضياء الدين الريس عن الفرس الذين دخلوا في الإسلام وأذهانهم مملوءة بمذاهبهم القديمة وحضارتهم البائدة..فقال: ((والفارسي لم يكن يستطيع أن يتصور أن يوجد خليفة بالانتخاب، وإنما المبدأ الوحيد الذي يمكن أن يفهمه هو مبدأ الوراثة..وليس من المبالغة إذا في شيء أن يقال: إن البيت النبوي وقد مثله ((أل عليّ)) قد حلَّ في قلوب هؤلاء الفرس واعتبارهم محل بيت ((آل ساسان))( (80) مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم ص 121 .80).
وعن تأثر المسلمين بالفكر اليوناني قال طارق عبد الحكيم: ((زعم أن الأثر اليوناني قد ظهر كأشد ما يكون في فكر من يسمون بفلاسفة الإسلام( (81) الإسلام ليس فلسفة فكرية وإنما هو دين رب العالمين .81) كالفارابي وابن سينا، وفي فكر المعتزلة - إلا أنه قد أثر في مناهج الفكر بشكل عام عند بقية الفرق، بل وعند بعض علماء أهل السنة الذين دافعوا عن علم الكلام الذي استقوه من المنهج المنطقي اليوناني، وقد تجلى ذلك في كتابات أئمة الأشاعرة))( (82) المصدر السابق ص 124 . وقد أدخل المؤلف الأشاعرة ضمن أهل السنة 82).(159/49)
وعن تأثرهم بالأفكار الهندية قال: ((وقد كان من أهم ما أثر به فكر الهنود في الفرق المبتدعة في الإسلام هي فكرة ((التناسخ))، فقد نشأت عدة فرق تقول بهذه الفكرة منها والسبئية من الروافض، كذلك تأثرت الصوفية بالهندوكية.
إلى أن قال: ((ومن الفرق التي تأثرت بالتناسخ النصيرية والدروز الذين يعتقدون أن مرتكبي الآثام يعودون إلى الدنيا يهوداً أو نصارى أو مسلمين سنيين))( (83) المصدر السابق ص 125 .83).
وسيتضح كل ذلك إن شاء الله عند دراستنا لهذه الفرق.
أما أثر اليهودية في المسلمين فإنه يظهر من خلال شخصية عبد الله بن سبأ، والأحداث التي افتعلها، والأفكار التي روَّجها من القول بالرجعة والوصية وغيرها من الأفكار التي اخترعها.
ومن خلال شخصية لبيد بن الأعصم الذي كان يقول بخلق التوراة، فأخذ ذلك عنه ختنه طالوت، وأخذ عن طالوت أبان بن سمعان، وعنه الجعد بن درهم، ثم الجهم بن صفوان، ثم بشر المريسي الذي كان أصله يهودياً.
وكذا تأثير اليهود فيمن أخذ عنهم فكرة القول بالبداء على الله تعالى، وهي فكرة يهودية كفكرة الرجعة.
وعن تأثر المسلمين بالنصرانية يقول: ((فمن المفاهيم النصرانية التي تسربت إلى عقول طوائف من المسلمين، وأدى بهم إلى الصوفية هي نظرة النصارى إلى الدنيا، واحتقارهم الكامل لها في ظاهر الأمر)).
كذلك كان للمفاهيم النصرانية عن اللاهوت والناسوت والاتحاد بينهما أثر في تنمية وتشكيل مبدأ الحلول والاتحاد، الذي قال به متأخرو الصوفية كالحلاج وابن سبعين وابن عربي.
كذلك مفهوم الولاية بالمعنى الصوفي فإنها مذهب نصراني( (84) المصدر السابق ص 129 .84).
وأخيراً أقول بأن كلام العلماء حول قضية تأثر بعض المسلمين بالمفاهيم والحضارات الأخرى كثير، وإنما الغرض والتنبيه على وجود هذا الداء بين صفوف المسلمين بعد أن تراخت قبضتهم على دينهم بفعل تلك العوامل الكثيرة.(159/50)
وسبب هذا التأثر هو أن الأفكار تتغلغل في النفوس وتنتشر، ثم تستحكم في أصحابها حين تجد عقولاً مفلسة وقلوباً غافلة، فتتمكن حينئذ- على حد ما قاله أحد الشعراء عن الهوى-:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وهذا البعض من المسلمين إنما أوقعه في مثل هذه المزالق- بعده عن العلم وعن أهل العلم، ومثل هؤلاء إنما هم سهم الصائد الأول. ومن هنا نجد أن تلك الأفكار الخاطئة إنما تنشأ في المجتمعات الجاهلة لعدم وجود حصانة ضدها لديهم، ولجهل تلك المجتمعات أيضاً أسباب لا تخفى على طالب العلم.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الأول
تمهيد
حول دراسة هذه الطائفة
من المعروف أن طلاب العلم خصوصاً في هذه المرحلة – الماجستير – عندهم إلمام جيد عن هذه الفرقة إلا أنه قد يكون عند البعض إلمام غير مرتب في دراسة خاصة ومتوالية ومتسعة للنقاش والمداولة في فصل الدراسة ومن هنا حصلت القناعة أنه يجب أن تكون دراسة هذه الطائفة ضمن منهج السنة المنهجية لدارسي مرحلة الماجستير وأن تكون بمثابة التصفية النهائية في دراستهم عن أهل السنة من حيث طرح اعتقاد أهل السنة بوضوح دراسة ومناقشة واستنتاجات شفهية داخل الفصل من جميع الجوانب التي يحتاج إليها المسلم داعية أو مدرساً أو غير ذلك والباحث كلما تعمق في دراسة عقيدة أهل السلف كلما ازداد علماً ومعرفة ومن أراد العلم النافع فعليه ببذل الجهد فيها وفهمها.(159/51)
وأعتقد أنه من نافلة القول أن عقيدة السلف ما كانت في يوم من الأيام مشتملة على غموض أو اضطراب يحتاج إلى توضيح ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان من ظهور علماء السوء الذين أحاطوا كثيراً من التعاليم الإسلامية بشبهاتهم التي ورثوها عن مختلف الفلسفات ثم أضرموا الخلاف فيها وقلبوا الأمور حتى ظهرت أنها في حاجة إلى الدراسة والبيان إذ فوجئ السلف بالأمر الواقع فاحتاجوا إلى البيان والجدل وضرب الأمثلة لإعادة المسلمين إلى نبع العقيدة الصافي وأخذ هذا المنحى جهداً ووقتاً كان الأولى أن يستغل في غيره لولا تلك الفتنة الهوجاء التي شوشت أفكار كثير من المسلمين وبعد أن أدرجت هذه الطائفة ضمن مقرر أهل السنة المنهجية بالدراسات العليا وأسند إلى تدريسها رغبت أن أثبتها ضمن ما سبق طباعته من المقررات في كتاب فرق معاصرة قصد الفائدة إن شاء الله تعالى فإليك أخي القارئ خلاصة تلك المناقشات والدراسة بإيجاز. أرجو أن تجد فيها ضالتك عن حقيقة فهم مذهب السلف إن شاء الله.
الفصل الثاني
الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة
مما لا ريب فيه أن المسلمين عموماً تطبق عليهم خطط وتنفذ فيهم مؤامرات قد أحكم حبكها ولا أظن القارئ في حاجة إلى ضرب الأمثلة على هذا الواقع فإن كل شيء يشهد بذلك من الاستعمار الفعلي إلى الاستعمار الفكري إلى التفرق الحاصل بين المسلمين في نظرتهم إلى الأخوة فيما بينهم وإلى ولاءاتهم المختلفة بل المتناقضة وإلى الطوق الغليظ الذي وضعوه في أعناقهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون وهنا أعتذر للقارئ الكريم عن المتابعة والاستفاضة في دراسة جوانب التأثير الذميم النازل بأحوال المسلمين عموماً فقد كتب المصلحون والناصحون والمفكرون ما يشفي ويكفي لو كان السامعون أحياء القلوب إلا أن أكثرهم أصبحوا كما قال الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حياً *** ولكن لا حياة لمن تنادي
وتحقق ما نسب إلى الشافعي رحمه الله في قوله :(159/52)
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
نعم أعتذر عن الاسترسال في الكتابة عن هذا المجال فإن حديثه ذو شجون وأحداثه تكاد أن تتكلم عن نفسها فالخطب جسيم والحمل عظيم وإذا لم يفق المسلمون اليوم فإن قوارع الدهر وسنن الله في خلقه ستوقظهم عاجلاً أم آجلاً ولنتحسر مع القائل :
أمرتهمو أمري بمنعرج اللوى فلم *** يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
نترك الكلام عن أحوال المسلمين وفرقهم وأحزابهم المتناحرة وولاءاتهم المتناقضة والإهانات التي تواجههم في كل مكان وفي كل يوم على أيدي أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وسائر ملل الكفر والضلال الذين تداعوا على المسلمين كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
نترك هذا كله لنتجه بالنصيحة إلى البقية والصفوة من المسلمين الذين بقوا قابضين على مفاهيم كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى الذين بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيبقون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله مهما كانت قلتهم ومهما كانت حالهم الذين أدركوا أنهم تتهددهم في دينهم وفي دنياهم بل وفي وجودهم أخطار كثيرة تتطلب جمع الكلمة وصدق المؤازرة ونشر النصيحة صافية نقية في جميع الجوانب وهي كثيرة الجوانب جداً وما لا يدرك كله لا يترك كله فعسى أن يكون في التذكير بها فتح باب خير وعودة وثبات إذ من السهولة العودة إلى ما كان عليه المسلمون في ماضيهم من العزة والمنعة حين تكون النيات خالصة والقلوب متوجهة بصدق ومن تلك الأخطار التي بقيت للمسلمين ما أشير إليه هنا بإيجاز سريع.
1- محاربة المسلمين في تمسكهم بكتاب ربهم تعالى.
2- محاربة المسلمين في تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
3- محاولة دق إسفين بين الكتاب والسنة وذلك بدعواهم أنه يجب الأخذ فقط بالقرآن الكريم دون السنة النبوية.(159/53)
4- بتشكيكهم في صلاحية تعاليم ديننا الإسلامي في هذا العصر بزعمهم.
5- بث الدعايات ضد أهل السنة وتشويه ما هم عليه من المعتقدات الصحيحة.
6- محاربتهم عن طريق تمجيد العقل وتقديسه وجعله مصدر التشريع.
7- محاربتهم عن طريق التأويلات الفاسدة للنصوص لإبعادهم عن مدلولاتها.
8- محاربتهم عن طريق الحرب النفسية وإدخال اليأس والوهن في قلوبهم.
9- محاربتهم عن طريق تقوية بعضهم على بعض ليضربوا عصفورين بحجر :
أ- إضعافهم مادياً وبشرياً.
ب- دوام حاجتهم إليهم.
10- إحياء البدع على أعلى المستويات بل ومحاولة إخضاع أهل الحق لها بالترهيب والترغيب.
11- محاولة حصر مفهوم الإسلام وتعاليمه في القيام بالعبادة فقط دون أن يكون له أي شأن في حياة الناس وسلوكهم وسموه في الجانب الروحي حتى ظن كثير من الناس أن أهل السنة والمتمسكين بالدين لا يعرفون ما وراء المسجد شيئاً عن الحياة.
12- إشغال أهل الحق بفتن مختلفة ونظريات باطلة بقصد صرفهم عن التوجه إلى نقد المخالفين أو بقصد إشغالهم بالردود عليها.
13- إشغالهم بدعوات التجديد في الدين أي بإحداث البدع وإحداث أمور في الشريعة الإسلامية ما أنزل الله بها من سلطان خصوصاً وهذه الدعوات تصدر عن أناس يجهلون كثيراً من أحكام الشريعة وحكمها.(159/54)
14- تأييد كل الدعوات الهدامة والمبادئ المنحرفة كدعوى النبوة ونسخ الشريعة الإسلامية بها مع أنها قضية معلومة من الدين بالضرورة لا يجعلها مسلم سليم الفطرة والعقل وأوتي ولو يسيراً من العلم فإن ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثبتت في القرآن الكريم وفي السنة النبوية قال الله تعالى : {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}( (79) الأحزاب: الآية4079) وفي أحاديث كثيرة يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه آخر الأنبياء لا نبي بعده ومن ادعاها فهو كاذب مفترٍ على الله تعالى وثبت هذا في قلب كل مسلم فجاء أهل الباطل بتأويلاتهم الفاسدة للنصوص وأفرغوها من مدلولاتها الحقيقية وألبسوها معاني زور هي منها براء كزعمهم أن خاتم بمعنى أفضل أو خاتم الأنبياء المشرعين أو أن خاتم بمعنى زينة كزينة الختم في الورق، لقد أفرغوا معنى ختم النبوة من معناه فذهبوا يدعون أنهم أنبياء وأنه يجب على كل مسلم أن يؤمن بهم بعد أن شنعوا على أهل السنة والجماعة وكفروهم لعدم انسياقهم مع هذه الضلالات المعلوم بطلانها من دين الإسلام بالضرورة وشغل أهل السنة بمقارعتهم والردود عليهم وذهبت أوقات وجهود كان ينبغي أن تستغل لرفع راية الإسلام خفاقة لو لا تكالب أعداء الإسلام ومخططاتهم الخطيرة ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}( (80) الحجر:980) وما حفظه الله فإنه لا يستطيع أحد أن يضيعه.(159/55)
ثم وضعوا أمام أهل السنة عراقيل كثيرة في حرب ضروس معهم تمثلت من ضمن ما تمثلت فيه بث الفرقة وقيام الأحزاب التي قامت على الهوى والأنانيات البغيضة غير ملتفتين إلى النصوص المتظافرة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بالتحذير من هذه المسالك التي يعج بها العالم اليوم خصوصاً العالم الإسلامي الذين لا يريدون أن يتعظوا بغيرهم بل يريدون أن يكونوا هم العظة وهو ما حصل بالفعل حينما اتبعوا سنن من كان قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو فكر أولئك في دخول جحر الضب لوجد من بعض المسلمين اليوم من يريد ذلك وهذا يدل على الانهزامية الكاملة والانبهار بما عند الغرب أو الشرق من مغريات الحياة الدنيا التي يعلمون ظاهراً منها وهم عن الآخرة هم غافلون مصداقاً لما أخبر الله به من أنه سيريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يعلموا أنه الحق وأن ما هم عليه إنما هو ابتلاء وإقامة للحجة عليهم وإلا فليسوا أقرب إلى رضاء الله من خلّص المؤمنين الذين لا يملكون تلك المادة التي يملكها أعداء الإسلام مع أن الواقع يشهد بما عليه حال أهل السنة من ارتفاع الكلمة والعزة حتى بين أظهر أعداء الإسلام فإن مساجدهم عامرة وشعائرهم قائمة قد حفظ الله بهم دينه وأعلى بهم كلمته وذلك بدون شك أنه بسبب تمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم وسيرهم على ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وهو الطريق الذي يأمن سالكه من التفرقة في السبل المتشابهة الكثيرة المؤدية إلى الضياع والهلاك والتمسك بهدى الصحابة رضوان الله عليهم أولئك الذين امتازوا بالذكاء ورجاحة العقل والأخذ من فم النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يسمع منه مهما كان صلاحه ورجاحة عقله أولئك هم الجماعة وهم الذين بشرهم نبيهم بأنهم ومن يتبعهم سيبقون ظاهرين على الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإذا كانت دراستنا ومناقشاتنا في هذه القاعة تخص فريقاً من أكرم الناس وهم أهل السنة والجماعة(159/56)
فلنبدأ بالتعريف بهم وإجلاء حقيقتهم وحقيقة مبادئهم والأدلة على ذلك.
* * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
عقيدة فرقة أهل السنة والجماعة
لقد ألف العلماء في بيان العقيدة السلفية المؤلفات الواسعة ملئت بها المكتبات الإسلامية بين مطولات ومتوسطات ومختصرات مطبوعات ومخطوطات.
ومن العجيب أنه على كثرة ما كتب في ذلك فلا يزال الكثير من الناس يجهلون عقيدة هذه الطائفة ويجهلون كثيراً من مبادئها لأسباب كثيرة حسب ما يظهر لي :
1- بسب انصراف الناس عن مدارستها بجد.
2- لعدم وجود من يقدمها للناس في أماكن تجمعاتهم وبالصورة المرضية.
3- لقوة الدعايات ضد السلف وضد كتبهم.
4- لعدم تمكينهم وتمكين كتبهم من الانتشار في كثير من بلدان المسلمين لوقوف أعداء السلفية ضدها.
ومهما وصل الشخص في علمه بها فإنه دائماً في حاجة إلى تجديد معلوماته ولهذا كلما قرأ الشخص عنها وفي كتب أصحابها ازداد معرفة واكتسب علماً جديداً وربما يعود هذا إلى كثرة ما كتب عنها وكثرة الأساليب المستخدمة في الكتابة عنها وسعة مفاهيم كتابها وكثرة ردودهم على أهل الباطل المناوئين لهم ودحض كل شبهة توجه لهم ولهذا فإن أهل السنة وعلومهم مثل الجداول وينابيع المياه العذبة متجددة على الدوام ولنا في شهادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أكبر شاهد ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
كما أن فرقة السلف
أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية
والطائفة المنصورة
وهم خير الفرق وأزكاها ولا تقارن بهم أي فرقة أخرى مهما بلغت في انتسابها إلى الكتاب والسنة.(159/57)
فقد اتضح منهاجهم القويم وشهد لهم النبي العظيم صلى الله عليه وسلم بأنهم على الحق والهدى وأنه لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على الحق وهي فرقة قائمة بذاتها لا تعلق لها بالفرق الأخرى وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ظاهرين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وإنما نذكر ههنا في هذه العجالة على حد ما قيل (وبضدها تتميز الأشياء) كما أن معرفة هذه الطائفة وفهم مبادئها حق الفهم هو العلم والخير كله وبهذه المعرفة يستطيع المسلم الدفاع عن دينه ومبادئه ورد شبهات المبطلين وتفنيدها.
فإن من حق معرفة طريقة السلف أهل السنة والجماعة فقد أمن العثار وسار في طري الأبرار.
ولقد كنت في بداية تدريسي لهذه المادة أرى أنه يجب أن يرفع قدر أهل السنة أن يدرسوا ضمن الفرق الأخرى المنحرفة لأنهم هم الأساس وهم الدعامة القوية لحفظ السنة وليس فرقة طارئة كسائر الفرق ولكن حصلت القناعة بعد ذلك لإبرازها بالدراسة فقد ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ فرقة وطائفة ولا يضيرهم أن يذكروا مع ذكر الفرق المخالفة للحق بل إن ذكرهم يعتبر من إقامة الحجة على كل مخالف.
* * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
أسماء هذه الطائفة وألقابهم
1- الألقاب الصحيحة
أطلقت على أهل السنة أسماء وألقاب صحيحة تدل على حالهم وتطابق معتقداتهم هي كالرحيق بالنسبة لكل مؤمن صحيح العقيدة وكالشجى في حلق كل مبتدع مخرف وهي أسماء مشرقة أخذت من أوصافهم التي وردت على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن أحوالهم وسلوكهم.
فمن شكك فيها أو ردها فإنما ذلك لمرض في قلبه وعقيدة باطلة في نفسه كما هو شأن أهل الباطل في مقاومتهم دائماً للحق وأهله والتشنيع عليهم وذكرهم بالألقاب والأسماء المنفرة الكاذبة.
وأسماء السلف الصحيحة التي أطلقت عليهم هي :
1- أهل السنة والجماعة.
2- السلف الصالح.
3- الفرقة الناجية.
4- أهل الحديث والسنة.(159/58)
5- أهل الأثر.
6- الطائفة المنصورة.
وفي ما يلي بيان هذه الأسماء وبيان أحقية السلف بإطلاقها عليهم.
1- أهل السنة والجماعة
أ – التعريف بأهل السنة :
1- معنى السنة في اللغة هي الطريقة أو الطرق الواضحة والسلوك الطيب قال الجوهري : "السنن الطريقة يقال استقام فلان على سنن واحدة" أي على طريقة واحدة.
وقال ابن الأثير مبيّناً المعنى اللغوي ومتعرضاً كذلك للمعنى الاصطلاحي في مادة "سنن" "قد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها والأصل فيها الطريقة والسيرة وإذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه وندب إليه قولاً وفعلاً مما لم ينطق به الكتاب العزيز ولهذا يقال في أدلة الشرع الكتاب والسنة أي القرآن والحديث".
وبما ذكر وغيره يتضح أن معنى السنة في اللغة هي الطريقة أو الطريق وقد ورد في الحديث ما يؤيد ما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث وفد مضر "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
وقد دل الحديث على أن السنة تنقسم إلى قسمين إما أن تكون سنة حسنة أو تكون سنة سيئة ولكل واحدة جزاؤها العادل.
2 – معناها في الاصطلاح :
تطلق تسمية السنة على كل ما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته ويطلق على المتمسكين بها أهل السنة وهي تسمية مدح لهم كما يطلق على المخالفين لها أهل البدعة تسمية ذم لهم.
ومن كرامة الله لأهل السنة هدايته لهم إلى الانتساب إليها دون غيرها كما هو حال أهل الطرق البدعية فلم ينتسبوا إلى رأي ولا إلى شخص ولا إلى بلد أو قوم أو غير ذلك وهي مزية فيهم قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أما أهل الطرق البدعية فما أكثر انتسابهم إلى مشائخهم أو آرائهم أو بلداتهم وغير ذلك.(159/59)
ولهذا تجد أن الكثير من تلك التسميات والآراء لهم بل والأشخاص المتزعمين لهم يضمحلون ويندثرون مهما بلغوا من القوة والتمكين ومهما تطول بهم المدة قال الراغب "سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يتحراها" ومن الملاحظ أنه مع اتفاق كل المسلمين على هذا المفهوم للسنة فقد وقع بعض التفاوت في مفاهيم علماء كل فن. فالسنة عند المحدثين هي "ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو سيرة سواءً أكان قبل البعثة أو بعدها" بينما هي عند العلماء الذين يتتبعون الأحكام الشرعية العامة كالأصوليين يقتصرون في التعريف بها على أنها "ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير" وكالفقهاء الذين يبحثون عن حكم الشرع في أفعال المكلفين من حيث الوجوب أو عدمه حيث فسروا السنة بأنها خلاف الواجب أي ما يثاب العبد على فعله ولا يعاقب على تركه كفعل المستحبات أو تركها.
ويتحصل من أقوال العلماء أن المراد بالسنة عند الإطلاق ما يلي :
1- يراد بها كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
2- يراد بها الحديث النبوي.
3- يراد بها العقيدة.
4- يراد بها التمسك بالكتاب والسنة وهدى الصحابة في كل الأمور سواء أكانت في الأمور الاعتقادية أو أمور العبادات.
5- يراد بها ما يقابل البدع وأهل هذا القول – السلف – يفرقون بين السنة والحديث لأن السنة ما يقابل البدعة والحديث ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد يكون الرجل محدثاً ولكنه ليس بسني.
ويفهم من هذه الإطلاقات عموماً أن السنة يراد بها ما كان في أمر الدين بدليل قوله تعالى في الحث على التمسك بكل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" .(159/60)
وقوله تعالى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}( (81) النساء: الآية8081) وغير ذلك من الآيات وبدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : "فعليكم بسنتي" وقوله صلى الله عليه وسلم :"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"وقد أطلق على السلف أهل السنة لتمسكهم بها منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن تبعهم بإحسان والقرآن الكريم والسنة النبوية في مجال الاعتقاد والاستدلال لا فرق بينهما في وجوب العمل والتمسك بهما فهما وحيان إلا أن السنة النبوية صدرت على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم من كلام الله عزّ وجلّ وهذا هو اعتقاد أهل السنة كلهم المتمسكون بها حقيقة عدا من انحرف عنها من الطوائف التي تنتسب إلى الإسلام ( (82) كالرافضة والخوارج وغيرهم من المنحرفين وهم يزعمون الانتساب إليها ويخالفونها بالتأويلات والهوى الفاسد . 82).
ب - معنى الجماعة :
تطلق الجماعة على الطائفة أو الفرق أو الأمة الذين يرتبطون بمنهج واحد وهدف واحد ولم يتفرقوا في الاعتقاد والسلوك وتطلق تسمية أهل السنة والجماعة – وهو المراد – على السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم إلى يوم الدين كما تقدم – وأطلقها بعضهم على أهل الحديث ولا ريب أن اقتران اسم أهل السنة بالجماعة يفيد مزية خاصة لأهل السنة إذ هم الجماعة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على الانضمام إليهم والسير في منهجهم حينما أخبر عليه الصلاة والسلام عن هلاك الطوائف إلا واحدة وهي الجماعة وهذا هو الحق والاعتقاد مهما كان من الخلاف وإنما نذكر الخلاف فيما يلي تتمة للبيان .
الخلاف في المراد بالجماعة هذه(159/61)
1- قيل الجماعة هم السواد الأعظم واختلف في المقصود بالسواد الأعظم فقيل هم كثرة الناس وهذا مردود فلا يلزم أن تكون الجماعة التي معها الحق هم الكثرة دائماً والله تعالى يقول : {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ }( (83) الأنعام: من الآية11683) خصوصاً إذا فهم من السواد الأعظم العوام وغيرهم.
وقيل السواد الأعظم هم العلماء العاملون بالحق المتبعون للسنة حتى لو كان عالماً واحداً وقوّى هذا القول كثير من العلماء فقد قيل :"وواحد كالأنف إن أمر عني".
1- أنهم العلماء المجتهدون في كل عصر إلا أنه يرد على هذا أنه ضيق موسعاً باشتراط الوصول لرتبة الاجتهاد ثم إنه تعريف غير جامع ولا مانع فإن كل فن له علماؤه المجتهدون فيه وعلماء السلف يدخلون دخولاً أولياً في عداد أهل السنة والجماعة الممدوحة.
2- أنهم خصوص الصحابة رضوان الله عليهم ولكنه قول غير راجح مع دخول الصحابة دخولاً أولياً في الجماعة ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحكم على المسلمين بالهلاك ما عدا الصحابة فقط ولقوله : "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
3- أنهم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير واحد وجب على الجميع طاعته إلا أنه يرد على هذا القول أن الحديث لم يرد في باب الإمارة وشأنها وإنما ورد في التحذير من التفرق.
4- أنهم جماعة على الحق أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بتلك الصفات دون تعيين لأسمائهم وبلدانهم( (84) في بعض الرويات والآثار أن هذه الجماعة هم أهل الغرب (( أي الدلو الكبير وعم العرب )) وفي بعضها أنهم أهل الشام ورجحه شيخ اٌسلام والذي رجحه عامة العلماء أن هذه الطائفة لا يلزم أن تكون في مكان واحد من الأرض ويمكن أن يكون آخرهم بالشام عند انقضاء الأمر والله أعلم . 84) وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
وهذا هو الذي يترجح – والله أعلم – ولأهل السنة والجماعة نصيب من صحة تلك الأقوال كلها.
2 – السلف(159/62)
التعريف بالسلف في اللغة وفي الاصطلاح
أ – في اللغة : "يقال سلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف"( (85) انظر الصحاح ج4ص1376. 85) وقد استدل الراغب لمجيء( (86) المفردات للراغب ص 239 . 86) السلف على المتقدم بقوله تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ }( (87) الزخرف:5687)وقوله تعالى : {فَلَهُ مَا سَلَفَ}( (88) البقرة: الآية27588) وقوله تعالى : {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}( (89) النساء: من الآية2289) .
وقال ابن منظور ابن منظور : "قيل سلف الإنسان من تقدمه بالموت من آبائه وذوي قرابته ولهذا سمي الصدر الأول من التابعين السلف الصالح"( (90) لسان العرب ج ص 331 . 90) .
وهذا التعريف اللغوي للسلف عام يشمل كل من سبق وتقدم على غيره وهو دون المعنى الاصطلاحي للسلف في المفهوم الحقيقي لهم.
والسلف الصالح قد تقدمونا وهم قدوتنا ولهذا فلا منافاة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي من تلك الناحية إلا من حيث الخصوص والعموم كما سيتضح هذا عند ذكر التعريف الاصطلاحي لهم فيما يلي :
ب – التعريف الاصطلاحي : اختلف العلماء في المفهوم من إطلاق تسمية السلف على من تطلق وفي أي زمن أطلقت وهل هذا الوصف باق يصح الانتساب إليه أم لا؟
1- ذهب المحققون من أهل العلم إلى أن مفهوم السلف عند الإطلاق يراد به الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان وأتباع التابعين من أهل القرون الثلاثة الوارد ذكرهم في الحديث ومن سلك سبيلهم من الخلف وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله ومن قال بقوله ويظهر هذا في قوله : "مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف"( (91) ج 6 ص355 .91) إلى آخر كلامه ولفظة أهل الحديث الواردة في كلام شيخ الإسلام يقصد بها عامة من يتمسك بالسنة النبوية وليس المراد ما تعارف عليه الناس اليوم في التخصصات العلمية بدليل قوله في معرض ثنائه على أئمة الحديث :(159/63)
"وإذا كان الأمر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول وأعلمهم بأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه وأعظمهم بحثاً عن ذلك وعن نقلته وأعظمهم تديناً به وإتباعاً له واقتداء به وهؤلاء هم أهل السنة والحديث حفظاً له ومعرفة بصحيحه وسقيمه وفقهاً فيه وفهماً يؤتيه الله إياه في معانيه وإيماناً وتصديقاً وطاعة وانقياداً واقتداءاً وإتباعاً مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم ورأياً وأصدق الناس رؤياً وكشفاً".
إلى أن يقول : "ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته بل نعني بهم كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهراً وباطناً واتباعه باطناً وظاهراً وكذلك أهل القرآن وأدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن والحديث والبحث عنهما وعن معانيهما والعمل بما علموه من موجبها ففقهاء الحديث أخبر بالرسول من فقهاء غيرهم"( (92) الفتاوى ج4 ص 85- 95 . 92) .
وفي هذا البيان الطيب يتضح أن أهل الحديث هم الذين يعلمونه ويعملون به أما من علمه ولم يعمل به فإنه ليس منهم بل لا فرق بينه وبين أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم ممن برزت جهودهم في خدمة الحديث وأصحاب المعجم المفهرس أقوى مثال وهم بخلاف أهل الحديث مع كثرة ما دونوه لتتم حجة الله عليهم.
2- وهناك من خصص لفظ السلف عند الإطلاق بالصحابة فقط.
3- ومنهم من خص لفظ السلف بالصحابة ومن تبعهم دون غيرهم.
4- ومنهم من خص السلف بالقرون الثلاثة فقط.
ويتضح من هذه التعريفات أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين أن الصحابة هم السلف الصالح الأخيار الأبرار وأن أفضل الناس بعد الصحابة هم التابعون لهم بإحسان ثم أتباع التابعين ثم من سار على نهج الجميع دون تقييد بزمن.(159/64)
وأما من خص السلف فقط بالصحابة أو التابعين أو أتباعهم فقط أو صهم بزمن محدد فهو استحسان منه واجتهاد وليس له دليل فإن السلف ليسوا جماعة بخصوصهم أو في زمن بخصوصه وإنما السلف هم المتمسكون بالكتاب والسنة فإن المدار عليهما والعبرة بهما ولا ريب أن الصحابة لهم القدح المعلى في هذه النسبة لملازمتهم النبي صلى الله عليه وسلم وجودة أفهامهم وذكائهم ولهذا كان ما عملوا به حجة يجب العمل به وما تركوه يجب تركه بخلاف غيرهم بعد القرون الثلاثة وإن كان وصف السلف يشملهم بسبب تمسكهم بالشرع الشريف مع تفوق الصحابة عليهم بالفضل والأسبقية( (93) الأسبقية لا تكون مزية إذا لم يصاحبها الالتزام بالكتاب والسنة فقد وجد في زمن الرسول صلى الله علسه وسلم وزمن الصحابة من لم يكن له أدنى فضل أو خير مثل المنافقين والمرتدين الذين سيقول الرسول صلى الله علسه وسلم لهم في يوم القيامة سحقاً سحقاً كما ثبت بذلك النص وعلى هذا فلا تظهر مزيتها إلا مع التحقيق والابتاع والانقياد . 93) .
السلف والسلفية
وبيان صحة الوصف وجواز الانتساب والاعتزاء إليه والرد على ما أنكر ذلك لم يكن هذا الوصف مجرد لقب أو اسم أو ظهر صدفة على ألسنة الناس. لم يكن كذلك ولكنه نشأ عن أساس ثابت كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها لقد نشأ الاسم عن سلوك عميق لما كان عليه الصحابة ومن بعدهم بإحسان فاستحقوا هذا الاسم نتيجة عمل واقتداء والتزام بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
ولا ريب أن من اتصف بهذا الوصف يستحق أن ينتسب إلى السلفية أو سلف هذه الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
ولا اعتبار لنبز أصحاب الأهواء والبدع وتزهيدهم عن هذه الفرقة الناجية ومن أراد أن يقف على الحق فليقرأ سيرة هذه الجماعة وليقف على البلاء الذي تحملوه في سبيل الدفاع عنها لتبقى جوهرة مكنونة صافية نقية.(159/65)
وفي تاريخ الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن جاء بعدهم من تلامذتهم وأتباعهم إلى يومنا الحاضر خير شاهد على استحقاق هؤلاء لهذا الاسم السلفية وعلى غبطة الانتساب إليهم الذي هو في النهاية انتساب إلى الإسلام الذي رضيه الله تعالى.
وقد ظهر من كلام الشيخ أبي زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية والدكتور مصطفى الشكعة في كتابه "إسلام بلا مذاهب" أن السلفيين هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم في القرن الرابع ثم تجدد ظهوره على يد الشيخ ابن تيمية في القرن السابع الهجري ثم جدده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر للهجرة وقد أخطأ الحقيقة كما أخطأها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي".
حيث رد وبعنف على القول بأن السلفية لقب لفئة من الناس واعتبره خطأً وبدعة طارئة على المسلمين بزعمه وقد ظهر خطأه من تسمية كتابه هذا وقد ذهب إلى أن الاقتداء بالسلف ليس معناه اتباع آرائهم وأقوالهم ومواقفهم التي اتخذوها وسلوك طريقتهم وإنما يكون بالرجوع إلى ما احتكموا إليه من قواعد تفسير النصوص وتأويلها وأصول الاجتهاد والنظر في المبادئ والأحكام( (94) انظر وسيطة أهل السنة بين الفرق ص 112. 94) وهذا حكم قاصر وغير صحيح فإن السلفية ليست فترة زمنية ثم إن تفسيره الاقتداء بالصحابة بهذا التفسير لا يعتبر إتباعاً حقيقياً فإذا لم نتبعهم في آرائهم وفي أقوالهم وفي مواقفهم التي ورثوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سلوكهم وطريقتهم في العبادات وفي المعاملات إذا لم نتبعهم في هذا كما يرى البوطي فماذا بقي لهم من فضل الصحبة والتلقي من النبع الصافي قبل أن تعكره مختلف الآراء والمذاهب والفرق.
وأما ما يراه من إتباعهم يكون في الرجوع إلى ما احتكموا إليه عند الاختلاف فهذا أيضاً لا يمنع الاقتداء بهم وتقديم آرائهم على آراء من جاء بعدهم.(159/66)
على أن القواعد التي أشار إليها البوطي وأن الشافعي رحمه الله عملها حيث وضع قواعد أصول الفقه لم تكن قد بينت في الزمن الذي كان قبله فماذا يحكم عليهم البوطي( (95) وللدكتور صالح الفوزان جزاه الله خيراً تعقيبات قوية في الرد على أبي زهرة والدكتور سعيد البوطي فيما زعماه عن السلف في كتابه الجيد(( البيان لأخطاء بعض الكتاب )) انظر ص 127و 187 وانظر وسيطة أهل السنة بين الفرق ص 112 وص 113. 95) ولو أنه سلم بما اتفق عليه السلف لكان خيراً وأشد تثبيتاً ولأغناه ذلك عن تكلف القواعد والشروط وموقف العقل بالنسبة للنصوص في أخبار الآحاد وأخبار التواتر التي شغلته فإنها كلها مبنية على الاستحسان والاجتهاد على طريقة المتكلمين.
والخلاصة من كل ما سبق أن مذهب السلف والانتساب إليه أمر لا غبار ولا اعتراض عليه وأنه لا يحق لأحد الانتساب إليه إلا إذا كان متبعاً قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً كما كان عليه الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان وأما من حاد عنهم إلى كلام الفلاسفة وعلماء الكلام الباطل وإلى إتباع العقل دون الالتفات إلى النص فهو ليس على طريقتهم وإن انتسب إليهم لأنه انتساب غير حقيقي.
3- الفرقة الناجية
الفرقة في اللغة اسم يطلق على الطائفة أو الجماعة من الناس :
والناجية وصف لتلك الفرقة بالنجاة دون أن يكون له تعلق بالزمن والمقصود بهم هم أهل الحق ممن تمسكوا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على مدى الأزمان ولا عبرة بدعاوى المنحرفين أنهم هم تلك الفرقة الناجية.(159/67)
ووصفهم بالناجية لعله أخذ من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه"( (96) أخرجه مالك في الموطأ ص 899 كتاب القدر . 96) أو لأن المتمسك بالوحيين سبيله النجاة أو لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة ... الحديث" ولا ريب أن من تمسك بكتاب الله وسنة نبيه أنه من الناجين بتوفيق الله له ينجو من الضلالة والفتن وينجو إذا ما مات على ذلك من عذاب الله وغضبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تركتكم على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك"( (97) أخرجه البخاري مع الفتح ج 13ص 293 كتاب الاعتصام . 97) .
وهذا الاسم – الفرقة الناجية – يشمل كل من اتصف بالعقيدة الصحيحة التي كان عليها الصحابة ومن استن بسنتهم واهتدى بهديهم وربما أخذت التسمية أيضاً من حديث افتراق الأمة حيث أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفرق كلها هالكة إلا واحدة هي الناجية( (98) أخرجه ابن ماجه ج 2 ص 1322 كتاب الفتن . 98) وهم الصحابة ومن تمسك بهديهم وهذا الوصف لا ينطبق إلا على السلف الذين اتبعوا الصحابة بإحسان.
ويجب أن نلاحظ أن السلف حين تسموا بهذه التسمية لا يقصدون من ورائها الشهادة لأنفسهم بالجنة ولا تزكية أنفسهم وإنما المقصود بها إظهار ما هم عليه من التمسك بكتاب الله وسنة رسوله الكريم وهما مصدر النجاة ولا يمنع أن تكون التسمية من باب التفاؤل أو من باب إظهار البراءة من المخالفين كما يرى البعض ولا مانع من ملاحظة كل ذلك.
4- تسميتهم أهل الحديث( (99) الحديث : هو ما أضيف إلى النبي صلى الله علسه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة – كما تقدم . 99) والسنة
كثير من العلماء يطلق هذه التسمية على السلف أهل السنة كشيخ الإسلام وغيره من رجال العلم.(159/68)
وإذا أطلقوا في تسميتهم فقالوا أهل الحديث والسنة فإنهم لا يريدون التقسيم إنما هما عندهم بمعنى واحد فالسنة هي الحديث والحديث هو السنة حسب ما يظهر من صنيع المحدثين من السلف.
ولكن ينبغي الانتباه إلى أن بعض علماء السلف قد يطلق تسمية أهل السنة احترازاً عن غيرهم من أهل البدع فتكون السنة عامة والحديث أخص ويظهر الافتراق في أبواب الاعتقاد عند هذا الاستعمال.
وعلى هذا فهناك فرق بين مصطلح أهل السنة وأهل الحديث وإن عبر بأحدهما عن الآخر في أبواب الاعتقاد لما بينهما من التقارب في الغالب وإلا فقد يكون المرء من أهل السنة وليس من أهل الحديث من الناحية الصناعية أي ليس بمحدث وقد يكون من أهل الحديث صناعة وليس هو من أهل السنة فقد يكون مبتدعاً ( (100) انظر وسطية أهل السنة ص 118 . 100).
ولاشك في أن هذه التسمية شرف عظيم لرجال العقيدة الصحيحة الحاملين لواء علم الحديث المنتسبين إليه.
5 – أهل الأثر
أطلقت الأثرية أو أهل الأثر على أهل السنة والجماعة والمراد بهم كل من تمسك بنصوص الكتاب والسنة ويريدون بالأثر ما أثر عن الله تعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم من تلك النصوص.(159/69)
وواضح أنهم لا يريدون به ما أصبح معروفاً عند بعض العلماء من تقسيماتهم للحديث إلى أقسام ومنها المأثور أو الأثر وهو ما وقف على الصحابي ولم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن السلف لا ينطبق عليهم هذا الاصطلاح إذ هم من أحرص الناس على التمسك بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ورفع إليه. وإنما يقصدون بالأثر الحديث عموماً فأهل الأثر أي أهل الحديث الملتزمون بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما ورد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم من التابعين لهم بإحسان من آثارهم الصحيحة لأن رد الآثار الصحيحة إنما هو من سمة أهل البدع المتنطعين في دينهم الذين لا يقبلون إلا ما يوافق أهواءهم مع أنهم يقدمون كلام مشايخهم وآبائهم على ما تفيده النصوص حمية وعصبية.
ولكنهم يستكبرون عن الآثار التي هي أشرف وأرفع من كلام من جاء بعد الصحابة مهما بلغ في العلم والشرف.
6- تسميتهم الطائفة المنصورة :
هذه التسمية للسلف أخذت من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون"( (101) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام ج 13 ص 293 . 101) وعن معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم( (102) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام ج 13 ص 293 .102) :"ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله" وفي بعض الروايات : "لا تزال طائفة من أمتي منصورين ..."( (103) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ج4 ص 485 باب ما جاء في الشام . 103) الحديث وقد فسّر العلماء هذه الطائفة بأنهم كل من تمسك بالكتاب والسنة وعمل الصحابة المجانبين البدع وأهلها وهم أصحاب الحديث الذي يعملون به قولاً وعملاً المجاهدون في سبيل الله تعالى.(159/70)
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النصر سيكون حليفهم إلى أن تقوم الساعة وهي بشارة عظيمة مفرحة لأهل الحق والواقع يشهد بذلك فكم من المؤامرات والخطط تبيت لهم قديماً وحديثاً ولكن الله تعالى بلطفه يخرجهم منها ويجعل لهم منها فرجاً ومخرجاً لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين إلى يوم القيامة وهؤلاء هم حفظته بإذن الله تعالى وقد تكفل الله عزّ وجلّ بنصرة من ينصر دينه وأن يجعل العاقبة الحسنة له في الدنيا والآخرة. وقد يفهم البعض أن هذا الحديث يدل على أن السلطة والحكم لابد أن يكونا بأيدي العلماء من أهل السنة. وهذا فهم خاطئ إذ لا يلزم من كونهم منصورين إلى قيام الساعة أن يكونوا بشكل حكومات ولا بد فإن الله تعالى ينصرهم بهذا وبغيره بلطفه العظيم كما هو الواقع فأحياناً يكون الحكم بأيديهم وأحياناً بأيدي غيرهم ولا يؤثر ذلك في سلوكهم الإيجابي أبداً.
2 – الأسماء والألقاب الباطلة التي ينبز بها أهل الباطل أهل الحق من السلف الصالح
لم يتورع أهل الباطل في إطلاق مختلف الأسماء الذميمة والألقاب الباطلة على أهل الحق لينفروا الناس عنهم وعن عقيدتهم الصافية.
وهو نفس المسلك الذي كان عليه المشركون تجاه النبي صلى الله عليه وسلم حيث أطلقوا عليه أنه ساحر شاعر مجنون ... الخ.
ورغم تلك الدعايات الكاذبة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وضد أنصاره وأتباعه فإن الحق بقي دائماً يتلألأ فوق رؤوسهم ويجذب الناس إليهم زرافات ووحداناً وبقي الباطل وأهله في تقهقر وذلة.
وسوف لا يزال الأمر كذلك. ولأهل السنة أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وما دام وقد ظهر فضل أهل السنة واضحاً جلياً فإن ذامهم يدل على نقصه على حد ما قيل :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني فاضل(159/71)
كما أن سب الصالحين بغير ذنب فيه زيادة لهم في الأجر وفيه رفع لدرجاتهم عند الله تعالى وقد تلمس المخالفون للسلف حججاً واهية وأقوالاً كاذبة لفقوها ضد السلف وجاؤوا إلى أحسن الصفات عند السلف وجعلوها ذماً لهم وصدق من قال:
وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم
ولهذا فقد أصبح من علامات أهل البدع سبهم لأهل السنة والتشهير بهم واختراع الألقاب الباطلة لهم بل لم يقف نبز أهل الباطل لأهل السنة فحسب بل تعدوا في باطلهم إلى نبز رب العالمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون ذلك أن الله تعالى حينما أطلق على نفسه صفات وأوصافاً تمدح بها فإذا بأهل الأهواء يخترعون لها مفاهيم وأسماء باطلة شنيعة تنفر من يسمعها من اعتقادها إذا لم يكن على معرفة بأباطيلهم.
والله تعالى وصف نفسه بصفات الكمال المعروفة فجاء هؤلاء وأطلقوا عليها لقب التشبيه والتجسيم والتمثيل { قل أأنتم أعلم أم الله} ( (104) سورة االبقرة : 140 . 104) .(159/72)
فإذا بتلك الصفات الحميدة في مكان الذم وكذلك وصف الله نفسه بأن له وجهاً ويدين الخ وسماها هؤلاء تركيباً وتبعيضاً لا يليق بالله تعالى بزعمهم فقالوا يجب أن ينزه الله عن التركيب والتبعيض ليصلوا إلى نفي صفاته ووصف الله نفسه بأنه مستو على العرش فسمى هؤلاء هذه الصفة تحيزاً وإثبات جهة محدودة لله تعالى بزعمهم ومن هنا حولوها إلى كلمة "استولى" ووصف الله نفسه بصفات الأفعال من الكلام والنزول ونحو ذلك ويسمى هؤلاء هذه الصفات أفعالاً لا توجد إلا في المخلوق بزعمهم فقالوا للعامة يجب أن ننزه الله عن صفات الأفعال التي هي حوادث وسموها أعراضاً والأعراض لا تليق بالله تعالى ومن هنا جاءهم مفهوم الإيمان الحقيقي بالله تعالى وبصفاته كما يزعمون فإذا هو أن ننزه الله تعالى عن التراكيب والتقسيم والأعراض والأغراض والتحيز والجهة وظن الجاهلون أن هؤلاء على شيء وأن ذلك هو ما يقتضيه تنزيه الله ولم يعلموا أن هؤلاء هم من أشد الناس إعراضاً عن الله تعالى وما يليق به ومن أشدهم محادة لرسوله صلى الله عليه وسلم ولسائر المؤمنين وإتماماً لمحاربتهم أهل السنة وتنفير الناس عنهم رأوا لزاماً أن ذلك لا يتم إلا بإطلاق الألقاب الشنيعة والمنفرة على أهل السنة فكان مثلهم كما قيل قديماً "رمتني بدائها وانسلت" فقد ألقوا بالعيوب التي هم أحق بها ألقوا بها على أهل السنة كذباً منهم وزوراً دون رادع من إيمان أو ضمير لكي ينتقص الناس أهل السنة بينما نجدهم قد تعاظموا أنفسهم واستكبروا ولهذا فقد أطروا أنفسهم بأسماء وبألقاب عديدة وزكوا أنفسهم والله تعالى يقول : {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ }( (105) لنجم: من الآية32105) ظناً منهم أن الحق وأهله سيندثرون {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ }( (106) يونس:82106)وما تكفل الله بحفظه فلن يضيع أبداً.
فمن الأسماء والألقاب التي أطلقها عليهم أهل الباطل نبزاً لهم:(159/73)
1- المشبهة – النقصانية – المخالفة – الشكاك وتنبزهم بهذه الألقاب الجهمية لإثباتهم صفات الله تعالى.
2- الحشوية – النابتة أو النوابت – المجبرة المشبهة وتنبزهم بهذه الألقاب المعتزلة والزنادقة وسائر أهل الكلام والخوارج.
3- المجبرة أو الجبرية وتنبزهم بهما القدرية.
4- الناصبة أو النواصب – العامة – الجمهور – المشبهة – الحشوية وتنبزهم بها الرافضة.
5- المشبهة – المجسمة – الحشوية – النوابت – الغثاء – الغثراء وتنبزهم بها الأشاعرة والماتريدية.
وبهذا يتضح أن أهل الانحراف قد يتفقون وقد يختلفون في إطلاق بعض الألقاب الباطلة على أهل السنة والهدف بينهم مشترك.
1- فأما إطلاقهم عليهم مشبهة فقد تصور هؤلاء المبطلون أن السلف حينما أثبتوا تلك الصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته لورودها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصوروا أن هذا الإثبات يقتضي نشبيه الله بخلقه لأنهم لم يدركوا من دلالات هذه الأسماء إلا ما أدركوه من تعلقها بالمخلوق وفاتهم الفرق الذي لا يعلمه إلا الله بين الخالق والمخلوق.(159/74)
وقد أثبت السلف أن هذا التصور الخاطئ لتلك الطائفة هو الذي جعلهم بحق مشبهة وليس أهل السنة الذين لم يثبتوا فيها أي شبه بين الخالق والمخلوق إلا مجرد التسمية مع معرفة معنى الصفة والتقويض في الكيفية فإن أولئك لم ينفوها عن الله إلا بعد أن شبهوه بخلقه فأي الفريقين أولى بتسمية المشبهة أهل السنة أم أولئك أهل الباطل من الجهمية الذين هم أول من ولج باب التشبيه الخطير ونفى عن الله تعالى ما أثبت لنفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم وشبهوه بالمعدومات حين أطلقوا عليه كل صفات السلوب ورموا أنبياء الله تعالى مثل موسى وعيسى ومحمداً عليهم صلوات الله وسلامه بأنهم مشبهة في قول موسى كما حكى الله عنه أنه قال : {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ}( (107) لأعراف: الآية155107)وفي قول عيسى ابن مريم : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}( (108) المائدة: الآية116108)وفي قول محمد صلى الله عليه وسلم : "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا"( (109) انظر صحيح البخاري ج 3 ص29 ومسلم ج 1 ص 521 . 109) فإن كان الأنبياء مشبهة فمن هم المنزهة؟ لو كان لهؤلاء عقول سليمة وفطر مستقيمة لما أقدموا على هذا المعتقد الباطل والذي يكاد أن لا يكون له نظير في جرأته وحماقته.
2- وأما زعمهم أن أهل السنة نقصانية فلقولهم أن الإيمان يزيد وينقص فلا ريب أنهم يكذبون بهذا النبز قول الله عزّ وجلّ وقول نبيه صلى الله عليه وسلم في إثبات زيادة الإيمان ولردهم النصوص الواردة في هذا حيث زعموا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأما أهل السنة فإنهم لا يختلف منهم إثنان في أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي كما أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم مثل قوله تعالى:{ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً }( (110) لأنفال: الآية2110).(159/75)
وقوله تعالى : {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً }( (111) مريم: الآية76111) .
وآيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم كلها تثبت أن الإيمان يزيد وما قبل الزيادة قبل النقص حتماً.
ووردت أحاديث كثيرة أيضاً في هذا تؤكد كلها زيادة الإيمان ونقصه قال صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة وأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" ( (112) البخاري الفتح ج1 ص51 ومسلم في باب شعب الإيمان ج1 ص 210 . 112) .
وقال صلى الله عليه وسلم : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"( (113) صحيح مسلم كتاب الإيمان ج 1 ص 50 . 113).
والأحاديث في هذا كثيرة وإنما المقصود التنبيه على صحة عقيدة السلف وبطلان عقائد المخالفين في قضية زيادة الإيمان ونقصه وأن تسمية السلف نقصانية تسمية خاطئة سببها الجهل.
والسلف كلهم مطبقون على أن الإيمان يزيد وينقص ووردت عنهم روايات كثيرة تؤكد هذا قال أبو هريرة رضي الله عنه :"الإيمان يزداد وينقص"( (114) الشريعة ص111 . 114) .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه :"من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه"وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه : "هلموا نزدد إيماناً فيذكرون الله عزّ وجلّ"( (115) انظر الشريعة للآجري ص 112 . 115) إلى آخر النصوص المستفيضة عن السلف وعلى هذا فإن السلف أتوا بالكمال المطلوب حسب ما أفادته النصوص فكيف يكونون نقصانية وما النقصانية إلا من نقص عن العمل بالنصوص الشرعية وسرق مدلولاتها الواضحات كالجهمية المشبهة ومن تبعهم وعلى كل حال فلا عبرة بقول أهل البدع أن السلف نقصانية لأنهم يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه فإنهم على الحق في هذا مستندين على ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع سلف هذه الأمة كما ترى أخي القارئ الكريم.(159/76)
ولولا أن المخالفين قد كابروا عقولهم وعاندوا ليتيقنوا من أنفسهم أن الإيمان يزيد وينقص كما يجده كل شخص من نفسه في مختلف الحالات فمن زعم أنه على حد سواء دائماً في اتجاهه ورغبته ورهبته إلى الله فقد افترى على نفسه وأراد أن يغالطها فمن ذا الذي يكون على حالة واحدة طوال وقته ثم أليس كذلك أن من المسلمين به أن الناس يتفاوتون في إيمانهم وتصديقهم أيضاً حسب القرائن وما وقر في القلب من حب الله عزّ وجلّ وتصديق الأنبياء وهل يحق لأحد أن يزعم أن إيمانه وتصديقه مثل إيمان خير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان وأهل معركة بدر والمؤمنون الذين اتبعوه في ساعة العسرة. إن من زعم ذلك فقد جانب الصواب.
3- وأما تسميتهم لأهل السنة مخالفة. فنعم أن أهل السنة مخالفة لأهل الأهواء والبدع بل ومعادية ويكفي أنهم من أشد الناس اتباعاً لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا قيمة لمخالفتهم أهل الأهواء وما يقصده هؤلاء من أن السلف مخالفة للحق فإنه اتهام باطل هم أحق به وليس أهل السنة فإن القول إذا لم تعضده الأدلة الصريحة الواضحة لا يسمى حقاً ولو زعم قائله أنه حق وهذه المخالفة لأهل البدع هي من أجمل المخالفات بل كانوا يتقربن بها إلى الله تعالى.(159/77)
4- أما تسميتهم لأهل السنة بالشكاك من قبل المرجئة فإنها تسمية ظالمة لأن السلف لم يشكوا في دينهم ولا في أخبار ربهم ونبيهم ولا في شيء ثبت بالكتاب والسنة فالمرجئة أولى بهذا النبز لشكهم – بل لردهم – ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم ثم هم لا يملكون أي دليل على أن السلف تطرق إليهم الشك فيما يعتقدونه مما ثبت به النص وأما مجرد دعواهم أن السلف شكاك فليس بدليل كما أن زعمهم أن السلف يشكون في إيمانهم بسبب تجويزهم الاستثناء فيه فهذا بسبب عدم معرفتهم المقصود بكلام السلف حينما أجازوا الاستثناء وذلك أنهم لم يجيزوه على سبيل الشك في إيمانهم ولكنهم أجازوه على سبيل التواضع وعدم تزكية النفس المنهي عنه ثم لعلمهم أن الإيمان يشتمل الإيتان بكل الأعمال المأمور بها واجتناب كل الأعمال المنهي عنها وهذا باب واسع فخافوا أن يثبتوه على وجه الجزم ويكونون قد قصروا في جانب منه وبهذا يتضح أنه لا وجه لتسميتهم بالشكاك وربما يكون تحويرهم الاستثناء على سبيل التواضع لله تعالى ولا مانع من حصول كل ذلك( (116) انظر وسطية أهل السنة بين الفرق ص 130 . 116) .
5- وأما بالنسبة لنبزهم لأهل السنة بأنهم حشوية:(159/78)
فهو بمعنى أنهم حشو الناس أي لا قيمة لهم أو بمعنى أنهم يروون الأحاديث لا يميزون بين صحيحها وسقيمها سواء أكانت صحيحة أو ضعيفة أو موضوعة أو متعارضة أو بمعنى أنهم مجسمة لله تعالى بسبب إثباتهم صفات الله تعالى وعدم نفيها أو تأويلها فانظر أخي القارئ إلى هذه الجرأة للمعتزلة ومن شايعهم كيف يفترون الكذب على السلف ثم إذا كان خيرة الناس لا قيمة لهم ولا اعتبار بكلامهم فلمن تكون القيمة والاعتبار؟ ألمن اتبعوا أهواءهم وحاربوا الله وردوا كلامه بشبهات ملاحدة الفلاسفة وأهل الكلام الباطل؟ أم لمن اتبع هدى الله تعالى وآمن به ظاهراً وباطناً؟ ولكن ما الذي يضير أهل السنة من السلف احتقار هؤلاء لهم بعد أن أكرمهم الله وأثنى عليهم في كتابه الكريم وأثنى عليهم نبيه وصفهم بالطائفة المنصورة القائمة على الحق إلى أن تقوم الساعة.
أما زعمهم أن السلف يروون الأحاديث كيفما اتفق فهي دعوى تدل على ضحالة معرفتهم بطريقة المحدثين وما امتازوا به من خدمة السنة من فحص الأحاديث وغربلتها كما يغربل الدقيق أو أشد.
وفحصهم كذلك لرجال الأسانيد فرداً فرداً حتى ليخيل للقارئ والسامع أنه ما من راوٍ للحديث إلا وكأنه قد عاش مع أهل السنة أهل الحديث في منزل واحد ومن تتبع طريقة السلف في رواية الأحاديث عرف عظم احتياطهم ومدى الجهود المباركة التي خدموا بها سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأما تجسيم الله تعالى فحاشا أن يكون السلف مجسمة بل هم أعداء المجسمة والمحاربين لهم فإن مذهب السلف هو الابتعاد عن إطلاق مثل هذه العبارات على الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً حتى يستفسروا من قائلها لأنها تحمل معنى حقاً ومعنى باطلاً وعلى حسب ما يريد المتكلم بهذا يحكم السلف.
وعن تسمية أهل الباطل لأهل السنة حشوية يقول شيخ الإسلام رحمه الله في رده وذبه عنهم.(159/79)
فقد تبين أن الذين يسمون هؤلاء وأئمتهم حشوية هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه وأئمة هؤلاء أحق بكل علم نافع وتحقيق وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلاء الجهال المنكرون عليهم المكذبون لله ورسوله.
فإن نبزهم بالحشوية إن كان لأنهم يروون الأحاديث بلا تمييز فالمخالفون لهم أعظم الناس قولاً لحشو الآراء والكلام الذي لا تعرف صحته بل يعلم بطلانه.
وإن كان لأن فيهم عامة لا يميزون. فما من فرقة من تلك الفرق إلا من اتباعها من هو من أجهل الخلق وأكفرهم. وعوام هؤلاء هم عمار المساجد بالصلوات وأهل الذكر والدعوات والحجاج البيت العتيق والمجاهدون في سبيل الله وأهل الصدق والأمانة وكل خير في العالم فقد تبين لك أنهم أحق بوجوه الذم وأن هؤلاء أبعد عنها وإن الواجب على الخلق أن يرجعوا إليهم فيما اختصهم الله به من الوراثة النبوية التي لا توجد إلا عندهم ( (117) الفتاوى ج4 ص 87 . 117).
6- وأما نبزهم لأهل السنة بأنهم نوابت بمعنى أن أهل السنة يشبهون نوابت الأشجار الصغيرة.
أي أنهم صغار في العلم والمعرفة كصغار النوابت من الأعشاب التي لم تكتمل قوتها ونضجها.
أو أنهم نوابت شر نبتوا في الإسلام مبتدعين فيه مغيرين له بزعمهم فإن هذا النبز من الافتراءات الكاذبة على أهل السنة الذين هم أساس العقيدة وحماتها الذين تربوا على فهمها والعمل بها ولم يعرفوا أو يعملوا بغيرها مما جاءت به الفلسفات الإلحادية وعلم الكلام الباطل والحقيقة أن نبزهم لأهل السنة بهذا الاسم يصدق عليه أنه من باب قلب الحقائق والمغالطات المكشوفة.
فإن الأحق بتسمية النوابت هم أهل الكلام المذموم والفلسفات الباطلة الذين نبتوا دون علم مسبق بالكتاب والسنة وإنما نبتوا على علم الكلام وأنواع الفلسفات المنحرفة التي لم تعرف عند المسلمين إلا بعد أن نبت هؤلاء فيهم.(159/80)
وتسلطوا على معاني النصوص فعطلوها عن مدلولاتها وقالوا إن الله ليس له سمع ولا بصر ولا علم ولا استواء، إلى آخر أوصافهم السلوبية التي مفادها في النهاية إنكار وجود الله تعالى الذي تضمنه قولهم أن الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا يحس ولا يشم ولا يشار إليه .. الخ.
مما جرأ الملاحدة على القول بأنه لا فرق بين المنكرين لوجود الله تعالى والواصفين له بتلك الصفات الجهمية الاعتزالية التي تدل أخيراً على إنكار وجوده سبحانه وأنه لا مكان له إلا في الذهن وافتراضاته الخيالية إذ أن شيئاً ليس هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا يسار ولا يحس ولا يشم ولا يشار إليه أمر لا يقبله عقل ولا يقره منطق.
7- أما نبزهم لأهل السنة بأنهم جبرية أو مجبرة أو قدرية فإنه بالتأمل في مذهب القدرية والجبرية وأهل السنة يتبين الحق من يستحق اسم الجبرية أهل السنة أم المبتدعة من خلال معرفة ما يلي :
1- مذهب القدرية المحتجون بالقدر على الله تعالى وهم المشركون.
2- مذهب الجبرية.
3- مذهب أهل السنة.
- فالقدرية المحتجون بالقدر هم الذين يزعمون رضى الله عن كل عمل يعملونه ويحتجون على الله بالقدر والمشيئة فيقولون قدر الله علينا فكيف يعاقبنا؟.
قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }( (118) النحل: الآية35118)الآية.
ومقصودهم أن الله تعالى لو كان يكره ما هم عليه من الشرك والسلوك لغيّر ذلك وعاقبهم ولكنه قد شاءه ورضيه وبذلك فلا عقوبة عليهم لأن الله قدره عليهم وجبرهم عليه لمشيئته النافذة له.
وفي مقابل هؤلاء جاءت فرقة أخرى تنفي أن يكون لله تعالى أي أثر في فعل الإنسان تركاً أو فعلاً بل الإنسان هو الذي يخلق فعله كما يريد.(159/81)
وقد وصل الغلو بهؤلاء إلى القول : "بأن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وإن ما يفعله العباد أيضاً" لا يعلم به إلا بعد وقوعه فلا تأثير له في أي فعل يفعله العبد وهذا مذهب غلاة القدرية وقد انقرضوا فيما يذكره عنهم العلماء إلا أن المتأخرين منهم يثبتون علم الله بالأشياء قبل وقوعها ولكنه لا يتدخل في أعمال البشر بل هم الذين يخلقونها كما يريدون فهؤلاء القدرية (المعتزلة) هم نفاة القدر عن الله تعالى وهم ومن سبقهم على ضلال.
وأما الجبرية: فهم على النقيض من مذهب القدرية في أفعال العباد لأن المعتزلة القدرية لا يقولون بأن الله قدر على العبد فعله ولا جبره عليه فسلبوا عنه القدرة.
بينما الجبرية على النقيض من ذلك يقولون كل عمل يعمله العبد فإنه مقدر عليه من الله ومجبور على فعله فهو كالريشة في مهب الريح فإن الله هو الفاعل الحقيقي بقوته وليس للعبد إلا نسبة الفعل إليه عن طريق المجاز، كما يقال تحركت الشجرة ونحو ذلك فسلبوا عن العبد القدرة والمشيئة التي أخبر الله تعالى عنها وجعلوا العبد أشبه ما يكون بالجماد المسير من غيره وإذا كان مذهب القدرية والجبرية هو ما تقدم فإن مذهب السلف بخلاف ذلك كله ومعنى هذا أنهم لا تصح تسميتهم لا قدرية ولا جبرية.
فإن معتقد أهل الحق أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد تنسب إليهم حقيقة فإذا صلى أو صام أو سرق أو زنى فهو فعلة حقيقة وأيضاً بمشيئته التي لا تخرج عن إطارها العام عن مشيئة الله تعالى لها وخلقه لها كوناً ولو شاء الله لما تمكن العبد من أي فعل فالله هو الخالق الحقيقي لها والعبد هو الفاعل الحقيقي لها بتمكين الله له مع ملاحظة الفرق بين مشيئة الله الكونية والشرعية.(159/82)
ويتضح من خلال ما تقدم ما يذكره أهل السنة من أن الجبرية أصابوا في قولهم أن الله هو الخالق لأفعال العباد بقدرته الكونية وأن القدرية أصابوا أيضاً في قولهم أن العبد هو المتسبب في فعله وبقدرته وهو مسؤول عنه ولكن الخطأ في قول الجبرية يكمن في زعمهم أن العبد لا فعل له ولا قدرة له وإنما هو مجبور والفاعل هو الله تعالى وأما الخطأ في قول القدرية فيكمن في قولهم أن العبد هو الذي يخلق فعله بقدرته وإرادته دون أن يكون لله تعالى تدخل في ذلك والحق في ذلك كله هو ما هدى الله إليه أهل طاعته كما سبق مستدلين بقوله تعالى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }( (119) الإنسان: الآية30119)وقوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }( (120) البقرة: الآية253120)وغير ذلك من الآيات.
8- وأما نبزهم للسلف بأنهم ناصبة فقد كذب الرافضة وافتروا أن يكون أي شخص من السلف قد نصب العداوة لأهل البيت أو للرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ابتداءاً بعلي رضي الله عنه ثم جميع أهل البيت وهذا النبز دلالة قاطعة على جهل الرافضة بمذهب السلف في أهل البيت لأنهم لم يقرؤوا لهم ولم يطلعوا على كلامهم ومعتقدهم فيهم فأيهما أولى بهذا النبز الرافضة الذين نصبوا العداوة لكل المسلمين ابتداءًا بالصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان وبأهل البيت الذين لاقوا المصائب المتتالية عليهم بسبب مؤامرات الرافضة وخذلانهم لهم في أكثر من موقف والشواهد على هذا أكثر من أن تحصر.(159/83)
أيهما أولى بهذا النبز هؤلاء أم السلف الذين يترضون عن كل واحد من أهل البيت ما دام صالحاً ويفضلونه على غيره بتلك الصفة ويقدمونه ولا يتبرؤون من أحد من المسلمين ما دام على الإسلام والتزام القرآن والسنة وقاعدة الرافضة "لا ولاء إلا ببراء" من أكبر الأدلة على بغضهم خيرة الصحابة الكرام وجرأتهم على تكفيرهم مخالفة لما ثبت من فضلهم في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
9- وأما نبزهم لمن عداهم من السلف وسائر المسلمين بالعامة فهو لقب تشنيع في مقابل تسميتهم لأنفسهم الخاصة وهذه التزكية الكاذبة لأنفسهم شابهوا فيها اليهود الذين سموا أنفسهم شعب الله المختار وسموا من عداهم بالجوييم فهل هؤلاء الباطنية هم خاصة الله بينما أحباءه ومتبعي أمره ونهيه هم العامة؟ الذين لا اعتبار بهم ولا قيمة لهم؟ بل أيهما العامل رجل متبع للنصوص الثابتة الموافقة للحق والعقل أم رجل متبع لهواه متدين بالخرافة يصدق ما لا يصدقه عاقل من الغلو في أشخاص مثلهم مثل غيرهم من البشر الذين قال الله فيهم :{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.(159/84)
وهذه التسمية لمن عداهم بالعامة هي مثل تسميتهم لمن عداهم بالجمهور ومن العجيب أن يحكموا على كل المسلمين بصفة واحدة بينما يقابل تلك التسمية تسمية واحدة لهم "الخاصة" الدالة على تعاليهم وغرورهم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تجتمع على ضلالة فكيف اجتمع المسلمون كلهم على الضلالة ولم يخرج عنها إلا هؤلاء الروافض الذين يكفرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويتهمون أم المؤمنين وينتظرون مهدياً خرافياً يأتي بقرآن غير القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون أن الأئمة يعلمون الغيب ولا يموتون إلا باختيارهم إلى غير ذلك من العقائد التي جمعها الكليني في كتابه الذي يقدسونه "الكافي" وغيره من كتبهم التي تدل على تطاولهم على سائر المسلمين دون أي دليل من عقل أو نقل غير ما زين لهم من سوء معتقداتهم المعبرة عن جهلهم وبعدهم عن سبيل المؤمنين {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً }( (121) النساء: الآية38121).
10- وأما نبزهم لأهل السنة بأنهم مجسمة لإثباتهم صفات الله تعالى كما جاءت في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة.
فهو نبز أبان عن جهلهم بحقيقة عقيدة السلف وأبان عن قصورهم في الفهم السليم لنصوص الوحيين فإن لفظ التجسيم عند السلف هو من الألفاظ التي يجب التحرز منها عند إطلاقها على الله تعالى ولا بد أن نسأل من أطلقها عن مراده بالجسم فإن أراد بإطلاق الجسم على الله معناه في لغة العرب من أنه يوصف بصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب وأنه مستو وأنه تصح الإشارة إليه ويصح أن يسأل عنه بأين وأن له وجهاً ويدين فإطلاق الجسم بهذا المعنى صواب مع أن القائل مخطئ في إطلاق هذه العبارة التي أحدثها علماء الكلام وليكْتفِ بالألفاظ الشرعية مثل ليس كمثله شيء وله المثل الأعلى وقل هو الله أحد وغير ذلك.(159/85)
وإن أراد بإطلاقه نفي الجسم عن الله تعالى أنه ليس جسماً مثل سائر الأجسام التي تتكون من أجزاء متفرقة فهو صواب فإن الله تعالى ليس كمثله شيء ومع تصويبه فإنه مخطئ في إطلاق هذه العبارة التي أحدثها علماء الكلام فإنه لم يعهد عن السلف أن أطلقوا لفظ الجسم على الله لا نفياً ولا إثباتاً فإن كان ولا بد من إطلاقها فلتكن بالألفاظ الشرعية التي تدل على تنزيه الله تعالى على الإطلاق مثل ليس كمثله شيء وقل هو الله أحد وله المثل الأعلى وغير ذلك من الألفاظ العامة المشتملة على التنزيه الصحيح كما تقدم وأما إن أريد بهذا الإطلاق نفي الجسمية عن الله تعالى بمعنى نفي صفاته الثابتة بالكتاب والسنة كالاستواء والنزول والوجه والسمع والبصر إلى آخر صفاته عزّ وجلّ – وهو ما يهدف إليه علماء الكلام فهذا النفي باطل بهذا المعنى لأن إثبات هذه الصفات لا يلزم منه وقوع التشبيه الذي حذره هؤلاء المبطلون بزعمهم فإن تصور إثبات الصفات أنه يقتضي التشبيه هو نفس التشبيه المذموم فإن النافي للصفات لم ينفها إلا بعد أن أصبح مشبهاً فيها فوقع في الخطأ الذي جره إلى خطأ أكبر منه وهو إثبات ذات خالية عن الصفات وهو أمر لا يمكن وقوعه إلا في تخيلات الذهن وهي تخيلات فاسدة وأما في خارج الذهن فلا يمكن وجودها.(159/86)
وفي هذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله :"فمن قال أنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قوله باطل وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل" أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مثلاً في شيء من صفاته فهو مبطل ومن قال أنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل ومن قال أنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا قوله باطل وكذلك كل من نفى ما أثبته الله ورسوله وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل وتسمية ذلك تجسيماً تلبيس منه فله إن أراد أن هذا في اللغة يسمى جسماً فقد أبطل وإن أراد أن هذا يقتضي أن يكون جسماً مركباً من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة أو إن هذا يقتضي أن يكون جسماً والأجسام متماثلة قيل له أكثر العقلاء يخالفونك في تماثل الأجسام المخلوقة وفي أنها مركبة فلا يقولون أن الهواء مثل الماء ولا أن الحيوان مثل الحديد والجبال فكيف يوافقونك على أن الرب تعالى يكون مماثلاً لخلقه إذا أثبتوا له ما أثبت له الكتاب والسنة والله تعالى قد نفى المماثلات في بعض المخلوقات وكلاهما جسم كقوله تعالى :{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }( (122) محمد: من الآية38122).
مع أن كلاهما بشر فكيف يجوز أن يقال إذا كان لرب السماوات علم وقدرة أن يكون مماثلاً لخلقه والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله( (123) انظر مجموع الفتاوى ج 17 ص 317 . 123) .(159/87)
ومن قال إن السلف مجسمة فقد افترى عليهم لأنهم من أبعد الناس ومن أشدهم تحذيراً من إطلاق العبارات التي فيها حق وصواب وانحراف وبطلان ومنها إطلاق الجسمية على الله تعالى فإن السلف يمنعون منعاً قاطعاً من إطلاقها على الله تعالى ولكن في حال إطلاقها يقيدونها بما سبق أن عرفته فكيف يصح وصفهم بعد هذا بأنهم مجسمة؟ وهل يصح أن يوصف النافي للشيء بأنه مثبت له؟.
11- وأما نبزهم لهم بأنهم غثاء وغثراء فهو بمعنى أن أهل السنة هم كالغثاء الذي يحمله السيل عند انحداره وكما ورد في الحديث "ولكنكم غثاء كغثاء السيل"( (124) أخرجه أبو 4/111 وأحمد 5/ 278 من حديث ثوبان رضي الله عنه . 124).
والغثراء بمعنى سفلة الناس وأراذلهم والمعنى بهذا النبز الباطل أن أهل السنة هم سفلة الناس الذين هم كزبد السيل أي لا خير فيهم ولا نفع.
وهذه مغالطة ظاهرة وظلم واضح ويستطيع أي شخص أن يتبين صحة هذا حينما يتصور أن الناس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلوا على الهدى الذي تركهم عليه المصطفى إلى أن نبتت الدعوات الهدامة والآراء الضالة بسبب ترجمة كتب اليونان واستعلاء الأهواء فأي الفريقين يستحق هذا اللقب الذين بقوا على الحق ولا يزالون عليه وهو الأصل في المسلمين أم الذين انحرفوا وأخذوا بآراء اليونان وفلاسفتهم؟ وقد دخل الصحابي عائد بن عمرو على عبيد الله بن زياد فقال أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن شر الرعاء الحطمة فإياك أن تكون منهم فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال عائد رضي الله عنه وهل كانت لهم نخالة إنما النخالة كانت بعدهم وفي غيرهم ( (125) انظر أبو داود 4/ 200 الترمذي 5/ 44 وابن ماجه 1/15 وأحمد 4/ 126 . 125).
12- وقد نبزوهم أيضاً بتسميتهم "زوامل أسفار" تشبيهاً لهم بالجمال التي يحمل عليها و "أصحاب أقاصيص وحكايات وأخبار" وكل هذه الأوصاف هم منها براء.(159/88)
وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني فاضل
وفي الرد عليهم يقول أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني رحمه الله "وفي الحقيقة ما ثلموا إلا دينهم ولا سعوا إلا في هلاك أنفسهم وما للأساكفة( (126) الخرازون الذين يصنعون الخفاف . 126) وصوغ الحلي وصناعة البز وما للحدادين وتقليب العطر والنظر في الجواهر أما يكفيهم صدأ الحديد ونفخ في الكير وشواظ( (127) اللهب الذي لا دخان له . 127) الذيل والوجه وغيرة في الحدقة وما لأهل الكلام ونقض حملة الأخبار "( (128) الانتصار لأصحاب الحديث ص 2 128) . وهذا النقد يذكر القارئ بالمقالة المشهورة بين عامة الناس "رحم الله امرأ عرف قدره فوقف عنده".
ويصدق كلام السمعاني في اقتحام هؤلاء لما لا يحسنونه ما قرروه في عقائدهم من المتناقضات والجهل الشنيع من حيث ظنوا أنهم وصلوا إلى العلم الغزير فكانوا مثل التي نقضت غزلها بعد إحكامه في كل مرة أو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وقد قال عنهم من تبين له خطر ما هم عليه من العقائد الفاسدة يا ليتني أموت على دين أمي أو نحوه من الكلام الذي يتحسر فيه على ما فات من سنين عمره التي قضاها في الاشتغال بعلم الكلام وفلسفة اليونان.
* * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس
ما هي عقيدة السلف
وما هو منهجهم في مسائل الاعتقاد والاستدلال لها؟
وما معنى كلمة عقيدة
العقيدة هي ما يعتقده الشخص في قرارة نفسه ويعقد العزم عليه ويراه صحيحاً سواء أكان صحيحاً في حقيقة الأمر أم باطلاً.(159/89)
ومن هنا فإن عقيدة السلف التي يعتقدونها في قرارة أنفسهم وقد عقدوا العزم على العمل بها هي جملة ما أخذوه عن كتاب الله وسنة نبيه وهو الاعتقاد الصحيح والواقع الحق الذي لا يزيغ عنه إلا هالك بخلاف عقائد غيرهم الذين خلطوا بعلم الكلام وآراء الفلاسفة فجاءت نتاجاً مشوهاً خصوصاً في ما يتعلق بأسماء الله وصفاته وبعضهم لم يقف عند هذا الحد بل تعدى هذا الخطأ إلى أخطاء أخرى تتعلق بالنبوات وبالسمعيات بسبب تأثرهم بالأفكار المنحرفة فإذا بعقائدهم تقوم على خليط من الآراء والأفكار المنحرفة بأدلة متنوعة إما من القرآن الكريم الذي حرفوا معانيه وأولوها لتوافق أهواءهم أو من السنة النبوية التي لا يميزون في قبولها بين الصحيح والضعيف والمكذوب وغيره سواء أكان بسند أم بغير سند ولا يهمهم من الراوي إلا أن يكون على وفق معتقدهم أو من المكاشفات التي يزعمون أن الله يخاطبهم بها أو من الأحلام المنامية أو من التقائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما يدعون كذباً وزوراً أو من العلم اللدني الذي يقذفه الله في قلوبهم كما يدعون أو من الخرافات والأساطير التي لا تصلح إلا في سمر العجائز بالليل لأن تلك كلها في ميزان السلف أمور مرفوضة لانقطاع التشريع بموت الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبق في مفهوم السلف إلا الاجتهاد حول فهم النصوص واستخراج الحق منها.
وقد ذكر بعض العلماء أن أهل الأهواء إزاء السنة النبوية ينقسمون إلى فريقين:
فريق لا يتورع عن ردها وإنكارها إذا خالفت مذهبه وما ألفه من أقوال وأفعال ثم يختلق لردها شتى الأعذار الباطلة.
ومنهم فريق آخر يثبتون السنة في ظاهرهم ويعتقدون بصحة النصوص ولكنهم يشتغلون بتأويلها إلى ما يوافق هواهم وينصر معتقداتهم وهؤلاء الحقيقة ماكرون فإن عملهم هذا هو رد للسنة ولكنه بطريق قد تخفى على غير طلاب العلم.(159/90)
وأحياناً يضرب هؤلاء بالنصوص جانباً بحجة أنها متعارضة مع أنه في الواقع لا يوجد بين النصوص الصحيحة أي تعارض إذا تبين الناسخ والمنسوخ والمتقدم والمتأخر منها فإن لم يتبين ذلك فإنه يمكن الجمع بينها ولا محالة إلا إذا كانت أحاديث موضوعة وصحيحة فحينئذٍ طريقة أهل السنة أنه لا تعارض بين الصحيح والموضوع إذ لا قيمة للموضوع وشبهه إزاء الصحيح لأن عدم فهم النصوص هو الذي أدى إلى تفرق الأمة وسفك دماء بعضهم بعضاً وما نشأ عنه من الاستكبار والبغي والعدوان واستحكام العداوات وكل هذا لا تحتمله الشريعة الإسلامية التي تركنا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
إن منهج السلف في مسائل الاعتقاد والاستدلال لها يقوم على إيمانهم بكل ما ثبت دليله من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إيماناً راسخاً ظاهراً وباطناً.
سواء كان ذلك الأمر الذي يعتقدونه من الأمور الغيبية كالإيمان بكل ما أخبر الله به أو أخبر عنه رسوله بأنه قد وقع كالإيمان بخلق الله لآدم من طين وخلق زوجه منه وإهباط الله لهما إلى الأرض بسبب معصيتهما ثم توبة الله عليهما وإنزال الكتب وإرسال الرسل وجميع ما جاء بإثباته النص في سائر الأمور التي قد وقعت من قبلنا أو كان من الأمور التي أخبر الله ورسوله أنها ستقع كالإيمان باليوم الآخر وما يقع فيه من الثواب والعقاب في الحساب والجنة والنار وما فيهما وغير ذلك من أمور العالم الآخر أو كان من الأمور التي تقع في الدنيا التي جاء النص بوقوعها فيها قبل يوم القيامة مثل ما أشار إليه الله في القرآن الكريم أو أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم مثل موقعة بدر وفتح مكة وظهور الدجال ونزول المسيح وغير ذلك.(159/91)
وبصفة عامة الإيمان بكل الأخبار الغيبية التي وقعت أو التي ستقع على حد سواء هي مزية عظيمة تدل على قوة إيمانهم وطمأنينة نفوسهم غير متأولين بعقولهم لرد النصوص كما تفعل الفرق الباطلة الذين لا يؤمنون إلا بما تراه عقولهم مقدمينها على النصوص كالمعتزلة وغيرهم غير ناظرين إلى نقص العقول عن إدراك المغيبات عنها واضطرابها في معرفة الحقائق حينما لا تستند إلى النصوص الشرعية وإلى الوحي الإلهي الذي يخرج الله به من يشاء من الظلمات إلى النور لأن السلف يعلمون تمام العلم أن الدين لا يؤخذ إلا من مصدره ومصدره الشرع الشريف وليس العقول ومختلف الآراء القاصرة.
ويعلمون كذلك أنه من الحمق والغباء والضلال البعيد أن يتركوا الطرق الواضحة البينة إلى الطرق المظلمة المحفوفة بالمخاطر.
وأن الطريق الواضح هو ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تاماً كاملاً الذي لا يقبل الله ديناً سواه { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }( (129) المائدة: الآية3129)وقوله : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }( (130) النساء:65130).
ولقد جعلوا هذه الآية هي أساس منهجهم وأبرز صفاتهم فكانوا المثل الأول في التسليم لنصوص الشرع لاعتقادهم أن التسليم هو الطريق الذي فيه النجاة وأنه ثمرة الإيمان الحقيقي لحب الله له والثناء على أهله وقد تواصى السلف بالتزام ذلك قولاً وعملاً وصرحوا به ورغبوا فيه الناس نصحاً منهم لله ولرسوله ولعامة المسلمين لمعرفتهم أنه أساس بناء الإسلام لأن من لم يسلم للشرع أمره سلمه إلى الشيطان والبدع والخرافات وشاق الله ورسوله وخالف سبيل المؤمنين وحال المخالفين أقوى شاهد على ما هم فيه من التخبط والاضطراب والضعف.(159/92)
وهكذا نجد أن منهج أهل السنة في تقرير العقيدة يتمثل في الأمور التالية :
1- التمسك بالكتاب والسنة وعدم التفريق بينهما وتحكيمهما والعمل بهما في كل ما يعرض لهم من قضايا العبادة وغيرها دون رد أو تأويل سواء كانت الأخبار الواردة عن الرسول متواترة أو آحاداً لا فرق فيها بعد صحتها وثبوتها إذ التفريق بينهما إنما هو من سمات أهل البدع.
2- العمل بما ورد عن الصحابة في قضايا العقيدة والدين وغيرهما والسير على نهجهم وسننهم لأنهم أعرف بالحق من غيرهم.
3- الوقوف عند مفاهيم النصوص وفهم دلالاتها وعدم الخوض فيما لا مجال للعقل فيه مع الاستفادة من دلالة العقل في حدوده وعدم الخوض فيها بالتأويلات الباطلة.
4- الإعراض عن البدع وعن أهلها فلا يجالسونهم ولا يسمعون كلامهم ولا شبههم بل يحذرون منهم أشد تحذير خصوصاً من عرف منهم بعناده واتباعه الهوى.
5- لزوم جماعة المسلمين ونبذ التفرق والتحذير منه.
هذا هو منهجهم وكان لهذا المنهج مزايا قيمة من أهمها:
1- أن هذا المنهج هو ما دل عليه كتاب الله تعالى ودلت عليه سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ودل عليه عمل الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
2- أن هذا المنهج الذي ساروا عليه كان من أقوى أسباب بقاء عقيدتهم صافية نقية لا تشوبها شوائب الضلال وهي نعمة من الله عليهم لما علمه من حسن نياتهم وصدق عزائمهم.
أما أدلتهم على وجوب لزوم ذلك المنهج فهو ما نعرض بعضه فيما يلي :
استدلال أهل السنة على وجوب التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويشتمل على مبحثين هما:
1- استدلالهم من القرآن الكريم:
وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على وجوب التمسك بالقرآن الكريم وأنه لا يخرج عنه مؤمن وأن الدين لا يؤخذ إلا منه ومن سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم فمن زاغ عنهما خرج إلى الضلالة وفارق هدى الإسلام ومن تلك الآيات البينات:(159/93)
- قوله تعالى : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }( (131) النساء:65131)..
- وقوله تعالى : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا }( (132) آل عمران: الآية103132).
- وقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }( (133) الأنعام: الآية153133).
- وقوله تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ }( (134) السجدة:22 134). وهذه الآيات واضحة الدلالة على أن الهدى كله في كتاب الله تعالى وفي هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن الواجب على كل مسلم الانقياد والإذعان والتسليم التام دون أي تردد أو شك وذلك لأن كل أمر بان رشده لا يتردد العاقل في قبوله والاعتماد عليه.
2- استدلالهم من السنة النبوية:
وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يحث فيها على وجوب التمسك بكتاب الله تعالى وأن من فارقه فلا حظ له من الإسلام.
قال صلى الله عليه وسلم : " مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر"( (135) البخاري مع الفتح ج9 ص58- 59 ومسلم رقم 797 . 135) .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين"( (136) مسلم 817 . 136).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب"( (137) الترمذي رقم 2914 137) .(159/94)
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مرعوب فقال أطيعوني ما كنت بين أظهركم وعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه( (138) رواه الطبراني في الكبير ورواته الترغيب والترهيب ج 1 ص80 . 138).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال إن هذا القرآن شافع مشفع من اتبعه قاده إلى الجنة ومن تركه أو أعرض عنه (أو كلمة نحوها) زج في قفاه إلى النار. ( (139) الترغيب والترهيب ج1 ص80 وقال المنذري رواه النزار وهكذا موقوفاً على ابن مسعود وروته موقوفاً من حديث جابر وإسناد المرفوع جيد 139)
- وجاء في موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم بغدير خم قوله : "أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" ثم قال : "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي"( (140) أخرجه مسلم في صحيحه رقم الحديث 2408 . 140) وفي رواية أخرى "كتاب الله وسنتي".
- ومن حديث يرويه العرباض بن ساريه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" ( (141) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ج1 ص75 . 141).
- وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن مثلي ومثل ما بعثني به مثل رجل أتى قومه فقال إني رأيت جيشاً بعيني وإني النذير العريان فالنجاة فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبت طائفة منهم فأصبحوا على مكانتهم فصبحهم الجيش واستباحهم فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق"( (142) أخرجه البخاري رقم الحديث 6472 و 7483 ومسلم 2283 . 142) .(159/95)
- وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رغب عن سنتي فليس مني"( (143) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص97ج1 . 143) .
والأحاديث في هذا كثيرة كلها تؤكد وجوب التمسك والعمل بكتاب الله تعالى وأنه هو الصراط المستقيم الذي أوله في الدنيا وآخره في الجنة.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس
أقوال السلف
في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع
كما وردت عن السلف الكرام أقوال كثيرة في الحث على التمسك بكتاب الله تعالى وأن الهدى والخير والفلاح كله في ذلك وأنه يجب على كل المسلمين الرجوع إلى كتاب الله والتمسك به في كل أحوالهم واختلافاتهم كما قال الله سبحانه وتعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }( (144) النساء: الآية59144).
وهذا هو منهج كل من جاء بعد السلف الكرام من التابعين ومن تبعهم من علماء المسلمين وعامتهم وفي كتب شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهما كالطبري وابن كثير وأهل الحديث كالشيخين وغيرهما ممن تزخر بأقوالهم المكتبات الإسلامية في كتبهم من الأقوال والشروحات ما لا مزيد عليه في وجوب التمسك بكتاب الله والعمل به والرجوع إليه.
وعلى هذا "فقد اتفق المسلمون سلفهم وخلفهم من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأئمة والمجتهدين هو الرد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام الناطق بذلك الكتاب العزيز {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنته بعد وفاته وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين"( (145) شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص 596 من الجامع الفريد . 145).(159/96)
- وهم يؤكدون أن الخير كله فيها وأن الشر كله في الابتعاد عنها وفي الابتداع الذي يسببه اتباع الهوى والبعد عن السنة والسير خلف التأويلات الباطلة التي هلك بسببها الكثير ممن جرفتهم التيارات المنحرفة ومن تلك الأقوال.
- قال عبد الله بن مسعود "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"( (146) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص86. . 146).
- وعن معاذ بن جبل من كلام له رضي الله عنه قال : "فإياكم وما ابتدع فإنما ابتدع ضلالة"( (147) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص89 .147) .
- وقال حذيفة اتقوا الله يا معشر القراء خذوا طريق من قبلكم فوالله لئن سبقتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً وإن تركتموه يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً" ( (148) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص90 .148) .
- وعن عبد الله بن مسعود قال يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا يعني الإصبع فإن تركتموهم جاؤوا بالطامة الكبرى وإنه لم يكن أهل كتاب قط إلا كان أول ما يتركون "السنة" وإن آخر ما يتركون الصلاة ولولا أنهم يستحيون لتركوا الصلاة( (149) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص91.149)..
- وعن عبد الله بن الديلمي قال : "إن أول ذهاب الدين ترك السنة يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة" ( (150) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص93.150)
- وعن حسان بن عطية قال: "ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة"( (151) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص93 .151).(159/97)
- وعن عمر بن عبد العزيز قال : " سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله عزّ وجلّ واستكمال لطاعته وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها فمن اقتدى بما سنوا فقد اهتدى ومن استبصر بها بصر ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله عزّ وجلّ ما تولاه وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"( (152) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ج1ص93 .152).
- وأقوالهم في هذا الصدد كثيرة وإنما تلك أمثلة يكتفى بها طالب الحق الحريص على سلامة دينه من غوائل أقوال أهل الباطل الذين يقدمون البدع على السنة ويحلونها محلها ويعتبرونها ديناً يجب اتباعه.
استدلالهم على وجوب العمل بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم:
يعمل السلف بما ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم فإن الصحابة أفقه وأعرف بما يقولون وقد زكاهم الله ورسوله وبذلك تعتبر أقوالهم وأفعالهم سنة يجب العمل بها وخصوصاً الخلفاء الراشدين منهم.
ومما ورد في وجوب العمل بما صح عن الصحابة:
- جاء عن العرباض بن سارية رضي الله عنه من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها عضوا عليها بالنواجذ"( (153) أبو داود 4/200 الترمذي 5/44 . 153).
- وعن خصوص أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جاء قوله صلى الله عليه وسلم :"اقتدوا باللذين من بعدين أبي بكر وعمر" ( (154) أخرجه الترمذي 5/609 . 154)وهذا يدل على مزيد فضلهما ووجوب الاقتداء بهما.(159/98)
وعلى هذا أجمع السلف وهو من أسس عقائدهم وقد مدح الله السلف الكرام من الصحابة ومن سار على نهجهم بقوله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }( (155) التوبة: الآية100155)فهم السابقون الأولون وأصحاب الشرف العظيم في وقوفهم إلى جانب نبيهم في ساعة العسرة وفدائهم له بأموالهم وأنفسهم وهم أول المجاهدين في سبيل الله من هذه الأمة.
وكانت نسبتهم في البداية بالنسبة إلى نسبة الكفار كنسبة الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود فإن الأرض كلها على الشرك وعبادة الأصنام.
فاستعذبوا العذاب في سبيل نشر النور إرضاءاً لله تعالى وقرباً إليه ولا يوجد مسلم على ظهر الأرض إلا وهو مدين للصحابة بالشكر والتقدير على نصرتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فتوحاتهم التي عمت أكثر البقاع في عهودهم المجيدة.
وتلك الحقيقة يعيها كل مسلم إلا من فسدت فطرته وانحرف واتبع هواه كالرافضة الذين ذهبوا يسبونهم ويكفرونهم مضادة للآية الكريمة : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ }( (156) الحشر: الآية10156)ولهذا فقد كان ابن حزم رحمه الله حينما يدحض النصرانية ويثبت لهم تحريف كتابهم يستدلون عليه أن المسلمين أيضاً أثبتوا أن في القرآن تحريفاً وزيادة ونقصاً فيقول لهم لا تحتجوا بكلام الرافضة واحتجوا بكلام المسلمين أو نحو ذلك لمعرفته التامة بأنه لا يمكن أن يقدم مسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً أن يدعي بأن هذا القرآن الموجود بين أيدينا قد تخلى الله عن وعده بحفظه أو أنه سلط عليه من يغيره ويبدله فإن من اعتقد حدوث هذا فقد خرج عن الإسلام إن كان يدعيه وكفر به.
وقوف السلف عند حدود النص(159/99)
أما بالنسبة لوقوف السلف عند حدود النص وعدم الخوض فيما لا مجال للعقل فيه فهذا دليل من أقوى الأدلة على عمق فهمهم وقوة ذكائهم وحرصهم على ما ينفعهم في دينهم به يظهر صدق متابعتهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام وحرصهم على إقامة سنته والبعد عن ما يكدرها فقد علموا أن العقل من أكبر نعم الله على عباده وأن الله جعله عوناً لصاحبه وربط الله به كثيراً من القضايا ونوّه به وبعلو شأنه ولكن السلف مع هذا يعلمون علم اليقين أن العقل له حد ينتهي إليه فإذا تجاوزه انقلب إلى الجهل والحمق سنة الله في خلقه وإن تكلف الأمور التي لا سبيل لمعرفتها إلا عن طريق النص يعتبر تعدياً وظلماً وقد يجر إلى القول على الله بغير علم والكذب عليه مع أنهم ليسوا في حاجة إلى ذلك فإن السنة واضحة ونهج من سبقهم فيها واضح وقد يجر كذلك إلى إحداث البدع وهو الأمر الذي ينفر منه السلف أشد نفور ويحذرون منه أشد تحذير فطالما جر عدم الوقوف عند النصوص إلى إحداث البدع والخرافات بل وإماتة كثير من السنن كما هو الحال عند أصحاب الأهواء وعباد العقول وتقديمهم لها على النصوص وكم من الفظائع والمآسي ارتكبت بسبب عدم فهم النصوص كما يحدثنا عنها التاريخ بل وإن تكفير أهل البدع بعضهم بعضاً ودليلهم واحد لهو أقوى الأدلة على مضار عدم فهم النصوص إذ إنه لا يوجد أي نص يؤدي إلى تكفير العاملين به بعضهم بعضاً وهو أمر معروف بداهة.
إعراض السلف عن أهل البدع
أما إعراضهم عن أهل البدع وعن مخالطتهم فقد أصبح أمراً معلوماً بالضرورة عند أهل السنة فقد حذروا من مجالسة أهل البدع والاستماع إليهم لعلمهم أن أصحاب البدع يوردون شبهات يضللون بها العامة قال تعالى : {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } ( (157) الأنعام: الآية68157).(159/100)
وقال تعالى : {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ }( (158) النساء: من الآية140158).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث : "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"( (159) من حديث أخرجه أبو داود 4/ 200 . 159).
وفي رواية : "وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"( (160) مسلم 867 كتاب الجمعة ج 2 ص 592 ا160).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"( (161) البخاري كتاب الصلح مع الفتح ج5 ص301 ومسلم كتاب الأقضية ج3 ص 343 .161) وقال صلى الله عليه وسلم : "من رغب عن سنتي فليس مني"( (162) باب نقض الأحكام الباطلة ةرد محدثات الأمور المسند ج2 ص 158 . 162).
وهذه الآيات والأحاديث كلها تدل على وجوب الإعراض عن المبتدعين وعن أقوالهم وما يحدثونه في دينهم بأهوائهم التي يقدمونها على السنة ومن هنا كانت نفرة أهل السنة عن أهل البدع اتباعاً لأمر الله وأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ونصحاً لأنفسهم ولغيرهم.
وقد أكد السلف التحذير من أهل البدع ووجوب البعد عنهم.
- قال ابن مسعود رضي الله عنه : "وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق"( (163) البدع والنهي عنها لابن وضاح ص59 . 163).(159/101)
- عن مجاهد قال قيل لابن عمر : "إن نجده يقول كذا وكذا فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء"( (164) انظر شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ص128 . 164). وعن تحذيرهم من سماع كلام القدرية جاء عن أبي أمامة الباهلي قال : "ما كان شرك قط إلا كان بدؤه تكذيب بالقدر ولا أشركت أمة قط إلا بدؤه تكذيب بالقدر وإنكم ستبلون بهم أيتها الأمة فإن لقيتموهم فلا تمكنوهم من المسألة فيدخلوا عليكم الشبهات"( (165) انظر شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ص128 .165).
- وعن تحذيرهم من الدخول في الخصومات مع أهل الأهواء جاء رجل إلى الحسن البصري فقال : "يا أبا سعيد إني أريد أن أخاصمك. فقال الحسن: إليك عني فإني قد عرفت ديني إنما يخاصمك الشاك في دينه"( (166) اللالكائي 1/128 . 166).
- وعن بغض أهل الأهواء وحب الابتعاد عنهم قال أبو الجوزاء : "لئن يجاورني قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني أحد منهم"( (167) ابن سعد في الطبقات 7/224 . 167). يعني أهل الأهواء.
- وكان الحسن يقول :"لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم"( (168) اللالكائي ص133 . 168) .
وكان ابن طاوس جالساً فجاء رجل من المعتزلة قال فجعل يتكلم قال فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه وقال لابنه أي بني أدخل إصبعيك في أذنيك واشدد ولا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر راوي الخبر يعني أن القلب ضعيف ( (169) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ج1 ص135 .169).
وروى الدارمي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال : "إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة"( (170) أخرجه اللالكائي ص135 . 170) .
وكان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء ويقول : "أحدهم إذا خالف صاحبه قال كفرت والعلم فيه أنما يقول أخطأت"( (171) أخرجه اللالكائي ج1 ص146.171).(159/102)
وقال علي بن المديني : "من قال فلان مشبه علمنا أنه جهمي ومن قال فلان مجبر علمنا أنه قدري ومن قال فلان ناصبي علمنا أنه رافضي"( (172) شرح السنة اللالكائي ج1 ص 147 . 172) .
وقد رويت عن السلف من النصوص الكثيرة ما لا يحتمل المقام ذكرها هنا وكلها تهدف إلى أمر واحد هو اجتناب أهل البدع والتحذير منهم امتثالاً لقول الله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }( (173) سورة الأنعام :68 . 173).
وقوله تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا }( (174) سورة النساء : 140 . 174) .
وفي عدم مجالستهم حماية للعقيدة وحماية لقلوبهم لئلا تميل إلى شيء من شبهات أهل الباطل وحتى لا تنتشر أفكارهم بين الناس وفيه كذلك قيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أهل البدع إن لم يجدوا من يرد عليهم تمادوا في باطلهم وضعف في نفوس الناس الإحساس بوجوب تغيير المنكر بل يستمرئون بعد ذلك وقد يعترض البعض فيقول إن مجالستهم ومناظرتهم فيها إقامة للحجة عليهم ودعوة لهم للرجوع أو يقول قد ناظر بعض السلف أهل الباطل كما فعل ابن عباس مع الخوارج وعمر بن عبد العزيز معهم أيضاً والمناظرة المشهورة لعبد العزيز الكناني مع بشر المريسي وغير ذلك والجواب والله أعلم أن مناظرة السلف لأهل البدع تعتبر بالجملة قليلة ولا يناظرونهم إلا إذا رأوا أن المصلحة تقتضي ذلك وفي مجامع عامة وعلنية.(159/103)
وهي أيضاً لا تكون إلا مع من يرجى منه الرجوع أما المعاندين منهم المصرين على بدعهم الداعين إليهم فإنهم كانوا يحذرونهم ويحذرون منهم وهذا من باب الحزم وإنكار المنكر والبعد عن الشر قبل الوقوع فيه فإن مجالسة أهل البدع والاستماع لكلامهم قد يجذب الشخص إليهم وقد يتشوش فكره بكلامهم فإذا حسم الشر من أوله كان أضمن لسلامته ومن هنا فإنه يجب الحذر من قراءة كتب المخالفين والاستماع لخطبهم وكلامهم قبل أن يحصن الشخص نفسه بالقراءة عنهم ومرد شبهاتهم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : "أن من وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه"( (174) رواه البخاري مع الفتح 1/126 ومسلم 3/219 . 174) .
* * * * * * * * * * * * *
الفصل السابع
لزوم السلف جماعة المسلمين
وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك
أما لزومهم جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق فهذا أحد الأسس التي قامت عليها عقيدتهم امتثالاً لأمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقد استفاضت الأدلة من كتاب الله عزّ وجلّ ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم على وجوب لزوم الجماعة والحذر من التفرق وما يؤدي إليه مهما كان نوعه.
وفي كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يوضح ويؤكد هذا الجانب بمزيد من العناية والبيان .
1- الأدلة من كتاب الله تعالى :
- قال الله تعالى : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ }( (175) سورة آل عمران : 103 . 175) .
- وقال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ( (176) سورة الأنعام : 159 . 176).
- وقال الله تعالى:{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ( (177) سورة آل عمران : 105.177).(159/104)
- قال الله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ }( (178) سورة الأنعام : 153 .178).
وهذه الآيات وغيرها مما جاء في معناها واضحة الدلالة والمراد وكلها تهدف إلى منع التفرق في الآراء والمعتقدات التي لا يتصف بها قوم إلا كانوا في طريقهم إلى الفضل رغم وضوح هذه الأدلة ورغم حاجة الأمة الإسلامية إلى العمل بمفهوم هذه الآيات البينات إلا أن المسلمين في عصرنا هذا لم يستفيدوا منها بل كان بعضهم قريباً من حال الذين أخبر الله عنهم أنهم ازدادوا بمجيء البينات اختلافاً وفرقة وبعداً عن منهج الله تعالى. قال تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ }( (179) سورة البينة :4 . 179) . فما أكثر ما يجتمع المسلمون في شكل مؤتمرات وندوات ولقاءات ويكون شعارهم هو العمل بهذه الآية : { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } ولكنهم يخرجون وهم على أشد ما يكونون من الاختلاف والتنافر وما أكثر ما يقرأ المسلمون هذه النصيحة الإلهية:{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ }.
وما أكثر ما يقرؤون غيرها من الآيات ولكن لماذا لم يستفيدوا منها؟(159/105)
والجواب : أنهم حينما يجتمعون يكون كل فريق وحزب في غاية الإصرار على أن حبل الله الذي يجب التمسك به هو ما هو عليه وحزبه ويجب على الآخرين الانضواء تحت رايتهم والسير على نهجهم وكل يرى نفس هذا الرأي وبالتالي يكون اجتماعهم لتعميق هذه الفرقة فلا يستفيدون من تلاوة هذه الآيات شيئاً لعدم إخضاع رغباتهم وأهوائهم لتحكيمها ولعدم رضاهم بالرجوع إلى الحق الذي هدى الله إليه سلف هذه الأمة وصلح عليه أمرهم وما دام كل حزب وكل فرقة تستدل بالآيات على أن الآخرين مفارقين للحق وأن الحق هو بأيديهم فقط وما داموا كذلك فلا أمل في عودة الوحدة الإسلامية . ومن عجيب أمر أهل الأهواء أن البينات التي تفصل النزاعات أصبحت هي بمفاهيم هؤلاء البدعية مصدر الاختلاف والنزاع بسبب عدم التسليم لمفهومها الصحيح وإلا فهي ليست كذلك وحبل الله وصراطه المستقيم واحد لا تعدد فيه { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فكيف يتعدد الحق وكيف تصبح كل تلك الفرق والطوائف المبتعدة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعن سبيل المؤمنين كيف يصبحون كلهم على حق.
2- الأدلة من السنة النبوية
وكما تعددت الأدلة من كتاب الله تعالى على النهي عن التفرق وعلى وجوب التمسك بالجماعة تعددت الأدلة كذلك من السنة النبوية على هذا الجانب الهام في العقيدة الإسلامية.
ومما ورد في ذلك:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يرضى لكم ثلاثاً أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم" ( (180) أخرجه مسلم ج3 ص1340 . 180).(159/106)
2- عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر قال نعم قلت وهل بعد هذا الشر من خير قال نعم وفيه دخن قلت وما دخنه قال قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر قلت فهل بعد الخير من شر قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت فما تأمرني إن أدركني ذلك قال تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك( (181) البخاري في كتاب المناقب باب علامات النبوة الفتح ج6 ص 615 ورواه مسلم . 181).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية .. الحديث( (182) أخرجه مسلم ج3 ص1476. 182) .
- وعن عرفجة بن شريح الأشجعي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان" ( (183) مسلم في كتاب الإمارة باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع ج1 ص 1479 . 183).
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمارق من الدين التارك للجماعة"( (184) البخاري كتاب الديات الفتح ج12 ص 201 وأخرجه مسلم أيضاً . 184).(159/107)
- وهذه الأحاديث وغيرها مما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها تؤكد على وجوب لزوم الجماعة والتحذير من التفرق ولو تمسك بها المسلمون وحققوها لكانوا على الخير الذي مضى عليه السلف الكرام من الصحابة ومن تبعهم بإحسان ولعاد للمسلمين سؤددهم وكرامتهم التي فقدت في عصرنا الحاضر بسبب التفرق وعدم الإذعان لتعاليم الشريعة السمحاء ومع ذلك لا يزال الخير إن شاء الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة ما داموا متمسكين بالحق قولاً وعملاً والله تعالى يقول : { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }( (185) سورة الرعد :11 . 185) .
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن
الثناء على السلف رحمهم الله تعالى
1- الثناء على الصحابة الكرام من كتاب الله تعالى :
أثنى الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم وأثنى رسوله صلى الله عليه وسلم على الصحابة الكرام وأن لهم محاسن وفضائل لا يمكن أن يلحقهم فيها من جاء بعدهم فهم خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين وزمنهم أفضل الأزمان ورضي الله عنهم فوق كل اعتبار لا ينتقصهم إلا ضال منافق لا يعرف الإسلام وكلهم عدول.
وينقسمون إلى قسمين إلى مهاجرين وإلى أنصار رضي الله عنهم جميعاً هذا هو تقسيم أهل الحق لهم أما غيرهم من أهل الباطل فيقسمونهم إلى قسمين مرتدين وهم سائر الصحابة وغير مرتدين وهم عدد لا يتجاوز أصابع اليد.
- ومن ثناء الله سبحانه وتعالى على الصحابة في كتابه العزيز .
قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }( (186) سورة التوبة :100 186) .(159/108)
- و قوله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا }( (187) سورة الفتح :29 . 187) .
- وقوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } ( (188) سورة الفتح :18. 188).
- وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ }( (189) سورة الأنفال : 72 . 189).
- وقوله تعالى : {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ( (190) سورة الحديد : 10 . 190).
- وقوله تعالى : { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }( (191) سورة الحشر : 8- 10 . 191) .(159/109)
وهذه الآيات الكريمات كلها تدل على فضل الصحابة رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار ومن السابقين إلى الإسلام قبل الفتح ومن جاء بعدهم على طريقتهم مع تفضيل السابقين بمزيد فضل – وكلهم على فضل – وفيها بيان ما أعد الله لهم من ثواب ونعيم في الآخرة وبيان ما امتازوا به من الشدة على الكفار والرحمة فيما بينهم بل أن شدتهم هي في حقيقتها رحمة بالكفار لكي يدخلوا في الإسلام ويخرجوا من الظلمات إلى النور وهي صفات عظيمة المسلمون اليوم في أحوج ما يكونون للإنصاف بها بعد أن انعكس الأمر لدى الكثير منهم حيث صاروا أشداء فيما بينهم رحماء مع مخالفيهم وقد أخبر سبحانه عن رضاه عن الصحابة جميعاً وبالأخص أصحاب بيعة الرضوان وأثنى على الأنصار وبين صفتهم التي لا يصل إليها إلا الموفق في الكرم والإيثار.
وبين أن فريقاً من المؤمنين جاؤوا من بعدهم دائماً يتوسلون إلى الله تعالى أن يغفر لهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان وهي صفة عظيمة تدل على فطر سليمة ونفوس طاهرة وقد اتصف السلف بهذه الصفة الطيبة وحققوها في أكمل صورها كما اتصف مبغضوهم بعكسها تماماً فقد ظهر حثالة البشر من الرافضة النواصب والخوارج وسائر من ألحد وخرج عن هدى السلف ظهر هؤلاء يسبون الصحابة ويفترون عليهم وعلى سائر السلف مما يدل على أنهم ليسوا على طريق هؤلاء الكرام الذي يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وبدلاً من قيامهم بهذا الواجب من الاستغفار لهم ذهبوا يكيلون التهم ويدعون عليهم ويستهزئون بهم محاده لله تعالى وهذه دلالة قاطعة على جهل هؤلاء بسيرة السلف الصالح بل وبأمر الله تعالى في هذا.
2- ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم :(159/110)
أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم ثناءًا عاطراً على الصحابة الكرام ويكفيهم فخراً أنه كان راضياً عنهم محباً لأخلاقهم خصوصاً أولئك الذين نصروه في ساعة العسرة باذلين أموالهم وأنفسهم وأولادهم حباً فيه وفي رفع هذا الدين العظيم حتى أتم الله لهم ودخل الناس في دين الله أفواجاً فلهم الفضل بعد الله على سائر البشر وسائر الناس مدينون لهم بالشكر والتقدير إذ لولا فضل الله ثم قيام أولئك بنصرة الإسلام لما وصل إلى ما وصل إليه ولهذا فكل منتسب إلى الإسلام مدين لهم بالشكر والتقدير ومن ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم:
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه"( (192) أخرجه البخاري ج7 ص 21 ومسلم ج 4 ص 1967 . 192) وذلك لامتياز عبد الرحمن بن عوف بالأسبقية إلى الإسلام وتأخر خالد إلى ما بعد بيعة الرضوان فإن حال الذين أسلموا بعد الحديبية وإن كان قبل فتح مكة لكنهم ليسوا على درجة من سبقهم في الفضل وفي مضاعفة الحسنات لهم فإن نصف مد منهم أجره أعظم من أجر من تصدق بمثل أحد ذهباً لو حصل ذلك فكيف بحال من ظهر في قرون الشر وصار ينتقص كل أولئك الصحابة.
- وورد في الصحيحين عن عمران بن حصين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة( (193) أخرجه البخاري ج5 ص 258 ومسلم ج 4 ص 1963 .193) .
- وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها ( (194) مسلم ج4 ص 1942 . 194).(159/111)
- وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن أذاني فقد أذى الله تعالى ومن آذى الله تعالى فيوشك أن يأخذه"( (195) سنن الترمذي ج5 ص 696 وقد ضعفه الألباني انظر تعليقه على الطحاوي ص 471 وأحال إلى سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 2901 . 195) .
كما أثنى الله تعالى وأثنى رسوله صلى الله عليه وسلم على بعض الصحابة بخصوصهم مثل أبي بكر وعمر وعلي وعثمان وابن مسعود وأبو عبيدة وأبو ذر ومعاذ بن جبل وغيرهم ممن صحت فيه النصوص.
وأجمع علماء الإسلام على عدالتهم وفضلهم والمفاضلة بينهم من دون انتقاص أحد منهم وإنما هو تفضيل كتفضيل بعض الأعضاء على البعض الآخر منها وتلك المفاضلة بين الصحابة تعود إلى الأسبقية في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الإيمان والبذل في سبيل الله إرضاء الله ثم لنبيه الكريم في الدفاع عنه وعن ما جاء به من الحق وإذا كان هذا حال الصحابة فما هو حال من لا يساوي شيئاً بالنسبة لهم.
3- ثناء السلف عليهم :
- وبهذا المعنى ورد أنه قيل لعائشة رضي الله عنها أن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر( (196) انظر الطحاوية ص 530 . 196) .
- وعن ابن عباس أنه قال لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة وفي رواية وكيع : "خير من عبادة أحدكم عمره"( (197) أخرجه أحمد ج2 ص 907 . 197) .(159/112)
- وقد وصفهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله:"إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيئ" ( (198) انظر الطحاوية ص 432 .198) .
- وفي رواية عنه أنه قال:" من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"( (199) المصدر السابق . 199) .
الفصل التاسع
جهودهم في خدمة الإسلام
تنوعت جهود السلف في خدمة الإسلام وأهمها :
1- جهودهم الحربية.
2- جهودهم في بيان العقيدة الإسلامية.
أما جهودهم الحربية فإن التاريخ مليء بذكرها غني بأحداثها لا يجهل أي مسلم ذلك ابتداءاً بجهودهم الحربية بين يدي نبيهم صلى الله عليه وسلم في معارك عديدة كبدر وأحد والخندق وسائر الغزوات التي خاضوا غمارها لا يطلبون منها إلا رضى ربهم ونبيهم ولم ينتقل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه إلا وقد قرت عينه وانشرح صدره ومات وهو عنهم راض.
ولم تنقطع المعارك الحربية والفتوحات بوفاته صلى الله عليه وسلم بل اشتدت وتعددت على يد خلفائه الميامين ابتداءاً بأبي بكر رضي الله عنه وما قام به من جهود عظيمة في محاربة المرتدين ومن بعدهم من الكفار وجعل الله في أيامه خيراً عظيماً ونفعاً بليغاً أعاد الجزيرة إلى دولة إسلامية واحدة ثم انتقل إلى البلاد الأخرى يفتحها البلد تلو البلد.(159/113)
وبعد وفاته وانتقال الخلافة إلى عمر رضي الله عنه ازدادت رقعة الدولة الإسلامية وأوصلها بجهوده بعد نصر الله إلى ما يسمى في عصرنا الحاضر بالامبراطورية وكذا في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه ثم تتابعة الفتوحات على يد معاوية رضي الله عنه وبلغت الدولة الإسلامية قمة مجدها وازدهارها وجاءت الدولة العباسية وسلكت نفس الاتجاه إلى أن جاءت أيضاً الدولة العثمانية وكانت لها جهود رائعة في انتشار الإسلام ونشره وكان علماء السلف هم المحركون لتلك الأحداث بخطبهم الحماسية وإثارة روح التضحية في سبيل الله تعالى بل والمشاركة الجادة في خوض المعارك ولا يغيب عن ذهن القارئ ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره في وقوفهم ضد التتار وانتصارهم عليهم فحفظ الله بهم الدين لما ادخره لهم من جزيل الأجر والثواب.
2- جهودهم في خدمة العقيدة:
ولا ريب أن العقيدة الإسلامية صافية نقية محجة بيضاء ولهذا ما إن ظهرت البدع والفتن التي أراد أهلها – بسوء نية – التشويش على صفاتها وطمس نورها إلا ووقف السلف بكل حزم وشجاعة ويقين لردها والإنكار عليها وعلى أهلها لا تأخذهم في الله لومة لائم فحفظ الله بهم الدين وأتم بهم النعمة ولولا فضل الله ثم تلك الجهود التي بذلوها لاختلط الحق بالباطل وقال من شاء في الدين بما شاء ولانتشرت البدع والخرافات الباطلة إلى أن يصبح المسلمون في دينهم كما أصبح عليه من قبلهم ولكن الله لم يرض بهذا فقد تكفل بحفظ دينه الذي ارتضاه إلى يوم القيامة وسخر له رجالاً خدموه يبتغون فضل الله ورضوانه ما كانت تأخذهم في الله لومة لائم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.(159/114)
فقد كان السلف من الرعيل الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . أخلص الناس وأشدهم حفاظاً على شعائر الإسلام كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم يتناصحون ويرشدون لا يقر لأحدهم قرار إذا رأى منكراً أو بدعة من قريب أو من بعيد لا يداهنون أحداً ولا يرهبون إلا ربهم.
ولو بدأنا التعرف على جهودهم في زمن الخليفة الراشد أبي بكر رضي الله عنه لرأينا مدى اهتمامه بالحفاظ على العقيدة الإسلامية صافية نقية وما محاربته لأهل الردة وإرجاعهم إلى الدين إلا مظهر من مظاهر اهتمامه بخدمة العقيدة بل وما كانت هجرته إلى المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أحد الشواهد على ذلك فلقد ترك المال والبنين والأهل والأحبة ليفر إلى البلد الذي يأمن فيه على عقيدته وما إنفاقه في سبيل الله وإعتاقه الرقاب إلا لوجه الله وخدمة عقيدته الحنيفية ولقد أسلم على يده أفذاذ كانوا مفخرة الإسلام والمسلمين ويطول الشرح لو أردنا استقصاء أعماله التي قدمها مبتغياً بها وجه الله وخدمة دينه.
وكذلك الحال مع الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي اقض مضاجع أعداء الإسلام وأعلى الله به كلمة الحق وظهر المسلمون على أعدائهم ودخل الناس في دين الله أفواجاً وكانت درته سيفاً مسلطاً على رقاب أهل البدع وكانت سيرته العطرة وأخباره المشرقة مثار دهشة وإعجاب العالم أجمع كان شديداً في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم شديد على أهل البدع يضربهم بالدرة مؤدباً لرعيته بأقواله وأفعاله. دخل عليه شاب طويل الثوب وعمر يجود بنفسه فسلم عليه فلما خرج ناداه عمر فرجع إليه الشاب فقال له يا بني أقصر من ثوبك فإنه أنقى لثوبك واتقى لربك أو كلاماً نحو هذا ولم يشغله ما هو فيه من سكرات الموت حتى عن التنبيه على هذه المسألة فما الظن بغيرها؟(159/115)
وقد ضرب رجلاً اسمه صبيغ حتى أدمى رأسه لأنه كان مغرماً بالسؤال عن المتشابهات وهدد أبا موسى الأشعري حين استأذن ثلاثاً وانصرف قائلاً له لماذا استأذنت ثلاثاً وانصرفت فقال له هكذا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وكان أبو موسى صادقاً وعمر يعرفه بالصدق ولكنه أراد أن يحد ويؤدب من عسى أن تسول له نفسه التقول على الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له هات شاهداً وإلا فعلت وفعلت بك وكان مهاباً رغم تواضعه الجم تهابه الناس وتهابه الشياطين كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يسلك وادياً أو فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً آخر وأخباره لا تستقصيها هذه العجالة رضي الله عنه.
وبعد وفاته واستشهاده خلفه عثمان رضي الله عنه فأبلى في الإسلام وفي خدمته وفي الفتوحات ونشر الإسلام وخدمة العقيدة الحنيفية ما طفحت به المراجع التاريخية.
ومن أجل خدماته للإسلام كرمه الواسع ابتغاء مرضات الله تعالى وإنفاقه الذي فاق التصور ثم فتوحاته ونشر الإسلام ولا ينسى القارئ أجل خدمة قام بها عثمان في شأن كتاب الله تعالى إلى أن استشهد على يد البغاة عاقبهم الله بما يستحقون.
ثم خلفه علي رضي الله عنه على نفس الأهداف في خدمة الدين ورفع رايته ومحاربة أهل الكفر وأهل البدع بأقواله وأفعاله حتى لقي ربه ثم جاءت الدولة الأموية وكان لأول ملوكهم معاوية رضي الله عنه وهو من خير البشر بعد الأنبياء والمرسلين خدماته الجليلة للإسلام والمسلمين فقد فُُتحت البلدان الكثيرة في عهده وعهد خلفائه وانتشر الإسلام انتشاراً واسعاً وكان رضي الله عنه محارباً لكل محدث في الدين حماية للعقيدة الإسلامية أن تدنس بالشبهات.
ونبغ في عهد الدولة الأموية ثم العباسية علماء أجلاء خدموا الدين وقدموا أنفسهم في سبيل الحفاظ على صفائه ونقائه.(159/116)
ولم يخل عهد من العهود إلا وفيه جهابذة من علماء السنة ومن المحافظين على بقاء ونقاء الإسلام إلى يومنا الحاضر ولله الحمد فلا ننسى تلك المواقف المشرفة لعلماء السلف في خدمة الدين الإسلامي. أمثال الإمام المبجل إمام أهل السنة أحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى أن جاء في العهد القريب الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي جدد الله به كثيراً من السنن التي كادت أن تندثر وأذل به كثيراً من أهل البدع التي انتشرت وأخذت حيزاً واسعاً في عقول المسلمين ويطول جداً ذكر علماء السنة وذكر جهودهم في خدمة العقيدة فقد كُتبت المطولات العديدة في هذا الشأن ومن الصعوبة حصرها جميعاً أو حصر جهود مؤلفيها في وقفاتهم التي أصبحت نموذجاً يحتذى به ومشعلاً يستضاء به تلك الجهود التي قمع بها فتن المارقين أصحاب البدع ومختلف الفرق من جهمية ومعتزلة أشعرية و ما تريدية وخوارج ومرجئة من بدء ظهورهم إلى يومنا الحاضر فأدوا الأمانة الملقاة على عواتقهم وابرؤوا ذممهم ونصحوا الأمة فحذروا وبينوا وألفوا الكتب والمقالات وكم لهم من محاضرات ومناظرات دحضوا فيها شبه الضالين وأقاموا الحجة على كل السامعين فانقلبوا بنعمة من الله تعالى وما هذه المؤلفات العديدة التي تزخر بها المكتبات الإسلامية إلا ثمرة من ثمار جهودهم وأقوى الشواهد على بلائهم.
بيان مجمل اعتقادات السلف في سائر أبواب الاعتقاد
لقد تميزت عقيدة السلف بقيامها على الكتاب والسنة في كل جزئية منها فكانت تلك العقيدة هي المحجة البيضاء التي تركنا عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم سهلة في تطبيقها واضحة في دلالاتها لا يزيغ عنها إلا المبتدعون أصحاب الأهواء الباطلة والاتجاهات الفاسدة.
ومما أود التنبيه عليه أن عقيدة السلف قد دونها العلماء بمؤلفات كثيرة بل كتبوا في كل جزئية مجلدات ضخمة كما سبق بيانه.(159/117)
ولذلك فمن غير السهولة أن أذكرها هنا مفصلة وإنما أكتفي بذكرها على طريق الإجمال والإيجاز بحيث يكفي المستعجل فينال بغيته في التعرف على عقيدة السلف إن لم يتمكن من الاطلاع عليها بالتفصيل في مراجعها.
وقد عبر عن ذلك الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة عن أصول الديانة) بعد أن رجع إلى مذهب السلف ودان الله به كما عبر عنه أيضاً في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) ففي كتابه (الإبانة) قال رحمه الله تعالى: فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عزّ وجلّ، وبسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين.(159/118)
وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نريد من ذلك شيئاً وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال:{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }( (200) سورة طه : 5 200)وأن له وجهاً بلا كيف كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}( (201) سورة الرحمن : 27 . 201) وأن له يدين بلا كيف، كما قال:{ خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }( (202) سورة ص : 75 . 202) . وكما قال:{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }( (203) سورة المائدة : 64 . 203) وأن له عيناً بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }( (204) سورة القمر : 14 . 204) وأن من زعم أن أسماء الله غيرة كان ضالاً وأن لله علماً كما قال:{ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ }( (205) سورة النساء : 166 . 205).
وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}( (206) سورة فاطر : 11 . 206). ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونثبت أن لله قوة كما قال: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}( (207) سورة فصلت : 15 . 207) نقول : إن كلام الله غير مخلوق وإنه لم يخلق شيئاً إلا وقد قال له : كن فيكون، كما قال : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}( (208) سورة النحل : 40 . 208) .(159/119)
وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عزّ وجلّ وأن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله( (209) أي قبل أن يريد الله ويمكنه من الفعل . 209) .
ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله عزّ وجلّ وأنه لا خالق إلا الله( (210) هذا هو تحقيق الاعتقاد بتوحيد الربوبية . 210) وأن أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة، كما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }( (211) سورة الصافات : 96 . 211)وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون، كما قال: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}( (212) سورة فاطر : 3 . 212) وكما قال: { لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}( (213) سورة النحل : 20 . 213) وكما قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ}( (214) سورة النحل : 17 214)، وكما قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}( (215) سورة الطور : 35 . 215). وهذا في كتاب الله كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر إليهم، وأصلحهم، وهداهم، وأضل الكافرين، ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تبارك وتعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}( (216) سورة الأعراف : 178 . 216) وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وأنه خذلهم وطبع على قلوبهم( (217) ولو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم كما ورد النص بذلك . 217) وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وأنّا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم(159/120)
ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله وأنا نلجأ في أمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر –وندين بأن الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة كما قال الله عزّ وجلّ: {كلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}( (218) سورة المطففين : 15 . 218)وأن موسى عليه السلام سأل الله عزّ وجلّ الرؤية في الدنيا، وأن الله تعالى تجلى للجبل، فجعله دكاً، فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا، ونرى بأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب( (219) يرى بعض العلماء ومنهم ابن أبي العز أن الأنسب أن يقال لا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب . 219) يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلاً لها غير معتقد لتحريمها كان كافراً.
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً. وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب: ((وأن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ ( (220) رواه مسلم في القدر ج5 ص 509 و أحمد ج 2 ص 173 وص 168 . 220)، وأنه سبحانه يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع))( (221) أخرجه البخاري ج 13 ص 393 ومسلم ج5 ص 654 . 221).
كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف. وندين بأن لا ننزل أحداً من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنةً ولا ناراً إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجوا الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.(159/121)
ونقول: إن الله عزّ وجلّ يخرج قوماً من النار بشفاعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقاً لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وإن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق وأن الله عزّ وجلّ يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بحب السلف الذين اختارهم الله عزّ وجلّ لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونثني عليهم بما أثنى به عليهم، ونتولاهم أجمعين ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأن الذين قتلوه قتلوه ظلماً وعدواناً، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم. وندين الله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم.(159/122)
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن ((الرب عزّ وجلّ يقول: هل من سائل، هل من مستغفر))( (222) رواه مسلم ج2 ص 408 وأبو داود في سننه ج 2 ص 536 . 222) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا تبارك وتعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، وما كان في معناه. ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول: إن الله عزّ وجلّ يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وأن الله عزّ وجلّ يقرب من عباده كيف شاء كما قال: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}وكما قال:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وفاجر، كما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافاً لقوله من أنكر ذلك. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بإنكار الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال( (223) البخاري ج13 ص 90 ومسلم ج5 ص 780 . 223) كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما المدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج( (224) البخاري ج13 ص 478 ومسلم ج1 ص 246 .224) ونصحح كثيراً من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيراً ونرى الصدقة عن موتى المسلمين، والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحراً وسحرة، وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان.(159/123)
وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله عزّ وجلّ يرزقها عباده حلالاً وحراماً وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافاً لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ }( (225) سورة البقرة : 175 . 225) وكما قال:{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}( (226) سورة الناس : 4-6 . 226) ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عزّ وجلّ بآيات يظهرها عليهم وقولنا في أطفال المشركين (إن الله يؤجج لهم في الآخرة ناراً، ثم يقول لهم اقتحموها) كما جاءت بذلك الرواية( (227) اختلف العلماء في مصير الأطفال في الآخرة فبعضهم يرى أنهم يمتحنون بطاعة رسول يرسله لهم ويطلب منهم أن يدخلوا النار فمن دخلها كانت عليه جنة ومن أبى عذب في النار وفيها غير ذلك من الأقوال والله أعلم . 227)، وندين الله عزّ وجلّ بأنه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعته ومجانبة أهل الأهواء: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه مما لم نذكره باباً باباً وشيئاً شيئاً إن شاء الله تعالى.
ونجد الأشعري قد أكد أيضاً تلك الأمور في كتابه: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) وفي بيانه لاعتقاد أصحاب الحديث.
وقد رغبت أن أثبتها كما جاءت في الكتاب القيم تتميماً للفائدة وتأكيداً لكلامه في الإبانة وأن مصدر هذين الكتابين هو الأشعري رحمه الله تعالى.
هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة( (228) انظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ج 2 ص 345 . 228):(159/124)
جملة ما عليه أهل الحديث والسنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئاً، وأن الله –سبحانه- إله واحد فرد صمد، لا إله غيره، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وأن الله –سبحانه- على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}( (229) سورة طه : 5 229) وأنه له يدين بلا كيف، كما قال: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }( (230) سورة ص : 75 . 230)، كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }( (231) سورة المائدة : 64 . 231) وأنه له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }( (232) سورة القمر : 14 . 232) وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}( (233) سورة الرحمن : 27 . 233).
وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله؛ كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله –سبحانه- علماً كما قال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}( (234) سورة النساء : 166 . 234)وكما قال:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}( (235) سورة فاطر : 35 . 235) وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً }( (236) سورة فصلت : 15 . 236) وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر، إلا ما شاء الله، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال عزّ وجلّ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}( (237) سورة التكوير : 29 . 237) وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون.(159/125)
وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله، أو أن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله.
وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجلّ، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً.
وأن الله وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف بالمؤمنين، ونظر لهم، وأصلحهم، وهداهم، ولم يلطف بالكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين.
وأن الله –سبحانه- يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن لا يصلح الكافرين، ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم، وأضلهم وطبع على قلوبهم.
وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خير وشره حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، إلا ما شاء الله كما قال، ويُلجئون أمرهم إلى الله –سبحانه- ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال.
ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق.
ويقولون: إن الله –سبحانه- يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله عزّ وجلّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وإن موسى –عليه السلام- سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وإن الله –سبحانه تجلى للجبل، فجعله دكاً، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة.(159/126)
ولا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنا والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر، وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإنما ارتكبوا الكبائر والإيمان –عندهم- هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالقدر خير وشره، حلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطأهم. والإسلام هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، على ما جاء في الحديث، والإٍسلام عندهم غير الإيمان. ويقرون بأن الله –سبحانه- مقلب القلوب.
ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، والمحاسبة من الله عزّ وجلّ للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون الله –سبحانه- ينزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله –سبحانه- يخرج قوماً من الموحدين من النار، على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينكرون الجدل، والمراء في الدين، والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، وينازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، لما جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عدلاً عن عدل، حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون: كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة.(159/127)
ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرض بالشر، وإن كان مريداً له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله –سبحانه - لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً رضوان الله عليهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم .
ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الله –سبحانه- ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله عزّ وجلّ: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النساء:59] .
ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وألا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله.
ويقرون أن الله –سبحانه- يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}[الفجر:22]، وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ ق:16].
ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام، بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر.
ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – إلى آخر عصابة تقاتل الدجال، وبعد ذلك.
ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وألا يخرجوا عليهم بالسيف، وألا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى ابن مريم يقتله.
ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم.
ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر كما قال الله تعالى، وأن الساحر كائن موجود في الدنيا.(159/128)
ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وموارثتهم ويقرون أن الجنة والنار مخلوقتان.
وأن من مات مات بأجله، وكذلك من قتل قتل بأجله وأن الأرزاق من قبل الله –سبحانه- يرزقها عباده، حلالاً كانت أم حراماً وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تُنسخ بالقرآن وأن الأطفال أمرهم إلى الله: إن شاء عذبهم، وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله.
ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه وإخلاص العمل، والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين، والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والفخر والكبر والإزراء عن الناس والعجب.
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب فهذه جملة ما يأمرون به، ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل، وإليه المصير.
وفي كتب أهل السنة والجماعة تفصيل وأدلة كل مسألة مما تقدم ذكره فارجع إلى كتبهم إن أحببت الاطلاع على تلك التفاصيل.
وقد أورد اللالكائي رحمه الله فصلاً طويلاً عن اعتقاد علماء السلف وعدد أسمائهم وذكر مقالاتهم تحت عنوان ((سياق ما روي عن المأثور عن السلف في جمل اعتقاد أهل السنة والتمسك بها والوصية بحفظها قرناً بعد قرن))( (238) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم 1،2 ابتداء من ص 151 ج1 تحقيق الدكتور أحمد سعيد الغامدي . 238) .(159/129)
ثم شرع في بيان اعتقادهم (الصحابة فمن بعدهم) في مسائل العقيدة وقد سار على هذا المنهج عدة من المؤلفين السلف رحمهم الله جميعاً.
* * * * * * * * * * * * *
الفصل العاشر
بيان وسطية أهل السنة
في مسائل الاعتقاد وسلامتهم من ضلالتي
الإفراط والتفريط( (239) ارجع لمزيد الفائدة لرسالة الدكتوراه – وسطية أهل السنة بين الفرق – د. باكريم . 239)
المتتبع لمنهج السلف يجد أن الله تعالى قد هداهم إلى الوسط في عقيدتهم فلا إفراط ولا تفريط قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}( (240) سورة البقرة : 143 . 240) أي خياراً عدولاً وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خير الأمور أوسطها))( (241) انظر كشف الخفاء للعجلوني 1/ 469 . 241) .
وقد ميز الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المزية العظيمة وشرفهم بها وهداهم إلى الحق فلا تجد عند المتمسكين بهدي الكتاب والسنة إفراطاً ولا تفريطاً( (242) الإفراط هو مجاوزة الحد في الشيء والتفريط هو التقصير في الشيء وتضييعه . 242)، لأنهما أشد مصادر الهلاك والضلال وبسببهما انتشرت البدع والخرافات بل وعبادة غير الله تعالى والشرك به بتزيين الشيطان وخدعه المتنوعة كما وقع لقوم نوح في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسراً وكما وقع لغيرهم من بعدهم من الأمم.
وتظهر وسطية أهل السنة في جميع مسائل الاعتقاد سواء ما يتعلق منها بذات الله عزّ وجلّ أو بصفاته.
ويتبين فيما يلي:
وسطيتهم بين الأمم الكافرة أصحاب الديانات الوضعية.
وسطيتهم بين الفرق التي تنتسب إلى الإسلام.
1- وسطيتهم بين الأمم الكافرة:
ويظهر هذا بوضوح عند المقارنة بين مفهوم الذات الإلهية في عقيدة أهل السنة وفي عقائد غيرهم.
أ- وسطيتهم بالنسبة للإيمان بذات الله تعالى:(159/130)
فإن الله تعالى في عقيدة أهل السنة لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء فذاته بخلاف ما يتصور العقل، له ذات تليق بجلاله وله صفات تليق بجلاله وله أسماء تليق بجلاله حتى ولو كانت صفاته وأسماؤه قد أطلقت على المخلوق فإن العقل يدرك تماماً أن مجرد الاتفاق في التسمية لا يدل على المماثلة وهو واضح في المخلوقات تمام الوضوح فكيف بالخالق سبحانه وتعالى ولقد ضلت سائر الملل عن هذا المنهج( (243) يوجد لكاتب هذه الأسطر مؤلف في عقائد اليهود والنصارى بالتفصيل فارجع إليه إن شئت . 243) فبعضهم وصف ذات الله تعالى بأنها كذوات خلقه وهم اليهود، والمشبهة وبعضهم وصفوا غير الله تعالى بذات الله كالنصارى حينما ادعوا أن المسيح ابن الله وأنه إله، واليهود وصفوه عزّ وجلّ بأنه قد كبر وشاخ ولم يعد قادراً على تصريف الأمور إلا بمشورة موسى عليه السلام( (244) وذلك حينما صرحت رئيسة وزراء إسرائيل في حرب الأيام الستة بقولها إن أميركا هي إله إسرائيل . 244) كما تدل على ذلك التوراة ونصوص التلمود وتصريح زعماء إسرائيل ووصفوه بالنقص وألحقوا العيوب به فلا فرق بينه وبين خلقه تعالى في مفاهيم المنحرفة.
ولكن عند المسلمين هو سبحانه: ((أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد)).
وقرروا أن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات فكما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين وهذا المفهوم السهل الواضح وهو ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ولولا ظهور الشبهات واستحواذ الشياطين على عقول المخالفين لكان تصور ما تقدم يكفي لردهم إلى الحق.
ب-وسطيتهم بالنسبة للإيمان بالأنبياء :(159/131)
وأهل السنة وسط في ما يتعلق بأنبياء الله تعالى فهم يؤمنون بأنهم بشر مثل سائر البشر شرفهم الله بوحيه ورسالته وأنهم أطهر الناس وأعقل الناس ولكن لا يرفعونهم فوق مرتبتهم ولا ينزلونهم عن قدرهم ويؤمنون أنهم لا يعلمون الغيب ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا بإذن الله.
بينما تجد التوراة مملوءة بذكر عيوب أنبياء الله وأنهم حسب إفك كتاب التوراة من أحرص الناس على المال وأشدهم طلباً ولو كان سبيل ذلك تقديم العرض كما يكذبون على خليل الله إبراهيم وزوجته سارة وأنهم- وحاشاهم- زناة كما يكذبون على لوط ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم وبينما تجد هذا البهت عند اليهود تجد أن النصارى قابلوهم بالضد فادعوا لبعض الأنبياء وغيرهم الألوهية كعيسى عليه الصلاة والسلام وأمه وروح القدس.
ثم غلوا في علمائهم فأنزلوهم منزلة الخالق في التشريع والتحليل والتحريم كما أخبر الله عنهم وبرأ الله المسلمين من ذلك كله وأهل السنة والجماعة في قمة التوسط في نظرتهم إلى علمائهم على حد قول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد * * * كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وما أكثر ما كان يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله))( (245) أخرجه البخاري مع الفتح ج12 ص144 . 245).
كما نجد في القرآن الكريم أكثر من آية يوجه الله الخطاب فيها إلى أهل الكتاب ويذمهم بسبب غلوهم في الأنبياء وفي عبادتهم التي قامت على الإفراط والتفريط اتباعاً لما تمليه عليهم الشياطين.
ج- وسطيتهم في عبادة الله تعالى:(159/132)
سلك أهل السنة مسلكاً صحيحاً يؤيده الكتاب والسنة حيث عبدوا الله بما شرع لهم في كتابه أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يزيدون في عبادتهم ولا ينقصون كما شرع لهم ربهم، ولا يشرعون لأنفسهم عبادة لم يؤيدها الدليل في كل جزئية من أمور العبادة البدنية أو القولية بينما تجد من خرج عن هدى الإسلام قد جعل إلهه هواه وأهل الكتاب هم القمة في هذه الصفة الذميمة.
فاليهود –وهم أهل تفلت وتحريف واستكبار- نجدهم من أشد الناس ابتعاداً عن العبادة حسب ما شرع الله لهم ومن أشد الناس كسلاً عنها، فقد أمرهم الله أن يدخلوا الباب سجداً فدخلوه زحفاً على أعقابهم وأمرهم أن يقولوا حطة فقالوا حنطة بل وأمرهم أن يدخلوا فلسطين فقالوا لموسى: ((اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)) بل وأمرهم الله تعالى أن يعبدوه فعبدوا العجل والحية نخشتان وآلهة أخرى.
ولهذا وصفهم موسى عليه الصلاة والسلام بأنهم أصلاب غلاط الرقبة عصاة أصحاب عناد واستكبار وحب للفتن.
ووضعهم اليوم في فلسطين مع جيرانهم أقوى شاهد على هذا السلوك البغيض منهم فإنهم لا يعيشون إلا في الفتن وتأجيجها وفي التفنن في المؤامرات.
وأما النصارى فهم بضد اليهود غلوا في العبادة والتقرب إلى الله حتى خرجوا عن منهج الله وأمره بتزيين الشيطان لهم وحرموا على أنفسهم ما أحل لهم وابتدعوا رهبانية لم يستطيعوا القيام بها.
وقد وصف الله هذا السلوك الأحمق بقوله تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}( (246) سورة الحديد : 27 . 246).
د- وسطيتهم في صفات الله تعالى بين أصحاب الأديان المحرفة:
من أصول أهل السنة والجماعة في باب الصفات:(159/133)
- وجوب الإيمان واليقين بجميع أسماء الله وصفاته كما وردت بألفاظها الشرعية نفياً وإثباتاً بينما نجد المشركين وأهل الكتاب في غاية البعد عن التزام ذلك.
- وأن لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه العظيم ولا يجوزون اختراع أسماء أو صفات لله تعالى لم ترد في الوحيين.
- الإيمان بمعاني الصفات وقطع الطمع عن البحث في كيفياتها.
- الإيمان بأن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر.
- الإيمان بأن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات.
وهذه الأمور المجملة عن عقيدتهم في هذا الجانب هو الذي يتفق ونصوص الشرع ويرتاح العقل إلى قبوله، فهو أمر منطقي لا تكلف فيه ولا هضم وهو الذي عاد إليه المتنطعون من أصحاب علم الكلام وأقروا به وأذعنوا وندموا على مخالفتهم( (247) كالجويني والرازي وغيرهما . 247) له بسبب تشبعهم بفلسفة اليونان وحكمائهم الجاهلين.
وهذه العقيدة سهلة وواضحة بعيدة عن التصورات الباطلة ولهذا فقد أراحوا أنفسهم من الدخول في ظلمات الشكوك والتخيلات التي لا تقف عند حد فتجدهم يعبرون عن معتقدهم في هذا الباب بأنهم يؤمنون بكل ما أخبر الله عنه في كتابه أو أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم من صفات عليا.
ويعرفون معنى كل صفة ويفوضون في الكيفيات ويعلمون أن صفات الله لا تشبه صفات خلقه معتمدين قوله عزّ وجلّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}( (248) سورة الشورى : 11 . 248).
وينفون عنه كل صفة تشعر بالذم أو لم ترد في الكتاب ولا في السنة ويتوقفون في إطلاق الأسماء والصفات عليه جل وعلا إذا لم ترد في الكتاب والسنة.(159/134)
وهذا بخلاف ما عليه من أهل الكلام ممن ينتسبون إلى الإسلام وممن لا ينتسبون إليه مثل اليهود والنصارى فإن اليهود: وصفوا الله تعالى بصفات النقص والذم ومثلوه بخلقه وقد أخبر عزّ وجلّ عنهم أنهم وصفوه بالبخل قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}( (249) سورة المائدة : 46 . 249) ووصفوه بالفقر كما قال تعالى عنهم {لقد كفر الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ستكتب شهادتهم}( (250) سورة آل عمران : 181 . 250) ووصفوه في التوراة وفي التلمود بأنه يتعب ويندم ويبكي ويلهو مع حواء ويعقد شعرها ويلعب مع السمكة الكبيرة وأنه يقرأ التوراة كل يوم وقبل النوم وأنه لا يعرف الأشياء إلا بعد وقوعها وأنه مثل الإخطبوط وأنه يكتب بالقلم ووصفوه بالنسيان الكثير والوقوع في الأخطاء والتوبة منها وغير ذلك من الصفات التي ملئت بها التوراة مما لا يتسع المقام لبسطه هنا. ولم ينتشر التشبيه والتجسيم إلا من قبل اليهود المفترين، وأما النصارى فإنهم في صفات الله تعالى على وفق ما عليه الوثنيون لأن النصرانية التي أحدثها بولس هي عين الوثنية ولهذا راقت في نظر قسطنطين وسائر الوثنيين من أباطرة الرومان فتظاهروا بأنهم على النصرانية.
وقد مدحوا بعض من يؤلهونهم بكل صفات الله تعالى وتقدس كما ادعوا في المسيح عليه السلام وادعوا أن لله ولداً وصاحبة –المسيح وأمه- وأن المسيح يجلس إلى جوار أبيه وأنه وحيد الله تعالى وغير ذلك من عقائدهم الباطلة التي تبرأ منها المسيح ومن معتقديها في الدنيا والآخرة كما بين الله تعالى ذلك في كتابه الكريم.
2- وسطيتهم بين الفرق التي تنتسب إلى الإسلام:
تعددت الفرق الإسلامية وتباينت مفاهيمهم وادعت كل طائفة أنها هي التي على الحق وغيرها على الباطل.(159/135)
وقد تقدم أنه لا عبرة بادعاء أي طائفة وأن العبرة إنما هي بعرضها على الكتاب والسنة فما وافقهما فهو على الحق وما خالفهما فهو على الباطل كائناً المخالف من كان وكان لأهل السنة بتوفيق الله موقفهم المتميز بين تلك الفرق كلها.
وسيجد القارئ إن شاء الله ما يوضح له الحق ويبين له وسطية أهل السنة في مسائل العقيدة بالنسبة للفرق الأخرى ممن ينتسبون إلى الإسلام من خلال ما يلي:
1- وسطيتهم بالنسبة لأسماء الله تعالى وصفاته بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام:
موضوع الأسماء والصفات من أهم مواضيع العقيدة ومن أكثرها مجالاً لخلافات الناس ولقد كانت من أسهل المواضيع ومن أقلها إشكالاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن خلفائه الكرام ولهذا لم يبحثوها ولم يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها لعلمهم التام وعقولهم الراجحة ومعرفتهم أن الكلام في الصفات فرع عن معرفة الذات حتى إذا ما ظهر قرن الشيطان من وراء علوم اليونان وفلسفاتهم وعلوم الكلام ومتاهاته.فإذا بها كما وصف المتنبي شعره ولغته((ويسهر الخلق جراها ويختصم)).
وأخذ الخلاف فيها أشكالاً عديدة ووقعت الفتن التي لا يعلم مداها إلا الله وحده ولا يزال المسلمون يجترون آثارها إلى اليوم في مناقشات ومجادلات عقيمة سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا يزداد بها الشخص إلا جهلاً وضلالاً وبعداً عن الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، وتظهر وسطية أهل السنة في باب الأسماء والصفات بمقارنة عقيدتهم بعقائد المخالفين من الفرق ذلك أن أهل السنة يؤمنون بأن لله أسماء وصفات حسنى وصف بها نفسه في كتابه الكريم وعلى لسان نبيه العظيم آمن بها السلف كما وردت من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل.(159/136)
- الصحيحة والمعتقد الأسلم والأعلم والأحكم التي حاد عنها أصحاب الأهواء والبدع عقوبة لهم على تركهم الكتاب والسنة وطريق المؤمنين وتقديمهم لأفكار الملاحدة من عتاة الحضارة اليونانية والهندية وغيرها وإذا نظرنا إلى عقائد أصحاب الأهواء والانحراف فسنجد أن بينهم وبين عقائد أهل السنة تفاوتاً بعيداً وتعارضاً صارماً، أما أهل التعطيل، فقد كان إيمانهم بصفات الله تعالى على أسوأ الاضطراب فقد نفوا عن الله تعالى اتصافه بالأسماء أو بالصفات بحجة تنزيه الله تعالى عن التشبيه كما قرره زعيمهم الجهم بن صفوان في أن إثبات أي صفة أو اسم لله تعالى فيه مشابهة لله بخلقه وهو كفر حسب زعمه فيجب عدم إثباته.
ومذهب الجهمية هذا كان أصرح من مذهب المعتزلة الذين أثبتوا أسماء الله تعالى ولكنهم نفوا صفاته ونفوا أن تدل الأسماء على معان ومدلولات وقد أرجعوا الصفات إلى الذات فقالوا سميع بذاته عليم بذاته ...الخ.
وهذا الموقف الباطل يلحقهم بالجهمية إذ أن النتيجة واحدة وهي نفي الصفات ومدلولاتها.(159/137)
وأما الأشاعرة فقد تناقض موقفهم حيث أثبتوا الأسماء وبعض الصفات ثم أولوا أو نفوا بعضها الآخر أو أرجعوها إلى الإرادة والمشيئة لا غير ومعلوم أن ما نفوه عن الله تعالى يعتبر تعطيلاً ويلزمهم أن يقولوا فيما نفوه مثل قولهم فيما أثبتوه وإلا كان إثباتهم ونفيهم تحكماً بلا دليل صحيح ومن هنا كان هؤلاء محل نقمة جميع الفرق عليهم أهل السنة والمعتزلة والجهمية وإذا كان من تقدم ذكرهم عطلوا الله تعالى عن ما يستحقه من معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا فقد قابلهم فريق آخر من أصحاب الأهواء وهم المشتبهة ومذهبهم أن الله عزّ وجلّ في صفاته وأسمائه مثل الإنسان تماماً وذهب غلاتهم كهشام بن الحكم الرافضي وهشام بن الحكم الجواليقي ومقاتل بن سليمان وداود الجواربي وغيرهم إلى وصف الله عزّ وجلّ بأوصاف يتنزه عنها جل وعلا افتروا فيها على الله تعالى وطرقوا باباً حجبه الله عن الخلق وكل تلك الآراء مجانبة للحق بعيدة عن الصواب لأنها قامت على غير أساس ثابت {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} بسبب إعراضهم عن الحق الذي هدى الله إليه السلف وبسبب تشبعهم بعلم الكلام والفلسفة والمنطق وظنهم أنهم على شيء وأنهم أوتوا علماً غزيراً {ومن أظلم ممن ذُكّر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون}( (251) سورة السجدة : 22 . 251) ومعلوم بالعقل أن الله تعالى لو سأل الشخص وقال له لماذا أثبتَّ لي الأسماء والصفات فأجابه بأني آمنتُ بها كما نطقتُ بها لكان هو الجواب الحق وهو أمر بدهي و لولا تنطع أصحاب الأهواء لما توقف أحد عن الإيمان بهذا فإن الله تعالى أعلم بنفسه وبما وصفها به من صفات عليا وأسماء حسنى وله المثل الأعلى.(159/138)
فأهل السنة أثبتوا الأسماء والصفات دون أن ينساقوا إلى التشبيه بل لم يخطر في أذهانهم أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم المشابهة والمماثلة لمعرفتهم أن الاتفاق في التسميات لا يلزم منه الاتفاق في الذات كما أنهم لم يعطلوا الله تعالى عن دلائل أسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه بل أثبتوا من الأسماء والصفات ودلائلها كما يليق به تعالى وهو المسلك الحق الذي يجب اتباعه ونبذ ما عليه المعطلة والمشبهة أهل الإفراط والتفريط ومثل وسطية أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسطيتهم كذلك في الأمور الأخرى مثل ما يتعلق بأهل المعاصي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
2-وسطيتهم في الحكم على أصحاب المعاصي:
وتظهر وسطية أهل السنة في أصحاب المعاصي من خلال معرفة حكمهم عليهم في الدنيا والآخرة وحكم المخالفين عليهم في الدنيا والآخرة أيضاً.
فما هو حكم أصحاب المعاصي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة؟
والجواب: عند أهل السنة حكم العاصي في الدنيا أنه لا يخرج عن اسم الإسلام ويقال له مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وأما في الآخرة فحكمه إلى الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عاقبه ولا يخلد في النار مثل سائر الكفار إن دخلها، وهذا هو الذي تجتمع عليه النصوص من كتاب الله تعالى ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
أما غير أهل السنة فكانوا بين إفراط وتفريط في الحكم على العاصي فقد حكم عليه بعضهم كالخوارج بأنه كافر في الدنيا ومخلد في الآخرة في النار أو هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا فلا هو مؤمن ولاهو كافر ولكنه في الآخرة مخلد في النار، وهذا حكم المعتزلة وقابلت الجميع المرجئة فحكموا بإيمانه إيماناً كاملاً في الدنيا وهو في الآخرة مع النبيين الصديقين والشهداء.(159/139)
وحجة الجميع تتفق في أنهم يرون أن الإيمان كشيء واحد لا يتبعض فلا يزيد ولا ينقص فإما يكون الشخص عاصياً –والعاصي ليس بمؤمن- وإما أن يكون طائعاً –وهو المؤمن- وحكم الكافر والمؤمن معروفان في الإسلام.
وبالتأمل في موقف أهل السنة من أصحاب الذنوب وموقف من سواهم ممن ذكرنا تتضح بجلاء وسطية أهل السنة وصدق قول الله تعالى فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً }( (252) سورة البقرة : 143 . 252).
3- وسطيتهم في الإيمان بالقدر :
كما تظهر وسطيتهم في كل الأمور العقدية الأخرى التي خالف فيها أصحاب الأهواء والبدع ومنها قضية الإيمان بالقدر فإن قضية القدر من المسائل الشائكة التي يجب فيها التسليم والرضى.(159/140)
وكان لأهل السنة موقفهم الذي يعضده النقل معاً فقد تأكد في مذهبهم أن القدر سر الله تعالى وأن الواجب على المسلم الإيمان به دون تعمق لما وراء الأدلة وترك الاحتجاج به على فعل المعاصي والإيمان بتقدير الله تعالى لكل الأمور بمشيئته، وأن الله هو الخالق لكل شيء بما فيها أفعال العباد ولكنها لا تسمى فعل الله بل هي أفعال العباد والله هو الذي أقدرهم على فعلها ولو شاء لما فعلوها كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}( (253) سورة البقرة : 253 . 253)وهي مشيئته الكونية العامة وهذا بخلاف ما تقوله الجبرية الذين يرون أن الله هو الخالق لها ثم يضيفون قولهم الخاطئ أن العباد لا قدرة لهم على الفعل وإنما هم كريشة في مهب الريح وأن الخالق والفاعل معاً هو الله تعالى ومن هنا نشأ خطأهم ، وكذلك خطأ القدرية الذين زعموا أن العبد هو الخالق لفعله وقدرته وإرادته دون أي تدخل من الله تعالى ومن هنا وصفوا بأنهم يثبتون خالقين مع الله تعالى مشابهة للمجوس، وأهل السنة توسطوا في ذلك كما عرفت سابقاً فأثبتوا مشيئة الله الكونية والشرعية وقدرة الله على كل شيء وأثبتوا أن العبد له قدرة ومشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى وقدرته وهو الفاعل للفعل حقيقة.(159/141)
وموقف القدرية والجبرية الخاطئ يعود إلى عدم فهمهم لإرادة الله ومشيئته فهماً صحيحاً على الطريقة التي سار عليها السلف وهي الإيمان بأن لله مشيئة وإرادة لا يخرج أي شيء عنهما فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ثم يعود كذلك إلى عدم تفريقهم بين الإرادة والمحبة ذلك أن الإرادة إما أن تكون كونية وهي الإرادة العامة لجميع الموجودات ودليلها قوله عزّ وجلّ: { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}( (254) سورة البقرة : 253 .254)وإما أن تكون الإرادة شرعية وهي التي تتعلق بمحبة الله تعالى ورضاه عن الشيء كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ }( (255) سورة النساء : 82 . 255) وأهل السنة يؤمنون أن الإرادة الكونية هي التي تعلقت بكل شيء حتى معصية العاصي فلا يلزم منها التفرقة بين ما يحبه الله وما لا يحبه. أما الإرادة الشرعية فهي التي تعلقت بمحبته ورضاه فهو وإن كان قدَّر وقوع الشر كوناً لكنه في الإرادة الشرعية لم يرضه ولم يحبه فهو لا يحب الظالمين ولا الفاسقين ولا العاصين. أما بالتأمل في مذهب المخالفين فنجد أن المعتزلة لا يفرقون بين الإرادتين الكونية والشرعية فيعتقدون أن كل ما أراده الله فقد أحبه.
وبذلك توصلوا إلى أن المعاصي لا يريدها الله تعالى ولا يحبها وبالتالي فلم يأمر بها ولا إرادة له في وقوعها وإلا لكان مريداً للمعاصي وبالتالي فلا يعاقِب عليها حسب زعمهم.(159/142)
بينما ذهبت الجبرية إلى عدم التفريق بين الإرادتين أيضاً ولكنهم ناقضوا المعتزلة فقالوا كل ما يقع من أفعال خيِّرة كانت أم شريرة طاعة أم معصية كلها بإرادة الله تعالى ومحبته ورضاه وإلا لما وقعت فاحتجوا بالقدر على أفعالهم كالمشركين الذين احتجوا بمشيئة الله ورضاه على وقوعهم في الشرك وفي التحليل والتحريم. وبالتأمل في مذهب أهل السنة والمخالفين لهم يتضح تماماً وسطية أهل السنة بين غلو القدرية والجبرية وعدم وقوف القدرية والجبرية عند الحق الذي هدى الله إليه أهل السنة بلطفه وكرمه.
4-وسطيتهم في موقفهم من الصحابة رضي الله عنهم
وكما توسط أهل السنة في تلك المعتقدات السابقة توسطوا أيضاً في قضية أخرى تتعلق بالصحابة رضوان الله عليهم وقبل بيان هذا الجانب أقول أن العقل لا يكاد يتصور أن يمس جانب الصحابة بأدنى أذى احتراماً لهم وتوقيراً واعترافاً بجميل ما قدموه للبشرية جمعاء وأياً كان الحال فقد وقعت الخصومة فيهم بين مختلف الطوائف التي تنتسب إلى الإسلام وكان لأهل السنة موقفاً مشرفاً منهم كانوا به وسطاً فيهم فكيف تم ذلك؟
وقف أهل السنة بالنسبة للصحابة بين غلو الغالين وتقصير المخالفين وقد تميز موقفهم منهم بأمور كثيرة منها:
1- أن الصحابة هم خير البشر بعد محمد صلى الله عليه وسلم .
2- الاعتراف بكل ما ذكر عنهم من الفضائل في القرآن والسنة وأقوال أهل العلم.
3- السكوت عما شجر بينهم من اختلاف وفتن داخلية ولا نذكرهم إلا بخير.
4- الشهادة بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بها أو جاءت في القرآن.
5- الاعتراف بأنهم كلهم على فضل ولكنهم يتفاضلون فيما بينهم وأن أفضلهم على الإطلاق أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم جميعاً دون انتقاص لفضل كل منهم وأن خلافة كل واحد منهم ثابتة على النهج الصحيح وأن من أسلم قبل الفتح وبيعة الرضوان أفضل ممن أسلم بعد ذلك.
6- الاقتداء بهم والتحلي بفضائلهم واقتفاء آثارهم.(159/143)
7- لا نرفع أحداً منهم فوق منزلته ولا ندعي له فضائل لم تثبت وهم في غنى عن مدحهم بما لم يثبت يهم.
8- الإيمان بأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم طاهرات مطهرات وأنهن أمهات المؤمنين ويؤمنون بوجوب محبة أهل البيت ويقدمونهم وفق وصية النبي صلى الله عليه وسلم بهم دون إفراط ولا تفريط.
9- لا يدّعون عصمة أي شخص كائناً من كان مع الاعتقاد أن من جاء بعدهم لا يصل إلى جزيل ما أعد الله لهم من الثواب لأن مُدَّ أحدهم خير من إنفاق مثل جبل أحد ذهباً من غيرهم.
10- لا يكفرون أحداً من الصحابة ولا اعتبار للمرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
11- يتولون الصحابة كلهم ويترضون عنهم بخلاف الرافضة وغيرهم من الفرق الضالة وبهذه المزايا التي اتسم بها أهل السنة كانوا وسطاً فيما يتعلق بجانب الصحابة وستتضح وسطيتهم من خلال ما تلاحظه في مواقف المخالفين لهم فيما يأتي:(159/144)
فالخوارج كفّروا الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكفروا كل من شارك في قضية التحكيم وتبرؤوا منهم بل وأوجبوا لهم النار كما تبرؤوا من الحسن والحسين وكفروا الخليفة ذي النورين أيضاً رضي الله عنه وكذا طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم جميعاً وهذا الموقف منهم غاية في الغلو المذموم وجرأة ممقوتة على هؤلاء الأخيار وقد تبعهم في هذا الموقف الشنيع بعض كبار المعتزلة كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد حيث قالوا بفسق أصحاب الجمل وعلي ومعاوية ومن معهم من أهل صفين ومن عثمان كذلك رضي الله عنه، وهذا قول عمرو بن عبيد وأما شيخه واصل بن عطاء فقد قال بفسق أحد الفريقين دون تعيين كما تتبرأ المعتزلة من معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما وبالجملة فإن المعتزلة كان موقفهم من الصحابة قريب من مواقف الخوارج في غلوهم متناسين ما قدمه أولئك الفضلاء من خيرٍ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بل غلبوا ما تصوروه عنهم من بعض المواقف التي لم يفهموا تفسيرها أو كانت تخالف آراءهم الاعتزالية فوقفوا منهم تلك المواقف الشنيعة وخالفوا ما أمرهم الله به من الاستغفار والترحم والترضي على من سبق بالإيمان فضلاً عن خيرة الناس بعد الأنبياء والمرسلين. وأما الرافضة فقد كان موقفهم من صحابة نبي الله صلى الله عليه وسلم سبة وعاراً فقد وصلوا في حمقهم وغبائهم أن شتموا الصحابة بل وتقربوا بسبهم إلى الله تعالى ولهذا كان النصارى أعقل منهم حين قيل لهم من خير أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب عيسى وكان اليهود أعقل منهم حين قيل لهم من خير أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى أما الرافضة فإنهم لو قيل لهم من شر أهل ملتكم لقالوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عليه ولهذا نجد كثيراً من المسلمين الذين هم على الفطرة يترضون عن جميع الصحابة وما أن يدخل الشخص في مذهبهم إلا وأصبح لعن الصحابة وخصوصاً من شهد له الله تعالى بصحبة نبيه من أول التزاماته العقدية.(159/145)
فما الذي سيجنيه المسلمون من شخص يزعم أنه مسلم وهو عدو مبين لسلف هذه الأمة مقتدياً بابن سبأ والحاقدين من أصحاب الديانات التي قضى عليها الفتح الإسلامي على أيدي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وإذا كان موقفهم تجاه الصحابة كله موقف عداء وبغض وشتم فإن موقفهم تجاه أهل البيت وعلي بخصوصه أشد شناعة وعداوة وإن كان ظاهرهم أنهم يحبونهم ويتشيعون لهم ذلك أن التاريخ كله يشهد بأن أكثر المآسي وأفدحها التي وقعت لأهل البيت كان وراءها عقول الرافضة وسيوفهم ابتداء بأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وابنه الحسين ومن جاء بعده من أهل البيت الذين استدرجهم الرافضة للخروج على الدولة الأموية ثم خذلانهم في أحرج المواقف كما وقع لمسلم بن عقيل والحسن بن علي وزيد بن علي ين الحسين وابنه يحيى وغيرهم.
ولقد غلا الرافضة غلواً فاحشاً في حق علي رضي الله عنه ورفعوه إلى منزلة أحرق من قال بها في حياته وهي تأليههم له.
فقد فضلوه على سائر الصحابة وادعوا أنه سيرجع قبل يوم القيامة وأنه خير الأوصياء وأنه لم يجمع القرآن كما أنزل إلا هو.
وأن أهل بيته كلهم من الأئمة المعصومين عن الذنوب والخطايا وأنهم يعلمون الغيب وأنهم لا يموتون إلا بإذنهم وإرادتهم وأنهم أفضل من الأنبياء والمرسلين وعندهم الجفر والجامعة ومصحف فاطمة وأنهم يوحى إليهم وغير ذلك من غلوهم الفاحش المدون في كتبهم يتوارثونه خلفاً عن سلف كما في كتابهم الكافي للكليني وغيره.(159/146)
وفي المقابل صبوا جام غضبهم على الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين عائشة وحفصة وسائر الصحابة وأنهم حسب افترائهم ارتدوا عن الإسلام وخصوصاً من حضر غدير خم لعدم مبايعتهم علي بن أبي طالب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولولا أن الحديث لا يتطلب تفصيل هذه الافتراءات والأباطيل لكان إثبات ذلك عنهم من مراجعهم من أيسر الأمور فليرجع إليها الباحث عن الحق النهم بالمعرفة ليقف على كل ضلالات الرافضة وخروجهم عن الحق وليظهر له توسط أهل السنة والجماعة في موقفهم من كل صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفيما تقدم إشارة كافية للبيب . ( (256) ارجع لمزيد من التفصيل كتاب وسيطة أهل السنة بين الفرق د. محمد باكريم وإلى دراستنا للرافضة ضمن هذا الكتاب فرق معاصرة . 256)
الفصل الحادي عشر
علامات وسمات الفرقة الناجية
وعلامات وسمات الفرق الهالكة
مزايا العقيدة السلفية وأصحابها
امتازت عقيدة السلف بمزايا عظمية ميزتهم عن جميع العقائد التي قامت على الهوى وما أفرزته العقول البشرية.
لأن العقيدة السلفية مصدرها غير مصدر العقائد البدعية فلا بد أن يحصل بينهم التمايز وإضافة إلى أنها قامت على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإنها لم تدنس بعلم الكلام والمنطق وسائر ما أفرزته عقول فلاسفة اليونان وغيرهم بل هي عقيدة نقية تملأ النفوس يقيناً وطمأنينة وأتباعها يعظمون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجتمعون عليها ولا يتفرقون في ثبات عظيم كثبات عقيدتهم الناصعة التي رضيها الله عزّ وجلّ وهدى أحباءه إليها.(159/147)
فقد انعكست هذه العقيدة بصفائها على معتنقيها فصاروا أثبت الناس على الحق بخلاف أهل الأهواء الذين تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه وسبب ثباتهم يعود إلى يقينهم بصحة ما هم عليه واقتناعهم به وهم من أكثر الناس اتفاقاً وأقلهم اختلافاً لأن هدفهم أصبح واحداً وتفكيرهم واحداً وهذا التوحد سببه تمسكهم بعقيدة واحدة وثقتهم أن السلف من قبلهم كانوا على الحق والصراط المستقيم فاحتذوا أثرهم وسلكوا مسالكهم وأخلصوا في نشر عقيدتهم فملأت الدنيا نوراً وأخرج الله بهم أقواماً من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وكانوا أمة وسطاً عدولاً يستحقون ثناء الله وثناء رسوله عليهم وكانوا من أحرص الناس على اجتماع الكلمة وعدم التفرق في الآراء والأفكار ولا أدل على هذا من أن بعضهم كان إذا اختلف مع آخر في قضية واشتد الخلاف بينهم وخشي أن تكون فتنة كان يترك خلافه لأخيه حباً في اجتماع الكلمة وكراهية للتفرق كما يذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولهذا استحقوا أن يسموا أهل السنة والجماعة وهما وصفان يدلان على أفضليتهم وحسن ما هم عليه من السلوك الحميد والمعتقد السليم.
وإذا كنا نذكر سماتهم هنا وسمات غيرهم من أهل الأهواء فإنما ذلك على حد ما قال الشاعر ((وبضدها تتميز الأشياء)) والناظر في مذهب السلف والخلف يجد لكل منهم علامات تميزهم نابعة عن اعتقاد كل منهم لأنه كما يقال ((كل إناء بالذي فيه ينضح)). فلأهل السنة علامات وصفات ولغيرهم من المخالفين علامات وصفات ولا تشكل على طالب العلم التمييز بينها.
فإن المتتبع لسلوك السلف سيجد أنهم تميزوا بصفات كثيرة منها:
أنهم أعرف الأمة بالحق.
وأرحم الأمة بالخلق.
وأرحم الناس بخصومهم من بعضهم البعض.
ومن أشد الناس رجوعاً إلى الحق وانقياداً له ووقوفاً عنده.(159/148)
ومن أشدهم رحابة صدر ودماثة خلق وتسامح وإنصاف في حال قدرتهم على المخالفين لهم.
ومن أكثرهم تواضعاً وتلطفاً وأبعدهم عن السباب والفحش وسيء الأخلاق.
لا يشمتون بأحد ولا يظهرون الاستهزاء إلا بالقدر الذي يتبين به غرضهم من الرد على المخالفين إن كان ذلك ضرورياً.
ولقد كانت لهم مواقف تشهد بنبل أخلاقهم وحبهم للتسامح والشفقة على المخالفين يتمثلون ما كان عليه نبيهم الكريم من الصبر حينما كان يؤذيه قومه وهو يقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))( (257) انظر البخاري مع الفتح ج6 ص 514 ومسلم ج4 ص 1417 . 257).
والأمثلة على هذا كثيرة سجلها التاريخ لهم وتاريخ الصحابة مليء بالأمثلة المشرفة ومن ذلك:
- مواقفهم في سقيفة بني ساعدة.
- مواقفهم تجاه أهل الذمة.
- مواقفهم في حال الحرب مع المخالفين.
- مواقفهم في الحفاظ على العهود والمواثيق.
وكان نصيب الخلفاء الراشدين من تلك الصفات القمة والحظ الأعلى ومن اطلع على تأريخهم عرف ذلك فهذا الخليفة الصديق صاحب النبي صلى الله عليه وسلم كان من أشد الناس شفقة ورحمة بالمخالفين له وفي غاية التسامح مع كل من أساء إليه يبادر بالعفو إذا ذُكّر به مهما كان الحال.
وقصته مع مسطح خير دلالة على ذلك فإنه حين غضب عليه لمشاركته مع أصحاب الإفك وكان ينفق عليه آلى على نفسه أن لا يُنفق عليه بعدها فلما أنزل الله تعالى: { ولا يأتلِ أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}( (258) سورة النور : 22 .258) فرجع ينفق عليه حباً في مغفرة الله.(159/149)
ومواقف أخرى عديدة كلها تدل على تأصل هذه الصفة في نفسه، ومثل موقفه حين تشاجر مع عمر وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر واحمر وجهه وأخذ يعاتبه حتى أشفق أبو بكر على عمر وهدّأ من غضب الرسول صلى الله عليه وسلم شفقة بعمر رضي الله عنهما.
وكذلك عمر الفاروق رضي الله عنه فقد كان من أشد الناس رحمة على رعيته وأبنائه، وكل المسلمين كانوا عنده كأنهم رجل واحد يتعهد فقراءهم فيواسيهم ويرشد ضالهم ويعلمه وقصته مع المرأة التي باتت تعلل بنيها بالماء فوق النار توهمهم أن بها أكلا ليناموا فلما وقف عليها عمر رضي الله عنه وسألها عن حالها وشكت فقرها فذهب وجاء بالدقيق والمسن وكان ينفخ النار والدخان يخرج من خلال لحيته حتى أنضج لهم الطعام ولم ينصرف إلا والأطفال يلعبون فرحين من الشبع.
وكان من رحمته برعيته أنه كان يبذل النصيحة ويرشد المخطئ حتى في أحرج المواقف فقد دخل عليه رجل يعوده حين طعنه أبو لؤلؤة المجوسي فلما خرج الشاب رأى عمر أن ثوبه طويل فاستدعاه وهو في تلك الحال التي كان يجود بنفسه فيها وقال له ارفع ثوبك يا ابن أخي فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
وما فعله مع صبيغ من تأديبه لإرجاعه إلى الحق وغير ذلك من المواقف التي تدل على رحمته وحبه للمسلمين.
وكذلك عثمان رضي الله عنه وما كان يتصف به من الرقة والحياء والكرم أمر مشهور في كتب التاريخ فقد كان سريع العفو لا ينتقم لنفسه محباً للعافية تجاه رعيته فقد واساهم في زمن المجاعة ابتغاء مرضاة الله بقافلة من الشام وقعد لتمريض زوجته رضي الله عنهما بل عفا عن البغاة الذين أتوا للنقمة عليه في المدينة.
ومثلهم علي رضي الله عنه وما ميزه به الله من الأخلاق الطيبة والرحمة بالمساكين والعطف على رعيته وتقديم نفسه في المعارك حماية للمسلمين ودفاعاً عنهم.(159/150)
وإذا تجاوزنا الحديث عن بقية الصحابة الكرام ومآثرهم العظيمة وانتقلنا إلى علماء السلف من المسلمين فإننا نجدهم من أرحم الناس وأشدهم شفقة على المخالفين وأنصحهم لهم ويأتي في أول هؤلاء إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وتأريخه مع القائلين بخلق القرآن وما لقيه من الآلام التي تنفطر لها القلوب خير شاهد على ذلك وعلى محبته للمسلمين ولقد ابتلي بالضراء فكان أصلب من الرواسي وابتلي بالسراء فكان شديد الحلم والتواضع لم تخضعه نقمة ولم تستخفه نعمة.
وتاريخ السلف غني بالرجال الأفذاذ فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كان من أحرص الناس على بيان الحق ومن أشدهم عفواً عن من ظلمه لم يبال بالسجن والإهانات التي وجهت له من قبل المخالفين الحاقدين عليه وطالما تمكن من الانتصاف منهم ولكنه كان يبادر إلى العفو عنهم ولا يطلب منهم إلا معرفة الحق والتبصر في الدين قال رحمه الله عن إنصاف أهل السنة وشفقتهم بمخالفيهم ((أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعي فليس الإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك فليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله لأن الكذب والزنى حرام لحق الله وكذلك التكفير حق لله فلا يكفر إلى من كفره الله ورسوله))( (259) الرد على البكري ص 258 . 259).
وإذا تجاوزنا تاريخ تلك الحقبة ورجالاتها إلى رجال العصور الأخيرة من السلف فسنجد رجالاً كانوا مثال الأخلاق الفاضلة وحب الخير للناس جميعاً ومن أشدهم رحمة بكل المسلمين حتى المخالفين منهم وفي أول هؤلاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي بذل نفسه لخدمة العقيدة وتفهيم الناس بدينهم الصحيح.(159/151)
وكذا من سار على طريقته مثل الشيخ عبد الله القرعاوي رحمه الله، الذي أخرج الله به أقواماً من الظلمات إلى النور ومن الشرك إلى التوحيد ومن الخرافات الجاهلية إلى الحقائق الإسلامية في منطقة جيزان ففتح الله به القلوب ونور به البصائر وكان رحمة من الله تمكن حبه في القلوب وتمكنت دعوته في النفوس ولن تزال أبداً إن شاء الله قوة راسخة.هذه نماذج سقتها على عجل مكتفياً بمن تقدم ذكرهم كأمثلة مشرفة لسلف هذه الأمة وما امتازوا به من حميد الصفات وهناك مئات الأمثلة التي لا تكاد تحصى إلا بالكلفة .
ومن المعلوم أن هذا التسامح ليس هو تسامح العاجزين فقد كانوا فرسان الوغى وليوث الحروب لا يخافون إلا ربهم من فوقهم وإنما هو تسامح الواقف عند الحق المقدم له الراضي به أما بالنسبة لسمات أهل البدع من الفرق الهالكة فقد اتصفوا بأسوأ الصفات التي أبانت عن سوء معتقداتهم لعدم تحليهم بآداب السنة الغراء وهو أمر بدهي فإن المخالف لها لا بد أن يركب هوى نفسه والهوى من أخطر المطايا وأسرعها إلى الهلاك ومخالفة الشرع.
وبتتبع الصفات التي يتصف بها هؤلاء تجد أنها كثيرة ومنها:
بغي بعضهم على بعض والتطاول في السباب.
اختلافهم لأتفه الأسباب وكثرة تفرقهم.
اتباعهم لما يهوون حسبما تمليه عليهم رغباتهم وتكفير بعضهم البعض وتكفير كل طائفة لما عداها.
تتبعهم المتشابه وإثارة الخلافات حوله.
بغضهم لأهل السنة واختراع الألقاب الباطلة لهم تنفيراً عنهم.
بغض مذهب السلف وتسميته بالأسماء والألقاب الباطلة.
قبولهم للروايات الكاذبة وعدم تحريهم النصوص الصحيحة.
قبولهم للأخبار التي لا يصدقها العقل ولا تعضدها حجة.
عدم اهتمامهم –كما يجب بالسنة النبوية- وتسلطهم عليها بالتأويل أو الرد بحجة أنها غير ملزمة مثل القرآن.
وغير ذلك من الصفات التي عرفت عنهم قديماً وحديثاً.(159/152)
فالخوارج وهم أول الفرق الهالكة خروجاً تجد أنهم يتصفون بالجفاء والخروج عن الدين وضيق الأفق وتكفير المخالفين لهم واستحلال دمائهم وأموالهم فكانوا يقتلون المصلين في المساجد حينما يغيرون عليهم محكمين بزعم أنهم كفار وأن جهادهم قربة إلى الله، وقد كفروا خيرة الناس بعد الأنبياء والمرسلين من عظماء الصحابة رضوان الله عليهم مثل علي بن أبي طالب وعثمان وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص والحسن والحسين وغيرهم من فضلاء الصحابة ومن سار المسلمين.
وكفروا الناس بالمعاصي واستحلوا دماءهم بها وأوجبوا الخروج على الحكام لأتفه الأسباب فسفكوا من الدماء ما لا يعلمه إلى الله وحده وتفرقوا فيما بينهم تفرقاً لا يكاد يكون له نظير إذ كان أقل خلاف يحصل بينهم يختلفون ويتقاتلون لا يرعون في بعضهم إلاًّ ولا ذمة. فكانوا أشبه ما يكونون بالوحوش المسعورة لقي الناس منهم الأمرين وشغلوا الناس حكاماً ومحكومين وأذاقوهم الفتن المتلاحقة والويلات المتعاقبة، وما ذلك إلا لبعدهم عن هدى الكتاب والسنة وطريق سلف هذه الأمة وهو طريق من تركه ضل وارتكب الظلم وفعل المحرمات وخرج عن الحق وتلقفته السبل التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه حينئذ يصبح مثل البهيمة التائهة أو الجمل الذي لا خطام له.
وبعد الخوارج نجد مثالاً آخر من تلك الطوائف وهم الرافضة الضالة الذين وقفوا أسوأ المواقف من الصحابة وسائر أهل السنة كما لا يخفى على طالب العلم.
ثم نبغت المعتزلة الذين تشبعوا بآراء الخوارج وبعلم الكلام وآراء الشيعة فإذا بهم يملأون كتبهم سباباً لأهل السنة والمتمسكين بها وإذا بهم يحرضون الحكام عليهم ليشفوا غيظ صدورهم وما فعله ابن أبي دؤاد بإمام أهل السنة وغيره من علماء المسلمين المخالفين لآراء هذه الفرقة الضالة لهو أقوى مثال على ذلك.(159/153)
ثم توالت الأمثلة على مر العصور فظهرت المرجئة والقدرية والأشعرية وغيرها من الطوائف الكثيرة الذين اتصفوا بضيق الأفق والشدة على كل من خالف آراءهم حتى وإن كان في المسائل البسيطة الاجتهاد به، فكان المعتزلة لا يرجعون إلى كتاب ولا إلى سنة في مسائل الصفات ولا في أحكامهم على المخالفين لهم وإنما يأخذون ما تمليه عليهم عقولهم إضافة إلى الشبهات التي تلقفوها من علماء الكلام.
ولذلك تقرر في مذهبهم أنه إذا تعارض العقل والنقل فإنه يقدم العقل ويؤول النص أو يترك. مع أنه في الواقع الصحيح لا تعارض أبداً بين العقل السليم والنص الصحيح وكذلك الجهمية وهم مشائخ المعتزلة الذي أسسوا كثيراً من الشبهات وفتحوا أبواب الجدل والخوض في مسائل العقيدة فضلوا وأضلوا وفرقوا الأمة وكانوا من أسوأ الناس أخلاقاً وفضاضة على المخالفين لهم ولعل القارئ قد سمع عن هذا النمط من المنحرفين وما يقولونه عن أهل الحق.
ولعل القارئ أيضاً لا يخالفني في أن الكوثري في وسط أهل البدع والخرافات شيخ الإسلام رحمه الله في وسط أهل السنة والجماعة وكم للكوثري ولمشائخه ومن سار على نهجه من أفكار خاطئة وكم له من الردود والسباب والشتائم لأهل السنة ولعقيدتهم الصافية وقد صب جام غضبه على مشاهير أهل السنة على مدار تاريخهم وأطلق عليهم عدة ألقاب باطلة هم منها براء، جاءت منه على طريقة أهل البدع في التسرع إلى التكفير والسخرية بالصالحين لغلبة الهوى عليهم وضيق أفهامهم.(159/154)
وقد رد عليه علماء السلف قديماً وحديثاً ردوداً كالصواعق وبينوا أخطاءه بالدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة مجانبين التجني عليه أو على غيره- كما هي عادتهم- في رأفتهم بالمخالفين وبالتالي دعوتهم بالتي هي أحسن. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الأهواء والبدع ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه أولئك الذين سماهم الله فاحذروهم))( (260) أخرجه البخاري مع الفتح ج8 ص 209 ومسلم ج4 ص 1053 . 260) وقد تحدث علماء السلف عن سمات الفرق الهالكة وأسباب تفرقهم وما أحدثوه في الدين تحدثوا من باب النصيحة والتحذير.
فقد سأل عمرو بن قيس الحكم بن عتبة ((ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال الخصومات))( (261) اللالكائي في اعتقاد أهل السنة ج1 ص 82 . 261) وقال الفضيل بن عياض ((لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله))( (262) سنن الدارمي رقم 406 . 262) وفي مصنف عبد الرزاق أن رجلاً قال لابن عباس الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم. فقال كل هوى ضلالة))( (263) المصنف لأبي ابن شيبة ص 126 ج11 . 263).
وعن أبي قلابة قال: ((ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا السيف))( (264) الشريعة للآجري ج1 ص 46 . 264).
وقال علي بن المديني: ((من قال فلان مشبه علمنا أنه جهمي ومن قال فلان مجبر علمنا أنه قدري ومن قال فلان ناصبي علمنا أنه رافضي)).
وأقوالهم في هذا كثيرة جداً وما قصدناه هو الإشارة التي يفهم بها اللبيب.
الفصل الثاني عشر
عشر ذكر أشهر أئمة أهل السنة ومؤلفاتهم في العقيدة(159/155)
لقد يسر الله تعالى لحفظ دينه رجالاً وهبوا أنفسهم لخدمة هذه العقيدة المباركة ويسر لهم الأمور ورزقهم الذكاء والإخلاص فنبغ منهم العلماء الفطاحل أصحاب البيان والسحر الحلال فكانوا جنوداً أوفياء لدينهم ما إن تظهر فتنة إلا ودفنوها ولا صاحب بدعة أو هوى إلا وحذروا منه فأقام الله بهم حجته على الناس، ومن الصعوبة بمكان حصرهم هنا وإنما نذكر ما يتيسر ذكره منهم كمثال على الثراء الفكري عند علماء السلف ومن هؤلاء:
أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري ..... سفيان بن عيينة.... مسلم بن الحجاج ....ابن عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي .... أحمد بن حنبل..... علي بن المديني.....أبو ثور إبراهيم بن خالد..... أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.....أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم .... أبو جعفر محمد بن جرير الطبري.
الأئمة الأربعة.
ابن كثير..... ابن خزيمة..... ابن القيم.... سهل بن عبد الله التستري.... ابن تيمية.
وغيرهم الكثير ممن أثروا المكتبات الإسلامية بمؤلفاتهم القيمة التي تشهد بإخلاصهم وتوفيق الله وعونه لهم ولا نزكي على الله أحداً.
أهم مؤلفات علماء السنة
في بيان العقيدة السلفية والرد على المخالفين
وقد ألف علماء السلف في بيان عقيدتهم وإيضاحها والرد على المخالفين، المؤلفات الكثيرة مدعومة بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهي من الكثرة بحيث لا يكاد أحد يستطيع حصرها.
ومن أجلّ علماء السلف ومؤلفيهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله وله مؤلفات في بيان عقيدة السلف والذب عنها، منها ما دونه بنفسه ومنها ما دونه تلامذته في مؤلفاتهم. ومن كتبه في الحديث المسند وقد جمع فيه أحاديث كثيرة بين فيها عقيدة السلف ضمن تلك الأحاديث التي أوردها، وكتب في بيان العقيدة الكتب الآتية:
السنة..... الإيمان.... الرد على الزنادقة.... فضائل الصحابة.(159/156)
ومنهم الإمام البخاري رحمه الله وقد أودع في صحيحه كثيراً من بيان عقيدة السلف وكذا كتابه خلق أفعال العباد والآداب المفرد ومنهم الإمام مسلم رحمه الله وقد أودع في صحيحه أيضاً كثيراً من أبواب العقيدة، ومنهم:
- ابن ماجه في سننه
- أبو بكر بن الأثرم في كتابه "السنة".
- عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية.
- عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الرد على الجهمية وكتابه الرد على بشر المريسي.
- ابن أبي عاصم في كتابه " السنة".
- عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه "السنة".
- محمد بن نصر المروزي في كتابه "السنة".
- الإمام الطبري في كتابه "صريح السنة".
- الخلال في كتابه "السنة".
- ابن خزيمة في كتابه "التوحيد وإثبات صفات الرب عزّ وجلّ".
- الطحاوي في كتابه "العقيدة الطحاوية".
- الأشعري بعد رجوعه إلى مذهب السلف في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة" والمقالات.
- عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه "الرد على الجهمية".
- الحسن بن علي البربهاري في كتابه "السنة".
- الآجري في كتابه "الشريعة" وكتابه "التصديق بالنظر إلى الله تعالى".
- أبو حمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهاني في كتابه "العظمة".
- الدارقطني في كتابه "أحاديث النزول كتاب الصفات".
- ابن بطه – عبيد الله بن محمد بن حمدان بن بطة العكبري في كتابه "الإبانة – الصغرى والكبرى".
- ابن منده أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده في كتابه "الرد على الجهمية، الإيمان"، التوحيد بتحقيق د. علي ناصر فقيهي.
- ابن أبي زمنين في كتابه "أصول السنة".
- اللالكائي أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" بتحقيق زميلي د. أحمد سعد حمدان الغامدي.(159/157)
- قوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصفهاني في كتابه "الحجة في بيان المحجة" بتحقيق الزميل د. محمد ربيع و د. محمد أبو رحيم.
أبو المظفر السمعاني في تفسيره.
الإمام مالك ... ربيعة الرأي ... سفيان الثوري.
شيخ الإسلام ابن تيمية صاحب الباع الطويل في بيان عقيدة السلف وكتبه كثيرة مشهورة وقد احتوت الفتاوي على كثير منها ( (265) للدكتور صلاح الدين المنجد كتيب باسم((أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية))صدر عن دار الكتاب الجديد بيروت–لبنان . 265).
ابن قيم الجوزية وله عدة مؤلفات مشهورة.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأهم مؤلفاته "كتاب التوحيد المتداول بين طلبة العلم وكتاب كشف الشبهات وغيرهما من الرسائل التي كتبها وكذا الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله".
وفي عصرنا الحاضر كتب كثير من الفضلاء في بيان السنة والرد على المخالفين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكذا الألباني رحمه الله وما ذكر سابقاً فإنما هو من باب التمثيل إذ أن حصر كتب السلف يكاد أن يكون مستحيلاً جمعه في هذه العجالة فالمكتبة الإسلامية ثرية بمؤلفات متنوعة بين الضخم والمختصر والنثر والنظم والأسئلة والأجوبة ولا يزال الخير في أهل السنة إن شاء الله إلى قيام الساعة كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
رحم الله جميع علماء السلف ونفع بمؤلفاتهم جميع أهل الأرض إنه على كل شيء قدير.
الفصل الثالث عشر
تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة
وفي ختام هذه الدراسة الموجزة عن السلف وعقيدتهم أحب التنبيه إلى ما وقع فيه بعض الناس من إطلاق عبارات ومفاهيم لا تتفق مع عقيدة السلف ومنهجهم بزعم أنها هي العقيدة الصحيحة السلفية.(159/158)
متأثرين فيها بشتى المذاهب المخالفة ومؤثرين في غيرهم ممن قلت معرفتهم بحقيقة مذهب السلف وكل ذلك ناتج عن جهل بحقيقة معاني تلك الكلمات وتلك المفاهيم وهي كثيرة بحيث لا يستوعبها وقت كتابة هذه العجالة ولكن أشير إلى أهمها ولأهميتها وخفائها أيضاً أحببت أن أنبه إليها إخواني طلاب العلم وكل من يراها نصيحة لهم ودفاعاً عن العقيدة تتمة لدراسة فرقة السلف الطائفة المنصورة جمعتها من شتى المصادر. ومن الملاحظ أن بعض هؤلاء الذين يخطئون في جوانب من العقيدة بعضهم على مستوى من المعرفة والثقافة ولكن الكمال لله تعالى والتذكير ينفعهم {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}( (266) سورة الذاريات : 55 266) فقد يكون للشخص أخطاء في جوانب ولكنه في جوانب أخرى لا يشق له غبار.
والمشكلة ليس الوقوع في الخطأ – فهذا شأن الإنسان – ولكن الخطأ هو الإصرار على الخطأ لأن الإصرار على الخطأ ليس من سمة طلاب العلم بل علامتهم وشعارهم دائماً { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}( (267) سورة طه : 114 . 267) و"الحكمة ضالة المؤمن" فإن من طلب الزيادة في العلم زاده الله ومن أصر على ما عنده من المعرفة فقط فكأنه يقول بلسان حاله لا أريد زيادة على ما عندي والله تعالى يقول :{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}( (268) سورة الإسراء : 85 . 268) وفيما يلي بيان ما تقدمت الإشارة إليه:
- الزعم بأن التفويض في الصفات هو مذهب السلف وذلك أن عقيدة السلف في هذا هي الالتزام التام بما جاء في كتاب الله تعالى أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الوحيين كل النصوص تؤكد على الإثبات في الصفات لا على التفويض وهو ما كان عليه الصحابة في اعتقادهم في باب الصفات وما كان عليه سائر التابعين ومن تبعهم بإحسان وسائر من كتب من السلف في العقيدة من المتقدمين والمتأخرين لم يخالف إلا من خرج عن هديهم.(159/159)
- ومن المزاعم الباطلة أيضاً قول البعض أن السلف يمرون الصفات كما جاءت دون فهم معانيها وهذا غير صحيح فإن السلف إنما يريدون بإمرارها كما جاءت في الكيفيات لا في معانيها فإن كيفية الصفات من الأمور المجهولة والسؤال عنها بدعة أما المعاني فواضحة ومعقولة.
- الزعم بأن الله تعالى في كل مكان واستدلالهم بآيات معية الله لخلقه وتفسيرهم لها بأنها المعية الذاتية لله تعالى عن ذلك فإن السلف فسروا هذه المعية من الله تعالى بأنها إحاطة علمه عزّ وجلّ بجميع ما يجري فلا يخفى عليه شيء وذاته تعالى فوق عرشه وهو مع كل مخلوق بعلمه وإحاطته.
- الزعم بأن السلف يعتقدون أن الله في السماء أي في داخلها أو أنها تحيط به أو أنه بإحدى السماوات تحوزه تعالى الله عن ذلك فإن هذا ليس من أقوال السلف بل هو من أقوال أهل البدع لأن معنى أن الله في السماء أي في مطلق العلو فوق عباده وفوق عرشه هكذا عقيدة السلف كما قال تعالى : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }.
- الزعم بأن السلف مجسمة أو حشوية أو مشبهة أو جبرية أو قدرية أو نابتة أو غثاء أو غثراء أو غير ذلك من الألقاب التي أطلقت على السلف نبزاً لهم فإن مذهب السلف هو بخلاف ذلك كله كما اتضح في دراستنا السابقة.
- الزعم بأن آيات الصفات من المتشابه قول لأهل البدع لا لأهل السنة الذين يعتقدون أنها من المحكم المعروف المعنى.
- القول بأن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة أو أنه لا فرق بينهم وبين أهل السنة هذا قول من يجهل الفرق بينهم في قضية الصفات وغيرها من القضايا التي خالفوا فيها السلف.
لأن أهل السنة يثبتون كل الصفات من غير تأويل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل والأشاعرة لا يثبتون الصفات كلها كما هو معلوم من مذهبهم بل يؤولون أكثرها بحجة التنزيه وهو اعتقاد فاسد لا يقره أهل السنة والجماعة.(159/160)
- القول بأن الأشاعرة هم المتمسكون بمذهب الأشعري رحمه الله، وهذا الخطأ نشأ من عدم اعتراف هذه الطائفة برجوع الأشعري رحمه الله إلى مذهب أهل السنة والجماعة كما صح عنه ذلك وكما قرره في كتبه كالإبانة والمقالات وغيرها وقد صرح بما لا خفاء به بأنه على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله تعالى.
- قول بعض أهل البدع ننزه الله عن التشبيه والتمثيل والتركيب والتبعيض وحلول الحوادث والجسم وتعدد القدماء .. الخ. كلها من كلمات أهل البدع ولا شك أن السلف ينفون عن الله تعالى كل صفة لم ترد في الكتاب أو في السنة وبالنسبة لإطلاق بعض العبارات المجملة فإنهم يستفسرون من قائلها وماذا يقصده من كلامه مثل الجسم وغيره من الألفاظ المجملة ثم يحكمون عليه تبعاً لذلك.
- تقسيم أهل السنة والجماعة إلى سلف وخلف وإن جميعهم يسمون بالسلف وبأهل السنة والجماعة. هذا خلط غير صحيح وجمع بين نقيضين فإن الخلف مؤولة الصفات وليسوا هم السلف المثبتة لها ويلتحق بهذا أيضاً ما أصله أهل البدع بقولهم مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم وهو تقسيم باطل وتفضيل للمؤولة والمحرفة على السلف أصحاب السنة والجماعة الذين مذهبهم أسلم وأعلم وأحكم.
- الزعم بأنه يجب التأويل خصوصاً في بعض النصوص وأن من لم يؤولها وقع في الخطأ وأن من منع التأويل فإنه سيضطر هنا إليه وإلا كان كلامه باطلاً بزعمهم، وكذلك فإن من منع التأويل مطلقاً وقال به هنا كان دليلاً على تناقضه فيما يزعم هؤلاء الخلف ومن أمثلة ذلك:
1- قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ}( (269) سورة المجادلة : 7 . 269)
2- وقوله تعالى : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}( (270) سورة ق : 16 . 270).(159/161)
3- وقوله تعالى:{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ}( (271) سورة القمر : 13 ، 14 . 271).
4- وقوله تعالى : {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}( (272) سورة الفجر : 22 . 272) .
5- وقوله تعالى : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ }( (273) سورة الأنعام : 185 273) .
كما استدل المخالفون للسلف على وجوب التأويل بأحاديث من السنة النبوية زاعمين أن من لم يؤولها فإنه لا يكون سلفياً.
1- مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه"( (274) أخرجه البخاري ج11 ص 240 .274) .
2- ومثله الحديث الآخر أن الله تعالى قال :"ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"( (275) أخرجه البخاري ج13 ص 511- 512 ومسلم 4/ 2061 . 275) .
3- الحجر الأسود يمين الله في الأرض( (276) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 6/ 328 . 276) وقد زعم المخالفون للسلف أننا لو لم نؤول هنا لأصبحنا ملاحدة نؤمن بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود كما يزعمون.
4- حديث نزول الله تعالى في ثلث الليل الأخير إلى السماء الدنيا( (277) أخرجه البخاري ج3 ص 29 .277) .(159/162)
وقد زعم المخالفون للسلف أن تلك الآيات والأحاديث مما يتوجب فيها التأويل فقوله تعالى :{ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ } أي بعلمه لا بذاته وهذا المعنى اللمعية هو الذي سماه المخالفون تأويلاً وهي تسمية غير صحيحة فإن معنى وهو معكم أي مطلع عليكم شهيد عليكم ومهيمن وعالم بكل ما تأتون وما تذرون ولا يمكن أن تفسر المعية في هذه الآية بغير هذا التفسير والمنزه الله تعالى لا يمكن أن يفهم منها معية ذاته جل وعلا إلا إذا أراد التعطيل أو التشبيه أو القول بوحدة الوجود.
وأما الآية الثانية : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} أي وملائكتنا وقدرتنا وعلمنا أقرب إليه من قبل وريده وقد وصف المخالفون هذا المعنى بأنه لجوء إلى التأويل وهو فهم غير صحيح فإنه ليس بتأويل بل هو على ظاهره صحيح فإن الملائكة يعملون بقدرته وإرادته وهم جنود له تعالى مطيعون ولهذا عبر بكلمة "نحن" المفيدة للتعظيم وإحاطة علمه تعالى بكل شخص ومخلوق صغيراً كان أو كبيراً.
وأما الآية الثالثة { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا ورعايتنا لها وبمرأى منا وليس هذا من قبيل التأويل كما زعم المخالف بل هو المعنى الحقيقي ولهذا قال تعالى : { بِأَعْيُنِنَا } ولم يقل في أعيننا أي تجري على مرآه عزّ وجلّ وحفظه.
وأما قوله تعالى :{ وَجَاءَ رَبُّكَ } فهو مجيء حقيقي ولا نحتاج إلى أي تأويل له للأدلة الأخرى من القرآن الكريم والسنة النبوية فمن أوله إلى مجيء أمره أو مجيء ملك كبير ونحو ذلك فقد خالف الحق ومذهب السلف إذ لا مانع من مجيء الله تعالى.
وأما الآية : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} فإن الجواب عنها هو كالجواب في "وجاء ربك" فالإتيان والمجيء والنزول كلها صفات حقيقية نعرف معانيها ونتوقف في معرفة كيفياتها ولا نحتاج إلى أي تأويل لها.(159/163)
أما بالنسبة لما استدلوا به من السنة النبوية وأنه لابد فيه من التأويل وإلا لما كنا على السلفية بزعمهم فهو تكلف منهم وتقوية لمذهبهم في حب التأويل :
1- أما الحديث الأول : فمعناه كما يفيده كلام العلماء أن العبد إذا أحب الله تعالى من خالص قلبه فإن عمله كله لا يكون إلا لله فلا يستعمل أعضاءه كلها إلا لله وفي مرضاته عزّ وجلّ فلا يسمع ولا يبصر ولا يبطش بيده ولا يمشي برجله إلا وفق ما أراده الله منه وبالتأويل يوفقه الله ويستجيب له وهذا هو المعنى الحقيقي وليس بتأويل كما يدعي غير السلف ولا حاجة إلى ركوب التأويل ما دام المعنى في غاية الوضوح.
2- وأما الحديث الثاني وهو قرب الله تعالى فقد وصف الله نفسه بالقرب فقال {فإني قريب} وقربه صفة لا نعرف كيفيتها ولكنها ثابتة لمن تقرب إلى الله تعالى ومع أن الكون كله في قبضة الله تعالى ليس فيه قريب ولا بعيد لكنه عزّ وجلّ يكون إلى أوليائه أكثر قرباً وعناية وهو فوق عرشه ويقرب من عبده حسب مشيئته وإرادته عزّ وجلّ في زيادة العناية به. وإذا تصورنا هذا المفهوم فإنه لا حاجة بنا إلى التأويل فراراً من إثبات هذا القرب إذ لا يعقل أن يتصور أن الله يكون قريباً من كل خلقه بذاته عزّ وجلّ.
3- وأما الحديث الثالث : فقد أراح الله منه فإنه حديث غير صحيح كما ذكره علماء الحديث وعلى فرض صحته فإنه لا يحتاج إلى تأويل إذ معناه يتضح في تمام الحديث بقوله : "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه".
والمعنى واضح في قوله "فكأنما" أي ليس المراد أن الحجر الأسود هو صفة لله تعالى أو يد له عزّ وجلّ بل من قبله فله من الأجر مثل الذي يقبل يد الله تعالى وهذا المفهوم لا يحتاج معه إلى التأويل إذ لا محذور فيه فهو افتراض المقصود به حصول الأجر العظيم وما دام الحديث غير صحيح فلا حاجة إلى تكلف الجواب عنه.(159/164)
4- وأما حديث النزول: فمعناه ينزل جل وعلا حقيقة على صفة لا نعرفها ولا تكيفها مهما اختلفت الأوقات من بلد لبلد فكما أننا لا نعرف كيفية الصفات فكذلك كيفية النزول ولهذا فلسنا بحاجة إلى تأويل نزول الله تعالى بنزول أمره وقدرة الله عزّ وجلّ فوق ما يتصوره العقل فهو يرزق خلقه ويميتهم بمشيئته ويحاسبهم في وقت واحد كما أنه لا يمر وقت إلا وأمره وقضاؤه عزّ وجلّ نازل فلماذا نقصر نزول أمره على تلك الأوقات فقط لو لم يكن نزولاً حقيقياً لا يعلم كيفيته إلا هو عزّ وجلّ.
- من الأخطاء في العقيدة كذلك قولهم عن الله تعالى : "أنه الموجود الحق" لأن الموجود ليس من أسماء الله تعالى أو قولهم :"المنفرد بالوجود الحقيقي" لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة أنهما من صفاته تعالى.
وقولهم "واجب الوجود" أو العقل الأول أو اليهولي على إنما أسماء الله تعالى لأنها أسماء مبتدعة لله تعالى لم ترد في الشرع الشريف فلا نطلقها لا نفياً ولا إثباتاً وفي غيرها من أسماء الله تعالى ما يغني عنها.
- " لا معبود سوى الله" جملة ناقصة صوابها " لا معبود بحق إلا الله" لأنه قد عبد غير الله وإله.
- فلان شهيد. لفظ لا يجوز الجزم به لأن الشهادة علمها إلى الله تعالى ولا يشهد لأحد بجنة أو بنار إلا من ورد النص فيه.
وقد تساهل الناس في أمر الشهادة حتى صاروا يقولون شهيد الحب شهيد الوطن شهيد الواجب شهيد الكرة .. الخ . وهو تساهل يدل على جهل عظيم بمنزلة الشهداء عند الله تعالى.
- بعضهم يعبر عن توحيد الله عزّ وجلّ بأنه خالق الكون ومدبره .. الخ.
والحقيقة أن هذا هو توحيد الربوبية الذي لا يدخل الشخص بالإقرار به في توحيد الألوهية حتى يقر بتوحيد الألوهية وإفراد الله تعالى بعبادته لا شريك له الذي بعث الله رسله من أجله لا من أجل تقرير توحيد الربوبية الذي تقر به الفطر والعقول السليمة على مر الدهور.(159/165)
- الزعم بأن السلفية ليست مذهباً معروفاً كلام باطل وتجاهل لطائفة أهل السنة والجماعة كما ذكرنا سابقاً.
- رد أخبار الآحاد في مسائل الاعتقاد هو مذهب أهل البدع أما أهل السنة والجماعة فيتقبلون أخبار الآحاد ويعملون بها في كل أمر ما دامت قد ثبتت صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم .
- التوسل بالجاه أو بالذات لأي كائن – غير الله تعالى – يعتبر شركاً لا يجوز فعله ومن نسب إلى السلف جواز التوسل بالجاه أو بالذات فقد أخطأ فهم عقيدتهم.
- القول بأن رؤية الله تعالى في الآخرة تستلزم التحيز لله عزّ وجلّ كلام باطل وهو ليس من أقوال السلف الذين يؤمنون برؤية الله تعالى على كيفية لا نحيط بها استناداً إلى نصوص رؤيته تعالى حقيقة إذ لا مانع من رؤيته لا نصاً ولا عقلاً.
- نفي الجهة عن الله تعالى مطلقاً أو إثبات أنه في كل جهة بذاته هو معتقد فاسد فإن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه في جهة الفوقية المطلقة ولا يلزم منه التحيز أو كونه بذاته في كل مكان فإنه مما يتنزه الله عنه.
- تجويز التوسل بذات أحد من البشر سواء أكانوا من الرسل عليهم الصلاة والسلام أو غيرهم بدعة منكرة لم يجوزها السلف اتباعاً للنصوص الناهية عن ذلك.
- القول بالتفريق بين الحقيقة والشريعة ليس من أقوال السلف بل هو من اختراعات غلاة الصوفية وذلك أن أي شيء يخالف الشريعة يجب نبذه وعدم الالتفات إليه فضلاً عن قبول معارضته.
- اعتقاد أنه لا فرق بين الإرادة والمشيئة الإلهية خطأ لأن الإرادة تنقسم إلى إرادة كونية: تتعلق بكل شيء مما يحبه الله أو لا يحبه وإرادة شرعية: تتعلق بما يحبه الله ويرضاه بينما المشيئة تتعلق فقط بالإرادة الكونية من حيث العموم.(159/166)
- تنشر بعض الصحف بين آونة وأخرى أخباراً كاذبة فيها تهويل يجذب القراء مثل ما تزعمه بعض الصحف عن علماء الآثار من أنهم يجدون أحياناً جماجم تدل على أن الإنسان كان يشبه القرد تماماً وهذه تقوية لنظرية الملحد داروين أو أن القيامة ستقوم في وقت كذا وكذا من السنين، أو أنه وجد في بلد كذا جنين يقرأ القرآن بصوت مسموع وهو في بطن أمه أو أن الدابة ستخرج وقت كذا وغير ذلك من الأخبار التي تدل على أن مصدرها ملاحدة يريدون ترويع الناس لمصالح لهم ومعلوم أن من ادعى علم الغيب فإنه كاذب وكافر بجميع الأديان حاشا الأنبياء الذين يطلعهم الله على ما يشاء من المغيبات.
- قول بعض الناس بالله وبك أو على الله وعليك أو غير ذلك من الألفاظ التي فيها التشريك بين الله وبين غيره هي من الأمور المنهي عنها والتي لا يقرها السلف وأما إذا أدخلت "ثم" مكان "الواو" فلا حرج.
قول علماء الكلام "الكلام غير المتكلم به"، أو "القول غير القائل" أو "العلم غير العالم" أو "القدرة غير القادر" إلى غير ذلك من العبارات التي نسجوها على هذا النحو كل ذلك كلام باطل ليس من مذهب السلف فإن مراد هؤلاء أن تلك الصفات مباينة لله تعالى ومنفصلة عنه وأنه لا يصح وصفه بأية صفة لأن الصفات مغايرة له حسب زعمهم ومن هنا تسلطوا على نفي كل صفات الله تعالى واعتبروها تركيباً لا يجوز على الله تعالى ففرقوا بين الله تعالى وبين صفاته بتعمقهم في علم الكلام المذموم ظانين أنه علم غزير.
- القول بوجوب الموازنة قول يخالف طريقة السلف( (278) أي أن تذكر حسنات المخالفين وسيئاتهم لتوازن بينها . 278) وذكر الموازنة فيه محاذير كثيرة فإن المخالف لا ينظر إلى ما يذكر عن أهل البدع من المساوئ بل يقف عند ذكر المحاسن ويضخم أمرها ويستدل بها على صحة ما هو عليه من المبادئ والعقائد كما أن السلف لم يكونوا يستجيزون الثناء على أهل البدع ولهذا فإن ترك ذكر المحاسن يعتبر عقوبة جيدة لأهل البدع.(159/167)
فإنه قد يكون لهم أخطاء تذهب بجميع حسناتهم فلا فائدة من ذكر الحسنات بعد ذلك وقد يكون ما نذكره عنهم من الحسنات ليست هي حسنات حقيقية بل قد تكون سيئات عند الله تعالى .
ثم إن في الثناء على الفساق تغرير بمن لا يعرفهم ولم يذكر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أي حسنات أو ثناء على الكفار بل ذم كفرهم وأعمالهم المخالفة.
أما إذا كان الشخص من أهل السنة والجماعة ولكنه أخطأ في بعض الأمور الاجتهادية فلا حرج من مدحه والثناء عليه مع التنبيه على خطإه إن أخطأ وكذا ذكر الآراء التي يخالفون فيها مع تفنيدها لا حرج فيه.
- السلف لا يفرقون بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ومن فرق بينهما فقد جانب الصواب والمفرق إما أن يكون جاهلاً أو في قلبه شيء من بغض السلف وكيف تكون منصورة وهي غير ناجية وكيف تكون ناجية وهي غير منصورة لأن الله تعالى لا يجعل النصر في النهاية إلا لجنده الذين رضي عنهم أما الباطل فله صولة ثم يضمحل وصاحبه لا يكون ناجياً ولا منصوراً.
- السلف لا يحبون إطلاق كلمة "الصحوة الإسلامية" مع أن هذه العبارة قد انتشرت كثيراً على ألسنة الناس وسبب كراهتهم لها أنها تشعر السامع أن المسلمين كانوا في غفوة تامة وليس لهم دعوة إلى الله ولا جهاد في سبيله ولم يعرفوا الإسلام إلا بعد أن نبغ دعاة هذه العبارة وحركتهم التي يزعمون أنها صحوة جديدة في الإسلام.
- ليس من عقيدة السلف الاحتفاء بأعياد الميلاد ولا رأس السنة الميلادية أو الهجرية ولا يعترفون إلا بعيدين كبيرين هما عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد ثاني صغير هو يوم الجمعة ومن نسب إليهم غير ذلك فقد جانب الصواب.
- ليس من عقيدة السلف الاعتراف بما يسمى "تقارب الأديان" لأن هذه خدعة جديدة ويهدفون من ورائها الإيحاء للناس بصحة أديان الطوائف المعادية للإسلام وبالتالي الهجوم على الإسلام وأهله.(159/168)
- كلمة الأديان السماوية إطلاق غير دقيق فإن السماء ليس لها أديان ولا ترسل رسلاً ولا تنزل كتباً ولا يوجد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا دين إلهي واحد فيجب إسناد الكتب وإنزالها ثم نسبة الدين الصحيح إلى الله تعالى وإن كان بعضهم يتجوز ذلك بحجة أن المقصود واضح وهو الله تعالى.
ليس من عقيدة السلف الزعم بأن الإكثار من قراءة سورة "تبت يدا" غير مناسب لأن فيها تعريضاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو أن هذه الخرافة صدرت عن العوام والجهال لما كان لذكرها ضرورة ولكني سمعت بعض أهل العلم ممن نقرأ لهم بعض مؤلفاتهم والله المستعان يحذر من تعمد القراءة بسورة تبت يدا مراعاة لخاطر النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقولون بل ويزعمون في تخويفهم لمن يتعمد ذلك أنه يصاب بالشلل وهو كلام باطل يجب التوبة منه والاستغفار من اعتقاده وكذا الزعم بأن من قرأ سورة قريش دائماً فإنه يصبح غنياً وإن كان جائعاً يصبح شبعاناً وهي خرافات تنافي الاعتقاد الصحيح.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
* * * * * * * * * *
الباب الثالث
دراسة عن الخوارج
ونبدأ الآن بعون الله وتوفيقه في بيان الفرق التي تنتسب إلى الإسلام وأول ما نبدأ به منها حسب ترتيبها في الظهور واعتبارها فرقة من الفرق (( هي فرقة الخوارج )) .
وسنخص بالتفصيل أهم آرائهم الاعتقادية مع إبطالها بالرد عليها وتفنيد شبهها تاركين في هذه الفرقة وفي غيرها من الفرق التي سيأتي الكلام عنها ما يمكن الاستغناء عنه أولاً تدعو الحاجة إلى ذكره في هذه العجالة ....
وقد قسمت الدراسة عن هذه الفرقة إلى الفصول الآتية :
* * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الأول
تمهيد
وجود الخوارج في الماضي والحاضر(159/169)
الخوارج فرقة كبيرة من الفرق الاعتقادية، وتمثل حركة ثورية عنيفة في تاريخ الإسلام السياسي. شغلت الدولة الإسلامية فترة طويلة من الزمن، وقد بسطوا نفوذهم السياسي على بقاع واسعة من الدولة الإسلامية في المشرق وفي المغرب العربي، وفي عمان وحضرموت وزنجبار( (1) وتسمى الآن (( تنزانيا )) .1) وما جاورها من المناطق الإفريقية وفي المغرب العربي، ولا تزال لهم ثقافتهم المتمثلة في المذهب الإباضي المنتشر في تلك المناطق .
ولا يخفى كذلك أن بعض أفكار الخوارج- ولاسيما الأزارقة- المتعلقة بتكفير العصاة لا يزال لها أتباع يمثلون تنطع الخوارج وتشددهم في وقتنا الحاضر، مما يستدعي عرض ودراسة هذه الفرقة، وما أنتجت من آراء وأفكار، وبيان ما جناه أتباعها على الإسلام والمسلمين .
ومما يجدر ذكره بالنسبة لكتب الخوارج أنها تكاد أن تكون مفقودة تماماً إذا ما استثنينا الإباضية منهم، فلم تعرف لهم مؤلفات موفورة كبقية الفرق، وأكثر ما نرجع في ذلك إلى ما كتبه العلماء من أهل السنة، مع ثقتنا بصحة ما نقلوه عنهم لمعايشتهم لهم، وكذلك لاحتمال أنهم عثروا على كتب للخوارج لم تصل إلينا، على أن ما وصل من كتب الإباضية تدل على مصداق أولئك في نقلهم لمذهب الخوارج( (2) انظر : الخوارج تاريخهم وأرؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها ص : ب .2).
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
التعريف بالخوارج
في اللغة: الخوارج في اللغة جمع خارج، وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتهم اللغوية في مادة ((خرج)) على هذه الطائفة من الناس؛ معللين ذلك بخروجهم عن الدين أو على الإمام علي، أو لخروجهم على الناس( (3) انظر كتب اللغة مادة (( خرج )) انظر تهذيب اللغة : جـ7 / ص 50، تاج العروس : جـ2 / ص 30 .3).
في الاصطلاح: اختلف العلماء في التعريف الاصطلاحي للخوارج، وحاصل ذلك:(159/170)
منهم من عرفهم تعريفاً سياسياً عاماً، اعتبر الخروج على الإمام المتفق على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمن كان.
قال الشهرستاني: ((كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل زمان)) ( (4) الملل والنحل : ج 1 / ص 114 .4)
ومنهم من خصهم بالطائفة الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه. قال الأشعري:((والسبب الذي سُمّوا له خوارج؛خروجهم على علي بن أبي طالب))( (5) المقالات : 1/ 207 .5).
زاد ابن حزم بأن اسم الخارجي يلحق كل من أشبه الخارجين على الإمام عليّ أو شاركهم في آرائهم في أي زمن. وهو يتفق مع تعريف الشهرستاني( (6) الفصل : 2/ 113 .6).
3- وعرفهم بعض علماء الإباضية بأنهم طوائف من الناس في زمن التابعين وتابع التابعين أولهم نافع بن الأزرق ( (7) عمان تاريخ يتكلم ص : 103 .7) ، ولم أر هذا التعريف عند أحد غير الإباضية.
وهذا التعريف لأبي إسحاق أطفيش يريد منه أن لا علاقة بين المحكمة الأولى –الذين لا يعتبرهم خوارج لشرعية خروجهم كما يزعم- وبين من بعدهم إلى قيام نافع سنة 64هـ، وهذا التعريف غير مقبول حتى عند بعض علماء الإباضية، ويبقى الراجح هو التعريف الثاني؛ لكثرة من مشى عليه من علماء الفرق في تعريفهم بفرقة الخوارج، وقيام حركتهم ابتداء من خروجهم في النهروان، وهو ما يتفق أيضاً مع مفهوم الخوارج كطائفة ذات أفكار وآراء اعتقاديه أحدثت في التاريخ الإسلامي دوياً هائلاً.
* * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
أسماء الخوارج وسبب تلك التسميات
للخوارج أسماء كثيرة، بعضها يقبلونه وبعضها لا يقبلونه، ومن تلك الأسماء:
1- الخوارج. 2- الحرورية. 3- الشراة.
4- المارقة. 5- المحكمة. 6- النواصب.(159/171)
أما بالنسبة للاسم الأول: فهو أشهر أسمائهم، هم يقبلونه باعتبار وينفونه باعتبار آخر، يقبلونه على أساس أنه مأخوذ من قول الله عزّ وجلّ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }( (8) النساء: الآية100 .8) وهذه تسمية مدح.
وينفونه إذا أريد به أنهم خارجون عن الدين أو عن الجماعة أو عن علي رضي الله عنه؛ لأنهم يزعمون أن خروجهم على عليّ رضي الله عنه كان أمراً مشروعاً بل هو الخارج عليهم في نظرهم.
و الإباضيون بخصوصهم يسمونها فتنناً داخلية بين الصحابة.
قال نور الدين السالمي الإباضي عن تسميتهم خوارج على سبيل المدح: ((ثم لما كثر بذل نفوسهم في رضى ربهم وكانوا يخرجون للجهاد طوائف – سُمُّوا خوارج، وهو جمع خارجة وهي الطائفة التي تخرج في سبيل الله))( (9) نقله عنه على يحى معمر في كتابه (( الأباضية بين الفرق الإسلامية ص : 384 . ))9).
وقال أحد شعراء الخوارج( (10) شعراء الخوارج تحقيق د/ إحسان عباس ص : 134 .10).
كفى حزناً أن الخوارج أصبحوا *** وقد شتت نياتهم فتصدعوا
وأما بالنسبة للتسمية الثانية: فهي نسبة إلى المكان الذي خرج فيه أسلافهم عن عليّ، وهو قرب الكوفة. قال شاعرهم مقارناً بين جحف الثريد أي أكلة وبين جحف الحروري بالسيف أي ضربه به:
ولا يستوي الجحفان جحف ثريدة *** وجحف حروري بأبيض صارم ( (11) شعراء الخوارج ص : 232 .11)
ووردت هذه التسمية في قول عائشة رضي الله عنها: ((أحرورية أنت)) ( (12) أخرجه أحمد في المسند جـ6 ص 97 .12)
قالته للمرأة التي استشكلت قضاء الحائض والصوم دون الصلاة.(159/172)
وأما بالنسبة للتسمية الثالثة: فهي نسبة إلى الشراء الذي ذكره الله بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }الآية( (13) التوبة: الآية11113).
وهم يفتخرون بهذه التسمية ويسمون من عداهم بذوي الجعائل: أي يقاتلون من أجل الجُعْل الذي بذل لهم. قال شاعرهم عيسى بن فاتك:
فلما استجمعوا حملوا عليهم *** فظل ذوو الجعائل يقتلونا ( (14) شعراء الخوارج ص : 54 .14)
وأما التسمية الرابعة: فهي من خصوم الخوارج، لتنطبق عليهم أحاديث المروق الواردة في الصحيحين في مروقهم من الذين كمروق السهم من الرمية. قال ابن قيس الرقيات من أبيات له:
إذا نحن شتى صادفتنا عصابة *** حرورية أضحت من الدين مارقه ( (15) الكامل لابن الأثير : 4/ 198 .15)
وأما التسمية الخامسة : فهي من أول اسمائهم التي أطلقت عليهم وقيل أن السبب في إطلاقه عليهم إما لرفضهم تحكيم الحكمين وإما لتردادهم كلمة لا حكم إلا لله وهو الراجح ، وهي كلمة حق أريد بها باطل ولا مانع أن يطلق عليهم لكل ذلك غير أن السبب الأول ينبغي فيه معرفة أن الخوارج هم الذين فرضوه أولاً وهم يفخرون بهذه التسمية كما قال شاعرهم شبيل بن عزره :
حمدنا الله ذا النعماء أنّا *** نحكم ظاهرين ولا نبالى( (16) شعر الخوارج : 209 .16).
وأما تسميتهم بالنواصب فلمبالغتهم في نصب العداء لعليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه - .
* * * * * * * * * *
الفصل الرابع
متى خرج الخوارج
1- اختلف المؤرخون وعلماء الفرق في تحديد بدء نشأتهم وخلاصة ذلك ما يبلى : -
1- أنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أنهم نشأوا في عهد عثمان رضي الله عنه.
3- أنهم نشأوا في عهد علي رضي الله عنه حين خرج عليه طلحة والزبير، كما يزعم بعض علماء الإباضية.
4- أو حين خرج الخوارج من المحكمة عن جيشه كما هو الراجح.(159/173)
5- أنهم ظهروا في عهد نافع بن الأزرق ابتداء من سنة 64هـ، كما تقدم في التعريف بهم. وفيما يلي مناقشة تلك الأقوال وبيان الصحيح منها:
أما بالنسبة للقول الأول، فإن المقصود به ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم من قيام ذي الخويصرة- عبد الله ذي الخويصرة التميمي- في إحدى الغزوات في وجه الرسول معترضاً على قسمة الرسول صلى الله عليه وسلم للفيء، وأنه لم يعدل –حاشاه- في قسمتها.
وقد قال بهذا القول كثير من العلماء منهم: الشهرستاني وابن حزم وابن الجوزي، والآجري، إلا أنه ينبغي التفريق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراء وتجمع قوي.
فذو الخويصرة لا يعتبر في الحقيقة زعيماً للخوارج، لأن فعلته حادثة فردية- تقع للحكام كثيراً- ولم يكن له حزب يتزعمه ولا كان مدفوعاً من أحد –إلا طمعه وسوء أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فيمكن القول بأن نزعة الخروج قد بدأت بذرتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( (17) انظر الحديث الوارد في صحيح البخاري 8/ 52- 53 ، ومسلم : 3/ 110 – 116 .17)
وأما بالنسبة للقول الثاني، فهو رأي لبعض العلماء أيضاً كابن كثير وابن أبي العز ( (18) انظر البداية والنهاية : 7/ 189 وشرح الطحاوية ص 472 .18)، ولكن يرد على هذا أن أولئك الثوار البغاة كان هدفهم قتل عثمان وأخذ المال، ولا ينطبق عليهم وصف فرقة ذات طابع عقائدي خاص، ولهذا اندمجوا مع المسلمين بعد تنفيذ جريمتهم ولم يشكلوا فرقة مستقلة –وإن كان فعلهم يعتبر خروجاً عن الطاعة وخروجاً على الإمام –إلا أنهم ليسوا هم الخوارج كفرقة عقائدية سياسية لما تقدم.(159/174)
وأما بالنسبة للقول الثالث؛ وهو للورجلاني الإباضي، فأنه قول مردود؛ فإن طلحة والزبير رضي الله عنهما لا يصح وصفهما بالخوارج ولا ينطبق عليهما وصف الخوارج كفرقة، وكان معهما أيضاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد شهد الله لها بالإيمان، وطلحة الزبير رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة( (19) انظر الدليل لأهل العقول ص : 15 .19).
وأما بالنسبة للقول بأن نشأتهم تبدأ من قيام نافع بن الأزرق؛ فإنه لم يقل به غير من ذكرنا من علماء الإباضية ( (20) أبو إسحاق طفيش وتبعه على يحيى معمر أحد علماء الأباضية المتأخرين وقد اعتبروا أحداث المحكمة الأولى قتنة داخلية بين الصحابة وليس لهم أساس الخوارج في نظرهم .
انظر : الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 377 وانظر الأباضية في موكب التاريخ ص 33 .20)؛ لنفيهم وجود صلة ما بين المحكمة ومن ثار على طريقتهم وبين الأزارقة بعدهم، وهو قول غير مقبول لوجود تسلسل الأحداث وارتباطها من المحكمة إلى ظهور نافع بن الأزرق.
والحاصل أن الخوارج بالمعنى الصحيح اسم يطلق على تلك الطائفة ذات الاتجاه السياسي والآراء الخاصة، والتي خرجت عن جيش الإمام علي رضي الله عنه والتحموا معه في معركة النهروان الشهيرة( (21) انظر لتلك الأقوال : (( تلبيس إبليس )) ص : 90 الفصل لابن حزم 4/ 157 ، والملل والنحل للشهرستاني : 1/ 21 شرح الطحاوية لابن أبي العز 472 ، البداية والنهاية لابن كثير : 7/ 189 ، الدليل لأهل العقول للورجلانى ص 15 ، عمان تاريخ يتكلم للسالمي ص 103 .
21).
ومما نذكره هنا محاورات بين عليّ رضي الله عنه والخوارج، تصور لنا مدى التعنت الذي اتصف به الخوارج.
* * * * * * * * *
الفصل الخامس
محاورات الإمام علي للخوارج في النهروان( (22) انظر : الفرق بين الفرق ص 79 ، وشرح نهج البلاغة 2/ 275 ، الكامل للمبرد : 2/ 117 . 22).(159/175)
وقعت بين الإمام علي وبين الخوارج –قبل نشوب المعركة- عدة محاورات، وحينما طلب منهم علي رضي الله عنه بيان أسباب خروجهم عنه أجابوه بعدة أشياء منها:
1- لماذا لم يبح لهم في معركة الجمل أخذ النساء والذرية كما أباح لهم أخذ المال؟
2- لماذا محى لفظة أمير المؤمنين وأطاع معاوية في ذلك عندما كتب كتاب الهدنة في صفين، وأصر معه على عدم كتابة ((علي أمير المؤمنين))؟
3- قوله للحكمين : إن كنت أهلاً للخلافة فأثبتاني . بأن هذا شك في أحقيته للخلافة.
4- لماذا رضي بالتحكيم في حق كان له.
هذه أهم الأمور التي نقموا عليه من أجلها كما يزعمون، وقد أجابهم عن كل تلك الشبه ودحضها جميعاً حيث أجابهم عن الشبهة الأولى والتي تدل على جهلهم بما يلي:
أ- أباح لهم المال بدل المال الذي أخذه طلحة والزبير من بيت مال البصرة، ثم هو مال قليل
ب- النساء والذرية لم يشتركوا في القتال وهم أيضاً مسلمون بحكم دار الإسلام ولم تكن منهم ردة تبيح استرقاقهم.
ج- قال لهم: لو أبحت لكم استرقاق النساء والذرية فأيكم يأخذ عائشة سهمه فخجل القوم من هذا ورجع معه كثير منهم كما قيل.
وأجابهم على الشبهة الثانية:
1- بأنه فعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وذكر –إن صحت الرواية- أنه قال: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لي منهم يوماً مثل ذلك.
والله أعلم بصحة هذه الرواية التي يتناقلها المؤرخون، ذلك أن معاوية رضي الله عنه ما كان يطالب بالخلافة حتى يحق له أن يطلب محو كلمة ((أمير المؤمنين)). ومعاوية كذلك كان يعرف أسبقية عليّ وفضله، وإنما النزاع حول أمر آخر غير الخلافة، اللهم إلا أن يكون هذا الفعل من صنيع المفاوضين دون علم معاوية بذلك.(159/176)
وأجابهم عن الشبهة الثالثة على افتراض صحة الرواية عنه: بأنه أراد النصفة لمعاوية ولو قال: احكما لي؛ لم يكن تحكيماً، ثم استدل بقصة وفد نصارى نجران ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى المباهلة لإنصافهم.
وأجابهم عن الشبهة الرابعة: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة في حق كان له.
ثم نشبت المعركة مع من بقي منهم على عناده وهزم الخوارج شر هزيمة، وتذكر بعض كتب الفرق أنه لم يَنْجُ من الخوارج إلى تسعة، ولم يُقتل من جيش عليّ إلا تسعة( (23) انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري : 5/ 89 والبداية والنهاية لابن كثير : 6 / 218 والكامل لابن الأثير : 3453 ، ومروج الذهب : 2/ 417 وانظر اعتراض على يحي معمر على نتيجة المعركة في كتابه الأباضية بين الفرق ص 68 . 23) ، وصار هؤلاء التسعة من الخوارج هم نواة الخوارج في البلدان التي ذهبوا إليها، وفي هذا نظر( (24) من جهة تلك النتيجة حيث التقى أولئك في معركة مصيرية ثم يقتل فيها كل الجيش ويبقى تسعة ويسلم الجيش الآخر ولا يقتل منه إلا تسعة فقط . فإن التكلف في هذه النتيجة ظاهر بخصوص هذا العدد ، كما أنه ترده تلك الأحداث المتلاحقة التي أعقبت معركة النهروان من تتابع حركة الخوارج الثورية على عليّ – رضي الله عنه – إلى أن استشهد لتبدأ أقوى مما كانت على الدولة الأموية .
كما أنه من التكلف أن يقال أن كل واحد من التسعة الناجين من الخوارج كون مذهب الخوارج في المنطقة التي ذهب إليها . خصوصاً وأن الرويات في عدد الباقين فيها اضطراب واختلاف شديد ؛ مما يجعل النتيجة غامضة . والله أعلم بحقيقة الأمر . 24)، وقتل زعيم الخوارج في هذه المعركة وهو عبد الله بن وهب الراسبي سنة 37 ، أو 38هـ .
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس
أسباب خروج الخوارج.(159/177)
في البحث عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى خروج الخوارج ، يختلف العلماء في هذا السبب أو ذاك ، وفي تحديد مدى فاعلية بعض الأسباب ، والراجح أن أسباباً مجتمعة هي التي أدت بهم إلى الخروج ، ونوجز أهم الأسباب فيما يلي :
1- النزاع حول الخلافة:
وربما يكون هذا هو أقوى الأسباب في خروجهم، فالخوارج لهم نظرة خاصة في الإمام معقدة وشديدة، والحكام القائمون في نظرهم لا يستحقون الخلافة، لعدم توفر شروط الخوارج القاسية فيهم، أضف إلى هذا عدم الاستقرار السياسي الذي شجعهم على الخروج، وإلى الحسد الذي كان كامناً في نفوسهم ضد قريش. إضافة إلى أنهم فسروا الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بأنه نزاع حول الخلافة. ومن هنا استسهلوا الخروج على عليّ ومعاوية من بعده.
2- قضية التحكيم:
فقد أجبروا الإمام عليّ على قبول التحكيم، وحينما تم ذلك طلبوا منه أن يرجع عنه بل ويعلن إسلامه، فرد عليهم رداً عنيفاً.
وهناك من يقلل من شأن هذه القضية كعامل في ظهور الخوارج، ولا شك أن هذا خطأ، فقد كان التحكيم من الأسباب القوية في ظهورهم.
وقد رد بعض العلماء وشنع على من يقول من المؤرخين وكتاب الفرق، بأن كان في قضية التحكيم خداع ومكر، كالقاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم؛ حيث فصّل القول في هذا الأمر.
3- جور الحكام وظهور المنكرات:
هكذا كان الخوارج يرددون في خطبهم ومقالاتهم، أن الحكام ظلمة والمنكرات فاشية، والواقع أنهم حينما فعلوا خرجوا أضعاف ما كان موجودا من المظالم والمنكرات، حينما رأوا أن قتال المخالفين لهم قربة إلى الله تعالى، وأن الأئمة ابتداءً بالإمام علي –مع عدله وفضله- ثم بحكام الأمويين والعباسيين-كلهم ظلمة في نظرهم دون تحرٍّ أو تحقيق، مع أن إقامة العدل والنهي عن المنكرات يتم بغير تلك الطريقة التي ساروا عليها في استحلال دماء مخالفيهم حكاماً ومحكومين.
4- العصبية القبلية:(159/178)
التي ماتت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر عمر رضوان الله عليهما. ثم قامت في عهد عثمان وما بعده قوية شرسة، وكانت قبل الإسلام بين ربيعة- وأكثر الخوارج منهم- وبين مضر قوية، وقد قال المأمون في إجابته لرجل من أهل الشام طلب منه الرفق بالخوارج: ((وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شارياً)).
وهناك أسباب أخرى عوامل اقتصادية؛ كقصة ذي الخويصرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وثورتهم الممقوتة على عثمان رضي الله عنه؛ حيث نهبوا بيت المال بعد قتله مباشرة، ونقمتهم على عليّ في معركة الجمل، ومنها كذلك الحماس الديني الذي مدحهم به بعض المستشرقون كجولد زيهر حينما ذكر أن تمسك الخوارج الشديد بالقرآن أدى بهم إلى الخروج على المجتمع، والمغالطة في قوله هذا واضحة، فإن التمسك بالقرآن لا يؤدي إلى سفك الدماء بغير حق( (25) انظر تاريخ الطبري : 5/ 84 والكامل لابن الأثير : 3 / 344. وانظر : العقيدة الشريعة في الإسلام لجولد زهير ص : 192 ، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة 10 / 69 ، الخوارج والشيعة لفلهوزن ، فجر الإسلام لأحمد أمين ص 262 ، وقعة صفين لنصري بن مزاحم ص 573 .
25).
* * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل السابع
حركات الخوارج الثورية وفرقهم وعددهم.(159/179)
أ- أشرنا فيما مضى إلى أن الخوارج قد كونوا لهم دولة وصار لهم نفوذ، وإذا تتبعنا حركاتهم الثورية فإننا نجدها متصلة عنيفة، ابتداءً من خروج المحكِّمة على الإمام عليّ ومن خرج بعدهم على الإمام عليّ في شكل جماعات حربية تثور هنا وهناك عليه وعلى الحكام الأمويين من بعده حرب عصابات، إلى أن جاء نافع بن الأزرق سنة 64هـ ، وبدأ الخوارج يظهرون كفرق كبيرة امتدت إلى عصر الدولة العباسية، لا يقر للخوارج قرار أو يستكينون إلا ريثما يتم عددهم وعدتهم يمثلون المعارضة بالتعبير الحديث، وتلك الحركات مدونة في كتب التاريخ والفرق مما لا نرى التطويل بذكره؛ لأنها أحداث تاريخية.
ب- فرق الخوارج
أما فرقهم فإن من رحمة الله بالناس أن الخوارج تفرقوا فيما بينهم، ولو اتحدوا لكانوا كارثة على المسلمين المخالفين لهم، ويذكر العلماء أن الخوارج كانوا يختلفون ويتفرقون لأتفه الأسباب، وحينما جاء نافع بن الأزرق ببعض التفاصيل في المذهب كحكم التقية والقعدة( (26) أي هل يحل لهم المقام بين المخالفين أم لا يحل ويكون المقيم بينهم كافر حلال الدم والمال كما يرى نافع ذلك حتى وإن كان منهم – وحينما وصل نافع إلى أحداث تلك الأمور بينهم انفصلت عنه النجدات بقيادة نجدة بن عامر قائلين لنافع : أحدثت ما لم يكن عمله السلف من أهل النهروان وأهل القبلة ، فأجابهم : بأن هذه حجة عرفها وقامت عليه وينبغي الأخذ بهذا ففار قوه . 26) وأطفال المخالفين لهم فزاد الطين بلة والنار اشتعالاً فتفرقوا فرقاً كثيرة قد لا يكون ضرورياً عدها هنا فإن بعض تلك الفرق انتهى في وقته، وبعضها اندمج مع الفرق الأخرى، وبعضها رجع عن مقالاته كما فصلته كتب الفرق( (27) انظر مقالات الأشعري : 1 / 1983 ، الفرق بين الفرق للبغدادي ص 24 ، 72 ، أبانة المناهج لجعفر بن أحمد ص 155 ، التنبيه والرد للملطي ص 167 ، تاريخ الفرق الإسلامية ص 266 ، 271 الاعتصام : 2/ 219 ) .27).
ج- عدد فرق الخوارج(159/180)
وأما عددهم فإنه يجد الباحث عن عدد فرق الخوارج الأصلية والفرعية أنه أمام أعداد مختلفة؛ وذلك لأن كتب الفرق الإسلامية لم تتفق على تقسيم فرقهم الرئيسية أو الفرعية على عدد معين، فنجد الأشعري مثلاً يعد فرق الخوارج أربع فرق، وغيره يعدها خمساً، وبعضهم يعدها ثمانياً، وبعضهم سبعاً، وآخرون خمساً وعشرين، وقد تصل إلى أكثر من ثلاثين فرقة، والواقع أنه يصعب معرفة عدد فرق الخوارج( (28) انظر مقالات الأشعري : 1 / 1983 ، الفرق بين الفرق للبغدادي ص 24 ، 72 ، أبانة المناهج لجعفر بن أحمد ص 155 ، التنبيه والرد للملطي ص 167 ، تاريخ الفرق الإسلامية ص 266 ، 271 الاعتصام : 2/ 219 ) .28) ، والسبب في ذلك يعود إلى:
1- أن الخوارج فرقة حربية متقلبة، فلم يتمكن العلماء من حصرهم حصراً دقيقاً.
2- أن الخوارج كانوا يتفرقون باستمرار لأقل الأسباب ، كما أنهم يختلفون أيضاً لأقلها.
3- أن الخوارج أخفوا كتبهم إما خوفاً عليها من الناس أو ضناً بها عنهم، مما يجعل دراستهم من خلال كتبهم في غاية الصعوبة.
وندرة كتبهم في عصرنا الحاضر دليل على ذلك، إلا ما وجد للإباضية على قلته- إلى غير ذلك من الأسباب، إلا أنه من المعلوم تماماً أن أشهر فرق الخوارج فرقة الإباضية كما يذكر كتاب الفرق المتقدمون منهم و المتأخرون، رغم أن علماء الإباضية –خصوصاً علي يحيى معمر- ينفي نفياً قاطعاً أن تكون الإباضية فرقة من فرق الخوارج، وقد ذكرنا فيما سبق السر في ذلك.
وفيما يلي نذكر نبذة موجزة عن هذه الطائفة :
* * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن
دراسة أهم فرق الخوارج وهم الإباضية.
وتشمل دراسة هذه الطائفة ما يلي:
1- تمهيد:(159/181)
ولا بد من وقفة يسيرة عند هذه الفرقة من الخوارج، نذكر عنهم على سبيل الإيجاز بعض ما قيل عنهم، سواء ما جاء عن المخالفين أو الموافقين لهم، أو ما ذكروه في كتبهم، ولكون هذه الطائفة لا يزال لها أتباع وأنصار في أماكن كثيرة من العالم، ولكونهم كانت لهم صولة وقوة، ولكثرة ما جاء من أخبارهم السياسية والعقدية والاجتماعية-فإنها تحتاج إلى دراسة خاصة قد تأخذ حجماً كبيراً لمن أراد أن يتتبع أخبارهم ويقف على مبادئهم( (29) وقد وجدت أحد المشائخ في الأزهر 1397 تقريباً يكتب رسالة للدكتوراه عن الأباضية . 29).
ولذا فإننا نحيل القارئ –إذا أراد تفاصيل أخبار هذه الطائفة بأن يرجع إلى الكتب التي اهتمت بذكر تواريخهم وبيان عقائدهم، سواء ما كان منها قديماً أو جديداً؛ حيث ظهرت بعض كتب الإباضية على ندرتها وشدة تحفظهم عليها منذ القدم، إضافة إلى توجه بعض العلماء للكتابة عنهم في عصرنا الحاضر( (30) مثل ما كتبه عليّ يحي معمر في كتبه الكثيرة عنهم ، الأباضية بين الفرق الإسلامية ، والأباضية في موكب التاريخ . الأباضية مذهب إسلامي معتدل . وكذا كتاب السالمي (( عمان تاريخ يتكلم )) . وما كتبه د/ صابر طعيمة (( الأباضية عقيدة ومذهباً )) إلى غير ذلك من الكتب المتيسر وجودها عن هذه الفرقة .30).
وأما أماكنهم فقد ذكر بكير بن سعيد أعوشت –أحد علمائهم- أنهم يوجدون حالياً في الجزائر وتونس وليبيا وعمان وزنجبار( (31) ) انظر كتابه دراسات إسلامية في الأصول الأباضية ص 136 .31).
2- زعيم الإباضية(159/182)
أما بالنسبة لزعيم الإباضية فإنهم ينتسبون في مذهبهم- حسبما تذكر مصادرهم- إلى جابر بن زيد الأزدي الذي يقدمونه على كل أحد ويروون عنه مذهبهم، وهو من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنه( (32) انظر أجوبة ابن خلفون ص 9 . وانظر : ترجمة جابر بن زيد أبو الشعثاء في البداية والنهاية لابن كثير 10/ 93 ، وانظر : ما كتبه أحد علمائهم المعاصرين بكير بن سعيد اعوشت في كتابه دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ص 20 . 32).
وقد نُسبوا إلى عبد الله بن إباض لشهرة مواقفه مع الحكام( (33) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 353 .33) ، واسمه عبد الله بن يحيى بن إباض المري من بني مرة بن عبيد، وينسب إلى بني تميم، وهو تابعي، عاصر معاوية وابن الزبير وكانت له آراء واجه بها الحكام.
وهذا هو اسمه المشهور عند الجمهور، إلا أن بعض العلماء التبست عليه شخصية ابن إباض بشخصية أخرى يسمى ((طالب الحق)).
فالملطي سماه في بعض المواضع من كتابه التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع إباض بن عمرو، وهذا خطأ منه مع أنه ذكره في مواضع أخرى بتسميته الصحيحة (عبد الله بن إباض)، وصاحب إبانة المناهج سماه يحيى بن عبد الله الإباضي، و هذا خطأ منه، حيث التبس عليه تسميته ((ابن إباض)) برجل آخر من زعماء الإباضية اسمه ((يحيى بن عبد الله طالب الحق المتقدم)) ثار باليمن وجمع حوله من الأتباع والانصار ما شجعه على الخروج في وجه حكام بني أمية سنة 128هـ، أصله من حضرموت، تأثر بدعوة أبي حمزة الشاري فخرج على مروان بن محمد وأخذ حضرموت وصنعاء، فسير إليه مروان بن محمد قائده عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي فدارت معركة أسفرت عن قتل طالب الحق سنة 130هـ( (34) انظر : الكامل للمبرد : ( 2/ 179) . التنبيه والرد للملطي ص : 55 . إبانة المناهج لجعفر بن أحمد ص 155 .34).(159/183)
وقد ذهب بعض العلماء من الإباضية إلى تحديد الوقت الذي استعملت فيه تسمية الإباضية، وأن ذلك كان في القرن الثالث الهجري، وقبلها كانوا يسمون أنفسهم ((جماعة المسلمين)) ، أو ((أهل الدعوة))، أو((أهل الاستقامة)) كما يذكر ابن خلفون من علمائهم ( (35) انظر أجوبة ابن خلفون ص 9 .35)، وهذا القول لا يتفق مع نشأة الإباضية بزعامة جابر بن زيد أو عبد الله بن إباض.
وقد ذهب ابن حزم إلى القول بأن الإباضية لا يعرفون ابن إباض، وأنه شخص مجهول( (36) انظر الفصل : 4/ 191 .36)، وهذا خطأ منه، فإن ابن إباض شخص يعرفه الإباضيون، ولهذا رد عليه علي يحيى معمر الإباضي وذكر أن الإباضية يعرفون ابن إباض معرفة تامة ولا يتبرءون منه وأن ابن حزم تناقض حين ذكر أن الإباضية يتبرءون منه؛ إذ كيف يتبرءون من شخص مجهول لا يعرفونه( (37) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 48 ، 50 .37)
ثم نتساءل كذلك من أين لهم تسميتهم ((إباضية)) إذا لم يكن ابن إباض من أوائلهم.
وقد ذهب الشهرستاني إلى أن ابن إباض خرج في أيام مروان بن محمد وقتل في ذلك الوقت ( (38) الملل والنحل : 1/ 134 .38)، وهذا غير صحيح، لأن ابن إباض توفي في خلافة عبد الملك بن مروان.
3-هل الإباضية من الخوارج؟
اتفقت كلمة علماء الفرق –الأشعري فمن بعده- على عد الإباضية فرقة من فرق الخوارج، وليس المخالفون للإباضية فقط هم الذين اعتبروهم في عداد الخوارج، وإنما بعض علماء الإباضية المتقدمون أيضاً؛ إذ لا يوجد في كلامهم ما يدل على كراهيتهم لعد الإباضية فرقة من الخوارج.
ولكن بالرجوع إلى ما كتبه بعض العلماء الإباضية مثل أبي اسحاق أطفيش، وعلي يحيى معمر- نجد أنهم يتبرءون من تسمية الإباضية بالخوارج براءة الذئب من دم يوسف.(159/184)
ولقد خاض علي يحيى معمر في كتبه الإباضية بين الفرق الإسلامية، و الإباضية في موكب التاريخ، وغيرها –خاض غمار هذه القضية وتفانى في رد كل قول يجعل الإباضية من الخوارج وهاجم جميع علماء الفرق المتقدمين منهم والمتأخرين على حد سواء، واعتبر عدهم للإباضية من الخوارج ظلماً وخطأ تاريخياً كبيراً، لأن تاريخ الخوارج عنده يبدأ من سنة 64هـ بقيام نافع بن الأزرق فمن بعده، وسمى ما قام به المحكِّمة الأولى فتناً داخلية. ونفى وجود أي صلة ما بين المحكِّمة الأولى والخوارج بقيادة نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر، وغيرهما من الخوارج كما تقدم( (39) انظر: الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 377 و 383 ((والأباضية في موكب التاريخ)) ص 62 كلاهما لعلي يحيي معمر . 39).
ولا شك أن هذا القول فيه مغالطة خاطئة، ذلك أن الأحداث متسلسلة ومرتبطة من المحكِّمة إلى ظهور نافع بن الأزرق، بحيث يظهر أن الأولين هم سلف الخوارج.
والحقيقة أن ظهور نافع بن الأزرق كان على طريقة من سبقه في الخروج إلا أنه ساعدته الظروف بحيث تغير وضع الخوارج من جماعات صغيرة تثور هنا وهناك إلى جماعات كبيرة هزت الدولة الأموية هزاً عنيفاً في فترات متقطعة.
وزعم علي بن يحيى معمر أن لفظة الخوارج كاصطلاح على جماعة، لم يكن معروفاً بين الصحابة، وهذا غير صحيح، لأن لفظة الخوارج وردت في الأحاديث وفي كلام الصحابة كثيراً كعلي وعائشة وابن عباس وغيرهم من الصحابة.
وتعجب جداً حينما تر تعليل أطفيش وتبعه علي يحيى معمر لمعركة النهروان بين علي والمحكِّمة الأولى.
فهو لا يرى أن السبب فيها خروج أولئك عن الطاعة وسفكهم الدماء وإرهاب المسلمين، بل إن السبب في حرب عليّ لهم كما يرى هو أن القيادة أو الخلافة أسندت إلى أزدي-ابن وهب- لا إلى قرشي، فحاربهم علي عصبية لقريش( (40) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 470 وانظر (( عمان تاريخ يتكلم )) ص 105 – 106 .40).(159/185)
فهل عليّ كان واثقاً من بقاء الخلافة لنفسه وهو في حالة حرب مع معاوية حتى يحارب لبقاء الخلافة في قريش.
ثم لو كان الأمر عصبية لقريش فلماذا لم يترك حرب معاوية ويسلمه الخلافة وهو قرشي! هذا أمر واضح لولا أن التعصب الذي يحمله بعض علماء الإباضية على عليّ رضي الله عنه هو الذي أدى بهم إلى هذا الخلط في الفهم وتغيير وقلب الحقائق.
ونذكر فيما يلي بعض النصوص من كلام علماء الإباضية حول الخوارج:
قال مؤلف كتاب الأديان وهو إباضي: ((الباب الخامس والأربعين في ذكر فرق الخوارج، وهم الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب لما حكَّم، ثم أخذ يذكر الخوارج بهذا الاسم في أكثر من موضع من هذا الكتاب على سبيل المدح قائلا: هم أول من أنكر المنكر على من عمل به، وأول من أبصر الفتنة و عابها على أهلها، لا يخافون في الله لومة لائم، قاتلوا أهل الفتنة حتى مضوا على الهدى)) إلى أن يقول:
((وتتابعت الخوارج وافترقت إلى ستة عشر فرقة بفرقة أهل الاستقامة يعني الإباضية))( (41) قطعة من كتاب في الأديان لمؤلف أباضي مجهول الاسم ص : 96 .41).
ويقول نور الدين السالمي عن الخوارج: ((لما كثر بذل نفوسهم في رضى ربهم وكانوا يخرجون للجهاد طوائف سُموا خوارج، وهو جمع خارجة وهي الطائفة التي تخرج في سبيل الله. وكان اسم الخوارج في الزمان الأول مدحاً لأنه جمع خارجة وهي الطائفة التي تخرج للغزو في سبيل الله))( (42) نقله عنه على يحيى معمر الأباضى كما تقدمت الإشارة إليه . انظر : ص 384 من كتابه الأباضية بين الفرق الإسلامية . 42).
ويقول صاحب كتاب وفاء الضمانة الإباضي: ((وكان الصفرية –إحدى فرق الخوارج- مع أهل الحق منا في النهروان))( (43) وفاء الضمانة بأداء الأمانة للعيزابي : 3/ 22 . 43).(159/186)
ولا أدري معنى لهذا الحرص من بعض الإباضية على عدم دخولهم في دائرة الخوارج. فإذا كانت الإباضية –كما هو معروف- تتولى المحكِّمة ويعتبرونهم سلفاً صالحاً لهم وينفون عنهم اسم الخارجية فلماذا تذكر بعض كتبهم لفظة المحكمة وتفسرها بين قوسين ((بالخوارج)) كما فعل السالمي في كتابه عمان تاريخ يتكلم! والأغرب من هذا أنه يسمي الخوارج في العصر العباسي بالمحكِّمة كما نرى في نص كلامه حين يقول موازناً بين قوة الخوارج في الدولتين الأموية والعباسية يقول:
((ولم تكن قوة المحكِّمة أو ((الخوارج)) في العصر العباسي كما كانت في العهد الأموي)).
ثم يمضي المؤلف المذكور ذاكراً شواهد من مناوءة المحكِّمة أو الخوارج للعباسيين، ويمثل للخوارج بأئمة الإباضية المعتبرين عندهم مما يدل على أن لا فرق بين الخوارج و الإباضية في التسمية والمبادئ( (44) انظر عمان تاريخ يتكلم ص 117 ، 120 .44).
ومن هنا يتبين لنا أن تسميتهم باسم الخوارج قديمة وجدت قبل ظهور الأزارقة، سواء كان ذلك من التنبأ بظهورهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو في ترديد هذا الاسم على لسان عليّ رضي الله عنه، أو على ألسنة غيره من الناس وعلى ألسنة بعض علماء الإباضية أيضاً، وعلى هذا فلا يخطئ من ألحق تسمية الإباضية بالخوارج، ويبقى ما امتاز به الإباضية من تسامح، أو تسامح أغلبيتهم تجاه مخالفيهم قائماً وثابتاً لهم ورغم ما يظهر أحياناً في بعض كتب الإباضية من الشدة والقسوة تجاه المخالفين لهم والحكم عليهم بالهلاك والخسران، كما يقرره الوار جلاني منهم في كتابه الدليل لأهل العقول.
4-فرق الإباضية:
انقسمت الإباضية إلى فرق، منها ما يعترف به سائر الإباضية، ومنها ما ينكرونها ويشنعون على من ينسبها إليهم، ومن تلك الفرق:
1-الحفصية: أتباع حفص بن أبي المقدام.
2-اليزيدية: أتباع يزيد بن أنيسة.
3-الحارثية: أتباع حارث بن يزيد الإباضي.(159/187)
4-أصحاب طاعة لا يراد بها الله( (45) انظر مقالات الأشعرى : 1/ 183 ، الفرق بين الفرق للبغدادي : ص 105 ، 279 .45).
ولهذه الفرق من الأقوال والاعتقادات ما لا يشك مسلم في كفرهم وخروجهم عن الشريعة الإسلامية.
ورغم أن علماء الفرق قد أثبتوا نسبتها إلى الإباضية إلا أن عليّ معمر-في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية- أخذ يصول ويجول وينفي وجود هذه الطوائف عند الإباضية أشد النفي، ويزعم أن علماء الفرق نسبوها إلى الإباضية ظلماً وخطأ( (46) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 23 .46) وهذا الرد منه لا يسلم له على إطلاقه، لأن انحراف هذه الفرق في آرائهم لا يقوم دليل قاطع على عدم انتسابهم إلى الإباضية؛ إذ يجوز أن يكون هؤلاء الزعماء كانوا في صفوف الإباضية ثم انفصلوا عنهم بآرائهم الشاذة، وتظل نسبتهم إلى الإباضية ثابتة في الأصل، كما أنه لا يمنع أن يخرج بعض أفراد المذهب عن عامة أهل المذهب وتبقى نسبتهم إليهم لو مجرد التسمية –ثابتة- وإضافة إلى تلك الفرق السابقة فإنه يوجد ست فرق أخرى للإباضية في المغرب هي:
1-فرقة النكار: زعيمهم رجل يسمى أبا قدامة يزيد بن فندين الذي ثار في وجه إمام الإباضية بالمغرب عبد الوهاب بن رستم. وسميت هذه الفرقة بالنكارية لإنكارهم إمامة ابن رستم.
وقد سميت الفرقة الموافقة لعبد الوهاب بن رستم ((بالوهابية أو الوهبية)).
2-النفاثية: نسبة إلى رجل يسمى فرج النفوسي المعروف بالنفاث، ونفوسة قرية تقع في ليبيا.
3-الخلفية: نسبة إلى خلف بن السمح بن أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري الذي كانت له مناوشات مع الدولة الرستمية.
4-الحسينية: وزعيمهم رجل يسمى أبا زياد أحمد بن الحسين الطرابلسي.
5-السكاكية: نسبة إلى زعيمهم عبد الله السكاك اللواتي من سكان قنطرار، تميز بأقوال تخرجه عن الإسلام، وقد تبرأت من الإباضية.
6-الفرثية: زعيمهم أبو سليمان بن يعقوب بن أفلح.(159/188)
ونفس الموقف السابق لعليّ يحيى بن معمر من الفرق السابقة وقفه أيضاً ضد هذه الفرق وأنكر أن تكون من الإباضية وشكك في وجود بعض هذه الفرق، فضلاً عن نسبتها إلى الإباضية( (47) انظر كتاب الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 258، 278 .47) إلا أن كثيراً من العلماء يذكرون أن هذه الفرق هي ضمن الإباضية بالمغرب.
5-دولة الإباضية:
قامت للإباضية دولتان: إحداهما في المغرب والأخرى في المشرق –عمان- تمتع المذهب الإباضي فيهما بالنفوذ والقوة.
وساعد انتشار المذهب الإباضي في عمان بُعْدُها عن مقر الخلافة، ثم مسالكها الوعرة.
ويرجع دخول المذهب الإباضي عمان إلى فرار بعض الخوارج بعد معركة النهروان إلى هذا البلد؛ كما يرى بعض العلماء.
ولكن السالمي من علماء الإباضية يرى أن دخول المذهب إلى عمان يرجع إلى قدوم عبد الله بن إباض.(159/189)
وعلى أي حال فقد قوي المذهب وأراد أهل عمان الاستقلال عن الخلافة العباسية عهد السفاح والمنصور، وانتخبوا لهم خليفة هو الجلندي بن مسعود ابن جيفر الأزدي، إلا أن جيوش الخلافة العباسية قضت على حلم أهل عمان وظلت جزءاً من الدولة العباسية إلى سنة 177هـ، حيث بدأت نزعة الاستقلال وولوا عليهم سنة 179هـ إماماً منهم، واستمر ولا تهم في الحكم في عمان ابتداءً بأول خليفة وهو محمد بن أبي عفان الأزدي، ثم الوارث بن كعب الخروصي، ثم غسان بن عبد الله، ثم عبد الملك بن حميد، ثم المهنا بن جيفر اليحمدي، ثم الصلت بن مالك الخروصي، ثم راشد بن النظر اليحمدي الخروصي، ثم عزام بن تميم الخروصي، ثم سعيد بن عبد الله بن محمد بن محبوب، ثم راشد بن الوليد، ثم الخليل بن شاذان، ثم محمد علي، ثم راشد بن سعيد، ثم عامر بن راشد بن الوليد( (48) مخطوطة المازغينني في افتراق فرق الأباضية الست بالمغرب ص 1-7 وانظر تعليق أبي إسحاق على كتاب الوضع للجناوني وانظر كذلك كتاب الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الأباضية : 2/ 148ر 152 ، 167، 174 ، 102 ، 112 ، 206 . 48).
وبعده محمد بن غسان بن عبد الله الخروصي، والخليل بن عبد الله ومحمد بن أبي غسان وموسى بن أبي المعالي وخنبش بن محمد والحواري بن مالك، وأبو الحسن بن خميس وعمر بن الخطاب ومحمد بن محمد بن إسماعيل الماضري وبركات بن محمد بن إسماعيل. ثم جاءت أئمة اليعارية الذين قوي نفوذهم جداً واستمروا إلى أن حدثت الانشقاقات والتفرق بينهم، فتدخلت الدول الاستعمارية وقضت على الإمامة( (49) انظر كتاب (( عمان تاريخ يتكلم )) ص 131 للسالمي ، وكتاب (( الأزهار الرياضية للباروني )) : 2/ 2 والكامل لابن الأثير : 5/ 192 – 194 .49).
أما بالنسبة لدولة الإباضية في المغرب فإن قيام هذه الدولة كان نتيجة لانتشار المذهب الإباضي هناك بين قبائل البربر.(159/190)
ولقد كانت البصرة هي إحدى القواعد الأساسية لدعاة المذهب الإباضي، حيث يتخرج منها دعاة هذا المذهب وينتشرون في أماكن كثيرة، وتعتبر المرجع لجميع الإباضية في كل مكان، إذ يأتون إليها ويتزودون منها علماً وخططاً لنشر مذهبهم وإقامة حكمهم، في ذلك الوقت وفد إليها رجال هذا المذهب ثم خرجوا إلى المغرب وأسسوا دولتهم إلى جانب دولة الصفرية الخارجية.
وطريقة قيام المذهب الإباضي تمت بوضع خطة للقبض على زمام السلطة شيئاً فشيئاً، وكان أول زعيم لهم هو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري، فاستولوا على طرابلس ثم عيَّن عبد الرحمن الرستمي قاضياً عليها وواصل أبو الخطاب انتصاراته، ولكن جيش الخلافة العباسية دحرهم في معركة قتل فيها أبو الخطاب وتفرقت الإباضية.
ثم قام عبد الرحمن الرستمي الذي يعتبر مؤسس الدولة الرستمية الإباضية في المغرب بمحاولات الاستقلال، وتمت له السيطرة على أماكن كثيرة وسلموا عليه بالخلافة سنة 160هـ وهو فارسي الأصل.
وقد توفي سنة 171هـ فاختاروا ابنه عبد الوهاب الذي واصل تنمية المذهب واجتمعت عليه الكلمة إلى أن مات، فخلفه ابنه أفلح بن عبد الوهاب وسار على طريقة والده وأحبه الناس، وبعد وفاته تولى ابنه أبو اليقظان محمد ابن أفلح، فأحب الناس سيرته إلى أن توفي فخلفه ابنه أبو حاتم يوسف بن محمد بن أفلح إلا أن العلاقة ساءت بينه وبين عمه يعقوب بن أفلح ودارت بينهم معارك هائلة، ومن هنا بدأت الدولة الرستمية في الأفول وداهمتهم الشيعة بقيادة أبي عبيد الله الشيعي وانتهت أسرتهم في سنة 296هـ فرثاهم علماء الإباضية كثيراً( (50) انظر الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الأباضية . الجزء الثاني في عدة صفحات منه .50).
6- موقف الإباضية من المخالفين لهم:
أ-موقفهم من سائر المخالفين:
تتسم معاملة الإباضية لمخالفيهم باللين والمسامحة وجوزوا تزويج المسلمات من مخالفيهم(159/191)
وهذا ما يذكره علماء الفرق عنهم، إضافة إلى أن العلماء يذكرون عنهم كذلك أن الإباضية تعتبر المخالفين لهم من أهل القبلة كفار نعمة غير كاملي الإيمان ولا يحكمون بخروجهم من الملة، إلا أن هذا المدح ليس بالاتفاق بين العلماء؛ فهناك من يذكر عن الإباضية أنهم يرون أن مخالفيهم محاربون لله ولرسوله وأنهم يعاملون المخالفين لهم أسوأ المعاملة.
والحقيقة أن القارئ لكتب علماء الفرق يجد أنهم متعارضون في النقل عنهم إلا أن يقال: إن طائفة من الإباضية معتدلون وآخرون متشددون. ولهذا وجد علي يحيى معمر ثغرة في كلام علماء الفرق ليصفهم بالتناقض والاضطراب في النقل إلى آخر ما أورد من انتقادات لا تسلم له على إطلاقها.
وذلك أنك تجد في بعض كلام علماء الإباضية أنفسهم الشدة في الحكم على المخالفين لهم ووصفوهم بأنهم الكفار وأنهم من أهل النار ما لم يدينوا بالمذهب الإباضي، وتجد آخرين يتسامحون في معاملة المخالفين لهم ويبدو عليهم اللين تجاههم.
وتجد التعصب في حكمهم على مخالفين ظاهراً قوياً من قراءتك لكتاب مقدمة التوحيد لابن جميع، وكتاب الحجة في بيان المحجة في التوحيد بلا تقليد للعيزابي، ورسالة في فرق الإباضية بالمغرب للمارغيني، وكتاب الدليل لأهل العقول للورجلاني، وكذا العقود الفضية، وكشف الغمة الجامع لأخبار الأمة- فإن القارئ لهذه الكتب يجد التشدد تجاه المخالفين قائماً على أشده كما تشهد بذلك مصادرهم المذكورة.(159/192)
ومع هذا فإن العلماء و المتقدمين وكثيراً من المتأخرين يذكرون عبارات كثيرة تصف الإباضية بالتسامح واللين تجاه المخالفين ممن يدعون الإسلام إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي وحرابة، ومع ذلك نفى عليّ يحيى معمر أن يكون من مذهب الإباضية أنهم يرون أن معسكر السلطان معسكر بغي وحرابة، ولكنه-وهو يقسم حكام المسلمين في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية- جعل هذا الوصف ينطبق على الحاكم الذي يخرج عن العدل ولا يطبق أحكام الإسلام كاملة( (51) انظر الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 27، 28 .51).
ومن خلال الأمثلة الآتية من كلام العلماء حول موقف الإباضية من المخالفين لهم تجد مصداق ما قدمنا إجماله فيما يلي:
1- اللين والتسامح مع المخالفين:
أ-ما قاله عنهم كتَّاب الفرق.
ب-ما قالوه هم في كتبهم.
أما ما قاله علماء الفرق عنهم:
فمثلاً نجد أن الأشعري يقول: ((وأما السيف فإن الخوارج جميعاً تقول به وتراه، إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف)) ( (52) المقالات جـ1ص204 .52) .
وقال أيضاً: ((وجمهور الإباضية يتولى المحكِّمة كلها إلا من خرج، ويزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار ليسوا بمشركين)) ( (53) المقالات 1/184 .53).
ثم قال عنهم كذلك: ((وزعموا أن الدار أي دار مخالفيهم- دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار كفر يعني عندهم)) ( (54) المصدر السابق صـ185 .54) .
إلى أن قال : (( وفي المعركة لا يقتلون النساء ولا الأطفال على عكس ما يفعله الأزارقة ))( (55) المصدر السابق صـ285 .55)
أما البغدادي و الشهرستاني فيذكران عن الإباضية أنهم يرون أن مخالفيهم براء من الشرك والإيمان، وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار( (56) الفرق بين الفرق صـ103 ، الملل والنحل ج 1 ص 134 .56).(159/193)
وأما ما قالوه هم عن أنفسهم : فنجد صاحب كتاب الأديان الإباضي وهو يعدد آراء الأخنس –زعيم فرقة الأخنسية –يقول: ((وجوَّز تزويج نساء أهل الكبائر من قومهم على أصول أهل الاستقامة)) ( (57) كتاب الأديان ص – 105 .57).
ونجده كذلك يؤكد على أنه لا يجوز من أهل القبلة إلا دماءهم في حالة قيام الحرب بينهم وبين الإباضية ( (58) المصدر السابق صـ99 .58).
ويأتي أبو زكريا الجناوني فيؤكد أنه يجوز معاملة المخالفين معاملة حسنة، غير أنه ينبغي أن يدعو إلى ترك ما به ضلوا فإن أصروا ناصبهم إمام المسلمين الحرب حتى يذعنوا للطاعة ولا يحل منهم غير دمائهم ( (59) انظر كتاب الوضع للجناوي .59).
وهناك نصوص في مسامحة الإباضية للمخالفين لهم من حسن المعاملة وعدم اغتيالهم أو استعراضهم وتحريم أموالهم.
يذكرها عنهم علي يحيى معمر مع عزوها إلى قائليها في كتابه الإباضية بين الفرق الإسلامية ، في معرض نقده كلام علماء الفرق عن الإباضية( (60) انظر الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 335 – 385 . 60) لا نرى ضرورة للتطويل بنقلها هنا.
2- الشدة على المخالفين:
1-ما يقوله عنهم علماء الفرق:
يقول البغدادي عنهم: ((إنهم يرون أن المخالفين لهم كفار وأجازوا شهادتهم وحرموا دماءهم في السر واستحلوها في العلانية... وزعموا أنهم في ذلك محاربون لله ولرسوله ولا يدينون دين الحق، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض والذي استحلوه الخيل والسلاح، فأما الذهب والفضة فإنهم يردونها على أصحابها عند الغنيمة ))( (61) الفرق بين الفرق صـ 103 .61).
وكان الأشعري قد سبق إلى قوله عنهم.
((وقالوا جميعاً: إن الواجب أن يستتيبوا من خالفهم في تنزيل أو تأويل، فإن تاب وإلا قتل، كان ذلك الخلاف فيما يسع جهله وفيما لا يسع( (62) المقالات ج 1 صـ186 .62).
2-ما قالوه هم في كتبهم:(159/194)
روى الجيطالي الإباضي عن الإمام عبد الوهاب أنه قال: سبعون وجهاً تحل بها الدماء، فأخبرت منها لأبي مرداس بوجهين فقال: من أين هذا من أين هذا؟
وفي كتاب سير المشائخ أن الإمام كان يقول: عندي أربعة وعشرين وجهاً تحل بها دماء أهل القبلة، ولم تكن منهم عند أبي مرداس رحمه الله إلى أربعة أوجه وقد شدد علي فيهم( (63) قواعد الإسلام ص 105 .63).
ويقول المارغيني منهم: ((وقالت المشائخ إن هذا الدين الذي دنا به الوهبية من الإباضية من المحكِّمة دين المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الحق عند الله وهو دين الإسلام، من مات مستقيماً عليه فهو مسلم عند الله، ومن شك فيه فليس على شيء منه، ومن مات على خلافه أو مات على كبيرة موبقة فهو عند الله من الهالكين أصحاب النار))( (64) رسالة في فرق الأباضية للمغرب ص 13 .64).
وقال العيزابي منهم: ((الحمد لله الذي جعل الحق مع واحد في الديانات فنقول معشر الإباضية الوهابية: الحق ما نحن عليه والباطل ما عليه خصومنا؛ لأن الحق عند الله واحد، ومذهبنا في الفروع صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفينا خطأً يحتمل الصدق)) ( (65) الحجة في بيان الحجة في التوحيد بلا تقليد ص 37 .65).
ولا يقلُّ الوار جلاني تشدداً عن من سبق، فهو يقول:
فإن قال قائل: هذه أمة أحمد صلى الله عليه وسلم قد قضيتم عليها بالهلاك وبالبدعة والضلال وحكمتم عليها بدخول النار ما خلا أهل مذهبكم. قلنا: إنما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم-لا نحن- بقوله: حيث يقول: ((ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهن في النار ما خلا واحدة ناجية ...كلهم يدعي تلك الواحدة)) ( (66) تقدم تخريج الحديث وذكر ألفاظه وهو في كتاب الدليل لأهل العقول ص 35 – 36 .66) .(159/195)
وهناك نصوص كثيرة أخرى في تزكية مذهبهم وبطلان ما عداه من المذاهب، وأن الله لا يقبل أي دين غير دين الإباضية والوهبية عن صاحب العقود الفضية( (67) العقود الفضية ص 169 .67) و السالمي( (68) المصدر السابق صـ172 .68) وجاعدين خميس الخروصي( (69) المصدر السابق صـ172 .69)، وصاحب كشف الغمة( (70) كشف الغمة صـ306 . 70)، وصاحب النيل وشفاء العليل( (71) انظر النيل وشفاء ص 1061، 1062 جـ3 . 71) وابن جميع( (72) مقدمة التوحيد صـ19 . 72) وغيرهم من علماء الإباضية.
ب-موقف الإباضية من الصحابة:
موقف الإباضية من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم:
من الأمور المتفق عليها عند سائر الخوارج الترضي التام والولاء والاحترام للخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، لم تخرج فرقة منهم عن ذلك.
أما بالنسبة للخليفتين الراشدين الآخرين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقد هلك الخوارج فيهما وذموهما مما برأهما الله عنه.
والذي يهمنا، أن نشير هنا إلى رأي الإباضية في الصحابة رضوان الله عليهم بإيجاز، تاركين تفصيل الحجج والردود عليها لمقام آخر:
1- موقف الإباضية من عثمان رضي الله عنه:
من الأمور الغريبة جداً أن تجد ممن يدعي الإسلام ويؤمن بالله ورسوله من يقع في بغض الصحابة؛ خصوصاً من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة وثبتت بذلك النصوص في حقه.
فعثمان رضي الله عنه صحابي جليل شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، أما بالنسبة للخوارج فقد تبرءوا منه ومن خلافته، بل وحكموا عليه بالارتداد و العياذ بالله وحاشاه من ذلك.
وفي كتاب كشف الغمة لمؤلف إباضي من السب والشتم لعثمان ما لا يوصف، ولم يكتف بالسب والشتم، وإنما اختلق روايات عن بعض الصحابة يسبون فيها عثمان بزعمه ويحكمون عليه بالكفر( (73) كشف الغمة ص 268 .73)، ولا شك أن هذا بهتان عظيم منه.(159/196)
ويوجد كذلك كتاب في الأديان( (74) كتاب الأديان ص 26- 27 .74) وكتاب آخر اسمه الدليل لأهل العقول( (75) الدليل لأهل ص 28-28 .75) للورجلاني، فيهما أنواع من السباب والشتم لعثمان ومدح لمن قتلوه؛ حيث سماهم فرقة أهل الاستقامة، وهم في الحقيقة بغاة مارقون لا استقامة لهم إلا على ذلك.
2-وأما بالنسبة لموقفهم من علي رضي الله عنه: فإنه يتضح موقفهم منه بما جاء في كتاب كشف الغمة تحت عنوان فصل من كتاب الكفاية قوله: فإن قال ما تقولون في علي بن أبي طالب، قلنا له: إن علياً مع المسلمين في منزلة البراءة، وذكر أسباباً- كلها كذب- توجب البراءة منه في زعم مؤلف هذا الكتاب، منها حربه لأهل النهروان وهو تحامل يشهد بخارجيته المذمومة.
وقد ذكر لوريمر عن موقف المطاوعة –جماعة متشددة في الدين- كما يذكر قوله: ((ويعتقد المطوعون أن الخليفة علياً لم يكن مسلماً على الإطلاق؛ بل كان كافراً !! ))( (76) دليل الخليج : 6/3406 .76).
كما تأول حفص بن أبي المقدام بعض آيات القرآن على أنها واردة في علي، وقد كذب حفص( (77) انظر المقالات : 1/ 183 .77).
ومن الجدير بالذكر أن علي يحيى معمر –المدافع القوي عن الإباضية يزعم أن الإباضية لا يكفرون أحداً من الصحابة، وأنهم يترضون عن علي رضي الله عنه فهو ينقل عن كتاب وفاء الضمانة بأداء الأمانة مدحاً وثناءً لعلي( (78) وفاء الضمانة : 3/22 .78).
وأورد علي يحيى معمر فصلاً طويلاً بيّن فيه اعتقاد الإباضية في الصحابة بأنهم يقدرونهم حق قدرهم، ويترضون عنهم ويسكتون عما جرى بينهم، ونقل عن أبي إسحاق أطفيش في رده على الأستاذ محمد بن عقيل العلوي أنه قال له: أما ما زعمت من شتم أهل الاستقامة لأبي الحسن علي وأبنائه فمحض اختلاق.
ونقل عن التعاريتي أيضاً مدحه للصحابة خصوصاً علياً وأبناءه، وكذلك التندميري الإباضي.(159/197)
وأخيراً قال علي يحيى معمر: ((ولم يكن يوماً من الأصحاب شتم له أو طعن، اللهم من بعض الغلاة، وهم أفذاذ لا يخلو منهم وسط ولا شعب))( (79) الأباضية بين الفرق ص 287 .79).
وهذه الحقيقة التي اعترف بها أخيراً تجعل ما ملأ به كتابه الإباضية بين الفرق من الشتائم على كل كتّاب الفرق غير صحيح، فما الذي يمنع أن يكون نقل هؤلاء العلماء يصدق على أقل تقدير على هؤلاء الأفذاذ الذين أشار إليهم، مع أن ما يذكره علي يحيى معمر لا يتفق مع النصوص المستفيضة عن علماء الإباضية في ذمهم لبعض الصحابة، فهل الورجلاني يُعتبر- على حد التعبير السابق ليحيى معمر- من الغلاة المتشددين، وهو من هو في صفوف الإباضية؟
فهذا الرجل يواصل في كتابه الدليل لأهل العقول تكفيره وشتمه لمعاوية رضي الله عنه ولعمرو بن العاص، بل قد قال زعيم الإباضية عبد الله بن إباض نفسه في كتابه لعبد الملك عن معاوية ويزيد وعثمان كما يرويه صاحب كشف الغمة: ((فإنا نُشهد الله وملائكته أنا براء منهم وأعداء لهم بأيدينا وألسنتنا وقلوبنا، نعيش على ذلك ما عشنا، ونموت عليه إذا متنا، ونبعث عليه إذا بعثنا، نحاسب بذلك عند الله)) وكفى بهذا خروجاً.
وصاحب كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة يشتم الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأوجب البراءة منهما بسبب ولايتهما لأبيهما على ظلمه وغشمه، كما يزعم- كذلك بسبب قتلهما عبد الرحمن بن ملجم، وتسليمهما الإمامة لمعاوية، وهي أسباب لا يعتقدها من عرف الصحابة الذين شهد الله ورسوله لهم بالسابقة والفضل، ولكن انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر، وصدق الشاعر حين قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني فاضل(159/198)
ونفس الموقف الذي وقفه الخوارج عموماً و الإباضية أيضاً من الصحابة السابقين- وقفوه أيضاً من طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأوجب لهما الورجلاني النار( (80) انظر : كشف الغمة ص 304 . الدليل لأهل العقول ص 28 .80)، وقد بشرهما الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهؤلاء يوجبون عليهما النار، فسبحان الله ما أجرأ أهل البدع و الزيغ على شتم خيار الناس بعد نبيهم الذين نصروا الإسلام بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ومات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم!!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ))( (81) أخرجه مسلم 7/188 .81) ، وأنه لما يحار فيه الشخص هذا الموقف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان أخص أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم غير مرضيين عند هذه الطوائف من خوارج وشيعة فمن المرضي بعد ذلك؟
7- عقائد الإباضية:
من الأمور الطبيعية أن تخرج هذه الفرقة وغيرها من الفرق عن المعتقد السليم في بعض القضايا ما دامت قد خرجت عن أهل السنة والجماعة وارتكبت التأويل، ولا بد كذلك أن توجد لها أقوال فقهية تخالف فيها الحق إلى جانب أقوالهم في العقيدة، ولا يسعنا هنا ذكر جميع مبادئ فرقة الإباضية العقديّة والفقهية، فهذا له بحث مستقل خصوصاً ما يتعلق بالمسائل الفقهية، فإن دارس الفرق قلما يوجه همه إلى إيضاحها وتفصيلاتها إلا عند الضرورة.
والذي نود الإشارة إليه هنا أن الإباضية أفكاراً عقدية وافقوا فيها أهل الحق، وعقائد أخرى جانبوا فيها الصواب.
1- أما ما يتعلق بصفات الله تعالى : فإن مذهب الإباضية فيها أنهم انقسموا إلى فريقين : فريق نفى الصفات نفياً تاماً خوفاً من التشبيه بزعمهم ، وفريق منهم يرجعون الصفات إلى الذات فقالوا أن الله عالم بذاته وقادر بذاته وسميع بذاته إلخ الصفات فالصفات عندهم عين الذات ، قال أحمد بن النضر :(159/199)
وهو السميع بلا أداة تسمع *** إلا بقدره قادر وحداني
وهو البصير بغير عين ركبت *** في الرأس بالأجفان واللحظان
جل المهمين عن مقال مكيف *** أو أن ينال دراكه بمكان
أو أن يحيط به صفات معبرس *** أو تعتريه هماهم الوسنان ( (82) كتاب الدعائم ص : 34 . 82)
ويقول السالمى :
أسماؤه وصفات الذات *** ليس بغير الذات بل عينها فافهم ولا تحلا
وهو على العرش والأشيا استوى *** وإذا عدلت فهو استواء غير ما عقلا
وإنما استوى ملك ومقدرة *** له على كلها استيلاء وقد عدلا
كما يقال استوى سلطانهم فعلى *** على البلاد فحاز السهل والجبلا ( (83) غاية المراد ص : 7 .83)
وقال العيزابي منهم (( الحمد لله الذي استوى على العرش أي ملك الخلق واستولى عليه وإلا لزم التحيز وصفات الخلق )) ( (84) الحجة في بيان المحجة صـ6،18 . 84)
وهذا في حقيقته نفي للصفات ولكنه نفي مغطي بحيله إرجاعها إلى الذات وعدم مشابهتها لصفات الخلق وقد شنع الورجلاني منهم على الذين يثبتون الصفات بأنهم مشبهة كعبادة الأوثان وأن مذهب أهل السنة هو – حسب زعمه – تأويله الصفات فاليد النعمة والقدرة والوجه الذات ومجئ الله مجئ أمره لفصل القضاء لأن إثبات هذه الصفات لله هو عين التشبيه كما يزعم ( (85) الدليل لأهل العقول ص : 32 .85).
ومعلوم لطلاب العلم أن هذا ليس هو مذهب السلف الذي يثبتون الصفات لله كما وصف نفسه في كتابه الكريم ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل . قال ابن تيمية في بيان مذهب السلف : (( أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل )) .
ويقول ابن القيم :(159/200)
(( لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء ، وأخبر عن نفسه بأفعال وأخبر أنه يحب ويكره ويمقت ويغضب ويسخط ويجئ ويأتي وينزل إلى السماء الدنيا ، وأنه استوى على عرشه ، وأن له علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعا وبصراً ووجهاً ، وأن له يدين وأنه فوق عباده وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل من عنده ، وأنه قريب ، وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين ، وأن السموات مطويات بيمينه ، ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك )) .( (86) مختصر الصواعق المرسلة من ص 16 إلى ص 29 .86)
فهل بعتبر هذا الوصف تشبيه لله بخلقه ؟ { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } ( (87) [ البقرة: الآية140]87)
وطريقة السلف في إثبات كل صفة لله أنهم يقولون فيها أنها معلومة والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة . وأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}( (88) سورة الشورى : 11 88) . وهذه الآية أساس واضح في إثبات الصفات لله .
ولم ير أهل السنة أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه لمعرفتهم أن الإتقان في التسمية لا يستلزم الاتفاق في الذات فالله سميع وبصير والإنسان بصير وبين الذاتين ما يعرفه كل عاقل من الفرق ومن تصور التشبيه فقد جمع بين التشبيه والتعطيل .
والحاصل أن الإباضية هنا وافقوا المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من أهل الفرق في باب الصفات معتمدين على عقولهم وعلى شبهات وتأويلات باطلة على أن الإباضية أنفسهم مختلفون في إثبات صفات الله تعالى فأباضية المشرق يختلفون عن أباضية المغرب ذلك أن أباضية المشرق تعتقد أن صفات الله تعالى حادثة وأباضية المغرب تعتقد أنها قديمة وبين الفريقين من التباعد في هذا مالا يخفى .( (89) انظر الأباضية عقيدة ومذهباً للدكتور صابر طعيمة ص 35 .89).(159/201)
2- وأما عقيدة الإباضية في استواء الله وعلوه ، فإنهم يزعمون أن الله يستحيل أن يكون مختصاً بجهة ما بل هو في كل مكان وهذا قول بالحلول وقول الغلاة الجهمية ولهذا فقد فسر الإباضية معنى استواء الله على عرشه باستواء أمره وقدرته ولطفه فوق خلقه أو استواء ملك ومقدرة وغلبة وإذا قيل لهم لما خص العرش بالاستيلاء والغلبة أحابوا بجواب واه قالوا لعظكته ، وقد خرجوا بهذه التاويلات عن المنهج الشرعي إلى إعمال العقل واللغة بتكلف ظاهر مخالف للاعتقاد السليم والمنطق والفطرة .
3- وذهبت الإباضية في باب رؤية الله تعالى إلى إنكار وقوعها لأن العقل – كما يزعمون - يحيل ذلك ويستبعده واستدلوا بقوله تعالى : {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ }( (90) سورة الأنعام : 103 . 90) وأولوا معنى الآية تأويلاً خاطئاً على طريقة المعتزلة .
ومن أدلتهم قوله تعالى { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي }( (91) الأعراف: الآية14391).
واستدلوا من السنة بحديث عائشة حين سئلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هل رأى ربه ليلة الإسراء فأجابت بالنفى كما رواه صاحب وفاء الضمانة( (92) وفاء الضمانة ص 376 ، 377 .92) وقد أورد الربيع بن حبيب صاحب كتاب الجامع الصحيح أو مسند الربيع الذي هو عندهم بمنزلة صحيح البخاري ومسلم عند أهل السنة ويعتبرونه أصح كتاب بعد القرآن الكريم – كما يزعمون . أورد عدة روايات عن بعض الصحابة – تدل على إنكارهم رؤية الله تعالى بزعمه( (93) انظر : مسند الربيع بن حبيب : 3/ 35 .93).
والواقع أن كل استدلالاتهم التي شابهوا فيها المعتزلة ، إما استدلالات غير صحيحة الثبوت أو صحيحه ولكن أولوها على حسب هواهم في نفي الرؤية .(159/202)
فإن الآية الأولى ليس فيها نفي الرؤية وإنما نفي الإحاطة والشمول فالله يرى ولكن من غير إحاطة به عز وجل .
وقوله لموسى{لن تراني} أي في الدنيا وقد علق الله إمكان رؤيته تعالى بممكن وهو استقرار الجبل .
وحديث عائشة إنما أرادت نفى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه في ليلة الإسراء وليس المقصود نفي الرؤية مطلقاً فهذا لم ترده أم المؤمنين ومن فهم النفي مطلقاً فهو سيئ الفهم جاهل بالنصوص .
وخلاصة القول في هذه المسألة أن رؤية الله تعالى تعتبر عند السلف أمراً معلوماً من الدين بالضرورة لا يمارى فيها أحد منهم بعد ثبوتهم في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفي أقوال الصحابة رضي الله عنهم وفي أقوال علماء السلف قاطبة رحمهم الله تعالى .
4- ومن عقائد بعض الأباضية في كلام الله تعالى القول بخلق القرآن – بل حكم بعض علمائهم كابن جميع والورجلاني أن من لم يقل بخلق القرآن فليس منهم . ( (94) مقدمة التوحيد ص 19 الدليل لأهل العقول ص : 50 .94)
وقد عرف المسلمون أن القول بخلقه من أبطل الباطل إلا من بقى على القول بخلقه منهم وهم قلة شاذة بالنسبة لعامة المسلمين وموقف إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وهو القول بأن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ واليه يعود ولا يتسع المقام هنا لبسط شبه القائلين بخلقه وأدلة من يقول بعدم خلقه وردهم على أولئك المخطئين .(159/203)
ومن قذف الله الإيمان والنور في قلبه يعلم أن الله تعالى تكلم بالقرآن وبلغة جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والكلام صفة لله تعالى ، ومما ينبغي الإشارة إليه هنا بعض الإباضية قد خرج عن القول صفة لله تعالى ، ومما ينبغي الإشارة إليه هنا أن بعض الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن كصاحب كتاب الأديان( (95) كتاب الأديان ص 104 .95) وكذا أبو النضر العماني( (96) كتاب الدعائم ص : 31- 35 . 96) وردا على من يقول بخلقه وبسطا الأدلة في ذلك وبهذا يتضح أن الإباضية قد انقسموا في هذه القضية إلى فريقين .
5- وقد اعتدل الإباضية في مسألة ووافقوا أهل السنة فأثبتوا القدر خيره وشره من الله تعالى وأن الله خالق كل شيء وأن الإنسان فاعل لأفعاله الاختيارية مكتسب لها محاسب عليه وبهذا المعتقد صرح زعماؤهم كالنفوسي( (97) متن النونية ص : 12 . 97) والعيزابي( (98) الحجة في بيان المحجة ص 23 .98) والسالم( (99) غاية المراد ص 9 .99) وعلى يحي معمر( (100) الأباضية بين الفرق ص 248 .100).
6- وقد اختلف الأباضيون في إثبات عذاب القبر . فذهب قسم منهم إلى انكاره موافقين بذلك سائر فرق الخوارج . وذهب قسم آخر إلى إثبات قال النفوس في متن النونية :
وأما عذاب القبر ثبت جابر *** وضعفه بعض الأئمة بالوهن ( (101) متن النونية ص : 27 .101)
ومعتقد السلف جميعاً هو القول بثبوت عذاب القبر ونعيمه كما صحت بذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة ومن أنكره فليس له دليل إلا مجرد الاستبعاد ومجرد الاستبعاد ليس بدليل .
7- ويثبت الأباضيون وجود الجنة والنار الآن ويثبتون الحوض ويؤمنون بالملائكة والكتب المنزلة .
8- وأما بالنسبة للشفاعة : فإن الإباضية يثبتونها ولكن لغير العصاة للمتقين وكأن المتقى في نظرهم أحوج إلى الشفاعة من المؤمن العاصي . قال صاحب كتاب الأديان – والشفاعة حق للمتقين وليست للعاصين( (102) انظر : كتاب الأديان ص 53102).
وقال السالمي :(159/204)
وما الشفاعة إلا للتقي كما *** قد قال رب العلا فيها وقد فصلا ( (103) غاية المراد ص 9 . 103)
وذكر الربيع بن حبيب روايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل في زعمه على هذا المعتقد وقرر الحارثي في كتابه العقود الفضية تلك القضية ( (104) مسند الربيع بن حبيب ، الجامع الصحيح : 4/ 31،34 .104).
ومذهب أهل السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع في عصاة المؤمنين أن لا يدخلوا النار ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها بعد إذن الله ورضاه وثبت أن الله يقبل شفاعته في ذلك وشفاعة الصالحين من عباده بعضهم في بعض .
9- وأما الميزان : الذي جاءت به النصوص وثبت أن له كفتان حسيتان مشاهدتان توزن فيه أعمال العباد كما يوزن العامل نفسه فإن الإباضية تنكر هذا الوصف ويثبتون وزن الله للنيات والأعمال بمعنى تمييزه بين الحسن منها والسيئ وإن الله يفصل بين الناس في أمورهم ويقفون عند هذا الحد غير مثبتين ما جاءت به النصوص من وجود الموازين الحقيقية في يوم القيامة( (105) متن النونية ص 25 .105) وعلى الصفات التي جاءت في السنة النبوية .
10- وكما أنكر الإباضية الميزان أنكروا كذلك الصراط وقالوا إنه ليس بجسر على ظهر جهنم( (106) انظر غاية المراد ص 9 .106) ، وذهب بعضهم – وهم قلة – إلى إثبات الصراط بأنه جسر ممدود على متن جهنم حسبما نقله د/ صابر طعيمه عن الجيطالي من علماء الإباضية ( (107) قناطر الخيرات : 1/ 318 – 319 نقلاً عن الأباضية عقيدة ومذهباً ص 126107) والسلف على اعتقاد أن الصراط جسر جهنم وأن العباد يمرون عليه سرعة وبطئاً حسب أعمالهم ومنهم من تخطفه كلاليب النار فيهوى فيها .(159/205)
11- ووافق -معظم الإباضية - السلف في حقيقة الإيمان من أنه قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية( (108) كتاب الأديان ص 53 غاية المراد ص 7.108) وقد خالف بعضهم فذهب إلى الإيمان يزيد ولا ينقص وقد نقل الدكتور صابر صعيمه بعض الأدلة من كتبهم على هذا الرأي( (109) الأباضية عقيدة ومذهباً ص 116 – 117 .109)
12- وزيادة الإيمان ونقصه مسألة خالف فيها الإباضية سائر الخوارج الذين يرون أن الإيمان جملة واحدة لا يتبعض وأن العبد يكفر ويذهب إيمانه بمجرد مواقعته للذنب ويسمونه كافراً ومخلداً في النار في الآخرة إلا أن الإباضية مع موافقتهم للسلف في الحكم لكنهم يسمون المذنب كافر كفر نعمة ومنافقاً .
يقول إعوشت (( فالكفر إذن عند الإباضية ينقسم إلى ما يلي : 1- كفر نعمة ونفاق وبتمثل في المسلم الذي ضيع الفرائض الدينية أو ارتكب الكبائر أو جمع بينهما . )) ( (110) الإباضية بين الفرق – علي معمر ص 289 ، غاية المراد ص 18 للسالمي . 110).
وفي الآخرة مخلد في النار إذا مات من غير توبة ( (111) متن النونية ص 18 .111)، وكان الحال يقتضى أنهم لا يطلقون عليه كلمة الكفر ولا النفاق ولا يحكمون عليه بالخلود في النار بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ونجد هنا أن الإباضية وافقوا أيضاً سائر الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار إذا مات قبل التوبة بناء على اعتقاد إنفاذ الوعيد لا محالة .
واستدلوا بسائر أدلة الخوارج على كفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار وأهل السنة لا يرون ذلك بل يقولون إذا مات المذنب قبل التوبة فأمره إلى الله وهو تحت المشيئة ، ويقولون أيضاً أن أخلاف الوعد مذموم وإخلاف الوعيد كرم وتجاوز .(159/206)
13- وأما مسألة الإمامة والخلافة فقد ذكر بعض العلماء عن الإباضية في مسألة الإمامة والخلافة أن الإباضية يزعمون أنه قد يستغني عن نصب الخليفة ولا تعود إليه حاجة إذا عرف كل واحد الحق الذي عليه للآخر ، وهذا القول أكثر ما شهر عن المحكِّمة والنجدات .
وأما الإباضية فقد ذكر هذا القول عنهم . ج لوريمر في كتابه دليل الخليج( (112) دليل الخليج لوريمر 6/ 3303 وانظر الفصل لابن حزم : 4/87 .112) ولكن بالرجوع إلى كتب الإباضية نجد أنهم ينفون هذا القول عنهم ويعتبرونه من مزاعم خصومهم عنهم وإن مذهبهم هو القول بوجوب نصب حاكم للناس ومن قال غير هذا عنهم فهو جاهل بمذهبهم على حد ما يقوله علماؤهم كالسالمي وعلي يحي معمر وغيرهما .
قال السالمي : (( والإمامة فرض بالكتاب والسنة والإجماع والاستدلال ))( (113) الأباضية بين الفرق – على معمر ص 289 ، غاية المراد ص 18 للسالمس .113) وموقفهم هذا يتفق مع مذهب أهل السنة فإنهم يرون وجوب نصب الحاكم حتى وإن كانوا جماعة قليلة ، فلو كانوا ثلاثة في سفر لوجب تأمير أحدهم كما دلت على ذلك النصوص الثابتة وأن من قال بالاستغناء عن نصب الحاكم فقد كابر عقله وكذب نفسه ورد عليه الواقع من حال البشر وصار ما يقوله من نسج الخيال وأدلته على الاستغناء مردودة واهية .
والخوارج كافة ينظرون إلى الإمام نظرة حازمة هي إلى الريبة منه أقرب ولهم شروط قاسية جداً قد لا تتوفر إلا في القليل النادر من الرجال وإذا صدر منه أقل ذنب فإما أن يعتدل ويعلن توبته وإلا فالسيف جزاؤه العاجل .
وقد جوَّز الإباضية كأهل السنة صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا تمت للمفضول ؛ خلاف لسائر الخوارج .( (114) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 462 .114).(159/207)
14- وجوز الإباضية التقية خلاف لأكثر الخوارج( (115) انظر مسند الربيع بن حبيب : 3/ 12 .115). وقد أورد الربيع بن حبيب في مسنده روايات في الحث عليها تحت قوله (( باب ما جاء في التقية )) ومنه قال جابر سئل ابن عباس عن التقية فقال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما لم يستطيعوا وما أكرهوا عليه ))
قال : (( وقال ابن مسعود ما من كلمة تدفع عني ضرب سوطين إلا تكلمت بها وليس الرجل على نفسه بأمين إذا ضرب أو عذب أو حبس أو قيد )) ( (116) مسند الربيع بن حبيب : جـ3 ص 12 .وقد أخرج الحديث ابن ماجه في سننه 1/659 ، والبهيقي في السنن الكبرى 3/ 356، 357 ، والحاكم في المستدرك 2/ 198 ، والدار قطني في سننه 4/ 170 . ولفظ الحديث (( إن الله وضع عن أكتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، بدون (( وما لم يستطيعوا )) الزائدة عند الربيع . 116) أي وهو يجد خلاصاً في الأخذ بالتقية
وبهذا نكتفي بما تقدم ذكره عن فرقة الإباضية .
* * * * * * * * * * * * *
الفصل التاسع
إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للخوارج.وفيه مسائل.
وتشمل المسائل الآتية :
خاض الخوارج – كغيرهم من الفرق – في مسائل اعتقادية إلا أن الخوارج بصفة خاصة لم تصل إلينا أكثر أراءهم من كتبهم وإنما وصلت إلينا من كتب أهل السنة وقد صح نقل أهل السنة وغيرهم من علماء الفرق الآخرين وقد ذكرنا فيما مضى السبب في قبولنا لتلك النقول عن الخوارج وفيما يلي نذكر أهم المسائل التي كان للخوارج فيما دور بارز :
1- هل الخوارج يقولون بالتأويل أم بظاهر النص فقط
تعريف التأويل في اللغة :(159/208)
يطلق التأويل في اللغة على عدة معاني منها التفسير والمرجع والمصير والعاقبة وتلك المعاني موجودة في القرآن والسنة قال الله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}( (117) سورة الأعراف : 53 . 117) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس (( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )) .
تعريفه في الاصطلاح : عند السلف له معنيين :
1- يطلق بمعنى التفسير والبيان وإيضاح المعاني المقصودة من الكلام فيقال تأويل الآية كذا ؛ أي معناها .
2- ويطلق بمعنى المآل والمرجع والعاقبة فيقال هذه الآية مضى تأويلها وهذه لم يأت تأويلها .
والفرق بينهما : أنه لا يلزم من معرفة التأويل بمعنى التفسير معرفة التأويل الذي هو بمعنى المصير والعاقبة فقد يعرف معنى النص ولكن لا تعرف حقيقته كأسماء الله وصفاته فحقيقتها وكيفبتها كما هي غير معلومة لأحد بخلاف معانيها .
3- وعند الخلف من علماء الكلام والأصول والفقه هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح .
وهذا التأويل مرفوض عند السلف واعتبروه تحريفاً باطلاً في باب الصفات الإلهية( (118) كتحريفات الجهمية . 118) وقد ظهر هذا المعنى للتأويل متأخراً عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة بل ظهر مع ظهور الفرق ودخلوا منه إلى تحريف النصوص وكانت له نتائج خطيرة إذ كلما توغلوا في تأويله المعاني وتحريفها كلما بعدوا عن المعنى الحق الذي تهدف إليه النصوص وبالنسبة لموقف الخوارج فإن العلماء اختلفوا في الحكم على الخوارج بأنهم نصيون أو مؤولون.
1- فذهب بعضهم إلى أن الخوارج نصيون يجمدون على المعنى الظاهر من النص دون بحث عن معناه الذي يهدف إليه وهذا رأي أحمد أمين( (119) ضحى الإسلام : 3/ 334 . 119) وأبو زهرة( (120) تاريخ المذاهب الإسلامية : 1/ 66 .120)(159/209)
2- وذهب آخرون إلى أن الخوارج يؤولون النصوص تأويلاً يوافق أهوائهم وقد غلطوا حين ظنوا أن تأويلهم هو ما تهدف إليه النصوص وعلى هذا الرأي ابن عباس وشيخ الإسلام ابن تيمية( (121) النبوات ص 89 .121) وابن القيم( (122) النونية ص 85 .122).
3- ومن العلماء من ذهب إلى القول بأن الخوارج ليسوا على رأي واحد في هذه القضية بل منهم نصيون ومنهم مؤولون كما ذهب إلى هذا الأشعري في مقالاته .( (123) مقالات الأشعري : 1/ 183 .123)
وهذا هو الراجح فيما يبدو من آراء الخوارج ولا يقتصر الأمر على ما ذكره من اعتبار بعض الفرق نصيين وبعضهم مؤولين مجتهدين وإنما يتردد أمر الخوارج بين هذين حكمهم على الخوارج كما يتضح ذلك جلياً في مواقف الخوارج المختلفة .
ويبدو لي أن التأويل الذي نفاه الأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة رحمهما الله إنما هو التأويل الصحيح الذي يفهم صاحبه النص على ضوء مقاصد الشريعة .
وأما التأويل الذي يثبته للخوارج أصحاب الاتجاه الثاني ويذمونهم به فهو حمل الكلام على غير محامله الصحيحة وتفسيره تفسيراً غير دقيق .
2- موقف الخوارج من صفات الله عز وجل .
هذه المسألة لم أجد فيما تيسر لي الاطلاع عليه من كتب علماء الفرق بياناً لرأي الخوارج فيها بصفة عامة .
وقد ذكر الشهرستاني عن فرقة الشيبانية قولاً لأبي خالد زياد بن عبدالرحمن الشيباني في صفة العلم لله أنه قال : (( إن الله لم يعلم حتى خلق لنفسه علما ، وأن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها )) . ( (124) الملل والنحل 1/ 133 .124).
وأما بالنسبة لفرقة الإباضية بخصوصهم – فقد تبين من أقوال علمائهم أنهم يقفون منها موقف النفي أو التأويل بحجة الابتعاد عن اعتقاد المشبهة فيها كما تقدم .
وموضوع الصفات والبحث فيها يحتاج إلى دراسة مستقلة وبالرجوع إلى أي كتاب من كتب السلف يتضح الحق فيها بكل يسر وسهولة .(159/210)
وأما بالنسبة لما ذكر عن رأي زياد بن عبدالرحمن أو الإباضية فلا شك أنه لا يتفق مع المذهب الحق – مذهب السلف – ولو كان الأمر يخص زياد بن عبدالرحمن وحده لما كان له أدني أهمية ، ولكن الأمر أخطر من ذلك ، فقد اعتقدت الجهمية ذلك . وبطلان هذا القول ظاهر والتناقض فيه واضح .
فإن صفات الله عز وجل قديمة بقدمه غير مخلوقة وما يخلق الله من الموجودات فإنما يخلقه عن علم وإرادة ، إذا يستحيل التوجه إلى الإيجاد مع الجهل ، ثم كيف علم الله أنه بغير علم حتى يخلق لنفسه علماً ؟ هذا تناقض ظاهر .
3- حكم مرتكبي الذنوب عند الخوارج
اختلف حكم الخوارج على أهل الذنوب بعد اتفاقهم بصفة عامة على القول بتكفيرهم كفر ملة . وحاصل الخلاف نوجزه فيما يلي :.
1- الحكم بتكفير العصاة كفر ملة ، وأنهم خارجون عن الإسلام ومخلدون في النار مع سائر الكفار . وهذا رأي أكثرية الخوارج .
وعلى هذا الرأي من فرق الخوارج : المحكمة والأزارقة والمكرمية والشبيبية من البيهسية واليزيدية والنجدات . إلا أنهم مختلفون في سبب كفره :
فعند المكرمية أن سبب كفره ليس لتركه الواجبات أو انتهاك المحرمات وإنما لأجل جهله بحق الله إذ لم يقدره حق قدره .
وأما النجدات فقد فصلوا القول بحسب حال المذنب ، فإن كان مصراً فهو كافر ولو كان إصراره على صغائر الذنوب ، وإن كان غير مصر فهو مسلم حتى وإن كانت تلك الذنوب من الكبائر وهو تفصيل بمحض الهوى والأماني الباطلة .
2- أنهم كفار نعمة وليس كفار ملة :.(159/211)
وعلى هذا المعتقد فرقة الإباضية كما تقدم . ومع هذا فإنهم يحكمون على صاحب المعصية بالنار إذا مات عليها ، ويحكمون عليه في الدنيا بأنه منافق ، ويجعلون النفاق مرادفاً لكفر النعمة ويسمونه منزلة بين المنزلتين أي بين الشرك والإيمان ، وأن النفاق لا يكون إلا يكون إلا في الأفعال لا في الاعتقاد ( (125) نقلاً عن الأباضية بين الفرق الإسلامية عن كتاب المقالات في القديم والحديث ص 315 وانظر دراسات إسلامية في الأصول الأباضية . الأصل التاسع ص 60 .125).
وهذا قلب لحقيقة النفاق إذ المعروف أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نفاقهم في الاعتقاد لا في الأفعال،فإن أفعالهم كانت في الظاهر كأفعال المؤمنين
أدلتهم :
تلمس الخوارج لما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب بعض الآيات والأحاديث وتكلفوا في رد معانيها إلى ما زعموه من تأييدها لمذاهبهم وهي نصوص تقسم الناس إلى فريقين : مؤمن وكافر ، قالوا : وليس وراء ذلك الحصر من شيء .
ونأخذ من تلك الأدلة قوله تعالى :
1- {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ }( (126) سورة التغابن: الآية( 2 )126).
2- {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}( (127) سورة المائدة: الآية (44)127)
3- {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} ( (128) سورة سبأ:آية (17)128)
إلى غير ذلك من الآيات .
ووجه استدلالهم بالآية الأولى :
أن الله تعالى حصر الناس في قسمين : قسم ممدوح وهم المؤمنون وقسم مذموم وهم الكفار ، والفساق ليسوا من المؤمنين ، فإذاً هم كفار لكونهم مع القسم المذموم واستدلالهم هذا لا يسلم لهم . أن الناس ينحصرون فقط في الإيمان أو الكفر .(159/212)
فهناك قسم ثالث وهم العصاة لم يذكروه هنا ، وذكر فريقين لا يدل على نفى ما عداهما والآية كذلك واردة على سبيل التبعيض بمن ، أي بعضكم كافر وبعضكم مؤمن . وهذا لا شك في وقوعه ولم تدل الآية على مدعى الخوارج أن أهل الذنوب داخلون في الكفر.
وأما وجه استدلالهم بالآية الثانية :.
فقد زعموا أنها شاملة لكل أهل الذنوب ، لأن كل مرتكب للذنب لابد وأنه قد حكم بغير ما أنزل الله . وقد شملت الفساق لأن الذي لم يحكم بما أنزل الله فيجب أن يكون كافر والفاسق لم يحكم بما أنزل الله حين فعل الذنب .
وهذا الاستدلال مردود كذلك لأن الآية واردة على من استحل الحكم بغير ما أنزل الله . أما أن يدعى الشخص إيمانه بالله ويعترف بأن الحق هو حكم الله فليس بكافر وإنما من أصحاب المعاصي حتى تقام عليه الحجة .
وأما وجه استدلالهم بالآية الثالثة .
فهو أن صاحب الكبيرة لابد وأن يجازي – على مذهبهم – وقد أخبر القرآن أنه لا يجازى إلا الكفور . والفاسق ثبتت مجازاته عندهم فيكون كافراً .
وهذا الدليل مردود عليهم ، وينقضه أن الله يجازي الأنبياء والمؤمنين وهم ليسوا كفاراً ، وبأن الآية كانت تعقيباً لبيان ذلك العقاب الذي حل بأهل سبأ ، وهو عقاب الاستئصال ، وهذا ثابت للكفار لا لأصحاب المعاصي .( (129) انظر تفسير الفخر الرازي لهذه الآيات من سورة سبأ. وانظر جامع البيان : 4/ 19 ، 30/ 226 ، وانظر تفسير الطبري : 6/ 252 ، فتح القدير : 5/ 453 ، 2/ 45 .129).
وأما ما استدلوا به من السنة على بدعتهم في تكفير العصاة من المسلمين فقد أساءوا فهم الأحاديث وحملوها المعاني التي يريدونها ، ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(159/213)
(( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن ))( (130) أخرجه البخاري : 8/ 13 ، ومسلم 1/ 54 .130).
ولهم أدلة أخري نكتفي منها بهذا الحديث .
فقد فهموا من هذا الحديث نفى الإيمان بالكلية عن من فعل شيئاً مما ذكر في الحديث ، وهذا لا حجة لهم فيه ، فإن الحديث – كما يذكر العلماء – إما أن يكون واردا فيمن فعل شيئاً مما ذكر مستحلاً لتلك الذنوب أو أن المراد به نفي كمال الإيمان عنهم ، أو أن نفي الإيمان عنهم مقيد بحال مواقعتهم لتلك الذنوب .
ولو كانت تلك الكبائر تخرج الشخص عن الإيمان لما اكتفى بإقامة الحد فيها . ولهذا فقد ذكر بعض العلماء أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاء ، ولا يخاض في معناها .
وقال الزهري في مثل هذه الأحاديث (( أمروها كما أمرها من قبلكم )) .( (131) انظر شرح النووي لصحيح مسلم 2/ 41- 42 .131)
وقد جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : (( ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة . قلت وإن زني وإن سرق ثلاثاً ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر )) قال : (( فخرج أبو ذر وهو وإن رغم أنف أبي ذر )).( (132) أخرجه مسلم : 1/ 66 . 132)
والكلام في أهل الكبائر مبسوط في موضعه من كتب التوحيد وكتب الفرق والمقصود هنا هو التنبيه على خطأ الخوارج فيما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب من المسلمين مخالفين ما تضافرت النصوص عليه من عدم كفر مرتكبي الذنوب كفر ملة إلا بتفصيلات مقررة في مذهب السلف .
4- الإمامة العظمي(159/214)
هذه هي مشكلة الخوارج الكبرى منذ نشأوا وطوال عهد الدولة الأموية وزمن متقدم من عهد الدولة العباسية ، شغلتهم قضية الإمامة عملياً ، فجردوا السيوف ضد الحكام المخالفين لهم ناقمين عليهم سياستهم في الرعية من عدم تمكينهم من اختيار أمامهم بأنفسهم ثم سياستهم الداخلية في الناس وشغلتهم فكرياً بتحديد شخصية الإمام وخصائصه ودوره في المجتمع ، وكانوا يظهرون بمظهر الزاهد عن تولى الخلافة حينما يكون الأمر فيما بينهم وحربا لا هوادة فيها ضد المخالفين لهم .
حكم الإمامة عند الخوارج
الإمامة منصب خطير وضرورة اجتماعية إذ لا يمكن أن ينعم الناس بالأمن وتستقر الحياة إلا بحاكم يكون هو المرجع الأخير لحل الخلافات وحماية الأمة وقد أطبق على هذا جميع العقلاء .
أما بالنسبة للخوارج فقد انقسموا فيها إلى فريقين :.
1- الفرق الأول : وهم عامة الخوارج . وهؤلاء يوجبون نصب الإمام والانضواء تحت رايته والقتال نعه ما دام على الطريق الأمثل الذي ارتأوه له .
2- الفريق الثاني : وهم المحكمة والنجدات والإباضية فيما قيل عنهم . وهؤلاء يرون أنه قد يستغنى عن الإمام إذا تناصف الناس فيما بينهم وإذا احتيج إليه فمن أي جنس كان ما دام كفئا لتولى الإمامة ( (133) مقالات الأشعري : 1/ 205 ، مروج الذهب : 3 / 236 .133).
ومن مبرارتهم :
1- استنادهم إلى المبدأ القائل لا حكم إلا لله ، والمعنى الحرفي لهذا المبدأ يشير صراحة إلى أنه لا ضرورة لوجود الحكومة مطلقاً .
2- أن الحكم ليس من اختصاص البشر بل تهيمن عليه قوة علوية .
3- إن الضروري هو تطبيق أحكام الشريعة ، فإذا تمكن الناس من تطبيقها بأنفسهم فلا حاجة إلى نصب خليفة .
4- ربما ينحصر وجود الإمام في بطانة قليلة وينعزل عن الأعلبية فيكون بعيداً عن تفهم مشاكل المسلمين فلا يبقى لوجود فائدة .
5- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر صراحة ولا وضع شروطاً لوجود الخلفاء من بعده .(159/215)
6- أن كتاب الله لم يبين حتمية وجود إمام وإنما أبان وأمرهم شوري بينهم( (134) آراء الخوارج للطالبي ص 125 ، عمان تاريخ ص 123 .134).
هذه مبرراتهم بالنفي ، فهل بقى القائلون بالاستغناء عن نصب الإمام على مبدأهم ؟ والجواب بالنفي فإن المحكمة حينما انفصلوا ولو عليهم عبدالله بن وهب الراسبي والنجدات حينما انفصلوا . تزعمهم نجدة بن عامر وأما ما قيل عن الإباضية من أنهم يقولون بالاستغناء عن نصب الإمام( (135) كما يذكر لوريمر في كتابه دليل الخليج : 6 / 3303 .135) فإن مصادرهم التي تيسرت لي قراءتها تذكر أن هذا القول إنما نسبه إليهم خصومهم بقصد الإشاعة الباطلة عنهم( (136) الأباضية بين الفرق الإسلامية ص 290 .136).
وأما تلك المبررات التي نسبت إلى من ذكرناهم فلا شك أنها مبررات واهية ولا تكفي للقول بالاستغناء عن نصب الخليفة . أما القول بعدم وجود الإنسان الكامل ، فإنه لا يمنع من نصب الإمام حيث يختار أفضل الموجودين .
ومن التصور الساذج القول بتناصب الناس فيما بينهم . وأما انعزال الإمام فإن مدار الأمر على التزامه بواجباته الشرعية وعدم إيجاد الحجب بينه وبين رعيته ، وذلك مناط الحكم بضرورة وجود الإمام شرعاً وعقلاً .
وقد ذهبت الخليفة من الخوارج الإباضية إلى أن كل إقليم أو حوزة يستقل بها أمامها فلا يجوز لإمام أن يجمع بين حوزتين ( (137) نقلاً عن آراء الخوارج صـ 128 . لكن عموم الأباضية لا تجيز هذا حسب ما جاء في مدارج الكمال ص 172 .137) ويكون لهذا المناطق أئمة بعدد تلك المناطق وهذا باطل ولا يتفق مع روح الإسلام وأهدافه لأن ذلك يؤدي إلى المشاحنات والعداوة وتفريق كلمة المسلمين وحينما قرروا أن كل إقليم ينبغي أن يكون مستقلا عن الآخر لا يخضع إقليم ولا منطقة لمنطقة أخرى تجاهلوا دعوة المسلمين إلى الاتحاد الذي يكمن فيه عزهم وقوتهم .
شروط الإمام
وضع الخوارج شروطاً قاسية لمن يتولى الإمام ومنها :.(159/216)
1- أن يكون شديد التمسك بالعقيدة الإسلامية مخلصاً في عبادته وتقواه حسب مفهومهم .
2- أن يكون قوياً في نفسه ذا عزم نافذ وتفكير ناضج وشجاعة وحزم .
3- أن لا يكون فيه ما يخل بإيمانه من حب المعاصي واللهو .
4- ألا يكون قد حد في كبيرة حتى ولو تاب .
5- أن يتم انتخابه برضى الجميع ، لا يغنى بعضهم عن بعض .
ولا عبرة بالنسب أو الجنس ، كما يقولونه ظاهراً دعاية لمذهبهم وفي باطنهم يملأهم التعصب وكون الإمام ينتخب برضى أهل الحل والعقد ، هذا مبدأ إسلامي لم يأت به الخوارج كما يقول بعض المستشرقين دعاية للخوارج .
ولم يلتفت الخوارج إلى ما صح من الأحاديث في اشتراك القرشية لتولي الخلافة وتقديم قريش فيها عند صلاحية أحدهم لها .
ولم يشترط الشرع في الإمام أن يكون ليله قائماً ونهاره صائماً ، أو أنه لا يلم بأي معصية ، أو يكون انتخابه برضي كل المسلمين من أقصاهم إلى أدناهم ، لا يغنى بعضهم عن بعض في مبايعتهم له كما يزعمه الخوارج( (138) مدارج الكمال للسالمي ص 171 ، تاريخ المذاهب الإسلامية ص 1/ 71 التفكير الفلسفي 1/191 للدكتور عبدالحليم محمود ، آراء الخوارج ص 121 ، عمان تاريخ يتكلم ص 126 .138).
محاسبة الإمام والخوارج عليه
يعيش الإمام عند الخوارج بين فكي الأسد – عكس الشيعة – فالخوارج ينظرون إلى الإمام على أنه المثل وجهه الأعلى وينبغي أن يتصف بذلك قولاً وفعلاً وبمجرد أقل خطأ ينبغي عليهن القيام في وجه ومحاسبته ، فإما أن يعتدل وإما أن يعتزل .(159/217)
ومن غرائبهم ما يروى عن فرقة البيهسية منهم والعوفية ، فقد اعتبر هؤلاء كفر الإمام سبباً في كفر رعيته ، فإذا تركه رعيته دون إنكار فإنهم يكفرون أيضاً( (139) مقالات الأشعري : 1/ 194 ، الطرماح بن حكيم ص 55 الملل والنحل : 1/ 126 الفرق بين الفرق ص 109 التنبيه والرد للملطي ص 169 .139) ، ولا شك أن هذا جهل بالشريعة الإسلامية ، وعلى هذا فما تراه من كثرة حروبهم وخروجهم على أئمتهم أو أئمة مخالفهم يعتبر أمراً طبيعياً إزاء هذه الأحكام الخاطئة .
وقد حث الإسلام على طاعة أولى الأمر والاجتماع تحت رايتهم إلا أن يظهروا كفر بواحا . فلا طاعة المخلوق في معصية الخالق ، وينبغي معالجة ذلك بأخف الضرر ، ولا يجوز الخروج عليهم ما داموا ملتزمين بالشريعة بأي حال .
إمام المفضول
اختلف الخوارج في صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إلى فريقين :
1- ذهب فريق منهم إلى عدم الجواز وأن إمامة المفضول تكون غير صحيحة مع وجود الأفضل .
2- وذهب الفريق الآخر منهم إلى صحة ذلك وأنه تنعقد الإمامة للمفضول مع وجود الأفضل ، كما هو الصحيح( (140) الفصل لابن حزم حزم 4/ 163 ، الأباضة بين الفرق الإسلامية ص 462 آراء الخوارج لعمار الطالبي : 128 .140).
إمامة المرأة
الإمامة مسؤلية عظمي وعبء ثقيل يتطلب سعة الفكر وقوة البصير ة ويتطلب مزايا عديدة جعل الله معظمها في الرجال دون النساء ، ولا أدل على هذا من اختيار الله عز وجل لتبليغ رسالته من جنس الرجال ، وقد أطبق جميع العقلاء على أن الخلافة لا يصلح لها النساء .
ولكنا نجد فرقة من فرق الخوارج وهي التشبيبة تذهب إلى جواز تولي المرأة الإمامة العظمى مستدلين بفعل شبيب حينما تولت غزالة – زوجته وقبل أمه – بعده( (141) الفرق بين الفرق ص 110 .141).
موقف الخوارج من عامة المسلمين المخالفين لهم
انقسم الخوارج في نظرتهم إلى المخالفين لهم إلى فريقين
1- فريق منهم غلاة .
2- وفريق آخر أبدي نوعاً من الاعتدال .(159/218)
ويذكر الأشعري رحمه الله في مقالاته أن الخوارج مجمعون على أن مخالفيهم يستحقون السيف ودماؤهم حلال إلا فرقة الإباضية فإنها لا تري ذلك إلا مع السلطان( (142) المقالات : 1/ 204 .142).
واختلف علماء الفرق في أول من حكم بكفر المخالفين هل هم المحكمة الأولى أم هم الأزارقة ومن سار على طريقتهم من فرق الخوارج فيما بعد .
وبتتبع حركة المحكمة الأولى نجد أنهم سبقوا إلى تكفير المخالفين لهم واستحلال دمائهم والشواهد في كتب الفرق كثيرة كقتلهم عبدالله بن خباب بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره في حوادث كثيرة إلا أن أشد من بالغ في تكفير المخالفين لهم وأعمل فيهم السيف هم الأزارقة وفرقة منهم تسمى البيهسية وكذلك أتباع حمزة بن أكرك .
- أما المعتدلون منهم – وهو اعتدال لا يكاد يذكر – فنجد مثلاً الأخنسية منهم يحرمون الغدر بالمخالفين أو قتلهم قبل الدعوة وجوزوا تزويج المسلمات – منهم لمخالفيهم – الذين يعتبرونهم مشركين ، وكذلك بعض البيهسية .
ومن أكثر المعتدلين والمتسامحين مع المخالفين هو تلك الشخصية المرموقة عند كافة الخوارج أبو بلال مرداس بن أدية فقد خرج وهو يقول لمن يلقاه أنا لا نخيف أمناً ولا نجرد سيفاً وكان مما آثاره للخروج على الدولة أن زيادا ذات يوم خطب على المنبر وكان مرداس يسمعه فكان من قوله (( والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء والحاضر منكم بالغالب والصحيح بالسقيم )) .
وهذا بالطبع لا يحتمله الخوارج فقام إليه مرداس فقال قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام إذا يقول : {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}( (143) سورة النجم : 37، 38 . 143) وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاص ثم خرج عقب هذا اليوم .(159/219)
وينبغي أن يعلم أن كل فرقة لابد فيها من غلاة يخرجون على جمهورهم إلا أن السمة الغالبة على الخوارج الشدة على المخالفين لهم وقد تعود هذه الشدة إلى ما يراه الخوارج من وجهة نظرهم من خروج مخالفيهم عن النهج الإسلامي وبعدهم عنه وبالتالي الرغبة في إرجاع الأمة إلى ما كانت عليه في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما يدعى الخوارج ...
حكم الخوارج في أطفال مخالفيهم
لابد وأن يكون في حكم العقل تمييز بين معاملة الصغير الذي لم يبلغ سن التكليف وبين الكبير المكلف . والخوارج لم يتفقوا على حكم واحد في الأطفال سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة ونوجز أهم آرائهم في هذه القضية فيما يلي :.
1- منهم من اعتبرهم في حكم آبائهم المخالفين فاستباح قتلهم باعتبار أنهم مشركون لاعصمة لدماء آبائهم .
2- ومنهم من جعلهم من أهل الجنة ولم يجوز قتلهم .
3- واعتبرهم بعضهم خدما لأهل الجنة .
4- ومنهم من توقف فيهم إلى أن يبلغوا سن التكليف ويتبين حالهم .
5- والإباضية تولوا أطفال المسلمين وتوقفوا في أطفال المشركين ، ومنهم من يلحق أطفال المشركين بأطفال المؤمنين .
أما القول الأول : فهو للأزارقة واستدلوا بقوله الله تعالى : {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} ( (144) سورة نوح :27144) . وتبعهم في هذا بعض فرق الخوارج كالعجاردة والحمزية والخلفية .
وأما القول الثاني : فهو للنجدات والصفرية والميمونية واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) ( (145) انظر كتاب الأديان 104 .145) والذين توقفوا في الحكم عليهم قالوا لم نجد في الأطفال ما يوجب ولا يتهم ولا عداوتهم إلى أن يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا به أو ينكرونه .(159/220)
هذه خلاصة أهم آراء الخوارج في هذه القضية والواقع أن هذه المسألة من المسائل الخلافية بين العلماء .
فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أطفال المؤمنين إذا ماتوا على الإيمان فإن الله تعالى يدخلهم الجنة مع آباءهم وإن نقصت أعمالهم عنهم لتقر أعين أبائهم بهم فيكونون مع أبائهم في الجنة تفضلا من الله تعالى على ضوء قوله عز وجل : {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }( (146) الطور: 21 وانظر تفسير ابن كثير ج 4 ص 241 .146).
ونقل ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال بأنهم في الجنة دون خلاف .
وبعضهم ذهب إلى أنهم تحت المشيئة .
وجدير بالذكر أن أطفال المؤمنين الذين نتحدث عنهم هنا هم الذين يعتبرهم الخوارج أطفال مشركين .
وأما أطفال المشركين الذين هم عبدة الأوثان ومن في حكمهم فإن العلماء اختلفوا فيهم اختلافاً كثيراً .
1- فذهب بعضهم إلى التوقف في أمرهم فلا يحكم لهم بجنة ولا نار وأمرهم إلى الله .
2- أنهم في النار .
3- أنهم في الجنة .
4- أنهم في منزلة بين المنزلتين أي الجنة والنار .
5- أن حكمهم حكم آبائهم في الدنيا ولآخرة تبعاً لآبائهم حتى ولو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لإفراطهما بالنار .
6- أنهم يمتحنون في عرصات القيامة بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فمن أطاعه منهم دخل الجنة ومن عصاه دخل النار .
وقد استعرض ابن القيم أدلة القائلين بهذه الآراء وانتهي إلى نصرة الرأي الأخير ثم قال (( وبهذا يتألف شمل كلها وتتوافق الأحاديث ويكون معلوم الله الذي أحال عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال (( الله أعلم بما كانوا عاملين )) .
وأيد ابن حزم القول بأن أطفال المشركين في الجنة وكذا النووي وقد توقف شيخ الإسلام في الحكم عليهم .(159/221)
وأما استباحة قتل النساء كما – يرى الخوارج – فقد أخطأوا حين جوزوا ذلك سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين فقد صحت الأحاديث بالمنع من قتلهم إلا أن يكون ذلك في بيات لا يتميز فيه الأطفال والنساء فلا بأس من قتلهم إذا وقع دون عمد . ( (147) انظر: التفسير القيم ص 451، فتح القدير5/ 98 جامع البيان: 27/25 طريق الهجرتين : 387 ، الفصل لابن حزم: 4/ 74 .
147)
*******************************
الفصل العاشر
الحكم على الخوارج.
اختلفت وجهات النظر في الحكم على الخوارج فيما ظهر لي من خلال دراستي عنهم إلى قولين :
1- أحدهما الحكم بتكفيرهم.
2- الحكم عليهم بالفسق والابتداع والبغي.
وقد استند الذين كفروهم على ما ورد من أحاديث المروق المشهورة عند علماء الفرق؛ رادين الخوارج إلى سلفهم القديم ذي الخويصرة وموقفه الخاطئ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم موقف الخوارج أيضاً من الصحابة خصوصاً الإمام علياً وغيره ممن شارك في قضية التحكيم.
والأحاديث الواردة فيهم كثيرة غير أن علي يحيى معمر يرى أن هذه الأحاديث إنما تصدق –على فرض صحتها كما يذكر- على المرتدين في زمن أبي بكر رضي الله عنه( (148) الإباضية في موكب التاريخ : 1/ 29.148). وما رأيت أحداً من العلماء سبقه إلى هذا القول. ثم إن ما في الأحاديث من أوصاف الخوارج من كثرة قراءتهم للقرآن وتعمقهم في العبادة لا ينطبق على هؤلاء المرتدين في زمن أبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كفرهم كثير من العلماء، لا نرى التطويل بذكر أسمائهم هنا.(159/222)
وإذا كان بعض العلماء يتحرج عن تكفيرهم عموماً فإنه لا يتحرج عن تكفير بعض الفرق منهم، كالبدعية من الخوارج الذين قصروا الصلاة على ركعة في الصباح وركعة في المساء. والميمونية- حيث أجازوا نكاح بعض المحارم كبنات البنين وبنات البنات وبنات بني الأخوة، ثم زادوا فأنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن لاشتمالها –فيما يزعمون- على ذكر العشق( (149) انظر الملل والنحل : 1/129 . والقرآن لم يدعو الناس إلى العشق وضرب المواعيد الفاجرة وإنما دعي إلى ما تضمنته هذه السورة الكريمة من العفة وتقديم خوف الله على خوف غيره وكبح جماح النفس الأمارة بالسوء والشهوات الطائشة ولو صار العشاق على حسب ما تضمنته سورة يوسف لصاروا أولياء .149) والحب، والقرآن فيه الجد، وكذا اليزيدية منهم، حيث زعموا أن الله سيرسل رسولاً من العجم فينسخ بشريعته شريعة محمد صلى الله عليه وسلم( (150) الفصل لابن حزم : 4/ 188 .150).
أما الرأي الثاني: وهو القول بعدم تكفير الخوارج؛ فأهل هذا الرأي يقولون: إن الاجتراء على إخراج أحد من الإسلام أمر غير هين، نظراً لكثرة النصوص التي تحذر من ذلك إلا من ظهر الكفر من قوله أو فعله فلا مانع حينئذ من تكفيره بعد إقامة الحجة عليه.
ولهذا أحجم كثير من العلماء أيضاً عن إطلاق هذا الحكم عليهم وهؤلاء اكتفوا بتفسيقهم، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لقيامهم بأمر الدين- وأن لهم أخطاء وحسنات كغيرهم من الناس، ثم إن كثيراً من السلف لم يعاملوهم معاملة الكفار كما جرى لهم مع علي رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز؛ فلم تسبى ذريتهم وتغنم أموالهم.
ولعل الصحيح أن الذين حكموا على الخوارج بالكفر الصريح قد غلوا في تعميم الحكم عليهم، والذين حكموا عليهم بأنهم كغيرهم من فرق المسلمين أهل السنة قد تساهلوا، بل الأولى أن يقال في حق كل فرقة ما تستحقه من الحكم حسب قربها أو بعدها عن الدين.(159/223)
وإطلاق ما أطلقته النصوص في الحكم العام، ويتوقف عن إطلاق التكفير المخرج من الملة على المعين إلا بعد إقامة الحجة عليه، أو إذا ظهر كفره من قوله أو فعله أو اعتقاده.
وإلى هنا ينتهي المطلوب بالنسبة لفرقة الخوارج، وقد تركنا مسائل كثيرة للخوارج( (151) كبحث موقف الخوارج من رؤية الله عز وجل وإنكارهم لها في الدنيا والآخرة . وموقفهم من القول بخلق القرآن واعتقادهم أن ذلك حق يجب الإيمان به واختلافهم في مسائل القدر إلى ثلاث طرائف مؤيدة للقدرية ومؤيدة للجبرية وموافقة لمذهب السلف – وكذا إنكار الخوار لوجود الجنة والنار الآن – أي قبل يوم القيامة . وإنكار أكثرهم لعذاب القبر غير طائفة الإباضية . وموقف الخوارج من الشفاعة وإنكارهم لها غير الإباضية الذين يثبتونها فقط للمتقين وإنكارهم الميزان والصفات الثابتة له . وإنكارهم الصراط والصفات الثابتة له ، واختلافهم في حقيقة الإيمان هل هو الإقرار والمعرفة فقط أو هو قول وعمل واعتقاد أكثرهم عدم زيادة الإيمان ونقصه . وموقفهم من قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن ذلك يتم عندهم بالعنف والقوة وليس له مراتب وغير ذلك من المسائل التي تهم دارس هذه الفرقة بالتفصيل والتدقيق وما ذكرته عنهم فإنما هو من باب الإيجاز والتنبيه . 151) يجدها الباحث حين يرجع إلى ما كتبه علماء الفرق عنهم، وربما يجمع تلك المسائل كلها وجميع فرقهم وما يتعلق بهم رسالة ماجستير تسمى: ((الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها)) لكاتب هذه الأسطر، وقد ذكرتها من باب تسهيل الرجوع إلى ما يتعلق بالخوارج لمن يهمه دراسة هذه الفرقة بالتفصيل.
********************************
المراجع
أولاً: مراجع فرقة الخوارج ومنها :
1- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: لأبي الحسن الأشعري.
2- الملل والنحل: للشهرستاني.
3- الفرق بين الفرق: للبغدادي.
4- الفصل في الملل والأهواء والنحل: لابن حزم.(159/224)
5- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع: للملطي.
6- التبصير في أمور الدين: للإسفراييني.
7- الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها ، رسالة ماجستير لكاتب هذا البحث.
8- آراء الخوارج: للدكتور عمار الطالبي.
9- فرق المسلمين والمشركين: للرازي.
10- المواقف: للإيجي.
ثانياً: مراجع فرقة الإباضية بخصوصهم:
1- الإباضية بين الفرق الإسلامية: لعلي يحيى معمر.
2- الإباضية في موكب التاريخ: لعلي يحيى معمر.
3- العقود الفضية: للحارثي.
4- الدليل لأهل العقول: للورجلاني.
5- متن النونية: للنفوسي.
6- كتاب الأديان: لمؤلف إباضي مجهول الاسم.
7- أجوبة ابن خلفون.
8- تلقين الصبيان ما يجب على الإنسان: للسالمي.
9- كتاب الدعائم: لأحمد بن النضر.
10- مسند الربيع بن حبيب أو ((الجامع الصحيح)).
11- مدارج الكمال نظم مختصر الخصال: للسالمي.
12- الإباضية عقيدة ومذهباً: د.صابر طعيمة.
********************************
الباب الرابع
الشيعة ( (1) قد يعترض البعض على تسمية هؤلاء الروافض بالشيعة بحجة عدم صدقهم في تشيعهم لأهل البيت ، لأنهم هم أعداء أهل البيت وليسوا شيعتهم ، وهذا المعترض محق في ذلك ولكن أثبت تسميتهم شيعة كاسم علم يعم جميع الفرق التي تظاهرت بزعم التشيع لئلا يعترض أحد بإخراج بعض الطوائف التي تظاهرت بنصرة أهل البيت حينما نطلق على الجميع تسميتهم الروافض كالذين يرون رأى زيد مثلاً ، ولأن إطلاق هذه التسمية (( روافض )) إنما عرفت حينما أطلقها عليهم زيد . 1)
تمهيد:
تتركز هذه الدراسة لهذه الفرقة في الرد على أولئك الذين أسسوا كثيراً من الأفكار الشيعية على محاربة الإسلام وأهله ببيان ضلالهم وبيان موقفهم من النصوص وموقفهم من الشعائر الإسلامية وموقفهم من أهل البيت ومن القرآن الكريم ومن الصحابة الكرام وغير ذلك من تعاليمهم.(159/225)
وأيضاً لنضم أصواتنا إلى أصوات كثير من مفكري الشيعة كالدكتور موسى الموسوي وغيره من الذين تبين لهم حجم الخرافات الهائلة في المذهب الشيعي، وبعدهم عن تعاليم الإسلام المشرقة في كثير من المعتقدات، فجاشت نفوسهم بالرغبة في بذل النصح لهم وبيان الأخطاء الشيعية التي دونها علماؤهم في كتبهم من المتقدمين أو من المتأخرين.
إننا نحرص كل الحرص ونرغب أشد رغبة في عودة هؤلاء إلى الحق، وسنلتزم إن شاء الله ببيان الحق بدليله، مع الاستناد في تخطئتهم إلى كتبهم؛ لعله يتبين لهم أن ما هم عليه أكثره سراب مأخوذ عن أحد شخصين: إما رجل حاقد على الإسلام وأهله، وإما رجل قد اتخذ الخرافات ديناً، متعصب لما ألفى عليه آباءه و مشائخه. وقد أوجب الإسلام بذل النصح وبيان الحق وإقامة الحجة. والحق هو ما أثبته كتاب الله وأثبتته السنة النبوية، وما عداه باطل.
والشيعة –كطائفة ذات أفكار وآراء- غلب عليهم هذا الاسم وهم من أكذب الفرق على أئمتهم، ومن أخطرها على المسلمين، وذلك بسبب:
1- استعمالهم التقية المرادفة للكذب.
2- تظاهرهم بنصرة آل البيت، حيث انخدع بهم كثير من عوام المسلمين.
3- بغضهم لأهل السنة بسبب تعاليم خاطئة وضعها بعض كبرائهم نتج عنها نفور الشيعة وعدم الوصول –بعد محاولات كثيرة من جانب أهل السنة- إلى التقارب.
وقد قام التشيع في ظاهر الأمر على أساس الاعتقاد بأن علياً رضي الله عنه وذريته هم أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن علياً أحق بها من سائر الصحابة بعهد من النبي صلى الله عليه وسلم، كما زعموا في رواياتهم التي اخترعوها وملأوا بها كتبهم.
ومن الملاحظ على هذه الفرقة أنها كانت باباً واسعاً لكل طامع في تحقيق أغراضه من أهل الأهواء:
1- إذ تشيع قوم إيماناً بأحقية أولاد علي بالخلافة حسبما سمعوا من النصوص التي لفقها علماء التشيع.(159/226)
وتشيع قوم كرهوا الحكم الأموي ثم العباسي فقاموا بتلك الثورات العديدة التي سجلها علماء الفرق والتاريخ تحت غطاء دعوى التشيع لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وتشيع آخرون للانتقام من الإسلام كالباطنية.
وتشيع قوم لتحقيق مطامع سياسية كالمختار مثلاً.
2- ولأن الشيعة أيضاً لا يتحرون النصوص الصحيحة، ولا يهتمون بإيصال السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لهذا فإن أكثر أحاديثهم رُويت عن الأئمة.
3- ولأنهم كذلك أهل عاطفة نحو أهل البيت –فيما يظهرون للناس-، فلذا يكفي لتوثيق الشخص عندهم أن يكون ظاهره الغلو في أهل البيت، ويكون بذلك من الثقات الإثبات.
* * * * * * * * * * * * *
الفصل الأول
التعريف بالشيعة لغة واصطلاحاً، وبيان التعريف الصحيح
أولاً: في اللغة:
أطلقت كلمة الشيعة مراداً بها الأتباع والأنصار والأعوان والخاصة.
قال الأزهري:(( والشيعة أنصار الرجل وأتباعه، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة)) ( (2) تهذيب اللغة ج 3 ص 61 . 2)
وقال الزبيدي: ((كل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وكل من عاون إنساناً وتحزب له فهو شيعة له، وأصله من المشايعة وهي المطاوعة والمتابعة))( (3) انظر تاج العروس ج 5 ص 405 . 3).
استعمال مادة ((شيعة)) في القرآن الكريم:
وردت كلمة شيعة ومشتقاتها في القرآن الكريم مراداً بها معانيها اللغوية الموضوعة لها على المعاني التالية:
1-بمعنى الفرقة أو الأمة أو الجماعة من الناس:
قال الله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً}( (4) سورة مريم: 694) أي من كل فرقة وجماعة وأمة( (5) انظر تفسير القرآن العظيم ج 3 ص131 .5).
2-بمعنى الفرقة:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}( (6) سورة الأنعام: الآية159 . 6) أي فرقاً ( (7) تفسير القرآن الحكيم – تفسير المنارج 8 ص 214 .7).(159/227)
3- وجاءت لفظة أشياع بمعنى أمثال ونظائر:
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }( (8) سورة القمر:51 .8) أي أشباهكم في الكفر من الأمم الماضية( (9) جامع البيان ج 27 ص 112 . 9).
4-بمعنى المتابع والموالي والمناصر( (10) فتح القدير ج 4 ص 163 . 10):
قال تعالى: { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ }( (11) سورة القصص: الآية15.11) ( (12) انظر تهذيب اللغة ج 3 ص 63 .12).
ثانياً: في الاصطلاح:
اختلفت وجهات نظر العلماء في التعريف بحقيقة الشيعة، نوجز أقوالهم فيما يلي:
1- أنه علم بالغلبة على كل من يتولى علياً وأهل بيته. كقول الفيروز آبادي: ((وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته، حتى صار اسماً لهم خاصاً))( (13) القاموس المحيط ج 3 ص 49 ، ونحوه عند الأزهري في تهذيب اللغة ج 3 ص 61 . 13).
2- هم الذين نصروا علياً واعتقدوا إمامته نصاً، وأن خلافة من سبقه كانت ظلماً له.
3- هم الذين فضّلوا علياً على عثمان رضي الله عنهما.
4- الشيعة اسم لكل من فضل علياً على الخلفاء الراشدين قبله رضي الله عنهم جميعاً، ورأى أن أهل البيت أحق بالخلافة، وأن خلافة غيرهم باطلة وكلها تعريفات غير جامعة ولا مانعة إلا واحداً منها.
مناقشة تلك الأقوال:
أما التعريف الأول: فهو غير سديد، لأنه أهل السنة يتولون علياً وأهل بيته، وهم ضد الشيعة.
وأما التعريف الثاني: فينقضه ما ذهب إليه بعض الشيعة من تصحيحهم خلافة الشيخين، وتوقف بعضهم في عثمان، وتولي بعضهم له كبعض الزيدية فيما يذكر ابن حزم ( (14) انظر الفصل ج 4 ص 92 .14).
ثم أيضاً ما يبدو عليه من قصر الخلافة في علي فقط دون ذكر أهل بيته.(159/228)
والتعريف الثالث غير صحيح كذلك؛ لانتقاضه بما ذهب إليه بعض الشيعة من البراءة من عثمان. كقوله كثير عزة:
برأت إلى الإله من ابن أروى *** ومن دين الخوارج أجمعينا
ومن عمر برئت ومن عتيق *** غداة دعي أمير المؤمنينا
ويبقى الراجح من تلك التعريفات الرابع منها لضبطه تعريف الشيعة كطائفة ذات أفكار وآراء اعتقادية( (15) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 145 . 15).
* * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
متى ظهر التشيع؟
اختلفت أقوال العلماء من الشيعة وغيرهم في تحديد بدء ظهور التشيع تبعاً لاجتهاداتهم. وقد قدمنا بيان السبب في مثل هذا الخلاف، وحاصل الأقوال هنا:
1- أنه ظهر مبكراً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يديه حيث كان يدعو إلى التوحيد ومشايعة علي جنباً إلى جنب.
وقد تزعم هذا القول محمد حسين الزين من علماء الشيعة وغيره( (16) الشيعة والتشيع ص 19.16). وهو ما ذكره النوبختي أيضاً في فرقه( (17) فرق الشيعة اانوبختي ص 39 . 17)، وهو ما أكده أيضاً الخميني( (18) الحكومة الإسلامية ص 136 .18) في عصرنا الحاضر، بل ذهب حسن الشيرازي إلى القول: ((بأن الإسلام ليس سوى التشيع والتشيع ليس سوى الإسلام، والإسلام والتشيع اسمان مترادفان لحقيقة واحدة أنزلها الله، وبشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم))( (19) الشعائر الحسينية ص 11 .19).
2- أنه ظهر في معركة الجمل حين تواجه علي وطلحة والزبير، وقد تزعم هذا القول ابن النديم حيث ادعى أن الذين ساروا مع علي واتبعوه سمّوا شيعة من ذلك الوقت( (20) الفهرست لابن النديم ص 249 . 20).
3- أنه ظهر يوم معركة صفين، وهو قول لبعض علماء الشيعة كالخونساري، وأبو حمزة، وأبو حاتم. كما قال به أيضاً غيرهم من العلماء، مثل ابن حزم، وأحمد أمين( (21) الشيعة والتشيع ص 25.21).(159/229)
4- أنه كان بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وهو قول كامل مصطفى الشيببي وهو شيعي؛ حيث زعم أن التشيع بعد مقتل الحسين أصبح له طابع خاص( (22) انظر الصلة بين التصوف والتشيع ص 23 .22).
5- أنه ظهر في آخر أيام عثمان وقوي في عهد علي( (23) انظر : رسالة في الرد على الرافضة ص 42 . 23).
والواقع أن القول الأول الذي قالت به الشيعة مجازفة وكذب صريح لا يقبله عقل ولا منطق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الوثنية إلى التوحيد، وإلى جمع الكلمة وإلى عدم التحزب، والقرآن والسنة مملوءان بالدعوة إلى الله وعدم الفرقة.
وقد قال محمد مهدي الحسيني الشيرازي: ((وقد سماهم بهذا الاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال مشيراً إلى علي عليه السلام: ((هذا وشيعته هم الفائزون))( (24) قضية الشيعة ص3 . 24) ، وهذا باطل.
ولعل الراجح من تلك الأقوال هو القول الثالث –أي بعد معركة صفين- حين انشقت الخوارج وتحزبوا في النهروان، ثم ظهر في مقابلهم أتباع وأنصار علي حيث بدأت فكرة التشيع تشتد شيئاً فشيئاً.. على أنه –فيما يبدو- لا مانع أن يوجد التشيع بمعنى الميل والمناصرة والمحبة للإمام علي وأهل بيته قبل ذلك – إذا جازت تسمية ذلك تشيعاً – لا التشيع بمعناه السياسي عند الشيعة، فإن هؤلاء ليسوا شيعة أهل البيت وإنما هم أعداؤهم والناكثون لعهودهم لهم في أكثر من موقف.
* * * * * * * * * * * * * * * **
الفصل الثالث
المراحل التي مر بها مفهوم التشيع
كان مدلول التشيع في بدء الفتن التي وقعت في عهد علي رضي الله عنه بمعنى المناصرة والوقوف إلى جانب علي رضي الله عنه ليأخذ حقه في الخلافة بعد الخليفة عثمان، وأن من نازعه فيها فهو مخطئ يجب رده إلى الصواب ولو بالقوة.(159/230)
وكان على هذا الرأي كثير من الصحابة والتابعين، حيث رأوا أن علياً هو أحق بالخلاقة من معاوية بسبب اجتماع كلمة الناس على بيعته، ولا يصح أن يفهم أن هؤلاء هم أساس الشيعة ولا أنهم أوائلهم، إذ كان هؤلاء من شيعة علي بمعنى من أنصاره وأعوانه.
ومما يذكر لهم هنا أنهم لم يكن منهم بغي على المخالفين لهم، فلم يكفروهم، ولم يعاملوهم معاملة الكفار بل يعتقدون فيهم الإسلام، وأن الخلاف بينهم لم يعدُ وجهة النظر في مسألة سياسية حول الخلافة وقد قيل: إن علياً كان يدفن من يجده من الفريقين دون تمييز بينهم.
وقد أثمر موقف الإمام علي هذا فيما بعد، إذ كان تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية انطلاقاً من هذه المواقف الطيبة التي أبداها والده رضي الله عنهما.
ولم يقف الأمر عند ذلك المفهوم من الميل إلى علي رضي الله عنه ومناصرته، إذ انتقل نقلة أخرى تميزت بتفضيل علي رضي الله عنه على سائر الصحابة، وحينما علم علي بذلك غضب وتوعد من يفضله على الشيخين بالتعزير، وإقامة حد الفرية عليه( (25) انظر مختصر التحفة الاثني عشرية صـ5-6.25).
وقد كان المتشيعون لعلي في هذه المرحلة معتدلين، فلم يكفروا واحداً من المخالفين لعلي رضي الله عنه ولا من الصحابة، ولم يسبوا أحداً، وإنما كان ميلهم إلى علي نتيجة عاطفة وولاء.
وقد اشتهر بهذا الموقف جماعة من أصحاب علي، قيل منهم أبو الأسود الدؤلي، وأبو سعيد يحيى بن يعمر، وسالم بن أبي حفصة، ويقال أن عبد الرزاق صاحب المصنف في الحديث، وابن السكيت على هذا الاتجاه( (26) انظر مختصر التحفة الاثني عشرية صـ5 وهم ثقاة كما في تقريب التهذيب إلا سالم بن أبي حفصة فقد قال عنه صدوق في الحديث إلا أنه شيعي غال انظر صـ279 جـ1 وقال عن عبدالرزاق بن همام ثقة حافظ .. وكان يتشيع جـ1 صـ505 .26).(159/231)
ثم بدأ التشيع بعد ذلك يأخذ جانب التطرف والخروج عن الحق، وبدأ الرفض يظهر وبدأت أفكار ابن سبأ تؤتي ثمارها الشريرة فأخذ هؤلاء يظهرون الشر، فيسبون الصحابة ويكفرونهم ويتبرءون منهم، ولم يستثنوا منهم إلا القليل كسلمان الفارس، وأبي ذر، والمقداد، وعمار بن ياسر، وحذيفة.
وحكموا على كل من حضر ((غدير خم)) بالكفر والردة لعدم وفائهم –فيما يزعم هؤلاء – ببيعة علي وتنفيذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعلي في غدير خم المذكور.
وكان عبد الله بن سبأ هو الذي تولى كبر هذه الدعوة الممقوتة الكافرة، وقد علم علي بذلك فنفاه إلى المدائن وقال: ((لا تساكنني ببلدة أبداً )).
وأخيراً بلغ التشيع عند الغلاة إلى الخروج عن الإسلام، حيث نادى هؤلاء بألوهية علي. وقد تزعم هذه الطبقة ابن سبأ، ووجد له آذاناً صاغية عند كثير من الجهال، ومن الحاقدين على الإسلام. وقد أحرق علي رضي الله عنه بالنار كل من ثبت أنه قال بهذا الكفر( (27) على القول بأنه أحرقهم فإنه لم يحرقهم بالنار مباشرة ، وإنما حفر ثلاث حفر كبار ، ثم أضرم النار في حفرتين وجعلهم في الثالثة ، وجعل الدخان يتسرب إليها من الحفرتين فاختنقوا بالدخان وماتوا به ، وحينما رأوا بأنه يريد أن يحرقهم ازدادوا عنادا واستكبارا متخذين من عزمه على حرقهم دليلا على ألوهيته ، لأنه – كما عللوا بذلك – لا يحرق بالنار ألا رب النار .27) وكان له مع ابن سبأ موقف نذكره بالتفصيل عند ذكر فرقة السبئية ( (28) انظر مختصر التحفة صـ3-9، الشيعة والتشيع ص 40- 41 .28)
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
أسماء الشيعة
1- الشيعة : وهو أشهر اسم من أسمائهم، ويشمل جميع فرقهم، ولا خلاف بين العلماء في إطلاقه عليهم كاسم علم.
2- الرافضة : وقد أطلقه عليهم بعض العلماء فجعله اسماً لجميع الشيعة.(159/232)
3- الزيدية : وهي تسمية لبعض الناس يطلقونها على جميع الشيعة( (29) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 146 . 29).
وكل هذه الأسماء الثلاثة وردت من خلال كتابات بعض العلماء عن طائفة الشيعة، واختيار كل منهم للاسم الذي يطلقه عليهم لا أن هذه التسميات بالاتفاق أو بهذا الترتيب.
والواقع أن إطلاق اسم الرافضة على عموم الشيعة، بمن فيهم بعض فرقهم كالزيدية التي نشأت في نهاية القرن الأول للهجرة غير سديد، لأن التسمية -رافضة- إنما أخذت من قول زيد بن علي لبعض الشيعة: ((رفضتموني))( (30) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 146 . 30) فسموا الرافضة.
وليس معنى هذا أنهم لم يكونوا على عقيدة الرفض بل هم رافضة، ولهذا طلبوا من زيد أن يكون رافضياً مثلهم فامتنع. لكن لم تجرِ هذه التسمية عليهم قبل ذلك، ومعنى هذا أن الشيعة كان لهم وجود قبل زيد تحت أسماء أخرى كما سيأتي بيانه.
وكذا إطلاق اسم الزيدية على جميع فرق الشيعة( (31) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 146 . 31) يرد عليه اعتراض، فقد كانت الشيعة لهم وجود قبل زيد الذي تنسب إليه الزيدية متمثلاً في فرق السبئية والكيسانية.
ثم إن الزيدية لا تقول بكل مقالات الشيعة الغلاة، بل بينهما خلافات حادة في كثير من الآراء، وسباب كما ذكره البغدادي، وهو واضح من موقف زيد نفسه فلم يرفض زيد خلافة الشيخين ولم يسبهما.
ويتضح من هذا أن إطلاق اسم الشيعة على كل طوائف التشيع لا يرد عليه اعتراض إذا أريد به اسم علم، بغض النظر عن صدق هذا الاسم عليهم أو عدم صدقه، فقد يكون الاسم من المسلمين وصاحبه من الملحدين، وقد يكون العكس، فلا تأثير للأسماء في الحقيقة والواقع.
الفصل الخامس
فرق الشيعة
1- تمهيد :
1- انقسمت الشيعة إلى فرق عديدة، أوصلها بعض العلماء إلى يقارب سبعين فرقة( (32) مختصر التحفة الإثني عشرية ، القسم الأول من الكتاب . 32).(159/233)
وبدراسة تلك الفرق قد يتضح أن منهم الغلاة الذين خرجوا عن الإسلام وهم يدَّعونه ويدَّعون التشيع، ومنهم دون ذلك، ويمكن أن نقتصر على دراسة أربع فرق كان لها دور بارز في العالم الإسلامي وهي:
- السبئية. - الكيسانية.
- الزيدية. - الرافضة.
والرافضة الاثنا عشرية هي الواجهة البارزة في عصرنا الحاضر للتشيع.
وقبل الخوض في تفاصيل تلك الفرق نذكر السبب في تفرق الشيعة ذلك التفرق، ونذكر أيضاً السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرق الشيعة.
2- السبب في تفرق الشيعة:
من الطبيعي جداً أن يحصل خلاف بين الشيعة، شأنهم شأن بقية الفرق أهل الأهواء، فما داموا قد خرجوا عن النهج الذي ارتضاه الله لعباده، واستندوا إلى عقولهم وأهوائهم فلا بد أن نتوقع الخلافات خصوصاً حينما يكون الخلاف مراداً لذاته.
ونضيف إلى هذا أنه ربما يعود تفرق الشيعة إلى عدة أسباب بعضها ظاهر وبعضها غير ظاهر، ومن ذلك:
1- اختلافهم في نظرتهم إلى التشيع:
إذ منهم الغالي المتطرف الذي يسبغ على الأئمة هالة من التقديس والإطراء، وعلى من خالفهم أحط الأوصاف وأشنع السباب، بل وإطلاق الكفر عليهم، مما يكون بعد ذلك هوة عميقة لاختلاف وجهات النظر، ومنهم من اتصف بنوع من الاعتدال، فلا يرى أن المخالفين لهم كفار وإن كانوا على خطأ كما يرى هؤلاء.
2- اختلافهم في تعيين أئمتهم من ذرية علي.
فمنهم من يقول هذا، ومنهم من يقول ذلك، كما سيتضح ذلك من دراستنا لهذه الطائفة حينما ندرس مواقف الاثني عشرية و الزيدية و النصيرية والباطنية في تعيين الأئمة، وكيفية تسلسلهم فيها.
3- كون التشيع مدخلاً لكل طامع في مأرب:
وحينما كان التشيع مدخلاً لكل طامع في مأرب فقد أحدث هؤلاء الطامعون في السلطة، أو في الانتقام من الآخرين أو في حب الظهور – أحدث هؤلاء انشقاقاً كبيراً بين صفوف الشيعة حينما طلبوا تحقيق أغراضهم بالتظاهر بالتشيع لآل البيت، ثم البدء بما يهدفون إليه.(159/234)
فمثلاً دخلت الباطنية عن طريقهم، وتزعم المختار عن طريقهم، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة.
3- عدد فرقهم:
وكشأن العلماء في اختلافهم في عدد الفرق نجدهم قد اختلفوا في عدد فرق الشيعة.
فالأشعري( (33) مقالات الإسلاميين ج 1 ص 65.33) مثلاً يذكر أنهم ثلاث فرق رئيسية، وما عداها فروع.
بينما نرى البغدادي( (34) الفرق بين الفرق ص 21 .34) وهو يسمي الشيعة الروافض – أي بما فيهم السبئية و الزيدية- يعدهم أربعة أصناف والباقي فروعاً لهم.
ويعدهم الشهرستاني( (35) الملل والنحل ج1 ص147 .35) خمس فرق والباقي فروعاً لهم.
وبعضهم يعدهم أكثر بكثير من هذه الأعداد كما قدمنا، والأقرب إلى الصواب أن يقال:إن من أكبر فرقهم أكثرهم نفوذاً ووجوداً في العالم الإسلامي إلى اليوم فرقة الإمامية الرافضة وفرقة الزيدية.
ومما لا شك فيه أن هذا الاختلاف تكمن وراءه أسباب. فما هي تلك الأسباب أو الظاهر منها ؟
4- السبب في عدم اتفاق العلماء على عدد فرق الشيعة؟
ذكرنا قبل قليل أن فكرة التشيع قد جذبت إليها كثيراً من أهل الأهواء والأغراض، وهؤلاء بدءوا يُدخلون في الإسلام ما لا يتفق مع الإسلام، بل يتفق مع هواهم، فأضافوا إلى الفكر الشيعي أفكاراً جديدة أسهمت في كثرة تفرق من ينتسب إلى التشيع.
وهذه الكثرة والظهور المتتابع جعلت العلماء لا يتفقون في عدهم لهم، ومن هنا بدأ علماء الفرق يسجلون ما يصل إليهم من عدد فرق الشيعة، فجاء عدّهم غير منضبط لتجدد الأفكار الشيعية وتقلبها.
وربما أيضاً لتباعد هؤلاء العلماء فيما بينهم، ولكثرة ظهور الفرق الشيعية أيضاً في تتابع لم يمكِّن العلماء من ملاحقته ورصده، بل وربما يوجد لكثير من هذه الفرق رغبة ملحة في صرف الأنظار عنهم فيحاولون زيادة التشويش لصرف التوجيه إليهم ودراستهم ومتابعة حركاتهم المريبة، ليتم لهم تنفيذ مآربهم بهدوء دون أن يفطن الناس لهم.(159/235)
إضافة إلى ذلك التشويش الحاصل فعلاً في طريقتهم عند طباعة كتبهم بحيث لا يهتدي الشخص إلى المكان الذي يريد تسجيله عليهم للاختلاف البعيد بين طبعات الكتاب الواحد، واختلاف الصفحات.
* * * * * * * * * * * * * * **
الفصل السادس
دراسة أهم فرق الشيعة
1- السبئية:
السبئية : هم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي.
قيل إنه من الحيرة( (36) انظر الفرق بين الفرق ص 235 .36) بالعراق، وقيل –وهو الراجح- إنه من أهل اليمن من صنعاء( (37) انظر تاريخ الطبري ج 4 ص 340 .37)، وقيل أصله رومي( (38) انظر البداية والنهاية ج7 ص 173 .38) . أظهر الإسلام في زمن عثمان خديعة ومكراً، وكان من أشد المحرضين على الخليفة عثمان رضي الله عنه حتى وقعت الفتنة.
وهو أول من أسس التشيع على الغلو في أهل البيت، ونشط في التنقل من بلد إلى بلد؛ الحجاز والبصرة والكوفة، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر وبها استقر، ووجد آذاناً صاغية لبثّ سمومه ضد الخليفة عثمان والغلو في علي، وهذا النشاط منه في نشر أفكاره مما يدعو إلى الجزم بأن اليهود يموِّلونه، إذ كلما طرد من بلد انتقل إلى آخر بكل نشاط، ولاشك أنه يحتاج في تنقله هو وأتباعه إلى من يموِّلهم وينشر آراءهم، ومن يتولى ذلك غير اليهود الذين آزروه في إتمام خطته ليجنوا ثمارها بعد ذلك الفرقة وتجهيل المسلمين والتلاعب بأفكارهم.
وقد بدأ ينشر آراءه متظاهراً بالغيرة على الإسلام، ومطالباً بإسقاط الخليفة إثر إسلامه المزعوم. ثم دعا إلى التشيع لأهل البيت وإلى إثبات الوصاية لعلي إذ إنه –كما زعم- ما من نبي إلا وله وصي، ثم زعم بعد ذلك أن علياً هو خير الأوصياء بحكم أنه وصي خير الأنبياء.(159/236)
ثم دعا إلى القول بالرجعة( (39) انظر المقالات للأشعري ج 1 ص 86 .39)، ثم إلى القول بألوهية علي، وأنه لم يقتل بل صعد إلى السماء، وأن المقتول إنما هو شيطان تصور في صورة علي، وأن الرعد صوت عليّ، والبرق سوطه أو تبسمه، إلى غير ذلك من أباطيله الكثيرة.
وفيما أرى أنه قد بيّت النية لمثل هذه الدعاوى، ولهذا لم يفاجئه موت علي بل قال وبكل اطمئنان وثبات لمن نعاه إليه: ((والله لو جئتمونا بدماغه في صرة لم نصدق بموته، ولا يموت حتى ينزل من السماء ويملك الأرض بحذافيرها))( (40) انظر الفرق بين الفرق ص 235 .40) .
وهذه الرجعة التي زعمها لعلي كان قد زعمها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: ((إنه ليعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمداً يرجع)). واستدل بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ }( (41) القصص: الآية 85 41).
وقد كذب عدو الله وأخطأ فهم الآية أو تعمد ذلك في أن المعاد هنا هو رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا قبل يوم القيامة، فلم يقل بهذا أحد من المفسرين، وإنما فسروا المعاد بأنه:
- الموت.
- أو الجنة.
- أو أنه رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة.
- أو رجوعه إلى مكة( (42) انظر تفسير القرآن العظيم ج 3 ص 402-403 .42).
وهي أقوال لكل واحد منها حظ من النظر بخلاف قول ابن سبأ، فإنه قول يهودي حاقد كاذب على الله دون مبالاة.
وقد تبرأ جميع أهل البيت من هذا اليهودي، ويذكر أن بعض الشيعة قد تبرأ منه أيضاً ( (43) انظر مقالات القمي ص 20 .43).
موقف علي رضي الله عنه من ابن سبأ:
اختلفت الروايات عن موقف علي رضي الله عنه من ابن سبأ حينما ادعى ألوهيته:(159/237)
1- بعض الروايات تذكر أن علياً استتابه ثلاثة أيام فلم يرجع فأحرقه في جملة سبعين رجلاً ( (44) منهج المقال ص 203 للاسترابادي . وكذا قال الشيعي الحسن بن علي في كتابه (( الرجالي )) ص 469 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص56-57 . 44).
2- وبعض الروايات تذكر أن ابن سبأ لم يظهر القول بألوهية علي إلا بعد وفاته، وهذا يؤيد الرواية التي تذكر أنه نفاه إلى المدائن حينما علم ببعض أقواله، وغلوه فيه ( (45) شرح نهج البلاغة ج2ص309 ، وانظر الملل والنحل للشهرستاني . ج ص157 .45).
3- وبعض الروايات تذكر أن علياً علم بمقالة ابن سبأ في دعوى ألوهيته، ولكنه اكتفى بنفيه خوف الفتنة واختلاف أصحابه عليه، وخوفاً كذلك من شماتة أهل الشام.
وكان هذا بمشورة ابن عباس رضي الله عنهما، أو الرافضة كما قيل في هذه الرواية( (46) انظر الفرق بين الفرق ص 235 .46).
والواقع أن الروايات التي تذكر أن علياً ترك ابن سبأ فلم يحرقه واكتفى بنفيه مع عظم دعواه وشناعة رأيه فيه –أمر فيه نظر، بل غير وارد كما أتصور، إذ يستعبد- حسبما يظهر لي- أن يتركه علي يعيث في الأرض فساداً، ويدعوا إلى ألوهيته أو نبوته أو وصايته أو التبرأ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يكتفي بنفيه فقط إلى المدائن، وهو يعلم أنه باق على غلوه، وأنه سيفسد كل مكان يصل إليه.
ويمكن أن يقال –وهو أقل اعتذار: إنه تركه لعدم ثبوت تلك الأقوال عنده؛ لأن ابن سبأ كان يرمي بها من خلف ستار.
أو لأن دعوى الألوهية لم توجد إلا بعد وفاة علي رضي الله عنه كما يرى بعضهم، وأنه حينما نفاه إلى المدائن كانت دعواه لم تصل إلى حد تأليهه لعلي رضي الله عنه.
وقد جرأت هذه الدعوى الكثير بعد ذلك على دعوى الألوهية لأشخاص من آل البيت بل ومن غيرهم.
ومما يجدر التنبيه إليه وقوع أخطاء حول هذه الشخصية تناقلها بعض العلماء نبيِّنها فيما يلي:(159/238)
1- أن بعض علماء الشيعة، ومن المستشرقين أيضاً من يحاول إنكار وجود ابن سبأ ويزعم أن شخصيته أسطورية منتحلة( (47) انظر ابن سبأ حقيقة لاخيال ص 7 – 24 .47).
وهؤلاء لا يوجد لهم مستند إلا شبهات واهية، وأصبح إنكارهم له أشبه ما يكون بإنكار ضوء الشمس في وسط النهار، إضافة إلى أن هذا الإنكار دعوى خطيرة، إذ لو صح التشكيك في وجوده لسهل التشكيك أيضاً في وجود غيره ممن امتلأت بهم مصادر المسلمين، ولعلها خطة يبيتها هؤلاء للوصول إلى هذا الهدف البعيد ليفقد المسلم بعد ذلك ثقته بتاريخه وفيما كتبه علماؤه، فيكذبهم أو يبقى في حيرة وشك.
2- وقع لبعض العلماء التباس بين عبد الله بن سبأ، وعبد الله بن وهب الراسبي ( (48) انظر عبدالله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام ص 39- 42 .48)، ورأى أنهما شخصية واحدة، وهذا خطأ ظاهر.
فإن الراسبي هو زعيم المحكمة الأولى –كما سبق-، وابن سبأ هو زعيم الحركة السبئية .
3- وجد من كلام بعض العلماء ما يشير إلى التفرقة بين ابن السوداء، وبين ابن سبأ( (49) المصدر السابق ص 42 . 49). والواقع الصحيح غير ذلك فإن ابن سبأ هو نفسه ابن السوداء كما يسميه بعضهم. ومن فرق بينهما فلاشتباه الأمر عليه.
وأما بالنسبة للرد على المسألة الأخيرة ((دعوى ألوهية علي)) فهي واضحة البطلان، فإن ادعاء الألوهية لأي شخص كلام ساقط يدل على نية خبيثة ومعتقد رديء أو جنون صاحبه.
ومثله الزعم بأن علياً لم يقتل، وأنه لا يجوز عليه الموت. وقد رد البغدادي في كتابه ((الفرق بين الفرق))( (50) الفرق بين الفرق ص 236 . 50) ، وكذا ابن حزم أيضاً( (51) الفصل لابن حزم ج 4 ص180 . 51)وغيرهما على مزاعم ابن سبأ بعدم موت عليّ بأدلة عقلية منها:
1- إن كان مقتول عبد الرحمن بن ملجم شيطاناً وليس بعليّ، فلم لعنتم ابن ملجم وقد قتل شيطاناً؟(159/239)
2- قولكم إن الرعد صوت علي، والبرق تبسمه أو سوطه يبطله أن البرق والرعد كانا موجودين ومعروفين منذ القدم، واختلف الفلاسفة قبل الإسلام في علتهما لا في وجودهما.
3- موسى وهارون ويوشع أعظم رتبة في نفس ابن سبأ واليهود من علي ... فلم صدقوا بموتهم ونفوا حلول الموت بعلي؟
4- دعواهم أن الأئمة ينبع لهم العسل والسمن من الأرض( (52) يشير هنا قول ابن سبأ حينما بلغه قتل علي (( والله لينبغي لعلي في مسجد الكوفة عينان تفبض إحداهما عسلا والأخرى سمنا ويغترف منهما شيعته )) .52)- يكذبه أن الحسين وأصحابه بكربلاء قتلوا عطاشاً، ولم ينبع لهم الماء فضلاً عن السمن والعسل( (53) انظر الفرق بين الفرق ص 236 .53).
زعمهم أن علياً في السحاب على حد ما قال إسحاق بن سويد( (54) المصدر السابق .54).
برئت من الخوارج لست منهم *** من الغزّال منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا علياً *** يردون السلام على السحاب
هذا الزعم يبطله أن السحاب متفرق فوق الأرض، يبدأ وينتهي في حركات متواصلة ومتقطعة..ففي أي سحاب يكون؟ وعلى أي أرض يستقر؟
ورغم تفاهة هذه الدعوى في علي رضي الله عنه إلا أنها وجدت مؤيدين ومناصرين، وقد صدق الله تعالى حين قال في وصف البشر حين يضلون الصراط المستقيم: {أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون}.
ورغم تفاهة دعوى ابن سبأ في علي رضي الله عنه فقد ذكر علماء الفرق من الردود عليها والإلزامات الواردة عليها ما لا تستحق من الاهتمام.
2-الكيسانية:
بدأ ظهور هذه الفرقة بعد قتل الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، وعرفوا بهذه التسمية واشتهروا بموالاتهم لمحمد بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية، وظهر تكونهم بعد تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنهما ( (55) مقالات القمي ص 26 . 55).(159/240)
فحينما تم الصلح مالوا عن الحسن والحسين وقالوا بإمامة محمد بن الحنفية، وقالوا: إنه أولى بالخلافة بعد علي، وهو وصي علي بن أبي طالب، وليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه أو يخرج بغير إذنه.
وقالوا: إن الحسن خرج لقتال معاوية بأمر محمد بن الحنفية، وإن الحسين خرج لقتال يزيد بإذن ابن الحنفية، بل وقالوا بأن من خالف ابن الحنفية فهو مشرك كافر.
وفرقة من هؤلاء الكيسانية قالوا: إن الإمامة لعلي ثم الحسن ثم الحسين ثم لابن الحنفية لأنه أولى الناس بالإمامة كما كان الحسين أولى بها بعد الحسن( (56) مقالات القمي ص 23. وانظر لمزيد الأخبار فرق الشيعة للنوبختي .56).
وقد اختلف في كيسان زعيم الكيسانية:
1- فقيل إن كيسان رجل كان مولى لعلي بن أبي طالب.
2- وقيل: بل كان تلميذاً لمحمد بن الحنفية( (57) الملل والنحل للشهرستاني ج1 ص 147 .57).
3- وقيل: بل هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب، وقد كان يلقب بكيسان( (58) انظر مقالات القمي ص21 .58). وهذا غير صحيح لأن قيام الكيسانية كان قبل ظهور أمر المختار كما تقدم.
3-المختارية:
كيف صارت الكيسانية مختارية؟
حينما تقرأ بعض كلام علماء الفرق تجد أن فيه مشكلة خفية وخلطاً في التسمية، إذ يجعل بعضهم الكيسانية هي نفسها فرقة المختارية التي تزعمها المختار ابن أبي عبيد كما فعل القمي وغيره ( (59) مقالات القمي ص21 .59).
وبعضهم يجعل الكيسانية فرقة مستقلة، تزعمها رجل يقال له كيسان كما فعل الشهرستاني وغيره.
والذي يتضح لي أن الكيسانية عندما نشأت كانت فرقة مستقلة، تزعمهم رجل يسمى كيسان الذي هو تلميذ لمحمد بن الحنفية أو مولى لعلي، وحينما جاء المختار بن أبي عبيد انضم إليه هؤلاء وكونوا بعد ذلك فرقة المختارية...
ولقد كان لفرقة المختارية أحداث هامة في التاريخ بقيادة المختار. فمن هو المختار بن أبي عبيد الذي تلقفته الكيسانية للانقضاض به على قتله الحسين ابن علي رضي الله عنه؟(159/241)
المختار بن أبي عبيد الثقفي:
هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، ولد في الطائف في السنة الأولى للهجرة، ووالده صحابي استشهد في معركة الجسر حينما كان قائداً لجيش المسلمين في فتح العراق، وقام بكفالة المختار عمه سعيد بن مسعود الثقفي الذي كان والياً على الكوفة لعلي رضي الله عنه.
وقد نشأ المختار على جانب من الذكاء والفطنة مراوغاً ماكراً غير صادق في تشيعه، وإنما كان يريد من ورائه تحقيق طموحه السياسي بأي وجه، وله مواقف تشهد بصحة هذا القول عنه ذكرها أهل التاريخ والفرق( (60) انظر ترجمة البداية جـ8 صـ289 ، وانظر والنحل ج 1 صـ147 .60).
وقد لقب بكيسان لأسباب هي:
1- منهم من يقول: إنه نسبة إلى الغدر( (61) القاموس المحيط ج2 ص 275 .61)، لأن كيسان في اللغة العربية اسم للغدر، وكان المختار كذلك.
2- أنه أطلق عليه هذا اللقب باسم مدير شرطته المسمى بكيسان( (62) مقالات القمي ص 21 ، فرق النوبختي ص 45 .62) والملقب بأبي عمرة الذي أفرط في قتل كل من شارك ولو بالإشارة في قتل الحسين، فكان يهدم البيت على من فيه، حتى قيل في المثل: ((دخل أبو عمرة بيته)) كناية عن الفقر والخراب.
أنه أطلق على المختار هذا اللقب باسم كيسان الذي هو مولى علي بن أبي طالب( (63) ) مقالات القمي ص 22 ، فرق النوبختي ص 45 .63).
وذهب بعض الشيعة ومنهم النوبختي( (64) فرق الشيعة ص48 .64) إلى أن هذا اللقب أطلقه عليه محمد بن الحنفية على سبيل المدح، أي لكيسه، ولما عرف عنه من مذهبه في آل البيت؛ لأن الكيسانية زعموا أن محمد بن الحنفية هو الذي كلف المختار بالثورة في العراق لأخذ الثأر للحسين، وهذا ليس بصحيح كما سيأتي.(159/242)
وقد كان للمختار أدوار مع ابن الزبير، وخاض معارك في العراق خرج منها ظافراً فأعجبته نفسه، وأخذ يسجع كسجع الكهان، ويلمح لأناس ويصرح لآخرين أنه يوحى إليه، فانفض عنه كثير من أصحابه، وقُتل في حربه مع مصعب بن الزبير سنة 67هـ ، وتفرق أتباعه( (65) تاريخ الطبري ج 6 ص 65 .65)، وصدق عليه الحديث الذي روته أسماء بنت أبي بكر وغيرها أنه كذاب ثقيف( (66) سنن الترمذي ج 4 ص 499 .66).
محمد بن الحنفية:
أما ابن الحنفية الذي جعله المختار واجهة له...فهو محمد بن علي بن أبي طالب، وأمه خولة، قيل: بنت جعفر، وقيل: بنت أياس الحنفية، وهي من سبي اليمامة في حروب الردة، صارت إلى علي. وقيل: إنها سندية وكانت أمة لبني حنيفة فنسبت إليهم.
ولد ابن الحنفية سنة 16هـ في عهد عمر بن الخطاب، ونشأ شجاعاً فاضلاً عالماً، دفع إليه أبواه الراية يوم الجمل وعمره 21سنة، وقد تنقل بعد وفاة والده فرجع إلى المدينة ثم انتقل إلى مكة ثم منى في عهد ابن الزبير ثم إلى الطائف، ثم قصد عبد الملك بن مروان بالشام وتوفي سنة 81هـ قبل بالطائف، وقيل بأيلة من فلسطين، وقيل لم يمت بل حبسه الله في جبل رضوى القريب من ينبع، وهذا من تحريف الشيعة.
وبعد وفاته اختلف الشيعة فيما بينهم:
فذهب بعضهم إلى أنه مات وسيرجع. وذهب آخرون إلى أنه لا زال حياً بجبل رضوى قرب المدينة عنده عينان نضاختان، إحداهما تفيض عسلاً، والأخرى تفيض ماءً، عن يمينه أسد يحرسه، وعن يساره نمرٌ يحرسه، والملائكة تراجعه الكلام، وأنه المهدي المنتظر، وأن الله حبسه هناك إلى أن يؤذن له في الخروج، فيخرج ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وفي هذه الخرافات يقول السيد الحميري أو كثير عزة على رواية في قصيدة له:
ألا حي المقيم بشعب رضوى *** واهد له بمنزله السلاما
وقل ياابن الوصي فدتك نفسي *** أطلتَ بذلك الجبل المقاما
وما ذاق ابن خولة طعم موت *** ولا وارت له أرض عظاما(159/243)
لقد أمسى بجانب شعب رضوى *** تراجعه الملائكة الكلاما
وإن له لرزقاً كل يوم *** وأشربه يعل بها الطعاما
أضر بمعشر وآلوك منا *** وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك أهل الأرض طرا *** مقامك عنهم سبعين عاما ( (67) أوردها القمي في مقالاته ص21 – 32 ، والنوبختي في فرقه ص 51 باختصار .67)
وقد اختلف الكيسانية في سبب حبس ابن الحنفية بجبل رضوى:
1- ذهب بعضهم –وأراد أن يقطع التساؤل- إلى القول بأن سبب حبسه سر الله، لا يعلمه أحد غيره، وهو تخلص من هذه الكذبة التي زعموها في حبسه.
2- وبعضهم قال: إنه عقاب من الله له بسبب خروجه بعد قتل الحسين إلى يزيد بن معاوية، و طلبه الأمان له، وأخذه عطاءه.
3- بعضهم قال: إنه بسبب خروجه من مكة قاصداً عبد الملك بن مروان هارباً من ابن الزبير ولم يقاتله( (68) وانظر أخباره في مروج الذهب ج 4 ص 85 -123 . وفي الفرق بين الفرق ص39-53 وفي مقالات القمي ص 30-31 .68).
والحقيقة أنك لا تدري كيف تبلدت عقول هؤلاء إلى حد أن يعتقدوا هذا الاعتقاد الغريب في أن الله غضب على ابن الحنفية من مجرد زيارته لهؤلاء الحكام من المسلمين، والذين لهم يد مشكورة في انتشار رقعة الإسلام، فأوصل الله –بزعمهم- عقابه إلى هذا الحد من السنين الطويلة التي شكى منها الحميري سبعين عاماً، وقد بقي الكثير جداً والتي ستمتد إلى أن يغير هؤلاء الحمقى عقيدتهم هذه.
4-الزيدية:
بعد قتل الحسين بن علي( (69) إذا أردت أن تعرف موقف يزيد من الحسن فانظر البداية والنهاية ج8 ص 191- 194 .69) ظهرت معظم الفرق التي تزعم التشيع، بل وأخذت دعوى التشيع تتصاعد في الغلو.(159/244)
وفي أيام علي بن الحسين الملقب بزين العابدين طمع الشيعة في استجلابه إليهم غير أنه كان على ولاء تام ووفاء كامل لحكام بني أمية متجنباً لمن نازعهم( (70) انظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 154 ، التشيعة والتشيع ص 204.70)، بل إن يزيد بن معاوية وهو خليفة كان يكرمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا معه( (71) الإمام زيد ص 23 .71).
وقد أنجب أولاداً، منهم:
- زيد بن علي بن الحسين.
- محمد بن علي بن الحسين المكنى بأبي جعفر الباقر.
- عمر بن علي بن الحسين( (72) وتسمية علي ابن الحسين ابنه باسم عمر إفحام لكذب الشيعة فيما يدعون من كراهة علي لأبي بكر ولعمر ، حيث إنهم يجنبون أولادهم التسمية باسم خيار الصحابة مثل أبو بكر وعمر وعائشة . بل ومثله سمى علي رضي الله عنه أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم . 72).
وقد اختلف الشيعة في أمر زيد بن علي، ومحمد بن علي أيهما أولى بالإمامة بعد أبيهما؟
فذهبت طائفة إلى أن لزيد فسموا زيدية، وهؤلاء يرتبون الأئمة ابتداءاً بعلي رضي الله عنه، ثم ابنه الحسن، ثم الحسين، ثم هي شورى بعد ذلك بين أولادهما-كما ترى الجارودية منهم( (73) المقالات والفرق صـ18 .73) - ثم ابنه علي بن الحسين زين العابدين، ثم ابنه زيد وهو صاحب هذا المذهب، ثم ابنه يحيى بن زيد، ثم ابنه عيسى بن زيد –كما ترى الحصنية منهم فيما يذكره القمي( (74) انظر المقالات والفرق صـ74 .74)-، وبعد ذلك يشترطون في الإمام أن يخرج بسيفه سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين.
وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمامة لمحمد بن علي بن الحسين المكنى بأبي جعفر الباقر( (75) انظر الشيعة والتشيع ص 204 .75). ونحن هنا بصدد دراسة الزيدية كيف قامت؟ وما هي مواقف الناس منهم؟(159/245)
وقد وصف أبو زهرة الزيدية بأنهم ((أقرب فرق الشيعة إلى الجماعة الإسلامية، وأكثر اعتدالا، وتشيعهم نحو الأئمة لم يتسم بالغلو؛ بل اعتبروهم أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتدلوا في مواقفهم تجاه الصحابة، فلم يكفروهم وخصوصاً من بايعهم علي رضي الله عنه واعترف بإمامتهم)) ( (76) تاريخ المذاهب الإسلامية ج 1 ص 47 ، وانظر تاريخ الفرق الإسلامية للغرابي ص 296 . وأهم الفرق الإسلامية للنيفر ص 80 .76) .
هكذا قال عنهم، والذي يظهر لي أن هذا الحكم غير صحيح على جميع الزيدية- فإن بعض طوائفهم رافضة، وهم الذين خرجوا عن مبادئ زيد وآرائه، سواء كانوا متقدمين أو متأخرين فقد قسم أبو زهرة الزيدية من حيث الاعتقاد إلى قسمين( (77) تاريخ المذاهب الإسلامية ص 52 جـ1 .77):
1- المتقدمون منهم؛ المتبعون لأقوال زيد، وهؤلاء لا يعدون من الرافضة، ويعترفون بإمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
2- وقسم من المتأخرين منهم، وهؤلاء يعدون من الرافضة، وهم يرفضون إمامة الشيخين ويسبونهما ويكفرون من يرى خلافتهما.
وهذا يحتاج من الزيدية إلى إعادة النظر؛ ليتقاربوا من إخوانهم أهل السنة، وإلا أصبحوا في صف الإمامية الرافضة، وعموماً فإن مذهبهم في الإمامة يحصرونه في أولاد فاطمة فقط من غير تحديد بأحد منهم، وإنما يشترطون أن يكون كل فاطمي اجتمعت فيه خصال الولاية من الشجاعة والسخاء والزهد، وخرج ينادي بالإمامة – يكون إماماً واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أو الحسين( (78) الملل والنحل جـ1 صـ154 ، وانظر فرق الشيعة للنوبختي صـ43 .78)، عكس الاثني عشرية الذين حرصوا على الأئمة في أولاد الحسين فقط.
زيد بن علي وهو الذي تنسب إليه الطائفة الزيدية:(159/246)
وهو زيد بن علي بن الحسين بن علي، ولد سنة 80هـ تقريباً، وتوفي سنة 122هـ، وأمه أمة أهداها المختار إلى علي زين العابدين فأنجبت زيداً ( (79) انظر ترجمته في كتاب (( الإمام زيد )) ص 22 .79).
وكان زيد –كما تذكر الكتب التي تترجم له –شخصية فذة، صاحب علم وفقه وتقوى، واتصل بواصل بن عطاء وأخذ عنه، واتصل بأبي حنيفة وأخذ عنه( (80) وبعض العلماء كالشهرستاني يصرح بتلمذة زيد لواصل ولأبي حنيفة ، ولكن الأستاذ أبو زهرة يرى أنها ليست تلمذة بمعنى الكلمة ، وإنما كان اتصاله يزيد على سبيل المذكرة لتسويهما في العمر إذا واصل بن عطاء وزيد بن علي ولد في سنة 80هـ ، ولكن هذا لا يمنع أن يتتلمذا ويتأثر زيد بواصل وأن يتتلمذ كذلك على أبي حنيفة ، فإن تأثر زيد بهما ، وتأثر الزيدية بعد ذلك بالمعتزلة والحنفية ظاهر على سبيل التلمذة لا المذاكرة التي يذهب إليها أبو زهرة ، ولهذا قيل (( الزيدية معتزلة في الأصول ، حنفية في الفروع )) .80)، وكان أبو حنيفة يميل إلى زيد ويتعصب له، وقد قال في خروجه لحرب الأمويين: ((ضاهى خروجه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر)) كما يذكر ذلك أبو زهرة( (81) الإمام زيد ص 72 .81).
موقفه من حكام بني أمية:(159/247)
خرج زيد على الحكام الأمويين، وأشهر السلاح في وجوههم، فما هو الدافع لزيد على هذا الخروج؟ والجواب هو حسب ما قيل في بعض المصادر أن زيداً خرج على بني أمية منكراً للظلم والجور، وبعضها يذكر أنه لم يكن يريد الخروج، ولا طلب الخلافة، ولكن حدث في تصرف هشام بن عبد الملك وعماله إهانات وإساءة لزيد لم يطق أن يعيش معها مسالماً لهشام بن عبد الملك، وذلك أن زيداً أحس أن والي المدينة من قبل هشام ويسمى خالد بن عبد الملك ابن الحارث ووالي هشام على العراق يوسف بن عمر الثقفي يتعمدان الإساءة له، وربما تصور أن ذلك بإيعاز من الخليفة هشام، فقرر أن يذهب للشام ويشرح أمره لهشام ليزيل ما في نفسه من تخوف أن يثور عليه زيد.
لكن حدث ما لم يكن في حسبانه، فقد قابله الخليفة مقابلة غير لائقة به حاصلها: أن زيداً وقف بباب هشام فلم يؤذن له بالدخول مدة، فكتب له كتاباً يشرح أمره ويطلب الإذن له فكتب هشام في أسفل الكتاب: ارجع إلى أميرك بالمدينة. فعزم زيد على مقابلته وقال: والله لا أرجع إلى خالدا أبداً.
وأخيراً أذن له وقد رتب هشام الأمر، فوكل به من يحصي عليه جميع ما يقول، وحينما صعد زيد إلى هشام قال زيد: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذل. فلما مثل بين يدي هشام لم ير موضعاً للجلوس فيه حيث انتهى به المجلس، وقال: يا أمير المؤمنين، ليس أحد يكبر عن تقوى الله، ولا يصغر دون تقوى الله.
فقال هشام: اسكت لا أم لك. أنت الذي تنازعك نفسك الخلافة وأنت ابن أمَة. فقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك جواباً إن أجبتك أحببتك به، وإن أحببت أمسكت- ولو أن هشاماً يريد العافية لقال له أمسك – فقال: بل أجب. فقال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات، وقد كانت أم إسماعيل أمَة لأم إسحاق، فلم يمنعه ذلك أن بعثه الله نبياً، وجعله للعرب أباً، وأخرج من صلبه خير البشر محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم تقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي؟
فقال هشام: اخرج.(159/248)
فقال زيد: أخرج، ولا أكون إلا حيث تكره.
ومن هنا قرر أنه بين أمرين أحلاهما مر؛ فاختار الخروج( (82) والله أعلم عن صحة ذلك كله ، وقد علمت أن أكثر المؤرخين يتجوزون في نقل الأخبار اعتماداً على الرواة تاركين لمن جاء بعدهم مهمة تحقيقها 82) ...
وكم أسديت له من النصائح للرجوع عن رأيه، ولكنه –وبدفع من الشيعة- واصل سيره إلى أهل الكوفة الذين عاهدوه على نصرته ثم نكسوا على أعقابهم حين تراءى الجمعان، جيش الخلافة وهؤلاء، وفي هذا الموقف الحرج قام هؤلاء وسألوه– ليأخذوا حجة في الهرب ولرداءة معتقدهم- قالوا له: إنا لننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب.
فقال زيد – دون نفاق - : إني لا أقول فيهما إلا خيراً، وما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيراً، وقد كانا وزيري جدي، وإنما خرجت على بني أمية الذي قتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحرة، ثم رموا بيت الله بالمنجنيق والنار.
فلما سمعوا هذا الجواب تفرقوا عنه ورفضوه. فقال لهم: رفضتموني؟
فسموا رافضة-، وبقي في شرذمة قليلة سرعان ما قضى عليهم يوسف ابن عمر، وقد قتل زيد ودفن في ساقية فاستخرجه يوسف وكتب إلى الخليفة، فأمره هشام أن يصلبه مدة وأن يحرقه، وتم ذلك فيما ذكره علماء الفرق والمؤرخين( (84) انظر الكامل لابن الأثير ج 5 ص 229 – ص 235 ، ومن 242 – ص 247 . وانظر مروج الذهب ج 3 ص 217- 220 . وانظر البداية والنهاية ج 9 ص 329- 330 . وانظر مقاتل الطالبين ص 86 – 102 . ويجب أن تدرك المبالغات التي ذكرها المسعودي والأصفهاني صاحب مروج الذهب بناء على تشيعها . 84).
آراء زيد و الزيدية:
للشيعة عموماً آراء متضاربة متناقضة وأفكار تأثرت بجهات شتى من وثنية ومجوسية ويهودية ونصرانية إلا القليل منهم.
وأما بالنسبة لزيد فإن آراءه كما ذكر علماء الفرق والمؤرخين نوجزها فيما يلي:(159/249)
1- في السياسة: يرى زيد جواز ولاية المفضول، أي إن الإمامة عنده ليست وراثة، فإذا اقتضت المصلحة تقديم المفضول فلا بأس بذلك، وكان مع تفضيله لعلي على أبي بكر يرى أن خلافة الشيخين خلافة صحيحة.
ولما قيل له في ذلك قال: ((كان علي بن أبي طالب أفضل الصحابة إلى أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين ثائرة الفتنة وتطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين من دماء المشركين من قريش لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عرفوا باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ...))( (85) الملل والنحل جـ1 صـ155 الإمام زيد 188 .85) إلى آخر كلامه.
وفي هذا الجواب بعض الأمور التي فيها نظر، فإن الصحابة ما كانوا ليحقدوا عليه قتل أقربائهم من المشركين، وأما الشدة فإن عمر كان أشهر منه فيها وقد ولاه الصحابة أمرهم.
2- القول بعدم عصمة الأئمة أو وصايتهم من النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول الإمامية وبعض فرق الزيدية، فإن زعمهم عصمة الأئمة أو وصايتهم كان أساسه الاعتقاد الخاطئ أن تولي الأئمة كان من النبي صلى الله عليه وسلم. والنبي ما كان يتصرف إلا بوحي، ومن غير المعقول أن يختار الله ورسوله الأئمة ثم يجري عليهم الخطأ في أحكامهم وهم المرجع للدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن زيداً لم يلتفت إلى هذا القول الخاطئ والاعتقاد الباطل فيما قيل عنه( (86) انظر الإمام زيد صـ191 ولكن الزيديه في عصرنا الحاضر يقولون بعصمتهم . انظر انظر نصيحة الإخوان صـ4 .86). إذ لم تثبت العصمة لأحد غير الأنبياء فيما كلفوا بتبليغه.(159/250)
3-لم يقل بالمهدي المنتظر ولا بالغائب المكتوم( (87) وقد زعمت الجارودية من الزيدية إن محمد بن عبدالله بن الحسن لم يمت وإنه يخرج ويغلب وفرقة أخري زعمت . أن محمد بن القاسم صاحب الطالقان حيي لم يمت وأنه يخرج ويقلب وفرقة قالت مثل في يحيى بن محمد صاحب الكوفة [ انظر مقالات الإسلامية جـ1 صـ141 ] .87).
وهي من عقائد الشيعة الأساسية، فكل طائفة منهم لها مهدي وغائب مكتوم، وتفرقوا في هذه الخرافة طوائف متعارضة: فالمهدي عند الكيسانية هو محمد بن الحنفية، وعند الاثني عشرية محمد بن الحسن العسكري، وعند بقية طوائفهم أئمة مهديون ينتظرون خروجهم بغتة يملأون الأرض عدلاً بزعمهم.
وسبب هذه الخرافة أنهم يعتقدون أن لآل البيت مزية عن غيرهم فهم يحيون قروناً، وأن الخلافة لا تخرج من أيديهم سواء كانوا ظاهرين أو مستترين، ولم يلتفت زيد إلى وجود مهدي سيخرج، كما يذكر عنه أبو زهرة ( (88) انظر الإمام زيد ص 195 .88).
والواقع أن أهل السنة يؤمنون بمجيء مهدي في آخر الزمان على ما بينته الأحاديث( (89) توجد فروق بين أهل السنة والرافضة في المهدي كثيرة ؛ هذا أحدها ، ومنها تسمية المهدي عند أهل السنة اسمه محمد بن عبدالله ، وعند الرافضة محمد بن الحسن العسكري . المهدي عند أهل السنة يحكم بالشريعة الإسلامية ، ومهدي الرافضة يحكم بحكم داود . المهدي عند أهل السنة نعمة ، ومهدي الرافضة نقمة وبلاء . المهدي عند أهل السنة يتميز بالعدل بين الناس ، ومهدي الرافضة لإعلاء أمرهم فقط ، المهدي عند أهل السنة يفر إلى البيت الحرام ويتبعه الناس فيبايعونه دون حرص منه عليها ، أما المهدي عند الرافضة فهو يخرج بمشيئته على اختلاف بينهم في مكان خروجه ، المهدي عند أهل السنة له مدة محدودة ، ومهدي الرافضة ليس لحكمة تحديد .(159/251)
إلى آخر الفروق بين أهل السنة والرافضة في قضية المهدي . 89) ، لكن هؤلاء الشيعة استغلوا هذه القضية استغلالاً خاطئاً، وقررها علماؤهم وزعماؤهم لأغراض سياسية أكثر منها دينية.
4- حكم في مرتكب الكبيرة بأنه في منزلة بين المنزلتين تبعاً لرأي المعتزلة: وقيل: إنه خالفهم في تخليده في النار، وقال: لا يخلد في النار إلا غير المسلم( (90) انظر الإمام زيد ص204 .90) هكذا ذكر عنه أبو زهرة.
ولكن الأشعري ينقل عن فرق الزيدية القول بتخليد مرتكب الكبيرة في النار كما تقول الخوارج( (91) انظر المقالات جـ1 صـ149 ، تاريخ الفرق الإسلامية 294 .91) والمعتزلة، وإنهم مجمعون على ذلك.
وأهل الحق يقولون: هم تحت المشيئة، ولا يقولون بحتمية دخولهم النار ولا بتخليدهم فيها.
5- قال بالإيمان بالقضاء والقدر من الله تعالى، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار بتمكين الله له، وبها يحاسب فيثاب أو يعاقب كما يذكره عنه أبو زهرة( (92) انظر (( الإمام زيد )) ص 208 .92) رغم أن الزيدية معتزلة في الأصول بسبب تلمذة زيد لواصل بن عطاء الغزال زعيم المعتزلة.
6- لم يقل بالبداء على الله، وهو القول بحدوث حوادث جديدة متغيرة في علم الله – على حسب ما يحدث-، وهذا القول تزعمته الكيسانية وكثير من الروافض، واعتقاده كفر. ومذهب زيد أن علم الله تعالى أزلي قديم، وأن كل شيء بتقديره سبحانه، وأن من النقص في علم الله أن يغير إرادته لتغير علمه( (93) الإمام زيد ص 211 وانظر مواقف الرافضة منه (( مقالات الإسلامية جـ1 صـ113 )) .93) ولم يتأثر بعقائد الإمامية في هذا .(159/252)
7- لم يقل بالرجعة المزعومة عند الشيعة. وهي بدعة غريبة، وهي أن كثيراً من العصاة سيرجعون إلى الدنيا ويجازون فيها قبل يوم القيامة، وينتصف أهل البيت ممن ظلموهم، كما أنه يرجع أقوام آخرون لا عقاب عليهم لينظروا ما يحل بمن ظلم أهل البيت( (94) انظر مقالات الأشعرية ج1 ص 144 عن الفرقة البترية منهم ، وص 145 عن فرقة اليعقوبية حيث ظلوا على رأى زيد في إنكار الرجعة .94) ، إلى غير ذلك من الآراء التي تهم أهل الاختصاص والتفرغ لدراستها.
ولكن: هل استمر الزيدية على هذه المبادئ التي قيلت عن زيد.
والجواب: لا، فقد جاءت طوائف حرفت مذهب زيد، ورفضوا خلافة الشيخين( (95) كما هو مذهب الجارودية فيهما ومذهب السليمانيه في تكفيرهم عثمان رضي الله عنه عند الأحداث التي نقمت عليه أو البراءة منه كما هو مذهب البترية أصحاب الحسن بن صالح بن حي والنعيمية أصحاب نعيم بن اليمان حيث تبروأ من عثمان ومن محارب علي وشهدوا عليه بالكفر وذكر الأشعري بعد ذكره ما تقدم أن الفرقة الخامسة من الزيدية يتبرأون من أبي بكر وعمر .95)، وقالوا بالرجعة( (96) كالفرقة الخامسة منهم فإنهم لا ينكرون رجعة الأموات قبل يوم . (( المقالات جـ1 صـ145 )) .96) وعصمة الأئمة وغير ذلك من أقوال فرقهم الأربع التي هي: الجارودية، و السليمانية أو الجريرية، والبترية أو الصالحية، واليعقوبية. وأشهرها الجارودية.
5- الرافضة:
1 - معنى الرافضة لغة واصطلاحاً:
الرفض في اللغة يأتي بمعنى الترك. يقال: رفض يرفض رفضاً ، أي ترك.
وعرفهم أهل اللغة بقولهم: ((و الروافض كل جند تركوا قائدهم))( (97) انظر الصحاح للجوهري ج 3 ص 1078 ، وانظر القاموس المحيط ص 344 .97) ، هذا هو معنى الرفض في اللغة.(159/253)
وأما في الاصطلاح: فإنه يطلق على تلك الطائفة ذات الأفكار والآراء الاعتقادية الذين رفضوا خلافة الشيخين وأكثر الصحابة، وزعموا أن الخلافة في علي وذريته من بعده بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن خلافة غيرهم باطلة.
2 - سبب تسميتهم بالرافضة:
أطلقت هذه التسمية على الرافضة لأسباب كثيرة:
1-قيل : إنهم سموا رافضة لرفضهم إمامة زيد بن علي، وتفرقهم عنه كما تقدم( (98) انظر البداية والنهاية ج 9 ص 330 . 98).
2-وقيل : سموا رافضة لرفضهم أكثر الصحابة، ورفضهم لإمامة الشيخين( (99) مقالات الأشعري ج 1 ص 89 .99).
3-وقيل : لرفضهم الدين( (100) المصدر السابق ، تعليق محمد محيي الدين عبدالحميد .100).
ولعل الراجح هو الثاني، ولا منافاة بينه وبين الأول، لأنهم كانوا رافضة يرفضون الشيخين وقد رفضوا زيداً كذلك إذ لم يرض مذهبهم.
3 - وجود الرافضة قبل اتصالهم بزيد:
وجدت هذه الطائفة قبل انضمامهم لزيد بن علي، وكانت عقيدتهم هي الرفض، ولهذا طلبوا من زيد أن يوافقهم على أهوائهم ويتبرأ من الشيخين فخيب آمالهم وانفصلوا عنه. وسبب ذلك يعود إلى تشبعهم بأفكار اليهودي ابن سبأ، وانحرافهم التام عن التشيع لأهل البيت الذي كان عبارة عن الحب والمناصرة.
4 - أسماؤهم قبل اتصالهم بزيد:
ومن أسمائهم في تلك الفترة:
1-الخشبية.
2-الإمامية ( (101) انظر الفصل لابن حزم ج4 ص 185 ، وانظر الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 176 .101) .
وسبب تسميتهم بالخشبية: أنهم – كما قيل- كانوا يقاتلون بالخشب ولا يجيزون القتال بالسيف إلا تحت راية إمام معصوم من آل البيت . وسبب تسميتهم بالإمامية: لزعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي رضي الله عنه نصاً ظاهراً ويقيناً صادقاً، ولم يكتف فيه بالوصف بل صرح بالاسم لعلي ولأولاده من بعده –كما يدعي هؤلاء.
5 - فرق الروافض:(159/254)
لقد تفرقت الشيعة الروافض إلى أقسام كثيرة لم يتفق العلماء على عددها، ولا على اعتبار من هم الأصول ومن هم الفروع منهم. ولا حاجة إلى التطويل بذكر جميع تلك الفرق الأصول والفروع؛ إذ الكل يجمعهم معتقد واحد حول الإمامة وأحقية علي بها، وأولاده من بعده، ورفض من عداهم.
وأشهر فرق الروافض: الشيعة الاثنا عشرية –كما سندرسهم بالتفصيل- ، وفرقة أخرى منهم تسمى المحمدية.
وسنقتصر على دراسة هاتين الطائفتين ليتضح من خلالهما مدى تناقض الشيعة في عقائدهم الهامة مثل الإيمان بالمهدي( (102) لأن مهدي الاثني عشرية غير مهدي المحمدية . 102) والرجعة( (103) لأن المحمدية تؤمن برجعة كل الأموات قبل يوم القيامة قال شاعرهم :
إلى يوم يؤب الناس فيه **** إلى دنياهم قبل الحساب
(( الفرق بين الفرق )) صـ59 .
103) وغير ذلك من عقائدهم، إضافة إلى أن هذه الفرقة لا تزال طائفة منهم – وهم الذين صدقوا بقتل زعيمهم الذي ينتسبون إليه- النفس الزكية- يأتون إلى قبره- الذي ظنوا بأنه دفن في مكانه ذلك –يأتون إليه ويتمسحون به ويدعون عنده إلى اليوم.
1- المحمدية: خلاصة أمر هذه المحمدية أنهم طائفة يعتقدون أن الإمام والمهدي المنتظر هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي، ويعرف بالنفس الزكية.
ولد محمد سنة 93هـ( (104) حركة النفس الزكية ص 55 .104)، ويوصف بأنه كان فاضلاً صاحب عبادة وورع، ولذا أطلق عليه لقب النفس الزكية.
خرج بالمدينة المنورة سنة 145هـ على أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، فبعث إليه المنصور بعيسى بن موسى الهاشمي، فدارت المعركة على محمد فسقط قتيلاً بعد مدة قليلة من إعلان خروجه، وقد احتز عيسى رأس محمد وأرسله إلى أبي جعفر المنصور( (105) انظر مقاتل الطالبين ص 185 .105) جرياً على العادة التي سنها الأمويون من قبل لإرهاب المخالفين.(159/255)
ومما يجدر ذكره أن شخصاً ماكراً اسمه المغيرة بن سعيد العجلي كانت له آراء ضالة استغل توجه الناس إلى محمد بن علي بن الحسن فأخذ يدعو الناس إلى البيعة لمحمد، وجدَّ في ذلك، وزعم للناس أن المهدي المنتظر قد خرج، وأنه محمد بن الحسن، وبشر الناس بأن ملكه سيمتد طويلاً ويعيد الأمور إلى نصابها ويملأ الأرض عدلاً، وأن على الجميع أن يبادروا بالطاعة والانطواء تحت لوائه للقيام بواجبهم نحو المهدي.
وحينما قتل محمد في أول لقاء مع عيسى بن موسى أسقط في يد أتباعه من هؤلاء الحمقى الذين صدقوا أقواله وانقسموا فيما بينهم، فطائفة تبرأت من المغيرة وقالوا: لا يجوز لنا متابعته بعد أن ظهر كذبه، فإن محمد بن عبد الله ابن الحسن مات مقتولاً ولم يملك ولا يملأ الأرض عدلاً، ولو كان هو المهدي لتكفل الله بظهوره.
وطائفة أخرى –لأغراض في أنفسهم ولبقاء شوكتهم- استمروا على الولاء للمغيرة ولمحمد بن عبد الله بن الحسن، ولجئوا إلى أقوال السبئية، فقالوا: إن محمداً لم يقتل، وإنما المقتول كان شيطاناً تصور للناس في صورة محمد بن عبد الله بن الحسن، وأن محمداً لا يزال حياً في جبل حاجر بنجد، ولا بد أن يظهر مرة أخرى، ويملأ الأرض عدلاً، وأن البيعة ستعقد له بين الركن والمقام في بيت الله الحرام بمكة( (106) انظر لأخبار هذه الفرقة : الفرق بين الفرق ص 240- 242 .
ومقالات الأشعري ح1 ص 98 ، والملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 177 .106).
وقد ذكر لي بعض أهل المعرفة أن جماعة من الشيعة يأتون إلى مكان في المدينة المنورة خلف مسجد ثنية الوداع لزيارته لاعتقادهم أنه قبر محمد بن عبد الله بن الحسن، وقد أزيل هذا المكان في مشروع. ويظهر أن هؤلاء الشيعة هم من القسم الذين صدقوا بموته وفارقوا المغيرة.
وقد استمر المغيرة على ضلالاته حتى قتله خالد بن عبد الله القسري.
2-الاثنا عشرية:(159/256)
هذه هي الواجهة الرئيسية والوجه البارز للتشيع في عصرنا الحاضر وهم القائمون على نشر هذا المذهب الرافضي والممول له بشتى الطرق والأساليب، وقد تحقق لهم الكثير مما أرادوه في العالم الإسلامي وذلك لما يبذلونه من مساعدات مادية ومعنوية.
فتعتبر هذه الطائفة أشهر فرق الشيعة، وأكثرها انتشاراً في العالم، وإليها ينتمي أكثر الشيعة في إيران والعراق وباكستان وغيرها من البلدان التي وصلت إليها العقيدة الشيعية، ولهم نشاط ملموس في كثير من البلدان في الآونة الأخيرة؛ حيث توغلوا إلى أماكن من بلدان المسلمين ما كان لهم فيها ذكر.
وهم مجموعة من الطوائف المختلفة الآراء بعضها معلن وبعضها مستتر، ويجمعهم هدف عام واحد وهو علو المذهب الاثنا عشري الجعفري الذي زعم الخميني أن أتباعه يبلغون 200 مليون شيعي، كان النواة الأولى فيها لمذهب التشيع هو الرسول وعلي بن أبي طالب و خديحة، حيث بدأ الرسول – حسب زعمه- يدعو للتشيع من نقطة الصفر( (107) انظر كتاب (( ولاية الفقيه )) ص 136 – 137 .107).
1- أسماؤهم وسبب تلك التسميات:
للاثنا عشرية أسماء تطلق عليهم، بعضها من قبل مخالفيهم وبعضها من قبلهم هم، وهذه الأسماء هي:
1- الاثنا عشرية( (108) انظر الفرق الإسلامية ص 80 ، والأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 181 .108).
وسبب تسميتهم بها لاعتقادهم وقولهم بإمامة اثني عشر رجلاً من آل البيت، ثبتت إمامتهم –حسب زعمهم- بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد منهم يوصي بها لمن يليه.
وأولهم: علي –رضي الله عنه- و آخرهم محمد بن الحسن العسكري المزعوم الذي اختفى في حدود سنة 260هـ ، وسيعود بزعمهم ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ويسير الخير بين الناس وافراً إلى آخر مزاعمهم الكثيرة، وفيه قال الشيرازي: ((كما تسمى الشيعة بالاثني عشرية لأنهم يعتقدون بإمامة الأئمة الاثني عشرية))( (109) قضية الشيعة ص4 . 109).
وهؤلاء الأئمة الاثنا عشر هم:(159/257)
علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- .
الحسن بن علي –رضي الله عنه- .
الحسين بن علي –رضي الله عنه- .
علي بن الحسين.
محمد بن علي بن الحسين الباقر.
جعفر بن محمد بن الحسين –أبو عبد الله- الصادق- .
موسى بن جعفر الكاظم.
علي بن موسى –الرضي- .
محمد بن علي –الجواد- .
علي بن محمد الهادي.
الحسن بن علي العسكري.
محمد بن الحسن العسكري الغائب الموهوم، كما يسميه الشيخ إحسان إلهي –رحمه الله تعالى - ، ومن الملاحظ أن الشيعة الاثني عشرية حصروا الإمامة في أولاد الحسين بن علي دون أولاد الحسن –رضي الله عنهما-، ولعل السبب في ذلك يعود إلى تزوج الحسين بن علي بنت ملك فارس يزدجرد، ومجيء علي بن الحسين منها.
2-الجعفرية:
نسبة إلى جعفر بن محمد الصادق الذي بنوا مذهبهم في الفروع على أقواله وآرائه –كما يزعمون- وهو بريء من أكاذيب الشيعة هذه، فإنهم يسندون إليه أقوالاً واعتقادات لا يقول بها من له أدنى بصيرة في الإسلام ، فكيف به؟
وهذا الاسم من أحب الأسماء إليهم بخلاف تسميتهم بالرافضة، فإنهم يتأذون منه، وهم أحق بتسميتهم بالرافضة لا الجعفرية؛ لأنهم لا يعرفون مذهب جعفر الصادق، وإنما هي تخرصات جمعوها، وتلفيقات استحسنوها ثم نسبوها إليه( (110) انظر مؤتمر النجف ص 101 من الخطوط العريضة .110) ، وأكثرها مما لا يرضي الله ورسوله، بل ولا يقوله عاقل ولا طالب علم يعرف الشريعة الإسلامية، ومع ذلك يتبجح الشيعة بانتسابهم إليه ظلماً وزوراً.
يقول الخميني مفتخراً: نحن نفخر بأن مذهبنا جعفري ففقهنا هذا البحر المعطاء بلا حد، وهو من آثار جعفر الصادق( (111) الوصية الإلهية ص 5 .111).(159/258)
ويقول الشيرازي: كما تسمى الشيعة بالجعفرية لأن الإمام جعفر بن محمد الصادق –ع- تمكن أن يوسع نشر الإسلام أصولاً وفروعاً وآداباً وأخلاقاً، وأما سائر الأئمة فلم يتمكنوا من ذلك لما كانوا يلاقونه من الاضطراب، كما في زمان علي والحسن والحسين. –ع-؛ والكبت والإرهاب من أيدي الخلفاء الأمويين والعباسيين.
لكن الإمام الصادق –ع- حيث كان في زمن التصادم بين بني أمية وبني العباس اغتنم الموقف فرصة لنشر حقائق الإسلام بصورة واسعة، والشيعة أخذوا منه أكثر معالم الدين، ولذا نسبوا إليه( (112) قضية الشيعة ص3 .112).
3-الرافضة:
الرافضة – أو الروافض- وهو اسم غير محبوب لديهم وقد سموا به، إما:
1- لأنهم رفضوا مناصرة زيد بن علي –كما تقدم -.
2- أو لرفضهم أئمتهم وغدرهم بهم.
3- أو لرفضهم الصحابة وإمامة الشيخين.
4- أو لرفضهم الدين( (113) قد سبق عزو هذه الأقوال .113).
5- وهناك تعليل لبعض الشيعة وهو أنهم سموا بهذه التسمية من قبل خصومهم للتشفي منهم.
ولكن توجد رواية في الكافي عن جعفر بن محمد أن الله هو الذي سماهم رافضة، وهذا ينقص ما زعموه أنهم لا يستحقون هذه التسمية. وكل تلك التعليلات غير الخامس تصدق عليهم.
جاء في الكافي عن محمد بن سليمان عن أبيه أنه قال: قلت لأبي –عبيد الله – جعفر_: جعلت فداك إنّا قد نبزنا نبزاً أثقل ظهورنا وماتت له أفئدتنا واستحلت به الولاة دماءنا قال: فقال أبو عبد الله –ع- الرافضة؟ قلت: نعم. قال لا والله ما هم سموكم به ولكن الله سماكم به( (114) انظر الشيعة والتشيع نقلاً عن الكافي – كتاب الروضة ص 34 .114) .
4-الإمامية:
1- إما نسبة إلى الإمام ( الخليفة) لأنهم أكثروا من الاهتمام بالإمامة في تعاليمهم كما هو واقع بحوثهم.
2- أو لزعمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي وأولاده.(159/259)
واختار هذا التعريف الشهرستاني ( (115) الملل والنحل 1/62 . 115)، وهو التعريف الذي ذكره الشيرازي منهم حيث قال: وتسمى الشيعة بالإمامية لأنهم يعتقدون بإمامة علي –أمير المؤمنين- وأولاده الأحد عشر( (116) قضية الشيعة ص3 . 116)
3- أو لانتظارهم إمام آخر الزمان الغائب المنتظر –كما يزعمون-.
5-الخاصة:
وهذه التسمية هم أطلقوها على أنفسهم وأهل مذهبهم( (117) انظر : الشيعة والتشيع ص271 . 117).
وقد ذكر العلماء كثيراً من الأمور التي شابه الشيعة اليهود فيها( (118) انظر ( أوجه الشبه بين اليهود والرافضة في العقيدة ) رسالة ما جستير للرحيلي ، وانظر كتاب ( رسالة في الرد على الرافضة ) . 118)، ومن ذلك تسميتهم لأنفسهم الخاصة، ومن عداهم العامة كما فعلت اليهود حينما سموا أنفسهم –شعب الله المختار-، وسموا من عداهم- الجوييم أو الأمميين-وتوجد بينهم وبين اليهود مشابهات في أشياء كثيرة سنذكر بعضها بعد قليل.
سبب انتشار مذهب الرافضة وأماكن انتشارهم :
لقد انتشر هذا المذهب الرديء انتشاراً واسعاً، وسبب ذلك يعود –فيما يظهر لي- إلى أمور من أهمها:
1- جهل كثير من المسلمين بحقيقة دينهم الإسلامي.
2- وإلى جهلهم بحقيقة مذهب الرافضة.
3- وإلى نشاط هؤلاء الروافض في نشره بشتى الوسائل.
وقد اغتر بهم كثير من المسلمين متناسين أو جاهلين أنه لا فائدة للإسلام أو للمسلمين من شخص يدعي الإسلام ثم يلعن الصحابة ويكفرهم ويحكم عليهم بالردة، ويرى بأن القرآن فيه تحريف وزيادة ونقص، ثم ينتظر المهدي الذي يأتي ويسفك دماء أهل السنة بدون رحمة، كما قرروه في كتبهم تنفيساً عن أحقادهم عليهم.
أهم الأماكن التي انتشر فيها هذا المذهب :
1- إيران: وهو المذهب الرسمي للدولة، وقد أعلن الخميني في دستورهم أن دين الدولة يقوم على المذهب الجعفري.
2- العراق.
3- الهند.
4- باكستان.(159/260)
وفي هذه البلدان أعداد منهم، وقد انبثوا في بقاع من سوريا ولبنان ودول الخليج، وكثير من البلدان الإسلامية مستغلين غفلة أهل السنة.
ولم أثبت هنا أعدادهم في تلك البلدان لعدم اقتناعي بصحة تلك الأعداد التي تذكر عنهم؛ لما يحصل في الغالب من مغالطات في ذكر عدد نسبة السنة أو الشيعة في أي بلد لأغراض سياسية ودعائية.
7- فرق الاثني عشرية وانقسامها:
انقسمت الشيعة الاثنا عشرية إلى فرق كثيرة( (119) عند الأشعري – 30- فرقة بالزبدية . وفي مختصر التحفة الاثنا عشرية أنهم – 39 – فرقة ص 21 .119)، من أهمها وأشدها خطراً وأكثرها نفوذاً وشوكة وتأثيراً في المجتمع الشيعي، ومن أشدها نشاطاً في دعوى ظهور المهدي: الشيخية و الرشتية، بغض النظر عن الخلاف بينهم وبين الاثني عشرية.
1-الشيخية:
قال الألوسي: وقد يقال لهم الأحمدية ( (120) مختصر التحفة الاثنا عشرية ص 22 .120)، وهي طائفة تنتسب إلى رجل يقال له الشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائي البحراني، المولود سنة 1166هـ، والمتوفى سنة 1243هـ ، وهو شيخ ضال ملحد، له آراء كفرية وزندقة ظاهرة، ومهد السبيل بآرائه لظهور ملاحدة جاءوا بعده.
وأما بالنسبة للشيعة فقد مجدوه، وذكروا له ألقاباً هائلة من التبجيل والتعظيم، فأطلقوا عليه –كذباً وزوراً- ترجمان الحكماء، لسان العرفاء، غرة الدهر، فيلسوف العصر ...إلخ.
وقد عاش الإحسائي كاتباً ومدرساً في مدن الشيعة الهامة، مثل كربلاء و طوس وغيرهما من البلدان، ونشر أفكاره ومعتقداته الضالة، وكون له أتباعاً كان لهم أثر في قيام حركات أخرى كالبابية والبهائية.
أهم معتقداته:
1- زعم أن الله –تعالى عن قوله- تجلى في علي وفي أولاده الأحد عشر، وأنهم مظاهر الله، وأصحاب الصفات الإلهية، وهي عقيدة حلولية مستمدة من عقائد البراهمة وغلاة الصوفية.(159/261)
2- أرجع وجود هذا الكون وما فيه إلى وجود الأئمة، وأنهم هم العلة المؤثرة في وجوده إذ لولاهم ما خلق الله شيئاً، وبمثل هذا قال الغلاة عبارتهم المشهورة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم – بما لا يرضاه-: ((لولاك لولاك ..لما خلقت الأفلاك))وهو غلو فاحش يجب التوبة منه.
3- وزعم في محمد بن الحسن العسكري المهدي المزعوم عند الشيعة مزاعم غريبة، منها أن المهدي المذكور يتجلى ويظهر في كل مكان في صورة رجل يكون هو المؤمن الكامل، أو الباب إلى المهدي، وتحل فيه روح المهدي، ثم ادعى لنفسه وجود هذه الصفة فيه، وضلل كثيراً ممن سار على شاكلته إلى أن هلك.
2-الرشتية:
وبعد هلاك الشيخ أحمد الإحسائي قام بأمر الشيخية أحد تلامذته وخريجيه، ويسمى كاظم الحسنى الرشتي( (121) مختصر التحفة الإثنا عشرية ص 22 . 121) سنة 1242هـ .. ونهج نفس المنهج والطريق التي عليها سلفه في كثير من المسائل، وخالفه في أخرى، إلا أنه زاد الطين بلة حين: إنه حل فيه روح الأبواب كما حل في الإحسائي، ولكن آن الأوان لانقطاع الأبواب ومجيء المهدي نفسه.
ومن هنا بدأ يلتمس ظهور المهدي، وهو في الحقيقة إنما بحث عن صيد فوجده، حيث وقع اختياره على شخصية من تلاميذه ليجعل منه المهدي المنتظر بعد أن لمس أن هذه الدعوى يمكن أن تجد لها أتباعاً.
وقد نشر الرشتي مذهبه الفاسد حتى صارت له أماكن كثيرة وأتباع كثيرون من شيعة إيران وعربستان وأذربيجان والكويت، وانتشرت أفكاره أيضاً في الهند وباكستان، وافتتحت فيهما مراكز كثيرة، وتأتيهم المساعدات من تلك الأماكن التي وصل انتشار الشيخية إليها.
وهناك فرقة أخرى هي محل نظر في إلحاقها بالشيعة الاثني عشرية أو الصوفية، وتسمى النوربخشية نسبة إلى رجل يسمى محمد نور بخش القوهستاني المولود سنة 795 هـ( (122) انظر الشيعة والتشيع ص 307 – 314 .122).
* * * * * * * * * * * * * * *
الفصل السابع
إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للرافضة(159/262)
للرافضة آراء اعتقادية كثيرة لا يتسع المقام هنا لبسطها، إلا أننا سنقتصر في دراستنا لآرائهم على أهم المسائل الاعتقادية عندهم، والتي كان لها أثر هام في تباعدهم عن هدي الكتاب والسنة، وطريقة أهل الحق، وسنقتصر على المسائل الآتية على سبيل الإيجاز:
قصر استحقاق الخلافة في آل البيت. علي وذريته رضي الله عنهم، وأنها كانت بنص من النبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء.
تدينهم بالتقية.
دعواهم المهدية.
ودعواهم الرجعة.
موقفهم من القرآن الكريم.
موقفهم من الصحابة.
القول بالبداء على الله تعالى.
وتوجد لهم آراء أخرى –كما ذكرنا- مثل دعوى النبوة في بعض من يتشيعون لهم... ومثل القول بالتناسخ والحلول، وغير ذلك. وهذه الآراء – الظاهر سقوطها وبطلانها- توجد في فرقهم القديمة والحديثة، وقد تخرج بعض فرقهم عن رأي وتلتزم بآخر لايقل عنه سوءاً وضلالاً إلا من اعتدل منهم، كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق وهم قليل.
أولاً: موقفهم من الخلافة والإمامة:
هذه القضية هي الشغل الشاغل لهم، وهي مركز بحوثهم، ومن أهم الأسس لعقيدتهم، وأكثر المسائل الفرعية ترجع إليها، وأهم ما يدور من الخلاف بينهم وبين أهل السنة، أو فيما بينهم إنما يدور حولها.
ويعتبر الشيعة الإمامة وتسلسلها في آل البيت ركناً من أركان الإسلام، ويعتقدون أنها منصب ثبت من عند الله تعالى، يختار الله الإمام كما يختار الأنبياء والمرسلين.
و الاثنا عشرية يحصرونها في علي وفي أولاده، ولا يصححونها في غيرهم.
وفيما يلي نستعرض أهم آرائهم فيها:
1- الإمام له صلة بالله تعالى من جنس الصلة التي للأنبياء والرسل( (123) انظر الاضطراب إلى الحجة ص 128 . وباب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة ص 133 . وباب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث ص 134 في الكافي ج1 للكليني . 123):
روى الكليني عن أبي عبد الله أنه قال: ((أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة))( (124) الكافي ج1ص143 .124).(159/263)
وفي هذا يروي الكليني في كتابه الكافي: ((أن الحسن بن العباس المعروفي كتب إلى الرضا يقول له: ((جعلت فداك، أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟)).
قال: فكتب أو قال: ((الفرق بين الرسول والنبي والإمام، أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى منامه نحو رؤيا إبراهيم، والنبي ربما سمع الكلام، وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص))( (125) الكافي ، كتاب الحجة ج1 ص134 ، وذكر روايات غيرها .125).
أي أن الإمام- حسب هذا الكلام- يوحى إليه، وهذا خلاف ما يعتقده المسلمون من انقطاع الوحي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الشيعة –وهم يقررون أن رتبة الإمام لا يصل إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل –كما ادعى الخميني في هذا العصر( (126) ولاية الفقيه ص 61 .126)-لا يمنعهم مانع من هذا الادعاء.
2- الإيمان بالإمام جزء من الإيمان بالله:
((روى أبو حمزة قال: قال لي جعفر ع: إنما يعبد الله من يعرف الله، فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالاً.
قلت: جعلت فداك .فما معرفة الله؟
قال: تصديق الله عز وجل، وتصديق رسوله –ع- وموالاة علي –ع- والائتمام به وبأئمة الهدى ع، والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم... هكذا يعرف الله عز وجل))( (127) الكافي ج1ص138 .127).
ومن الذي أخبرهم أن معرفة الله لا تكفي بدون معرفة الإمام؟! ومتى كانت معرفة أهل البيت من أركان الإيمان بالله تعالى؟!
3- حرفوا معاني القرآن الكريم إلى هواهم في الأئمة، ومن ذلك:
أ- تفسيرهم لقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} النور: الإمام علي والأئمة من بعده، كما فسره أبو عبد الله –حسب زعم الكليني ( (128) الكافي ج1ص150 .128).(159/264)
ب- تفسيرهم لقول الله عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ** وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ}( (129) سورة النمل : 89 ، 90 . 129) الحسنة: معرفة الولاية وحب آل البيت، والسيئة إنكار الولاية وبغض آل البيت، كما فسرها علي بن أبي طالب لعبد الله الجدلي، كما يزعم الكليني ( (130) الكافي ج1ص142 .130).
ج- تفسيرهم لقول الله عز وجل: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}( (131) سورة الرعد : 7 . 131) أي إمام يهديهم ابتداءً بعلي وانتهاءً بالمهدي( (132) الكافي ج1ص148 .132).
إلى غير ذلك من الآيات التي فسروها بمثل هذه المعاني الباطلة في كتبهم المعتبرة، وأهمها الكافي.
4- زعموا في الأئمة أنهم هم الذين جمعوا القرآن كله كما أنزل( (133) انظر باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام وأنهم يعلمون كله (( الكافي ج1 ص 178 ، أورد روايات وأحاديث كثيرة نسبها إلى أبي عبدالله وأبي جعفر )) .133) ولا يعترفون بغير ذلك، وجحدوا جهود الخليفة الراشد أبي بكر رضي الله عنه، وأبيِّ بن كعب، وغيرهما من خيار الصحابة رضي الله عنهم.
5- الأئمة عندهم اسم الله الأعظم( (134) الكافي ج 1 ص 178 باب ما أعطي الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم . 134) ، وعندهم الجفر وهو وعاء من أدم – فيه علم النبيين والوصيين وعلم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل، وعندهم مصحف فاطمة، وفيه مثل قرآننا ثلاث مرات، وليس فيه من قرآننا حرف واحد( (135) انظر كتاب الحجة من الكافي جـ1 صـ185 باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة ع والأحاديث كما يسمونها التي أوردها في هذا الغلوا الفاحش . 135)، وأن الأئمة لا يموتون إلا بمشيئتهم واختيارهم ( (136) جـ1 صـ201 . 136).
6- وأن الإمام إذا مات لا يغسله إلا الإمام الذي يليه، وهو أكبر أولاده( (137) جـ1 صـ315 .137).(159/265)
ومن خرافاتهم في خلق الإمام من الإمام ما يرويه يونس بن ظبيان، عن أبي عبد الله أنه قال: ((إن الله عز وجل، إذا أراد أن يخلق الإمام من الإمام بعث ملكاً وأخذ شربة من ماء تحت العرش، ثم أوقعها أو دفعها إلى الإمام فشربها، فيمكث في الرحم أربعين يوماً لا يسمع الكلام، ثم يسمع الكلام بعد ذلك.
فإذا وضعته أمه بعث الله إليه ذلك الملك الذي أخذ الشربة فكتب على عضده الأيمن ((وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته)). فإذا قام بهذا الأمر رفع الله له في كل بلدة مناراً ينظر به إلى أعمال العباد( (138) جـ1 صـ318 .138). وهذا منتهى الكذب فلا يعلم بأعمال العباد إلا الذي خلقهم، وهذا المنار المزعوم لا وجود له إلا في أذهانهم.
وإذا كانت هذه الرواية في الكافي، فإن رواية أخرى هي أيضاً في نفس هذا الكتاب تناقض هذه الرواية حيث تقول: ((روى غير واحد من أصحابنا أنه قال –أي جميل بن دراج-: لا تتكلموا في الإمام فإن الإمام يسمع الكلام وهو في بطن أمه))( (139) انظر : كتاب الحجة من الكافي 1/319 . 139). إلى آخر ترهاتهم ومبالغاتهم الباطلة في الأئمة.
وجميع العقلاء –وعلى رأسهم أهل السنة- يعرفون أن الخليفة إنسان ككل الناس، يولد كما يولدون، ويعلم أو يجهل كما يعلمون ويجهلون، ليس له مزية إلا أن كفايته وأخلاقه جعلت الناس يختارونه لتنفيذ الأحكام فيما بينهم، فإذا جار وخرج عن حكم الله متعمداً فلا طاعة له.
أما عند الشيعة فالخير ما فعله الإمام، والشر ما تركه أياً كان ذلك.(159/266)
ومعلوم أن عقيدتهم في الإمام تشل الفكر وتميته وتعطي للحاكم سلطة لا حد لها ولا حصر، فالعدل ما حكم به مطلقاً، والجور ما لم يحكم به بغض النظر عن صواب الحكم أو خطئه، فهم المشرعون وهم الحاكمون، والله عز وجل حين قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً...}( (140) سورة المائدة : 3 . 140)لم يشمل تشريعات الأئمة حسب معتقد هؤلاء، حيث جاء هؤلاء الأئمة بتشريعات- حسب ما يروونه عنهم- لم يأت بها الشرع من قبل.
والشيعة حين قصروا استحقاق الخلافة في علي رضي الله عنه وفي الأئمة من بعده تلمسوا لهم شبهاً كثيرة ودعاوى مردودة، على أن ما ذهبوا إليه هو الصواب كما يرون( (141) أدلتهم علي ذلك كثيرة جداً ، حيث لفقوا عشرات الأحاديث في إثبات الوصية والخلافة في علي وأولاده كما فعل العاملي في كتابه المراجعات انظر من ص 239 إلى ص 246 ، وانظر بابا خاصاً في الوصة هو المراجعة رقم 86 .141). نذكر منها ما يلي:
1- قالوا: إن أمر الإمامة لا يحتمل عدم البيان، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث لرفع الخلاف، فلا يجوز أن يترك بيان الإمام الذي يليه إلى اختلافات الناس واجتهاداتهم ( (142) انظر فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب ص 163 .142).
2- يستدلون ببعض الروايات الواردة في فضائل علي رضي الله عنه ومن ذلك:
أ - ((من كنت مولاه فعلي مولاه))( (143) الكافي ج 1 233 .143).
ب - ((أقضاكم علي)) ( (144) الملل والنحل ج1 ص 163 .144).
ج - ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) ( (145) صحيح البخاري جـ7 صـ71 .145) زاد الرافضة في الحديث ((إنه لا ينبغي أذهب إلا وأنت خليفتي)) ( (146) انظر : المراجعات صـ162 وانظر أضواء علي خطوط محب الدين العريضة لعبد الواحد الأنصاري صـ98 .146).(159/267)
3- استدلوا ببعض الاستنباطات من وقائع يزعمون أنها كانت من النبي صلى الله عليه وسلم تشير إلى خلافة علي منها:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على علي أحداً من الصحابة، فحيثما انفرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أو سفر كان هو الأمير ( (147) الملل والنحل ج1 ص 163147).
ب- أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل علياً بسورة براءة ليقرأها على الناس في الحج مع أن أمير الحج هو أبو بكر رضي الله عنه حينئذ، فأرجعه كما يزعم عبد الواحد الأنصاري ( (147) أضواء علي خطوط محب الدين صـ95 .147).
والواقع أن فضائل الإمام علي مما يتباهى به أهل السنة، ويحرصون على ذكرها، إلا أنه ليس فيما ذكره الرافضة من الأخبار ما يدل صراحة على ما زعموه .
فأما قولهم: إن أمر الإمامة لا يحتمل عدم البيان، وأن الرسول بيّنه –فصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّنه بمقدمات كثيرة، تدل على استخلافه لأبي بكر، وإن كان هناك خلاف بين أهل السنة هل بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم خلافة أبي بكر بالنص الصريح أو الإشارة، إلا أن أسعدهم بالدليل من قال إنها ثبتت بالنص والإشارة معاً.
ومن ذلك ما جاء عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه.
قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تقول الموت.
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن لم تجديني فأت أبا بكر))( (148) أخرجه البخاري ج 7 ص17 ، ومسلم ج4 ص 249 .148).
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر))( (149) أخرجه الترمذي ج 5 ص 609 .149).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ((ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى: ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) ( (150) أخرجه مسلم ج5 ص 248 . 150).(159/268)
وأحاديث أخرى كثيرة عرف منها الصحابة أحقية الصديق بالخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للشيعة في دفعها إلا الكذب والبهتان، وليس معهم أي دليل عن علي رضي الله عنه ثابت يدعي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على استخلافه، كما شهد بذلك المنصفون من الشيعة أنفسهم في كتبهم( (151) انظر الشيعة والتصحيح للموسوي ص 19-20 .151) . ولو قال علي ذلك لما كذبه أحد من الناس، وكان علي يعلم أن الخلافة ليست بالوراثة، وإنما تكون إذا اجتمع رأي أهل الحل والعقد من المسمين على اختيار من يتولى الخلافة، ثم تعقب ذلك المبايعة العامة في المسجد.
وقد رد على من قال له: استخلف علينا –كما يرويه ابن كثير – فقال: لا، ولكن أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن يرد الله بكم خيراً بجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم( (152) انظر البداية والنهاية ج 325 .152).
والشاهد في هذا النص أن علياً لم يذكر نصاً من الرسول صلى الله عليه وسلم على ولايته، وفيه شاهد أيضاً على اعترافه بفضل أبي بكر رضي الله عنه.
ويزيد هذه الحقيقة وضوحاً ما ورد أن ابن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم طلب إلى علي أن يتحدث ويطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ليوصي لبني هاشم بالخلافة، أو يوصي بهم الناس فأبى علي ذلك وقال: ((إنا والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم))( (153) البخاري 8/ 325 . 153).
وهذا يدل على بعد نظره وقوة فهمه رضي الله عنه، فلو كان يعلم نصاً في ذلك لما تردد في إعلانه، وقد دعت الضرورة إليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(159/269)
وقد ثبت عنه، بل أعلن على منبر الكوفة أمام جمهور أتباعه أن الخلفاء الثلاثة من قبله هم أفضل هذه الأمة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ولو شئت أن أسمي الثالث لسميته)).
وعنه أنه قال نازل من المنبر )) ثم عثمان ثم عثمان )) ( (154) انظر البداية والنهاية جـ8 ، ص 13 ، 14 .154)
وحينما تمت مبايعة الحسن بعد استشهاد الإمام علي لم يذكر فيها تصريحاً ولا تلميحاً أن هناك نص من أبيه على مبايعته ، وإنما كان أول من تقدم لمبايعته قيس بن سعد بن عبادة قائلا له :(( ابسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه))فسكت الحسن فبايعه ثم بايعه الناس بعده ( (155) انظر البداية والنهاية جـ8 ، ص 14 .155).
ولو أن الحسن يعرف نصا على استخلافه لما جاز له ترك الخلافة ولا السكوت عن إخبار الصحابة به وإعلامهم بحقيقة الأمر ليخرج أقل ما يقال من إثم الكتمان ، إذا أغفلنا النظر عن حقيقة هامة وهي أنه كان من الذين لا يخافون في الله لومة لائم .
وإذا كان الحسن قد تنازل عن الخلافة لمصلحة المسلمين وحقن دمائهم ، فإنه من الكذب أن يقال أنه أوصي للحسين من بعده ، فكيف يوصي بها للحسين وقد تنازل عنها ، وصارت حقاً لغيره ، وإذا كان هو زهد عنها وكرهها ، فكيف يرضاها لأحد من أهل بيته ؟
وإذا كان تنازله عنها لحقن الدماء أفيوصي بسفكها بعد موته؟
إضافة إلى أنه لا يوجد لأحد من أهل البيت نص ثابت يدل على دعوى ثبوت الخلافة فيهم، لا عن الحسن، ولا عن الحسين، ولا عن غيرهما من أهل البيت لا فيهم، ولا في غيرهم، وقد وجد من المسلمين من كانت له ميول قوية في إسناد الخلافة إلى من يصلح من آل البيت خصوصاً حينما أسندت إلى بعض بني أمية الذين ما كانوا في المنزلة المرضية بمقارنة بعضهم بآل البيت، وتجلى ذلك كثيراً حينما تولى الخلافة يزيد مع وجود الحسين وغيره من كبار آل البيت.(159/270)
ثم ما كان لبعض الولاة من الأمويين من معاملة سيئة لبعض أهل البيت.إضافة إلى تلك الطريقة التي كان يتم بها نقل الخلافة دون اختيار ولا مشورة، ومع ذلك كله فإنه لم يزعم أحد من بني هاشم أن لديه أيّ نص من الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي يعطي له ولبنيه الحق في تولي هذا الأمر من بعده أو توارثه في أعقابهم ولا أعقاب أعقابهم، كما قرره علماء الشيعة.
ومما لا شك فيه أن الأحداث السيئة التي تلاحقت بآل البيت خصوصاً استشهاد الحسين مما أثار في النفوس تعاطفاً قوياً نحو آل البيت، وقد ظهر هذا التعاطف في كثير من الأمور أنه كان لمصلحة بعض المغامرين الذين يتطلعون إلى تحقيق أهداف لهم، كما فعل المختار وغيره ممن تظاهر بالتشيع وحب أهل البيت ليصل إلى غرضه من أقرب الطرق.
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) فجوابه أن هذه الولاية لا تستلزم الولاية العامة بمعنى الإمارة. فقد وردت نصوص كثيرة فيها إثبات موالاة المؤمنين بعضهم لبعض في كتاب الله تعالى وسنة نبيه، وأن المؤمنين أولياء لله، وأن الله وملائكته والمؤمنين موالي رسوله.
كما أن الله ورسوله والذين آمنوا أولياء المؤمنين، وليس معناه أن من كان ولياً لآخر كان أميراً عليه دون غيره، وأنه يتصرف فيه دون سائر الناس، قال تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }( (156) سورة التوبة 71 . 156) وقال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ }( (157) سورة محمد:11157){وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}( (158) سورة التحريم: 4158).(159/271)
وولاية علي رضي الله عنه واجبة على كل أحد، من جنس موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً، فكل من كان الرسول صلى الله عليه وسلم مولاه فعلي مولاه ولا شك، فالذي لا يتولى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون ولياً لعلي رضي الله عنه، ولم يكن المراد من الحديث من كنت مولاه أي أميراً عليه فعلي مولاه أي أميراً عليه؛ لأن معناه لا يوحي بهذا.
وأما استدلالهم بحديث: ((أقضاكم علي)) فالجواب أنه على فرض صحته ليس فيه نص على الخلافة لعلي، فإن معرفة الإنسان بشيء لا يلزم أن يكون هو المتولي له، فلا يلزم من معرفة الشخص للقضاء أن يكون هو الحاكم أو الخليفة للمسلمين.
وصحيح أن معرفة القضاء أمر مهم في الحكم إلا أنه ليس من شرط الإمامة أن يكون أعلم الناس بالقضاء، وقد جاء في القرآن الكريم أن داود عليه السلام كان هو الخليفة، ومع ذلك خفي عليه إصابة الحكم في بعض القضايا، وفهمها سليمان كما أخبر الله بذلك في قصة التحاكم في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم: {ففهمناها سليمان} ( (159) سورة الأنبياء : 79 . 159)ولم يوجب هذا الموقف أن يكون سليمان هو الخليفة في عهد أبيه.
ولو كان الحديث يؤدي إلى ما فهم الشيعة لوجب على الناس تغيير الحكام باستمرار كلما وجد شخص أعرف من غيره.
وأما استدلالهم بحديث: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)).
فالجواب أن هذا الحديث ليس فيه نص على إمامة علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن هارون لم يكن هو خليفة موسى فقد مات قبله.
وسبب الحديث يوضح مراد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أراد أن يتوجه إلى تبوك ترك علياً في المدينة للنظر في أمور المسلمين، فقال بعض المنافقين في المدينة: إنما خلف علياً لأنه يستثقله ولا يحبه.(159/272)
فلما علم علي بذلك أخذ سيفه ولحق بالرسول وهو نازل بالجرف( (160) الجرف مكان معروف كان خارج المدينة علي المدينة علي طريق تبوك ، والآن قربت المساكن في المدينة أن تتصل به ، ولا يزال بهذه التسمية إلى الآن . 160)، وأخبره بقول المنافقين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى))، فبين له أن استخلافه على المدينة لم يكن لاستثقاله كما زعم أولئك، وإنما كان استخلافه كاستخلاف موسى لهارون حينما ذهب موسى لميقات ربه، ولم يستخلف موسى هارون بغضاً له أو استثقالاً، كما أن الحنان الذي كان بين موسى وهارون يوجد مثله بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه، وهذا بعيد عن الخلافة والولاية، وإنما هو من الرسول صلى الله عليه وسلم كهارون من موسى في الوصية له ووجوب احترامه ومعرفة فضله.
وأما استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤمر على أبي بكر وعمر غيرهما من الصحابة، ولم يؤمر على علي أحداً. فجوابه:
فجوابه :
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ولّى أبا بكر أموراً كثيرة لم يشركه فيها أحد، مثل ولاية الحج والصلاة بالناس، وغير ذلك.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة، وخالد بن الوليد، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك ولاية أبي بكر في بعض الأمور لكونه ناقصاً عن هؤلاء.
وقد ولى الرسول صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم على المدينة كما ولى غيره في بعض أمره فلم ينفرد علي رضي الله عنه بالولاية.
ربما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم ولايته في بعض الأمور لأن بقاءه عنده أنفع له منه في تلك الولاية، وحاجته إليه في المقام عنده وغناه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في الولاية.(159/273)
وأما إرساله –صلى الله عليه وسلم- لعلي بسورة براءة فلم يكن ذلك لرد أبي بكر عن ولاية الحج، ولكن أردفه لينبذ إلى المشركين عهدهم، وقد كانت عادتهم ألا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع المسؤول العام، أو رجل من أهل بيته فقط، وعلي له هذه القرابة.
وأيضاً كان علي يصلي خلف أبي بكر كسائر أهل الحج. ومن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل علياً لرد أبي بكر عن إمارة الحج فقد كذب باتفاق أهل العلم، فإن المهمة التي كلف بها عليّ إنما هي تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في إخبار المشركين بنبذ العهد الذي بينهم وبين المسلمين كما أمر الله تعالى( (161) انظر كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. ص 87، ومن ص92 إلى ص 94 ، وص 221 ، ومن ص 84 إلى ص 87 . 161).
ثانياً: دعواهم عصمة الأئمة والأوصياء:
هذه إحدى خرافات الشيعة في أئمتهم فقد ادعوا عصمتهم من كل الذنوب والخطايا، الصغائر والكبائر، لا خطأ ولا نسياناً منذ طفولتهم إلى نهاية حياتهم وجوباً لا شك فيه.
سبب ذلك:
وعند البحث عن سبب هذا الاعتقاد الذي جعلهم ينزلون أئمتهم هذه المنزلة المستحيلة، نجد أن الذي حملهم على ذلك هو أن العصمة عندهم شرط من شروط الإمامة( (162) كما نص على ذلك الطوسي في كتاب الغيبة ص 3/4 .162)، ثم رفعوا أئمتهم وغلوا فيهم غلواً فاحشاً إلى أن اعتبروهم أفضل من الأنبياء، لأنهم نواب أفضل الأنبياء ( (163) مختصر التحفة الإثني عشرية ص 284 .163) .(159/274)
ثم زادوا فادعوا لهم أنهم يعلمون الغيب( (164) انظر كتاب الحجة من الكافي ونصه : (( باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون ، وأنه لا يخفي عليهم شيء صلوات الله عليهم جـ1 صـ203 لترى الغلو في الأحاديث التي أوردها وسماها أحاديث أيضاً ، وانظر أيضاً باب نادر فيه ذكر الغيب ص 200 ج1 لترى النصوص علي أن الأئمة يعلمون الغيب .164)، وأن جزءاً إلهياً حل فيهم وإذا كان الأمر كذلك فالعصمة أمر طبيعي أن توجد فيهم.
إضافة إلى ذلك قالوا: إن تنصيب الإمام إنما شرع من أجل جواز الخطأ على غير الأئمة، فلو جاز الخطأ على الإمام وهو الهادي إلى الحق لاحتجنا إلى هاد آخر، وهذا الهادي يمكن أن يلحقه الخطأ فيحتاج إلى هاد آخر، وهكذا فيلزم التسلسل فقطعاً للتسلسل ينبغي أن يكون كل إمام من أولئك معصوماً في وقته – حسب زعمهم- حتى يؤمن على حفظ الشريعة، وإلا احتجنا إلى حافظ آخر، إذ كيف يؤتمن على الشريعة شخص معرض للخطأ ( (165) انظر كتاب الغيبة ص 15 .165).
كذلك من الأسباب أيضاً في استنادهم في القول بعصمتهم إلى ما يزعمونه من النصوص عن أئمتهم، فقد نقل الكليني –فيما يكذب الشيعة على آل البيت- أن جعفر الصادق قال: ((نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله بطاعتنا ونهى عن معصيتنا.. نحن حجة الله البالغة على من دون السماء وفوق الأرض)) .
وفي رواية أنه قال لرجل اسمه سدير حين سأله بقوله: جعلت فداك، ما أنتم؟ قال: نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة وحي الله، ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض( (166) الكافي ، كتاب الحجة ج1 ص 149 . 166) .
وادعاء الشيعة لأئمتهم علم الجفر هو غلو آخر منهم، وهو عبارة عن العلم الإجمالي بلوح القضاء والقدر والمحتوي على كل ما كان وما يكون كلياً وجزئياً، وأنه علم يتوارثه أهل البيت ومن ينتمي إليهم، ويأخذ منهم المشائخ الكاملون، وكانوا يكتمونه كل الكتمان.(159/275)
ويذكر الجرجاني أن الجفر والجامعة كتابان ذكر فيهما على طريقة الحروف والحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم كما يدعي هؤلاء الغلاة.
وقيل: إن الجفر كتاب وضعه جعفر الصادق، وهو مكتوب على جلد الجفر لأخبار أهل البيت.
وقال ابن خلدون: إن كتاب الجفر كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق، وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه، لأن الجفر في اللغة هو الصغير، وهذا لا شك من الكذب الذي اختلقه غلاة الشيعة في أئمتهم، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى، ولم يكتب الله لأحد علم المغيبات.
ولقد جاء الكليني بالغرائب عن أبي عبد الله تحت باب سماه هكذا: ((باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام))( (167) المصدر السابق صـ 184167) حيث عرَّف بالصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة في حديثه الآتي: ((عدة من أصحابنا ... عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله فقلت له: جعلت فداك، إني أسألك عن مسألة، ههنا أحد حتى يسمع كلامي؟ قال: فرفع أبو عبد الله ((ع))ستراً بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه، ثم قال: يا أبا محمد، سل عما بدا لك، قال: قلت: جعلت فداك، إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّم علياً باباً يفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال: يا أبا محمد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ((ع)) ألف باب، يفتح من كل باب ألف باب.
قال: قلت: هذا والله العلم.
قال: فنكت ساعة في الأرض، ثم قال: إنه لعلم، وما هو بذلك.
قال: ثم قال: يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟
قال: قلت: جعلت فداك، وما الجامعة؟(159/276)
قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله، وإملائه من فلق فمه، وخط علي بيمينه، فيها كل حلال وحرام، وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش. وضرب بيده إلي وقال: أتأذن لي يا أبا محمد؟ قال: جعلت فداك، إنما أنا لك فاصنع ما شئت.
قال: فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا، كأنه مغضب.
قال: قلت: وهذا والله العلم.
قال: إنه لعلم وليس بذاك. ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟
قال: قلت: وما الجفر؟
قال: وعاء من أدم فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بني اسرائيل.
قال: قلت: إن هذا هو العلم.
قال: إنه لعلم، وليس بذاك. ثم سكت ساعة. ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة (ع) ، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟
قال: قلت: وما مصحف فاطمة (ع)
قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات،و الله ما فيه من قرآنكم حرف واحد.
قال: قلت: هذا والله العلم.
قال: إنه لعلم، وما هو بذاك. ثم سكت ساعة، ثم قال: إن عندنا علم ما كان، وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.
قال: قلت: جعلت فداك. هذا والله هو العلم.
قال: إنه لعلم، وليس بذاك.
قال: قلت: جعل فداك، فأي شيء العلم؟
قال: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر بعد الأمر، والشيء بعد الشيء إلى يوم القيامة( (168) الكافي 1/ 185 . 168).
ثم أورد روايات أخرى كثيرة، ولا نملك إزاء هذه الخرافات إلا أن نقول: {سبحانك هذا بهتان عظيم} ( (169) سورة النور : 16 . 169).
ولا تستغرب أيها القارئ الكريم حين يتحدثون ويكذبون على أبي عبد الله، فقد كذبوا حتى على حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم عفير، حيث أورد الكليني في ذلك رواية طويلة قال في آخرها:(159/277)
إن حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم عفير كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي، إن أبي حدثني عن أبيه، عن جده، عن أبيه أنه كان مع نوح في السفينة، فقام إليه نوح فمسح على كفله، ثم قال يخرج من صلب هذا الحمار، حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم...فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار.( (170) الكافي ص 184 . 170)
وكانت نهاية هذا الحمار فيما يذكر الكليني أنه حين مات الرسول صلى الله عليه وسلم قطع الحمار خطامه، ثم فر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها، فكانت قبره.
إنهم لا يتورعون عن الحديث حتى على الحيوانات فما بالك بأئمتهم؟
ومن كلام الخميني –وهو أحد أئمتهم في هذا العصر- قوله عن هذه الخرافة: ((نحن نفخر بأن أئمتنا هم الأئمة المعصومون، بدءاً من علي بن أبي طالب وختماً بمنقذ البشرية الإمام المهدي صاحب الزمان، عليه وعلى آبائه التحية والسلام، وهو بمشيئة الله القدير حي يراقب الأمور))( (171) الوصية الإلهية للخميني ص 5 171).
وقد أعان الله على الكاذب بالنسيان –كما يقال- إذ توجد لهم روايات في كتبهم يخبرون فيها عن بعض أهل البيت من الأئمة، وفيها اتهامات لهم وذم في مقابل ذلك الغلو فيهم فيصفونهم أحياناً بقلة العلم، وأحياناً أخرى بالغفلة والتناقص في أفكارهم أيضاً؛ بل ويصفونهم بصفات شنيعة مما يكذب هذه العلامات والشروط التي تصوروا وقوعها في كل إمام من أئمتهم.
قال الطوسي في ذم جعفر بن علي بعد سباب كثير له قال فيه: ((وما روي فيه وله من الأقوال والأفعال الشنيعة أكثر من أن تحصى ننزه كتابنا عن ذلك))( (172) كتاب الغيبة ص 137 .172).(159/278)
ثم انظر تفضيل الخميني لإيران في عصره على الحجاز في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الكوفة والعراق في عهد علي رضي الله عنه، حيث قال: ((إنني أقولها بجرأة: إن شعب إيران بجماهيره المليونية في العصر الحاضر هو أفضل من شعب الحجاز، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشعب الكوفة والعراق على عهد أمير المؤمنين والحسين بن علي)) ( (173) الوصية الإلهية ص 16 .173).
إبطال ما ادعته الشيعة من عصمة أئمتهم:
أما اعتقادهم خوف وقوع الخطأ من الإمام لو لم يكن معصوماً، فإنه من المعلوم عند الناس أن المقصود من تنصيب الإمام هو تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد، وحفظ الأمن والنظر في مصالح العامة وغير ذلك، وليس من شرط بقائه في الحكم أن يكون معصوماً. ولم يطالبه الشرع بإصابة عين الحق حتما في كل قضية، وإنما المطلوب منه أن يتحرى العدل بقدر الإمكان، ولا مانع بعد ذلك أن يخطئ ويصيب كبقية الناس.
وادعاؤهم أنه لا يجوز عليه الخطأ يكذبه العقل والواقع.
وكذلك زعمهم أنه لا بد من إمام معصوم للناس، فإنه لا يكفي إمام واحد فإن البلدان متباعدة، ووجود إمام واحد في كل عصر لا يكفي للجميع، فوجب إذاً أن يكون في كل بلد إمام معصوم يباشر الحكم بنفسه وإلا هلك الناس، ولا يجوز له أن ينيب أحداً مكانه لجواز الخطأ عليه، وفي هذا من العنت ما لا خفاء فيه.
ولو طلب من هؤلاء الشيعة الذين يدّعون عصمة أئمتهم أن يأتوا بدليل واحد من القرآن أو السنة النبوية أو عن الصحابة، أو عن إجماع الأمة لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، إذ القرآن الكريم لم يصرح بعصمة أحد، بل أثبت أن المعصية من شأن الإنسان، فإنه قد صدرت من آدم الذي هو أبو البشر، وأخبر عن موسى بأنه قتل، وعن يونس أنه ذهب مغاضباً.
وفيه عتاب من الله تعالى لبعض أنبيائه ورسله بسبب تصرفات صدرت منهم.(159/279)
وورد في السنة النبوية ما يشير إلى ذلك في وقائع صدرت من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ }( (174) سورة التوبة : 43 . 174) ، وما ورد في عتابه عن أخذهم الفداء من أسارى معركة بدر، وغير ذلك مما هو معروف في الكتاب والسنة وأقوال علماء الإسلام.
ومن العجيب أنه قد صدح كل الأئمة بعدم عصمتهم في كثير من المناسبات، ثم يروي الشيعة بعض ذلك في كتبهم، ثم لا يأخذون بها.
روى الكليني في باب التسليم على النساء، عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره التسليم على الشابة منهن ويقول:((أتخوف أن يعجبني صوتها، فيدخل علي أكثر مما أطلب من الأجر ))( (175) الكافي ج2 ص 473 ولو كان علي يدعي العصمة لنفسه كما يزعم جهال الشيعة لما خاف الإثم 175).
وكان يقول لأصحابه: ((لا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل فإني لست آمن أن أخطئ))( (176) انظر مختصر التحفة الإثني عشرية ص121176).
ورووا كذلك أن الحسين بن عليّ بن أبي طالب كان يبدي الكراهية من صلح أخيه الحسن مع معاوية، ويقول: ((لو جز أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي))( (177) المصدر السابق ، نفشس الجزء والصفحة .177).
ومن المعلوم أنه إذا خطأ أحد المعصومين الآخر ثبت خطأ أحدهما بالضرورة، فأين العصمة بعد ذلك؟
ثم أن دعوى عصمة أحد من الناس –إلا ما ورد فيه الخلاف في عصمة الأنبياء- دعوى تعارض الطبيعة البشرية المركبة من الشهوات، كما أنه لا يمدح الإنسان لأنه معصوم، بل يمدح لأنه يجاهد نفسه على فعل الخير كما أخبر الله بذلك في أكثر من موضع من كتابه الكريم.(159/280)
ولهذا رتب الله الجزاء على حسب قيام الشخص بما كلفه الله به، وأعطاه القدرة والإرادة ليكون بعد ذلك طائعاً أو عاصياً، فاعلاً أو تاركاً، ولو عصم الله من المعاصي أحداً –غير الأنبياء- لما كان للتكليف معنى، بل حتى الأنبياء كلفهم الله تعالى ولم يرفع الله عن أحد التكليف وامتثال أمره ونهيه، ما دام الشخص في كامل عقله وصحته، ولو لم يكن الإنسان محلاً للطاعة والعصيان لما كان للتكليف معنى.
ثالثاً: تدينهم بالتقية:
التقية في اللغة يراد بها الحذر. يقال توقَّيت الشيء أي حذرته.
والتقية في مفهوم الشيعة معناها أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن.
أي أن معناها النفاق والكذب والمراوغة والبراعة في خداع الناس، لا التقية التي أباحها الله للمضطر المكره ( (178) انظر الخطوط العريضة ص7 ، الشيعة في الميزان ص 86 ، الشيعة وتحريف القرآن ص 36 .178) .
وقد ذمهم في هذا الموقف بعض علمائهم الذين يحبون الإنصاف، فهذا الدكتور موسى الموسوى يقول:
((لقد أراد بعض علمائنا –رحمهم الله- أن يدافعوا عن التقية، ولكن التقية التي يتحدث عنها علماء الشيعة وأمْلَتْها عليها بعض زعاماتها هي ليست بهذا المعنى إطلاقا، إنها تعني أن تقول شيئاً وتضمر شيئاً آخر، أو تقوم بعمل عبادي أمام سائر الفرق وأنت لا تعتقد به، ثم تؤديه بالصورة التي تعتقد به في بيتك)) ( (179) انظر الشيعة والتصحيح ص 52 .179).
ونجد مصداق هذا في أصح الكتب عندهم حيث يروي الكليني عن أبي عبد الله أنه قال: ((خالطوهم بالبرانية، وخالفوهم بالجوانية))( (180) الكافي ج1ص175180).(159/281)
وللتقية عند الشيعة مكانة مرموقة، ومنزلة عظيمة فقد اعتبروها –على حسب المفهوم السابق عندهم- أصلاً من أصول دينهم لا يسع أحداً الخروج عنها، وقد بحثوها في كتبهم كثيراً، وبينوا أحكامها وما ينال الشخص من الثواب الذي لا يعد ولا يحصى ولا يصدق لمن عمل بها، وعامل الناس بموجبها فخدعهم وموه عليهم، وكم تأثر الناس وانخدعوا بحيل هؤلاء الذين جعلوا التقية مطية لهم.
ولبيان منزلة التقية عند الشيعة نورد الأمثلة التالية:
1- التقية أساس الدين، من لا يقول بها فلا دين له.
روى الكليني عن محمد بن خلاد قال: سألت أبا الحسن (ع) عن القيام للولاء فقال: قال أبو جعفر(ع): ((التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له))( (181) المصدر السابق ج2 ص 174 .181) .
وفيما يرويه عن أبي عبد الله أنه قال لأبي عمر الأعجمي: ((يا أبا عمر، إن تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له )) ( (182) المصدر السابق ج2 ص 172 .182)
بل وصل اعتناؤهم بالتقية إلى حد تأويل الآيات عليها، مثل قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ}( (183) سورة فصلت : 34 . 183) قال أبو عبد الله –كما زعم الكليني-:((الحسنة: التقية: والسيئة: الإذاعة)) ( (184) المصدر السابق ج2 ص 173 .184).
2- اعتقدوا أن التقية عز للدين، ونشره ذل له. كما روى الكليني عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله: ((يا سليمان، إنكم على دين من كتمه أعزه الله، ومن أذاعه أذله الله))( (185) المصدر السابق ج2 ص 176 .185)(159/282)
ولا شك أن هذا قلب للحقائق، فإن الله عز وجل طلب من الناس جميعاً نشر العلم وبيانه. وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }( (186) سورة المائدة : 67186) ، وقال الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}( (187) سورة الحجر:94187).
وقد امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ربه فلم يكتم من العلم شيئاً، بل وطلب إلى أمته أن ينشروا العلم بكل وسيلة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) ( (188) صحيح البخاري ج 6 ص 496 .188)، وقال: ((نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع))( (189) لهذا الحديث طرق كثيرة إستوعبها الشيخ عبدالمحسن العباد في كتابه (( دراسة حديث (( نضر الله امراء سمع مقالتي )) .189).
وقد أثنى الله في كتابه الكريم على الصادقين الشجعان الذين لا يخافون في الله لومة لائم، فقال عز وجل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ}( (190) سورة الأحزاب: 39190)
وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً}( (191) سورة الأحزاب:23 - 24191)
كما ذم الله تعالى المنافقين المخادعين للناس فقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ( (192) سورة المنافقون:1192)(159/283)
وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}( (193) سورة البقرة:14193).
وليس من هدي الإسلام استحلال الكذب على طريقة الشيعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله عند الله صديقاً. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً))( (194) صحيح مسلم ج4 ص 2013 .194).
3- جعل الشيعة ترك التقية مثل ترك الصلاة تماماً. قال القمي: ((التقية واجبة، من تركها كان بمنزلة من ترك الصلاة))( (195) نقلا عن الشيعة والسنة ص 157 ، عن الاعتقادات ، فصل التقية للقمي .195). وهذا من أغرب الأقوال، فإن التقية رخصة جعلها الله في حالة الضرورة القصوى، بشرط أن لا يشرح بالكفر صدراً فكيف يعاقب من تركها، بل قال البغوي: ((والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل وسلامة النية، قال تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ }( (196) سورة النحل: 106196)، ثم هذا رخصة! فلو صبر حتى قتل فله أجر عظيم ( (197) تفسير البغوي ج1 ص 292 .197).
4- حدد الشيعة لجواز ترك التقية بخروج القائم من آل محمد (المهدي المنتظر).
قال القمي: ((التقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج على دين الله تعالى، وعن دين الإمامية، وخالف الله ورسوله والأئمة))( (198) الشيعة والسنة ص 157 .198).
والحقيقة أن من تركها لا يخرج إلا عن دين الإمامية فقط وعن خرافاتها.
5- حرفوا معاني الآيات إلى ما يوافق هواهم، وكذبوا على آل البيت.(159/284)
قال القمي: ((وقد سئل الصادق عليه والسلام عن قول الله عز وجل:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }( (199) سورة الحجرات : 13 . 199) قال: أعلمكم بالتقية))( (200) الشيعة والسنة ص 157 . نقلا عن كتاب الاعتقادات للقمي .200) ، أي على هذا التفسير أكرمكم هو أكذبكم على الناس.
6- زعم الشيعة أن المعيار الصحيح لمعرفة الشيعي من غيره هو الاعتقاد بالتقية، وينسبون إلى الأئمة المعصومين- في زعمهم- أنهم هم الذين قالوا هذا الكلام.
فقد رووا عن الحسين بن علي بن أبي طالب الإمام الثالث أنه قال: ((لولا التقية ما عرف ولينا من عدونا)) ( (201) الشيعة والسنة ص 157 . نقلا عن كتاب الاعتقادات للقمي .201) .
ومعنى هذا أن معرفة خداع الناس، والمبالغة فيه هو الذي يميز الشيعة عن غيرهم.
7- ساوى الشيعة بين التقية وبين الذنوب التي لا يغفرها الله كالشرك.
فرووا عن عليّ بن الحسين الإمام الرابع أنه قال: ((يغفر الله للمؤمن كل ذنب ويطهره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين، ترك التقية، وترك حقوق الإخوان))( (202) المصدر السابق ص 185 .202).
ولكن الله تعالى قد قال:{إن اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ( (203) النساء: من الآية 116 203)
وهذه المواقف للشيعة تجعل من الصعوبة بمكان التفاهم المخلص بينهم وبين المخالفين لهم –خصوصاً أهل السنة- وذلك أن الشيعي إذا رأى أنه في موقف الضعف لجأ إلى التقية، وفي هذه الحال له من الأجر الذي قدّره الشيعة ما يعادل مصافحته لعلي رضي الله عنه أو الصلاة خلف نبي من الأنبياء ( (204) انظر مختصر التحفة الإثني عشرية ص 290 .204) كما افتروا على الله وعلى رسوله.
وأقرب مثال على عدم حصول التفاهم تلك المحاولات التي قامت للتقريب بين الشيعة وأهل السنة، ثم خابت الآمال وتيقن أهل السنة أنه لا وفاء ولا إخلاص ولا صدق عند أولئك الذين يتعبدون الله بالتقية.(159/285)
أسباب قول الشيعة بالتقية:
اختلفت كلمة الشيعة في الأسباب الحاملة لهم على التمسك بالتقية واعتبارها أساساً في الدين، وفيما يلي نوجز أهم ما قيل فيها:
1- قالت طائفة: إن التقية تجب للحفاظ على النفس أو العرض أو المال أو الإخوان.
2- وقالت طائفة: إن التقية تجب لأنها فضيلة، والفضائل يجب التحلي بها، وسواء كانت التقية للحفاظ على النفس أو لغير ذلك فهي واجبة في نفسها، وصاحبها أعرف بحاله، بينما روى الكليني عن أبي جعفر أنه قال: ((التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلّه الله له ))( (205) الكافي ج2 ص 175 .205).
3- والحق أنهم أوجبوا التقية لظروف أحاطت بهم، ورأوا أن لا خلاص لهم إلا بالاتكاء على دعوى التقية.
ومن ذلك:
أ- أنهم وقفوا على أقوال متضاربة عن الأئمة المعصومين عندهم يختلفون في الشيء الواحد، وتتناقض فيه أقوالهم دون أن يجدوا مبرراً لذلك التناقض؛ فخرجوا من ذلك بدعوى أن ذلك الكلام صدر من الأئمة على سبيل التقية.
وهذه الأقوال أكثرها من أكاذيب رواتهم، ليست من الأئمة الذين عرفوا بالشجاعة والصراحة، كما صرح بذلك أحد علماء الشيعة المنصفين( (206) الشيعة والتصحيح ص 58 .206).
ب- ومنها ما وجدوه من كلام الأئمة في مدح الصحابة الذين تبرأ منهم الشيعة ويعتبرونهم كفاراً، فزعموا أن ذلك المدح إنما كان تقية.
ومهما كان، فإن التقية التي يراها الشيعة لا يجوز اعتقادها في الإسلام لأنها قائمة على الكذب والخداع.
وما رووه عن الأئمة وأنهم كانوا يلجؤون إليها كذب، بل كذَّبوا أنفسهم بأنفسهم حيث يذكرون روايات كثيرة لأناس سألوا بعض الأئمة المعصومين –حسب زعمهم- عن مسائل فأجابوا فيها بجواب، ثم سألوهم بعد مدة فأجابوا فيها بجواب آخر دون أن يوجد أي داع للتقية لصدور تلك الإجابات المختلفة من إمام واحد عن مسألة واحدة بين خاصة الإمام وشيعته وأنصاره كما صرحت بهذا مصادرهم...(159/286)
وهذا اعتراف منهم بأن الأئمة لا يلجؤون إلى التقية بسبب الخوف وإنما هو بسبب الجهل، ولا شك أن هذا طعن شنيع في أولئك الذين يدعون عصمتهم.
فانظر إلى ما أورده النوبختي عن عمر بن رباح، وما أورده عنه أيضاً الكشّي في رجاله أنه سأل أبا جعفر (ع) عن مسألة فأجاب فيها بجواب، ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجاب فيها بخلاف الجواب الأول فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية فشكك في أمره وإمامته.
فلقي رجلاً من أصحاب أبي جعفر يقال له محمد بن قيس فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب، ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني فيها بخلاف جوابه الأول، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: فعلته للتقية: وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله والعمل به، فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي.
فقال محمد بن قيس: فلعلّه حضرك من اتقاه؟ فقال: ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري، لا، ولكن جوابيه جميعاً خرجا على وجه التبخيت ولم يحفظ ما أجاب به العام الماضي فيجيب بمثله، فرجع عن إمامته وقال: ((لا يكون إماماً من يفتي بالباطل على شيء بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال، ولا يكون إماماً من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله))( (207) فرق الشيعة ص 80 ، 81 .207).
وما أحسن ما أجاب به سليمان بن جرير الشيعي عن تخليط الشيعة في تمسكهم بالتقية ليجعلوها مخرجاً لأكاذيبهم على أئمتهم، حيث قال كما يرويه عنه النوبختي، وهو من كبار علماء الشيعة:(159/287)
((إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معها من أئمتهم على كذب أبداً، وهما القول بالبداء، وإجازة التقية. فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون. فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا، قالوا لشيعتهم بدا الله في ذلك بكونه.
وأما التقية، فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين فأجابوا فيها، وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودوّنوه، ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة بتقادم العهد وتفاوت الأوقات، لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد، ولا شهر واحد بل في سنين متباعدة وأشهر متباينة وأوقات متفرقة.
فوقع في أيديهم في المسألة الواحد عدة أجوبة مختلفة متضادة، وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردوا إليهم هذا الاختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه، وأنكروا عليهم، فقالوا: من أين هذا الاختلاف وكيف جاز ذلك؟
قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية، ولنا أن نجيب بما أحببنا وكيف شئنا لأن ذلك إلينا، ونحن أعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤكم وكف عدوكم عنا وعنكم، فمتى يظهر من هؤلاء على كذب؟ ومتى يعرف لهم حق من باطل))( (208) انظر فرق الشيعة للنوبختي ص 85-87 .208).(159/288)
ولا شك أن هذه الصراحة تامة وشهادة على الشيعة منهم، وهذا التخليط إنما هو إفك علمائهم لا من الأئمة الذين ينتسبون إليهم مثل جعفر الصادق وغيره، وقد حاول محمد صادق آل بحر العلوم المعلق على كتاب النوبختي إيجاد مبررات ورد لهذا القول، لكنها مبررات واعتذارات مثل بيت العنكبوت.
أدلة الشيعة على جواز التقية:
تلمس الشيعة لمبدأ التقية بمفهوم لها نصوصاً حمَّلوها ما لم تحتمله من المعاني التي يعتقدون أنها تؤيد ما يذهبون إليه.
ومن تلك الأدلة التي تمسكوا بها ما ذكره بحر العلوم في تعليقه على فرق الشيعة للنوبختي بقوله: ((التقية مما دل على وجوبه العقل إذا كانت لدفع الضرر الواجب، وقد دل عليه أيضاً القرآن العظيم، ثم نقل عن الطبرسي بعض الآيات يحتج بها ( (209) انظر فرق الشيعة تعليق ص 85-86 . وانظر الكافي ج 2 ص 172 .209):
1- قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }( (210) سورة البقرة : 195210).
2- قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ* فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } ( (211) سورة الصافات:88211)
3- قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً }( (212) سورة آل عمران : 28212).
4- قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ }( (213) سورة النحل : 106213) .
وفي هذا يقول محمد مهدي الحسيني الشيرازي عن الشيعة: وهم يرون التقية لقوله تعالى: { إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً }( (214) قضية الشيعة ص 6 . والآية من سورة آل عمران : 28 . 214).(159/289)
والواقع أن استدلالهم بهذه الآيات على التقية التي يرونها استلال خاطئ وهذه الآيات وآيات أخرى كثيرة ليس فيها دلالة للشيعة على التقية التي هي بمعنى الكذب واستحلاله، بل تشير إلى جواز التورية في ظاهر الكلام إذا لزمت الضرورة، كقول إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ }( (215) سورة الصافات 89 .215) أي من عملكم وعبادتكم للأوثان، وليس هو من الكذب بل فيه تعريض لمقصد شرعي كما يذكر العلماء( (216) انظر تفسير القرآن العظيم ج4 ص13 .216) وهو تكسير آلهتهم بعد ذهابهم عنها.
وأما الاستدلال بالآية: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) فإن معناها الأمر بالاتقاء من الكفار.
قال البغوي: ((ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار يخافهم فيداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان؛ دفعاً عن نفسه من غير أن يستحل دماً حراماً أو مالاً حراماً، أو يظهر الكفار على عورات المسلمين))( (217) انظر تفسير البغوي ج1 ص 292 .217).
وأما الآية {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ } أي إلا من كان حاله مشرفاً على الخطر، واضطر إلى القول بالكفر فله أن يتقول به من غير أن يعتقد ويعمل به، بل يقول ما فيه تورية ومعاريض مع طمأنينة قلبه بالإيمان، وبحيث لا يشرح صدور الكفار بالمدح الظاهر لهم ولديانتهم، وإنما يلجأ إلى المعاريض التي يكون فيها صادقاً، ولا تؤثر في دينه، كأن يقول لهم إنكم على معرفة، وعندكم تقدم ظاهر، قصوركم عالية وبساتينكم مثمرة، ويريد به أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون)).(159/290)
قال ابن جرير في معنى الآية، بعد أن ذكر أنها نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه: ((فتأويل الكلام إذن، من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره على الكفر، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، موقن بحقيقته، صحيح على عزمه، غير مفسوح الصدر بالكفر، لكن من شرح بالكفر صدراً فاختاره وآثره على الإيمان، وباح به طائعاً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم))( (218) انظر جامع البيان ج14 ص182218).
ومن الجدير بالذكر أن هذه التقية الشيعية الباطلة لم يقصروها على الناس فقط بل جوزوها حتى على الأنبياء، وهذا خطأ وخلاف الحق، فإن الأنبياء لا يسلكون التقية التي يريدها الشيعة، ولا تجوز أبداً، فالكذب لا يجوز عليهم، وكتمان الحق وإظهار الموافقة للكفار كذلك لا يجوز لهم، وإلا لما انتشرت دعوتهم، ولما ظهر الخلاف بينهم ويبن أقوامهم، ولما حصل عليهم من المتاعب والأخطار ما حصل مما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم مما لم يكن ليقع أبداً لو استعمل الأنبياء التقية الشيعية المملوءة جبناً ونفاقاً، وحاشا أن يسلكوا ذلك.
وقد يقول بعض الشيعة في احتجاجهم بالسنة: إننا نجد أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يلين القول ويبتسم في وجوه بعض الفسقة والظلمة، وهذا كما يرى هؤلاء تقية.
والواقع أن هذه الأفعال التي صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت من باب المداراة، ومن باب حسن الخلق وتأليف القلوب، مع أنه حصل مثل هذه المواقف لأناس ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف من جانبهم شيئاً حتى يقال إنها تقية منه لهم، ثم لم تكن هذه المداراة في أمور الدين إذ لم يعرف عن أحد من الأنبياء أنه دارى أحداً في دينه، وإنما هو حسن الخلق ومقابلة الناس بالبشر مع تألفهم لأقوامهم، ولا ينافي هذا أن يقع في القلب كراهية ما هم عليه من فجور مع محبة الخير لهم وإرشادهم إليه وبذل النصح لهم بصدق وإخلاص.(159/291)
وفي مختصر التحفة الاثني عشرية فوائد في هذا المعنى، ارجع إليها إن أحببت الزيادة( (219) مختصر التحفة الإثني عشرية ص 288 – 296 .219).
وفي الختام نود التنبيه إلى أن ما ينسبه الشيعة إلى علي رضي الله عنه من قوله بالتقية –غير صحيح بروايات الشيعة أنفسهم وتناقضهم من حيث لا يعلمون. شأن كل باطل:
فقد رووا في كتبهم أن علياً كان يهدد عمر في مواقف كثيرة، بل ويصل أحياناً إلى الضرب والإهانة ورفع الصوت فيما يزعمون، وأن علياً لو شاء لخسف بعمر وبغيره، وهذا يدل على أن علياً ما كان بحاجة إلى التقية.
ثم رووا عن علي أيضاً أنه توقف عن بيعة أبي بكر زمناً ((ستة أشهر)) لو كان يرى وجوب التقية لبايعه وأبطن الخلاف.
وعلى هذا فإنهم حين ينسبون إلى الأئمة القول بالتقية، ثم يثبتون لهم صفات لا تليق إلا بالله يعتبر كلامهم متناقضاً.
فقد روى الكليني أن الأئمة لا يموتون إلا برغبتهم واختيارهم، وقد أجمع الشيعة على صحة هذا.
كما روى أيضاً أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء، ومن كانت هذه صفاته فإن التقية في حقه تعتبر جبناً وخوفاً لا داعي له، وكيف يلجؤون إلى التقية وهم يعلمون كل ما سيجري عليهم.
ثم يتناقض كلامهم في القضية الواحدة تبعاً لحال الإمام وظروفه، ولنفرض أنهم يصادفون متاعب من مخالفيهم فهل يجمل بهم الهرب منها بالتقية وخداع الناس؟ فأين فضيلة الصبر وامتثال أمر الله وتحمل المشاق في سبيل الله؟ لأن هذه هي وظيفة الأنبياء والمصلحين من الناس، وهي فضيلة لا يليق بهم تجنبها باستحلال الكذب.(159/292)
وأخيراً فإنه يلزم الشيعة أن يصفوا الحسن بن علي رضي الله عنه بأنه ليس له كرامة وفضل، لأنه لم يلتزم بالتقية مع معاوية، وأن المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل الناس لأنهم أتقاهم أي أكثرهم عملاً بالتقية حسب تفسير الشيعة الخاطئ( (220) انظر لمزيد التفاصيل مختصر التحفة الاثني عشرية الصفحات المشار إليها سابقا ، حيث ذكر أشياء كثيرة يضيق المجال عن ذكرها .220).
ولولا شدة التعصب وتزيين الشيطان لهم أعمالهم لرأوا أن هذه الخرافات التي جعلت أعداء الإسلام يسخرون منهم بسببها أنها من أهم ما ينبغي عليهم محاربتها، وأن عليهم أن يحرروا أفكارهم من هذه الشنائع التي هي إلى الوثنية أقرب- وكل ذلك من أهم ما ينبغي عليهم القضاء عليه إذا أرادوا تصحيح دينهم وتحرير عقولهم من هذه المبادئ البدائية:
يقول الدكتور الموسوي في رده على علماء الشيعة:
((إن على الشيعة أن تجعل نصب أعينها تلك القاعدة الأخلاقية التي فرضها الإسلام على المسلمين، وهي أن المسلم لا يخادع، ولا يداهن، ولا يعمل إلا الحق، ولا يقول إلا الحق ولو كان عليه، وأن العمل الحسن حسن في كل مكان، والعمل القبيح قبيح في كل مكان.
وليعلموا أيضاً أن ما نسبوه إلى الإمام الصادق من أنه قال التقيّة ديني ودين آبائي ((إن هو إلا كذب وزور وبهتان على ذلك الإمام العظيم))( (221) الشيعة والتصحيح ص 59 .221).
4-المهدية والرجعة عند الشيعة:
من هو المهدي؟
يؤمن أهل السنة بالمهدي الذي صحت به الأحاديث، ولكن غير مهدي الشيعة الخرافي الذي وصلوا في إيمانهم به وانتظاره وترقبه إلى حد جعلهم محل سخرية العالم منهم، وأخباره عندهم أكثر من أن تذكر، وقد أفرده الطوسيّ بكتابه المسمى: ((كتاب الغيبة)).(159/293)
إن القول بالمهدي وانتظاره من عقائد الشيعة البارزة والأساسية، ذلك المهدي الذي يزعمون أنه غاب عنهم لأسباب مؤقتة، وسيرجع وسيملأ الأرض عدلاً ورخاءً كما ملئت ظلماً وجوراً ( (222) مما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أنه ليس للشيعة مهدى واحد ينتظرون عودته بل لهم مهديون كثيرون حسب معتقداتهم وأما مهدى الإثني عشرية فهو ابن الحسن العسكري كما سيأتي .222) .
ولهذا فهم يقيمون على سردابه بسامراً الذي زعموا أنه مقيم فيه دابة ترابط دائماً ليركبها إذا خرج من سردابه، ويقف جماعة ينادون عليه بالخروج يا مولانا اخرج، يا مولانا اخرج، ويشهرون السلاح، وفي أثناء مرابطتهم لا يصلون خشية أن يخرج وهم في الصلاة فينشغلون بها عن خروجه وخدمته، بل يجمعون الخمسة الفروض.
وليس هذا فقط عند السرداب، بل أحياناً يكونون في أماكن بعيدة عن مشهده ويفعلون هذا إما في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإما في غير ذلك يتوجهون إلى المشرق وينادونه بأصوات عالية، يطلبون خروجه مع أنه لا مهدي هناك. وإنما هي خرافة نفذ منها ومن غيرها أعداء الإسلام إلى الطعن في الإسلام وتجهيل حامليه، وإلا فما الداعي لمثل رفع هذه الأصوات وهذه المرابطة المضنية؟
فإنه على فرض أن هذا المهدي موجود هناك، فإنه لا يستطيع أن يخرج إلا بإذن الله، ثم إذا أذن الله له فإنه يحميه وينصره وييسر له كل ما يحتاجه، وليس هو في حاجة إلى أولئك الغلاة الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فعملهم على كل الاحتمالات باطل لا يؤيده عقل ولا نقل ، وكيف سيملأ الله به الأرض عدلاً ورخاءً بعد خروجه ولا يحميه حتى تلك اللحظات عند خروجه؟ أليس هذا تناقضاً؟(159/294)
لأنه قد تقرر في عقيدتهم حسبما يؤكده الكليني في ((الكافي)): أن الأرض لا تخلو من إمام حجة إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فحينئذ لا يوجد حجة، ولا تقبل توبة من أحد( (223) انظر للمزيد من أخباره كتاب الغيبة للطوسي ، وانظر كتاب الحجة من المافي من ص 264- ص 277 الأبواب التالية :
باب في تسمية من رآه ( ع )
باب في النهي عن الاسم (2) وانظر كتاب الغيبة للطوسي .
باب نادر في حال الغيبة .
وانظر باب في الغيبة .
وانظر ص 300 باب كراهية التوقيت إلى ص 303 باب التمحيص والامتحان .
وانظر باب أنه من عرف إمامه لم يضره تقدم هذه الأمر أو تأخر .
ثم انظر باب مولد الصاحب (ع) وانظر جزء 2 الصفحات 264/ 265/266/268
وانظر من كتب السلف : منهاج السنة ج1 ص 12 . 29 – ومختصر التحفة الإثني عشرية ص 200 ، 294 – والشيعة والتشيع ص 351 – 388 .223). ومن الغريب أن يؤكد الكليني أيضاً أنه لا يجوز السؤال عن اسمه بأي حال، وأنه لا يسميه باسمه إلا كافر، ويكتفي عن ذكر اسمه بذكر لقبه القائم، حيث لقب بذلك لأنه يقوم بعد ما يموت حسب الرواية التي أوردها الطوسي عن أبي سعيد الخرساني عن أبي عبدالله ( (224) انظر كتاب الغيبة ص 260 .224).
وأنه يحج في سنة ماشياً على رجله، ثم لا يرى عليه أثر السفر( (225) الكافي ج2 ص268 .225).
وأن أقرب ما يكون الناس إلى الله حين ينتظرون الغائب، وأشد ما يكونون بغضاً عند الله حينما يفتقدونه ولم يظهر لهم( (226) الكافي ج2 ص269 .226).(159/295)
بل وسمى الكليني أمة محمد صلى الله عليه وسلم أشباه الخنازير والأمة الملعونة لعدم إيمانهم بغيبة المهدي( (227) الكافي ج2 ص272 .227) والتي سوف لا تتأخر كثيراً فقد سأل الأصبغ بن نباته أمير المؤمنين عن مدة الغيبة فقال: ستة أيام، أو ستة أشهر، أو ست سنين( (228) الكافي ج2 ص273 .228) فهو لا يتأخر بعد أن امتن الله به على خلقه، فإن الكليني يذكر أن موسى بن جعفر فسّر قول الله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } ( (229) الكافي ج2 ص274 . وقوله تعالى {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} أي ظهر الإمام جـ2 صـ431 .229)
قال: إذا غاب عنكم إمامكم، فمن يأتيكم بإمام جديد( (230) الكافي ج2 ص275 .230).
وقد وقعت علامات كثيرة تبشر بقرب ظهوره، فإنه قبل ظهوره تقع الفتن بين الشيعة ويسمي بعضهم بعضاً كذابين، ويتفل بعضهم في وجوه بعض( (231) الكافي ج2 ص276 .231)، ثم أورد الكليني روايات وقصصاً كثيرة حول علم المهدي بالمغيبات وأساطير وخرافات كثيرة ذكرها عنه.
وأما الطوسي في كتابه المسمى كتاب الغيبة فقد حطب في أخبار المهدي بليل، ولذا فلا أدري ما الذي أذكره عنه في أخبار هذا المهدي غير أني سأشير إلى بعض ذلك فيما يلي:
أكد الطوسي أن المهدي الغائب شوهد مرات عديدة حول الكعبة وهو يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم انتقم لي من أعدائك))( (232) انظر ص 431 -441 .232).
وأنه يظهر في كل سنة لخواصه يوماً واحداً، فيحدثهم ويحدثونه، ويقلب لهم الحصى ذهباً( (233) ص152 .233)
وهو لا يحب أن يساكن أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الطوسي عنه أنه قال –كما أوصاه أبوه-: ((لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم، ولهم الخزي في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب أليم)) ( (234) كتاب الغيبة ص 161 .234).(159/296)
وقد أورد الطوسي روايات كثيرة تفيد علم المهدي بالمغيبات( (235) ص 162 .235) .
واقرأ هذا العنوان: ((فصل، وأما ظهور المعجزات الدالة على صحة إمامته في زمان الغيبة فهي أكثر من أن تحصى، غير أنا نذكر طرفاً منها))( (236) كتاب الغيبة ص 170.236) فإذا استطعت أن تقرأه فإنك ستجد ما يدهش العقل ويضيق الصدر من الأخبار التي لا يحتمل سماعها من له عقل وذوق.
واقرأ توقيعات المهدي لنوابه حال غيبته عنهم( (237) ص172237)، وما أورده من الفتاوى والأقوال الجاهلة في تلك التوقيعات المزورة على أيدي أولئك النواب والذين كثر عددهم إلى حد أنهم أصبحوا فريقين متضادين، وكلاء وسماسرة ممدوحين وعددهم عند الطوسي 13 رجلاً، ووكلاء وسماسرة مذمومين وعددهم 6، له ولسائر الأئمة ومنهم سفراء ممدوحين وعددهم 3، وآخرين مذمومين وهم عدد كثير، قال الطوسي بعد أن ذكر عدداً من أسماء السفراء قال: ((فهؤلاء جماعة المحمودين وتركنا ذكر استقصائهم لأنهم معروفون مذكورون في الكتب فأما المذمومون فجماعة، ثم ذكر عدداً كثيراً منهم ( (238) انظر : ص 199 – 241 . 238) .
وهناك الكثير من المزاعم والتهويلات حول شخصية هذا المهدي في كتب الشيعة، لعل فيما أشرنا إليه من ذلك ما يكفي لمعرفة مدى ضحالة هذه الأفكار، ونسيان أهلها لعقولهم، وتلاعب الشيطان بهم واستخفافهم بعقول الناس عند شغفهم بتثبيت آرائهم، وإظهار مذاهبهم، وركوبهم لذلك كل صعب وذلول غير مبالين بنتائج تهورهم وشناعة معتقداتهم.
أما هذا المهدي عندهم فهو الإمام الثاني عشر من أئمتهم حسب ترتيبهم لهم، واسمه محمد بن الحسن العسكري.(159/297)
ومع كل اهتمام الشيعة بأخباره والتلهف على لقائه فلقد اضطرب كلامهم حوله وتناقضت فيه أقوالهم، ومع أنه –كما هو الصحيح عند أكثر العلماء- أنه شخصية خيالية لا وجود له إلا في أذهان الشيعة الذين يزعمون إمامته وينتظرون خروجه بعد غيبته الكبرى( (239) لأنهم يزعمون أن له غيبتين : إحدهما يوم وفاة أبيه وهي الصغرى ومدتها 8أو 9 وستين سنة وثانيتهما : الكبرى وتبدأ من وفاة أبي الحسين على بن محمد السمري أخر السفراء الأربعة المزعمون ...239)، ومن تلك التناقضات الشيعية ما تجده من :
1- اختلاف الشيعة في وجود محمد بن الحسن وولادته.
فقد اختلفت كلمتهم في وجود هذا الشخص، فبعضهم ذهب إلى أن الحسن العسكري مات ولم يعرف له ولد أصلاً، وقال هؤلاء بأن الحسن العسكري حين توفي ظن بعضهم أن بجاريته حملاً فوكلوا بها من يراقبها حتى تبين أن لا حمل بها.
واستدلوا أيضاً بأن الحسن العسكري حينما مات أخذ أخوه جعفر تركته، ولو كان للحسن ولد لما حصل على ذلك.
2- وذهب آخرون إلى إثبات ولادة محمد بن الحسن، بل وحددها محمد صادق آل بحر العلوم المعلق على فرق الشيعة للنوبختي بأنها كانت يوم الجمعة منتصف شعبان على أشهر الأقوال كما زعم سنة 255هـ، بينما الكليني في الكافي يذكر أنه ولد سنة 256هـ( (240) الكافي (( باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار )) .240)، بينما هو يقرر أنه خفي الولادة والمنشأ( (241) الكافي ج2 ص – 277 .241).
وهؤلاء الذين أثبتوا ولادته تناقضت أقوالهم واضطربت أفكارهم فيه أيضاً، فبعضهم قال بأنه ولد بعد وفاة والده الحسن بثمانية أشهر، وكذَّبوا من زعم غير هذا كما نص عليه النوبختي.
وقال آخرون: إنه ولد قبل وفاة والده بسنين.
وقال بعضهم: بخمس سنوات.
كما اختلفوا كذلك في تحديد السنة التي اختفى فيها، فبعضهم يجعلها سنة 256هـ، وآخرون 258هـ، وغيرهم 255هـ.
كما اختلفوا في اسم أمه على أقوال:
* فقيل: اسمها نرجس.
* وقيل: صقيل أو صيقل.(159/298)
* وقيل: اسمها حكيمة.
* وقيل اسمها سوسن( (242) انظر لأخبار هذا المهدي للشيعة (( كتاب الغيبة )) لشيخ الطائفة أبي محمد بن الحسن الطوسي حيث جاء بكل ما عندهم من الخرفات والأقاويل في إثباته ، وانظر أيضاً كتاب فرق الشيعة للنوبختي وتعليق بحر العلوم عليها من ص 115 إلى ص 132 ، وانظر الفصل لابن حزم ج 4 ص 193 وصـ 181 والشيعة والتشيع ص 273 إلى ص 282 .242).
وأقاويل أخرى كثيرة مضطربة يطول نقلها، وهذا الاختلاف كله دليل على أن هذا الإمام لم يولد وإنما هو استحساناتهم وتخميناتهم، وهذه الاختلافات تدل أيضاً على مدى تخبطهم وعلى الجهل الذي يخيم عليهم إذ كيف تخفى ولادة محمد بن الحسن العسكري وهم متأكدون –حسب شروطهم في الخلافة والإمامة ورواياتهم العديدة- أن الحسن العسكري هو الإمام الحادي شعر، ولابد أن يخلفه عقب منه هو أكبر أولاده، وهو الذي يتولى الأمر بعده، ويغسله ويصلي عليه كما يقررون ذلك.
ثم إن شخصية كهذه تملأ الأرض عدلاً ونوراً لا ينبغي بل ولا يصدق أن تكون ولادته محل خلاف أو خفاء.
ولك أن تستنتج من مواقفهم المتناقضة ما يزيدك يقيناً برداءة مذهبهم فيه، هذا مع ما لهم من حكايات وخرافات هي من نسيج الخيال الغير معقول رواها الطوسي في كتابه ((الغيبة)) عن حكيمة والخادم نسيم، كلها تدور حول ما حدث عند ولادة المهدي مباشرة.(159/299)
فإنه حين سقط من بطن أمه كان يقرأ القرآن بصوت مسموع، وأنه كان متلقياً الأرض بمساجده،وأن والده أمره أن يتكلم فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم استفتح فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم صلى على أمير المؤمنين –علي بن أبي طالب- وعلى الأئمة إلى أن وقف على أبيه ثم تلا قول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}( (243) سورة القصص 5-6 243) .
كما زعم الطوسي أن خادم الحسن العسكري حينما عطس بحضرة المهدي وكان عُمْر المهدي عشر ليال قال هل المهدي: يرحمك الله، قال الخادم:ففرحت بذلك. فقال له: ألا أبشرك في العطاس؟ هو أمان من الموت ثلاثة أيام ( (244) كتاب الغيبة ص 139 . 142 . 147 .244) .
وجاء الطوسي بأخبار كثيرة وكلمات نسبها إلى المهدي وهو طفل رضيع لا يعرفها إلا فيلسوف، وأنه حينما ولد كانت الملائكة تهبط وتصعد وتسلم عليه وتتبرك به، وأن روح القدس طار به ليعلمه العلم مدة أربعين يوماً،؟ وأنه حينما ولد كان مكتوباً على ذراعه الأيمن{جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} ( (245) سورة الإسراء :81 .245) .
وزعموا كذلك في رواياتهم على لسان الحسن العسكري أن ابنه المهدي كان ينمو في السنة والواحدة مثل نمو سنتين من غيره( (246) انظر لهذه المبالغة والتوقيعات التي كان يرسلها المهدي وهو في عيبته حسب زعمهم كتاب الغيبة عدة صفحات منه ، وانظر العنوان )) أخبار بعض من رأى صاحب الزمان وهو لا يعرفه أو عرفه فيما بعد ص 185 – 170 . وانظر معجزات الحجة ص 170. في ذكر التوقيعات ص 172، ص199 التي كان يرسلها لهم من سردابه بواسطة السفراء الأربعة)– انظر ص 142،150 .246).(159/300)
كشأن سائر الأئمة، ومزاعم كثيرة ظاهرها يشهد عليها بالكذب والتهويل الأجوف لولا خوف الإطالة لكان في ذكرها ما يتعجب من العاقل على جرأة هؤلاء على التلفيق الذي لا يقبله عقل سليم ولا فطرة نقية، كما فعل الطوسي في كتاب (الغيبة)) (258) صفحة، كلها مثل هذه المبالغات والتلفيقات دون أن يجد الشخص جواباً شافياً لما يدور في ذهنه من أسئلة مهمة.
لماذا اختفى المهدي في السرداب مع انه لا داعي لهذا الخوف ما دامت الملائكة تحميه وتتبرك به وتنصره، فإن ملكاً واحداً يكفيه كل أهل الأرض؟
ثم لماذا يختفي الآن وقد ذهب كل من كان يخاف منهم، وجاء قوم يتلهفون على خروجه ونصرته، فلماذا إذاً تخلف عنهم بدون عذر مقبول، وهم يصيحون ليل نهار عجل الله خروجه؟
ثم لماذا لم يشب ولم ينم الحسن والحسين –سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم- مع عظم مكانتهما مثلما شب ابن الحسن والعسكري بتلك العجلة؟ وما الداعي أيضاً لتلك العجلة في تنموه ومصيره أن يختفي في السرداب ثم لا يراه أحد بعد ذلك ولا ينتفع به أحد؟
قد تجد عند الطوسي( (247) انظر كتاب الغيبة ص 66 . 73 ، 199 .247) وغيره من علمائهم بعض الإجابات التي لفقوها في أسباب غيبته، ولكنها إجابات غير كافية ولا مقنع فيها لأحد، ومن أعجب الأمور أن ينكر الهاشميون وجود ولد الحسن العسكري على مرأى من الناس ومسمع، وذلك حينما ادعى شخص زمن المقتدر الخليفة العباسي أنه هو ابن الحسن العسكري، فجمع الخليفة جميع بني هاشم وعلى رأسهم نقيب الطالبيين أحمد بن عبد الصمد المعروف في كتب التاريخ __بابن الطومار)) للبت في أمر هذا الرجل، فشهد الجميع على كذبه بدليل أن الحسن العسكري لم يعقب، فحبس المدعي وشُهّر وضرب.(159/301)
ورغم أن أهل البيت أدرى بم فيه، لكن هؤلاء الشيعة أبوا إلا المكابرة مهما كانت النتائج، وادعوا وجود هذا المهدي ولا بد أن دافعاً قوياً دفعهم إلى هذه المجازفة، فما هو السبب في هذا الإصرار على وجود هذه الشخصية؟ سنذكر الجواب إن شاء الله في آخر الكلام عن هذه الشخصية.
مكان وجود المهدي:
اختلف الشيعة في المكان الذي اختفى فيه مهديهم محمد بن الحسن العسكري على أقوال متضاربة توحي لأهل كل مكان ذكروه بقرب المهدي منهم.
ومن تلك الأقوال، وهي كثيرة:
1- أنه مختف في سامراء، في سرداب دار أبيه، وهذا من أشهر أقوال الشيعة والمتداول بينهم، وفي كتبهم( (248) انظر رواية محمد بن يعقوب بإسناده عن ضوء بن علي العجلي عن رجل من أهل فارس ، كتاب الغيبة ص 140 / 146 .248).
2- أنه مختف في المدينة المنورة.
قال أبو هاشم الجعفري للحسن العسكري: ((يا سيدي هل لك ولد؟ قال: نعم. قلت: فإن حدث حادث فأين أسأل عنه؟ فقال: بالمدينة ( (249) كتاب الغيبة ص 139 .249)
3- أنه مختف بمكة المكرمة( (250) المصدر السابق 2ص 151 / 152 ، وانظر الكافي ج 1 ص 180 .250).
وقد أورد الطوسي روايات كثيرة في هذا، وأورد الكليني حديثاً في هذا.
4- وبعضهم قال: هو بذات طوى( (251) كشف الأستار للطبرسي ص 2145 ، نقلا عن الشيعة والتشيع ص 354 .251).
5- وبعضهم قال: إنه في اليمن بواد يسمى شمروخ( (252) الأنوار النعمانية للجزائري ج2 ص 65 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 354 .252).
6- وبعضهم قال: إنه بالطائف حسب رواية الطوسي الطويلة عن علي بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي( (253) كتاب الغيبة ص 159 – 161 .253).(159/302)
وكل هذه الخلافات دليل على بطلان تلك الدعوى، والباطل أهله يخلفون فيه حتماً، ولا يخفى التباعد بين هذه الأماكن، وهذا التباعد بينها دليل على أنها افتراضات مبنيّة على هوى وأغراض سياسية، إذ لا يمكن لأي شخص أن يجمع بينها ويصل إلى نتيجة مرضية مهما أوتي من المعرفة والذكاء، ولكن هكذا شريعة الهوى والسياسة حيث لا تستند على أي أساس ثابت.
وإذا كان المهدي قد اختار أن يختفي ويتوارى عن الأنظار فهل يجعل لذلك الاختفاء والهرب عن الناس حداً ومدة يعود بعدها إلى قيادة الشيعة، ومتى يتم ذلك؟ الجواب نذكره فيما يلي.
رجعة المهدي ومتى تتم؟
يؤمن سائر العقلاء أنه لا رجعة لأحد بعد موته ليعيش في الدنيا- ويؤمن المسلمون برجعة واحدة تكون في يوم القيامة حين يجمع الله الخلائق لفصل القضاء، كما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، بخلاف ما عليه كثير من الشيعة من إمكان ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة.
فقد قرروا في عقائدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليّ والحسن والحسين وبقية الأئمة سيرجعون. وفي المقابل يرجع أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ويزيد وابن ذي الجوشن، وكل من آذى أهل البيت بزعمهم.
كل هؤلاء سيرجعون إلى الدنيا مرة أخرى قبل يوم القيامة عند رجوع المهدي إلى الظهور –كما قرره لهم عدو الله ابن سبأ- يرجعون ليتم عقابهم كما آذوا أهل البيت واعتدوا عليهم ومنعوهم حقوقهم، فينالهم العقاب الشديد ثم يموتون جميعاً، ثم يحيون يوم القيامة للجزاء الأخير مرة أخرى.(159/303)
وقد بلغ بهم كرههم للصحابة أن زعم غلاتهم ومتعصبيهم وهو الشريف المرتضي أن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي وهي خضراء فتيبس فيضل بسبب ذلك جمع كثير من الناس، وهم يقولون: إن هذين البريئين قد ظلما ولذا صارت الشجرة الخضراء يابسة، وقيل: تكون تلك الشجرة يابسة قبل الصلب ثم تصير رطبة خضراء بعد الصلب فيهتدي كثير من الناس. قال الألوسي: ((والعجيب أن هؤلاء الكاذبين مختلفون بينهم في هذا الكذب أيضاً))( (254) انظر مختصر التحفة الإثني عشرية ص 201 .254).
ولهم في هذه الرجعة أخبار غريبة وخرافات يمجها العقل السليم. وقد أحاطوها بتهويلات عظيمة حتى يخيل للقارئ أن رجوع المهدي هو يوم القيامة الذي أخبر الله عنه، وهل خيالات وخرافات لا يصدقها إلا من لم يمن الله عليه بمعرفة دين الإسلام.
وقد ذكر الطوسي أن المهدي يخرج يوم عاشوراء يوم السبت بين الركن والمقام. وهذه الرواية عن أبي جعفر، وذكر رواية عن أبي عبد الله أنه ينادي باسم المهدي ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم يوم عاشوراء يوم قتل الحسين( (255) كتاب الغيبة ص 274 .255).
وفي بعضها أن جبريل ينادي يوم ستة وعشرين من شهر رمضان باسم القائم، ويقوم في يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين بين الركن والمقام، فتسير إليه شيعته، ومنهم من يطير طيراناً، ومنهم من يمشي في السحاب، وهم أفضل أصحابه، وتكون الملائكة حوله صافِّين ومعه جميع الكتب المقدسة التي أنزلها الله على الأنبياء من أولهم إلى آخرهم.
ثم يأمر بحصر المخالفين للشيعة فينكل بهم، ثم تعلو كلمة الشيعة ويمتد حكمهم إلى جميع الأرض وتكون الغلبة لهم...إلخ.(159/304)
ويذكر الطوسي عن أبي الحسن الرضا أنه قال: ((ينادون في رجب ثلاثة أصوات من السماء ..صوتا منها..ألا لعنة الله على الظالمين، والصوت الثاني: أزفت الآزفة يا معشر المؤمنين، والصوت الثالث: يرون بدنا بارزاً نحو عين الشمس، هذا أمير المؤمنين، قد كرّ في هلاك الظالمين ( (256) كتاب الغيبة ص 268 .256)، وأن أول من تنشق عنه الأرض في الرجعة هو الحسين بن علي رضي الله عنه)).
وأما عن الغلظة التي سيسير عليها فقد زعموا تنفيساً عن أحقادهم ضد العرب- كما دلّت عليه رواياتهم- أنه بعد رجعة المهدي أول ما يبدأ به أنه يقتل قريشاً ويصلبهم أحياءً وأمواتاً، أي بعد أن يحيي الله من مات منهم فيجازيهم أشد الجزاء بسبب ما فعلوا نحو أهل البيت فيضع السيف فيهم لا يستتيب أحداً منهم، ويستمر في هذا القتل مدة ثمانية أشهر لا يضع السيف عن عاتقه.
وزعم الطوسيّ في روايته عن أبي عبد الله أن المهدي يقطع أيدي بني شيبة ويعلقها في الكعبة ( (257) كتاب الغيبة ص 282 .257)، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سلمهم مفتاحها.
كما زعموا أن يقتل سبعين قبيلة من قبائل العرب ( (258) المصدر السابق ص 284258).
كما افترى علماء الشيعة على الله تعالى وردوا شهادته في كتابه الكريم في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي برأها الله من كل سوء...فزعموا أن المهدي يقيم عليها الحد، فيجلدها الحد( (259) تفسير الصافي ص 359 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 378 .259)، لعن الله من اعتقد هذا الاعتقاد وأخزاه الله في الدنيا والآخرة، وهذه الزندقة ذكرها الصافي في تفسيره( (260) تفسير الصافي ص 359 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 378 .260).
وبعد ذلك قالوا: إنه سيستأنف طريقة جديدة كما استأنف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، قال الطوسي عن أبي عبد الله (ع) قال: ((إذا قام القائم جاء بأمر غير الذي كان))( (261) كتاب الغيبة ص 283 .261).(159/305)
وقد فسروا هذا الاستئناف بأنه يسير على حكم سليمان بن داود - كما يذكر الطوسي ( (262) المصدر السابق ص 283 .262) ، بل ويهدم ما كان قبله ويستأنف الإسلام من جديد( (263) بجار الأنوار 13 ص 194 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 382 .263).
ومعنى هذا أنه يكفر بالإسلام ويبدأ من جديد – على حسب هذه النصوص- هذا هوا الظاهر. ووصل سوء الأدب بأولئك أن اعتقدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في الرجعة الثانية لعلي رضي الله عنه يكون جندياً يقاتل بين يدي علي بن أبي طالب، ويبايع كذلك المهدي هو وسائر الأنبياء كما يروي العياش عن جعفر أنه قال لم يبعث الله نبياً ولا رسولاً إلا ردهم جميعاً إلى الدنيا حتى يقاتلون بين يدي علي بن أبي طالب( (264) تفسير العياشى ج 1 ص 281 نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 386 .264).
وأن دابة الأرض المذكورة في القرآن هي عليّ بن أبي طالب( (265) مختصر التحفة الإثني عشرية ص 201 .265).
ونترك خرافات كثيرة يمجها العقل، وتستثقل ذكرها النفس، إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى الحقد والكراهية التي كان عليها كتَّاب مثل هذه الأفكار وشدة كيدهم للإسلام ولزعماء المسلمين من الصحابة الكرام فمن بعدهم الذين قضوا على اليهودية والوثنية المجوسية، وأنزلوهم من عروشهم وساووهم بعامة المسلمين.
مما أغضب هؤلاء الذين لفقوا مثل هذه الأخبار والترهات في ذم قريش وحكام المسلمين أجمعين، وذم كثير من أهل البيت وزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله بخلاف ما هو معلوم من دين الإسلام، بل وجميع الأديان السماوية مجمعة على أن الإنسان إذا انتهى عمره في الدنيا ومات فإنه لا رجعة له إلا للقاء ربه يوم القيامة للحساب والجزاء.(159/306)
وهذا هو ما صرح به الله عز وجل في القرآن الكريم؛ حيث قال رداً على من تمنى الرجعة إلى الدنيا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }( (266) سورة المؤمنون :99- 100266)، وهذا هو اعتقاد جميع المسلمين، ولم يقل بخلاف هذا أحد لا سلف الأمة ولا أحد من آل البيت الذي تزعم الشيعة أنهم تبع لهم، والقرآن صريح وواضح في إبطال هذه البدعة، والخرافة العقدية التافهة.
وقولهم: إن المهدي هو الذي يحاسب الناس وينزل بهم العقاب بسبب ما قدّموه في حق آل البيت، فإن الإسلام يصرح بأن الله عز وجل يتولى حساب جميع خلقه، ويثيب أو يعاقب.
أما البشر، فليس لهم ذلك لقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}( (267) سورة مريم:93267) .
وقول هؤلاء الشيعة إنما اقتبسوه من قول النصارى بأن المسيح هو الذي يتولى حساب الخلق –تشابهت قلوبهم.
وقول هؤلاء: إن الرسول يقاتل بين يدي عليّ بن أبي طالب، ويبايعه المهدي الذي هو من ولدهما- إهانة واستخفاف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإهانة أيضاً لعلي رضي الله عنه، إضافة إلى تفسيرهم دابة الأرض بأنها علي رضي الله عنه، ولقد صدق عليهم الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت))( (268) أخرجه البخاري 6/3515 الفتح ، وأحمد في المسند 4/ 121 ، وأبو داود 5/148 وابن ماجه 2/ 1400 . 268).
وأما ما زعموه من عقوبة خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من صلبهما على شجرة وهي رطبة فتصبح يابسة، فهو افتراء ومخالفة للعقل والواقع، إذ كيف يعقل أن يجازيا بقتل الحسين وليس لهم بذلك صلة، ثم إن ذنبهما –إن كان أخذ الخلافة ذنب- لا يعقل أن يصل إلى هذا الحد من العقوبة.(159/307)
ثم كيف يجازيهما الله أمام أقوام لم يشهدوا ذنبهما ولم يعرفوا له سبباً، إذ الأولى أن يتم جزاءهما أمام من شهد أمرهما في الوقت الذي آذوا فيه أهل البيت حتى تقر أعينهم بجزائهما، مع أن إثبات هذا العقاب يؤدي في النهاية إلى عكس ما يريد الشيعة، ويناقض أقوالهم، وذلك:
1- أن أولئك الناس لو أرجعهم الله إلى الدنيا للجزاء قبيل يوم القيامة لكان أمرهم في الآخرة إلى الجنة، إذ من الظلم أن يعذبوا مرة أخرى، فحصل لهم بتعذيبهم في رجعتهم إلى الدنيا تخفيف وراحة.
وهذا ينقض ما ذهب إليه الإمامية، فإنه على أصولهم أن عذاب جهنم لا بد وأن يكون مستمراً على من آذى آل البيت، ثم ما هو الداعي إلى هذه العجلة يخرجهم فيعذبهم ثم يموتون ويعذبون مرة أخرى، وأيضاً لماذا لم تكن هذه العجلة في وقت وقوع الجريمة لتكون أنكى، أما تركهم هذه المدة كلها ثم يعذبهم في زمن المهدي فهو برود مثل برود الشيعة في أكاذيبهم.(159/308)
2- أن الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الذين حكم الشيعة عليهم بالرجوع، لعظم ما ارتكبوه في حق آل البيت وجزاؤهم الشديد في الدنيا ثم يموتون-بزعمهم- ويبعثون يوم القيامة. ذنوبهم بإقرار الشيعة غصب الخلافة وبعض حقوق آل البيت –على زعم الشيعة-، وهذا الذنب –إذا جاز تسميته ذنباً- لا يصل إلى درجة الكفر بالله والشرك به بل هو فسق والفسق لا يصل إلى هذا الحد من العقاب ولا يوجب الرجعة في الدنيا، ولو كان الأمر يقتضي الرجعة لكان إرجاع الكفرة والمشركين والذين ادعوا الألوهية مع الله- كفرعون ونمرود وغيرهما- أولى بالرجوع، والشيعة لم يقولوا بذلك، فوجب أن يكون – حسب مقياسهم- أن غصب الخلافة أو التعدي على آل البيت أعظم جرماً من الشرك ومن ادعاء الألوهية وقتل الأنبياء بغير حق، وهم لا يقولون بهذا؛ فظهر بطلان قولهم بوجوب إعادة ورجعة أولئك الخلفاء لعقابهم في الدنيا بسبب غصبهم الخلافة، أو أخذ أبي بكر لفدك بغير حق كما يدعون لجهلهم بنص النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
3- ثم إن قولهم برجوع النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وسائر الأئمة وإخراجهم من قبورهم لحضور هذا العقاب في الرجعة –فيه تعذيب لهم بالموت مرة أخرى، والموت أشد آلام الدنيا...فلم يجوز الله سبحانه وتعالى إيلام أحبائه عبثاً؟ إذ الموت لا بد أن يشمل كل كائن حيّ، وإذا أحيا الله هؤلاء فلا بد من تجرعهم الموت مرة أخرى- على حسب هذا المعتقد الخرافي-، فكيف يعذب أولياءه بالموت مرتين في الدنيا وغيرهم مرّة واحدة؟(159/309)
4- إنه على عزم الشيعة بإعادة هؤلاء وإيقاع العذاب عليهم في الدنيا – فيه نفع لهؤلاء المبعوثين إلى الدنيا إذ يعلمون حينئذ أنهم أخطئوا فيتوبون حتما توبة نصوحاً، والتوبة مقبولة في الدنيا ولو بعد الرجعة، فكيف بعد ذلك يمكن تعذيبهم، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. فوجب على معتقد الشيعة برجعتهم أن يقولوا بأنهم في الآخرة في الجنّة لصدق توبتهم في الدنيا في الحياة الثانية.
إلى غير ذلك من الردود التي تدحض مذهب الشيعة في القول بالرجعة، وأنه خلاف العقل والنقل والواقع، والله الهادي إلى سواء السبيل( (269) انظر مختصر التحفة الإثنى عشرية ص 201 – 203 ، ص 294 .
وانظر أيضاً بحار الأنوار للمجلسي فيما ينقله عنه إحسان إلهى رحمه الله في كتابه الشيعة والتشيع من ص 376 إلى ص 390 .
وانظر دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين ص 148 – 152 .
وانظر الشيعة في الميزان ص 77 – 84 .269).
ومما ينبغي الإشارة له هنا أنه قد خرج عن القول بالمهدي على تلك الصورة المزعومة عند الشريعة بعض فرقهم كالزيدية، وقد أنكروا عودة المهدي وردّوها بروايات عن الأئمة أيضاً، وكفى الله المؤمنين القتال.
وقد سبقت الإشارة إلى هذه القضية في درس الزيدية، كما سبقت الإشارة إلى أن الشيعة ليسوا كلهم على مذهب واحد في المهدي المنتظر، وإنما اشتهر اسم محمد بن الحسن العسكري بالمهدي المنتظر، لأنها عقيدة الرافضة الإمامية في عصرنا الحاضر.
أما متى يخرج المهدي؟(159/310)
فقد وقَّت بعض الشيعة لخروج المهدي زمناً معيناً، وذلك بعد وفاة الحسن العسكري بزمن، إلا أن الذين وقّتوا خروجه بزمن حينما انتهى التقدير ورأوا أن المسألة ستتضح ويظهر فيها الكذب مددوا هذه الغيبة إلى وقت غير مسمى، واختلقوا لذلك أعذاراً كاذبة، فرواية وردت عن الأصبغ بن نباته –كما ينقلها الكليني- تذكر أنه سيخرج بعد ستة أيام أو ستة أشهر أو ست سنوات، وهذه الروايات هي المتقدمة والقريبة من وفاة الحسن العسكري( (270) الكافي كتاب الحجة ج 1ص 272 .270).
ورواية أخرى يذكرها الكليني عن أبي جعفر تذكر أنه سيخرج بعد سبعين سنة، ثم مددت هذه المدة أيضاً حين أفشي السر إلى أجل غير مسمى، وذلك حسب ما روى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر أن الله تبارك وتعالى قد كان وقّت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين –صلوات الله عليه- اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة، فحدَّثناكم فأذعنتم الحديث فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً...إلخ( (271) المصدر السابق ص 300 .271).
والواقع أنه لن يخرج حتى تخرج هذه العقيدة من أذهانهم ومعتقداتهم التي صنعها علماؤهم لأغراض ومقاصد كثيرة، في أولها حرب الدولة الإسلامية وإعادة السيطرة الفارسية.
وقد أبان سر هذه المهزلة المهدية أحد الشيعة وهو علي بن يقطين حين سئل عن المهدي فأجاب: ((إن أمرنا لم يحضر فعلَّلنا بالأماني، فلو قيل لنا: إن هذا الأمر لا يكون إلا إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة –لقست القلوب، ولرجع عامة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا: ما أسرعه وما أقربه تألفاً لقلوب الناس، وتقريباً للفرج))( (272) المصدر السابق ص 301 .272) .(159/311)
فانظر إلى هذه الشهادة عليهم، وقارن بينهم وبين السلف الذين ينتظرون المهدي الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لترى ثبات السلف وعدم وجود تلك العجلة واللهثة التي توجد في الشيعة، لأن السلف مطمئنون واثقون بدينهم ونبيهم، ويعلمون أن العجلة لا تقدمه ولا تؤخره، ولأنهم كذلك ليست لهم أحقاد يريدون أن يشتفوا من المخالفين لهم عند ظهور المهدي.
سبب إصرار الشيعة على القول بوجود محمد بن الحسن العسكري
عرفنا فيما تقدم عمق هذه الفكرة في أذهان الشيعة وتشبثهم بوجود ابن للحسن العسكري الذي جعلوا منه مهديهم المنتظر، ومكابرتهم وإصرارهم على القول بولادته، فما هو السر في هذا ؟ والجواب حاصله أن الشيعة قد وضعوا شروطاً وقواعد وأوصافاً للإمام ألزموا أنفسهم بتصديقها وهي من صنع الخيال، وبالتالي فهي صعبة المنال ثم جعلوها جزءاً من العقيدة الشيعية، بحيث لو لم تتحقق لانتقض جزء كبير من تعاليمهم، ولأصبحوا في حرج.
وأكثر تلك الشروط هي تقول على الله ومجازفة وحكم على الغيب، فمنها على سبيل المثال لا الحصر:
1- أن الإمام لا يموت حتى يكون له خلف من ذريته هو الذي يتولى الإمامة من بعده حتماً لازماً وقد روى الطوسي عن عقبة بن جعفر قال: قلت لأبي الحسن: قد بلغت ما بلغت وليس لك ولد؟
فقال: يا عقبة بن جعفر، إن صاحب هذا الأمر لا يموت حتى يرى ولده من بعده ( (273) كتاب الغيبة ص 133 . وذكر الكلينى على هذا الزعم أحاديث كثيرة في كتاب الحجة في الجزء الأول الذي يبدأ هذا الكتاب من 128 إلى 459 .273)
2- أن الإمامة لا تعود في أخوين بعد الحسن والحسين أبداً؛ بل في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.(159/312)
ومعنى هذا أن الحسن العسكري –وهو الإمام الحادي عشر- لو مات دون عقب لانتقضت هذه القاعدة، وقد روى الطوسي عن أبي عيسى الجهني قال أبو عبد الله ع: لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما، إنما هي في الأعقاب وأعقاب الأعقاب ( (274) المصدر السابق ص 136 .274) .
3- الإمام لا يغسله إلا إمام هو أكبر أولاده.
ولقد ذكر ابن بابويه القمي عن علي بن موسى بن جعفر كثيراً من الشروط التي اشتملت على خرافات وآراء ضالة ليست من الإسلام في شيء، كقولهم: ((للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختوناً، ويكون مطهراً، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل.
وإذا وقع على الأرض من بطن أمه وقع على راحته رافعاً صوته بالشهادة ولا يحتلم، وتنام عينيه ولا ينام قلبه، ويكون محدثاً، ويستوي عليه درع رسول الله صلى الله عليه وسلم – لأنها محفوظة بزعمهم عند الأئمة يتوارثونها- ولا يرى له بول ولا غائط، لأن الله عز وجل قد وكل الأرض بابتلاع ما يخرج منه، ويكون له رائحة أطيب من رائحة المسك.
ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من آبائهم وأمهاتهم، ويكون أشد الناس تواضعاً لله عز وجل، ويكون آخذ الناس بما يأمرهم به، وأكف الناس عما ينهى عنه، ويكون دعاؤه مستجاباً حتى إنه لو دعى على صخرة لانشقت نصفين، ويكون عنده سلاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه محفوظ عند الأئمة والسيف ذو الفقار.(159/313)
ويكون عنده صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة، وصحيفة فيها أسماء أعدائهم إلى يوم القيامة، وتكون عنده الجامعة وهي صحيفة طولها سبعون ذراعاً، فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم ويكون عنده الجفر الأكبر والجفر الأصغر؛ إهاب ماعز وإهاب كبش فيهما جميع العلوم حتى أرش الخدش، وحتى الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة، ويكون عنده مصحف فاطمة))( (275) ذكرها عنه احسان الهي في كتابه (( الشيعة والتشيع )) ص 286 . نقلاً عن كتاب القمي ص 527 .275).
ويروي الكليني عن أبي جعفر قال: ((للإمام عشر علامات: يولد مطهرا مختوناً، وإذا وقع على الأرض وقع على راحته رافعاً صوته بالشهادتين، ولا يجنب، وتنام عينيه ولا ينام قلبه، ولا يتثاءب، ولا يتمطى، ويرى من خلفه كما يرى من أمامه، ونجوه كرائحة المسك، والأرض موكلة بستره وابتلاعه، فإذا لبس درع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عليه وفقاً، وإذا لبسها غيره من الناس طويلهم وقصيرهم زادت عليه شبراً، وهو محدث إلى أن تنقضي أيامه)) ( (276) كتاب الكافي ج 2 ص 319 . وقد ذكر الكليني في هذا الكتاب في الجزء الأول في كتاب الحجة كثيراً من تلك المبالغات في الأئمة مثل قولهم :
باب أن الحجة لا تقوم على خلقه إلا بإمام ص 135 .
باب أن الأئمة هم أركان الأرض ص 152 .
باب أن الأئمة هم أركان الأرض ص 152 .
باب عرض الأعمال على النبي والأئمة ص 170 .
باب أن الأئمة معدن العلم وشجرة النبوة ومختلف الملائكة .
باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله ومتاعه ص 181 .
باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة ص 185 .
باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون ، وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم ص 202 .
باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء صلوات الله وسلامه عليهم ص 203 .
باب أن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة ص 315 .(159/314)
وأبواب أخرى كثيرة تركتها خوف الإطالة ، وقد حشيت تلك الأبواب بمبالغات وأكاذيب على أئمتهم لا يقبلها عاقل له أدني تمييز . 276).
وبغض النظر عن دراسة هذه الخيالات والخرافات التي يمجها العقل ويرفضها الفكر ويكذبها الواقع، إذ لا يوجد رجل تتوفر فيه هذه الشروط التي لم تتوفر حتى في الأنبياء والرسل عليهم الصلاة السلام مجتمعة – بغض النظر عن ذلك كله فإن الذي يهمنا هنا هو معرفة السر الذي أصرَّ بموجبه الشيعة على القول بوجود ابن للحسن العسكري يخلف والده في إمامتهم.
وقد اتضح مما تقدم أن الذي حمل الشيعة على ذلك الإصرار هي تلك الشروط التي تنص على أن الإمام لا يموت حتى يوجد له عقب من أولاده هو الذي يتولى تجهيزه ودفنه، والقيام بأمر الشيعة بعده حتماً...وكان موت الحسن من دون ولد يهدم تلك الشروط التي وضعوها.
ومن هنا قرّروا أن يوجدوا للحسن ولداً تخلصاً من هذا المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، وليكن بعد ذلك ما يكون، وهم على ثقة بأن لكل صوت صدى، بل هم واثقون من أن استجابة الأكثر من الناس للخرافات والخزعبلات أقوى من استجابتهم للحق، وأقرب إلى نفوس الكثير من بني آدم.
وإضافة إلى ما تقدم في سبب دعواهم وجود المهدي، فإنه ينبغي ملاحظة أنه قد مرت بالشيعة ظروف سياسية واجتماعية ودينية ذاقوا فيها مرارة الحرمان من عدم إقامة دولة لهم تنظر إليهم بالعين التي يريدونها من تقديمهم واعتبار آرائهم، وغير ذلك مما كانوا فيه من العزة والتطاول على الناس، واعتبار عنصرهم أفضل العناصر.
وحينما غلبتهم الدولة الإسلامية وبلغ السيل الزبى بإخضاع الدولة الأموية لهم –فكر رؤساؤهم في ذلك الوقت في أمر يجتمع عليه عامتهم؛ لئلا يذوبوا في غيرهم، وييئسوا من استعادة أمرهم، فبدأوا في حبك المخططات السرية والعلنية، وتوجيه أنظار جميع الشيعة إلى الالتفاف حول أمل إذا تحقق عادت به سيادتهم كما يتصورون.(159/315)
وهو انتظار المهدي الغائب( (277) انظر فجر الإسلام ص 274/ 275 ، وانظر دراسة عن الفرق ص 160 .277) الذي سيزيل عند رجوعه جميع من ناوأهم، ويقضي على قريش بخصوصهم بكل شراسة حتى يقول الناس: لو كان هذا من قريش لما فعل بهم هكذا حسب ما يرويه النعماني ( (278) كتاب الغيبة للنعماني ، نقلاً عن الشيعة والتشيع ص 376 .278)، وحسبما يروونه عنه في كتبهم.
وهذه الشراسة والشدة على العرب بخصوصهم ومنهم قريش تدل دلالة واضحة على أن هذا المهدي ليس له صلة بالعرب، فهو عدو شرس لهم ليس بينه وبينهم أية عاطفة أو صلة.
وفعلاً هذا المهدي ليس من قريش، بل هو مهدي فارسي متعصب ليزدجرد وللأسرة الساسانية التي قضى عليها الإسلام، يتضح ذلك في هذه الرواية التي يرويها الطوسي عن أبي عبد الله أنه قال:
((اتقوا العرب فإن لهم خبر سوء، أما إنه لا يخرج مع القائم منهم أحد))( (279) كتاب الغبية للطوسى ص 284 .279) وبهذا يتضح أن هذا المهدي مصنوع بمعرفة الشيعة وعلى طريقتهم، حقود شديد، يمثل الغلظة بأجلى صورها.
5- موقفهم من القرآن الكريم:
القرآن الكريم كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه،تكفل الله بحفظه وحمايته من أيدي العابثين وتأويلات المبطلين فقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}( (280) سورة الحجر:9280)، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} .( (281) سورة الحاقة : 45- 46281)
نزل به جبريل الأمين على قلب محمد سيد المرسلين وبلغنا رسول الله كما تبلِّغه عن الله تعالى، جمع الله به الكلمة، ووحد به القلوب، ولا تزال البشرية بخير ما تمسكوا به، مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور كما أنزله الله لم يزد فيه ولم ينقص منه بشهادة الله عز وجل.(159/316)
هكذا يعتقد المسلمون في القرآن الكريم، فما هو رأي غلاة الشيعة (الرافضة) في صون القرآن عن التبديل والتغيير؟
إن الحق والواجب أن يكون القرآن الكريم بعيداً عن أي مساس، وأن يكون نواة تجتمع عليها كلمة كافة المسلمين، وأن يجعل الحكم له في كل قضية، إلا أنه –ومع الأسف الشديد- لم يسلم القرآن الكريم من تدخل أهواء الشيعة –المتعمقين في الغلو- فقالوا بأقوال لا تجتمع معها كلمتهم وكلمة أهل السنة أبداً حتى يرجعوا عنها؛ لأنهما يسيران في طريقين متباعدين لا يلتقيان.
لقد أعلن غلاة الشيعة أن في القرآن تحريفاً ونقصاً كثيراً، ولم يكن هؤلاء من عامة الشيعة أو علمائهم غير المشاهير، بل هم من علمائهم الكبار عندهم كالقمي والكليني وأبي القاسم الكوفي والمفيد والأردبيلي والطبرسي والكاشي والمجلسي والجزائري( (282) نعمة بن عبدالله الجزائري . 282) والكازراني وغيرهم، وهؤلاء قد صرّحوا وبكل وضوح أن في القرآن نقصاً وتحريفاً في الآيات التي يذكر فيها علي بن أبي طالب، أو الآيات التي فيها ذم المهاجرين والأنصار ومثالب قريش، وأن القرآن لم يجمعه كما أنزل إلا عليّ فقط.
كما يعتقدون أن مصحفاً مفقوداً سيصل إلى أيديهم يوماً ما يسمى ((مصحف فاطمة)) فيه أضعاف ما في المصحف العثماني الموجود بين أيدي المسلمين، وأنه يختلف عن هذا المصحف اختلافاً كثيراً.
وتوجد نماذج كثيرة من تحريفاتهم للقرآن الكريم، اهتم علماء السنة بذكرها عنهم قديماً وحديثاً لعلّ المقام لا يتسع لسرد أسماء من كتب في هذا أو سرد الآيات التي يدعي الشيعة أنها محرفة أو ناقصة عن مصحف آل البيت فيما يذكره كتاب ((فصل الخطاب)) في تحريف كتاب ((رب الأرباب)) للطبرسي))، وفي الكافي وغيرهما من كتب الشيعة.
والحقيقة أن هذا الموقف لا يمت للإسلام بأدنى صلة، ومعتقده لا شك في كفره وخروجه عن الملة مهما كان ادعاؤه للإسلام بعد ذلك.(159/317)
ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه كبير علماء النجف الحاج ميرزا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي، والذي بلغ من إجلالهم له عند وفاته سنة 1320هـ أنهم دفنوه في بناء المشهد المرتضوي بالنجف، في إيوان حجرة بانو العظمى بنت السلطان الناصر لدين الله، وهو أقدس مكان عندهم.
هذا الرجل ألّف سنة 1292هـ وهو في النجف عند القبر المنسوب للإمام عليّ كتابه المسمى: ((فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)) جمع فيه مئات النصوص عن علماء الشيعة قديماً وحديثاً أنهم يعتقدون بوجود النقص والتحريف في القرآن الكريم، وطبع الكتاب في إيران.
وعند طبعه قامت ضجة كبيرة حوله، خصوصاً ما أبداه بعض عقلائهم لا لأجل ما في الكتاب، وإنما كانوا يرغبون أن يبقى التشكيك في القرآن سراً مبثوثاً في كتبهم المعتبرة لا أن يذاع في كتاب واحد تقوم به الحجة عليهم.
وبدلاً من أن يستكين مؤلفه أو يعتذر ألف كتاباً آخر سماه: ((رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)) دافع فيه عن ما أودعه في كتابه السابق ((فصل الخطّاب))، وقد كتب هذا الدفاع قبل موته بسنتين( (283) انظر : الخطوط العريضة ص 9- 10 . 283).
ولبيان نظرتهم إلى القرآن نورد بعض الشواهد والأمثلة فيما يلي:
1- ادعى الشيعة أن سورة من القرآن تسمى سورة ((الولاية)) قد أسقطت من المصحف العثماني، ونصها:(159/318)
((يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنبي والولي اللذين بعثناهما يهديانكم الصراط المستقيم(*) نبيّ ووليّ بعضهما من بعض وأنا العليم الخبير (*) إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم (*) والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبين (*) إن لهم في جهنم مقاماً عظيماً إذا نودي بهم يوم القيامة أين الظالمون المكذبون للمرسلين (*) ما خلفهم المرسلين إلا بالحق وما كان الله ليظهرهم إلى أجل قريب (*) فسبح بحمد ربك وعليّ من الشاهدين ))( (284) انظر التعليق الموجود في ص 22 من مختصر التحفة الإثني عشرية وصورة (( سورة الولاية )) .284).
فانظر إلى هذا الكلام الفارغ الذي لو قدمه تلميذ في مادة الإنشاء لاستحق عليه الرسوب، كلام مفكك ركيك، ثم يزعمون أنه كلام الله تعالى، وأن هذه سورة من عند الله تعالى أنزلها ضمن القرآن الكريم.
وفي كتاب الكافي وفصل الخاطب من الآيات التي زعم الشيعة أنها محرفة وناقصة ما جعلني أحتار في أيها أثبته هنا وأيها أتركه فهي كثيرة جدا، أخذت صفحات عديدة، وكلها مما يقتل النفس أسى على ضلال هؤلاء وتطاولهم على كتاب الله دون خوف من الله ولا مبالاة بمشاعر المسلمين.
وبعد البحث وبذل الجهد في تصفح كتاب فصل الخطاب عثرت على الطامة الكبرى وهي ((سورة الولاية)) بكاملها، وقد رغبت أن أنقلها ليعتبر المؤمن، ويرجع المغالط، ويعرف أهل الشر على حقيقتهم؛ فقارن أيها القارئ الكريم بين كتاب الله وبين هذا القرآن الذي يزعمه علماء الشيعة ويتقولونه على الله تعالى، ولا تنخدع بأكاذيبهم حين يجحدون مثل هذا الافتراء، فإنهم يقدسون الكليني والطبرسي أشد تقديس، ولم يظهر منهم أحد يشنع عليهما ويرد ضلالتهما ويبرأ إلى الله من أباطيلهما وجرأتهما على كتاب الله الذي تكفل الله بحفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
سورة الولاية كما هي في فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب للطبرسي:(159/319)
قال الطبرسي فيما ينقله عن صاحب كتاب ((بستان المذاهب)) بعد ذكر عقائد الشيعة ما معناه: وبعضهم يقولون: إن عثمان أحرق المصاحف، وأتلف السور التي كانت في فضل علي وأهل بيته عليهم السلام، ومنها هذه السورة: ((بسم الله الرحمن الرحيم الله الرحمن الرحيم . يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم (*) نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم (*) إن الذين يوفون ورسوله في آيات لهم جنات النعيم (*) والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم (*) ظلموا أنفسهم وعصوا الوصيّ الرسول أولئك يسقون من حميم (*) إن الله الذي نوّر السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (*) قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم (*) إن الله قد أهلك عاداً وثموداً بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة أفلا تتقون (*) وفرعون بما طغى على موسى وأخيه هارون أغرقته ومن تبعه أجمعين (*) ليكون لكم آية وإن أكثركم فاسقون (*) إن الله يجمعهم في يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم (*).
يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون (*) قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون (*) مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم جنات النعيم (*) إن الله لذو مغفرة وأجر عظيم (*) وإن علياً من المتقين (*) وإنا لنوفيه حقه يوم الدين (*) ما نحن عن ظلمه بغافلين (*) وكرمناه على أهلك أجمعين (*) فإنه وذريته لصابرون (*) وإن عدوهم إمام المجرمين (*) قل للذين كفروا بعدما آمنوا أطلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون(*).(159/320)
يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات مبينات فيها من يتوفاه مؤمناً ومن يتولاه من بعدك يظهرون (*) فأعرض عنهم إنهم معرضون (*) إنا لهم محضرون في يوم لا يغني عنهم شيء ولا هم يرحمون (*) وإن لهم في جهنم مقاماً لا يعدلون (*) فسبح باسم ربك وكن من الشاهدين(*).
ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر جميل (*) فجعلنا منهم القردة والخنازير ولعنّاهم إلى يوم يبعثون (*) فاصبر فسوف يبصرون(*) ولقد آتينا بك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين (*) وجعلنا لكم منهم وصياً لعلهم يرجعون (*) ومن يتول عن أمري فإني مرجعه فليتمتعوا بكفرهم قليلاً فلا تسأل عن الناكثين (*).
يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهداً فخذه وكن من الشاكرين (*) إن علياً قانتاً بالليل ساجداً يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون (*) سنجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون (*).
إنا بشرناك بذريته الصالحين (*) وإنهم لأمرنا لا يخلفون (*) فعليهم مني صلوات ورحمة أحياءً وأمواتاً يوم يبعثون (*) وعلى الذين يبغون عليهم من بعدك غضبي إنهم قوم سوء خاسرين (*) وعلى الذين سلكوا مسلكهم منّي رحمة وهم في الغرفات آمنون (*) والحمد لله رب العالمين (*) )).
وبعد أن أورد الطبرسي هذا الهذيان –حاشا ما سرقه من القرآن الكريم- قال: ((قلت: ظاهر كلامه أنه أخذها من كتب الشيعة، ولم أجد لها أثراً فيها غير أن الشيخ محمد بن علي بن شهر أشوب المازندراني ذكر في كتاب ((المثلب)) على ما حكي عنه أنهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية، ولعلها هذه السورة ( (285) فصل الخطاب ص 156- 157 .285).
فانظر أيها القارئ المسلم إلى مدى ما وصل إليه ضلال هؤلاء؛ حيث جعلوا هذا الكلام الفراغ قرآناً أنزله الله، لعن الله من قاله وغضب عليه.(159/321)
وقد أوردت ((السورة)) –كما يسميها هؤلاء الفجار –بتمامها لكي يتضح المقارنة بينها وبين ((سورة الولاية)) التي هي سبع آيات كما يكذبون...فكيف زادت بعد ذلك؟
هذا التساؤل يزول إذا عرفت أيها القارئ الكريم أن الشيعة يزيدون في كل نص لهم فيه غرض على منواله إن كان شعراً أو نثراً مع عزوه إلى أصل الكلام، وما الذي يمنعهم من ذلك وقد كذبوا على الله تعالى.
واعلم أيها القارئ الكريم أنني تركت مئات الآيات من كتاب الله سطى عليها الطبرسي وأوردها على أنها زائدة أو ناقصة أو محرفة.
وأرى أنه يكفي مرارة أنني نقلت من كتابه الرديء ((سورة الولاية)) هذه، بل وأرى أن مجرد قراءة هذه السورة يكفي لجلب الغثيان وإثارة الأسى والحزن على ما وصل إليه هؤلاء وهم يتظاهرون بعد ذلك بالإسلام.
على أن هذه السورة لا تحتاج في نقدها وتعرية خوائها وضحالة فكر من اخترعها –قبّحه الله- إلى أدنى اهتمام.
وأما الكليني فقد جاء من كتابه ((الكافي)) بمئات الآيات التي زعم أن الله أنزلها هكذا، ونأخذ كمثال الآيات الآتية التي أوردها في ((باب فيه نكت من التنزيل في الولاية))( (286) الكافي ج1ص341 .286).
1- عن أبي بصير عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: ((ومن يطع الله ورسوله في ولاية عليّ وولاية الأئمة من بعده فقد فاز فوزاً عظيماً)) هكذا أنزلت( (287) الكافي صـ342 .287).
2- عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (ع) في قوله: ((ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من ذريتهم فنسي)). هكذا والله أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم ))( (288) الكافي صـ34 .288) (لعن الله الكاذبين).
3- عن جابر قال: نزلت جبريل (ع) بهذه الآية على محمد هكذا ((وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في علي فأتوا بسورة من مثله))( (289) الكافي صـ345 .289) .(159/322)
4- عن الرضا (ع) في قول الله عز وجل: (كبر على المشركين بولاية عليّ ما تدعوهم إليه يا محمد ولاية علي)) هكذا في الكتاب مخطوطة ( (290) الكافي ج1ص356 .290).
5- عن أبي عبد الله في قول الله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع (*) للكافرين بولاية عليّ ليس له دافع)) ثم قال: هكذا والله نزل بها جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم
6- عن أبي جعفر (ع) قال: نزل جبريل (ع) بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا ((فبدل الذين ظلموا آل محمد حقهم قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا آل محمد حقهم رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون))( (291) الكافي ص341 .291).
7- قرأ رجل عند أبي عبد الله (ع): {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} ( (292) سورة التوبة : 105292).
قال: ليس هكذا هي، إنما هي والمأمونون فنحن المأمونون))( (293) المصدر السابق .293).
وهناك آيات أخرى كثيرة على هذا الصنيع تلاعب بها أولئك الفجار تركتها اكتفاءاً بالأمثلة السابقة، ولعلهم حينما وضعوها كانوا يظنون ويتمنون أنها ستقرأ في المساجد والصلوات على حسب تحريفاتهم؛ لأنهم لا يعلمون أن الله تكفل بحفظ كتابه، وأن المسلمين يكتشفون كل محاولة للتلاعب بالقرآن مهما كان خفاؤها بتوفيق الله لهم.
وفد نتج عن هذا التلاعب بالقرآن أن اختلط أمره على عامة الشيعة فلم يوجد عندهم التمييز بين كلام الله في القرآن وما أدخله أولئك الفجار عليه، وهذا ما يرويه الكليني بقوله:
((روى عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن – أي أبو الحسن الثاني علي بن موسى الرضا المتوفى سنة 206 قال: قلت له: جعلت فداك، أنا أسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها، ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم، فهل نأثم؟ فقال: لا، اقرؤوا كما تعلمتم فسيجيئكم من يعلمكم))( (294) الكافي ج1ص453 .294).(159/323)
ينبئ عن مدى التشويش الذي أصاب الشيعة من جراء أكاذيب علمائهم عليهم وعلى أئمتهم المعصومين بزعمهم، وتوجيه لأنظار الشيعة عامة إلى ترقب مجيء من يعلمهم بمصحف آل البيت،مصحف فاطمة الذي يختلف تمام الاختلاف مع المصاحف الموجودة بأيدي المسلمين ، وقرآنه يختلف مع القرآن الذي عرفه المسلمون من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
روى الكليني عن أبي بصير قال: ((دخلت على أبي عبد الله...إلى أن قال أبو عبد الله –جعفر الصادق- كما يزعم الكليني وأبو بصير-: وإن عندنا مصحف فاطمة عليها السلام، قال: قلت: وما مصحف فاطمة(ع)؟
قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد))( (295) الكافي في ج1ص186 .295).
هذه الرواية أيضاً من أكاذيب الشيعة، وصدق من قال: ((عدو عاقل خير من صديق جاهل))، إذا قلنا بأن لهم صداقة مع أهل البيت كما يزعمون.
وكان لابن حزم رحمه الله تعالى مواقف مشهورة وكثيرة مع النصارى، كان يناظرهم ويقيم عليهم الحجج الدامغة أن كتبهم محرفة وفيها نقص وزيادات وضياع لأصولها الصحيحة ولم تعد تصلح للاحتجاج بها فضلاً عن التدين بما فيها، فكان القسس يردّون عليه نفس الحجة قائلين إن القرآن كذلك فيه تحريف ونقص، وضاع كثير من أصوله باعتراف المسلمين من الشيعة، فيجيبهم ابن حزم بقوله:
((إن دعوى الشيعة ليست حجّة على القرآن ولا على المسلمين، لأن الشيعة غير مسلمين)). وقال رحمه الله:
((وأما قولهم في دعوى الروافض تبديل القراءات، فإن الروافض ليسوا من المسلمين، إنما هي فرق حدث أولها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، وكان مبدؤها إجابة ممن خذله الله تعالى لدعوى من كاد للإسلام، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر...( (296) انظر الفصل ج2 ص 78 .296) إلى آخر كلامه.(159/324)
ومهما حاول الحاقدون على الإسلام من أي ملة كانوا فإن الله عزّ وجلّ تكفل بحفظ كتابه وحمايته، وما كان في حماية الله عز وجل فإنه لا يضيع.
وكم حاول كثير من الفجار التطاول على القرآن فأخزاهم الله. وسيبقى القرآن دستوراً خالداً للمسلمين محفوظاً حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ولكم يتمنى كل مسلم غيور على دينه أن تمحى مثل هذه الأباطيل والشوائب، وأن تقترب قلوب المسلمين وتتوحد أهدافهم وتصدق نياتهم، ويأتوا إلى حكم القرآن خاضعين مسلمين إن أرادوا النجاة واجتماع كلمة المسلمين وقوَّة شوكتهم، لولا أن العداوة قد استحكمت، والآراء قد ثبتت في الأذهان بتحريض علماء السوء.
وإن التغيير الكامل لمثل هذه المواقف يتطلب نية صادقة وعزماً قوياً على الالتفاف حول الأساس الذي بني عليه الإسلام وهو كتاب الله وسنة نبيه لرفع كلمة المسلمين مما هم فيه من التفرق والخذلان، والعودة بهم إلى سابق مجدهم وعزهم إذا أراد الله بهم الخير والخروج من أيدي الطغاة الذين تكالبوا عليهم من الشرق والغرب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}( (297) سورة الرعد : 11 297) .
6- موقفهم من الصحابة:
وأما بالنسبة لموقف الشيعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فقد هلكوا فيهم؛ إذ بالغوا في العداء لهم وكفّروهم، وحكموا بردة أخيارهم –حاشاهم من ذلك- بل وجعلوا من عبادتهم لله التقرب إلى الله بلعنهم صباحاً ومساءً وأثبتوا من الأجر-بافترائهم على الله – ما لا يعد ولا يحصى لمن سبهم صباحاً ومساءً واختلقوا عليهم أكاذيب وافتراءات لا يصدّقها من له أدنى مسكة من عقل.(159/325)
وبلغ من حقدهم على خيرة الصحابة أن كرهوا لفظة العشرة التي تذكرهم بالعشرة المبشرين بالجنة، وهم في موقفهم هذا قد خرجوا عن منهج الله ورسوله حيال المؤمنين عموماً والصحابة خصوصاً، الذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بكل خير فردوا شهادة الله فيهم، وتعبّدوه بسبِّ أوليائه وتكفيرهم، وحتى لم يشكروا لهم إحسانهم في إيصال الدين إليهم وإخراجهم من الوثنية والمجوسية إلى نور الإسلام، وتناسوا جهادهم في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وأخرجوهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ولا يخلو كتاب من كتب الشيعة – على كثرتها وبطلانها- من سب وشتم للخلفاء الراشدين وسائر الصحابة إلا من استثنوهم.
وقد عبّروا عن أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة بصنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما، وأحياناً يعبّرون عن أبي بكر وعمر بالجبت والطاغوت، وأحياناً بكلمة الأول والثاني وقد يضيفون، والثالث يقصدون عثمان رضي الله عنه. وفيما يلي نذكر بعض النصوص من كتبهم تجاه الصحابة ليكون أوثق للحجة عليهم وأدعى إلى الإنصاف.
وأول ما نذكره هو تطاولهم على الصحابة وتفضيلهم لأنفسهم عليهم.
فقد أورد الطوسيّ عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن كنا معك ببدر وأحد وحنين، ونزل فينا القرآن؟ فقال: إنكم لو تحملوا ما حملوا، لم تصبروا صبرهم))( (298) كتاب الغيبة ص 275 .298).
أي أن حثالة الناس الذين يبكون على المهدي، ويصيحون في كل يوم ليخرج؛ أجر الواحد منهم مثل أجر خمسين ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)).(159/326)
وأما الكليني فإنه لم يتورع عن تفسير القرآن على حسب هواه في جرأته المعروفة، فقال معرِّضاً بأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم عند شرحه لقول الله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ}( (299) سورة الانشقاق : 19 . 299) : ((عن زرارة، عن أبي جعفر في قوله تعالى: {لتركبن طبقاً عن طبق}قال: يا زرارة، أو لم تركب هذه الأمة بعد نبيها طبقاً عن طبق في أمر فلان وفلان وفلان))( (300) الكافي ج1 ص 343 .300).
((وعن أبي عبد الله في قول الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ }( (301) سورة النساء : 137 . 301) .
قال: نزلت في فلان وفلان وفلان آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وكفروا حين عرضت عليهم الولاية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من كنت مولاه فعليّ مولاه))، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين (ع) ثم كفروا حيث مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه البيعة لهم لم يبق فيهم من الإيمان شيء( (302) الكافي ص 348 . 302).
وعن أبي عبد الله في قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}( (303) سورة الحج : 24 . 303) ، قال: ذلك حمزة وجعفر وعبيدة وسلمان وأبو ذر و ...( (304) الاسم ممسوح في النسخة المصورة عندي . ولعله المقداد304) بن الأسود وعمار، هدوا إلى أمير المؤمنين (ع)، وقوله:{ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}( (305) سورة الحجرات : 7 . 305) يعني أمير المؤمنين ،و { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ }( (306) سورة الحجرات : 7 .306). الأول والثاني والثالث))( (307) الكافي ج1 ص 353 .307).(159/327)
ومن أحاديث الكليني وذمّه للصحابة رضوان الله عليهم ما يرويه عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، في قوله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا }( (308) سورة النحل : 83 . 308)، قال لما نزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}( (309) سورة المائدة : 55 . 309) اجتمع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في هذه الآية؟ فقال بعضهم: إنا كفرنا بهذه الآية نكفر بسائرها، وإن آمنا فإن هذا ذل حين يسلط علينا ابن أبي طالب.
فقالوا قد علمنا أن محمداً صادق فيما يقول، ولكنا نتولاه ولا نطيع علياً فيما أمرنا فقال: فنزلت هذه الآية: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}يعرفون يعني ولاية عليّ بن أبي طالب وأكثرهم الكافرون بالولاية( (310) الكافي ج1 ص 354 .310).
وقال في ذمّه للخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم: ((والجبت والطاغوت فلان وفلان وفلان والعبادة طاعة الناس لهم))( (311) الكافي ج1 ص 356 .311).
ويبلغ الحقد والكراهة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن يتهمها الكليني في دينها وفي عرضها وعفتها، حين يفتعل الرواية الآتية –على من اخترعها لعنة الله- وهي طويلة نقتصر منها على هذه الكلمات:
1- قال الحسن لأخيه الحسين: ((واعلم أنه سيصيبني من الحميراء ما يعلم الناس من صنيعها وعداوتها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وعداوتها لنا أهل البيت)).
2- قال لها الحسين بن عليّ: ((قديماً هتكت أنت وأبوك حجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخلت بيته من لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قربه)).(159/328)
3- قال لها الحسين: ((وقد أدخلت أنت بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال بغير إذنه...إلى أن قال: ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاول)).
4- ((ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقربهما منه الأذى، وما رعيا من حقّه ما أمرهما الله به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ( (312) الكافي ج1 ص 240-241 312).
إلى آخر ما أورده من كلام السفهاء والسفلة حاشا الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية أن يتلفظوا به، بل ولا يتلفظ به من هو أقل منهم إيماناً، فكيف بهم؟؟؟ ولكنها الغفلة والطيش الذي امتازت به هذه الطائفة حينما قادهم علماء السوء منهم إلى بغض الصحابة والحكم عليهم بالردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم الذين استحلوا الكذب على أئمتهم بما ملأوا به كتبهم من روايات هي من مخترعاتهم، والتي هي أيضاً امتداد لأفكار ابن سبأ الضال.
وأما شرف الدين العاملي في مراجعاته التي زعم فيها أنه منصف يقول الحق، فقد جاء في كتابه هذا بالطامات والدواهي الغليظة بما افترى من الكلام والوقيعة في الصحابة عموماً، والخلفاء الثلاثة خصوصاً بطرق غامضة وأساليب ملتوية.
فقد عرَّض بأبي بكر وعمر أنهما خطبا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة فلم يزوجها من أحد منهما، وزوجها من علي فحسداه على ذلك وكاداه بكل وسيلة فلم ينجحا. فقال العاملي في ذلك مع الشتم لأبي بكر وعمر رضوان الله عليهما: ((وقد تظافرت الروايات أن أهل النفاق والحسد والتنافس لما علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيزوج علياً من بضعته الزهراء وهي عديلة مريم وسيدة نساء أهل الجنة.
حسدوه لذلك وعظم عليهم الأمر؛ لا سيما بعد أن خطبها من خطبها فلم يفلح.(159/329)
وقالوا: إن هذه ميزة يظهر بها فضل علي، فلا يلحقه بعدها لاحق، ولا يطمع في إدراكه طامع فأجلبوا بما لديهم من إرجاف، وعملوا لذلك أعمالاً، فبعثوا نساءهم إلى سيدة نساء العالمين ينفرنها، فكان مما قلن لها: إنه فقير ليس له شيء لكنها عليها السلام لم يخف عليها مكرهن وسوء مقاصد رجالهن، ومع ذلك لم تبد لهن شيئاً يكرهنه حتى تم ما أراده الله عز وجل ورسوله لها( (313) المرجعات ص 255 .313).
ولقد نسي أن الرسول صلى الله عليه وسلم زوج عثمان على ابنتيه، وتمنى أن لو كانت له ثالثة فيزوجه أيضاً. وأن أبا بكر وعمر لم يصنعا هذا الصنيع ولا شيئاً منه تجاهها ولا تآمرا عليه. وقد تناقض العاملي فإنه ذكر أيضاً ما يدل على تبرم فاطمة بزواجها من علي، فقد افترى على أبي هريرة، قال: قالت فاطمة: يا رسول الله زوجتني من علي وهو فقير لا مال له؟
قال صلى الله عليه وسلم : يا فاطمة أما ترضين أن الله عز وجل اطلع إلى الأرض فاختار رجلين أحدهما أبوك والآخر بعلك( (314) المرجعات ص 256 .314). وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة في مرض أصابها على عهده فقال لها: كيف تجدينك؟ قالت: والله لقد اشتد حزني واشتدت فاقتي وطال سقمي. قال صلى الله عليه وسلم: أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي إسلاماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً))( (315) المرجعات ص 257 .315) ثم قال العاملي: ((والأخبار في ذلك متضافرة لا تحتملها مراجعاتنا))( (316) المرجعات ص 257 .316).(159/330)
وقد طعن في إيمان أبي بكر وعمر وطاعتهما للرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك عثمان رضي الله عنه، وكل من أطاعهم فزعم أنهم كانوا لا يمتثلون لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤولون قوله لصالحهم دون أي اكتراث بمخالفته...إلى أن قال: ((أما الخلفاء الثلاثة وأوليائهم فقد تأولوا النص عليه بالخلافة للأسباب التي قدمناها))( (317) المرجعات ص 300 .317) وزعم أن علياً كان دائم الشكوى من قريش، ومن أبي بكر وعمر، فقال: ((وكم احتج أيام خلافته متظلماً، وبث شكواه على المنبر متألماً))( (318) المرجعات ص 337 .318).
وأنه دائم الدعاء عليهم بقوله: ((اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي)). ولقد نسي أن علياً بن أبي طالب كان لا يرى الدنيا تساوي شيئاً عنده فكيف بالخلافة التي أخذوها وهو كاره لها، لولا ما كان يؤمله من استقامة الناس على الدين، والقضاء على الفتن.
ومن الأمور التي لم يتورع عنها العاملي زعمه أن الحسن بن عليّ جاء إلى أبي بكر وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: انزل عن مجلس أبي، ووقع للحسين مثل ذلك مع عمر وهو على المنبر أيضاً ( (319) المرجعات ص 345 .319).
وهناك افتراءات كثيرة وتشويه للحقائق وسباب لخيرة الناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم، لم يجد العاملي أي حرج في ذكر هذه المواقف التي لا تمت إلى الإسلام بأدنى صلة.
وله في أم المؤمنين عائشة من التعريض بها والسب والشتم –الذي لا يليق إلا به ومن يعتقد معتقده – ما لا أستطيع ذكره هنا لطوله، ولعدم صبر المؤمن على النظر فيه وقراءته.
فقد ذكر في وسط السبب والتعريض بها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيباً على منبره فأشار نحو مسكنها قائلاً: ((ههنا الفتنة، ههنا الفتنة، ههنا الفتنة حيث يطلع قرن الشيطان))( (320) المرجعات ص 284 .320).(159/331)
ولقد أذهب الحقد والكراهية لأم المؤمنين عقله فادّعى أن قرن الشيطان يطلع من بيت النبي صلى الله عليه وسلم من حجرة عائشة التي دفن فيها، وأن الفتن والشرور كلها تنبعث منه، وحاشا أن يقع، فانظر إلى سفه هؤلاء الفجار...ثم أسند الحديث إلى البخاري ومسلم متجاهلاً معنى الحديث المقصود منه، مؤكدا أنه وارد في عائشة، وفي ذم حجرتها التي حوت قبر الرسول خير البشر صلى الله عليه وسلم واختلق العاملي حديثاً أورده عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: ((ادعوا لي أخي. فجاء أبو بكر فأعرض عنه. ثم قال: ادعوا لي أخي. فجاء عثمان فأعرض عنه، ثم دعي له علي فستره بثوبه وأكب عليه، فلما خرج من عنده قيل له: ما قال لك؟ قال علمني ألف باب، كل باب يفتح له ألف باب))( (321) المرجعات ص 282 .321)
ويذكر أيضاً أنه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كاد للإسلام كثير من العرب والمنافقين، والذين يريدون للإسلام شراً، وهؤلاء في جانب، وفي جانب آخر كان فيه كثير من العناصر الجياشة بكل حنق من محمد وآله وأصحابه، تريد انتهاز الفرصة، وأخذ الحكم قبل أن يستتب الإسلام بقوته ونظامه، ويقصد بهذا أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة.
ثم قال: ((فوقف أمير المؤمنين بين هذين الخطرين، فكان من الطبيعي له أن يقدم حقه قرباناً لحياة الإسلام، وإيثاراً للصالح العام ... فانقطاع ذلك النزاع، و ارتفاع الخلاف بينه وبين أبي بكر لم يكن إلا فرقاً على بيضة الدين))( (322) المرجعات ص 294 .322).
وينقل عن عمر رضي الله عن أنه قال لابن عباس في كلام دار بينهما: ((إن قريشاً كرهت أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة فتجحفون على الناس))( (323) المرجعات ص 299 .323).(159/332)
وهذه الكذبة مثل الكذبة التي تقول في كتبهم عن الباقر والصادق: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامة ليست له، ومن جحد إماماً من عند الله، ومن زعم أن أبا بكر وعمر لهما نصيب في الإسلام))( (324) انظر الوشيعة ص 21 .324)
أو الكذبة الأخرى في قولهم: ((ولله وراء هذا العالم سبعون ألف عالم في كل عالم سبعون ألف أمّة، كل أمّة أكثر من الجن والإنس، لا هم لهم إلا اللعن على أبي بكر وعمر وعثمان))( (325) المصدر السابق ص 22 .325).
وللشيعة دعاء يسمونه ((دعاء صنمي قريش)) أبي بكر وعمر، ونصّه: ((اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، والعن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وابنتيهما...)) وهذا الدعاء انتظم الخليفة الراشد أبو بكر وعمر وعائشة وحفصة رضوان الله على جميعهم. وقد أشرنا إلى عدائهم للخلفاء في درس الرجعة والمهدية.
وعلى العموم فإن كتبهم مملوءة بالسب والطعن في الصحابة، لا يستثنون إلا خمسة منهم، وقيل سبعة عشر من مجموع ذلك العدد الضخم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
وللطبرسي في كتابه ((فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب)) من الغمز واللمز والأكاذيب على آل البيت ما يدل دلالة واضحة على بعد هؤلاء العتاة عن الدين الإسلامي الحنيف، وجهلهم بحق الصحابة، وأنهم بعيدون عن هدي الإسلام كل البعد، وهكذا فعل الطوسي في كتابه ((الغيبة))، والخميني في كتبه ردد تلك الأفكار، وبالغ في زخرف القول مثل كتابه ((ولاية الفقيه)) وغيره من كتبه ووصاياه.(159/333)
وإذا كنت قد وعيت أيها القارئ الكريم كل ما تقدم، ورأيت مواقف الشيعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجاته وأهل بيته، بل والقرآن الكريم وعامة أهل السنة، ورأيت تلك العداوة الشديدة، وتلك المواقف التي يئن لها قلب كل مسلم ...فإن مما ينبغي أن يطأطأ له الشيعة رؤوسهم خجلاً أن تكون تلك الموقف هي عقيدتهم نحو دين الإسلام وأتباعه وهم يدعون أنهم من أتباعه
وأن يذكر المنصفون من كتّاب الشرق والغرب ما يرفع رأس المسلم فخراً واعتزازاً بدينه وبأسلافه، ومن بيانهم لحقائق الإسلام والخلفاء ودورهم المشرق، ودور الصحابة في إسعاد البشرية بوصول الخير إليهم، ونقلهم بكل أمانة ما سعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف نشروا الإسلام، لا لشيء إلا لإرضاء الله تعالى، وقياماً بواجب الدعوة نحو البشرية جمعاء، مع ما كانوا فيه من الفاقة والزهد والترفع عما في أيدي أهل البلاد المفتوحة، وقيامهم بذلك العدل الذي أدهش أهل كل مكان وطئته أقدامهم الكريمة فدخلوا في دين الله أفواجاً راغبين مغتبطين لهذا الدين، وصاروا فيما بعد ذلك من جنود الإسلام الميامين.
شهادة المنصفين:
والآن اسمع ما يقوله المنصفون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – وهناك عشرات الأمثلة تركتها لئلا يطول البحث، ويمكنك الرجوع إليها بسهولة ويسر ( (326) ارجع إلى كتاب (( الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب القسم الثاني لترى ما يزيدك إيماناً واعتزازاً بدينك .326)
يقول الكاتب الإنجليزي المشهور كاريل في إعجابه بالقرآن الكريم:(159/334)
((إن القرآن كتاب لا ريب فيه، وإن الإحساسات الصادقة الشريفة والنيات الكريمة تظهر لي فضل القرآن، الفضل الذي هو أول وآخر فضل وجد في كتاب نتجت عنه جميع الفضائل على اختلافها، بل هو الكتاب الذي يقال عنه في الختام: (( {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}( (327) سورة المطففين : 26 . 327) لكثرة ما فيه من الفضائل المتعددة))( (328) المصدر السابق ص 132 نقلاً عن كتاب (( الأبطال )) .328).
ويقول الفريد غليوم أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن:
((علينا من المبدأ أن نقرر أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان واحداً من أعلام التاريخ العظماء...إلى أن يقول: إن إخلاص خلفائه لدعوته وإيمانهم بها وفهمهم لها قد جعلهم يعملون على تعميم الدعوة الرحيمة))( (329) المصدر السابق ص 143 .329).
وقالت الدكتورة لورافيتشا فاليري الكاتبة الإيطالية في كتابها ((محاسن الإسلام)):
((أما الخلفاء الذين خلفوا محمداً صلى الله عليه وسلم في حكم الدولة الإسلامية الذين كانوا تراجم ضميره، فقد صاروا على سننه التي سنها لهم، وحملوا راية الإسلام إلى قلب القارة الآسيوية من جهة، وإلى أمواج المحيط الأطلسي من جهة أخرى))( (330) المصدر السابق ص 154 .330).
ويقول الدكتور م.أهنو قنصل اليابان في مصر، معجباً بالقرآن وما فيه من الهدى والخير:
((إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إذا تمسكوا بما جاء في القرآن الكريم من تعاليم فإن هذا يكون سبباً في تقدمهم في نواحي الحياة الاجتماعية والأدبية والدينية والسياسية؛ لأن القرآن قد جمع المدنيات قديمها، وحديثها، وهو كتاب جامع شامل))( (331) المصدر السابق ص 170 .331).
وقال المسيو جوته:(159/335)
((كلما قلَّبنا النظر في القرآن الكريم تملكنا الروعة والوجل، لكننا سرعان ما نشعر نحوه بجاذبية تنتهي بنا حتماً إلى الإكبار، فهو بين الكتب المقدسة نموذج عال رفيع، ولسوف يحيا تأثيره في النفوس في جميع الأجيال والعصور))( (332) المصدر السابق ص 171 .332).
ويقول الأستاذ شيرل عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا في مؤتمر الحقوق عام 1937م:
((إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد صلى الله عليه وسلم إليها، إذ إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة))( (333) المصدر السابق ص 173 .333).
وقال الأستاذ خليل إسكندر قبرصي في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بعده: ((هذا الذي امتدت أيدي خلفائه إلى أقصى حدود أوروبا، فأناروا بحسن عدلهم وأمانتهم، وجميل تقواهم ظلماتها، ومزقوا بنور الفرقان دياجر جهالتها))( (334) المصدر السابق ص 180 .334).
وهناك نصوص كثيرة جداً من هؤلاء الذين يحبون صفة الإنصاف فاقرأها وقارن بين مواقف هؤلاء ومواقف الشيعة لترى الغبن الفاحش للمسلمين بانتساب هؤلاء إليهم، مع بقائهم على تلك الأقوال والمعتقدات التي قدمنا ذكرها عن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته وأهل بيته وعامة المسلمين وكتابهم المقدس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي الكتاب والسنة والإجماع وأقوال أهل البيت وسائر علماء الإسلام ما يغني عن الاستشهاد بكلام غير المسلمين لولا أني أردت إظهار خزي الرافضة.
7- قولهم بالبداء على الله:
البداء: معناه الظهور بعد الخفاء، كما في قوله تعالى:{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}( (335) سورة الزمر : 47 . 335) أي ظهر.(159/336)
ومعناه أيضاً: حدوث رأي جديد لم يكن من قبل، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}( (336) سورة يوسف : 35 . 336) .
وله معان أخرى كلها لا تخرج عن مفهوم تجدد العلم بتجدد الأحداث.
وهذه المعاني تستلزم سبق الجهل وحدوث العلم تبعاً لحدوث المستجدات لقصور العقول عن إدراك المغيبات.
وإذا أطلقت هذه المعاني على الإنسان فلا محذور فيها لتحققها فيه، وأما إذا أطلقت على الله عز وجل فلا شك أنها كفر تخرج صاحبها من الملة، ذلك أن الله تعالى عالم الغيب والشهادة، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما ظهر وما سيظهر على حد سواء، ومحال عليه عز وجل حدوث الجهل بالشيء فتبدو له البداءات فيه.
وهذه العقيدة معلومة من الدين بالضرورة أنها باطلة لدى كافة المسلمين، ولا يتصور اتصاف الله بها إلا من لا معرفة له بربه، واستحوذ عليه الجهل والغباء. فما هو موقف الشيعة من هذه القضية؟.
الواقع أن كل كتب الشيعة تؤكد وجود اعتقاد هذه الفكرة عن الله، بل ووصل بهم الغلو إلى حد أنهم يعتبرونها من لوازم الإيمان، كما سيأتي ذكر النصوص عنهم، إلا أن الأشعري يذكر عنهم أنهم اختلفوا في القول بها إلى ثلاث مقالات:
* فرقة منها يقولون: إن الله تبدو له البداوات، وإنه يريد أن يفعل الشيء في وقت من الأوقات، ثم لا يحدثه بسبب ما يحدث له من البداء، وفسروا النسخ الحاصل في بعض الأحكام على أنه نتيجة لما بدا لله فيها...تعالى الله عن قولهم.
* وفرقة أخرى فرّقوا بين أن يكون الأمر قد اطلع عليه العباد أم لا، فما اطلعوا عليه لا يجوز فيه البداء، وما لم يطلعوا عليه –بل لا يزال في علم الله- فجائز عليه البداء فيه.
* وذهب قسم منهم إلى أنه لا يجوز على الله البداء بأي حال.(159/337)
هذا ما قرره الأشعري( (337) المقالات جـ1 ص 113 .337)، ولكن كما قدمنا فإنه بالرجوع إلى مصادر الشيعة الإمامية الرافضة تجد أنهم متمسكون بهذا المبدأ ويقرون أن الله تبدو عليه البداوات، ويذكرون فيه فضائل من يعتقد على الله البداء أكاذيب كثيرة منكرة دون ذكر خلاف بينهم، وقد يصدق كلام الأشعري على بعض المعتدلين ممن مال إلى التشيع، ولم يغلوا فيه غلو الإمامية.
أدلتهم على القول بالبداء:
تمسك الرافضة بعقيدة البداء تمسكاً شديداً، ولهذا فإن أدلته في كتبهم لا تكاد تحصر.
ومن ذلك ما ذكره الكليني في الكافي، حيث عقد باباً كاملاً في البداء سماه ((باب البداء))، وأتى فيه بروايات كثيرة توضح بجلاء مقدار تعلقهم بعقيدة البداء، منها:
* عن زرارة بن أعين عن أحدهما عليهما السلام قال: ((ما عبد الله بشيء مثل البداء)).
والحقيقة ما عبد الله بشيء مثل التوحيد له عز وجل والانقياد التام، وأما البداء فهو عقيدة يهودية، من قال بها فقد وصف ربه بالنقص والجهل والتخبط في الاعتقاد.
* وفي رواية ابن عمير عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام: ((ما عُظِّم الله بمثل البداء))( (338) الكافي ج 1 ص 111 .338).
* وعن أبي عبد الله أنه قال: ((لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه))( (339) الكافي ج1 ص 115 .339).
وعن مرزام بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ((ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس: بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة))( (340) الكافي ج1 ص 115 .340).
وهذه لا يظهر أنها خمس؛ فالسجود والعبودية والطاعة كلمات تغني كل واحد منها عن الأخرى.
وعن الريّان بن الصلت قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: ((ما بعث الله نبياً إلا بتحريم الخمر، وأن يقر لله بالبداء))( (341) الكافي ج1 ص 115 .341).(159/338)
وهذا غير متيقن فإن شرائع الأنبياء تختلف في الفروع، ولم تتفق دعوة الأنبياء على التأكيد إلا في الدعوة إلى توحيد الله وعبادته.
ومن تمجيدهم لمن يقول بالبداء ما رواه الكليني عن جعفر أنه قال: ((يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة واحدة، عليه سيما الأنبياء، وهيبة الملوك))( (342) المصدر السابق ص 371 ، أبواب التاريخ ؛ مولد النبي صلى الله عليه وسلم .342).
وعن أبي عبد الله قال: ((إن عبد المطلب أول من قال بالبداء، ويبعث يوم القيامة أمة واحدة، عليه بهاء الملوك وسيما الأنبياء))( (343) المصدر السابق ص 371 ، أبواب التاريخ ؛ مولد النبي صلى الله عليه وسلم .343).
والمعروف –حسبما يذكر علماء الفرق- أن أول من قال بالبداء في الإسلام وأظهره هو المختار بن أبي عبيد، وأن عبد المطلب لم يدخل الإسلام.
ويبدو القول بالبداء واضحاً فيما نقل الكليني عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ((يا ثابت، إن الله وقَّت هذا الأمر –أي خروج المهدي- في السبعين، فلما قتل الحسين صلوات الله عليه اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى أربعين ومائة، فحثّناكم فأذعتم الحديث، فكشفتم قناع الستر ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتا عندنا،{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}( (344) سورة الرعد : 39 . 344)
قال أبو حمزة: فحدثت بذلك أبا عبد الله عليه السلام فقال: قد كان ذلك( (345) الكافي ج1 ص 300 .345).
ومفهوم هذا النص أن الله تعالى حينما وقّت خروج المهدي في أربعين ما كان يعلم عن مصير الحسين، فلما قتل الحسين غضب الله تعالى على الناس فأخر خروج المهدي جزاءً لقتله وانتقاماً من الناس.(159/339)
ومعلوم أن نسبة الجهل إلى الله تعالى كفر وردة كما تقدم، فإن الله تعالى قد كتب على الحسين كل ما هو لاقيه قبل أن يخلق السموات والأرض، واشتداد غضب الله تعالى حين قتل الحسين وبتلك الصورة المفاجئة يدل على أنه لم لكن يعلم ذلك، وإلا لاشتد الغضب قبل قتله، ولأخّر ظهور المهدي قبل توقيته في السبعين.
وبعد أن ذكر الطوسيّ جملة من أخبار البداء قال:
((فالوجه في هذه الأخبار أن نقول إن صحت: إنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقّت هذا الأمر في الأوقات التي ذكرت، فلما تجدّد ما تجدّد تغيرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر، وكذلك فيما بعد ويكون الوقت الأول، وكل وقت لا يجوز أن يؤخر مشروطاً بألا يتجدد ما تقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجيء الوقت الذي لا يغيره شيء فيكون محتوماً)) ( (346) كتاب الغيبة ص 263 ، وانظر فرق الشيعة للنوبختي ص 85 في نقله كلام سليمان بن جرير الشيعي في ذمه القول بالبداء وأنه حيلة من حيل الروافض346).
وهذا هو إثبات الجهل بعينه لتوقف الأمور على ظهور المستجدات والمصلحة فيها.
أول من قال بالبداء على الله تعالى:
يبدو أن أول ادعى البداء على الله تعالى هم اليهود، قالوا: إن الله تعالى خلق الخلق، ولم يكن يعلم هل يكون فيهم خير أو شر، وهل تكون أفعالهم حسنة أم قبيحة، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح السادس من التوراة ما نصه:
((ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه جداً فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته لأني حزنت أني عملتهم))( (347) الكتاب المقدس ، الإصحاح السادس ، سفر التكوين .347).
وهذا النص وأمثاله يفيد صراحة أن الله قد بدت له أمور لم يكن يعلمها، فحزن حزناً شديداً حين رأى معاصي البشر.(159/340)
فالبداء عقيدة يهودية مدوّنة في كتبهم المحرفة، ونفس هذه الأفكار مدونة عند الشيعة، فالكليني –كما رأينا فيما سبق- يروي عن الأئمة فضائل كثيرة لاعتقاد هذا الكفر، حتى وإن ذكر بعض الروايات التي تفيد عدم حصول جهل الله بالأمور قبل ظهورها لكنها لم تكن صريحة مثل النصوص الأخرى التي سبق ذكرها عنهم.
ويذكر الكثير من العلماء أن أشد من تزعم القول بالبداء في الإسلام هو المختار بن أبي عيبد الثقفي تغطية لكذبه، قال البغدادي مبيناً سبب ادعاء المختار القول بالبداء على الله تعالى:
((وأما سبب قوله بجواز البداء على الله عز وجل فهو أن إبراهيم بن الأشتر لما بلغه أن المختار قد تكهّن وادعى نزول الوحي عليه قعد عن نصرته واستولى لنفسه على بلاد الجزيرة، وعلم مصعب بن الزبير أن إبراهيم بن الأشتر لا ينصر المختار فطمع عند ذلك في قهر المختار، ولحق به عبيد الله بن الحر الجعفي ومحمد بن الأشعث الكندي وأكثر سادات الكوفة غيظاً منهم على المختار لاستيلائه على أموالهم وعبيدهم، وأطمعوا مصعباً في أخذ الكوفة قهراً.
فخرج مصعب من البصرة في سبعة آلاف رجل من عنده سوى من انضم إليه من سادات الكوفة، وجعل على مقدمته المهلّب بن أبي صفرة مع أتباعه من الأزد، وجعل أعنة الخيل إلى عبيد الله بن معمّر التيمي، وجعل الأحنف ابن قيس على خيل تميم...
فلما انتهى خبرهم إلى المختار أخرج صاحبه أحمد بن شميط إلى قتل مصعب في ثلاثة آلاف رجل من نخبة عسكره، وأخبرهم بأن الظفر يكون لهم، وزعم أن الوحي قد نزل عليه بذلك، فالتقى الجيشان بالمدائن، وانهزم أصحاب المختار وقتل أميرهم ابن شميط وأكثر قوّاد المختار، ورجع فلولهم إلى المختار وقالوا له: ألم تعدنا بالنصر على عدونا وقد انهزمنا؟(159/341)
فقال: إن الله تعالى كان قد وعدني بذلك، لكنه بدا له، واستدل على ذلك بقوله عزّ وجلّ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}( (348) الرعد:39348). فهذا كان سبب قول الكيسانية بالبداء))( (349) الفرق بين الفرق ص 50 – 52 .349).
ويقول الشهرستاني في تقريره لهذه القضية: ((وإنما ضار المختار إلى اختيار القول بالبداء لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله دليلاً على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدا لربكم. وكان لا يفرق بين النسخ والبداء. قال: إذا جاز النسخ في الأحكام جاز البداء في الأخبار)) ( (350) الملل والنحل ج1 ص 149 .350).
ومعلوم عند كافة أهل العلم أن النسخ ليس معناه البداء على الله تعالى، وإنما النسخ رحمة من الله تعالى وتدرّج في الأحكام.
ولكن الشيعة أيضاً هم على هذا الرأي، وهو عدم التفريق بين النسخ والبداء، وفي هذا يقول الطوسي.
((وعلى هذا يتأول أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمنة للبداء ويبيّن أن معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل فيما يجوز فيه النسخ، أو تغير شروطها إن كان طريقها الخبر عن الكائنات ( (351) كتاب الغيبة ص 264 .351).
وعلى كل حال فإنه ما من مسلم سليم الفطرة، لم تدنس فطرته بشبهات المبطلين وأقوايل الضالين إلا وهو يعتقد أن الله تعالى لا يلحقه نقص في علمه المحيط بكل شيء، وأن ادّعاء البداء على الله معناه نسبة الجهل إليه جل وعلا، وهذا كفر صريح.
ولقد أصبح الشيعة باعتقادهم هذا –كما يقول العلماء- ((عاراً على بني آدم وضحكة يسخر منهم كل عاقل بسبب ما اعتقدوه من مثل هذه الضلالات))( (352) انظر : كتاب (( صبّ العذاب على من سّب الأصحاب )) ضمن رسالة علمية تحقيق ابن أبي شعيب ، وانظر مختصر منهاج السنة 1/ 173 . 352) .(159/342)
وبالرجوع إلى القرآن الكريم وإلى السنة النبوية وإلى أقوال أهل العلم، وإلى فطرة كل شخص نجد أن كل ذلك يضحد ما ذهب إليه علماء الشيعة ويبطل القول بالبداء، وأن الذين يطلقون ذلك على الله ما عرفوه وما قدروه حق قدره...ففي القرآن الكريم آيات تكذب كل زعم يقول بالبداء على الله عز وجل، ومن ذلك:
1- قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ( (353) الأنعام : 59353)
2- قوله تعالى: { يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى}( (354) طه : 52354).
3- قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ }( (355) الحشر : 22355).
وفي السنة أحاديث كثيرة تدل على ما دلت عليه تلك الآيات، ومعلوم أن هذه الفكرة لم ترد على أذهان السلف الأوائل؛ بل إنهم كانوا يعتبرونها من وساوس الشيطان ويستعيذون بالله منها، فإن الله قد أحاط بكل شيء علماً، والله لم يثبتها لنفسه والأنبياء لم يقرّوا لله بها –كما زعم الشيعة- وإنما أقر بها اليهود، وروجها عبد الله بن سبأ في الإسلام. وجدّدها المختار، وتلقفها عنهم الحاقدون على الإسلام الذين يطمعون في التلاعب بمفاهيم المسلمين وتشويه معتقداتهم، وليكون ذلك أيضاً غطاءً لما يريدونه من مخططات لهدم الإسلام.
ومما لا يتطرق إليه الشك أن الشيعة –وهم يستحلون الكذب على الله وعلى الناس- أنهم هم الذين اخترعوا تلك النصوص ونسبوها إلى بعض العلماء الأجلاء من آل البيت لتكتسب بذلك وجهاً عند عوام المسلمين فيتقبلوها، ليتم لأولئك ما أرادوه من نيات سيئة بيّتوها للإسلام والمسلمين.
* * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثامن
الشيعة في العصر الحاضر وهل تغير خلفهم عن سلفهم؟(159/343)
لقد تعمد علماء الشيعة مغالطات الناس قديماً وحديثاً في إبداء نظرتهم إلى المخالفين لهم من سائر الناس ومن أهل السنة –بخصوصهم- متخذين من التقية منفذاً لكل ما يريدونه من قول أو فعل، كما أنها تظهر بين آونة وأخرى كتابات لهم تبدي في الظاهر تقاربهم من أهل السنة، فانخدع الكثير بتلك الدعايات ولكن تبين أن الشيعة سلفاً وخلفاً لم يتغير موقفهم قيد أنملة.
وتبين لأهل السنة ولكل مخلص أنه لم تُجدِ جميع المحاولات التي قاموا بها في دعوة الشيعة إلى التقارب، ذلك أن الشيعة قد قام دينهم من أول يوم على أساس التقية والكذب، كما تُصّرح بذلك كتبهم الموثوقة لديهم مثل الكافي الذي هو بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة.
فهو مملوء بما لا يمكن أن يحصل بين الشيعة والسنة اتفاق ما داموا يعتبرونه مصدراً لهم، ويؤمنون بصحة ما فيه من الكفر والشرك ورفع الأئمة إلى مرتبة الألوهية في أبواب كثيرة منه يصرح فيها بأنه لا حق إلا ما أخذ عن الأئمة الذين يعلمون الغيب ويحق لهم التشريع كما يريدون.
وهذا الغلو بعيد جداً عن تعاليم الإسلام إضافة إلى ما جاء فيه من البشارة لليهود بعودة الحكم والتمكين لهم في الأرض حينما يظهر أمر الأئمة، كما في باب ((أن الأئمة إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يُسألون البينة)).
قال: ويروى عن عمار الساباطي قوله لأبي عبد الله جعفر بم تحكمون إذا حكمتم؟ قال: بحكم الله وحكم داود.
كذلك موقف الغلاة منهم من القرآن الكريم واعتقادهم أن فيه نقصاً وتحريفاً، وكذلك موقفهم من الصحابة وما حكموا به عليهم من الكفر والردة وسبابهم الشنيع لهم، كل ذلك وغيره من عقائدهم الأخرى يجعل مانعاً قوياً بينهم وبين أهل السنة، وأقرب مثال على ذلك دار التقريب التي فتحت مؤخراً بين السنة والشيعة في القاهرة منذ زمن، واستمرت المحاولات على قدم وساق من جانب واحد وهو جانب أهل السنة.(159/344)
وحينما تبين لأهل السنة أن هذه المحاولات لم تُجْدِ شيئاً أصيبوا بخيبة أمل، وزاد الأمر وضوحاً لدى أهل السنة أن الشيعة لم يرضوا أن تفتح دور مماثلة للتقارب في النجف وقم وغيرهما من مراكز الشيعة لأنهم إنما يريدون من التقريب أن يتم بجذب أهل السنة إليهم وإلى غلوهم في التشيع فقط كما سبق ذكره.
ولقد حذر كبار علماء الإسلام منذ القدم من هؤلاء الشيعة، فقال الشافعي: ((ما رأيت في أهل الأهواء قوماً أشهد بالزور من الرافضة))( (356) اختصار علوم الحديث لابن كثير ص 109 نقلاً عن الشيعة في الميزان ص 116 .356).
وقال شريك بن عبد الله القاضي: ((أحمل عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً))( (357) منهاج السنة ج1 ص 13 نقلاً عن الشيعة في الميزان ص 116 .357).
وبمثل هذا الكلام قال الإمام مالك وابن المبارك وأبو زرعة وغيرهم والرازي والطحاوي والإمام أبو حنيفة وابن تيمية وابن القيم وغيرهم.
كما ردّ عليهم علماء معاصرون، وبينوا كفر الشيعة وعنادهم وكرههم لمن عداهم من المسلمين. كما حذر هؤلاء من الانخداع بهم، فارجع أيها المسلم إلى ما قاله عنهم هؤلاء الأفاضل، وانظر ما قاله الألوسي ومحب الدين الخطيب وبهجت البيطار ومحمد رشيد رضا والهلالي ومصطفى السباعي والمودودي وابن باز والشيخ الأمين، غيرهم من العلماء الذين عرفوا حقيقة الشيعة ويئسوا من التقارب معهم.
وقد وجدت الآن كتب تبين حقيقة الشيعة في هذا العصر الذي يقودهم فيه الخميني، وتبين أهداف الخميني ونواياه بالمسلمين من أهل السنة، ولعله يريد أن يعيد ما فعله ابن العلقمي سنة (656) ببغداد بالخلافة الإسلامية من تشجيعه للتتار على التنكيل بالمسلمين وغير ذلك من الأحداث التي تشهد بمواقف الشيعة وخيانتهم.(159/345)
ومما هو جدير بالتنبيه إليه أنه حينما اشتد الخلاف بين السنة والشيعة وأقلق ذلك الملك نادر شاه سنة (1156هـ) أمر بعقد مؤتمر في النجف يوم 26/10/1156هـ حضره علماء السنة والشيعة من العراق وإيران والتركستان والأفغان لبحث هذه الأمور التي فرقت بين المسلمين حيث كفّر بعضهم بعضاً ...الأفغان والتركستان يكفرون الإيرانيين لأنهم يسبون الشيخين، ويكفرون الصحابة ويقولون بحل المتعة، ويفضلون علياً على أبي بكر.
وبعد أن تم الاجتماع وحضرت جموع كثيرة من كلا الجانبين وبحثوا في تلك القضايا التي سجلها أهل السنة على الشيعة اتفق رأيهم على ما تنص عليه الوثيقة التالية:
((إن الله اقتضت حكمته إرسال الرسل، فلم يزل يرسل رسولا بعد رسول حتى جاءت نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولما توفي وكان خاتم الأنبياء والمرسلين –اتفقت الأصحاب رضي الله عنهم على أفضلهم وأخيرهم وأعلمهم أبي بكر الصديق ابن أبي قحافة رضي الله عنه، فأجمعوا واتفقوا على بيعته كلهم حتى الإمام علي بن أبي طالب بطوعه واختياره من غير جبر أو إكراه فتمت له البيعة والخلافة .
وإجماع الصحابة رضي الله عنهم حجة قطعية، وقد مدحهم الله في كتابه المجيد فقال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ }( (358) التوبة : 100358) وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ }( (359) الفتح : 18359).
وكانوا إذ ذاك سبعمائة صحابي، وكلهم حضروا بيعة الصديق، ثم عهد أبو بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب فبايعه الصحابة كلهم حتى الإمام علي ابن أبي طالب، ثم اتفق رأيهم على عثمان بن عفان، ثم استشهد عثمان في الدار ولم يعهد فبقيت الخلافة شاغرة، فاجتمع الصحابة في ذلك العصر على علي بن أبي طالب.(159/346)
وكان هؤلاء الأربعة في مكان واحد، وفي عصر واحد، ولم يقع بينهم تشاجر ولا تخاصم ولا نزاع، بل كان كل منهم يحب الآخر ويمدحه ويثني عليه، حتى إن علياً رضي الله عنه سئل عن الشيخين فقال: هما إمامان عدلان قاسطان، كانا على حق وماتا على حق، فاعلموا أيها الإيرانيون أن فضلهم وخلفتهم على هذا الترتيب، فمن سبّهم وانتقصهم فماله وولده وعياله ودمه حلال للشاة، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وقد سجلت وقائع هذا المؤتمر ومناقشاته والملابسات التي صحبته في رسالة صغيرة بعنوان ((مؤتمر النجف))( (360) مؤتمر النجف مع الخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب ص 91 – 92 .360) وقد ضمت تلك الرسالة تفصيلات أخرى فيما دار من حوار بين الإيرانيين وعلماء الأفغان لا نرى ضرورة لتسجيلها هنا، بل اقتصرنا على ذكر الخلاصة التي انتهى إليها المؤتمر، والتي تعتبر بمثابة توصية عامة يلتزم بها الجميع من أهل السنة والشيعة، وفيها –كما ترى- النص على ترك كل ما يثير الخلاف والفرقة بين المسلمين.
ولو التزم الشيعة بعد ذلك بهذه الوثيقة لاجتمع أمر المسلمين على كلمة سواء، ولكن الشيعة لم يلتزموا بهذا الاتفاق بل كانوا يراوغون ويخادعون.
وشيعة اليوم لا يختلفون عن شيعة الأمس في المراوغة والكيد، وفي الغلو أيضاً، فهذا الخميني زعيم ثورتهم في إيران يصرح بتعصبه الشديد وخروجه عن الحق في الأئمة، ورفعهم فوق مكانتهم البشرية فهو يقول:
((إنهم عليهم السلام يختلفون عن سائر الناس اختلافاً في قدم الخلق وفي الوجود، ولهم مع الرب تعالى مرتبة لا يدانيها ملك مقرب ولا نبي مرسل))( (361) ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية للخميني ص 61 .361).
ولهم نشاط في استجلاب الناس إليهم حتى انخدع كثير من أهل السنة بهم وصاروا شيعة، ووصل عددهم كما زعم الخميني (200) مائتي مليون شيعي( (362) انظر كتاب ولاية الفقيه ص 137 .362).(159/347)
وإرضاؤهم لعلماء السنة بالكلمات الجميلة إنما هو من باب التقية حتى يتمكنوا من إتمام مخططاتهم في إقامة دولة شيعية عالمية.
وفي هذا يقول الخميني: ((لا تبعدوا الناس عنكم الواحد تلو الآخر، لا تكيلوا التهم لهم بالوهابية تارة وبالكفر أخرى، فمن يبقى حولكم إذا عمدتم إلى ممارسة هذا الأسلوب))( (363) سراب في إيران ص 39 نقلاً عن الخميني في أقواله وأفعاله لأحمد مغنية ص 167 .363).
وهو بهذه النصيحة إنما يريد أن يحثهم على معرفة طريق الخداع والنفاق، وإلا فإن قلبه –كما تشهد بذلك كتبه- يغلي حقداً على أهل الحق ابتداءاً بأبي بكر وانتهاءً بالموجودين في عصره.
ولهذا فقد أمر الخميني الحجاج الإيرانيين بأن يصلوا مع أهل السنة تقية منهم وخداعاً للناس، كما كان يفعل قادة الشيعة حينما كانوا يصلون خلف أهل السنة أحياناً ثم يعيدون صلاتهم بعد ذلك، كما صرح بهذا أحد علماء الشيعة المعاصرين حين قال الدكتور موسى الموسوي:
((وعندما أكتب هذه السطور هناك آلاف مؤلفة من الشيعة الإمامية يعملون بالتقية في أعمالهم الشرعية، فهم يحملون معهم التربة الحسينية التي يسجدون عليها في مساجدهم، ولكنهم يخفونها في مساجد الفرق الإسلامية الأخرى، وكثير منهم يقيمون الصلوات في مساجد السنة مقتدياً بإمام المسجد وإذا عادوا إلى بيوتهم أعادوا الصلاة عملاً بالتقية معتمدين على روايات نسبت إلى أئمة الشيعة في التقية))( (364) الشيعة والتصحيح ص 58 .364).(159/348)
ولقد بلغ الحقد الشيعي على المسلمين – وخصوصاً أهل السنة - في عصرنا الحاضر إلى حد الاستهتار بدماء المسلمين وأعراضهم، وتهديد أمنهم في بيوتهم ولعل ما فعلوه في مكة المكرمة في حج عام 1407هـ أقوى شاهد على مدى حقدهم، ونظرتهم إلى المخالفين لهم، حينما تظاهروا في الحج ما يقارب مائة وخمسين ألفاً، وهجموا يريدون الكعبة، وتجمعوا في مظاهرات غوغائية، وكانوا يهدفون إلى تحقيق مخطط رهيب رافعين شعاراتهم وصور زعيمهم الخميني، وتقدموا رجالاً ونساءً يريدون الحرم، لولا أن الله تعالى وبفضله ثم يقظة الحكومة السعودية لنجح مخطط أولئك.
وحيل بينهم وبين دخول الحرم، واشتبكوا مع المسلمين من المواطنين والجنود وبقية الحجاج من المسلمين في قتال ضار، أريقت فيه دماء المسلمين الأبرياء، وراح زعماؤهم يلقون التهديدات بشتى الأساليب للكرة مرة أخرى، وسيردّ الله كيدهم إلى نحورهم:{ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ }( (365) المائدة : 64365).
وقد حدث بالفعل أيضاً أن أوعزوا إلى بعض عملائهم في حج عام 1409هـ بزرع متفجرات حول الحرم المكي الشريف في يوم 7 ذي الحجة، وقام هؤلاء بهذه الجريمة النكراء وراح ضحيتها حجاج أبرياء جاؤوا لأداء فريضة الحج، ثم اندس أولئك العملاء في الناس، وظنوا أنهم نفذوا جريمتهم، وشفوا حقد صدورهم.
ولكن الله أطلع الحكومة السعودية بتوفيقه فنالوا جزاءهم في الدنيا بتنفيذ حكم الله في المحاربين، وقتلوا وسجن بعضهم..مع أن الحج نفسه لم يكن هدف الحجاج الإيرانيين، بل الهدف زيارة مرقد الرسول صلى الله عليه وسلم ومراقد الأولياء كما صرحوا بهذا في منشور المظاهرة التي نظموها عام 1406هـ جاء فيه:(159/349)
((فإننا نحن حجاج بيت الله القادمون من كل فج عميق لزيارة مرقد خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الصالحين والصلاة في مسجد الرسول، خرجنا اليوم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة ...إلخ في25/11/1406هـ.
ولا ينبغي كذلك أن ننسى ما يفعلونه اليوم والحرب تدور رحاها في لبنان ليلاً ونهاراً كيف تعامل أحزابهم الكثيرة المسلمين من أهل السنة بخصوصهم بكل قسوة وعنف وكيف تفننوا في التنكيل لهم كما تفعل اليهود أو أشد –كما يروي البعض- مع تظاهرهم بالإسلام وهم والنصيريون يد واحدة ذئاب شرسة على الإسلام والمسلمين.
وهم على وتيرة واحدة سلفهم وخلفهم من أشد أعداء أهل السنة ومن أكثرهم تآمراً عليهم، ولقد كان المسلمون يُذبحون في بغداد ويحرقون بالألوف أمام ابن العلقمي والنصير الطوسي وهما يدلان التتار على عورات المسلمين، وعلى كتبهم وعلى أماكن اختبائهم، وكانا يظهران الفرح والشماتة بالمسلمين، ثم تلت ذلك أحداث لا حصر لها كان هؤلاء الشيعة أنكى الناس والملل كلها بالمسلمين.
ولا غرابة في هذا منهم ماداموا قد أبغضوا خيرة أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولعنوهم في كل صباح ومساء ورووا في مثالبهم ما لا يفعله الوثنيون، ويتنزه عنه الإباحيون، ويكفي أنهم حكموا عليهم بأنهم ارتدوا عن دين الإسلام، وأخفوا كثيراً من القرآن، وقذفوا أم المؤمنين.
وفي عصرنا الحاضر من الأمثلة ما لا يكاد يحصر، ويكفي أنهم يسمون أهل السنة والجماعة ((النواصب)) ثم يكيلون لهم اللعنات وأشد الافتراءات، بل ويفضلون الكلاب عليهم ويعتبرونهم من المغضوب عليهم عند الله، ولم يعترفوا لهم بأقل الصفات البشرية.
يقول الخميني في حكمه على أهل السنة الذين يسميهم نواصب: ((وأما النواصب والخوارج –لعنهم الله تعالى- فهما نجسان من غير توقف))( (366) تحرير الوسيلة ج1 ص 118 القول في النجاسات المسألة العاشرة .366).(159/350)
ويقول في مساواة المسلمين بغير المسلمين في التذكية بالكلب المعلَّم.
((الثاني: أن يكون المرسلِ مسلماً أو بحكمه، كالصبي الملحق به بشرط كونه مميزاً، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه، أو من كان بحكمه كالنواصب لعنهم الله لم يحل أكل ما قتله))( (367) المصدر السابق ج2 ص 136 .367)
بل ويرى عدم جواز الصلاة على ميت أهل السنة الذين يسميهم زورا بالنواصب فقال:
((يجب الصلاة على كل مسلم وإن كان مخالفاً للحق على الأصح، ولا يجوز على الكافر بأقسامه حتى المرتد، ومن حكم بكفره ممن انتحل الإسلام كالنواصب والخوراج))( (368) المصدر السابق ج1 ص 79 .368).
ثم أدركه عرق السوء الذي جعل أسلافه يعتقدون بأن في القرآن تحريفاً وزيادة ونقصاً فهو يقرر ما يلي:
((مسألة: سورة الفيل والإيلاف سورة واحدة، وكذلك الضحى وألم نشرح فلا تجزئ واحدة منها، بل لابد من الجمع مرتباً مع البسملة الواقعة في البين))( (369) المصدر السابق ج2 ص 165.369) أي أنه لم يكن على اقتناع من وضع القرآن وترتيبه.
* * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل التاسع
الحكم على الشيعة
يسأل كثير من الدارسين عن حكم الشيعة ...هل هم كفار خارجون عن الملة، أم هم في عداد الفرق الإسلامية؟
وبغض النظر عن اختلاف وجهات نظر العلماء في الحكم عليهم، وبغض النظر أيضاً عما يورده كل فريق من أدلة على ما يذهب إليه فإن الواقع يدل على أن الحكم على الشيعة أو غيرهم من الفرق بحكم واحد يحتاج إلى تفصيل
فأما بالنسبة للشيعة بخصوصهم الذي اتضح لي:
1- أن الشيعة ليسوا جميعاً على مبدأ واحد في غير دعوى التشيع، فمنهم الغلاة الخارجون عن الملة بدون شك، ومنهم من يصدق عليهم أنهم مبتدعون متفاوتون في ابتداعهم، فبعضهم أقرب من البعض الآخر.
2- أن التثبت في تكفير المعين أمر لا بد منه، إذ ليس كل من انتسب إلى طائفة خارجة عن مذهب السلف في بعض القضايا يحق تكفيره.(159/351)
3- ليس معنى التثبت في تكفير المعين أننا لا نطلق على الطائفة الخارجة عن الحق ألفاظ التبديع والتضليل والخروج عن الجماعة، لأن ذلك الحكم خاص بتعيين الأفراد لا الجماعة عموماً، خصوصاً من وجدنا نصاً فيهم.
وعلى هذا فالحكم العام على الشيعة أنهم ضلال فساق خارجون عن الحق، وهالكون مع الفرق التي أخبرت عنها الأحاديث – حكم لا غبار عليه.
4- اتضح أن الشيعة عندهم مبادئ ثابتة في كتبهم المعتمدة، قررها رجالاتهم المعتبرون قدوة في مذاهبهم، من قال – ولو ببعض من تلك المبادئ - فلا شك في خروجه عن الملة الإسلامية، ومنها:
أ- قولهم بتحريف القرآن وأنه وقع فيه الزيادة والنقص حين جمعه أفاضل الصحابة رضوان الله عليهم، كما صرح بذلك الطبرسي في كتاب ((فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب))، وغيره من كتب الشيعة، وانتظارهم أيضاً مصحف فاطمة كما يزعمون.
ب- غلوهم في أئمتهم وتفضيلهم على سائر الأنبياء كما ملئت بذلك كتبهم القديمة، والحديثة، الكافي وما كتبه الخميني في العصر الحديث.
ج - غلوهم في بُغض الصحابة ممن شهد الله لهم بالفوز والنجاة، كأبي بكر وعمر وعثمان وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحفصة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وردهم شهادة أم المؤمنين رضي الله عنها، وبقاؤهم على عداوتها وإفكهم عليها، واعتبارها عدوة وليست بأم، وهذا حق، فإنها ليست لمثل هؤلاء بأم، فهي أم المؤمنين فقط.
د- قولهم بالبداء على الله تعالى، وقد تنزه الله عن ذلك.
ومواقف أخرى يصل خلافهم فيها إلى سلب العقيدة الإسلامية من جذورها في كل قلب تشبع بها.
وأما من لم يقل بتلك المبادئ، وكان له اعتقادات أخرى لا تخرجه عن الدين، فإنه تقام عليه الحجة ثم يحكم عليه بعد ذلك حسب قبوله الحق أو ردّه له.
* * * * * * * * * * * * * * * **
من مراجع فرقة الشيعة
كتاب الكافي: للكليني.
فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب: للطبرسي.
تحرير الوسيلة: للخميني.(159/352)
كتاب الغيبة: للطوسي.
ولاية الفقيه: للخميني.
الشعائر الحسينية: للشيرازي.
فرق الشيعة: للنوبختي.
مختصر التحفة الاثني عشرية ...للآلوسي.
الفقه الجعفري وأصوله: للسالوس.
الرد على الرافضة: للمقدسي.
المراجعات: للعاملي مع الرد عليها للزعبي.
وجاء دور المجوس: للغريب.
أمل والمخيمات الفلسطينية: للغريب.
الخميني بين التطرف والاعتدال: للغريب.
أبرهة الجديد: لقنديل.
سراب في إيران: للأفغاني.
الثورة البائسة: للموسوي.
الشيعة في الميزان: للنجرامي.
الشيعة وتحريف القرآن: لمحمد مال الله.
الشيعة والتصحيح: للموسوي.
عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام: لسليمان حمد العودة.
عبد الله بن سبأ حقيقة لا خيال: لسعدي الهاشمي.
السبئيون منهجاً وغاية: د.حمدي عبد العال.
إحسان إلهي ظهير في كتبه:
الشيعة والسنة.
الشيعة وأهل البيت.
الشيعة والقرآن.
الشيعة والتشيع.
والحمد لله رب العالمين.
* * * * * * * ** * * * **(159/353)
فرق معاصرة
تنتسب إلى الإسلام
وبيان موقف الإسلام منها
تأليف
د. غالب بن علي عواجي
عضو هئية التدريس بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
الجزء الثاني
http://www.saaid.net
الباب الخامس
الباطنية
الفصل الأول
تمهيد في بيان خطر هذه الطائفة
مذهب الباطنية من أخبث وأردأ المذاهب، وأهله من عتاة الشر وأفسد المخلوقات، وهم أعدى أعداء المسلمين قديماً وحديثاً، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى بعض عقائدهم نحو المسلمين، فذكر أن لهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة، فإذا كانت لهم مكنة يسفكون دماء المسلمين، وإن عجزوا لجئوا إلى الخطط والمؤامرات السرية ضدهم، وحينما استولوا على البحرين وصارت لهم فيه دولة عاثوا فساداً.
وكذلك حينما تمكنوا من الوصول إلى مكة والناس في الحج قتلوا الحجيج، بل حصدوهم كما تحصد الحشائش، وألقوا بجثثهم في بئر زمزم، وبعضهم دفنوهم في صحن المسجد، وبعضهم تركوهم جثثاً منثورة، ثم اقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم، وقتلوا من علماء المسلمين ومشائخهم وأمرائهم وجندهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى.
وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فقد كانوا في أيام الحروب الصليبية أعظم أعوان النصارى، فلم يستول الصليبيون على السواحل الشامية إلا من جهتهم، وما دخل التتار بلاد المسلمين إلا بمعونتهم، فلقد كان النصير الطوسي أبرز عيونهم، ولقد كان الخليفة مغتراً به.
وما أن دخل التتار بغداد حتى حرضهم النصير الطوسي على قتل الخليفة وعشرات الألوف من المسلمين، وهدم عليهم دورهم، وقتل النساء والأطفال، وسبى من أراد سبيه من نسائهم وفضحهن، وأغرق كثيراً من كتب المسلمين في نهر دجلة حتى تغير ماء النهر.
وأعظم أعيادهم هو اليوم الذي يصيب المسلمين فيه بلاء وكرب، كيوم استيلاء الصليبيين على سواحل الشام، وكيوم استيلاء التتار على بغداد.
كما كانت أعظم مصائبهم يوم أن نصر الله المسلمين على التتار والصليبيين والعبيديين.(160/1)
وقد أوجز البغدادي عداوة الفرق الباطنية للإسلام والمسلمين في كلامه الآتي فقال:
((اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل وأعظم من الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان، لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال من وقت ظهوره، لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها عن أربعين يوماً وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر))( (1) الفرق بين الفرق ص 382 .1).
والسبب أن من ذكرهم البغدادي خطرهم ظاهر وعداوتهم معروفة والناس يحذرونهم بطبيعة الحال، ولكن الضرر الشديد يأتي ممن يتظاهر بالإسلام فيغتر به المسلمون، فيطعنهم من خلفهم كما هو حال الباطنية في مختلف عصورهم، وقلما تجد كاتباً من علماء المسلمين من المؤرخين وعلماء الفرق إلا وهو يذكر من أفعال هؤلاء بالمسلمين ما تقشعر له الجلود.
وقد وصف ابن كثير رحمه الله عداوتهم ووقيعتهم بالمسلمين حينما قادهم أبو طاهر الجنابي ووصلوا إلى مكة، والناس في الحج آمنون مطمئنون...قال عن ذلك:
((فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام، في الشهر الحرام، في يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام وهو يقول: ((أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا)). فكان الناس يفروّن منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون وهم في الطواف...))) إلى أن قال:(160/2)
((فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم وفي المسجد الحرام. وهدم قبّة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها وشققها بين أصحابه...))( (2) البداية والنهاية ج11 ص 160 .2) الخ ما ذكره عن جرم هؤلاء، وقد حدد بعض العلماء عدد من قتل بثلاثة عشرة ألف نسمة ( (3) كشف أسرار الباطنية ص 39 .3) .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أشد المحذرين من الباطنية لمعرفته الواسعة بمذاهبهم، وقد أجاب من سأله عنهم بجواب طويل جاء فيه:
((هؤلاء القوم المسمَّونْ بالنصيرية( (4) ستأتي دراسة النصرية .4) هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسلوله ولا بكتابه ولا بأمر ولا بنهي ولا بثواب ولا بعقاب ولا بجنة ولا بنار...)).
إلى أن قال: ((فإن كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم...)) إلى أن قال: ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار.
ومن أعظم أعيادهم إذا استولى –والعياذ بالله- النصارى على ثغور الإسلام.
ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعونتهم ومؤازرتهم، فإن منجم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو النصير الطوسي، كان وزيراً لهم بالموث، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء))( (5) مجموع الفتاوى ج35 ص 149 – 152 .5).(160/3)
وفي كتب الباطنية من المدح والتمجيد لهذا المجرم ما لا يستحقه. يقول مصطفى غالب عنه:
((حتى أخضع هولاكو خان قلعتي ((آلموت))، ((ميمون دز)) فعثر على هذا الفيلسوف الكبير في مرصد القلعة، فاقتاده الجند إلى هولاكو خان، ولما مثل بين يديه أكرمه وطلب منه أن يلتحق بخدمته كوزير له، فرفض في بادئ الأمر إلا إذا أمن على أرواح وممتلكات الإسماعيلية، فوعده خيراً شريطة أن يرافقه في حملته على بغداد، وهكذا انتقل هذا الفيلسوف العظيم إلى خدمة هولاكو خان بعد أن أخذ منه العهد على المحافظة على الإسماعيلية)).
ثم قال عن إشارته على هولاكو بقتل خليفة المسلمين:
((وبعد أن تم لهولاكو احتلال بغداد أشار عليه بأن يقتل آخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله)).
ثم قال عن سرقته كتب المسلمين، ونهب ما شاء منها:
((واغتنم فرصة وجوده في بغداد، فجمع كل ما تمكن من جمعه من الكتب النادرة، وقيل: إن مكتبته أصبحت بعد فتح بغداد- انظر كيف يسمي تلك الفاجعة فتحاً –تضم أكثر من أربعمائة ألف مجلد))( (6) انظر أعلام الإسماعيلية ص 587 – 588 .6).
ولقد ظل هؤلاء على عداوتهم للمسلمين، ورغم تشتت النصيرية قديماً لكنهم ظلوا يعملون في الخفاء بنشاط، إلى أن استطاعوا الوصول إلى الحكم في سوريا في هذا العصر على حين غفلة من المسلمين، فما كان لهم همّ مثل همِّهم القضاء على المسلمين أهل السنة في سوريا وفي غيرها، وأفعالهم اليوم تعيد إلى الأذهان فعل أسلافهم قديماً.
ولهم في الحروب التي جرت بين العرب واليهود في سنة 1967م تعاون ظاهر وخفي، إذ مكنوا- كما قال المطلعون على أخبارهم اليهود من احتلال أجزاء كبيرة من سوريا –هضبة الجولان والقنيطرة- ومن الأردن ومن لبنان لقاء اتفاقيات سرية ومصالح مشتركة( (7) اقرأ كتاب سقوط هضبة الجولان .7).(160/4)
ومن المؤسف أن تجد الكثير من أهل الكتب من أهل السنة قد انخدع بنفاق هؤلاء الباطنية، فصادقوهم وأمدوهم بالأموال متناسين ما تنطوي عليه نيات هؤلاء، ظانين أن تغير الأسماء قد أخرجهم عن ديانتهم وحقدهم على المسلمين.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
متى ظهر مذهب الباطنية
اختلفت كلمة العلماء حول تحديد ظهور هذا المبدأ الهدام- على نحو ما قدمنا في بيان بدء- ظهور الفرق- وقد ذهب بعض العلماء إلى التحديد بالزمن، فذكر أن الباطنية ظهر مذهبهم في سنة 205هـ وقال آخرون: في سنة 250هـ، وبعض العلماء يقول: مائتين وكسر.
وذكر أصحاب التواريخ أن دعوة الباطنية ظهرت في زمن المأمون وانتشرت في عهد المعتصم، ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين بحرّان، ويذكر البغدادي أنهم دهرية زنادقة.
ويقول الديلمي في بيانه لنشأتهم:
((اعلم أن ابتداء وضع مذهب الباطنية – سلط الله عليهم طوفان نوح- وريح عاد وحجارة لوط، وصاعقة ثمود –كان في سنة خمسين ومائتين من الهجرة))( (8) بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 3 .8).
وقال عندما شرع في تفصيل مذهبهم:
((اعلم أن مذهب الفرقة الغويّة الضالة الشقية المسماة بالباطنية –قطع الله دابرها، وبتَّ أواخرها، وألحق أولها بآخرها –على ما نقله العلماء –حدث بعد مائتي سنة وكسر من الهجرة))( (9) بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص .18 .9).
ويقول البغدادي في بدء ظهور الباطنية:
((ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين الذين هم بحرّان...)) إلى أن يقول: ((قال عبد القاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم))( (10) الفرق بين الفرق ص 294 .10).
بينما يذهب الشيخ محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي إلى أن نشأة الباطنية كان في سنة مائتين وست وسبعين، حينما قام زعيمهم ميمون القداح بإنشاء هذا المذهب الخبيث وهو وزملاؤه الذين كانوا على شاكلته( (11) انظر كشف أسرار الباطنية ص 32 .11).(160/5)
والذي يظهر لي أن سبب اختلاف العلماء في تحديد نشأة الباطنية يعود إلى عوامل عدة من أهمها:
غموض أمر الباطنية في أدوار كثيرة مرّ بها تاريخهم، كل واحد من العلماء أرّخ لهم حسب ما وصل إليه من أخبارهم.
أن مذهب الباطنية نفسه يقبل تلك الاختلافات...فمن قال: إنهم ظهروا في الإسلام، فلما يبدونه من تظاهرهم به وتشيعهم أيضاً لآل البيت.
ومن قال: إن أفكارهم تعود إلى ما قبل الإسلام من أفكار الصابئة أو الدهرية، فلما وجده من آرائهم الكثيرة التي بدا عليها طابع الدهرية أو الفلاسفة القدماء أو البرهمية أو اليهودية أو النصرانية أو البوذية، لأن مذهب الباطنية خليط من شتى الديانات.
والحقيقة التي يجب أن ندركها أن مهما كانت الأسباب فإن الدعوة الباطنية يحوطها كثير من الغموض خصوصاً في بدء أمرها، أي في الدور الذي يسمونه ((دور الستر))؛ إذ لا يتمكن أحد من معرفتهم والكتابة عنهم الكتابة الدقيقة، ومهما كان فإن عقائد الباطنية على العموم قد استمدت من عقائد قديمة.
ولكن بدأ التخطيط لإقامة هذا المذهب في الإسلام كما يترجح من أقوال العلماء ما بين سنة 200و300هـ أي بعد انتشار الإسلام وعز أهله به، وانطفاء نار المجوسية، كسر صليب النصارى، وكسر طاغوت الوثنية، ودحر اليهودية، وضرب الذلة والمسكنة عليهم.
فأكل الحسد قلوبهم، وبدأوا يخططون في الخفاء لطريق ينفّسون بها عن أحقادهم للنيل من الإسلام وأهله، فاهتدوا إلى هذه الطرق التي سيأتي الحديث عنها، ليستيقن طالب العلم أن ما نعايشه في عصرنا هذا من مؤامرات ظاهرة وخفية على الإسلام وأهله إنما هو امتداد لتلك الحركات الأصول في ذلك الزمن، وإنما تخمد حيناً وتنشط أحياناً أخرى، والهدف واحد على امتداد الزمن.
* * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
الغرض من إقامة هذا المذهب وكيف تأسس(160/6)
قام هذا المذهب الهدام من أول الأمر على النيل من الإسلام وأهله، إما بإخراج المسلم عن دينه بالكلية، أو بإدخال الشكوك في قلبه.
ولقد استفاض العلماء في بيان ذلك كله، واتضح أن قيام هذا المذهب كان لأسباب كثيرة ومقاصد خبيثة من أهمها:
إبطال الإسلام والقضاء عليه وعلى أهله، أو زعزعته من نفوس المسلمين أو تشكيكهم فيه، وإحلال المجوسية والإلحاد محله.
من أجل ذلك، ومن أجل إقامة حكم عام في الأرض تسيطر عليه الآراء الباطنية، وينفذ فيه حكمها..قام هذا المذهب.
واتخذ أهله عدّة أقنعة تستّروا بها لتحقيق ما يهدفون إليه منها:
اعتمادهم على تأويل النصوص تأويلات تنافي ما يقرره الإسلام ويأمر به.
إظهار التشيع لعلمهم بأن مذهب التشيع يحتمل كلامهم، إذ لم يجدوا مدخلاً إلى الإسلام إلا من جهة إظهار التشيع والانتساب إلى المذهب الشيعي.
وقد تم تأسيس هذا المذهب –فيما يذكر الغزالي( (12) انظر فضائح الباطنية ص 18- 20 .12)- كما يلي:
((تم في اجتماع لقوم من أولاد المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية الملحدين، وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، -زاد الديلمي: وبقايا الخرمية واليهود-..جمعهم ناد واشتوروا( (13) انظر بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 19 .13) في حيلة يدفعون بها الإسلام.
وقالوا: إن محمداً غلب علينا وأبطل ديننا، واتفق له من الأعوان ما لم نقدر على مقابلتهم، ولا مطمع لنا في نزع ما في أيدي المسلمين من المملكة بالسيف والحرب، لقوة شوكتهم وكثرة جنودهم، وكذلك لا مطمع لنا فيهم من قبيل المناظرة لما فيهم من العلماء والفضلاء والمتكلمين والمحققين فلم يبق إلا اللجوء إلى الحيل والدسائس.
ثم اتفقوا على وضع حيل وخطط مدروسة يسيرون عليها لتحقيق أهدافهم من خلال الأمور التالية:
التظاهر بالإسلام وحب آل البيت والانتصاف لهم.
دعوى أن النصوص لها ظاهر وباطن، والظاهر قشور والباطن لبّ، والعاقل يأخذ اللبّ ويترك القشور.(160/7)
وهذا الزعم الكاذب يريدون من ورائه سلب المعاني عن الألفاظ، والإتيان بمعان باطنية تتفق مع ما يهدفون إليه من الكيد للإسلام.
اختاروا أن يدخلوا على المسلمين عن طريق التشيع، وعلى مذهب الرافضة، وإن كان هؤلاء الباطنيون يعتبرون الروافض أيضاً على ضلال، إلا أنهم رأوهم- على حد ما ذكر الغزالي- أرّك الناس عقولاً، وأسخفهم رأياً، وألينهم عريكة لقبول المحالات، وأطوعهم للتصديق بالأكاذيب المزخرفات( (14) فضائح الباطنية ص 19 .14)، وأكثر الناس قبولاً لما يلقى عليهم من الروايات الواهية الكاذبة، فتستروا بالانتساب إليهم ظاهراً للوصول إلى أصناف الناس، فكان ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض)) كما ذكر الغزالي( (15) المصدر السابق ص 37 .15).
أو كما قال بعض العلماء: إن الإمامية دهليز الباطنية ...وهذا هو التفسير الواضح لما تلحظ من التقارب الشديد بين الباطنية والرافضة.
اتفقوا أن يبثوا دعاتهم وأن يلزموهم بخطة ماكرة، وهي أنه يجب على كل داعية أن يوافق هوى المدعو مهما كان مذهبه ودينه مستعملاً معه الحيل التسع المعروفة عنهم والتي سنذكرها فيما بعد.
وكان من أبرز دعاتهم ميمون بن ديصان القدّاح، وهو رئيسهم( (16) ويذكر أنه تظاهر بالإسلام على يدي جعفر الصادق وترك المجوسية فغيروا اسمه إلى القداح فيما بعد ، لأنه يقدح العلم عن خاطره على حد زعمهم وهو فارسي من الأهواز . بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 20 ، وانظر ترجمته في أعلام الاسماعيلية ص 559 .16)، وابنه عبيد الله، وحمدان قرمط( (17) هو حمدان بن الأشعث الأهوازي الملقب بقرمط ، أصله من خوزستان ، تزعم طائفة نسبت إليه ، ولقب بقرمط لقصر كان فيه ، فرجلاه قصيرتان بشكل ملفت للنظر الأمر الذي جعله ناقماً على المجتمع .(160/8)
القرامطة ص5 ، وقد سماه ابن كثير قرط بن الأشعث البقار ، انظر البداية والنهاية ج11 ص62 ، وسماه النوبختي قرمطويه ، انظر البداية والنهاية ج11 ص62 ، وسماه النوبختي قرمطويه ، انظر فرق الشيعة صـ93 وسماه ابن الجوزي كرميته نسبه إلى رجل يسمى بهذا الاسم تلبيس إبليس ص 110 .17)، وزكرويه بن مهرويه –عبدان-، وأبو سعيد الجنابي، وولده أبو طاهر( (18) انظر : فضائح الباطنية ، وانظر : بيان بطلان مذهب الباطنية في عدة مواضع . 18) ...وغيرهم ممن يطول حصرهم هنا.
وقد تحمل دعاة الباطنية كثيراً من المشقة والآلام والأسفار الكثيرة في نشر باطلهم من بلد إلى بلد، مما يتوجب على أهل الحق- وهم يعرفون بأنهم سيحصلون من دعوتهم إلى الله على خيري الدنيا والآخرة – ألا يكون هؤلاء الطغاة أكثر حماساً وصبراً منهم في نشر باطلهم.
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
أسماء الباطنية
وسبب تسميتهم بتلك الأسماء
أطلقت على هذه الطائفة أسماء كثيرة للتمويه على الناس، بعضها يقبلونه وبعضها لا يقبلونه، ومن أشهرها:
1- الباطنية:
وقد أطلق عليهم هذا الاسم لزعمهم أن النصوص من الكتاب والسنة لها ظاهر وباطن، وأن الظاهر بمنزلة القشور والباطن بمنزلة اللب( (19) بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص21 وانظر فضائح الباطنية ص 11 .19).
2- الإسماعيلية:
نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق لزعمهم الانتساب إليه( (20) انظر الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام ص 23 .20) لأن والده جعفر الصادق نص إلى إمامته من بعده، وأوصى له بها رغم أن علماء النسب مجمعون على أن إسماعيل مات في حياة والده سنة (145هـ)، لكن الإسماعيليون يزعمون أن إسماعيل لم يمت في حياة والده وفي العام المذكور.(160/9)
بل إن أباه قد جعله وصيه، ولخوفه عليه من الخليفة العباسي احتال لإخفائه عنه فكتب محظراً بوفاته وأشهد عليه عامل المنصور العباسي بالمدينة المنورة، وفي نفس الوقت توجّه إسماعيل سراً إلى (السلمية) وهي من أعمال حماة، وإلى الجنوب الشرقي منها، بينهما 35كم، وهي مركز الإسماعيلية حيث كان يقيم فيها آنذاك رهط من بني هاشم، وانتسب إليهم فعرفوه وأقام بينهم.
يقول مصطفى غالب عن سلمية هذه:
((ويكفي سلميّة فخراً أنها أنجبت جماعة إخوان الصفا، ومنها انطلقت جحافل الإمام عبيد الله المهدي لتأسيس الدولة الفاطمية في المغرب)).
ثم يزعم الإسماعيليون أن الخليفة العباسي علم بمكان إسماعيل في السلمية، وحينئذ خرج إسماعيل متخفياً إلى دمشق، وعلم به كذلك الخليفة، وكان العامل على دمشق إسماعيلياً فأخبر إسماعيل بما كتب به الخليفة من إلقاء القبض على إسماعيل وإرساله إلى الخليفة .
فقرر إسماعيل التوجه إلى العراق ووصل البصرة سنة 151هـ، ثم ظل ينتقل بين أتباعه سراً وتحت أزياء مختلفة وأسماء عديدة إلى أن توفي سنة 158هـ بعد أن رزق –حسب زعمهم- من الأولاد محمد وعلي وفاطمة، وبعد أن أوصى بالإمامة من بعده إلى محمد( (21) انظر هذه التفاصيل في كتابه (( أعلام الإسماعيلية )) لمؤلفه الباطني مصطفى غالب ص 161-165 .21).
وقد حصل شقاق وتفرق بين الإمامية والإسماعيلية في سوق الإمامة، فبينما هي عند الشيعة الاثني عشرية في جعفر الصادق ثم في موسى الكاظم، إذا هي عند الإسماعيلية في جعفر الصادق ثم في ابنه إسماعيل ثم في محمد بن إسماعيل..إلى آخر أئمتهم المستورين.
وقد تفرقت الإسماعيلية إلى ثلاث فرق معاصرة هي:
أ- الدروز.
ب- الإسماعيلية النزارية-البهرة-.
ج- الإسماعيلية الأغا خانية.
وأخبار الإسماعيلية طويلة، وقد كتب فيها الشيخ إحسان إلهي كتاباً مستقلاً( (22) هو كتابه (( الإسماعيلية تاريخ وعقائد )) .22).
3- السبعية:(160/10)
قيل في سبب إطلاق هذه التسمية عليهم ما يلي:
أ- لدعواهم أن أدوار الإمامة سبعة سبعة، كلما انتهى حكم سبعة من الأئمة قامت القيامة وابتدأ الدور من جديد إلى ما لا نهاية.
ثم لشغفهم بالعدد سبعة حيث فسروا كثيراً من الأمور على وفق هذا العدد، فقالوا: إن السموات سبع، والأرضين سبع، والكواكب السيارة سبعة، والأيام سبعة، وأعضاء الإنسان سبعة، والنقب في رأس الإنسان سبعة...إلى آخر أدلتهم على مزية العدد سبعة.
وقد رد بعض العلماء على الإسماعيلية بتفضيل بعض الأعداد على السبعة، إما الأربعة، أو الخمسة، أو العشرة، وكل ذلك مما لا طائل تحته ولا حاجة تدعو إليه، والذين يتشاءمون بالأعداد أو يتفاءلون بها جهال.
ب- وقيل: إنه أطلق عليهم بسبب اعتقادهم أن العالم السفلي تديره الكواكب السبعة وهي: زحل، المشتري، عطارد، المريخ، الزهرة، الشمس، القمر. وهي عقيدة مأخوذة من ملاحدة المنجمين( (23) انظرالأفحام ص23 .23).
((وملتفت إلى مذاهب الثنوية في أن النور يدبر أجزاءه الممتزجة بالظلمة بهذه الكواكب السبعة)) ( (24) فضائح الباطنية ص 16 .24).
4- التعليمية:
وقد أطلق عليهم بسبب أن مذهبهم قائم على الحجر على العقل، وإبطال النظر والاستدلال، والدعوة إلى الإمام المعصوم المستور، وأن العلم لا يجوز أخذه إلا منه.
واستدلوا لهذا بأن الحق إما أن يعرف بالرأي أو بالتعليم، وباطل أن يعرف بالرأي لتعارض الآراء واختلاف العقلاء، فلم يبق إلا أن يعرف بالتعليم، والعلم لا يجوز أخذه عن أحد غير الإمام المعصوم لضمان صحته والوثوق به( (25) انظر المصدر السابق ص 17 .25).
وهذا الدليل من أردأ الأدلة، بل هو يحكي رداءة مذهبهم وأفكارهم الشريرة.
ويرد عليهم بأن الإمام الذي يدعون إليه وإلى أخذ العلم عنه لا وجود له إلا في أذهانهم وفي خططهم لاحتواء كل الأديان والسيطرة على الناس، فإن دعواهم أنه مستور لا يظهر هو أقوى الأدلة على كذبهم.
5- الإباحيّة:(160/11)
وهذه التسمية التي أطلقت عليهم في الواقع مأخوذة من اعتقاداتهم وأفعالهم، وهم لذلك أهل إباحة لا يحرمون محرّما ولا يلتزمون بشرع،بل الحلال ما حل في أيديهم، والحرام ما منعوا منه.ويستدلون على هذا المسلك بقول الله عز وجل:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}( (26) سورة البقرة: 2926)
ومن أدلتهم على ما يذهبون إليه أيضاً من استحلال المحرمات حسب بواطن النصوص التي اطلعوا عليها بفهمهم السقيم قول الله عز وجل:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ }( (27) سورة لأعراف: 3327)، وقوله عز وجل:{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ }( (28) سورة الأنعام: 12028)، أي أن فيه حكماً ظاهراً وحكماً باطناً.
فقالوا: إن الظواهر من النصوص قد تدل على التحريم، بينما بواطنها تدل على الإباحة، وهذه حيلة من حيلهم لاستدراج الناس إلى مذاهبهم الرديئة وحججهم الباطلة على أن الأحكام لها ظاهر ولها باطن، فهم يريدون من التأكيد على هذا المفهوم هدم ظواهر النصوص بعد ذلك بتلاعبهم بمعانيها وفق أهوائهم وتحريفاتهم.
6- القرامطة( (29) أصل القرامطة قصر الخطو في المشي ، أو دقة الحروف وتقارب الأسطر في الكتابة .29):
أما سبب تسميتهم بهذا الاسم فلانتسابهم إلى رجل يقال له حمدان قرمط، وهو رجل من أهل الكوفة، وقد كان راعياً مائلاً إلى الزهد والديانة( (30) الأفحام ص 2230)-فيما يذكر عنه- في بداية حياته، وقيل: إنه كان يتظاهر بذلك وأنه على المجوسية( (31) القرامطة ص6 . 31) فصادفه أحد دعاة الباطنية –ويسمى حسين الأهوازي- وهو متوجه إلى قريته، وبين يدي حمدان بقر يسوقها، فدارت بينهما المحادثة التالية:
قال حمدان لذلك الداعي وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله: أراك سافرت من موضع بعيد فأين مقصدك؟ (انظر إلى تفاني أهل الباطل في تبليغ الناس باطلهم).
فذكر له الداعي موضعاً هو قرية حمدان.(160/12)
فقال له حمدان: اركب بقرة من هذا البقر لتستريح من تعب المشي- فلما رآه مائلاً إلى الزهد والديانة أتاه من حيث رآه مائلاً إليه، وهذه إحدى خطط الباطنية – فقال له: إني لم أومر بذلك.
فقال حمدان: وكأنك لا تعمل إلا بأمر؟
قال: نعم.
قال حمدان: وبأمر من تعمل؟
فقال الداعي: بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة.
فقال: ذلك هو رب العالمين.
فقال الداعي: صدقت، ولكن الله يهب ملكه لمن يشاء.
قال حمدان: وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها؟
قال: أمرت أن أدعو أهلها وأخرجهم من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاوة إلى السعادة، وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب.
فقال حمدان: أنقذني أنقذك الله فما أشد احتياجي إلى مثل ما ذكرته.
فتحرج الداعي أن يخبره بشيء حتى يأخذ عليه العهد أن لا يفشي سرّ الإمام المعصوم المستور، ولا يفشي له خبر- وهذه إحدى حيل الباطنية –فعاهده حمدان على ذلك، فشرع الداعي في استدراجه إلى الباطنية حتى صار فيما بعد ركناً من أركانها، وصار له أتباع وفرقة تنسب إليه تسمى (القرامطة) أو (القرمطية) كان لهم في تاريخ الأمة الإسلامية حوادث هائلة، وأخبار بتنكيلهم بالمسلمين مؤسفة ( (32) فضائح الباطنية ص 12- 13 .32).
قال ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة 278هـ:
((وفيما تحركت القرامطة، وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون بنبوة زرادشت ومزدك، وكانا يبيحان المحرمات، ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل، وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة، ويدخلون إلى الباطل من جهتهم، لأنهم أقل الناس عقولاً، ويقال لهم الإسماعيلية لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج ابن جعفر الصادق( (33) البداية والنهاية ج1 ص 61 .33).
وفي سنة 286 تحرك القرامطة برئاسة أبي سعيد الحسن بن بهرام الحنابي واستولوا على هجر وما حولها من البلاد وأكثروا فيها الفساد.(160/13)
وقد كان أبو سعيد هذا سمساراً في الطعام يبيعه للناس في القطيف، فجاء بعض الدعاة الباطنيون إلى شيعة القطيف فاستجابوا له وتأمر عليهم أبو سعيد الجنابي، وأصله من بلدة جنابه قريبة من القطيف، وعاثوا في الأرض فساداً وأخافوا أهل العراق والشام إلى أن هلك أبو سعيد هذا في عام301هـ فتولى بعده ولده أبو طاهر الجنابي وكثر دعاة القرامطة وصارت لهم دولة( (34) البداية والنهاية ص8134) .
وفي سنة 317هـ اشتدت شوكتهم جداً وتمكنوا من الوصول إلى الكعبة، والناس يوم التروية، فما شعروا إلا والقرامطة برئاسة أبي طاهر الجنابي قد انتهبوا أموالهم وقتلوا كل من وجدوا من الحجيج في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة.
وجلس أميرهم أبو طاهر –بل أبو النجس- على باب الكعبة والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في المسجد الحرام، في الشهر الحرام، في يوم التروية، وكان يقول هذا الملعون: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا –تعالى الله عما يقول علواً كبيراً-، ولم يدع أحداً طائفاً أو متعلقاً بأستار الكعبة إلا قتله.
ثم أمر بإلقاء القتلى في بئر زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء قرمطي فضرب الحجر بمثقل في يده وهو يقول: أين الطير الأبابيل، أين الحجارة من سجيل، ثم قلعه وأخذوه معهم، فمكث عندهم اثنين وعشرين سنة( (35) المصدر السابق ص 160-161 .35)، وهو ابتلاء من الله للمسلمين في ذلك الوقت.(160/14)
وفي نفس هذه السنة نبغت لهم نابغة في بلاد المغرب عرفت باسم الفاطميين على يد زعيمهم أبي محمد عبيد الله بن ميمون القداح، وكان يهودياً صباغاً بسلمية فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد المغرب، وادعى أنه شريف فاطمي فصدقته طائفة كثيرة من البربر حتى صارت له دولة فملك مدينة سجلماسة( (36) المصدر السابق ص 161 .36) ، ثم ابتنى مدينة سماها المهدية، وانتزع الملك من يد أبي نصر زيادة الله آخر ملوك بني الأغلب على أفريقية، وقد اختلف في نسبه:
فمرة قيل: هو عبيد الله بين الحسن بن محمد، وينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب.
ومرة قيل: إنه من نسل إسماعيل بن جعفر الصادق.
قال ابن خلكان:
((والمحققون ينكرون دعواه في النسب وينصون على أن هؤلاء المتسمين بالفاطميين أدعياء، وأنهم من أصل يهودي من سلمية بالشام، وأن والده لقب بالقداح لأنه كان كحالاً يقدح العيون، وقد هلك عبيد الله سنة 322هـ.
وتمكن حفيده المعز من الاستيلاء على مصر واستمر ملك العبيديين بها نحو قرنين من الزمان، إلى أن قضى عليهم بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي في سنة 564هـ وأزال منها كل آثار العبيديين وقطع شرورهم عن الناس، وأراح الله منهم العباد.
أماكن وجود القرامطة:
مما يجدر ذكره أن القرامطة توزعوا إلى أقسام، وأخذوا أماكن كثيرة تجمعوا فيها؛ ويمكن أن نوجز أماكن تجمعاتهم فيما يلي:
1- في اليمن:(160/15)
وقد تزعم القرامطة في أول الأمر رجلان، وهما: المنصور بن الحسن بن زاذان، وعلي بن الفضل الجدني، أرسلهما ميمون ين ديصان القداح، وقد تلقب المنصور بمنصور اليمن،واجتمع حوله عدد من القبائل، وأظهر الدعوة باسم الإمام الإسماعيلي المنتظر، وقد تمكن عام 266هـ أن يؤسس أول دولة إسماعيلية، وقام بنشاط كبير، ثم أرسل الدعاة إلى عدة جهات بعيدة عن مركز الخلافة العباسية، مثل الداعية عبيد الله المهدي الذي ذهب إلى المغرب، وادعى كذباً أنه شريف فاطمي من آل البيت، وكون هناك –كما سبق- دولة.
وكان علي بن الفضل الجدني أيضاً من أصدقاء المنصور إلا أنه اختلف معه فيما بعد، وقامت بينهما حروب حين تمكن علي بن الفضل من جمع عدة قبائل حوله، ثم ادعى النبوة وأباح المحرمات، وكان المؤذن يؤذن في مجلسه: ((وأشهد أن علي بن الفضل رسول الله))، وامتد له العتو والفجور فكان يكتب إلى عماله: ((من باسط الأرض وداحيها، ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان...))). إلى أن مات مسموماً بواسطة طبيب أقسم ليقتلنه غيرة لله، فتم له ذلك في سنة 303هـ( (37) انظر كشف أسرار الباطنية ص 40- 63 ، وانظر الباطنيون والحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي ص 20- 24 ، وانظر القرامطة لمحمود شاكر ص 52- 54 .37).
2- العراق:
والمعروف أن جنوب العراق القريب من فارس أرض الشيعة ومهدها الأول، ومركز الجهل والخرافات أيضاً، كان القاعدة والمركز الأساسي لانتشار القرامطة، وقد نشط الدعاة من الإسماعيلية هنا أمثال مهرويه وهو مجوسي من أصل فارسي، وحسين الأهوازي وهو فارسي وانتسب إلى الأهواز لإخفاء شخصيته، لأن الأهواز كانت عربية وتسمى ((الأحواز))، وعبيد الله بن ميمون القداح رأس الدعوة الإسماعيلية الذي فرق أولاده في أماكن كثيرة من تلك الجهات.(160/16)
ونشط دعاة آخرون متسترون بالدين وبالانتساب إلى آل البيت وقلوبهم المجوسية تغلي على الإسلام والمسلمين، وبسطوا نفوذهم في أماكن كثيرة من الأهواز وخراسان والشام إلى أن قتل آخر زعمائهم وهو زكرويه عام 301هـ، وتشتت أتباعه في تفاصيل كثيرة يذكرها علماء الفرق( (38) القرامطة ص 55 .38).
ولقد كان أساس نشأة القرامطة في العراق بتأثير من حمدان قرمط الذي تأثر بدعوة حسين الأهوازي حين خرج من سلمية في الشام قاصداً العراق فصادف حمدان وجرى بينهما ما قدمنا الإشارة إليه من تلك المحادثة التي أعقبها دخول حمدان في دعوة الباطنية، ثم كان له بعد ذلك شأن كبير في إشاعة الفساد وتخويف الآمنين.
((وقد قدر عدد الضحايا الذين سقطوا في حروب القرامطة من أهل الشام ومن البوادي ومن الحجيج ومن أهل المدن، ومن جند مصر، ومن جند العراق بما يزيد على 600.000 بين رجل وامرأة وطفل))( (39) الباطنيون والحركات الهدامة ص 12-15 .39) .
3- البحرين:
أول ما عرف شأن القرامطة في البحرين كان على يد شخص نزل البحرين وأعطى نفسه اسم يحيى بن المهدي( (40) القرامطة ص 66 .40)، وبعضهم يقول: الحسن بن بهرام الفارسي( (41) الباطنيون والحركات الهدامة ص16 .41).
وقد استمال إليه الناس بالتدريج فأظهر بالتدرج أولاً أنه شيعي، وحينما رأى إقبال الناس ادعى أنه المهدي المنتظر.
وكانت الدولة العباسية قد بدأت في مراحل الضعف واشتغلت بمشاكلها الداخلية الكثيرة، وقد تبع هذا الداعية رجال كان لهم شهرة وقيادة مثل الحسن ابن بهرام الذي عرف باسم أبي سعيد الجنابي، الذي عاث في الأرض فساداً، وأذاق الناس القتل والجوع إلى أن قتل عام 301هـ، وتولى بعده أبو طاهر، وفعل أفعالاً تقشعر منها الجلود من القتل والنهب، فقد دخل البصرة عام 311هـ في 2700من رجاله فقتل خلقاً عظيماً وحمل الأموال والأمتعة والنساء والصبيان ورجع بها.(160/17)
وفي عام 312هـ قطع على الحجاج الطريق، فأخذ منهم جميع ما يملكون، وترك من لم يقتله منهم بلا ماء ولا زاد، فمات أكثرهم في تلك القفار.
وفي عام 313هـ دخل الكوفة وعاث فيها فساداً مدة ستة أيام نقل خلالها ما أراد من الأمتعة، وفعل ما فعله في العام السابق، وأغار على مدينة الأنبار وعين التمر.
وفي عام 317هـ فعل فعلته الكبرى فهجم على الحجاج في يوم التروية كما تقدم، فنهب الأموال، وقتل الحجاج في المسجد الحرام، وفي البيت نفسه، ورمى القتلى في بئر زمزم حتى امتلأت بالجثث، وخلع باب الكعبة ووقف يلعب بسيفه على بابها، وخلع الحجر الأسود ورجع به إلى بلده وبقي معهم اثنتين وعشرين سنة، إلى أن رده هؤلاء القرامطة بتأثير من الفاطميين في المغرب، وهم الذين أمروهم برد الحجر الأسود إلى مكانه بعد أن ساءت سمعتهم كثيراً في العالم الإسلامي، ولحق الفاطميين بالمغرب شيء من سوء تصرفاتهم، فسعوا في إرجاع الحجر الأسود إلى البيت تغطية لشنائعهم.
ووصل نفوذ هؤلاء القرامطة إلى نجد والحجاز والشام، وأرادوا القاهرة إلا أنهم صدّوا من قبل جوهر الصقلي.
ثم تناوب عدة زعماء إلى أن أراد الله إهلاكهم فقام أحد زعماء قبيلة بني عبد القيس المشهورة ، وهو عبيد الله بن علي العيوني فاستعان بالخلفية العباسي القائم بأمر الله، كما استعان بالسلطان السلجوقي ((ملكشاه))، وجاءت القوات العباسية وساعدت عبيد الله بن علي العيوني، وقضت على القرامطة نهائياً في عام 467هـ وأراح الله منهم العباد، وطهر منهم البلاد ( (42) انظر الباطنيون والحركات الهدامة في تاريخ الإسلامي ص 16-19 . والقرامطة ص 66- 70 .42).
ويذكر العلماء أحداثاً كثرة لتحركات قرامطة البحرين، وما فعلوه من قتلهم المسلمين وتخريب بلدانهم لا نرى ضرورة للتطويل بذكرها، إذ إن خلاصتها أن هؤلاء الذين يتظاهرون بالتشيع والإسلام فعلوا ما لم يفعله سائر الكفار غير التتار.
7- الملاحدة:(160/18)
لأنهم ينفون وجود الله عز وجل ويقولون بتأثير الكواكب ( (43) بيان مذهب الباطنية وبطلائه ص 24 .43).
هكذا يذكر الديلمي، وهو الواقع، ولا يرد على هذا ما يوجد عندهم من ذكر الله تعالى وذكر صفاته عز وجل فقد وصفوا الله تعالى بصفات سلبية مؤداها إنكار وجوده تعالى.
8- المزدكية:
نسبة إلى رجل يقال له مزدك، قيل: إنه رئيس الخرمية، وقيل غير ذلك( (44) بيان مذهب الباطنية وبطلائه ص 24 .44)، ولعله غير مزدك صاحب الشيوعية الأولى، ثم أطلق على الباطنية لمشابهتهم مذهب مزدك.
9- البابكية:
لانتسابهم إلى بابك الخرمي، خرج في أيام المعتصم بناحية أذربيجان، فجهز لهم الجيوش حتى قتلهم.
وقد كان من إباحية هؤلاء البابكية أن لهم ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون السرج ثم يتناهبون النساء، فيبيت كل واحد مع امرأة، ويزعمون أن من احتوى على امرأة استحلها بالاصطياد كائنة من كانت، وأن هذا الصيد من أطيب المباحات بزعمهم، وتسمى هذه الليلة ((ليلة الإفاضة))، وهو عمل لا تقبل به حتى البهائم، وقبلته عقولهم التي هي أحط من عقول البهائم.
إضافة إلى أنهم يدعون نبوة رجل كان من ملوكهم قبل الإسلام يقال له ((شروين))، يزعمون أنه أفضل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأنبياء ( (45) فضائح الباطنية ص 15 .45).
10- الخرمية أو الخرمدينية:
وكلمة ((خرم)) أعجمية، ومعناها: الشيء المستلذ المستطاب الذي ترتاح له النفس، وهو من باب الدعاية لمذهبهم الذي هو رفع التكاليف وتسليط الناس على ارتكاب الشهوات، وهو لقب كان يطلق على المزدكية قبل الإسلام وهم أصحاب الشيوعية الأولى، الإباحية الذين ظهروا في عهد قياذ، وقضى عليهم ولده أنوشروان ( (46) انظر الأفحام ص 22 .46).
وهم الذين قال فيهم أبو الحسين الملطي عند ذكره لأصناف الفرق: ((وإنما سموا مزدكية لأنه ظهر في زمن الأكاسرة رجل يقال له مزدك، فقال هذه المقالة ( (47) التنبيه والرد ص 92 .47).
11- المحمرة:(160/19)
قيل: لأنهم صبغوا ثيابهم بالحمرة في أيام بابك، ولبسوها شعاراً لهم.
وقيل: لأنهم يطلقون على مخالفيهم اسم الحمير ( (48) انظر الأفحام ص 23 ، فضائح الباطنية ص 17 .48).
وقيل لأن أخلاقهم وطبائعهم صارت شبيهة بطبائع الحمير ( (49) الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 80 .49).
ولا مانع أن توجد هذه الأسباب كلها فيهم، وإن كان أكثر العلماء يرجح القول الأول.
وقد أضاف أحد علمائهم وهو ((مصطفى غالب)) اسماً جديداً للباطنية هو ((الهادية)) وهو اسم يشعر بالهداية التي يطلبها كل أحد، ولكن ما أكثر الخداع في التسميات، فهم أليق أن يسموا بالهاوية لأنه لا هدى لديهم إلا تأليه غير الله عز وجل، والسير خلف ميمون القداح اليهودي وأتباعه الذين دافع عنهم مصطفى غالب في كتابه ((أعلام الإسماعيلية)) دفاعاً طويلاً.
وبقراءة عابرة لهذا الكتاب يجد المنصف صريح الكفر والغلو ظاهراً عليه.
يقول ناصر خسرو، من أعلام الإسماعيلية عن المسلمين: ((فأعط التأويل للحكماء، وأعط التنزيل للغوغاء، فاطلب المعنى الحقيقي لظاهر التنزيل، وكن كالرجال الأصفياء ولا تكن كالحمير فتقنع بالنهيق والقول الهراء )) ( (50) أعلام الإسماعيلية ص569.50).
ويقول مصطفى غالب في ترجمته لمحمد الباقر:
((وقيل: إن الإمام الباقر كان يعرف الغيب))( (51) المصدر السابق ص 480 .51). وقد تحاشى كلمة ((يعلم)) خداعاً منه
ومن العجيب أن يذكر هذا المؤلف بعض عظماء الإسلام على أنهم من أعلام ورجال الإسماعيلية مثل علي بن أبي طالب ( (52) المصدر السابق ص 359 .52)، ومحمد الباقر( (53) المصدر السابق ص 480 .53)، والحسين بن علي بن أبي طالب( (54) المصدر السابق ص 266 .54)، وغيرهم إلى جانب ميمون القداح، وحمدان قرمط، والحاكم بأمر الله، وغيرهم من طغاة الإسماعيلية.
ويقول أيضاً في غلوهم في الأئمة:(160/20)
((والإسماعيلية يعتبرون –من حيث الظاهر- أن الأئمة من البشر، وأنهم خلقوا من الطين، ويتعرضون للأمراض والآفات والموت مثل غيرهم من بني آدم، ولكن في التأويلات الباطنية يسبغون عليه وجه الله ويد الله وجنب الله، وأنه هو الذي يحاسب الناس يوم القيامة، وهو الصراط المستقيم والذكر الحكيم إلى غير ذلك من الصفات))( (55) أعلام الإسماعيلية ص 30 .55).
وحينما يسمي الباطنيون الله بالعقل الأول أو السابق نجدهم يقولون:
((يجب أن يكون في العالم الأرضي عالم جسماني ظاهر يماثل العالم الروحاني الباطن، فالإمام هو مثل السابق، وحجته مثل التالي، وكل خصائص العقل الأول السابق جعلت للإمام)) ( (56) المصدر السابق ص 33 .56).
أي أن الإمام عندهم مثل الله تماماً، وهل بعد هذا الكفر كفر، وأقوال أخرى كثيرة كلها تدل على مدى كفر هذه الطائفة، ينقلها أحد علمائهم المعاصرين، وهو يفتخر بأعلامه الإسماعيليين وتمسكهم بالدين الإسلامي وتبحرهم في العلوم.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس
الطرق والحيل التي يستعملها الباطنيون لإغواء الناس
من المبادئ الأساسية عند الباطنية تقديس النفاق والكذب والخداع، ومن الوصايا الهامة التي يجب أن يسير بموجبها كل داعية باطنية هي أن يجاري من يخاطبه، ويوافقه في مذهبه تماماً، بل ويحسِّن له الغلو فيه، ويريه أنه أحرص منه على التزامه به.
فإذا كان المدعو شيعياً فإنه يجب أن يكون مذهب الداعية شيعياً أيضاً، وإذا كان المدعو فاجراً مستهتراً أو ناسكاً متعبداً أو يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً فإن مذهب الداعي كذلك.
فإذا كان المدعو فاجراً حسَّن له الداعي انتهاب اللذات، وأن الحياة منتهية والدنيا فانية.
وإذا كان المدعو ناسكاً حسن له التعبد والزهد وعدم الالتفات إلى الدنيا.
وإذا كان المدعو يهودياً حسَّن له الداعي مذهبه، وأظهر له تعظيم السبت، وشتم النصارى والمسلمين جميعاً.(160/21)
وإذا كان مجوسياً يظهرون عنده تعظيم النار والضوء والشمس وغير ذلك من مذهب المجوس .
ومن وجدوه نصرانياً يظهرون عنده الطعن في اليهود والمسلمين جميعاً، وأن القول بالأب والابن وروح القدس حق، ويعظمون الصليب عندهم.
ومن وجدوه فيلسوفاً فهو منهم وقد وصل الحبيب إلى المحبوب لاتفاق هؤلاء مع الفلاسفة في دعوى أن النصوص لها ظاهر وباطن، وإنكار الشرائع، وقالوا بسائر أقوال الفلاسفة مع قدم العالم، وإبطال المعاد والمعجزات وغيرها من أقوال الفلاسفة.
ومن وجدوه ثنوياً فقد ظفروا ببغيتهم فيدخلون عليه بإبطال التوحيد والقول بالسابق والتالي.
وهكذا فإن مذهبهم هو مذهب المدعوين، مهما كان هذا المذهب، يتلونون تلون الماء بالإناء الذي فيه والنتيجة من كل ذلك هو استجلاب المدعو ثم إخراجه من دينه إلى دين الباطنية.
ولهم حيل وطرق للوصول إلى قلوب الناس والتدرج بهم في الكفر شيئاً فشيئاً. وقد ذكرها الغزالي قائلا: ((ففي الاطلاع على هذه الحيل فوائد جمة لجماهير الأئمة))( (57) فضائح الباطنية ص 21 .57).
وسبب استتارهم وراء هذه الحيل هو الخوف من إظهار كفرهم بطريقة مكشوفة، وترتيب حيلهم هذه كما يلي:
الزرق والتفرس، ثم التأنيس، ثم التشكيك، ثم التعليق، ثم الربط، ثم التدليس، ثم التأسيس، ثم الخلع، ثم المسخ أو السلخ.
وفيما يلي تعريف موجز بهذه الحيل:
الحيلة الأولى:
وهي حيلة الزرق والتفرس، ومعناها: أن يكون الداعي ذكياً فطناً صاحب فراسة، يميز بين من يطمع في استدراجه لقبول دعوته، ومن لا يطمع في ذلك وله معرفة بتأويل النصوص وإخراجها عن معانيها الظاهرة إلى المعاني الباطنة، وأن لا يبدأ بالمخالفة للمدعو بل يوافقه ثم يستدرجه بعد ذلك على حسب الخطط الباطنية إذا تفرس فيه القبول.
الحيلة الثانية:(160/22)
وهي التأنيس: والمراد بها الوصول إلى قلب المدعو واستمالته بلطف الحديث وذكر بعض الآيات والأحاديث والأشعار، وبحث جوانب من الأمور اليومية، وإلقاء خطب ومواعظ، ويظهر له كل أمر يزيد في الأنس بينهما ويقرِّب بين الأفهام.
الحيلة الثالثة:
هي التشكيك: وهي أن يسأل الداعي المدعو عن مسائل في أمور الدين، وهي مسائل يعجز المدعو عن الإجابة عنها لجهله، وذلك أن الدعاة الباطنيين يركزون دعوتهم في العوام .
وأيضاً لأن بعض تلك المسائل تعبدية قد لا تعرف الحكمة فيها، كأن يسأله عن متشابه القرآن، ومسائل يعجز المدعو عن الإجابة عنها لجهله، وذلك أن الدعاة الباطنيين يركزون دعوتهم في العوام.
وأيضاً لأن بعض تلك المسائل تعبدية قد لا تعرف الحكمة فيها، كأن يسأله عن متشابه القرآن، ومسائل فقهية: لم أمر بالغسل من المني، ومن الغائط والبول بالوضوء وهما أغلظ نجاسة؟ ولم أمرت الحائض بقضاء الصوم دون الصلاة وهما واجبان على السواء، ولم كانت أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة؟ وعن رمي الجمار، والإحرام، والطواف، وعن الحروف التي في أوائل السور {آلمر}، و{كهيعص} وغير ذلك، ويعظمون أمرها ويدّعون أن لكل ذلك جواباً لا يعرفه كل أحد، بل علم ذلك إليهم وإلى إمامهم المستور بزعمهم.
الحيلة الرابعة:
وهي التعليق: فتتم بعد طرح تلك المسائل، فإذا طلب المدعو الاستفسار عنها، وتعلق قلبه بها وبمعرفتها قالوا له: إننا لا نخبرك بشيء حتى تعطينا العهد والميثاق، فإذا رضي بذلك نقلوه إلى الحيلة الخامسة، وهي الربط.
الحيلة الخامسة:
وهي الربط: وهي إحكام قبضتهم عليه بما يؤخذ عليه من العهود والمواثيق الغليظة في عدم إفشائه سراً من أسرارهم، وأنه إذا فعل ذلك فقد استوجب لعنة الله وغضبه، وأنه مخلد في النار أبد الآباد...إلى آخر تلك الإيمان الطويلة التي لا يؤمنون بها هم.(160/23)
فإذا كان المدعو ذكياً موفقاً عرف أن هذه الأيمان كلها لا تطلب منه إلا لأن ما سيخبرونه به غير مرضي وليس فيه حق، لأن الحق لا يتكتم عليه أهله، ويتذكر قول الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}( (58) آل عمران: 18758)، وآيات كثيرة يحذر الله فيها من كتمان العلم، وأن كتمانهم لعلمهم دليل على أنه مليء بالعورات والفضائح.
الحيلة السادسة:
وهي التأسيس: وهي إظهارهم تعظيم الشرع والرغبة في طلب العلم والمحافظة على أوامر الدين، وأن تلك العهود التي أعطاهم المدعو يجب احترامها، وهم في الواقع إنما يظهرون له هذه الأمور من أجل اصطياده، وإلا فهم لا يؤمنون بعهد ولا بميثاق.
ومنها اشتراطهم أخذ العلم عن الإمام المعصوم المستور الذي يزعمون أنه هو الطريق إلى علم النبي الناطق والوصي، وهو الأساس إلى علم الناطق، وزعمهم أنه مستور، لأنهم يعلمون أن لا وجود له، فلئلا يطالبهم المدعو بلقائه زعموا أنه مستور، وإنما هو دجل وتمويه وخداع للمدعو.
وقد ذكر الغزالي سبعة أمثلة لهذا المسلك وأطال في شرحها.
الحيلة السابعة:
التأسيس: وهي أنهم يضعون مقدمة لا تنكر في الظاهر، ولا تبطل الباطن، يستدرج فيها المدعو بحيث لا يدري، ويوهمونه أن الله تعالى جعل لكل شيء ظاهراً وباطناً، ويستدلون عليه بقوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ }( (59) سورة الأنعام: 12059)، ونصوص أخرى.
ثم يقال له: الظاهر قشور والباطن هو اللب، والظاهر رمز والباطن المعنى المقصود، ثم يؤسسون في نفسه الشغف لمعرفة البواطن والإعراض عن ظواهر النصوص..لأنه وصل بزعمهم إلى مرتبة وهي طلب العلم الباطني.
الحيلة الثامنة:(160/24)
وهي الخلع من الدين: فهي أن يقول الداعي للمدعو: إن فائدة الظاهر أن يفهم ما أودع فيه من علم الباطن لا العمل به، فمتى وقف المدعو على الباطن سقط عنه حكم الظاهر، وهو المراد –بزعمهم الكاذب- لقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}( (60) سورة الأعراف : 15760)، أي يضع عنهم هذه التكاليف الشاقة من صلاة وصيام وغيرها من شرائع الإسلام بعد أن يعرفوا بواطن النصوص التي تدعو إلى القيام بتلك التكاليف وهذا مثل خرافة غلاة الصوفية حين يصلون إلى اليقين بزعمهم.
الحيلة التاسعة:
الانسلاخ من الدين أو حيلة السلخ: فهي أنهم إذا أنسوا من المدعو الإجابة وصار منهم، أعلموه أنه قد أطلق من وثاقه وحل له كل ما حرم على غيره من الناس الذين لم يدخلوا مذهبهم: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ }( (61) سورة المائدة: 561)...وزالت عنه جميع التكاليف، ولا يحرم عليه شيء ( (62) انظر لتفصيل تلك الحيل : فضائح الباطنية ص 21- 22 ، وبيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 25-30 .62).
ولهم حيل في إسقاط التكاليف عن المدعو، حيث يوهمونه أن التكاليف تسقط عنه تلقائياً إذا تدرج في المعرفة ووصل إلى معرفة أن التكاليف إنما كانت موضوعة في الظاهر للناس الجهال حتى يطلبوا العلم ويخرجوا عن مشقة التكاليف.
لأن الإمام المعصوم المستور ونوّابه يعلمون معنى القيام بتلك التكاليف ومعناها الحقيقي، فتسقط عنهم فريضة الصلاة إذا دفع للإمام مبلغ 12ديناراً، ويقرأ له الإمام قول الله تعالى: { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }( (63) سورة الأعراف: 15763)، ويفهمه أن الصلاة معناها الحقيقي –بزعمهم- معرفة أسرار الباطن، أو معرفة خمسة أسماء وهي: علي والحسين والحسن ومحسن وفاطمة.(160/25)
ثم يسقطون عنه فريضة الصوم بعد أن يدفع المبلغ المذكور للإمام، ثم يفهمونه أن الصوم إنما المقصود منه كتمان أسرار الباطنية، أو معرفة ثلاثين رجلاً أو ثلاثين امرأة يعدّونهم في كتبهم، وليس معنى الصوم الامتناع عن الأكل والشرب، ويقرأ عليه قوله تعالى: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}( (64) سورة مريم : 2664) . فلو كان معنى الصوم ترك الطعام لقال: فلن أطعم؛ فدل على أن الصيام هو الصمت والسكوت عن إبداء أسرار الأئمة بزعمهم.
ثم يسقطون عنه الحج بتفهيمه أن المقصود بالحج إنما هو زيارة مشائخهم لا الذهاب إلى مكة.
ثم يسقطون عنه حرمة الخمر والميسر بتفهيمه أن المقصود بهما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما ولعن الباطنية، فأما الخمر المصنوع من العنب وسائر ما يصنع منه فليس بحرام، لأن كل ما تنبت الأرض حلال : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}( (65) سورة الأعراف: 3265) ، { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا}( (66) المائدة: 9366).
ثم يسقطون عنه وجوب الاغتسال من الجنابة بدعوى أن الطهارة هي طهارة القلب، وأن المؤمن طاهر بذاته والكافر نجس بذاته والكافر نجس بذاته ولا يطهره الماء ولا غيره، بل إن الجنابة المقصود بها موالاة أضداد الأنبياء والأئمة، وأما المنيّ فهو طاهر إذ هو أصل الإنسان، ولو كان الاغتسال منه لنجاسته لكان الاغتسال من البول والغائط أولى بزعمهم.
وعلى هذا فإن معنى الآية {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}( (67) المائدة: 667) أي إن كنتم لا تعرفون معنى الباطن فتعلموا واعرفوا العلم الباطني.(160/26)
ثم يسقطون عنه حرمة الزنا، ويسمونه المشهد الأعظم ونهاية الفوز، وإن إحلال الزنا هو دخول الجنة، ويتلو عليه قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ }( (68) السجدة: 1768). وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ }( (69) سورة الأعراف: 3269).ويفسر له الزينة هنا بأنها ما خفي من أسرار النساء التي لا يطلع عليها إلا المخصوص بذلك.
ويسلك به مسالك ملتوية، وفي نهايتها يبدأ بتطبيق ما تعلمه المدعو من جواز الفحش والفجور، وأن ذلك حلال، فيبدأ يطبق ذلك على زوجته فيبيحها للمدعو، ثم يحضر المشهد الأعظم وهو اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد وإطفاء السرج بعد أن تدار الكؤوس، وتحمى الرؤوس، ثم يتناهبون النساء ويسمون ذلك صيداً كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدم ( (70) ذكرها الديلمي في بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 11-15 .70).
وهكذا ينقضون الإسلام درجة درجة إلى أن يوهموا المدعو أنه أصبح فوق مستوى التكاليف لتعمقه في العلم ومعرفته لبواطن تلك الظواهر فيصل إلى تحقيق قول الله تعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}( (71) الحجر:9971) ، وهو في الحقيقة يصل إلى حمأة الفساد والإفلاس من الدين ومشابهة البهائم والخروج عن الإنسانية المكرّمة، فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً، مات قلبه وضميره فهو أضل من البهائم، لأنها لا تعرف تلك المسالك الشيطانية التي وصل إليها هؤلاء المفسدون.
وينبغي أن تعلم أن ما قدمناه من ذكر تلك الحيل لا تتم على عجل، بل إنهم يدرسون الشخص دراسة لا نظير لها إذا وقع عليه اختيارهم، ولا ينبغي أن تفهم أن تلك التعليمات تلقى عليه بهذه البساطة التي عرضناها؛ بل إنه يمر بتعقيدات وتعليمات وصقل، قد يأخذ فيها مدداً طويلة أو قصيرة حسب ميوله وذكائه وتقبله، ولهذا يحكمون عليه قبضتهم.(160/27)
وهذا ما يفسره وقوف التابعين لهم في صفهم ودفاعهم عن هذه العقيدة، لا يهمهم حتى تقديم دمائهم في سبيل نشرها وعلوّ شأنها، وذلك لتشبعهم بتلك التعاليم الملتوية ومسخ فكر الداخل وتفريغه من كل علاقة إلا بهذا المذهب.
ولمزيد من التفاصيل عن حيلهم وخططهم في استجلاب الناس إلى دعوتهم وترتيبهم العميق الذي لا يدركه المدعو إلا بعد الإطاحة به- ننقل هنا ما باح به أحد علمائهم المعاصرين؛ حيث قال ما نصه:
((ولقد وُفّقت الحركة الإسماعيلية بين جهاز الدعاية الذي نظمته خير تنظيم، وبين نظام الفلك ودورته، فجعلوا العالم الذي كان معروفاً في عصرنا، مثل السنة الزمنية، والسنة مقسمة إلى اثني عشر شهراً، وإذاً فيجب أن يقسم العالم إلى اثني عشر قسماً، وسموا كل قسم جزيرة، وجعلوا على كل جزيرة من هذه الجزر داعياً هو المسئول الأول عن الدعاية فيها، وأطلقوا عليه لقب ((داعي دعاة الجزيرة)) أو ((حجة الجزيرة)).. إلى أن يقول:
((والشهر ثلاثون يوماً، ولذلك كان لكل داعي جزيرة ثلاثون داعياً نقيباً لمساعدته في نشر الدعوة، وهم قوته التي يستعين بها في مجابهة الخصوم، وهم عيونه التي يعرف بها أسرار الخاصة والعامة.
واليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، اثنتي عشرة ساعة بالليل، واثنتي عشرة ساعة بالنهار، فجعل الإسماعيلية لكل داع نقيب أربعة وعشرين داعياً منهم اثنا عشر داعياً ظاهرين كظهور الشمس بالنهار، واثنا عشر داعياً محجوباً مستتراً استتار الشمس بالليل.
وبعملية حسابية نجد أن عدد الدعاة الذين بثهم الإسماعيلية في العالم كان حوالي (8640) داعياً في وقت واحد، وذلك بخلاف عدد آخر من الدعاة لا يشملهم هذا، وهم الدعاة الذين يكونون دائماً في مركز الدعوة الرئيسي مع الإمام.(160/28)
علماً بأن لكل فئة من هؤلاء الدعاة عمل خاص لا يتعداه، حفظاً لنظام الدعوة وسريتها، فدعاة النهار الاثنا عشر في كل جزيرة كانوا يعرفون بالمكاسرين أو المكالبين، وهم أصغر طبقة في درجات الدعاة.
وعلى عاتق المكالب تقع مهمة مجادلة العلماء والفقهاء أمام جماهير الناس وكأنهم تلاميذ يريدون الإفادة من أساتذتهم دون أن يخالج الشك العلماء والفقهاء أو الجماهير المجتمعة للأخذ عن هؤلاء العلماء أو الفقهاء بأن من يجادله أو يناقشه مناقشة علمية عنيفة أنه من الدعاة –انظر إلى هذا الدهاء والمكر.
وفي أغلب الأحيان يظهر عجز العالم عن الجواب الصحيح، أو تبدو منه أخطاء فيسخر منه الداعي المكاسر ويتركه، وهنا تظهر عبقرية الداعي المكاسر، فيسرع إليه الناس يلتمسون منه الجواب الشافي عن الأسئلة التي طرحها، والموضوعات الني ناقش فيها العلماء.
ومن الظاهر أن الداعي المكاسر كان يختار اختياراً خاصاً، ولا يسمح له بالمكاسرة إلا بعد امتحان عسير وتجارب كثيرة، ونجد في بعض الكتب الإسماعيلية الشروط الواجب توفرها عند اختيار الداعي المكاسر، والخصال التي يجب أن يتحلى بها، من ذلك أن يكون من نفس البيئة التي سيكاسر فيها؛ ولد ونشأ بها حتى يكون معروفاً عند الجمهور، ويجب أن يكون حسيباً ونسيباً بين قومه ..إلى أن يقول:
((فإذا وثق داعي الجزيرة في شخص تتوفر فيه هذه الشروط شرع في تعليمه العلوم الإسلامية حتى يتبحر فيها! فإذا تم له ذلك أخذ يلقنه مسائل الخلاف بين المذاهب وآراء أهل الملل. والنحل كلها من فرق إسلامية وغير إسلامية، ويظهر له موطن الضعف في كل مذهب، وفي كل رأي.
ثم يعلمه كيف يجادل في اختلاف هذه الآراء، وكيف يناقش أصحابها فإذا تم له ذلك يبدأ الداعي في تدريبه على تفهم نفسية كل جماعة من الجماعات، وكيف يخاطب كل طائفة من الطوائف حتى يستميل الناس إليه.(160/29)
فإذا أتقن كل هذه الأمور وتدرب عليها ونجح فيها النجاح الملحوظ سمح له الداعي أن يكاسر ويجادل الفرق الأخرى دون أن يشعر أحد بأنه إسماعيلي المذهب، بل يجب أن يكتم ذلك كتماناً شديداً، ولذلك يجب أن يكون المكاسر ذكياً ذا فراسة حتى لا يخطئ في معرفة نفسية المجتمع أو تقدير الناس الذين يخاطبهم.
فإذا فرض ووجد المكاسر أمامه خصماً عنيداً أكثر منه علماً وتبحراً في مختلف الفنون وجب على المكاسر في هذه الحالة –أن يلج في المسائل الفلسفية العميقة التي لا حد لها، والتي لا يفهمها العامة، ويدخل معه في مناقشات باطنية هي من أخص خواص الفلسفة الإسماعيلية التي لا يعرفها غير الدعاة، وبذلك ينجو المكاسر من الظهور بمظهر الضعف أمام العامة، بل ربما عظم شأنه في أعينهم؛ لأنه يتحدث عن أشياء لا يفهمونها ولا يعرفون كنهها.
هكذا كان الداعي المكاسر أو الداعي المكالب الذي كانت مرتبته أقل مراتب النظام الإسماعيلي للدعاية، فإذا كان هذا هو شأن أصغر الدعاة استطعنا أن ندرك ما كان عليه أمر كبار الدعاة على اختلاف درجاتهم وتباين مراتبهم.
وفي حالة توصل الداعي المكاسر إلى إقناع أحد المستجيبين ممن يرغبون الوصول إلى معرفة الحقيقة يأخذه إلى أحد الدعاة الذين هم أعلى منه مرتبة، فيلاطفه ويفاتحه في لين ورفق دون أن يظهر له صفته المذهبية أو شيئاً من عقائده؛ بل يكتفي بإطلاعه على بعض المسائل المذهبية، ويلمح له ببعض التأويلات الباطنية التي لا ضير في كشفها.
فإذا أصر المستجيب على الاستزادة من المعرفة أحاله إلى الداعي المأذون، وهو من دعاة الليل الذي يبدأ بأخذ العهود والمواثيق، فإذا وثق بإخلاص المستجيب بدأ يكاشفه ببعض الأسرار الخفية التي لا ينفر منها، ويتدرج به حتى يطمئن الداعي المأذون إلى إخلاصه، ويطمئن المستجيب إلى الداعي ويثق به.(160/30)
عندئذ ينقله إلى الداعي الذي أرقى منه مرتبة، وهكذا يتدرج المستجيب بين الدعاة حتى يسمح له أخيراً بحضور مجالس داعي دعاة الجزيرة الذي له وحده الحق في أن يعلم الناس التأويلات الباطنية للدين والقرآن والحديث، كما يعلّم الدعاة فلسفة الدعوة المذهبية أي علم الحقيقة.
صحيح كان داعي الدعاة يلقي المجالس والأحاديث على العامة الذين أخذت عليهم العهود والمواثيق دون أن يصلوا بعد إلى درجة عالية في علوم الدعوة، ولكن هذا المحاضرات كانت بعيدة عن الأسرار الإسماعيلية العليا))( (72) أعلام الإسماعيلية ص 18- 24 تحت عنوان (( أسرار نظام الدعوة )) .72).
ثم ذكر بعد ذلك مراتب كبار الدعاة الذين كانوا يلازمون مركز الإمامة، وهي 16 مرتبة .
فانظر أخي الكريم إلى هذه الخطط الشيطانية، وانظر كيف يدخلون إلى قلوب الناس ويسرون فيهم سريان النوم.
ولك أن تعجب من حال المدعو وهم يقذفونه من شيخ إلى شيخ كأنه كرة في أيديهم دون أن يعلم الحال الذي سيوردونه عليه.
كما يحق لك أن تعجب من كثرتهم وتماسكهم؛ حيث ينتشرون في البلد الذي ينكب بهم مثل انتشار الجراثيم في الجسم السليم ثم يحكمون الطوق عليه ليقع فريسة هامدة أمامهم.
وكيف يدرسون نفسيات الناس وميولهم، ويعرفون كل شيء عنهم قبل الإقدام عليهم.
فأين دعاة الحق من مثل هذه التنظيمات؟! إن كثيراً منهم قد يجهل حتى أدنى الآداب التي يقابل بها الناس.
ولو عرضت الدعوة الصحيحة إلى الإسلام، ولو بقليل من هذه الخطط لكان للعالم الإسلامي شأن غير شأنه الموجود اليوم، فإن جودة عرض البضاعة تغري بشرائها.
ومن هنا نجد هذا الباطني يتمدح بهذا الجانب فيقول: ((وبفضل هذا التنظيم الدقيق انتشرت الدعوة الإسماعيلية بشكل لم تعهده أي دعوة إسلامية وغير إسلامية من قبل في جميع الأقاليم، وبين كل طبقات المجتمع على السواء)) ( (73) المصدر السابق ص 25 .73).(160/31)
الذي يهمنا من كلامه هذا هو الإشارة إلى دقتهم في التخطيط وحبك المؤامرات بغض النظر عن مبالغته في انتشار دعوتهم الخبيثة؛ فلقد انتشرت الدعوات الإسلامية الصحيحة انتشاراً لم تصل إلى القرب منها أية دعوة في العالم بأسره، ولم يثبت أصحاب أية دعوة في التمسك بمبادئهم ثبوت أصحاب العقيدة الصحيحة على مرِّ التاريخ.
* * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل السادس
عقائد الباطنية
يجد المتتبع لأخبار الباطنية ومذاهبهم تناقضاً ظاهراً، والسر في هذا التناقض يعود إلى أن أهل المذهب هم الذين أرادوا ذلك لكي تتضارب أخبارهم عند الناس، وبالتالي يستطيعون تكذيب ما يريدون مما ينقل عنهم بحجة أن الناس يكذبون عليهم.
ثم هم أيضاً لا يقوم مذهبهم إلى على هذا التلون الكثير، ومن هنا قال الغزالي: ((والذي قدمناه في جملة مذهبهم يقتضي لا محالة أن يكون النقل عنهم مختلفاً مضطرباً، فإنهم لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد، بل غرضهم الاستتباع والاحتيال، فلذلك تختلف كلماتهم، ويتفاوت نقل المذهب عنهم))( (74) فضائح الباطنية ص 38 .74).
ومهما كان الحال فإن عقائد الباطنية هي مجموعة أفكار ملفقة من مذاهب شتى، وكلها خبط واضطراب، ومن عجيب أمرهم أنهم يستدلون على كفرهم ومحاربة الإسلام ببعض الآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث مختلقة مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث صحيحة يحرفون معانيها، ويؤولونها على وفق اعتقاداتهم الإلحادية، وكل عقائدهم ترجع إلى:
1- إنكار وجود الله تعالى.
2- جحد أسمائه وصفاته.
3- تحريف شرائع النبيين والمرسلين ( (75) انظر الفرق والأديان والمذاهب المعاصرة ص 210 .75).
وفي كل ذلك يتسترون:
1- إما بالتشيع لآل البيت.
2- وإما بزعم التجديد والتقدم.
وغير ذلك مما يختلقون من الشعارات والأكاذيب المخترعة.
أولاً: عقيدتهم في الألوهية:(160/32)
فقد اختلفت مذاهبهم فيه على درجات من الكفر والإلحاد كما اتضح من خلاصة معتقداتهم ( (76) انظر فضائح الباطنية ص 39- 40 .76).
فذهب قسم منهم إلى القول بوجود إلهين، لا أول لوجودهما من حيث الزمن، إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني، واسم العلة السابق، واسم المعلول التالي، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه، وقد يسمون الأول عقلاً، والثاني نفساً تخرصاً وكذباً.
بل قالوا: إن السابق والتالي هما المراد باللوح والقلم، واستدلوا من القرآن الكريم بما جاء فيه من صيغة الجمع مثل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا }( (77) سورة الحجر: 977)، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ }( (78) سورة الزخرف: 3278).
قالوا: ولولا أن معه إلهاً آخر له العلو أيضاً لما ورد قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}( (79) سورة الأعلى:179) ، قالوا وهما أيضاً: الرحمن الرحيم( (80) فضائح الباطنية ص 40 .80).
ولا شك أن هذا يدل على مدى جهلهم بلغة العرب لأنهم من فارس، وبعضهم لم يتقن العربية، وإلا لعلموا أن هذا الخطاب ((إنا)) أو ((نحن)) إنما هو من باب التعظيم، والله عز وجل له العظمة المطلقة.
وقد ذكر مصطفى غالب –باطني من أهل سلمية- خلاصة معتقدهم في الخالق عز وجل فقال:
((ولما كان الله فوق العالم وهو غير محدود، فلا يمكن أن يخلق العالم مباشرة وإلا اضطر إلى الاتصال به مع أنه بعيد عنه، لا ينزل إلى مستواه، ولما كان واحداً فلا يمكن أن يصدر عنه العالم المتعدد، ولا يستطيع أن يخلق الله العالم، لأن الخلق عمل وإنشاء شيء لم يكن، وذلك يستدعي التغير في ذات الله والإله لا يتغير))( (81) الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة ص 96 .81).
ومعنى هذا الكفر أن الله علة العالم وسبب وجوده فقط، وأن الله فوق العالم، ولا يستطيع أن يتصل به ويخلقه بنفسه مباشرة لأنه واحد، ويستنكف أن يباشر خلق الأشياء بنفسه لترفعه وعلوه وهذا من أعظم الجهل والغفلة.(160/33)
وذهب قسم آخر منهم إلى الاعتقاد أن علياًً رضي الله عنه هو الذي خلق السموات والأرض خالق محيي مميت مدبر للعالم، وأنه ظهر في صورة الناسوت –الناس- ليؤنس خلقه وعبيده ليعرفوه ويعبدوه، وقد أنشد بعضهم في سنة سبعمائة قوله:
أشهد أن لا إله إلا *** حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا *** محمد الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلا *** سلمان ذو القوة المتين( (82) مجموع الفتاوى ج35 ص 147 .82)
وذهب بعضهم إلى أن الله تعالى لا يصح وصفه بأنه موجود ولا معدوم، ولا معلوم ولا مجهول، ولا موصوف ولا غير موصوف، ولا قادر ولا غير قادر...وهذا ما يقصده مصطفى غالب حين قال:
((وتحدّث الفلاسفة الإسماعيليون عن وجود الله تعالى، فأثبتوا ضرورة وجوده عن طريق ليسيّته، وضرورة استناد الموجودات واحتياجها إلى موجد، ونفوا عن الله الأيسية كما نفوا عنه الليسية، وقالوا: إن الله لا يمكن أن يكون ليساً ولا أيساً، أي إنه لا يصح أن يكون الله غير موجود ولا أن يكون موجوداً من نوع الموجودات التي وجدت عنه، ويطلق عليه اسم المبدع الأول، والعقل الأول، والمحرك الأول...
ويأتي بعده في ترتيب العقول، العقل الثاني الذي وجد عن طريق الانبعاث...)) إلى آخر تقسيمه الطويل الممل.(160/34)
إلى آخر خرافاتهم وإلحادهم وغرضهم نفي وجود الله تعالى بوجه يدق على عوام الناس، يكون ظاهره التنزيه، والغرض الحقيقي نفي وجود الله عز وجل، إذ لا يمكن أن تصدق تلك الأوصاف إلا على معدوم، ومثل هذه المزاعم معلوم بطلانها من دين الإسلام بالضرورة، فلا خالق إلا الله عز وجل كما هو معلوم عند أصحاب كل الأديان، وعليّ وغيره في هذا الكون مخلوق لله، أوجده بعد أن لم يكن، لا يملك أحد لنفسه ضراً ولا نفعاً. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}( (83) سورة الزمر:6783).
ثانياً: اعتقادهم في النبوات:
يجحد الباطنيون النبوات، وينكرون المعجزات، ويزعمون أنها من قبيل السحر والطلاسم، ويفسرون النبوة بأنها عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بواسطة التالي قوّة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش عند الاتصال بالنفس الكلية بما فيها من الجزئيات، كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية في المنام حين تشاهد في مجاري الأحوال في المستقبل إما صريحاً بعينه أو مدرجاً تحت مثال يناسبه مناسبة ما، فيفتقر فيه إلى التعبير، لأن النبي هو المستعد لذلك في اليقظة ( (84) فضائح الباطنية ص 41 .84).
ويزعمون أن هذه القوة القدسية الفائضة على النبي لا تستكمل في أول حلولها، كما لا تستكمل النطفة في الرحم إلا بعد تسعة أشهر، فكذلك هذه القوة كمالها أن تنتقل من الرسول الناطق إلى الأساس الصامت ( (85) فضائح الباطنية ص 41 .85).
ومن هذا التصور الرديء اعتقدوا أن جبريل عبارة عن العقل الفائض على النبي لا أنه شخص يتنقل من علو إلى سفل.
وعلى هذا فهم يعتقدون أن القرآن الكريم تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه من العقل الذي هو جبريل، وسمي كلام الله مجازاً.(160/35)
ومن اعتقاداتهم التي بينها الغزالي أنهم قالوا: كل نبي لشريعته مدة، فإذا انصرمت مدته بعث الله نبياً آخر ينسخ شريعته. وحددوا لشريعة كل نبي سبعة أئمة ( (86) حددها الغزالي بسبعة أعمار أي سبعة قرون ، ولعل التحديد بسبعة أئمة أوضح ، إذا إنهم بنوا نسخ الشرائع وقيام القيامة بعد الإمام السابع دائماً .86)، أولهم النبي الناطق، ثم الأساس الصامت، ثم السوس, ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله، ومعنى الصامت أن يكون قائماً على ما أسسه غيره.
قالوا: ولكل نبي سوس، والسوس هو الباب إلى علم النبي في حياته والوصي بعد وفاته، والإمام لمن هو في زمانه، ومن هنا زعموا أن آدم سوسه شيئاً، وهو الثاني، ويسمى من بعده متماً ولاحقاً وإماماً، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وسوسه علي بن أبي طالب، وقد استتم دوره بجعفر بن محمد .
فإن الثاني من الأئمة الحسن بن عليّ، والثالث الحسين بن علي، والرابع علي بن الحسين، والخامس محمد بن علي، والسادس جعفر بن محمد، وقد استتموا سبعة معه، وصارت شريعته ناسخة، وهكذا يدور الأمر أبد الدهر ( (87) فضائح الباطنية ص 42- 44 ، وقد قال – بعد أن ذكر أشياء كثيرة تركتها اختصاراً واكتفاء بما ذكرته – قال : (( هذا ما نقل عنهم مع خرافات كثيرة أهملنا ذكرها ضنة بالبياض أن يسود بها )) .87).
وفي مثل هذه الضلالات يقول علماؤهم :
((ويعتبر الإمام محمد بن إسماعيل أول الأئمة المستورين والناطق السابع، لأن إمامته كانت بداية دور جديد في تاريخ الدعوة الإسماعيلية، قام بنسخ الشريعة التي سبقته، فجمع بين النطق والإمامة، ورفع التكاليف الظاهرية للشريعة، فنادى بالتأويل واهتم بالباطن)) ( (88) أعلام الإسماعيلية ص 450 .88).
إلى أن يقول حاكياً عن أحد دعاتهم في ضمن فضائل محمد بن إسماعيل: ((وعطلت بقيامه ظاهر شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ))( (89) المصدر السابق ص 453 .89).(160/36)
ووصف مصطفى غالب محمد بن إسماعيل بأنه القيامة الكبرى ( (90) المصدر السابق ص 452 .90)، لاكتمال الدور به، والابتداء من جديد.
ويقول النوبختي وهو من أعرف الناس بهم:
((وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذي أمر فيه بنصب علي بن أبي طالب عليه السلام للناس بغدير خم، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في علي بن أبي طالب، واعتلوا في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه، فعليّ مولاه))، وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة، وتسليم منه في ذلك لعلي بن أبي طالب بأمر الله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان مأموناً لعلي محجوجاً به ...)) إلى أن يقول:
((وزعموا أن محمد بن إسماعيل حيّ لم يمت، وأنه في بلاد الروم، وأنه القائم المهدي، معنى القائم عندهم أنه يبعث برسالة وشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ... )) إلى أن يقول:
(( واعتلوا في نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وتبديلها بأخبار رووها عن أبي عبد الله جعفر بن محمد أنه قال: ((لو قام قائمنا علمتم القرآن جديداً)).
وأنه قال: ((إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)) ونحو ذلك من أخبار القائم))( (91) فرق الشيعة ص 64 – 95 .91).
وسبب نقل هذا الكلام إنما هو لإيضاح إصرار الباطنية على نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن ما يظهره مصطفى غالب وغيره من عتاة الباطنية من التلاعب بمعاني الكلام إنما هو خداع للناس وستر لهذه العقيدة الخبيثة التي ترد ما أخبر الله به من إتمام الدين إلى أن تقوم القيامة وينتهي هذا الكون ومن فيه ولا يبقى إلا وجه الله عز وجل.
ولا يخفى على القارئ اللبيب ما في آخر كلام النوبختي من عبارات تتفق مع هوى الشيعة الغلاة منهم حول القرآن الكريم.(160/37)
وأما استدلالهم بأن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، بمعنى يظهر شخص ينسخه، فلا شك أنه كلام يدل على قصر عقولهم، فإن الإسلام والحال ما ذكروا لا يبقى غريباً فقط بل إنه لا يبقى له أي وجود...فكيف يسمونه غريباً وقد انمحى ونسخ، وحاشا أن يتم ذلك.
وكلامهم إنما هو تأويل للحديث، وكذب على الله ورسوله أن يكون المراد من معنى الحديث ما ذكروا، بل إنه يدل على قلة المتمسكين به والعاملين بأحكامه وتعاليمه كما كان في بدء أمره كذلك.
وأما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يبشر في هذا الحديث بنسخ شريعته، فإنه لا حقيقة لهذا المقصود إلا في أفهام سخفاء العقول.
وأوَّلوا معجزات الأنبياء تأويلات باطنية، فثعبان موسى أي غلبته عليهم، وإظلال الغمام أي الإمام الذي نصبه موسى لإرشادهم، ومعنى عدم الأب لعيسى أنه لم يأخذ العلم عن إمام مستور معصوم، وإنما استفاد العلم من الله بغير واسطة والجن الذين ملكهم سليمان باطنية ذلك الزمان، والصيام الإمساك عن كشف السر.
في تخرصات وتلفيقات يطول ذكرها، ولا خير من وراء بحثها وإنما هي الإشارة إلى التحذير من مسالك هؤلاء، ومن أفكارهم وعباراتهم الخادعة، فلا ينبغي أن يهدر الوقت في التعمق في دراسة هذه الأفكار والردود عليها.
وقد أورد الغزالي في الباب الخامس من كتابه ((فضائح الباطنية)) أمثلة كثيرة لتلك التأويلات في فصلين :
* الفصل الأول: في تأويلاتهم للظواهر.
* الفصل الثاني: في استدلالهم بالأعداد والحروف وبيّن زيف أقوالهم في عدة صفحات( (92) انظر من ص 55- 72 ، وانظر ما كتبه الديلمي عنهم في كتابه (( بيان مذهب الباطنية وبطلانه )) ص 35- 36 ، وما كتبه يحيى بن حمزة العلوي في كتابه (( الإفحام )) .92)(160/38)
وكذا الديلمي في كتابه " بيان مذهب الباطنية وبطلانه " ويحيى بن حمزة العلوي في كتابه ((الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام)). كل هؤلاء وغيرهم من علماء الفرق قد ذكروا أمثلة ومناقشات لدحض أقوال الباطنية، تحتاج إلى دراسة خاصة ووقت متسع لها.
ثالثاً: اعتقادهم في الآخرة:
اتفق كلمة الباطنية على إنكار الآخرة التي جاء الإسلام بتفاصيل بيانها، وأوَّلوا القيامة في القرآن والسنة، وقالوا بأنها رموز تشير إلى خروج الإمام، وقيام قائم الزمان –إمام العصر-، السابع الناسخ للشرع المغير للأمر كما يصفونه، وقالوا أيضاً: إن معنى القيامة انقضاء الدور.
وأنكروا بعث الأجسام والجنة والنار، وقالوا: ((إن معنى المعاد هو عود كل شيء إلى أصله، وأن الإنسان مركب من عالم روحاني وعالم جسماني، فالجسماني منه جسده، وهو مركب من الأخلاط الأربعة وهي: الصفراء، والسوداء، والبلغم، والدم فيتحلل الجسد ويعود كل خلط إلى طيبعته...
فالصفراء تصير ناراً، والسوداء تصير تراباً، والدم يصير هواءً، والبلغم يصير ماءً). وهذا هو المعاد الجسدي عندهم، فلا تعود الحياة إلى الأجساد بعد الموت.
أما الروحاني، وهو النفس المدركة العاقلة من الإنسان فإنها إن صفيت بالمواظبة على العبادات، وزكيت بمجانبة الهوى والشهوات، وغذيت بغذاء العلوم والمعارف المتلقاة عن الأئمة الهداة اتحدت عند مفارقة الجسم بالعالم الروحاني الذي كان منه انفصالها، فتسعد بذلك وهذا هو جنتها ( (93) انظر فضائح الباطنية ص 45 . وانظر بيان مذهب الباطنية وبطلانه ص 37 .93) .
بهذه الخرافات فسروا المعاد الأخروي، ولا شك أنها مأخوذة عن مذاهب الهندوس والبوذيين؛ ولذلك أجمع هؤلاء الباطنيون على القول بالتناسخ الموجود عند البراهمة والبوذيين، وصبغوه في الظاهر بالإسلام فصار الكلام مسلماً والفكر هندوسياً وبوذياً ووثنياً.(160/39)
وقد أكثر الشيخ إحسان إلهي –رحمه الله- من النقول عن كتب الباطنية، وتأويلاتهم لأخبار القيامة بما لا يتسع لاستقصائه المجال هنا ( (94) في كتابه (( الإسماعيلية تاريخ وعقائد )) .94).
رابعاً: اعتقادهم في التكاليف الشرعية:
يتميز مذهب الباطنية بأنه من أشد المذاهب استحلالاً للمحرمات، وأوغل في الإباحية البهيمية، وأكثر تفلتاً عن القيام بالتكاليف الشرعية وتبرماً منها، مع أنهم لا يتظاهرون أمام العامة بترك التكاليف إلا فيما بينهم.
وأما ظاهر مذهبهم فهو لزوم القيام بالتكاليف، بل وأحياناً بعضهم يبالغ في إيجاب أشياء لم تجب ليظهروا بمظهر الزهاد والعباد، وليستفيدوا من جهة أخرى، إرهاق الناس بكثرة التكاليف لتضيق صدورهم بها.
وفي مقابل ذلك يركز هؤلاء الفجار على مسامع الناس أن الخروج من تبعة هذه التكاليف أمر ميسر لكل أحد أراده.
وحينما يشتاق الشخص إلى معرفة هذا الأمر لا يجودون به عليه إلا بعد مراحل واختبارات عديدة ليشعر المدعو فعلاً أنه قد وصل إلى السر بعد تعب واجتهاد.
ومعرفة هذا السر يكون بطلب التابع لهم رتبة الكمال في العلوم التي تؤخذ –بشرط- من نواب الإمام المعصوم المستور. وعلى الشخص أن يجتهد ويسعى في العبادة في أثناء تلقيه لذلك إلى أن يصل إلى رتبة الكمال- وهي في الحقيقة رتبة منتهى الجهل والغفلة-، محباً للشهوات والفواحش على حد ما أخبر به النوبختي، حيث قال وهو يعدد عقائد الباطنية:
((وإن الله تعارك وتعالى جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم صلى الله عليه وسلم، ومعناها عندهم الإباحية للمحارم وجميع ما خلق في الدنيا، وهو قول الله عز وجل: {وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ }( (95) سورة البقرة: 3595)))( (96) فرق الشيعة ص 95 .96) .(160/40)
هذا بالإضافة إلى أنهم يعمقون في ذهن الشخص أن القيام بهذه التكاليف والمنع والإباحية إنما تستهدف من ورائها فائدة واحدة وهي استنهاض همة القلب ليصل إلى معرفة بواطن هذه الأمور، فإذا لم يكن كذلك فإن عليه أن يبقى في عداد الجهال الذين هم مثل الحمير التي لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة ( (97) انظر فضائح الباطنية ص 47 ، وانظر فرق الشيعة للنوابختي ص 9697).
في زخرف من القول أخذوه من شتى المذاهب، حيث أخذوا من كل مذهب شرّ ما فيه.
ولقد كان للرافضة عليهم فضل كبير، فقد أخذوا عنهم فكرة الإمام المعصوم المستور، وأنه لا حق إلا ما خرج عن الأئمة، وكذا تحريف الآيات على حسب هواهم، ودعوى وجود الإمام الصامت والناطق، ونسخ الشريعة الإسلامية بمجيء مهدي الشيعة ومجيء الإمام السابع من الأئمة المستورين عند الباطنية، وأشياء كثيرة لا تخفى على القارئ الكريم، وقد ذكر أكثرها في دراستنا للشيعة سابقاً.
فهذا الكليني يفسر قول الله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}( (98) سورة الحج: 4598)، عن موسى بن جعفر أنه قال: ((البئر المعطلة الإمام الصامت، والقصر المشيد الإمام الناطق)) ( (99) الكافي ج1 ص 353 .99).
والوالدين اللذين ذكرهما الله في قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}( (100) سورة لقمان: 14100)، فسرها الكليني فيما يزعم عن عليّ رضي الله عنه قال: ((الوالدان اللذان أوجب الله لهما الشكر هما اللذان ولدا العلم وورثا الحكم وأمر الناس بطاعتهما)) ( (101) الكافي ج1 ص 354 .101).
وعن الظاهر والباطن في النصوص يقول الكليني: ((إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق)) ( (102) الكافي ج1 ص 305 .102).(160/41)
وللطوسي في كتابه ((الغيبة)) مثل هذا التأسيس الباطني( (103) انظر كتاب الغيبة ص96103)، بل وبالغ الطوسي، وافترى –كما يبدو- على جعفر بن محمد أنه قال: ((حقيق على الله أن يدخل الضلال الجنة، فقال زرارة: كيف ذلك جُعلت فداك؟ قال: يموت الناطق، ولا ينطق الصامت، فيموت المرء بينهما فيدخله الله الجنة)) ( (104) كتاب الغيبة ص277 .104).
وإذا كان على حسب هذه الرواية كل من مات بين موت الناطق وسكوت الصامت (أي بين موت الرسول صلى الله عليه وسلم وسكوت علي) فكان ينبغي على الشيعة أن يقولوا بدخول الصحابة جميعهم الجنة وهم لا يقولون بذلك، وهذا جزء من تناقضهم، وهو من الأدلة على رغبتهم في تأسيس المذاهب الهدامة التي تخرج المسلم عن دينه.
ولقد انتفع الباطنيون كثيراً بمثل هذه الاعتقادات التي كوَّنوا منها ومن غيرها مذهبهم الرديء الذي خرج بسببه الآلاف المؤلفة من الناس عن دينهم.
* * * * * * * * * * * * * ** **
الباب السادس
النصيرية
الفصل الأول
تمهيد في بيان خطر النصيرية
النصيرية هي إحدى الفرق الباطنية الغلاة، ظهرت في القرن الثالث للهجرة انشقت عن فرقة الإمامية الاثني عشرية.
والنصيريون كغيرهم من أعداء العقيدة الإسلامية الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، إذ لم تمر بهم فرصة دون أن يهتبلوها في إيقاع أكبر الأذى بالمسلمين، والنصيريون حينما يوقعون الأذى بالمسلمين دون هوادة أو رحمة، يعتقدون في نفس الوقت أنهم يثابون على ذلك، فكلما أوغل الشخص منهم في إلحاق الأذى بالمسلمين كلما زاد ثوابه حسب اعتقادهم، وهذا ظاهر في غلظتهم ومعاملتهم للمسلمين.(160/42)
وأقرب مثال على مواقف النصيريين في العصر الحاضر ما يجري في أماكن المسلمين في سوريا ولبنان من تقتيلهم الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ثم وقوفهم كذلك في صف المارونيين والخمينيين. ولقد هيأ هؤلاء للتتار قديماً وللصليبيين الفرص لذبح المسلمين وإنزال أفدح المصائب بهم، مما لم يسمع بمثله باعتراف كتَّاب النصيرية أنفسهم.
وما من فتنة تثور ضد المسلمين من أهل السنة إلا وهؤلاء النصيريون في خندق واحد مع عدو المسلمين ضد المسلمين، وكم ذهبت من أنفس واستبيحت من أعراض بسبب دسائس النصيرية وتآمرهم في وقائع تقشعر منها الجلود، وبينهم وبين اليهود والنصارى مودة وبينهم تشابه في كثير من المعتقدات تجد مصداق هذا وقائع حرب الأيام الستة كما يسمونها فما حصل منهم فيها إنما هو دليل من الأدلة الكثيرة على مواقف النصيرية تجاه أهل السنة وعدائهم لهم ولأسلافهم الأخيار مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وغيرهم من فضلاء الناس بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
ولا يزال القارئ الكريم يذكر ما قدمنا نقله عن علماء السنة وشهاداتهم بما فعله النصيريون والباطنيون عموماً بالمسلمين على مختلف العصور حين تمكنوا من إلحاق الأذى بأهل السنة، وكيف كانوا يتحولون إلى وحوش ضارية لا تدخل الرحمة إلى قلوبهم لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيراً.
لقد انطوى هؤلاء على كفر وإلحاد وخرافات تجعل الإنسان ييأس تمام اليأس أن يعود هؤلاء إلى رشدهم، وإذا شئت الاطلاع على مصداق هذا فاقرأ كتابهم ((الهفت الشريف)) بتحقيق علمائهم في هذا العصر، الذي يزعمون أنهم تحرروا من كل الخرافات وأنهم أصحاب إنصاف وتحقيق، ونورد لك أخي القارئ دليلاً واحداً مما جاء في هذا الكتاب المفضل لديهم حيث قال:(160/43)
((إن الحسين لما خرج إلى العراق وكان الله محتجباً به، وصار لا ينزل منزلاً صلوات الله عليه إلا ويأتيه جبريل فيحدثه، حتى إذا كان اليوم الذي اجتمعت فيه العساكر عليه، واصطفت الخيول لديه وقام الحرب( (1) هكذا في الأصل . 1)، حينئذ دعا مولانا الحسين جبريل وقال له: يا أخي –انظر الله يقول لجبريل يا أخي! – من أنا؟
قال: أنت الله الذي لا إله هو الحي القيوم والمميت والمحيي، أنت الذي تأمر السماء فتطيعك والأرض فتنتهي لأمرك والجبال فتجيبك والبحار فتسارع إلى طاعتك، وأنت الذي لا يصل إليك كيد كائد ولا ضرر ضار)) إلى أن قال عن جبريل وهو يخاطب عمر بن سعد القائد الأموي الموجه لحرب الحسين قائلاً له: ((ويحك تقتل رب العالمين وإله الأولين والآخرين وخالق السموات والأرض وما بينهما، فلما سمع عمر بن سعد ذلك أخذه الخوف))( (2) الهفت الشريف ، اقرأ من ص 96 إلى ص 102 لترى العجائب . 2) إلى آخر ترهاتهم التي تدل على عمق جهلهم وبدائيتهم.
ويسب صاحب الهفت عمر رضي الله عنه وينسبه إلى أنه كان في زمن الحسين في صورة كبش عن طريق التناسخ فدى الله به الحسين من الذبح، وذُبح هو أي عمر الذي سماه ((دلامة)) أو أدلم، فقال عن الصادق عن المفضل أنه قال له: يا مفضل إن الكبش الذي فدي به الحسين كان الأدلم أدلم قريش وهو يومئذ شيخ في تركيب كبش)). ثم زعم أن قرني هذا الكبش معلقان في الكعبة.
((أما رأيت يا مفضل قرنيه في البيت الحرام معلقين؟ قلت: نعم يا مولاي، قال: فذاك القرنان لذلك الكبش الذي فدي به الحسين. ثم ضحك الصادق حتى بدت نواجذه، قلت: يا مولاي ما الذي أضحكك؟ قال: يا مفضل إن الناس إذا اجتمعوا بالموسم بمكة المكرمة رغبوا أن ينظروا إلى قرني الكبش تعجباً لأنه من الجنة، ونحن نقوم بالنظر إليهما تعجباً أنهما قرنا دلامة، فالناس يتعجبون من شيء ونحن نتعجب من شيء خلافه)) ( (3) الهفت الشريف ص 94 . 3).(160/44)
وما أدري ما الذي يقصد هذا المجوسي بقرني الكبش المعلقين بالكعبة فما رأينا أي قرن ولا حكى أحد من الناس أنه رأي هذين القرنين. وفي هذا العصر خرجت مرة كتائب الباطنية النصيرية في حماة ((وهي تملأ أجواء الفضاء بذلك الهتاف الذي لن تنساه حماة)) ((هات سلاح وخذ سلاح دين محمد ولى وراح)) ( (4) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 110 . 4).
وهذه جريدة الثورة أحفاد الوثنية النصيرية تكتب ((الله والأنبياء والكتب المقدسة كلها محنطات ينبغي تحويلها إلى متاحف التاريخ))( (5) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 110 . 5) وذاك النشيد وهذا التصريح وقع حينما اقتحم اليهود الصهاينة المسجد الأقصى وهم يرددون ((محمد مات خلف بنات فليسقط الإسلام))( (6) الإسلام في مواجهة الباطنية ص 110 .6).
* * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثاني
(زعيمهم) وسبب انفصاله عن الشيعة وموقفهم منه
تنتسب هذه الطائفة إلى زعيمهم محمد بن نصير النميري، وكنيته أبو شعيب، وكان من الشيعة الاثني عشرية، وأصله من فارس، ثم انفصل عنهم إثر نزاع بينه وبينهم على ثبوت صفة الباب له، حيث ادعى أنه الباب إلى المهدي المنتظر فلم تقرّ له الإمامية بذلك فانفصل عنهم وكوّن له طائفة وقد ظل زعيماً لطائفته إلى أن هلك سنة 260هـ، وبعضهم يذكر أنه في سنة 270هـ وقد كان فيما يقول علماء الفرق –مولى للحسن العسكري- الإمام الحادي عشر للشيعة الاثني عشرية- ولقد كان للحسن العسكري موقف شديد منه ومن آرائه الكفرية.
لقد صار ابن نصير داخلاً في قسم كل نصيري، وهو قسم مملوء بالشرك والإلحاد، وهو يشير بكلمات موجزة إلى ديانتهم وما فيها من الاعتقادات، لا يعرفها إلا من توسع في دراسة هذه الطائفة ووقف على مخازيهم بمداخلته لهم، وهذا القسم هو كما يأتي: ((أني وحق العلي الأعلى وما أعتقده في المظهر الأسنى، وحق النور وما نشأ منه، والسحاب وساكنه، وإلا برئت من مولاي عليّ العلي العظيم وولائي له ومظاهر الحق.(160/45)
وكشفت حجاب سلمان بغير إذن وبرئت من دعوة الحجة ابن نصير، وخضت مع الخائضين في لعن ابن ملجم، وكفرت بالخطاب - أي بالديانة والدعوة- وأذعت السر المصون وأنكرت دعوى أهل الحق، وإلا قلعت أصل شجرة العنب من الأرض بيدي حتى اجتثت أصولها وأمنع سبيلها، وكنت مع قابيل على هابيل، ومع النمرود على إبراهيم.
وهكذا مع كل فرعون قام على صاحبه إلى أن ألقى العلي العظيم وهو عليّ ساخط وأبرأ من قول قنبر وأقول إنه بالنار ما تطهر))( (7) العلويون أو النصيرية ص3 . ولعله لإحراقه الذين ألهوا علياً .7). وستتضح معاني هذا القسم من خلال دراستنا لهذه الطائفة، وحين بنى ابن نصير ديانته على الالتصاق بالحسن العسكري، وإنه الباب إلى ابنه المزعوم محمد بن الحسن العسكري، كان الحسن العسكري شديد التحذير منه شديد السخط عليه حيث كتب إلى أحد أتباعه قائلاً له ومحذراً من أفكار ابن نصير وفجوره:
((إني أبرأ إلى الله من ابن نصير النميري، وابن بابا القمي فأبرأ منهما، وإني محذرك وجميع موالي ومخبرك أني ألعنهما عليهما لعنة الله فتانين مؤذيين، آذاهما الله وأرسلهما في اللعنة وأركسهما في الفتنة))( (8) المصدر السابق ص4 . 8).
والسبب في لعنه إنما كان في دعوى ابن نصير النبوة ودعوى الألوهية لأهل البيت وغير ذلك من المبادئ والاعتقادات الوثنية المجوسية، وقد نقل عبد الحسين عن القمي وصفه لابن نصير بأنه كان فاحشاً وشاذا جنسياً بالتعبير الحديث، حيث أجاز اللواط وسائر المحرمات مدعياً أن ذلك من التواضع والتذلل في المفعول به...إلى آخر ما وصف به من صفات شنيعة( (9) العلويون أو النصيرية ص21. نقلاً عن مقالات القمي ص 100 .9) لا نحب ذكرها هنا.(160/46)
ولكن في الهفت الشريف نفي هذا تماماً، وأنه لا يقع من مؤمن منهم، بل يقع على من أبغض علياً فقط كما يرويه المفضل( (10) الهفت الشريف ص 140 . 10) الجعفي، وقد أجمعت كتب الشيعة على ذكر دعوى ابن نصير أنه الباب ثم النبوة ثم القول بألوهية علي، وإباحية المحارم، والقول بالتناسخ كما استوعب عبد الحسين الشيعي أخباره في كتابه ((العلويون أو النصيرية)) نقلاً عن أهم مصادرهم مثل سعد القمي( (11) المقالات والفرق . 11)، والنوبختي( (12) فرق الشيعة . 12) ، وأبو عمر الكشي( (13) رجال الكشي . 13)، وأبو جعفر الطوسي( (14) رجال الطوسي وكتاب الغيبة . 14) ، والحلي( (15) الرجال . 15) والطبرسي( (16) الاحتجاج . 16)، والدكتور مصطفى الشيبي( (17) الصلة بين التصوف والتشيع . 17).
وبعد ذلك حاول جاهداً البراءة من النصيرية، ومن ابن نصير وجميع أفكاره ومعتقداته، حتى وإن كان له صلة الصحبة بالحسن العسكري ثابتة في كتب الشيعة، إلى أن مات الحسن العسكري ثم قيام ابن نصير بدعوى الباب إليه منكراً وكلاء الإمام محمد بن الحسن العسكري( (18) يدعي الاثنا عشرية أن محمد بن الحسن العسكري بعد أن اختفى في السرداب كان له أربعة وكلاء بينه وبين الناس ، وهم عثمان بن سيد العمري ، محمد بن عثمان الخلاني ، الحسين بن روح النوبختي وعلي بن محمد السمري . 18). وهذا أهم الأسباب في نقمة الرافضة على ابن نصير واتهامهم له بشتى الاتهامات.(160/47)
ويؤكد أحد علماء الشيعة الاثني عشرية وهو محمد رضا شمس الدين الذي زار النصيرية سنة 1376هـ للتعرف على أحوالهم موفداً من أحد المراجع الدينية في النجف عبد الهادي الشيرازي؛ أن النصيرية لا يزالون إلى اليوم يتمسكون بأفكار زعيمهم محمد بن نصير، وذكر أنه حينما زارهم رحبوا به أجمل ترحيب، ولكنه لاحظ عدم اكتراثه بفرائض الدين من صلاة وحج وعدم وجود مساجد في منطقتهم، كما لاحظ أن فكرة تناسخ الأرواح لا تزال منتشرة بينهم وهم يسمونها تقمص الأرواح))( (19) ذكر هذا في كتابه العلويون في سوريا ص 54 نقلاً عن كتاب العلويون أو النصيرية ص 46 . 19).
ولاشك في صحة شهادة محمد رضا فإنه أعلم بهم((وشهد شاهد من أهلها)) فأي إسلام لهم بعد تركهم الصلاة والحج ومحاربة بناء المساجد، ثم القول بالتناسخ الذي هو قول المجوس عباد الأوثان. ومع هذا فإن أهل السنة في غفلة تامة عنهم.
ومن الجدير بالذكر أن الاثني عشرية قد توجهت نحو جميع فرق الباطنية النصيرية وغيرهم من سائر الغلاة- وجهة جديدة وهي احتواء جميع تلك الفرق وصهرها في بوتقة المذهب الاثني عشري؛ فقد نادوا بأن النصيرية العلوية هم شيعة أهل البيت وهو ما أكده الشيرازي منهم( (20) انظر : العلويون شيعة أهل البيت ، للشيرازي . 20) ووقوف العلويون إلى جانب الرافضة في عصرنا الحاضر أقوى شاهد.
* * * * * * * * * * * * * *
الفصل الثالث
أسماء هذه الطائفة والسبب في إطلاقها عليهم
أطلقت على هذه الطائفة أسماء بعضها يقبلونه وبعضها لا يقبلونه، ومنها:
النصيرية:
وهو الاسم الذي غلب على غيره من أسمائهم واشتهروا به، ومع هذا فإن النصيريين لا يحبون أن يسموا به ويتضايقون منه، ومن أسباب كراهيتهم له حسب تعليلاتهم:
1- أنه أطلق عليهم بسبب العصبية المذهبية، وبدافع من العداوة والمذهبية، حيث أطلقت هذه التسمية عليهم ذريعة لاضطهادهم كما يزعمون.(160/48)
2- زعموا أن الأتراك حينما كانوا مسيطرين على بلادهم أطلقوا عليهم اسم النصيرية نسبة إلى الجبال التي يسكنونها نكاية بهم واحتقاراً لهم، حتى جاءت فرنسا واستعمرت بلادهم فأطلقوا عليهم التسمية التي يحبونها والتي سنذكرها فيما بعد، ولهذا نجد أن النصيرية تدين لفرنسا بالولاء والتقدير، حيث أصدر الفرنسيون قراراً يقضي بتسمية جبل النصيريين بأراضي العلويين المستقلة تعميقاً لانفصالهم .
ويوجد تعليل آخر لسبب تسميتهم بالنصيريين: وهو لمستشرق يسمى –ريسو- فقد جعل تسميتهم النصيريين بهذا الاسم لوجود صلة بينه وبين تسمية نصارى أو نصراني ولعل الذي حمله على هذا القول هو ما رآه من المشابهة بين النصيريين والنصارى في كثير من التقاليد والطقوس الدينية، ومشاركة النصيريين للنصارى في كثير من أعيادهم، وتقديس كل منهم للخمر والوقوف إلى جانب بعضهم البعض في الأوقات الحرجة.
وما هو حاصل الآن في لبنان أقوى شاهد على هذا إلا أن هذا القول –وإن صدق في وجود التشابه- إلا أن الأقرب إلى الصواب أن هذه التسمية إنما أخذت من اسم مؤسس طائفتهم أبي شعيب محمد بن نصير البصري النميري( (21) طائفة النصيرية ص 23- 24 . 21) ، ولقد ذكر عبد الحسين تعليلاً آخر إضافة إلى ما تقدم وهو أن تسميتهم بالنصيرية قد علق بها تاريخياً ذم وتشنيع وتكفير ولهذا فهم يريدون أن يسدل عليها الستار( (22) العلويون ص8 . 22).
وما ذكره ريسو في سبب تسميتهم بالنصيرية يؤيده ما ذكره أيضاً عنهم الدكتور حسن إبراهيم حسن بقوله:
((وثمة تفسير آخر لا يزال مألوفاً عند السنيين الذين يجاورونهم، وهو أن لاسمهم صلة بلفظ نصراني أو نصارى، ومما يزكي هذا التفسير أن النصيرية لا يزالون يمارسون بعض طقوس النصارى، كالاحتفال ببعض الأعياد النصرانية مثل عيد الميلاد وعيد الفصح، ويعتبرونها من الأعياد الكبرى، كما أن بعضهم يحمل أسماء نصرانية مثل متى ويوحنا وهيلانة.(160/49)
وبالإضافة إلى المبادئ التي اقتبسها النصيرية من النصرانية فإن ديانتهم تحتفظ بقسط وافر من الأسرار، وما تزال تحتفظ بمعالم واضحة تنبئ عن معتقداتهم التي هي مزيج من عناصر غير متجانسة تماماً تقوم على أساس نظام ديني يتصل بعبادة النجوم والكواكب.
وقد اقتبست هذه التعاليم في القرون الأولى للعصر المسيحي بعض المبادئ الروحية عند المسيحيين، ويقوم نظام النصيرية على التجسد، ويدور حول هذه الأسماء الثلاثة التي تكون التثليث الشبيه بتثليث النصارى، ويتمتع هؤلاء بالوحدانية والخلود.
وهذه الأسماء الثلاثة التي يرمزون إليها في قائمة مذهبهم هو التي تكون تثليثاً شبيهاً بالتثليث الكائن في النصرانية، ويرمز إلى هذا التثليث عند النصيرية بحروف (ع.م.س) ويقولون: إن الله حلَّ في ثلاثة هم علي ويرمزون إليه بالمعنى، ومحمد ويرمزون إليه بالاسم، وسلمان الفارسي ويرمزون إليه بالباب)) ( (23) تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي 4/265، 267 ، انظر : العلويون ص 54 ، 55 . 23).
ومن الجدير بالذكر أن النصيريين وهم يكرهون إطلاق هذه التسمية عليهم إلا أنك تجد أن بعض علمائهم المتأخرين حينما رأى أن الناس لم يتركوا إطلاق هذه التسمية عليهم أحب فيما يبدو أن يجعل أصلاً مقبولاً لإطلاق تسمية النصيريين عليهم.
ومن ذلك ما ذكره النصيري محمد أمين غالب الطويل في تعليله لسبب إطلاق كلمة النصيرية عليهم؛ فهو يرى أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه حينما كان يقاتل في الشام طلب المدد فأتاه من العراق خالد بن الوليد، ومن مصر عمرو بن العاص، وأتاه من المدينة جماعة من العلويين وهم ممن حضروا بيعة غدير خم، وهم من الأنصار وعددهم يزيد عن 450 مجاهداً.(160/50)
ولما وصلت هذه النجدة والتحقت بالجيش نجح نجاحاً جزئياً فسميت هذه القوة نصيرة ثم سلمت لهم- بحكم قواعد الجهاد في تمليك الأراضي التي يفتحها الجيش إلى ذلك الجيش نفسه- فسلمت لهم الأراضي التي امتلكوها وهو جبل النصيرة، -وهو عبارة عن جهات جبل الحلو وبعض قضاء العمرانية المعروفة الآن، ثم أصبح هذا الاسم علماً خاصاً لكل جبل العلويين من جبال لبنان إلى الأنطاكية ( (24) طائفة النصيرية ص 35 . 24).
وهذا التعليل غير سديد لأمور، من أهمها أن إطلاق هذه التسمية لم تعرف في عصر عمر رضي الله عنه، ثم ما كان المسلمون لينظروا إلى هذه الطائفة التي جاءت من المدينة وينسبوا النصر إليهم، ثم كيف تناسوا جهود بقية الجيش، ثم وكيف تطيب نفوس الصحابة بترك الجهاد وتسلق جبال النصيرية يمتلكونها.
أضف إلى هذا أنه ما كان في عهد الخلفاء الراشدين من يسمون بالعلويين كحزب، وإنما نشأ الخوارج والشيعة في عهد علي رضي الله عنه وبدأ التحزب في أواخر عهد علي رضي الله عنه ونشأت النصيرية في القرن الثالث.
وما زعمه بأنهم كلهم حضروا غدير خم يقال له: إن الصحابة ما كانوا ينظرون إلى من حضر غدير خم إلا كما ينظرون إلى سائر المسلمين فلم تعرف لهم مزية في زمن الخلفاء جميعهم ابتداءً بأبي بكر وانتهاءً بعلي رضي الله عنهم.
ويقال لهم أيضاً إنكم تكذبون بهذا القول بقية أسلافكم الشيعة الذين يحكمون على كل من حضر غدير خم بالردة إلا عدداً قليلاً استثنوهم حيث نشأ كفر أولئك من تركهم بيعة علي بالخلافة بعد ترشيح النبي صلى الله عليه وسلم له حسب معتقدهم.
2- ومن أسمائهم المحبوبة عندهم ((العلويون)):
وهم يحبون هذا الاسم ويتمنون أن يطلقه الناس عليهم وينسوا ما عداه من أسمائهم، وقد ذكر بعض العلماء أن هذه التسمية أخذت من عبادة هؤلاء لعلي رضي الله عنه وتأليههم له، وعلي بريء من إلحادهم مثل براءة جعفر بن محمد من مذهب الجعفرية.(160/51)
ويقول عبد الحسين عن ارتياحهم لهذه التسمية، ((وقد ارتاحوا لها لأنها في الأقل تخلصهم مما علق تاريخياً باسم النصيرية من ذم وتشنيع وتكفير، كما أنها تفتح لهم آفاق أرحب للتقارب مع الشيعة)) إلى أن يقول: ((ولاشك في أن الانتساب إلى الإمام على أي نحو كان أفضل من الانتساب إلى ابن نصير))( (25) العلويون ص 32 . 25).
3- وقد أطلق عليهم الأتراك اسم ((سورة ك)):
وبمرور الزمن صار الناس يلفظونها ((سوراك))، ومعناها عند الأتراك: المنفيون أو المساقون، ويوجد إلى هذه الأيام –كما يذكر الحلبي- بعض النصيريين في حلب وفي أقضية صهيون والعمرانية وصافيتا بهذا الاسم ( (26) تاريخ العلويين ص 342 طائفة النصيرية ص 35 . 26).
وقد سألت كثيراً من الأتراك عن هذا المفهوم ((لسوراك)) فلم يعرفوه، ولعلها لغة قديمة للأتراك ثم تركت.
4- ويطلق عليهم اسم (النميرية).
نسبة إلى محمد بن نصير النميري، ولهم أسماء أخرى محلية مثل ((التختجية)) ((الحطابون)) في غربي الأناضول والعلي إلهية في فارس وتركستان وكردستان)) ( (27) العلويون ص 31. 27).
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الرابع
نشأة النصيرية
تركت وفاة الحسن العسكري –الإمام الحادي عشر للاثني عشرية- دون عقب كما قدمنا أثراً ظاهراً وخلافاً حاداً بين الشيعة، فقد اختلفوا إلى 14 فرقة تقريباً بين مؤيد للقول بوجود ابن للحسن العسكري يسمى محمداً وناف لوجوده أصلاً.
ولما كان الزمان لا يخلو من وجود إمام معصوم يتولى تصريف شئون الناس، وإلا لتعطلت الحياة بزعمهم، وكان هذا الإمام غير ظاهر، فأوجدوا في أذهانهم فكرة ((الباب)) إليه، والباب شخص مخلص لآل البيت، يكون حلقة الاتصال بين الناس وبين الإمام المستور.(160/52)
ويستدلون على هذه البابية الخرافية بما يزعمون من روايات عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ((من طلب العلم فعليه بالباب))، ((أنا مدينة العلم وعلي بابها))، ومن هنا وضعوا قائمة بالأبواب أولهم علي بن أبي طالب، وهو باب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وسلمان الفارسي، وهو باب لعلي، وهكذا إلى الإمام الحادي عشر –الحسن العسكري.
ثم اختلفت كلمتهم، فادعى النصيريون أن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري لم يكن له باب، بل استمر الباب للإمام الحادي عشر- الحسن العسكري- أبو شعيب محمد بن نصير، ومن هنا وقع الخلاف بين النصيرية والإمامية الاثني عشرية، مما أدى إلى انفصاله وفرقته عن الاثني عشرية كما تقدم بيان ذلك.
ولقد أصبح مذهبه فيما بعد من أعمق المذاهب في الوثنية والغلو في البشر. قال عنه عبد الحسين العسكري: ((وقال ابن نصير بربوبية أبي الحسن العسكري، وزعم أنه نبي ورسول بعثه أبو الحسن)) ( (28) العلويون ص 15 ، وانظر : فرق الشيعة للنوبختي ص 78 . 28).
وبعد وفاة ابن نصير تناوب على زعامة النصيرية عدة أشخاص أثروا المذهب النصيري بأفكارهم وتنوع المعتقدات وتعدد الطرق والآراء، كان من أبرزهم أبو محمد الجنبلاني، وتلميذه الحسين بن حمدان الخصيبي، ومحمد ابن علي الجلي، وعلي الجسري، والميمون –ابن سرور بن قاسم الطبراني، وحسن المكزون السنجاري، وهو آخر مظهر لقوة النصيرية، قال الدكتور سليمان الحلبي عن الحال النصيرية بعد وفاته:
((وبعد وفاة الحسن المكزون تفرق النصيريون إلى عدة مراكز دينية غير مرتبطة ببعضها البعض، يتبوأ كل منها لمرجع ديني يطلقون عليه لقب الشيخ، واستقل كل شيخ برئاسة مركز صغير إلى استطاعوا بالأمس القريب وفي غفلة المسلمين ((غفاة البشر)) في سوريا وغيرها- من السيطرة على نظام الحكم في سوريا، فعادت لهم سطوتهم وقوتهم مرة أخرى يتحكمون بها في رقاب المسلمين)) ( (29) طائفة النصيرية ص42 . 29).(160/53)
ولكنهم في هذا الظهور الجديد اتخذوا لهم أسماء براقة خادعة مثل حزب البعث الاشتراكي، ودعوى التقدمية والتحرر، وما إلى ذلك، وهم إنما غيروا الاسم لإبعاد الأنظار عن حقيقتهم قدر الإمكان ولجلب الساقطين إلى صفوفهم.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
الفصل الخامس
تكتم النصيرية على عقائدهم
يعتبر النصيريون ديانتهم ومذهبهم سراً من الأسرار العميقة التي لا يجوز إفشاؤها لسواهم، وقرروا أن الذي يفشي شيئاً منها يكون جزاؤه القتل في أسوأ صورة له، لأنه أفشى سر العلي الأعلى، ومن أمثلة ذلك أن سليمان الأضني وهو من أبناء مشايخ النصيرية من ولاية أضنة تنصر بتأثير بعض المنصرين الأمريكيين وجاء إلى اللاذقية، وكتب كتباً سماه ((الباكورة السليمانية)) وكشف فيها الكثير من أسرار العقيدة النصيرية، وطبع المنصرون الأمريكيون الكتاب في بيروت سنة 1863.
وبعد أن قام باللاذقية مدة أخذ أقاربه يراسلونه ويحببون إليه العودة إليهم، مستعملين في ذلك كل وسائل التودد والمجاملة حتى آمن جانبهم وعاد إلى وطنه الأصلي، فكان جزاؤه أن أحرقوه حياً، ثم حاول النصيريون بكل جهد وعزم على احتواء الكتاب حتى اختفى تدريجياً، ولا توجد منه الآن نسخة واحدة ( (30) دائرة معارف القرن العشرين 10 / 249 ، 250 ، نقلاً عن (( العلويون )) ص 63 . 30).
وهكذا فإنهم يترصدون لكل من يذكر عنهم شيئاً أو يشير إلى عقائدهم الخبيثة التي تنضح شركاً ووثنية ولا يملكون من وسائل الدفاع والرد غير التصفية الجسدية، لعلمهم بأن مذهبهم عورات لا تحتمل النقاش وعرض الأدلة، فهي أقنعة واهية سرعان ما يظهر ما وراءها وينكشف، ومن هنا فإنهم ليسوا على استعداد لأي بحث ومناظرة.
وقد كتب محمد فريد وجدي خلاصة عن ما جاء في كتاب الباكورة السليمانية هي:(160/54)