لقد بينت هذه الدعوة السلفية، في باديء الأمر، عقيدة التوحيد، وقرر علماؤها عقيدة التوحيد بأقوى الأدلة وأوضح البراهين، وألفوا في بيان التوحيد وتقريره، الكثير من الكتب والرسائل.
لقد اهتم علماء الدعوة بتقرير التوحيد أولاً؛ لأنه أول واجب على المكلف، - كما هو معلوم -؛ ولأن من تصور حقيقة التوحيد تصوراً تاماً، فإنه لزاماً أن يتصور حقيقة ما يناقض التوحيد..
ويوضح هذا ما كتبه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في (منهاج التأسيس):
(أعلم أن من تصور حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج، وعرف ماهيته بأوصافها الخاصة، عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده، وإنما الخفا بلبس إحدى الحقيقتين، أو بجهل كلا الماهيتين، ومع انتفاء ذلك، وحصول التصور التام لهما، لا يخفى ولا يلتبس أحدهما بالآخر، وكم هلك بسبب قصور العلم، وعدم معرفة الحدود، والحقائق من أمة، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمَّه، ومثال ذلك أن الإسلام والشرك نقيضان لا يجتمعان، ولا يرتفعان، والجهل بالحقيقتين، أو أحدهما أوقع كثيراً من الناس في الشرك، وعبادة الصالحين، لعدم معرفة الحقائق وتصورها، وإن ساعد الجهل وقصور العلم عوائد مألوفة، استحكمت البليَّة وتمكنت الرزيَّة..)(1).
ولم يقصر علماء الدعوة جهدهم على تقرير عقيدة التوحيد فحسب، بل تجاوزوا ذلك.. إلى أن حذروا من الشرك.. فذكروا نواقض الإسلام، وأوردوا أنواع الشرك والكفر وأقسامه، تحذيراً للأمة وكشفاً للغمة، كما سدّوا وسائل الشرك وذرائعه، فرحمهم الله جميعاً.
وإن نظرة سريعة إلى آثارها العلمية ومواقفهم العملية – في هذا المجال – لتعطي الجواب الوافي، والبيان الشافي لمسألة التكفير والقتال ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
__________
(1) منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس)، ص 5، ص6.(131/196)
وسنورد الآن مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير والقتال – كما جاءت مدونة في مؤلفاتهم أو منقولة عنهم من غيرهم.
ثم نأتي بالردَّ والدحض، وذلك من خلال ما كتبه بعض أئمة هذه الدعوة السلفية.
من أوائل الكذّابين، ممن تولوا كبر هذا البهتان، ابن عفالق فقد افترى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورماه بتكفير المسلمين، فقال ابن عفالق عن هذا الإمام المجدد في جوابه على رد ابن معمر:
(وهذا الرجل كفَّر الأمة، بل والله وكذّب الرسل، وحكم عليهم وعلى أممهم بالشرك). (1)
ويقول ابن عفالق – مخاطباً عثمان ابن معمر:
(فجعلتم تكفير العترة النبوية، وسبّهم، ولعنهم، أصلاً من أصول دينكم)(2).
ويستمر ابن عفالق – في إفكه – منفراً ابن معمر عن الانتصار لهذه الدعوة السلفية، فيصف ابن عفالق الشيخ الإمام بأنه:
(حلف يميناً بالله فاجرة أن اليهود والمشركين أحسن حالاً من هذه الأمة)(3).
ويخاطب ابن عفالق الشيخ الإمام في رسالة سمّاها (تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين)، ويصفه بأنه قد ضلل وشتم هذه الأمة، وحكم عليها بالزيغ – حتى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم -، فقال الأفاك الأثيم:
(وقفت على القواعد التي بنيت عليها مذهبك.. فوجدتك قد ارتقيت فيها مرتقاً صعباً … شتمت فيه الأئمة، وسببت به أعلام الأمة، وهدمت به قواعد الملَّة المحمدية، وثلبت به جميع الأئمة المحمدية، حتى ارتقيت فيه إلى الجزم بزيغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الأربعة..) (4).
وينعق القباني بفرية التكفير والقتال، فيزعم أن الشيخ:
(كفّر هذه الأمة بأسرها، وكفّر كل من لم يقل بضلالتها وكفرها..) (5).
__________
(1) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر ق 58.
(2) المرجع السابق ق 63.
(3) المرجع السابق ق 65، 66.
(4) تهكم المقلدين في مدعي تجديد الدين)، ق1.
(5) فصل الخطاب في رد ضلالات بن عبد الوهاب، ق36.(131/197)
ويتهكم – القباني – بالشيخ المجدد وأتباعه، ويصور حالهم يوم القيامة فيقول مستهزئاً:
(.. وجاء كل واحد من الأنبياء والمرسلون ومعه الألوف من أمته، وجاء النبي الكريم وليس معه من أمته إلا النفر اليسير من أهل العيينة(1)، وأما الباقون فكلهم مخلدون في النار مع الكفار، مع ما لهم من كثرة الطاعات وأنواع العبادات) (2).
ويقول ابن سحيم – الخصم العنيد – في رسالته التي بعثها إلى علماء الأمصار محرضاً على الشيخ الإمام، ومنفراً عن دعوته، فيذكر تلك الفرية:
(ومنها أنه ثبت أنه يقول: الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء) (3).
ثم يزيد ابن سحيم في إفكه وكذبه وهو يقول:
(ومن أعظمها أنه من لم يوافقه في كل ما قاله، ويشهد أن ذلك حق، يقطع بكفره، ومن وافقه، ونحى نحوه، وصدّقه في كلَّ ما قال، قال: أنت موحَّد، ولو كان فاسقاً محضاً أو ما شاء..) (4).
ويخاطب المدعو محمد بن محمد القادري الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود – لما بلغته رسالة هذا الإمام -، فكان من خطابه هذا الإفك:
(فإنك لو تدبرت فيه بعين بصيرتك واعتبرت بها، لما كنت تحكم على الأمة المحمدية بالشرك الأكبر، من غير برهان، وليس هذا إلا شقاوة وخسران وحرمان) (5).
ويذكر - هذا القادري - بعد اطلاعه على رسالة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ما نصه - في وصف الإمام عبد العزيز (بأنه حكم على عوام المؤمنين والعلماء العاملين من أمة سيد الأنبياء والمرسلين بالشرك الأكبر..)(6).
ويخترع (الحداد) لفرية التكفير والقتال أوجهاً جديدة، فكان من إفكه – على الشيخ الإمام – ما نصّه:
__________
(1) ألف القباني كتابه في الرد على الشيخ الإمام سنة 1157هـ أي أثناء وجود الشيخ في العيينة – كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
(2) فصل الخطاب)، ق 104.
(3) فصل الخطاب في رد ضلالات بن عبد الوهاب)، ق165.
(4) المرجع السابق ق 168.
(5) رسالة في الرد على الوهابية ق 4.
(6) المرجع السابق ق 3.(131/198)
(إذا أراد رجل أن يدخل في دينه، يقول له اشهد على نفسك أنك كنت كافراً، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على العالم الفلاني والفلاني أنهم كفّار وهكذا، فإن شهد بذلك قبله، وإلا قتله..)(1).
ويخاطب الحداد الشيخ الإمام بهذا الكذب، فيقول:
(أيها النجدي كيف لا ترضى بالأحياء أن تجعلهم مشركين حتى تعديت أيها النجدي على أموات المسلمين من سنين عديدة تقول ضالين مضلين، حتى عينت أناساً من أكابر العلماء المحققين وأئمة مقتدى بهم صالحين..)(2).
ثم يدعو – هذا الحداد – إلى الشرك عن طريق الاستغاثة بالأموات، لمجرد مخالفة هذا النجدي، فيقول:
(وينبغي اليوم في هذا الوقت من الحوادث التي حدثت في الثلم في الدين باعتقاد العامة قول البدعي أن الاستغاثةشرك، فالعالم والمقتدى به ينبغي له أن يظهر الاستغاثة(3) ليقتدى به …)(4).
ويزعم حسن بن عمر الشطي في تذييله الذي كتبه في نهاية (رسالة إثبات الصفات) هذا الإفك، حيث يذكر من صفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
(تكفير المسلمين واعتقاده حل دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم) (5).
ويورد الشطي في تذييله – الآخر – الذي كتبه في خاتمة (رسالة في مشاجرة بين أهل مكة وأهل نجد) أن هذه الرسالة – كما يزعم – (مدارها على تكفير المسلمين وحل دمائهم وأموالهم) (6).
ومن أكاذيب الرافضي عبد الرؤوف على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كذبه بأن الشيخ سفك دماء آلاف المسلمين، يقول عبد الرؤوف:
__________
(1) مصباح الأنام)، ص5.
(2) المرجع السابق، ص 22.
(3) يقصد بالاستغاثة – ها هنا – أي الاستغاثة بالأموات. انظر : ما بعد هذا النص السابق وكذلك ص 61.
(4) مصباح الأنام)، ص 60.
(5) ق 164.
(6) ق 49.(131/199)
(فكيف حال رجل قتل آلاف من المسلمين القائلة لا إله إلا الله محمد رسول الله المتصدقين الصائمين الحاجين بيت الله الحرام، بل قتل الذريَّة والنسوان من غير بغي منهم، ولا عدوان زعماً منه أنه من أهل التوحيد فقط، والمسلمون كلهم مرتدون) (1).
ويكشف اللكنهوري عن إفكه حين افترى على الشيخ الإمام أنه يكفّر المسلمين ويستبيح دماءهم، فكان من إفكه ما نصّه:
(اعلم أن عقيدته هو أن جميع المسلمين سوى أهل نحلته كفّار مشركون، يحل أموالهم ودمائهم، ويجوز اتخاذهم عبيداً، ويستدل على ذلك بتلفيقات ما أنزل الله بها من سلطان) (2).
ورمى عثمان بن منصور الشيخ الإمام بهذا الفرية، فكان من إفكه أنه قال: (قد ابتلى الله أهل نجد بل جزيرة العرب، بمن خرج عليهم، وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها، وقاتلها على ذلك جملة، إلا من وافقه على قوله، لما وجد من يعينه على ذلك..) (3).
ويصف عثمان الشيخ الإمام بكذب بحت فيقول:
(ولكن هذا الرجل جعل طاعته ركناً سادساً للأركان الخمسة …) (4).
ويتحدث شيخ الكذب دحلان عن فرية التكفير والقتال للمسلمين..، فمن أكاذيبه ومفترياته – ما ننقله بنصّه حيث يقول:
(فلا يعتقدون موحداً إلا من تبعهم فيما يقولون، فصار الموحدون على زعمهم أقل من كل قليل.
وقال له أخوه سليمان يوماً: كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب فقال: خمسة، فقال: أنت جعلتها ستة، السادس من لم يتبعك فليس بمسلم، هذا عندك ركن سادس للإسلام (5).
ومن كذب دحلان قوله:
__________
(1) فصل الخطاب في نقض مقالة ابن عبد الوهاب)، ق33.
(2) كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب)، ص52.
(3) نقلاً عن كتاب (مصباح الظلام)، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ص 16.
(4) المرجع السابق ص 101.
(5) الدرر السنية في الرد على الوهابية)، ص 42، 43.(131/200)
(وكانوا يصرحون بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة، وأول من صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب، فتبعوه على ذلك، وإذا دخل إنسان في دينه، وكان قد حج حجة الإسلام قبل ذلك، يقولون له حج ثانياً فإن حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك، فلا تسقط عنك الحج) (1).
ويزيد دحلان في قبح كذبه، وشناعة إفكه، حيث يقول:
(وكان يقول لهم: إني أدعوكم إلى الدين، وجميع ما هو تحت السبع الطباق مشرك على الإطلاق، ومن قتل مشركاً فله الجنة، فتابعوه، وصارت نفوسهم بهذا القول مطمئنة..) (2) .
ويسود الزهاوي – كعادته في مؤلفاته – الصحائف بأكاذيبه، وأباطيله فيرمي الشيخ الإمام بفرية تكفير المسلمين وقتالهم، يقول الزهاوي:
(ثم إنه صنف لابن سعود رسالة سماها (كشف الشبهات عن خالق الأرض والسموات)(3) كفّر فيها جميع المسلمين، وزعم أن الناس كفار منذ ستمائة سنة) (4).
ويكذب الزهاوي – مرة أخرى – حيث يقول:
(فمما تمذهبت به الفرقة المارقة الوهابية من الأباطيل: تكفيرهم لكل من خالفهم من المسلمين)(5).
ويكذب الزهاوي – ثالثة – فيقول:
(لو سأل سائل عما تمذهبت به الوهابية ما هو وعن غايته ما هي، فقلنا في جواب كلا السؤالين هو تكفير كافة المسلمين، لكان جواباً على اختصاره تعريفاً كافياً لمذهبها)(6).
ويورد أحد كذابي الرافضة فرية تكفير المسلمين وحل دمائهم، فيقول – بأسلوب المخادع :-
__________
(1) المرجع السابق، ص 50.
(2) المرجع السابق ص 46.
(3) ويظهر جلياً إفك الزهاوي وكذبه حين اتخذ هذا العنوان – كشف الشبهات عن خالق الأرض والسموات – ومن المعلوم أن رسالة الشيخ مشهورة ومعلومة بهذا العنوان فقط) كشف الشبهات دون هذه الزيادة.
(4) الفجر الصادق)، ص19.
(5) المرجع السابق ص27.
(6) المرجع السابق ص64.(131/201)
(أراد الله أن يجعلهم فيما بينهم إخواناً وعلى العدو أعواناً.. فنقض ابن عبد الوهاب تلك القاعدة الأساسية، وعكس الآية، فصار يكفر المسلمين، ويضرب بعضهم ببعض، وما انجلت تلك الفترة إلا وهم بأيدي الأعداء ينقضون دعائم الدين.. الخ) (1).
ويدعي المبتدع أحمد رضا خان هذه الفرية، فيقول – حاكياً حال الشيخ الإمام ـ: (الذي يسعده أن يكفر أجداده ومشائخه، وهو لا يكتفي بهذا، بل يكفر سائر المسلمين ومن بينهم الأئمة والمشائخ … إن ابن عبد الوهاب قد أعلن عقب ظهور دينه الجديد أن الأمة الإسلامية منذ ستمائة سنة تتخبط في ظلام الشرك، وقد ردد الوهابيون قول زعيمهم فيما بعد) (2).
ثم يأتي محمد بن نجيب سوقية، فيسبق أقرانه إلى حضيض الكذب وقاع الإفك حيث يقول:
(إن مذهبهم تكفير الأموات، ورمي الأحياء بالشرك من الموحدين.. ولقائل أن يقول ممن عرفت إسناد الكفر والشرك لعامة الموحدين من طرف الوهابية، فالجواب أن ذلك مصرح في رسائلهم وكتبهم …). (3)
ومن أفراخ الخصوم في زماننا الحاضر، نورد أقوال ثلاثة منهم، ممن بهت الشيخ الإمام – رحمه الله وكذا أتباعه – من بعده - وأنصار دعوته بفرية تكفير المسلمين واستحلال دمائهم..
يذكر الشيعي محمد جواد مغنية تلك الفرية مقتدياً بأسلافه – الرافضة – في الكذب والبهتان، فيقول:
(وليس من شك أنهم يريدون بالموحدين الوهابية أنفسهم، وبالمشركين جميع المسلمين بدون استثناء). (4)
ويورد حسين بن حلمي ايشيق تلك الفرية، فيقول في تعليقه على كتاب (الإيمان والإسلام) لخالد البغدادي، أثناء كذبه على الوهابيين:
(ولا يحسبون غير أنفسهم مسلمين، ويكفرون ما عداهم، ويقولون أن أموالهم وأنفسهم مباحة للوهابيين) (5).
__________
(1) محمد حسين، (نقض فتاوى الوهابية) ص 24.
(2) أعز النكات بجواب سؤال أركات (باللغة الأوردية).
(3) تبيين الحق والصواب)، ص 8، باختصار.
(4) هذه هي الوهابية)، ص 111 بتصرف.
(5) ص31.(131/202)
ويورد ثالثهم وهو المدعو مالك بن داود – أحد أدعياء التصوف – في كتابه الذي سماه (الحقائق الإسلامية) هذه الفرية، فكان من بهتانه:
(وبعض العلماء يسمون الدعوة الوهابية بـ (الدعوة الدموية)). (1)
ويزعم أن الوهابيين (مصممون على أن من لم يكن وهابياً فهو مشرك، يجب هجرانه ولا يجوز التعامل معه فيما يخص الدين، أو الدنيا). (2)
ويكذب عليهم حين يقول:
(الغاية التي يسعون إلى تحقيقها هي إثبات السنية لهم خاصة، وتكفير جماعة المسلمين من غيرهم). (3)
وبعد أن أوردنا بعض هذا الغث والركام لهؤلاء الخصوم، حين قذفوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – بتكفير المسلمين، ننتقل إلى سياق بعض ردود علماء هذه الدعوة السلفية على تلك الفرية، وبيانهم للحقيقة – كما هي -، وسيتضح – يقيناً – تهافت هذه الفرية وينكشف زيفها، وإن كثر قائلوها، فلا تعجبك كثرة الخبيث، فالزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
لقد بلغت هذه الفرية الخاطئة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -، فتعددت ردوده وأجوبته عليها، ولأن فرية تكفير المسلمين واستباحة دمائهم قد شاعت وذاعت في غالب بلاد المسلمين، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، فقد حرص الشيخ – رحمه الله – على تأكيد هذه الردود, وإعلان براءته مما ألحق به..، فأرسل هذه الردود إلى مختلف البلاد.
__________
(1) ص16.
(2) ص20.
(3) ص21.
لزيادة معرفة مفتريات الخصوم في اتهام الشيخ بفرية التكفير انظر إلى :
(حاشية ابن عابدين) 4/260.
(حاشية الصاوي على الجلالين) 3/307، 308.
(كشف الارتياب) للعاملي ص 114.
(البراهين الجلية) للموسوي ص71.
(المعتقد المنتقد، ص 217.
(المقالات الوفية) لخزبك ص185، 188.
(رسالة في الرد على الوهابية) للمحجوب ص 4، 5.
(تاريخ المذاهب الإسلامية)، 1 / 236 وغيرها.(131/203)
فعلى النطاق المحلي في منطقة نجد، نلاحظ أن الشيخ قد بعث رسالة لأهل الرياض ومنفوحه، ينفي تلك الفرية، يقول الشيخ الإمام رحمه الله:
(وقولكم إننا نكفر المسلمين، كيف تفعلون كذا، كيف تفعلون كذا. فإنا لم نكفر المسلمين، بل ما كفرنا إلا المشركين). (1)
ويبعث رسالة لمحمد بن عيد أحد مطاوعة ثرمداء، يقول فيها:
(وأما ما ذكره الأعداء عني أني أكفر بالظن، والموالاة، أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله). (2)
وفي رسالته لأهل القصيم، يشير رحمه الله إلى مفتريات الخصم العنيد ابن سحيم ويبريء نفسه من فرية تكفير المسلمين وقتلهم، يقول الشيخ الإمام:
(والله يعلم أن الرجل افترى عليّ أموراً لم أقلها، ولم يأت أكثرها على بالي، فمنها قوله: أني أقول أن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وأني أكفر من توسل بالصالحين، وأني أكفر البوصيري، وأني أكفر من حلف بغير الله.. جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم. (3)
ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بطلان تلك الفرية، ويدحضها فيقول - في رسالته لحمد التويجري -:
(وكذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان وأي مكان، وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعد ما تبيّن له الحجة على بطلان الشرك…).(4)
ويؤكد الشيخ الإمام - مرة أخرى - بطلان تلك الدعوى، وأنها دعوى كذب وبهتان، فيقول جواباً على سؤال الشريف.. (5)
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ، 5 / 189.
(2) المرجع السابق 5/25.
(3) المرجع السابق 5/11، 12 وذكر ذلك – أيضاً – في رسالته لعبد الله بن سحيم مطوع المجمعة 5/62.
(4) المرجع السابق 5/60.
(5) لم يذكر اسم هذا الشريف.(131/204)
(وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: أنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله..). (1)
ويبعث الشيخ رسالة لأحد علماء المدينة لدحض فرية تكفير الناس عموما، يقول الشيخ:
(فإن قال قائلهم أنهم يكفرون بالعموم فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفّر أهل التوحيد). (2)
ويكتب الشيخ الإمام إلى إسماعيل الجراعي صاحب اليمن تكذيباً لهذه الفرية قال الشيخ:
(وأما القول بأنّا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين، ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم).(3)
ولما أرسل أحد علماء العراق وهو الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي كتاباً للشيخ الإمام يسأله عما يقوله الناس فيه … من تكفير الناس إلا من تبعه … فأجابه الشيخ بجواب ذكر فيه كيد الأعداء ثم أعقبه برد فرية الخصوم:
(وأجبلوا علينا بخيل الشيطان ورجله، منها: إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً عن أن يفتريه، ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من تبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ويا عجبا كيف يدخل هذا في عقل عاقل، هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون..) (4).
وينفي الشيخ حسين بن غنام فرية تكفير المسلمين عن الشيخ الإمام، ويؤكد أن الخصوم هم الذين كفّروا الشيخ واستحلوا دمه، يقول رحمه الله – في وصف الشيخ ـ:
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ) 3/11.
(2) المرجع السابق 5/48.
(3) المرجع السابق 5/100.
(4) المرجع السابق 5/36.(131/205)
(إنه رحمه الله لما تظاهر ذلك الأمر والشأن، في تلك الأوقات والأزمان، والناس قد أشربت منهم القلوب بمحبة المعاصي والذنوب، وتولعوا بما كانوا عليه من العصيان، وقبائح الأهواء على كل إنسان، لم يسرع لها لسان، ولم يصمم منه لب أو جنان على تكفير هؤلاء العربان، بل توقف تورعاً عن الإقدام في ذلك الميدان، حتى نهض عليه جميع العدوان، وصاحوا وباحوا بتكفيره وجماعته في جميع البلدان، ولم يثبتوا فيما جاءوا به من الإفك والبهتان، بل كان لهم على شنيع ذلك المقال إقدام وإسراع وإقبال، ولم يأمر رحمه الله بسفك دم ولا قتال على أكثر الأهواء والضلال).(1)
ويفند الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب تلك الفرية، فيقول:
(وأما ما يكذب علينا ستراً للحق، وتلبيساً على الخلق، بأننا نكفر الناس على الإطلاق، أهل زماننا، ومن بعد الستمائة، إلا من هو على ما نحن فيه، ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرر عليه بأنه كان مشركاً، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله … فلا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً، كان جوابنا في كل مسألة من ذلك (سبحانك هذا بهتان عظيم)، فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا، فقد كذب وافترى، ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا علم قطعياً أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص عليه بأن الله لا يغفره، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كقتل المسلم بغير حق، والزنا، والربا وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك، أنه لا يخرج بفعله ذلك من دائرة الإسلام ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحداً بجميع أنواع العبادة). (2)
__________
(1) روضة الأفكار، 1/33.
(2) الهدية السنية) ص 40.(131/206)
ويدل على براءتهم - أيضاً – من تلك الفرية ما يقوله الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – في موضع آخر:
(إن صاحب البردة وغيره ممن يوجد الشرك في كلامه والغلو في الدين، وماتوا لا يحكم بكفرهم، وإنما الواجب إنكار هذا الكلام، وبيان من اعتقد هذا على الظاهر فهو مشرك كافر، وأما القائل فيرد أمره إلى الله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي التعرض للأموات، لأنه لا يعلم هل تاب أم لا..). (1)
ولما سئل الشيخ عبد العزيز بن حمد سبط الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن تلك الفرية، كان جوابه رحمه الله – بعد أن ساق السؤال _:
(وأما السؤال الثاني وهو قولكم: من لم تشمله دائرة إمامتكم ويتسم بسمة دولتكم، وهل داره دار كفر وحرب على العموم الخ.
فنقول وبالله التوفيق: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دان بالإسلام وأطاع ربه فيما أمر، وانتهى عما عنه نهى وزجر، فهو المسلم حرام المال والدم كما يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. ولم نكفر أحداً دان بالإسلام لكونه لم يدخل في دائرتنا، ولم يتسم بسمة دولتنا، بل لا نكفر إلا من كفره الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم، أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده فقد كذب وافترى). (2)
ومن الحجج الدامغة التي سطرها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، وأزهق بها فرية عثمان بن منصور حين قذف الشيخ الإمام بتكفير المسلمين وقتلهم، يقول الشيخ عبد اللطيف في (مصباح الظلام) دحضاً لذلك:
(هذه العبارة تدل على تهور في الكذب، ووقاحة تامة، وفي الحديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت). (3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 1/47.
(2) المرجع السابق 4/574.
(3) رواه البخاري.(131/207)
وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع الأمة من المبعث النبوي إلى قيام الساعة إلا من وافقه على قوله الذي اختص به، وهل يتصور هذا عاقل عرف حال الشيخ وما جاء به ودعا إليه، بل أهل البدع كالقدرية والجهمية والرافضة والخوارج لا يكفرون جميع من خالفهم، بل لهم أقوال وتفاصيل يعرفها أهل العلم، والشيخ رحمه الله لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة، ولا عن أهل السنة والجماعة منهم، وجميع أقواله في هذا الباب – أعني ما دعا إليه من توحيد الأسماء والصفات وتوحيد العمل والعبادات – مجمع عليه المسلمين لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم وعدل عن مناهجهم). (1)
كما يوضح الشيخ عبد اللطيف تورع جده – الشيخ الإمام – عن التكفير فيقول: (والشيخ محمد رحمه الله من أعظم الناس توقفاً وإحجاماً عن إطلاق الكفر، حتى أنه لم يجزم بتكفير الجاهل الذي يدعو غير الله من أهل القبور، أو غيرهم إذا لم يتيسر له من ينصحه ويبلغه الحجة التي يكفر مرتكبها). (2)
ويورد الشيخ عبد اللطيف – في إحدى رسائله – معتقد الشيخ الإمام في مسألة التكفير فيقول:
(فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أنداداً فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية) (3).
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف أن من عرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أدرك براءته من تلك الفرية الكاذبة فيقول – رحمه الله -:
__________
(1) ص21، وانظر : ص22.
(2) منهاج التأسيس)، ص 65، 66.
(3) مجموعة الرسائل) 3/5.(131/208)
(كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يعلم أنه من أعظم الناس إجلالاً للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهياً عن تكفيرهم وتنقصهم وأذيتهم، بل هو ممن يدينون بتوقيرهم وإكرامهم والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم، والشيخ رحمه الله لم يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأجمعت الأمة على كفره كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب العالمين)(1).
وتضمنت مناظرة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن لداود بن جرجيس، تفنيداً لفرية تكفير الناس فيقول الشيخ عبد اللطيف:
(وأما القول بأنا نكفر الناس عموماً ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله، سبحانك هذا بهتان عظيم)(2).
ويدحض الشيخ صالح بن محمد الشتري كذبهم، فيقول:
(وأما ما ادعاه أعداءه المعاصرون له أنه كفر بالعموم، أو يكفر بالذنوب أو يقاتل من لا يستحق قتلاً، أو يستحل دمه وماله، فالجواب أن نقول سبحانك هذا بهتان عظيم، ورسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب تبرأ فيهن مما نسب إليه أعداؤه وأن مذهبه مذهب السلف الصالح..) (3).
ويجمل السهسواني الجواب على مفتريات شيخ الكذب دحلان في اتهام الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب فيقول:
(هذا كله افتراء بلا ريب على الشيخ، يعرفه من له رائحة من الإيمان والعلم والعقل).(4)
ويقول أيضاً - بعد ذكر مفتريات أخرى لدحلان في قذف الشيخ الإمام بتكفير الناس -:
__________
(1) المرجع السابق 3/449.
(2) تاريخ نجد، للألوسي ص52.
لا أدري عن هذه المناظرة بينهما، هل وقعت مناظرة فعلية بين الشيخ عبد اللطيف وبين داود، أم أن الشيخ الآلوسي كتب وألف هذه المناظرة بناءً على إطلاعه على ما كتبه كلا الرجلين.
(3) تأييد الملك المنان) ق 54.
(4) صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان)، ص 485.(131/209)
(الجواب على هذه الأقوال كلها أنها على طولها وكثرتها كاذبة خبيثة فلا تعجبك كثرة الخبيث). (1)
وينفي السهسواني مزاعم دحلان التي رمى بها دعوة الشيخ في مسألة التكفير..، فيقول:
(أن الشيخ وأتباعه لم يكفروا أحداً من المسلمين، ولم يعتقدوا أنهم هم المسلمون، وأن من خالفهم هم مشركون، ولم يستبيحوا قتل أهل السنة وسبي نسائهم … ولقد لقيت غير واحد من أهل العلم من اتباع الشيخ، وطالعت كثيراً من كتبهم، فما وجدت لهذه الأمور أصلاً وأثراً، بل كل هذا بهتان وافتراء).(2)
ومما قاله محمد رشيد رضا معلقاً - على الكلام السابق -:
(بل في هذه الكتب خلاف ما ذكر وضده، ففيها أنهم لا يكفرون إلا من أتى بما هو كفر بإجماع المسلمين) (3).
ويورد الشيخ سليمان بن سحمان الدفاع عن الشيخ الإمام، ويبرأه من هذا البهتان فيقول رحمه الله – حاكياً حال الشيخ:
(فإنه رحمه الله كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها.. فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله وأجمع على تكفيره الأمة، ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم.. ويؤمن بما نطق به الكتاب، وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول، ومن نسب إليه خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها فقد كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم …). (4)
وكتب أحمد الكتلاني في (الصيب الهطال) – دفاعا عن الشيخ في هذا المقام – قريباً مما كتبه ابن سحمان (5).
وأجاب أحد علماء نجد على تلك الفرية، حيث تلقفها صاحب جريدة القبلة وزعم أن الوهابيين يلزمون الناس بتكفير آباءهم وأجدادهم.
__________
(1) المرجع السابق ص 486.
(2) المرجع السابق ص 518.
(3) المرجع السابق ص 518.
(4) الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد، ص 56، 57.
(5) انظر : الصيب الهطال في الرد على شبه ابن كمال، ص 55، 56.(131/210)
فكان جواب هذا العالم:
(وهذا من نمط ما قبله من الكذب والبهتان، والذي نقوله في ذلك أن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ هذه الدعوة إليه، فالذي يحكم عليه إذا كان معروفاً بفعل الشرك ويدين به، ومات على ذلك، فظاهره أنه مات على الكفر فلا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه. وأما حقيقة أمره فإلى الله تعالى فإن كانت قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله. وأما من لا نعلم حاله في حال حياته، ولا ندري ما مات عليه، فإنا لا نحكم بكفره، وأمره إلى الله فمن نسب إلينا غير هذا فقد كذب علينا وافترى وحسبنا الله ونعم الوكيل)(1).
ويكذّب الشيخ محمد بن عثمان الشاوي هذا البهتان، فيقول في رسالته (القول الأسد):
(فإنا لم نكفر بالعموم، ولا نكفر إلا من قام الدليل القاطع على كفره، بصرفه حق الله لغيره، ودعائه، والتجاءه إلى ما لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلا عن غيره …).(2)
ويهاجم القصيمي في كتابه (الصراع) خصوم الشيخ – من الرافضة – مؤكداً براءة الشيخ من فرية التكفير، وأن هؤلاء الرافضة أحق وأجدر بهذا الوصف فيقول:
(إن من عجائب الأيام وفكاهاتها المضحكة قوماً، المبكية قوماً آخرين، أن تذهب الشيعة تتهم أهل السنة من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بإكفار المسلمين وإحلال دمائهم وأموالهم، في حين أن الشيعة تعلن على رؤوس الملأ ومسامع العالمين إكفار خيار الأمة، وإكفار كبراء الصحابة، ومن تولاهم من فرق المسلمين، والذي يكفر خيار الصحابة كالصديق وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية وغيرهم .. كيف لا يمنعه الحياء من أن يتهم أحدا بإكفار المسلمين..). (3)
__________
(1) مجموع الرسائل والمسائل) 4/835.
(2) القول الأسد في الرد على الخصم الألد) ق 5.
(3) الصراع بين الإسلام والوثنية) 1/348 باختصار.(131/211)
من خلال هذه النقول المتعددة تظهر براءة الشيخ الإمام، وكذا أتباعه وأنصار دعوته من مفتريات وأكاذيب الخصوم في مسألة التكفير، ومن طالع كتبهم وقرأ رسائلهم تبين له صحة معتقدهم وسلامة فهمهم لمسألة التكفير، وإن اعتقادهم فيها هو عين اعتقاد السلف الصالح.
المبحث الثاني :
فرية أن الوهابيين خوارج،
وأن نجد اليمامة قرن الشيطان مع الرد والدحض لها
هذا المبحث يرتبط – كثيراً – بالمبحث السابق، ففي المبحث السابق تحدثنا عن فرية تكفير الوهابية للمسلمين، وفي هذا المبحث نتحدث عن فرية أن الوهابيين خوارج، فهناك تداخل بين المبحثين، وذلك لأن الخوارج قد عرف عنهم التكفير لأصحاب المعاصي من المسلمين، فجعل الخصوم الوهابيين كالخوارج في هذه المسألة، ولهذا فلن نتحدث عن هذا الجانب تفصيلاً ففي المبحث السابق كفاية وغنية عن التكرار، وإنما سنتحدث عن فرية الخصوم في رميهم للوهابيين بهذا الوصف – أي الخوارج -، وذمهم والطعن فيهم لأنهم خوارج سيماهم التحليق (1)، ولأن بلادهم ومحل ظهورهم هو نجد التي هي قرن الشيطان.. بلاد مسيلمة الكذّاب.. إلى آخر تلك الدعاوى الباطلة، ثم نتبعها بالرد والدحض.
لقد تعددت مزاعم الخصوم بهذه الفرية الخاطئة، وتنوعت أباطيلهم، فمرة يتهمون الشيخ بأنه من الخوارج، وأن سيماهم التحليق.. ومرة يطعنون في الشيخ الإمام وفي دعوته بحجة أن موطنه نجد اليمامة، ونجد هي قرن الشيطان كما في الحديث، وهي موطن الزلازل والفتن، وثالثة يزعمون أنه من نسل ذي الخويصرة التميمي.. إلى آخر هذه الترهات والأباطيل.
ونلاحظ أن بن عفالق من أوائل المفترون في ذلك، حيث ينعى على الوهابيين بأن موطنهم هو نجد –قرن الشيطان – وأنهم من بقايا فتنة مسيلمة الكذاب، يقول ابن عفالق في رسالته لابن معمر:
__________
(1) أي علامتهم حلق شعر الرأس.
انظر : (صحيح مسلم)، (شرح النووي)، المطبعة المصرية 7/167.(131/212)
(وفي فضل أهل الشام واليمن والحرمين وفارس ما يعرفه من له أدنى معرفة بالأحاديث وأما أنتم يا أهل اليمامة ففي الحديث الصحيح عندكم يطلع قرن الشيطان، وأنتم لا تزالون في شر من كذّابكم إلى يوم القيامة. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار). (1)
ويقول: (فبماذا يجاوبون من هذه حالته ودعواه، أيدينون بالرجعة ويقولون هذا مسيلمة قد ظهر بوادي حنيفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المشهور أنهم لا يزالون في فتنة من كذّابهم إلى يوم القيامة..). (2)
ويذكر سليمان بن عبد الوهاب الدليل على بطلان دعوة أخيه الشيخ الإمام، وهو أن موطنه بلاد المشرق، بلاد مسيلمة الكذّاب، فيقول:
(ومما يدل على بطلان مذهبكم ما في (الصحيحين) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأس الكفر نحو المشرق) …. فلو علم أن بلاد المشرق خصوصاً نجد بلاد مسيلمة أنها تصير دار الإيمان، وأن الطائفة المنصورة تكون بها.. وأن الحرمين الشريفين واليمن تكون بلاد كفر تعبد فيها الأوثان، وتجب الهجرة منها، لأخبر بذلك، ولدعى لأهل المشرق خصوصاً نجد، ولدعى على الحرمين واليمن وتبرأ منهم، إذ لم يكن إلا ضد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم عمَّ المشرق، وخصَّ نجد بأن منها يطلع قرن الشيطان). (3)
ويسوق (الحداد) بعض تلك الفرية، فيزعم أن الشيخ الإمام هو قرن الشيطان يقول الحداد في كتابه (مصباح الأنام):
__________
(1) رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 49.
(2) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق 56.
(3) فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب)، ص 44، 45 باختصار، وهو مطبوع بعنوان (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)، - كما تقدم.(131/213)
(وقد استنبط العلماء من مفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم (يطلع منها – أي نجد – قرن الشيطان) من معجزاته، لأنه أتى بالياء للاستقبال؛ لأن مسيلمة لعنه الله، في حياته عليه السلام طلع، وادعى النبوة، وهلك في خلافة الصديق..، ولم يطلع قرن الشيطان إلا بعد الألف والمائة والخمسين، وهو محمد بن عبد الوهاب رأس هذه البدعة وأسّها).(1)
ويورد (الحداد) بعضاً من علامات الخوارج، ليدعي - زوراً - وجودها عند الوهابيين فيقول كاذباً:
(وأهم من ذلك كله ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الكثيرة المبينة لعلامات الخوارج، مما يبين أن ابن عبد الوهاب وأتباعه منهم، ككونهم من نجد، وكونهم من المشرق، ومعلوم أن نجدا شرقي المدينة، وكون سيماهم التحليق، مع كونهم من المشرق). (2)
ويقول الحداد:
(قال السيد العلامة المنعمي في مطلع قصيدة له في الرد على النجدي لما قتل عدة لم يحلقوا رؤوسهم قال:
أفي حلق رأسي بالسكاكين والحد …………حديث صحيح بالأسانيد عن جدي) (3)
ويأتي أفاك آخر، وهو المدعو عبد الرؤوف، حيث ساق حديث (اللهم بارك لنا في شامنا)، وما ورد في شأن الخوارج من الأحاديث.. ثم قال:
(المراد به أصحاب ابن عبد الوهاب فإن شعارهم تحليق شعر رؤوسهم أجمع، وعدم اتخاذ القنازع كما هو الأعراب قديماً وحديثاً، وإذا دخل الرجل في دينهم، أول ما يأمرونه به حلق شعر رأسه أجمع، وبهذا تعرف الوهابية عن سائر الأعراب كما هو معروف، فالحديث نص على رد الوهابية) (4).
ويدعي الصاوي – كذباً وتلفيقاً - أن علماء الدعوة وأتباعها خوارج (وأنهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون..). (5)
__________
(1) ص7.
(2) ص5 باختصار.
(3) ص6.
(4) فصل الخطاب) ق 15.
(5) حاشية الصاوي على الجلالين)، 3/307، 308.
زعم الصاوي هذا الإفك عند تفسيره لقوله تعالى : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا.. } (سورة فاطر آية 8)، فذكر القول بأنها نزلت في الخوارج الذين يحرفون تأويل الكتاب والسنة، ويستحلون بذلك بدماء المسلمين وأموالهم كما هو مشاهد في نظائرهم وهم فرقة يقال لهم الوهابية.. إلى آخر هذا الافتراء.
وانظر : إلى الرد الذي كتبه أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابه (تنزيه السنة والقرآن). فقد بين ضلال الصاوي وانحرافه وزيفه ص 150 – 157.(131/214)
ويؤكد ابن عابدين – في حاشيته – هذا الإفك، فيزعم أن أتباع الشيخ الإمام يدخلون في مسمى الخوارج.(1)
ويفتري محسن بن عبد الكريم على أتباع هذه الدعوة السلفية بأنهم خوارج، ويصفهم بأنهم مارقة…(2)، ويتحدث عن فرية التحليق، فيقول:
(والتحليق الذي صار شعارهم فلا يقبلون من أحد الدخول فيما هم فيه حتى يحلق رأسه، حتى قال المولى عبد الله بن عيسى في كتابه (السيف الهندي): إنه بلغني أنه حلق ناس من أهل تهامة رؤوسهم على ضوء السراج نحو ستمائة رجل في ليلة واحدة فكيف بالنهار..). (3)
ويقذع الرافضي اللكنهوري في السب والشتم، فيجعل الخوارج هم سلف الوهابيين، فكان من إفكه أنه قال:
(وإن لهم أسوة في من سلف من الخوارج الحرورية، لعنهم الله، حيث كفروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وجميع المسلمين من أصحابه وأنصاره بتلفيقات تشبهها أقوال هؤلاء الوهابية واستحلوا بذلك دماءهم وأموالهم.
ولو تأملت بصائب النظر في تاريخهم لوجدت الوهابية ممن يحذو حذوهم في العقائد.. ثم إنك لو أمعنت النظر لوجدت شيوخ أولئك الخوارج من أهل نجد) (4).
ويزعم عثمان بن منصور أن نجد اليمامة هي قرن الشيطان، فيقول: (وقد امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الدعاء لها لما دعا للشام ولليمن والمدينة، لما علم بعلم الله ما يحدث فيها ومنها، وقال فيها (أولئك منها الزلازل والفتن، ومنها ما يظهر قرن الشيطان). (5)
ويورد شيخ الكذب والبهتان أحمد دحلان، اتهامه لأنصار هذه الدعوة السلفية بفرية التحليق فيقول:
__________
(1) انظر : (حاشية ابن عابدين) 4 / 262.
(2) انظر (لفحات الوجد عند فعلات أهل نجد)، ق 76. فقد زعم صاحب اللفحات أن الوهابيين خوارج، وذكر علامات الخوارج كما أوردها يوسف بن إبراهيم الأمير 32 – 44.
(3) المرجع السابق ق 45.
(4) كشف النقاب عن عقائد بن عبد الوهاب)، ص 77، 78.
(5) نقلاً عن (مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام)، ص 234.(131/215)
(وكانوا يأمرون من اتبعهم أن يحلق رأسه، ولا يتركونه يفارق مجلسهم إذا تبعهم، حتى يحلقوا رأسه، ولم يقع مثل ذلك قط من أحد من الفرق الضالة التي مضت قبلهم، فالحديث صريح فيهم، وكان السيد عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد يقول: لا يحتاج أن يؤلف أحد تأليفاً للرد على ابن بعد الوهاب، بل يكفي من الرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم. (سيماهم التحليق) فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم). (1)
ويتهم الرافضي محمد حسن الموسوي الوهابيين بأنهم على نهج الخوارج. ثم يقول كاذباً (أن الوهابية أصحاب الزلازل والفتن بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم). (2)
ويدعي النبهاني أن نجد اليمامة هي قرن الشيطان، وأنها من بلاد المشرق التي ذمها الرسول صلى الله عليه وسلم يقول النبهاني في رائيته الصغرى:
أشار رسول الله للشرق ذمّه ……وهم أهله لا غرو أن أطلع الشرا
به يطلع الشيطان ينطح قرنه ……رؤوس الهدى والله يكسره كسرا) (3)
وقد حشد الدجوي في مجلته (الأزهر) إحدى عشرة صفة من صفات الخوارج، وحملها - ظلماً وبغياً - على أنصار وأتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.(4)
كما زعم الأفاك الأثيم، والكذاب اللئيم الرافضي (العاملي) أن الوهابيين يشبهون الخوارج من ثلاث عشرة جهة.(5)
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية)، ص 54.
(2) البراهين الجلية)، ص 71.
(3) الرائية الصغرى، ص 27.
(4) انظر : (مجلة الأزهر)، م5، ص329.
وانظر : الرد مفصلاً في كتاب الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم ص 112.
(5) انظر : كتابه) كشف الارتياب، ص 114 – 126.
ومما يحسن ذكره – ها هنا – رداً على العاملي أن نسوق ما كتبه القصيمي حيث قال :
(ومن العجب الذي لا ينقضي أن يزعم العاملي بأن الوهابية يشبهون الخوارج في الجمود والغباوة وقد ألف جماعة من الشيعة – قديماً – رسالة سموها (الشيعة والمنار) وكان أحد مؤلفيها هذا الرجل – أي العاملي – وقد جاء بهذه الرسالة أن كربلاء أفضل من مكة لوجود آل النبي فيها، وفي الرسالة أيضاً أن زيارة آل البيت أفضل من الحج، فمن أغبى من هؤلاء وأجمد ؟ (عن كتاب) الصراع بين الإسلام والوثنية) 1/378.(131/216)
ويورد العاملي الأحاديث التي في ذم المشرق، وذم نجد، ليحملها على نجد اليمامة (1). ثم يدافع عن موطنه – العراق -، فيقول نافياً أن تكون العراق هي نجد قرن الشيطان-.
(وما يحكي عن بعض الوهابيين من أن المراد من نجد هو العراق؛ لأنها أعلى من الحجاز والنجد في اللغة ما أشرق من الأرض، معلوم الفساد، فإن نجداً حيثما يطلق بلا قيد يراد به بلادهم التي لا تسمى عرفاً إلا بهذا الاسم قديماً وحديثاً..) (2).
ويأتي العاملي بزور آخر، حيث يدعي أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من عشيرة ذي الخويصرة التميمي، وذلك لأن كلاهما من بني تميم، يقول العاملي:
(ومن الأخبار المرجح ورودها في الوهابية قوله صلى الله عليه وسلم في ذي الخويصرة التميمي أن من ضئضيء هذا قوماً يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم.. فيكون المراد من ضئضئه أي من أصله وعشيرته، لا من نسله وعقبه؛ لأن عشيرة الرجل هي أصله ومعدنه، وذو الخويصرة وابن عبد الوهاب من أصل واحد، من عشيرة واحدة فكلاهما تميمي.(3)
ويدعي الزهاوي أن من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إخباره عن هؤلاء الخوارج، يقصد أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -. (4)
ويزعم أحمد بن محمد الغماري أن دعوة الشيخ الإمام هي قرن الشيطان، فيقول: (ولما طلع قرن الشيطان بنجد في أواخر القرن الحادي عشر، وانتشرت فتنته، كانوا يحملون الأحاديث عليه وعلى أصحابه). (5)
ويردد أبو زهرة تلك الفرية - دون تورع أو تثبت - فيقول عن أتباع هذه الدعوة بأنهم:
(كانوا يشبهون الخوارج الذين كانوا يكفرون مرتكب الذنب)(6).
__________
(1) انظر : (كشف الارتياب)، ص 119، 120.
(2) المرجع السابق، ص 120.
(3) المرجع السابق، ص 123.
(4) انظر : (الفجر الصادق) ص 20.
(5) نقلاً عن (إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة) للشيخ حمود التويجري ص 132.
(6) تاريخ المذاهب الإسلامية) 1/236.(131/217)
كما أن الشيعي محمد جواد مغنية يزعم أن الوهابية لا تختلف عن الخوارج في مسألة التكفير …. (1).
إن هذا الركام – من تلك الأكاذيب – الذي افتراه خصوم الدعوة السلفية ما يلبث أن يتلاشى ويزول، فيكون كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وذلك عندما نسوق ما سطّره بعض أتباع هذه الدعوة السلفية من الحجج الواضحة والأدلة الدامغة في دحض ذلك البهتان.
لقد كذب الخصوم على الشيخ الإمام حين زعموا أنه يكفّر المسلمين بالذنوب فإن الشيخ قد أوضح في هذه المسألة، فقال في رسالته لأهل القصيم:
(ولا أكفّر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه عن دائرة الإسلام) (2).
ومع أن الإمام الشوكاني – رحمه الله – في باديء الأمر لم تبلغه معلومات موثقة عن هذه الدعوة السلفية، إلا أنه لم يصدق تلك الدعاوى الكاذبة، فقال:
(وبعض الناس يزعم أنه يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحاً) (3).
(سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر – رحمه الله -، فقال السائل: إنكم تكفرون بالمعاصي.
فأجاب: ليس هذا قولنا، بل هذا قول الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ولم نكفّر أحداً بعمل المعاصي، بل نكفّر من فعل المكفرات كالشرك بالله بأن يعبد معه غيره، فيدعوا غير الله، أو يذبح له، أو ينذر له، أو يخافه، أو يرجوه، أو يتوكل عليه، فإن هذه الأمور كلها عبادة لله بنص القرآن … إلى آخر جوابه رحمه الله)(4).
ويفند الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فرية (التحليق) فيقول:
__________
(1) انظر : (هذه هي الوهابية) ص 70.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/11.
(3) البدر الطالع) 2/6.
(4) الدرر السنية، 8 / 204.(131/218)
(وأما البحث عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتداً، والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل إن الحلق مسنون فضلاً عن أن يكون واجباً، فضلاً عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام.
ونحن لم نأمر أحداً من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله) (1).
ويوضح الشيخ عبد العزيز بن حمد – سبط الشيخ الإمام – في جواب له، بعضاً من أحكام حلق شعر الرأس، ويذكر السبب في حلقه عندهم في بلاد نجد، فقال رحمه الله:
(فالذي تدل على الأحاديث، النهي عن حلق بعض وترك بعض، فإما تركه كله فلا بأس به، إذا أكرمه الإنسان كما دلت عليه السنة النبوية. وأما حديث كليب (2) فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام إن صح الحديث، ولا يدل على أن استمرار حلقه سنة، وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز وينهى فاعله عن ذلك؛ لأن ترك الحلق ليس منهياً عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر؛ لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه إلا السفهاء عندنا، فنهى عن ذلك نهي تنزيه لا نهي تحريم سداً للذريعة؛ ولأن كفار زماننا لا يحلقون فصار في عدم الحلق تشبهاً بهم).(3)
__________
(1) المرجع السابق 8 / 175.
(2) لعله يقصد الحديث الذي أخرجه أبو داود، عن عثيم بن كليب عن أبيه عن جده : أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : قد أسلمت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ألق عنك شعر الكفر)، وقال عبد القادر الأرناؤوط عن هذا الحديث : وإسناده ضعيف، انظر : (جامع الأصول في أحاديث الرسول)، لابن الأثير، تحقيق : عبد القادر الأرناؤوط، نشر مكتبة الحلواني، سوريا، 1391هـ، 7/338، 339.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل) 4/578.(131/219)
ويؤكد الشيخ عبد الرحمن بن حسن في رد شافي – على من احتج بحديث نجد قرن الشيطان – أن الذم والمدح يقع على الحال لا على المحل، كما يذكر المراد بنجد قرن الشيطان، فقال رحمه الله:
(.. الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال لا على المحل، والأحاديث التي وردت في ذم نجد كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في يمننا. اللهم بارك لنا في شامنا) الحديث.. قيل إنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه: ذكر المشرق , والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى على العراق من الملاحم والفتن، ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير والتاريخ، كخروج الخوارج بها، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة … وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتال، وسفك الدماء وغير ذلك مما يطول عده.
وعلى كل حال فالذم إنما يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن؛ لأن الذم إنما يكون الحال دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل. وقد تقع المداولة فيها، فإن الله يداول بين خلقه، حتى في البقاع، فمحل المعصية في زمن قد يكون محل طاعة في زمن آخر، وبالعكس) (1).
ثم قال رحمه الله: (فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله، وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة …، وما ضرَّ المدينة سكنى اليهود بها، وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعقل الإسلام , ما ذمت مكة بتكذيب أهلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدة عدواتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه..).(2)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 4/264.
(2) المرجع السابق 4/265.(131/220)
ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الرد على عثمان بن منصور، الذي وصف أهل هذه الدعوة بأنهم خوارج، ونزل الأحاديث التي وردت في شأن الخوارج عليهم – في رده – أن أهل هذه الدعوة من أبعد الناس عن مشابهة الخوارج، يقول:
(وأما أهل هذه الدعوة الإسلامية التي أظهرها الله بنجد، وانتشرت واعترف بصحتها كثير من العلماء والعقلاء، وأدحض الله حجة من نازعهم بالشهادة، فهم بحمد الله، يدعون إلى ما بعث الله به رسله من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له..) (1).
كما يبيّن الشيخ عبد الرحمن بن حسن - في موضع آخر - أن رأي أهل هذه الدعوة في الخوارج هو رأي الصحابة رضي الله عنهم. (2)
ويقرر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المراد بالمشرق ونجد الذي ورد ذمه في الحديث فقال:
__________
(1) الدرر السنية) 9/195.
…وانظر جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن لما سئل عن الخوارج: (الدرر السنية) 8/204، 205.
(2) انظر : (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) 9/210.(131/221)
(إن المراد بالمشرق ونجد في هذا الحديث وأمثاله هو العراق؛ لأنه يحاذي المدينة من جهة الشرق، يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث: وأشار إلى العراق)، قال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة، كان نجده بادية الشام ونواحيها فهي مشرق أهل المدينة، وأصل نجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور فإنه ما انخفض منها، وقال الداوودي: أن نجداً من ناحية العراق، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في مسلم عن ابن عمر قال: يا أهل العراق ما أسئلكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أن الفتنة تجيء من هاهنا، وأومأ بيده إلى المشرق، فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر المراد بالإشارة الحسيّة، وقد جاء صريحاً في (المعجم الكبير) للطبراني النص على أنها العراق. وقول ابن عمر وأهل اللغة وشهادة الحال كل هذا يعين المراد..)(1).
ويشير الشيخ عبد اللطيف إلى فضل بني تميم فيقول:
__________
(1) منهاج التأسيس والتقديس في الرد على ابن جرجيس)، ص 62.
ولا يعني ذلك ذم علماء العراق.. لما ورد من أحاديث في شأن بلادهم، يقول الشيخ عبد اللطيف في (مصباح الظلام) ص 236 :
(ولا يقول مسلم بذم علماء العراق لما ورد فيها، وأكابر أهل الحديث وفقهاء الأمة أهل الجرح والتعديل أكثرهم من أهل العراق).
وانظر : (رسالة أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان)، ص43.(131/222)
(وقد جاء في فضل أهل نجد كتميم، ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أحب تميماً لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لما جاءت صدقاتهم هذه صدقات قومي، وقوله في الجارية التميمية: اعتقها فإنها من ولد إسماعيل، وقوله: هم أشد أمتي على الدجال.. هذا في المناقب الخاصة، وأما العامة للعرب، فلا شك في عمومها لأهل نجد؛ لأنهم من صميم العرب، وما ورد في تفضيل القبائل والشعوب أدل وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن في الدلالة على فضل الساكن والقاطن.
ومعلوم أن رؤساء عبّاد القبور الداعين إلى دعائهم وعبادتها لهم حظ وافر مما يأتي به الدجال، وقد تصدى رجال من تميم، وأهل نجد للرد على دجاجلة عبّاد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، إن قلنا إن (ال) في الدجال للجنس لا للعهد، وإن قلنا أنها للعهد كما هو الظاهر، فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده، ورد باطله فتأمله فإنه نفيس جداً). (1)
ويجيب الشيخ عبد اللطيف على من عاب الشيخ الإمام بدار مسيلمة، فيقول:
(ولا يعيب شيخنا بدار مسيلمة إلا من عاب أئمة الهدى ومصابيح الدجى بما سبق في بلادهم من الشرك والكفر المبين، وطرد هذا القول جرأة على النبيين وأكابر المؤمنين، وهذا المعترض (2) كعنز السوء يبحث عن حتفه بظلفه ولا يدري.
__________
(1) المرجع السابق ص61.
انظر : توضيح الشيخ عبد اللطيف حال الخوارج ثم حال عبّاد القبور – وكثير منهم خصوم للدعوة السلفية – وبيان حال الشيخ الإمام … ثم قال :
(ليعلم الواقف على ما تقرره حقيقة المذاهب وحاصل العقائد فيما وقعت فيه الخصومة) : (تاريخ نجد)، للآلوسي ص 79-87.
(2) أي عثمان بن منصور.(131/223)
وقد قال بعض الأزهريين(1): مسيلمة الكذّاب من خير نجدكم. فقلت وفرعون اللعين رأس مصركم، فبهت، وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون). (2)
ويرد الشيخ عبد اللطيف على ابن منصور حين طعن في نجد اليمامة؛ لأنها – على حد زعمه – بلد نجدة الحروري والقرمطي، فيقول رحمه الله:
(ثم كون الحروري والقرمطي من هذه البلاد، كلام كذب وزور على عادته، فإن نجدة ابتلي ببدعته ومروقه بالعراق، وبها استقر وهي وطنه، وأيضا فقد ثبت أنه تاب لما ناظره ابن عباس. والقرمطي بلاده القطيف والخط، وليس من حدود اليمامة، بل ولا من حدود نجد. ثم لو فرض أنه من نجد، ومن اليمامة ومن بلدة الشيخ أي ضرر في ذلك ؟
وهل عاب الله ورسوله أحداً من المسلمين أو غيرهم ببلده ووطنه، وكونه فارسياً أو زنجياً أو مصرياً من بلاد فرعون، ومحل كفره وسلطته ؟ وعكرمة بن أبي جهل من أفاضل الصحابة، وأبوه فرعون هذه الأمة)(3).
وقد تتبع الشيخ السهسواني في (صيانة الإنسان) الروايات في شأن نجد قرن الشيطان، وساق أقوال العلماء في ذلك، ومرادهم بنجد هاهنا(4)، ثم قال:
(ولا يخفى عليك أن لفظاً من ألفاظ هذا الحديث، لا يقتضي أن كل من يولد في المشرق يكون مصداقاً لهذا الحديث..
ومجرد وقوع الفتنة لا يستلزم ذم كل من يسكنه، بدليل ما رواه الشيخان عن أسامة بن زيد قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال: هل ترون ما أرى ؟ قالوا: لا قال: فإني لأرى الفتن تقع من خلال بيتكم كوقع المطر). (5)
وذكر المؤلف أحاديث أخرى، ثم قال:
__________
(1) من المعلوم أن الشيخ عبد اللطيف تلقى بعض العلوم من علماء مصر أثناء مغادرته مع أبيه للدرعية بعد سقوطها منفياً إلى مصر.
(2) مصباح الظلام) ص237.
(3) المرجع السابق ص 295.
(4) انظر : (صيانة الإنسان) ص496 – 499.
(5) المرجع السابق ص 499.(131/224)
(وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دالة على وقوع الفتن في المدينة النبوية، فلو كان وقوع الفتن في موضع مستلزماً لذم ساكنيه لزم ذم سكان المدينة كلهم أجمعين، وهذا لا يقول به أحد، على أن مكة والمدينة كانتا في زمن موضع الشرك والكفر، وأي فتنة أكبر منهما، بل وما من بلدٍ أو قريةٍ إلا وقد كانت في زمن أو ستصير في زمان موضع الفتنة، فكيف يجتريء مؤمن على ذم جميع مسلمي الدنيا؟ وإنما مناط ذم شخص معين كونه مصدراً للفتن من الكفر والشرك والبدع). (1)
كما ساق السهسواني الروايات التي تثبت أن العراق هو المراد في أحاديث الفتن في نجد، وأنه المشرق بالنسبة للمدينة المنورة. (2)
ويقول السهسواني عن دعوى التحليق:
(وهذا كذب صريح وبهتان قبيح). (3)
ويقول علامة العراق محمود شكري الآلوسي عن بلده العراق – والتي هي في الحقيقة نجد قرن الشيطان ـ:
(ولا بدع فبلاد العراق معدن كل محنة وبليّة، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية، فأهل حروراء وما جرى منهم على الإسلام لا يخفى، وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق، والمعتزلة وما قالوه للحسن البصري وتواتر النقل به … إنما نبغوا وظهروا بالبصرة، ثم الرافضة والشيعة وما حصل فيهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في الإمام علي، وسائر الأئمة ومسبّة أكابر الصحابة..، كل هذا معروف مستفيض). (4)
ويعلن الشيخ ابن سحمان براءتهم من الخوارج، فينشد هذه الأبيات:
ونبرأ من دين الخوارج إذ غلوا ………بتكفيرهم بالذنب كل موحد
__________
(1) المرجع السابق ص 500.
(2) انظر : المرجع السابق ص 514.
(3) المرجع السابق ص 529
وانظر : في المرجع السابق ما ذكره المؤلف من ثناء المصطفى صلى الله عليه وسلم على أهل نجد وبني تميم ص 521 – 523.
(4) غاية الأماني في الرد على النبهاني) 2/148 باختصار.
وانظر : (فتح المنان تتمة منهاج التأسيس)، ص 527.(131/225)
وظنوه ديناً من سفاهة رأيهم ……وتشديدهم في الدين أي تشدد
ومن كل دين خالف الحق والهدى ………وليس على نهج النبي محمد (1)
ويرد ابن سحمان إفك الحداد حين وصف أهل نجد بأنهم من ذرية مسيلمة الكذّاب، ويؤكد أن العراق موطن الفتن؛ لأنها مشرق المدينة وليست اليمامة، يقول ابن سحمان:
(.. وآباء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلافهم كانوا على جاهلية، وشرك، وعبادة للأصنام والأحجار وغيرها. ولا يتوجه عيب أحد منهم بأسلافه وقد يخرج الله من أصلاب المشركين، والكفّار من هو خواص أوليائه وأصفيائه …). (2)
ويقول: (قد كان بلد الشيخ اليمامة، ولم تكن اليمامة مشرق المدينة، بل مشرق المدينة العراق ونواحيه، فاليمامة، ليست مشرق المدينة، ولا هي وسط المشرق بين المدينة والعراق، بل اليمامة شرق مكة المشرفة..). (3)
ويبيّن عبد الكريم بن فخر الدين الهندي تحريف دحلان، ويرد عليه، ثم يذكر جواباً على دعوى التحليق، فيقول – حين ذكر دحلان أن نجد جزيرة العرب هي قرن الشيطان ـ:
(انظر كيف صنيعه وتحريفه كلام الرسول وتضييعه، مع أن شرّاح الحديث يذكرون في ذيله قتل عثمان رضي الله عنه، وواقعة الجمل وصفين، وظهور الخوارج.. ونحو ذلك، ولم يعينوا مورده كما عين، مع أن حدوث الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج عن الموارد المذكورة فيما هنالك). (4)
ويقول عبد الكريم أيضاً:
__________
(1) الهدية السنية)، ص 116.
(2) الأسنة الحداد في الرد على علوي الحداد) ص 87.
(3) المرجع السابق ص 97.
(4) الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين) ص 44.(131/226)
(وأما ما ورد في الخوارج سيماهم التحليق، فلا ينطبق على ما ادعاه فإن ترك الشعر واللّمة سنة عند محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، فإن كان صحيحاً يحمل أمره ذلك، فيمن كان جديد الإسلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألق عنك شعر الكفر) (1) (2).
ويبيّن ناصر الدين الحجازي في (النفخة) المراد بالشرق وحده – أثناء رده على إفك الأسكندراني – فيقول:
(إن الشرق اسم عام نهايته مطلع الشمس، وقد ظهر منه فتن كثيرة كفتنة جنكيزخان، وهولاكو ومن بعده من التتار، واستطال الأمر، وقتلت الألوف المؤلفة من المسلمين فما الذي حملت على أن تخصمه بأولئك المساكين الذين يضربون في الأرض، ليحصلوا قوتهم من حلال ….). (3)
ويجيب الحجازي عن فرية التحليق فيقول – رحمه الله ـ:
(وأما ما ذكرته عن التحليق فذاك) كلام خرافة يا أم عمرو). (4)
وألف الشيخ حكيم محمد أشرف سندهو – رحمه الله – رسالة مستقلة بعنوان (أكمل البيان في شرح حديث نجد قرن الشيطان(5)، جمع فيها روايات هذا الحديث، وذكر أقوال شرّاح الحديث في بيان معناه، وكذا أقوال علماء اللغة، والجغرافيين، وأثبت – على ضوئها – أن المراد بنجد قرن الشيطان هي العراق، ونوجز بعض ما أورده وهو يقول – بعد أن ساق مرويات هذا الحديث ـ:
(مقصود الأحاديث أن البلاد الواقعة في جهة المشرق من المدينة المنورة، هي مبدأ الفتنة والفساد ومركز الكفر والإلحاد، ومصدر الابتداع والضلال، فانظروا في خريطة العرب بنظر الإمعان، يظهر لكم أن الأرض الواقعة في شرق المدينة إنما هي أرض العراق فقط موضع الكوفة والبصرة وبغداد). (6)
ويقول - في موضع آخر -:
__________
(1) رواه أبو داود، وضعفه عبد القادر الأرناؤوط – وقد تقدم -.
(2) الحق المبين) ص 45.
(3) النفخة على النفحة)، ص29.
(4) المرجع السابق، ص 32.
(5) حقق هذه الرسالة عبد القادر السندي، ط1، حديث أكاديمي باكستان، 1402هـ.
(6) ص16 ،17.(131/227)
(واتفقت كلمة شرّاح الحديث وأئمة اللغة ومهرة جغرافية العراب أن النجد ليس اسماً لبلد مخصوص، ولا اسماً لبلدة بعينها، بل يقال لكل قطعة من الأرض مرتفعة عما حواليها نجد …). (1)
وقد رد الشيخ حمود التويجري في كتابه (إيضاح المحجة) على فرية الغماري فكان من رده:
(أن الروايات الواردة في طلوع قرن الشيطان من المشرق كلها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد صرح في بعضها أن المراد بالمشرق أرض العراق فبطل بذلك كل ما يتعلق به الملاحدة على أهل الجزيرة العربية).(2)
ولما زعم الغماري أن المراد بطلوع قرن الشيطان بنجد هو ظهور الشيخ أعقبه التويجري برد قال فيه:
(وهذا من البهتان والإثم المبين، لكونه وصفهم بصفة ذميمة لم ترد فيهم، وإنما وردت في غيرهم، وقد قال الله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً) (3). وقد شهد علماء الدين للشيخ بأنه أظهر توحيد الله، وجدد دينه، ودعا إليه، واعترفوا بعلمه وفضله وهدايته، وأثنوا عليه نظماً ونثراً) (4).
ويقول العلامة ناصر الدين الألباني – معلقاً على حديث (اللهم بارك لنا في شامنا..) بعد أن ساق طرقه ومروياته:
__________
(1) ص21.
(2) إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة)، ص132، باختصار.
(3) سورة الأحزاب : آية 58.
(4) إيضاح المحجة) ص 138.(131/228)
(فيستفاد من مجموع طرق الحديث أن المراد من نجد في رواية البخاري ليس هو الإقليم المعروف اليوم بهذا الاسم، وإنما هو العراق، وبذلك فسره الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني … وقد تحقق ما أنبأ به عليه السلام، فإن كثيراً من الفتن الكبرى كان مصدرها العراق كالقتال بين سيدنا علي ومعاوية، وبين علي والخوارج، وبين علي وعائشة وغيرها مما هو مذكور في كتب التاريخ. فالحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم وأعلام نبوته..) (1).
وينفي د. عبد الباري عبد الباقي أن يكون الوهابيين خوارج، فيقول:
(فعلى عكس الخوارج، لم يتبرأ الوهابيون من عثمان وعلي رضي الله عنهما). (2)
ويدحض القصيمي فرية التحليق – شعار الخوارج كما يقولون.. ـ، وينفي أن تكون منطبقة على الوهابيين، فيقول:
(وهذا قول فاسد مردود، وبيان ذلك أن حجته في هذا القول، هي أن النجديين فيهم من يحلقون رؤوسهم، وفاتهم أن معنى سيمى القوم، أي علامتهم التي بها يتميزون عن غيرهم، وما به يعرفون ويختصون، وإذا كان الأمر مشتركاً بين الناس مشاعاً بين أصنافهم، فليس سيمى الطائفة ولا علامة، وكذلك التحليق لا يمكن أن يكون سيمى لأحد اليوم؛ لأن التحليق أمر تفعله أمم كثيرة في أقطار كثيرة من الأقطار الإسلامية، فلا يمكن أن يكون سيمى النجديين يقيناً..). (3)
__________
(1) محمود مهدي الاستانبولي، (الإمام محمد بن عبد الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب)، ص 88 – 90.
(2) الوهابيون الأوائل بعض الجواب من التقييم المعاصر لهم)، تعريب د. سيد رضوان علي (ضمن بحوث أسبوع الشيخ، غير منشور) ص17.
(3) الصراع بين الإسلام والوثنية، 1/443، 444 باختصار.(131/229)
ويبطل القصيمي – دعوى الرافضي العاملي – أن الوهابيين خوارج فيقول: (إن الوهابيين يشهدون بحق وصدق أن هؤلاء الذين أكفرهم الخوارج كعلي وعثمان ومعاوية ومن وافق هؤلاء الصحابة من الصحابة والتابعين من أفضل البشر، وأصدقهم ديناً، وإيماناً وسيرة وسريرة..)(1).
المبحث الثالث
شبهة أن الوهابيين
أدخلوا في المكفرات ما ليس فيها
نورد في هذا المبحث ما كتبه بعض الخصوم من مخالفات واعتراضات لما قرره علماء الدعوة السلفية، فلقد خالف هؤلاء الخصوم، وادعوا أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وأنصار دعوته قد أدخلوا في نواقض الإسلام ما ليس منها، وادعوا - أيضاً - أن تلك المكفرات التي يؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أنها تخرج عن دائرة الإسلام أنها ليست – في الحقيقة عندهم – مكفرات، بل هي دون ذلك …
__________
(1) المرجع السابق 1/470.
ويوضح القصيمي أن الشيعة شر من الخوارج من عدة أوجه (انظر : المرجع السابق 1/477 – 492) ، كما يوضح أوجه الشبه بين الشيعة واليهود. (انظر : المرجع السابق 1/492 – 503)., ويرد القصيمي في كتابه (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)، الصفات الشنيعة – من صفات الخوارج – التي ألصقها الدجوي بالوهابيين ثم يثبت بالبراهين أن الدجوي وأتباعه هم بهذه الصفات أحق وأولى. انظر : (الفصل الحاسم) ص 112 – 117.
وانظر : مقال د. محمد الشويعر في مجلة الاعتصام س47، ع 8، 9 جمادى الأولى والآخرة 1406هـ بعنوان : (لا علاقة بين الوهابية الرستمية وبين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية) حيث أن هناك طائفة من الإباضية في المغرب يطلق عليها الوهابية نسبة إلى عبد الوهاب بن الرحمن بن رستم وهذه الطائفة قد وجدت قبل مولد الشيخ بمئات السنين، فربما وقع اللبس عند قاصري الإطلاع فخلط بين الحركة الإباضية الخارجية وبين دعوة الشيخ الإمام السلفية.(131/230)
ولو تتبعنا أقوال الخصوم في هذا المقام، لطال بنا الحديث وامتد دون حد أو حصر.. ولكن – ومن خلال التأمل في تلك الأقوال والنقول عنهم – لاحظت أن السبب الرئيس لهذا الخلاف، هو الاختلاف في حد الكفر المخرج عن دين الإسلام بين أئمة الدعوة السلفية، وبين هؤلاء الخصوم، فقد قرر أئمة الدعوة نواقض الإسلام وبينوا وميزوا حد الكفر الأكبر من الأصغر، كما جاء هذا التقرير والبيان في نصوص القرآن ونصوص السنة النبوية، وآثار السلف الصالح، أما أولئك المخالفين – من الخصوم – فقد خالفوا سبيل المؤمنين، فلم يدركوا حد الكفر..، ولم يعرفوا معنى الكفر المخرج من الملة، لذا فإنهم قد حصروا الكفر في حدود ضيقة جداً، فأخرجوا كثيراً من المكفرات – مما جاءت الأدلة والبراهين على إثبات أنها من المكفرات ـ، وجعلوها غير داخلة في نواقض الإسلام.
ولقد وقع الخصوم في اللبس والقصور لحقيقة الكفر، بسبب جهلهم بحقيقة التوحيد، فلما لم يتصوروا حقيقة التوحيد تصوراً تاماً، ولم يفهموا حقيقة التوحيد فهماً سليماً، وجهلوا بعض خصائص التوحيد، أدى بهم ذلك إلى التصور المبتور، والجهل بمعرفة ما يناقض حقيقة التوحيد – إضافة إلى أثر العوائد المألوفة والتقليد الأعمى ـ، ومن ثم جهلوا بعض أوصاف الكفر، فوقعوا – أي الخصوم – في بعض المكفرات، وأوقعوا العامة في أدران الشرك ونجاساته(1)، ثم أنكر الخصوم على من أدرك الحق في ذلك، وخالف هؤلاء الأدعياء في تصور حقيقة التوحيد، وحقيقة ما يناقضه.
__________
(1) سبق الإشارة إلى هذا الكلام.(131/231)
إن التصور الناقض المبتور لحقيقة التوحيد – عند الخصوم – هو أنهم يعتقدون أن التوحيد - الذي يجب على كل مكلَّف - هو توحيد الربوبية فقط، فمن أقر بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت.. ونحوها من صفات الربوبية، فهو الموحَّد، وتصوروا – جهلاً وتقليداً – أن معنى شهادة لا إله إلا الله هو إثبات أن الله هو الخالق والقادر على الاختراع، وجهلوا - أو تجاهلوا - أن معنى (الإله) بإجماع أهل اللغة وعلماء التفسير والفقهاء هو المعبود، فيكون المراد بكلمة الشهادة: لا معبود بحق إلا الله، أي صرف جميع أنواع العبادات لله وحده، وإثباتها له وحده – سبحانه، ونفيها عما سواه عز وجل. (1)
وكأن هؤلاء الأدعياء لا يعلمون أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد قاتل مشركي العرب مع إقرارهم بتوحيد الربوبية؛ لأنهم قد أنكروا توحيد العبادة ولم يعترفوا، ولم يقروا بأن الله وحده هو المستحق للعبادة بجميع أنواعها فلا تصرف لمعبوداتهم من الأحجار والأوثان والطواغيت.
ومما يدل على أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرَّين بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر.. ونحوها من أفعال الرب سبحانه، ولم يدخلهم ذلك في دين الإسلام قوله تعالى:
(قل من يرزقكم من السماء والأرض، أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون). (2)
وهذا التوحيد الذي أقر به مشركوا العرب ولم يدخلهم في الإسلام هو الغاية عند هؤلاء الخصوم.
__________
(1) انظر : بيان ذلك في (مجموعة التوحيد النجدية)، المطبعة السلفية، القاهرة، 1375هـ، ص 396، 398.
(2) سورة يونس : آية 31.(131/232)
وسنورد نماذج من أقوالهم – من كتبهم – توضح ما ذكرناه آنفاً، وتبين أن توحيد الربوبية هو مقصودهم، وأن مخالفة ومناقضة هذا التوحيد هي الكفر – فقط -، ولو وقع أحدهم في بعض أنواع المكفرات – المخرجة عن دين الإسلام – كمن ذبح لغير الله أو نذر لغير الله أو استغاث ودعا المخلوقين – فيما لا يقدر عليه إلا الله -، فإنه لا يعتبر بفعلها مرتداً، ما دام أنه يعتقد أن المؤثر في هذا الكون هو الله وحده …
ثم نورد نماذج أخرى من أقوالهم في تجويز تلك المكفرات – أو جعلها معاصي دون الكفر المخرج عن الملّة – مثل الذبح لغير الله والنذر لغير الله والدعاء والاستغاثة بغير الله، وإنكارهم على أئمة الدعوة خلاف ذلك، وعقب ذلك، نذكر الرد والبيان من كلام الأئمة الأعلام أتباع هذه الدعوة السلفية على تلك الدعاوى.
يقرر ابن عفالق معنى التوحيد – عنهم – فيقول:
(التوحيد إفراد القديم من المحدث، وإفراده بالربوبية والوحدانية، ومبيانته تعالى لجميع مخلوقاته …). (1)
وينكر القباني إقرار المشركين الأولين بتوحيد الربوبية، لكي يدافع عن مشركي زمانه ممن يستغيث بغير الله – فيما لا يقدر عليه إلا الله – فيقول:
(فهل سمعت عن أحد من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الولي المستغاث به أنه إله مع الله تعالى يضر وينفع، ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه..). (2)
ويدعي محمد بن عبد المجيد نفس الدعوى السابقة، وأن مشركي العرب لم يقروا بربوبية الله، فيقول:
__________
(1) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق65.
(2) فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب)، ق61.(131/233)
(إنما كفر أهل الجاهلية بعبادة الأصنام لتضمنها اعتقادهم ثبوت شيء من صفات الربوبية لها … - ثم يقول – ومن هذه الحيثية شركهم وكفرهم؛ لأن صفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها إلا قائم بذاته تعالى ولا بذات أخرى). (1)
فإذا كان مشركو العرب منكرين لشيء من صفات الربوبية – على حد زعمه – (فأين هذا ممن يستغيث من المسلمين بنبي أو ولي معتقداً أنه لا يملك نفعاً ولا ضراً). (2)
ويدافع (الحداد) عن أتباعه – من عبّاد القبور – فيقول:
(.. هؤلاء مهما عظموا الأنبياء والأولياء فإنهم لا يعتقدون فيهم ما يعتقدون في جناب الحق تبارك وتعالى من الخلق الحقيقي التام العام، وإنما يعتقدون الوجاهة لهم عند الله في أمر جزئي، وينسبونه لهم مجازاً، ويعتقدون أن الأصل والفعل لله سبحانه). (3)
ويقرر (دحلان) أن الشرك هو اعتقاد التأثير لغير الله، وليس هناك مسلم يعتقد التأثير لغير الله، يقول:
(فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله). (4)
ثم يقول: (ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله تعالى، ولا تأثير أحد سوى الله تعالى..). (5)
ويؤكد (الزهاوي) أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون لأصنامهم أنها تنفع وتضر بذواتها فيقول: (إن المشركين إنما كفروا بسبب اعتقادهم في الملائكة والأنبياء والأولياء أنهم آلهة مع الله يضرون وينفعون بذواتهم). (6)
__________
(1) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية)، ص11 باختصار.
(2) المرجع السابق، ص 15، 16 باختصار.
(3) مصباح الأنام)، ص5.
(4) الدرر السنية في الرد على الوهابية)، ص 33.
(5) المرجع السابق، ص 34.
(6) الفجر الصادق في الرد على منكري التوسل والكرامات والخوارق)، ص 51 باختصار.(131/234)
ويحاول (العاملي) أن يثبت – بلا دليل – أن مشركي العرب ينكرون ربوبية الله، وأن يرد على ما قرره الشيخ الإمام – بالأدلة والبراهين في رسالتيه: (كشف الشبهات)، و (أربع قواعد) – بأن مشركي العرب معترفون بربوبية الله، فيقول – في دفاع هزيل عن أتباعه المشاركين لهؤلاء المشركين في الإقرار بتوحيد الربوبية فقط -: (لا شيء يدلنا على أنهم – أي مشركي العرب – لا يعتقدون في الأصنام والأوثان ومعبوداتهم. أنه لا تأثير لها في الكون، وأن التأثير وحده لله تعالى وهي شافعة فقط، إذ يجوز أن يعتقدوا أن لها تأثير بنفسها بغير ما في الآيات المستشهد بها، فتشفي المرض وتكشف الضر..).(1)
ويقرر الشطي أن الشرك الأكبر هو – فقط -: (عبادة الأوثان والأصنام) (2)، ويذكر حكاية لجده، فقال:
(ومرة دخل جدي جامع بني أمية في الشام، فسمع عجوزاً تقول:
يا سيدي يحيى عاف لي بنتي، فوجد هذا اللفظ بظاهره مشكلاً، وغير لائق بالأدب الإلهي، فأمرها بالمعروف، وقال لها: يا أختي قولي بجاه سيدي يحيى عاف لي بنتي، فقالت له: أعرف أعرف، ولكن هو أقرب مني إلى الله تعالى، فأفصحت عن صحة عقيدتها من أن الفعال هو الله تعالى، وإنما صدر هذا القول منها على وجه التوسل والتوسط إلى الله تعالى، بحصول مطلوبها منه..) (3).
ويبرّأ الرافضي محمد حسين طائفته الرافضة، ومن سار على نهج ضلالهم من عبّاد القبور، ويعلن براءتهم من شرك الربوبية فيقول:
فهل تحس أن أحداً من زوّار القبور يقصد أن القبر الذي يطوف حوله، أو صاحب الملحود فيه هو صانعه وخالقه، أو أنه يقول للغير أو لمن فيه، يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي.. كلاَّ ثم كلاَّ.. ما أحسب أن أحداً يخطر على باله شيء من تلك المعاني..). (4)
__________
(1) كشف الارتياب)، ص 170، باختصار.
(2) النقول الشرعية)، ص 100.
(3) المرجع السابق، ص 102.
(4) رسالة نقض فتاوى الوهابية)، ص 27 – 30 باختصار.(131/235)
ويسد محمد الطاهر باب الردة، ويلغي نواقض الإسلام حين يهذي فيقول:
(إذا وجد في كلام المسلمين إسناد شيء لغير الله يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل لتكفير أحد من المسلمين.. فإذا قال العامي من المسلمين: نفعني النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي أو الولي، فإنما هو يريد الإسناد المجازي، والقرينة على ذلك أنه مسلم موحَّد لا يعتقد التأثير إلا لله وحده لا لغيره). (1)
بناءً – على النقول السابقة لهؤلاء الخصوم – فليس الذبح لغير الله شركاً، وليس النذر لغير الله شركاً، وليست الاستغاثة بالأموات شركاً، كل ذلك ليس شركاً يخرج عن دائرة الإسلام، ما دام أن مرتكبها يعتقد أن الله هو الفاعل وأنه المؤثر وحده.. هكذا فهم هؤلاء البشر وإليك أقوالهم – من كتبهم – التي تثبت ذلك، وتستنكر – وبشدة – على من خالفهم في ضلالاتهم وانحرافاتهم.
يقول ابن عفالق – نافياً أن يكون الذبح والنذر لغير الله شركاً -:
(فاجتمعت الأمة على أن الذبح والنذر لغير الله حرام، ومن فعلها فهو عاص لله ورسوله.. والذي منع العلماء من تكفيرهم أنهم لم يفعلوا ذلك باعتقاد أنها أنداد لله..). (2)
ويشنع ابن سحيم على الشيخ الإمام، لأنه كفّر من ذبح لغير الله، يقول ابن سحيم:
(ومنها أنه يقطع بكفر الذي يذبح الذبيحة ويسمي عليها، ويجعلها لله، لكن يدخل مع ذلك دفع شر الجن ويقول ذلك كفر واللحم حرام..).(3)
ويستنكر سليمان بن عبد الوهاب تكفير من ذبح أو نذر لغير الله، ويستغرب من تكفير من دعا غير الله فيقول:
__________
(1) قوة الدفاع والهجوم)، ص 16، 17.
(2) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق60.
(3) نقلاً عن : أحمد القباني، (فصل الخطاب)، ق 211.(131/236)
(من أين لكم أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إذا دعا غائباً أو ميتاً أو نذر له، أو ذبح لغير الله، أن هذا هو الشرك الأكبر الذي من فعله حبط عمله وحل ماله ودمه). (1)
ويقول سليمان: (لم يقل أهل العلم من طلب من غير الله فهو مرتد ولم يقولوا من ذبح لغير الله فهو مرتد..)(2).
ويجوّز محمد بن محمد القادري الاستغاثة بغير الله ما دام أن المستغيث بغير الله، لا يعتقد أن غير الله هو الموجد، وأنه لا تأثير إلا لله وحده يقول القادري:
(وقول يا سيدي أحمد أو شيخ فلان ليس من الإشراك؛ لأن القصد التوسل والاستغاثة.. ولا يشك في مسلم أن يعتقد في سيدي أحمد أو غيره من الأولياء أن له إيجاد شيء من قضاء مصلحة أو غيرها إلا بإرادة الله وقدرته..) (3).
ويعتبر الحداد أن منع النذر للأولياء من مفتريات الشيخ، فيقول الحداد:
(وأما نص النجدي بمنع النذر مطلقاً للأكابر، فمن افترائه على كتب الشريعة وجهله المركب). (4)
ويقول محسن بن عبد الكريم في (لفحات الوجد) أثناء مدحه لأحد خصوم الشيخ:
(وألزمهم بعد ذلك أن الشرك في الدعاء ليس بشرك أكبر، فلا يخرج به فاعله من دائرة الإسلام بعد تحقيق دخوله فيه). (5)
وألف عبد الله بن حسين بلفقيه العلوي رسالة في الرد على أئمة الدعوة … في هذه المسألة، لكي يثبت أن دعاء غير الله ليس شركاً أكبر. (6)
كما أن داود بن جرجيس يزعم أن دعاء الأموات والغائبين والذبح والنذر لغير الله ليس بشرك. (7)
__________
(1) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)، ص 6.
(2) المرجع السابق، ص 7.
(3) رسالة في الرد على الوهابية، ق6، 7.
(4) مصباح الأنام)، ص 44.
(5) ق 88.
(6) انظر : رسالته في الرد على الوهابية، صورة خطية من معهد المخطوطات بالكويت، ق 13.
(7) انظر : مقدمة (تأسيس التقديس) للشيخ عبد الله أبي بطين ص2.(131/237)
ويحتج جعفر النجفي على جواز الذبح لغير الله بأن (أهل الإسلام من قديم الأيام يذبحون للأنبياء والأولياء..). (1)
ويدعي الرافضي العاملي جواز الاستغاثة بغير الله، فيقول:
(لو قال في دعائه واستغاثته بغير الله: اقض ديني، أو اشف مريضي أو انصرني على عدوي، فليس منه مانع ولا محذور، فضلاً عما يوجب الإشراك والتكفير، للعلم بحال المسلم الموحَّد المعتقد أن من عدا الله تعالى لا يملك لنفسه أو لغيره نفعاً ولا ضراً). (2)
ويستنكر الشطي أن تكون الاستغاثة بغير الله شركاً – كما هو عليه أئمة الدعوة السلفية -، فيقول حاكياً معتقد الوهابيين في ذلك:
(فإنهم يصرحون بأن من يستغيث بالرسول عليه السلام، أو غيره، في حاجة من حوائجه، أو يطلب منه أو يناديه في مطالبه ومقاصده، ولو بيا رسول الله، أو اعتقد على نبي أو ولي ميت وجعله واسطة بينه وبين الله في حوائجه فهو مشرك حلال الدم والمال …). (3)
ويأتي محمد بن علوي المالكي – في ذيل تلك القافلة المتعثرة – فيدعي: (أنه لا يكفر المستغيث إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله). (4)
لكي نجيب على تلك الشبهة، ونزيل اعتراض الخصوم، فإننا نذكَّر ابتداءً – بما قررناه من قبل – أن الخصوم قصرت تصوراتهم عن إدراك حقيقة التوحيد فجعلوا توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، وأنه الواجب على المكلَّف.. ومن ثم قصرت تصوراتهم لحقيقة الشرك – الذي يناقض التوحيد – فحصروا الشرك في الربوبية كمن يعتقد أن الخلق والإيجاد لغير الله، أو النفع والضر لغيره سبحانه …
أما علماء هذه الدعوة وأتباعها فقد تصوروا تصورا ًتاماً وفهموا فهماً شاملاً لكل من حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك.
__________
(1) منهج الرشاد لمن أراد السداد)، ص 30.
(2) كشف الارتياب)، ص 274
(3) النقول الشرعية) ص 101.
(4) مفاهيم يجب أن تصحح) ط1، دار الإنسان، القاهرة، 1405هـ، ص 15.(131/238)
ومن المناسب – إذن – أن نذكر حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده – كما قرره بعض علماء الدعوة.. – وهو:
(أن يصرف العبد نوعاً أو فرداً من أفراد العبادة لغير الله.. فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع، فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر). (1)
فمثلا أمر الله بالذبح له، وإخلاص ذلك لوجهه، كما هي صريحة بذلك النصوص القرآنية في الصلاة، فقد قرن الله الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه، وإذا ثبت أن الذبح لله من أجل العبادات وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام. (2)
وكذلك النذر عبادة، مدح الله الموفين به، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة، وأمر سبحانه بالاستغاثة به في كل شدة ومشقة، فهذه إخلاصها لإيمان وتوحيد وصرفها لغير الله شرك وتنديد. (3)
وأما دعوى الخصوم أن مشركي العرب يعتقدون النفع والضر لأصنامهم، فنصوص القرآن الكريم ترد تلك الدعوى الخاطئة – كما ذكرنا بعضها من قبل – ويكفي من ذلك قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون).(4)
فهؤلاء الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقرون بأنه لا ينفع ولا يضر إلا الله وحده ومقرون أن معبوداتهم – سواء كان أصناماً أو أولياء – لا تدبر ولا تخلق شيئاً، وأن النفع والضر من عند الله..
__________
(1) عبد الرحمن بن ناصر السعدي، (القول السديد في مقاصد التوحيد)، مكتبة المعارف، الرياض، ص43.
(2) انظر : المرجع السابق، ص42 = بتصرف يسير.
(3) انظر : المرجع السابق، ص 47، 48.
(4) سورة المؤمنون : آيات 84 – 89.(131/239)
وبهذا يتضح بطلان اعتقاد هؤلاء الجهال – من عباد القبور – ممن يذبح للأولياء أو ينذر لهم القرابين أو يستغيث بالموتى، ويظن أنه مسلم بمجرد اعتقاده أن الله هو المؤثر المتصرف، فإن هذه طريقة مشركي العرب – سواء بسواء.(1)
ولبيان أن دعاء غير الله والاستغاثة بالأولياء ونحوهم، وكذا الذبح لغير الله، والنذر لغيره عز وجل.. أن هذه – كلها – من أنواع الشرك الأكبر الذي يخرج عن دائرة الإسلام، فإننا نذكر بعض ما كتبه أئمة الدعوة في هذا الشأن رداً على شبهة أولئك الخصوم.
يورد الشيخ محمد بن عبد الوهاب الجواب الشافي على شبهة ابن سحيم حين ظن أن النذر لغير الله حرام ليس بشرك، فقال الشيخ مجيباً على ذلك ومخاطباً ابن سحيم:
__________
(1) انظر : للرد على اعتراضات الخصوم التي يتوصلون بها إلى الشرك ونقض التوحيد ما كتبه الشيخ الإمام في رسالته النفيسة (كشف الشبهات).
وانظر : كذلك ما كتبه الدكتور صالح العبود في رسالته، (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) 2/591 – 602.(131/240)
(فدليلك قولهم أن النذر لغير الله حرام بالإجماع فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك فكيف تدعي المعرفة ؟ يا ويلك ما تصنع بقول الله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } (1). فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر يا هذا الجاهل الجهل المركب، ما تصنع بقول الله تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } (2). إلى قوله: { وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً } (3). هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه ؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام، أنه ليس بكفر، فقولك أن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم، بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه أنه مصرح في (الإقناع) أن النذر عبادة، ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره كيف لا يكون شركاً) (4).
ويورد الشيخ الإمام قاعدة مهمة أثناء جوابه على من ادعى أن الذبح للجن منهي عنه فهو معصية وليس ردة.. يقول الشيخ:
__________
(1) سورة الأنعام : آية 151.
(2) سورة الأعراف : آية 33.
(3) سورة الأعراف : آية 33.
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/229.(131/241)
(قوله: الذبح للجن منهي عنه، فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي أن لفظ (التحريم) و (الكراهة) وقوله (لا ينبغي) ألفاظ عامة تستعمل في المكفّرات، والمحرّمات التي هي دون الكفر، وفي كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، مثل استعمالها في المفكرات: قولهم لا إله إلا الذي لا تنبغي العبادة إلا له. وقوله (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً)(1) ولفظ التحريم مثل قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً)(2)، وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم (يحرم كذا) لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر، وقولهم (يكره) كقوله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (3) إلى قوله (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها)(4) وأما كلام الإمام أحمد في قوله: (أكره كذا) فهو عند أصحابه على التحريم، إذا فهمت هذا، فهم صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج وقالوا: الذبيحة حرام ولو سمى عليها..). (5)
ويقرر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر حكم الاستغاثة بغير الله فيقول:
(ونحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله قال الله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) (6). (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين(7)..) (8) .
ثم يقول: (فكل من دعا ميتاً من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو الجن، فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويله) (9).
__________
(1) سورة مريم : آية 92.
(2) سورة الأنعام : آية 151.
(3) سورة الإسراء : آية 23.
(4) سورة الإسراء : آية 38.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ) 3/ 66.
(6) سورة الجن : آية 18.
(7) سورة الشعراء: آية 213.
(8) الهدية السنية) ص 54.
(9) المرجع السابق ص 55..(131/242)
ويبين الشيخ حمد بن ناصر بن معمر – رحمه الله – نوعي دعاء غير الله، ثم يرد على بعض الاعتراضات التي أوردها بعض الخصوم، لكي يجيزوا دعاء غير الله ويحسبون أنه ليس بكفر، فكان مما قاله:
(اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان، أحدهما: سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه مثل سؤاله أن يدعو له، أو ينصره، أو يعينه، فهذا جائز كما كان الصحابة يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم.
النوع الثاني: سؤال الميت والغائب وغيرهما ما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات وتفريج الكربات، فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين.. وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام) (1).
وقال أيضاً:
(فقول القائل: أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلَّم لوجوه: الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه. كلام باطل بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله، وجعل لله نداً من خلقه يدعوه كما يدعو الله ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره كلها.
قال الله تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون(2)}(3).
ويقول – في موضع آخر -:
(وأيضاً فإن كثيراً من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الردة والكفر وانعقد عليها الإجماع، لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفراً، وإنما يستنبطها العلماء من عمومات النصوص..) (4).
ثم يقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر – في رد اعتراض آخر -:
(وأما قوله الثاني إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله وقد ورد أنه شرك وكفر ثم أوّلوه بالأصغر …
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 4/592.
(2) سورة الأنعام : آية 1.
(3) المرجع السابق 4/599.
(4) المرجع السابق 4/602.(131/243)
فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأي مشابهة بين من وحد الله وعبده، ولم يشرك معه أحداً من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله واستغاث به في تفريج كربته، لكنه حلف بغير الله يميناً مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد، فإن هذا صرف مخ العبادة الذي هو لبها وخالصها لغير الله …) (1).
ويوضح صاحب (التوضيح) الإشكال عند الخصوم، ويزيل اللبس عندهم في مسألة النذر لغير الله … فيفصّل الفرق بين نذر فعل المعصية، والنذر لأجل غير الله..، ويبين تحقق الشرك وحصوله في النذر لغير الله.. يقول صاحب (التوضيح): (والنذر غير الجائز قسمان:
أحدهما: نذر فعل معصية كشرب الخمر، وقتل معصوم، وصوم يوم عيد فيحرم الوفاء به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه)(2)، ولأن معصية الله تبارك وتعالى لا تباح في حال من الأحوال …
__________
(1) المرجع السابق 4/611.
…ومما يجدر ذكره أن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر قد قال في مسألة الحلف بغير الله ما نصه: (أما إن فعل الحلف بغير الله مستحلاً أو لكون المخلوق أعظم في قلبه من الخالق كان ذلك كفراً ..) عن المرجع السابق 4/612.
(2) جزء من حديث رواه البخاري.(131/244)
الثاني: النذر لغير الله كالنذر لإبراهيم الخليل أو محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، أو ابن عباس، أو عبد القادر، أو الخضر .. فلا خلاف بين من يعتد به من علماء المسلمين أنه من الشرك الاعتقادي؛ لأن الناذر لم ينذر هذا النذر الذي لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع ويعطي ويمنع إما بطبعه، وإما بقوة سببيه فيه، ويجلب الخير والبركة، ويدفع الشر والعسرة، والدليل على اعتقاد هؤلاء الناذرين وشركهم حكيهم وقولهم أنهم قد وقعوا في شدائد عظيمة، فنذروا نذرا لفلان وفلان أصحاب القبور من الأنبياء والمشايخ، وللغار الفلاني، والشجرة الفلانية فانكشفت شدائدهم، واستراحت خواطرهم، فقد قام في نفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم، ومن تأمل القرآن وسنة المبعوث به صلى الله عليه وسلم، ونظر أحوال السلف الصالح علم أن هذا النذر نظير ما جعلته المشركون لآلهتهم في قوله تعالى: (هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا(1)..) (2).
ويرد الشيخ عبد الله أبو بطين شبهة القبوريين حين ظنوا أن دعاءهم الأموات مجاز، وأن الله عز وجل هو المسئول حقيقة، فيقول :
(وأما قول القائل أن دعاء الأموات وسؤالهم قضاء الحاجات مجاز، والله سبحانه هو المسئول حقيقة، فهذا حقيقة قول المشركين {هؤلاء شفعاؤنا عند الله }(3)، { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }(4). فهم يسألون الوسائط زاعمين أنهم يشفعون لهم عند الله في قضاء حوائجهم، قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم كفر إجماعاً(5).
__________
(1) سورة الأنعام: آية 136.
(2) التوضيح عن توحيد الخلاق) ص 382، 383 باختصار.
(3) سورة يونس: آية 18.
(4) سورة الزمر: آية 3.
(5) الدرر السنية) 8/237.(131/245)
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أن صرف بعض أنواع العبادة لغير الله شرك.. كما قرره الأئمة الأعلام..، وعلى تقريرهم سار علماء هذه الدعوة فيقول الشيخ عبد اللطيف:
(وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، فكلامهم – أي العلماء – فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويحصر، وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به، ويرجع إليه من مشايخ الإسلام، والأئمة الكرام. ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك وسلكنا منهاجهم فيما هنالك، لم نكفر أحداً إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره ممن أشرك بالله، وعدل به سواه، أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفاً وتدبيراً مع الله. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً) (1).
ويتحدث محمود شكري الآلوسي عن حال الناذرين في نذورهم لمن يعتقدون فيه الصلاح، ويذكر أنهم يعتقدون فيمن نذروا له من الأولياء أنه ينفع ويضر، ويعطي ويمنع، ويذكر الآلوسي الدليل على ذلك، فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 3/221.(131/246)
(والدليل على اعتقادهم هذا، قولهم: وقعنا في شدة فنذرنا لفلان فانكشفت شدتنا، ويقول بعضهم: هاجت علينا الأمواج، فندبت الشيخ فلان، ونذرت له الشيء الفلاني فسلمت سفينتنا، وتراهم إذا هم لم يفوا، وحصلت لهم بعض الآلام، قيل للناذر أوفي بنذرك، وإلا يفعل بك الشيخ كذا وكذا، فيسارع بالوفاء، ولو أنه يستدين في ذمته، ولو كان مديوناً أو مضطراً، وربما يموت وهو مديون، كل ذلك خوفاً من المنذور له، وطلباً لرضاه. وهل هذا إلا من سوء اعتقاده، وقلة دينه وكساده، وغاية جوابه إذا عذلته أن يقول لك: مقصودي يشفعون لي. والله لا تخطر الشفاعة على قلبه، ولا يعرف إلا أن ذلك المنذور له هو القاضي لحاجته والمهيء لبغيته) (1).
وسرد الآلوسي أقوال العلماء التي تؤكد وتثبت أن الذبح لغير الله يعتبر شركاً أكبر يخرج من الملة، ثم قال:
(فقد تبين لك من هذه النقول كلها أن من يقرب لغير الله تقرباً إلى ذلك الغير ليدفع عنه ضيراً، أو يجلب له خيراً تعظيماً له من الكفر الاعتقادي والشرك الذي كان عليه الأولون) (2).
ومما تضمنه (البيان المفيد) ما نصه:
(ونعتقد أن عبادة غير الله شرك أكبر، وأن دعاء غير الله من الأموات والغائبين وحبه كحب الله، وخوفه ورجائه، ونحو ذلك شرك أكبر، وسواء دعاه عبادة، أو دعاه دعاء استعانة في شدة أو رخاء، فإن الدعاء مخ العبادة، وأن اعتقاد أن لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين شرك أكبر، وأن من عظّم غير الله مستعيناً به فيما لا يقدر عليه إلا الله كالاستنصار في الحروب بغير قوة الجيوش.. والاستعانة على السعادة الأخروية أو الدنيوية بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا، يكون مشركاً شركاً أكبر) (3).
__________
(1) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس) ص 418.
(2) المرجع السابق ص 421.
(3) البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد)، ص 6.(131/247)
ونذكّر – في خاتمة هذا المبحث – أن ما قرره أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في مسألة نواقض الإسلام، وأنواع المكفرات التي توجب على مرتكبها الخروج والانسلاخ عن دين الإسلام، أن هذا التقرير ليس بدعاً من عند أنفسهم، وإنما كان ذلك اتباعاً لنصوص القرآن الكريم، ونصوص السنّة النبوية الصحيحة، والتزاماً بأقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمة المعتبرين من المذاهب الأربعة(1).
المبحث الرابع
شبهة مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
لابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة
عرض ثم رد
يظن بعض الخصوم لهذه الدعوة السلفية أن ما قرره أئمتها من المكفرات، وعدوه من أنواع الشرك الأكبر، كالذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والاستغاثة بغير الله .. وغيره من صرف بعض أنواع العبادة لغير الله، أنهم خالفوا بذلك ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – وتلميذه ابن القيم – رحمه الله -، فادعى هؤلاء الخصوم أن هذين الشيخين لم يدخلا الذبح لغير الله والنذر لغير الله والاستغاثة بالأموات ضمن الشرك الأكبر المخرج من الملة.
__________
(1) انظر: بيان ذلك فيما ذكره الشيخ الإمام في رسالته المسماة (مفيد المستفيد) (مجموعة مؤلفات الشيخ 5/304، 305.
…وما كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في رسالته النفيسة (الكلمات النافعة في المكفرات الواقعة) (مجموعة التوحيد ص 281 – 332). وغيرهما من رسائل أئمة الدعوة.(131/248)
وحاول هؤلاء الخصوم التشبث بكل نص أو قول ينسب لابن تيمية أو لابن القيم يفهمون منه بناءً على تصورهم الفاسد، وإدراكهم الخاطيء مخالفة الشيخ الإمام لابن تيمية، وابن القيم في مسألة التكفير، وذلك لكي يقنعوا أنفسهم – ومن تبعهم من سواد الناس – أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مخالف لسائر الأمة وعلمائها، حتى أنه خالف ابن تيمية وابن القيم، اللذين يكثر – ابن عبد الوهاب – من إيراد أقوالهما والنقل من كتبهما، ولقد أدت بهم هذه المحاولة الفاشلة إلى تحريف النصوص، وتبديلها، وسوء فهمها – كما سيأتي موضحاً -.
وسنورد أقوال هؤلاء الخصوم، وما نقلوه من نصوص للشيخين، محتجين بهما على مخالفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لهما، ونقتصر على بعض الأمثلة التي أوردوها، ثم نتبعها بالرد والدحض.
يسوق ابن عفالق جواباً لابن تيمية في الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم … فكان مما قاله ابن تيمية – بناءً على نقله -:
(فإن كان الاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللايق لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع في هذا المعنى فهو كافر إن أنكر ما يكفر، وإما مخطيء ضال) (1).
ثم قال ابن عفالق: (فانظر هذا الكلام النفيس، وتأمل قوله: فإن كان الاستغاثة.. إلخ فهذا حال المنكر للتوسل به صلى الله عليه وسلم يدور بين الكفر والضلال، فكيف بمن أنكرها، وقال من قال يا رسول الله فهو كافر، ومن لم يكفره فهو كافر …) (2).
ثم يقال ابن عفالق – منفراً عن دعوة الشيخ -: (والذي أوقع هذا الرجل في هذه الورطة العظيمة أنه ينظر في كتب ابن القيم فيأخذ منها ما وافق هواه، ويترك ما خالفه، ويأخذ من أول الفصل ويترك آخره …) (3).
ويقول ابن عفالق – أيضاً -:
(عده – أي الإمام – قول البوصيري:
__________
(1) رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 45، 46 (هكذا نقل ابن عفالق العبارة).
(2) رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 45، 46.
(3) المرجع السابق ق 46.(131/249)
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ……سواك عند حلول الحادث العمم
نوع من الشرك الأكبر، وهو كذب صراح إن كان ينقله عن العلماء، وإلا فهو افتراء منه وبهت، فإن ابن القيم مع تعصبه وخلافه لجميع الأمة في مثل هذا الباب عدّ هذا من الشرك الأصغر … انظروا كتبه كـ (شرح المنازل) في باب الشرك الأصغر، و(إغاثة اللهفان) (1).
ونلاحظ أن سليمان بن عبد الوهاب في غالب رسالته في الرد على أخيه الشيخ الإمام، أراد أن يفصح عن مخالفة الشيخ الإمام لما كتبه ابن تيمية وابن القيم، فإن جلّ رسالته في سرد الأقوال والنقول للشيخين...، ثم يعقب تلك النقول بما يفهمه منها ويتوصل إليه تفكيره، بأن الشيخين لم يكفرا من ذبح أو نذر أو استغاث بغير الله..
يقول سليمان بن عبد الوهاب:
(قال تقي الدين: النذر للقبور، ولأهل القبور، كالنذر لإبراهيم الخليل عليه السلام، أو الشيخ فلان نذر معصية لا يجوز الوفاء به وإن تصدق بما نذر من ذلك على من يستحقه من الفقراء أو الصالحين كان خيراً له عند الله وأنفع. ا.هـ.
فلوا كان الناذر كافراً عنده لم يأمره بالصدقة؛ لأن الصدقة لا تقبل من كافر، بل يأمره بتجديد إسلامه، ويقول له خرجت من الإسلام بالنذر لغير الله. قال الشيخ أيضاً: من نذر اسراج بئر أو مقبرة أو جبل أو شجرة أو نذر له أو لسكانه لم يجز، ولا يجوز الوفاء به، ويصرف في المصالح ما لم يعرف ربه. ا.هـ .
فلو كان الناذر كافراً لم يأمره برد نذره إليه، بل أمر بقتله، وقال الشيخ أيضاً: من نذر قنديل نقد للنبي صلى الله عليه وسلم صرف لجيران النبي صلى الله عليه وسلم. ا.هـ.
فانظر كلامه هذا، وتأمله، هل كفّر فاعل هذا، أو كفّر من لم يكفره، أو عد هذا في المكفرات هو أو غيره من أهل العلم كما قلتم أنتم.
__________
(1) المرجع السابق ق 52 باختصار.(131/250)
كذلك ابن القيم ذكر النذر لغير الله في فصل الشرك الأصغر من (المدارج)، واستدل بالحديث الذي رواه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (النذر حلفة)(1)، وذكر غيره من جميع من تسمونه شركاً وتكفرون به في فصل الشرك الأصغر، وأما الذبح لغير الله، فقد ذكره في المحرمات ولم يذكره في المكفرات، إلا أن ذبح للأصنام، أو لما عبد من دون الله كالشمس والكواكب، وعدّه الشيخ تقي الدين في المحرمات الملعون صاحبها كمن غيّر منار الأرض، وقال الشيخ تقي الدين: كما يفعله الجاهلون بمكة شرفها الله تعالى وغيرها من بلاد المسلمين من الذبح للجن، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبائح للجن. ا.هـ.
ولم يقل الشيخ من فعل هذا فهو كافر، ومن لم يكفره فهو كافر كما قلتم أنتم) (2).
ثم جاء داود بن جرجيس، فحّرف في كلام الشيخين، وبدّل وغيّر؛ من أجل أن يجيز بعض أنواع الشرك بالله … وقد جمع تلك النقول المتعددة المختلفة وجعلها في كتاب سماه (صلح الإخوان من أهل الإيمان وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم).
وسنورد بعض نقوله لكلام الشيخين محتجاً به على جواز دعاء الموتى، والاستغاثة بهم … فمن هذه النقول الكثيرة.. ما نقله داود:
__________
(1) ذكر ابن القيم هذا الحديث في (مدارج السالكين)، وعزاه إلى السنن من حديث عقبة بن عامر. انظر: (مدارج السالكين) 1/345.
(2) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) ص 8، 9.(131/251)
(النقل الثالث عشر: قال – أي ابن تيمية – رحمه الله في كتاب (الفرقان) ونجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه ولياً لله أنه صدر منه مكاشفة، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، أو أن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء، فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض، وليس شيء من هذه الأمور يدل على أن صاحبها ولي الله، بل اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء، ومشى على الماء لم يغتر به، حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقته لأمره ونهيه، وكرامات أولياء الله أعظم من هذه الأمور. ا.هـ نقله.
ثم قال: فانظر إلى كلامه ولا سيما قوله: وإن بعضهم استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته، فإنه تسليم منه بأن هذا الأمر يقع على وجه الكرامة، ويستدل به على ولاية صاحبه، لكن بشرط أن يكون المستغاث به متابعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموافقاً له ولنهيه، قال العراقي: فحينئذٍ تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والتابعين ومن بعدهم من أولياء يجوز أن يعتقد فيهم الدلالة بسبب الاستغاثة بهم سواء كانوا غائبين أو ميتين، وأن هذا يقع على وجه الكرامة، وأن كرامات الأولياء يجب اعتقادها كما ذكره الشيخ في (التحفة العراقية)..، ومعلوم أن الكرامة لا تنشأ عن فعل محرم فلو كانت الاستغاثة محرمة لما عدّها الشيخ وغيره كرامة، بل حينئذٍ تكون استدراجاً) (1).
ويورد العراقي نقولا لابن القيم يحتج بها لضلاله، منها ما كتبه ابن القيم – رحمه الله – في كتابه (الكبائر)(2)
__________
(1) نقلاً عن : (منهاج التأسيس) ص 157.
(2) يقول د. بكر أبو زيد – عن هذا الكتاب - :
(ذكره ابن رجب، والداودي، وابن العماد، والبغدادي، وأحمد عبيد، وابن النحاس) انظر: كتابه (التقريب لفقه ابن القيم)، القسم الأول ص 236.(131/252)
، حيث ذكر حكاية خلاصتها: أن أحد الرافضة رفض أن يبيع دقيقاً على رجل من أهل السنة، حتى يلعن الصدّيق والفاروق – رضي الله عنهما -، وراجعه الرافضي مرات، حتى قال السني: لعن الله من يلعنهما، فلطم الرافضي عينه حتى سالت على خده، فانطلق هذا السنّي مع صاحب له إلى الحجرة النبوية في المسجد النبوي، وقال: السلام عليك يا رسول الله، قد جئناك مظلومين فخذ بثأرنا. فما جاء صباح الغد إلا وعينه صحيحة.
ثم قال العراقي: فانظر إلى نقل هذه الحكاية من مثل ابن القيم، ذكرها في مقام الافتخار، والزجر عن الرفض. يدل على أن الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا بأس بها، وأنها غير مذكورة...) (1).
وقد ذكر الآلوسي في كتابه (فتح المنان) نقولاً أخرى لداود، منها ما ذكره ابن تيمية في (الكلم الطيب) وابن القيم في (الوابل الصيب) عن ابن عمر وابن عباس – رضي الله عنهم – أن الإنسان إذا خدرت رجله، فليناد: يا محمد. فإن الخدر يذهب عنه، ثم قال داود: (وهذا ذكره في مقام تعليم المسلم الأذكار، فلو كان نداء الغائب شركاً لكان الشيخان وغيرهما بل وأصحابه صلى الله عليه وسلم يعلمان الناس الشرك والعياذ بالله..) (2).
ويأتي عثمان بن منصور فيقتدي بداود بن جرجيس في تحريف الكلم عن مواضعه على حسب ما تمليه الأهواء والضلالات، يقول عثمان بن منصور:
(قال ابن تيمية بعد كلام سبق من ذكر أنواع العبادة التي لله تعالى، ثم قال: ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالف. فهذا صريح قوله.
__________
(1) المرجع السابق ص 179 باختصار.
(2) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس) ص 375.(131/253)
قال عثمان: وهم جعلوا مجرد تعريفهم حجة فكفروا به، فلابد أن يتبين للمعرف الحجة، ويتضح له الصواب في نفس الأمر..) (1).
وبعد إيراد هذه النقول التي اختارها هؤلاء القوم، وفهموا منها أن الذبح والنذر لغير الله وأن الاستغاثة بالأموات.. ليست من نواقض الإسلام، كما فهموا منها عدم تكفير المعين..، فإننا - بعد ذلك - نتبعها بالإيضاح والبيان، وإزالة اللبس والإشكال بشيء من الإيجاز، بناءً على ما سجله بعض أئمة الدعوة وأنصارها جواباً على هذه الشبهة.
يورد الشيخ الإمام نصاً لابن تيمية، يتبين فيه أنه يقرر أن الذبح لغير الله شرك أكبر يخرج عن دين الإسلام، كما يتضح منه أنه يكفر المعين إذا ذبح لغير الله..فيقول رحمه الله:
(قال أبو العباس رحمه الله تعالى في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) في الكلام على قوله تعالى: {وما أهل لغير الله به}(2) ظاهره أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم، وقال فيه بسم الله ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه وتعالى كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له، أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم، وإن قال فيه بسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، ولكن يجتمع في الذبيحة مانعان. ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن. أ.هـ كلام ابن تيمية.
__________
(1) نقلاً عن (مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام) ص 323 بتصرف.
(2) سورة المائدة : آية 3.(131/254)
وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافقين يصير مرتداً بذلك، وهذا في المعين، إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة المعين) (1).
ثم يقول الشيخ الإمام: (قال ابن تيمية: أنا من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تفسيق أو معصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى. أ.هـ كلامه.
وهذه صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه، لا يذكر عدم تكفير الميت إلا ويصله بما يزيل الإشكال، أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وإذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية.
وصرح رضي الله عنه أيضا ً أن كلامه في غير المسائل الظاهرة، فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا، فقال: هذا إن كان في المقالات الخفية، فقد يقال أنه فيها مخطيء ضال لم تقم على الحجة، التي يكفر تاركها، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام … ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين، وأبلغ من ذلك منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرازي.. – يعنى الفخر الرازي – قال ردة صريحة باتفاق المسلمين. أ.هـ كلامه.
فتأمل هذا، وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله، لكن من يرد الله فتنته، فلن تملك له من الله شيئا) (2).
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1/285.
(2) المرجع السابق 1/289، 290.(131/255)
ويورد الشيخ الإمام نصاً لابن القيم – رحمه الله – يؤكد عليه أن النذر للموتى، ودعاءهم شرك أكبر مخرج عن دين الإسلام. وليس كما ظنه الخصوم من أمثال سليمان بن عبد الوهاب وغيره أنه من الشرك الأصغر، وشبهتهم في ذلك أن ابن القيم رحمه الله ذكر في (شرح منازل السائرين) الشرك الأكبر، ثم ذكر الشرك الأصغر، وقال بعدها: (ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم ومن أنواعه النذر لغير الله … وطلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم …) (1) فنسب هؤلاء الخصوم إلى الشيخ ابن القيم أن ما سبق هو من الشرك الأصغر؛ لأن ابن القيم بعد ما ذكر الشرك الأكبر ثم الأصغر، قال ومن أنواع الشرك، فظنه هؤلاء الجهلة أنه يقصد الشرك الأصغر، ولكن كما قال الشيخ الإمام:
(وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول، والثاني صريحاً لا يحتمل التأويل..) (2)
وحتى تكتمل صورة هذا الرد، فإننا نسوق كلام ابن القيم – كما نقله الشيخ الإمام مختصراً.
__________
(1) انظر : (مدارج السالكين)، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، 1375هـ، 1/344.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1/297.(131/256)
(ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم، ومن أنواعه النذر لغير الله، والتوكل على غير الله، والعمل لغير الله والإنابة، والخضوع، والذل لغير الله، وابتغاء الرزق من عند غيره … ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت فد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً لمن استغاث به. بل الميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة. فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات، وهم تنقصوا الخالق بالشرك، وأوليائه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم. وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا …
وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله..) (1)
ويورد الشيخ الإمام نصاً آخر لابن القيم مستدلاً به على تكفير المعيّن:
(وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) في إنكار تعظيم القبور: (وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه (مناسك المشاهد) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام) أ.هـ وهذا الذي ذكره ابن القيم رجل من المصنفين يقال له: ابن المفيد: فقد رأيت ما قال فيه بعينه، فكيف ينكر تكفير المعين) (2)
__________
(1) المرجع السابق 1/296.
(2) المرجع السابق 1/303.
…وقد أورد الشيخ الإمام في رده على أخيه سليمان نقولاً كثيرة للشيخين ابن تيمية وابن القيم، في إثبات تكفير المعين، ولم يقتصر على ذلك بل ذكر أقوال المذاهب الأربعة في تلك المسألة.
وانظر: ما كتبه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين حول تكفير المعين والكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل، فلا يحكم عليه إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، والذي لا يعذر.. (مجموعة الرسائل والمسائل 4/509-523).(131/257)
.
ويرد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين على تلبيس وخلط داود العراقي، فيقول رحمه الله:
(وقد أورد بعضهم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ذكر كلاماً وحكايات تدل على أن دعاء الأموات ليس بشرك، كما ذكر أنه روى أن رجلاً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه الجدب عام الرمادة. فرآه وهو يأمره أن يأتي إلى عمر بن الخطاب فيأمره أن يستسقي بالناس، وغير ذلك من الحكايات).
قال أبو بطين: (هذا تلبيس من الناقل، وكذب على الشيخ رحمه الله؛ لأنه إنما قال ذلك في سياق الكلام في بعض البدع، كتحري دعاء الله عند قبر النبي أو غيره) (1).
ويكشف محمد بن ناصر التهامي تلاعب ابن جرجيس بنصوص الشيخين: ابن تيمية وابن القيم، فيقول رحمه الله:
(ذكر صاحب الرسالة – أي داود – أن الشيخ تقي الدين وتلميذه ابن القيم رحمهما الله لا يطلقون الكفر، والشرك على من اعتقد في القبور، واستغاث بالأموات، وأنهم قائلون بأن ذلك من باب كفر دون كفر، وقد أورد من كلامهما ما بتره من الأبحاث بنقل بعض ما في مؤلفاتهما مما هو فيه له مستند، ولا يستكمل البحث …)(2).
ثم أورد التهامي نقولا للشيخين من كتبهم، منها ما ذكره ابن القيم في (شرح منازل السائرين) في نوعي الشرك: الأكبر والأصغر، ثم ذكر – بعده – قول ابن تيمية في رسالته السنية: (إن كل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يجعل معه إلهاً آخر..) (3).
ثم قال التهامي - بعد إيراد تلك النصوص - :
__________
(1) الانتصار) ص 14، وقد ذكر قريباً من ذلك في (مجموعة الرسائل) 4/473.
(2) إيقاظ الوسنان)، ق 7.
(3) المرجع السابق.(131/258)
(فهذه نصوص ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله قاضية بكفر من اعتقد النفع والضر في مخلوق ونذر له، أو دعا له، أو استغاث به، وهو صريح في ذلك كفر أكبر يحل الدم والمال، إذا عرفت هذا فقد انتفض على صاحب الرسالة ما طول به، وبذل فيه مجهوده أن أفعال هؤلاء من الشرك الأصغر، زاعماً أن ذلك صريح قول ابن القيم وشيخه ابن تيمية الذين قصد الذب عنهم بما هم فيه مصرحون بأنه شرك أكبر، والأدلة القرآنية قاضية بما صرحا به، ولو أراد إنسان أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة لكان مجلداً ضخماً …) (1).
ويزيل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن اللبس الذي افتعله داود، وادعى من خلال سياقه لنصوص الشيخين أنها تدل على ما يهواه من الغلو في الأولياء وصرف بعض أنواع العبادات – التي يجب أن تكون لله وحده – للموتى.
فيقول الشيخ عبد اللطيف جواباً على ما نقل داود عن ابن تيمية من كتاب (الفرقان)(2):
(والجواب أن يقال: سياق الكلام ومقتضى التقرير في كلام الشيخ الذي نقله العراقي نفي الولاية بهذه المذكورات، ونفي الاستدلال عليها بالمكاشفة، وخوارق العادة، ورؤية المستغاث به من الغائبين والأموات، والإخبار بما سرق وبحال الغائب والمريض، وقرر أن هذا أو نحوه لا يدل على الولاية أصلاً، وأن أولياء الله متفقون على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى يتقيد بمتابعة الرسول وموافقته لأمره ونهيه. وهذا تصريح من الشيخ بنفي الاستدلال بهذا على الولاية وإبطاله، وليس فيه تسليم مجيء المستغاث به الميت أو الغائب إلى المستغيث، وأنه يقضي حاجته وأنه يستدل به على الولاية كما زعم العراقي …
__________
(1) المرجع السابق ق 7.
(2) سبق ذكر هذا النقل.(131/259)
والعراقي صرف العبارة عن مدلولها وصدف عنها، ونسب إلى الشيخ ما لا يحتمله كلامه بوجه من الوجوه فبعداً لقوم لا يؤمنون. قال رحمه الله: والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وفي مغيبه ليس مشروعاً قط، ولكن كثير من الناس يدعون الموتى، والغائبين من الشيوخ وغيرهم فتمثل لهم الشياطين تقضي بعض مآربهم لتضلهم عن سبيل الله، كما تفعل الشيطان بعبّاد الأصنام، وعبّاد الشمس والقمر وتخاطبهم وتتراءى لهم، وهذا كثير يوجد في زماننا وغير زماننا) (1).
ومما قاله الشيخ عبد اللطيف: (واعتقاد الولاية لا يسوغ ولا يجوز بسبب الاستغاثة ودعاء غير الله، وصريح كلام الشيخ، وصريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أن الولاية لا تثبت بسبب من هذه الأسباب التي أنكرها الشيخ، وألزمه إياها العراقي جهلاً وظلماً، وإنما تثبت بالإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والنبيين والقيام بالواجبات الدينية..، ولو كانت الاستغاثة بغير الله سبباً للولاية، ودليلاً عليها، للزم القول بولاية كل معبود مع الله من الفاسقين والكهّان والشياطين بل والأصنام؛ لأن عبادها قد تقضي حوائجهم، ويخاطبون منها كما ذكره الشيخ وغيره …) (2).
ويجيب الشيخ عبد اللطيف على ما نقله داود عن ابن القيم حين ذكر حكاية (3).. فهم منها داود بغير فكر ولا رؤية، أنها تدل على جواز الاستغاثة بالرسول.. فكان من جواب الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) منهاج التأسيس)، ص 158.
(2) المرجع السابق، ص 159، 160.
(3) سبق ذكر هذه الحكاية.(131/260)
(والجواب أن يقال ليس في الحكاية جواز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وفاعل ذلك لا يحتج بفعله بإجماع المسلمين، وإنما سيقت العبارة لتقرير نصر الله لأوليائه، وإثابة من نصرهم، ووالاهم، لا لأجل الاستغاثة، وأنها تجوز بغير الله، وأن ذلك صواب. والاستدلال بالحكاية خروج عن موضوعها، وموضوع الكتاب الذي سيقت فيه، وابن القيم نص في غير موضع أن دعاء الموتى هو أصل شرك العالم وأنه من الشرك الأكبر.. إلى آخر ما قاله – رحمه الله -) (1).
وأما جواب الشيخ محمود شكري الآلوسي علامة العراق على ما نقله داود عن الشيخين ابن تيمية وابن القيم، ثم زعم ابن جرجيس أنهما يجوزان (الاستغاثة بالأموات) وسماها داود – تلبيساً وتمويهاً – نداء الغائبين.
(والجواب أن يقال: هذا أيضاً ليس مما نحن فيه، فإنه ليس نداء بما لا يقدر عليه إلا الله غاية ما فيه ذكر المحبوب لا طلب شيء منه، ولا استغاثته، وإلا لزم أن كل من ذكر محبوبه فقد استغاث به، وبطلانه ظاهر، ولفظ الشفاء: أن ابن عمر خدرت رجله، فقيل له: اذكر أحب الناس إليك فصاح يا محمداه فانتشرت رجله(2). وهذا يقتضي صحة ما جربه الناس فإن من أصابه الخدر منهم إذا ذكر محبوبه زال بسهولة، لأنه بمسرته تنتعش الحرارة الغريزية، فيندفع الخدر) (3).
(و أقول إن هذا كان من مذاهب العرب في الجاهلية، فكان الرجل منهم إذا خدرت رجله، ذكر من يحب أو دعاه فيذهب خدرها – ثم ذكر الآلوسي بعض أشعار العرب التي تدل على ما قاله -) (4)
__________
(1) منهاج التأسيس)، ص 179.
(2) ضعفه الألباني في تحقيقه لكتاب (الكلم الطيب) لابن تيمية ص 120 كما ضعفه عبد القادر الأرناؤوط في تحقيقه لكتاب (الوابل الصيب) لابن القيم ص 181.
(3) فتح البيان تتمة منهاج التأسيس) ص 375.
(4) المرجع السابق ص 376.(131/261)
ثم قال الآلوسي: (أفيقال: أن هؤلاء الشعراء لما خدرت أرجلهم استغاثوا بمن يحبونه من امرأة أو غلام. لا أرى من يقول بذلك إلا من خدر عقله، وتركب جهله) (1).
وأما ما أورده ابن منصور من نقل عن ابن تيمية، فقد أظهر الشيخ عبد اللطيف رحمه الله، تحريف ابن منصور لهذا النص، وكثافة جهله فقال:
(والجواب أن يقال: قد تصرفت في كلام الشيخ، وأسقطت أوله الذي يستبين به مقصوده، وقد تقدم أن هذه حرفة يهودية صار هذا المعترض على نصيب وافر منها..
وقبل هذا النقل قرر شيخ الإسلام في هذه الرسالة التي يشير إليها المعترض أن دعا الصالحين مع الله، وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله كمغفرة الذنوب، وهداية القلوب وطلب الرزق من غير جهة معينة … ونحو ذلك مما يصدر ممن يعبد الأموات ويدعو الصالحين، ويستغيث بهم كفر صريح، وشرك ظاهر يستتاب فاعله فإن تاب وإلا قتل.
وبعد تقرير هذا قال: ولكن لغلبة الجهل … - إلى آخر العبارة التي أوردها المعترض.
ومراد ابن تيمية بهذا الاستدراك أن الحجة إنما تقوم على المكلفين، ويترتب حكمها بعد بلوغ ما جاءت به الرسل من الهدى ودين الحق … فمن بلغته دعوة الرسل إلى توحيد الله ووجوب الإسلام له، وفقه أن الرسل جاءت بهذا لم يكن له عذر في مخالفتهم، وترك عبادة الله. وهذا هو الذي يجزم بتكفيره إذا عبد غير الله، وجعل معه الأنداد والآلهة. والشيخ وغيره من المسلمين لا يتوقفون في هذا، وشيخنا رحمه الله قد قدر هذا وبينه وفاقاً لعلماء الأمة واقتداء بهم. ولم يكفر إلا بعد قيام الحجة وظهور الدليل، حتى أنه رحمه الله توقف في تكفير الجاهل من عبّاد القبور إذا لم يتيسر له من ينبهه.
ثم يقول الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) المرجع السابق ص 376..(131/262)
(وإذا تبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأصر وعاند فهو غير مستجيب، والحجة قائمة عليه، سواء كان إصراره لشبهة مثل النصارى، أو كان ذلك عن عناد واستكبار مثل فرعون وقومه، فالصنفان يحكم بكفرهم إذا قامت الحجة التي يجب اتباعها، و لا يلزم أن يعرف الحق في نفس الأمر كما عرفته اليهود وأمثالهم، بل يكفي في التكفير رد الحجة وعدم قبول ما جاءت به الرسل …)(1).
وبإيجاز فإن من قرأ ما كتبه الشيخان ابن تيمية وابن القيم – رحمهما الله – في مسألة نواقض الإسلام، فسيجدهما يتفقان مع ما كتبه الشيخ الإمام في تلك المسألة، وأما دعوى المخالفة فلا تكون إلا ممن قصر فهمه، وساء قصده كحال أولئك الخصوم.
المبحث الخامس :
شبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة
عرض ثم رد
أراد المناوئون بشبهة عدم طروء الشرك على هذه الأمة، أن ينفوا وقوع الشرك في هذه الأمة المحمدية، وأن ينفوا طروء الشرك على المسلمين، لأنها أمة معصومة من ذلك، ونورد أقوالهم في ذلك – من كتبهم أو ممن نقل عنهم – ثم نتبعها بالرد والبيان.
فنجد – أولاً – ابن عفالق يشنع على الشيخ الإمام في ذلك فيقول:
(وتنقيصه للأمة المعصومة من الضلالة المحفوظة من الغواية، فيكتم محاسنهم الجميلة ويرميهم بالشرك الأعظم، ويجعل عبادتهم كلها لله عنده هباءً منثوراً..) (2).
__________
(1) مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام) ص 324، 325 باختصار.
…انظر: ما كتبه محمود شويل في كتابه (القول السديد) رداً على من زعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب خالف ابن تيمية وابن القيم ص 35 – 40.
ولمعرفة التفصيل في مسألة قيام الحجة على الكافر المعين، والفرق بين قيام الحجة، وبين فهمها.
انظر : ما كتبه الشيخ عبد الله أبو بطين في رسالته (الكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل)، فلا يحكم عليه إلا بعد أن تقوم عليه الحجة، والذي لا يعذر).
(مجموعة الرسائل والمسائل) 4/510 – 523.
(2) رسالة ابن عفالق لابن معمر ق 40.(131/263)
ويقول ابن عفالق أيضاً:
(وقد ثبت بالأدلة والبراهين القاطعة عصمة الأمة، ومن نفي العصمة عنهم إلى الكفر أقرب) (1).
ويورد سليمان بن عبد الوهاب الأدلة على عصمة هذه الأمة، فيقول:
(ومما يدل على بطلان قولكم في تكفير من كفرتموه ما روى البخاري في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما قاسم والله يعطي، ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيماً حتى تقوم الساعة، أو يأتي أمر الله تعالى..).
وجه الدليل منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أمر هذه الأمة لا يزال مستقيماً إلى آخر الدهر، ومعلوم أن هذه الأمور.. التي تكفرون بها، مازالت قديماً ظاهرة ملأت البلاد فلو كانت هي الأصنام الكبرى، ومن فعل شيئاً من تلك الأفاعيل عابد للأوثان، لم يكن أمر هذه الأمة مستقيماً، بل منعكساً..) (2).
(ومما يدل على بطلان مذهبكم ما في (الصحيحين) عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: (إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها.. الحديث)، وجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بجميع ما يقع على أمته.. ومما أخبر به في هذا الحديث الصحيح أنه أمن أن أمته تعبد الأوثان، ولم يخافه، وأخبرهم بذلك..) (3).
ويتابع سليمان أدلته فيقول:
__________
(1) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر ق 57.
(2) الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية) ص 41.
(3) المرجع السابق ص 45.(131/264)
(ومما يدل على بطلان مذهبكم ما روى مسلم في (صحيحه) عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم) وروى الحاكم وصححه أبو يعلى والبيهقي عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، ولكن رضي منهم بما دون ذلك بالمحقرات وهي الموبقات).
أقول وجه الدلالة:
أن الرسول أخبر أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، وفي حديث ابن مسعود أيس الشيطان أن تعبد الأصنام بأرض العرب، وهذا بخلاف مذهبكم فإن البصرة وما حولها والعراق من دون الدجلة الموضع الذي فيه قبر علي وقبر الحسين رضي الله عنهما، وكذلك اليمن كلها والحجاز كل ذلك من أرض العرب، ومذهبكم أن هذه المواضع كلها عبد الشيطان فيها، وعبدت الأصنام، وكلهم كفار … وهذه الأحاديث ترد مذهبكم) (1).
يقول القباني:
(نقول أن الأمة قد اجتمعت على تكفير من ضلل هذه الأمة، وممن نقل الإجماع علماء الحنابلة..) (2).
ويقول عبد الرؤوف بن محمد بعد أن ذكر حديث افتراق الأمة:
(وليس الافتراق مخرجاً عن ملته – أي الملة المحمدية -.. وما حكي خلف عن سلف أن أحدا من الصحابة والتابعين منع أحدا من فرق الإسلام من إتيان المسجد الحرام، ولو كانوا قائلين بكفرهم لمنعوهم من الحج..) (3)
وقد أشار الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى بعض الخصوم الآخرين ممن أورد هذه الشبهة، واعترض بها على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:
(وممن أورد هذه الشبهة عليه عبد الله المويس راعي حرمة، وابن إسماعيل في الوشم وسليمان بن عبد الوهاب في العارض وزعموا أن الأمة لا يقع فيها شرك..) (4).
__________
(1) المرجع السابق ص 45..
(2) فصل الخطاب) ق 214.
(3) فصل الخطاب في نقض مقالة ابن عبد الوهاب) ق 13.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل) 2/53.(131/265)
وأورد هذه الشبهة رجل من الإحساء – زمن الشيخ عبد الرحمن بن حسن – قائلا: (يا أيها الرجل الجاهل المعجب بنفسه لقد غويت وجهلت باعتقادك في هذه الأمة المحمدية التي قال الله فيها (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (1) وقال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) (2) أي عدلاً خيارا ً) (3).
كما زعم داود بن جرجيس استحالة وقوع الشرك في الأمة المحمدية(4) وردد عثمان بن منصور تلك الدعوى، فهو يرى أن هذه الأمة ليس فيها من يعمل الكفر، وأنها أمة صالحة - كلها – من أولها إلى آخرها، ليس فيها شرك(5).
وإذا انتقلنا إلى مقام الرد والبيان، فإننا نلاحظ أن الشيح الإمام قد تصدى لتلك الشبهة، فأزال اللبس، وأبان وجه الحق في ذلك، وحشد الأدلة والبراهين التي تثبت وتدل على وقوع الشرك في هذه الأمة، فبوب في كتابه النفيس (كتاب التوحيد)، هذا الباب: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان).
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – في مقدمة شرح هذا الباب -:
(أراد المصنف بهذه الترجمة، الرد على عباد القبور، الذين يفعلون الشرك ويقولون: أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة، ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى) (6).
__________
(1) سورة آل عمران : آية 110.
(2) سورة البقرة : آية 143.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل) 2/54.
(4) انظر: تأسيس التقديس) لابن بطين ص 2.
(5) انظر: (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) 9/187، 203، 210.
(6) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد)، ص 362.(131/266)
وليس المقام – هاهنا – مقام تفصيل وإسهاب، حتى نذكر ما سطره الشيخ الإمام في هذا الباب، من الأدلة والحجج في إبطال تلك الشبهة، لذا فإننا نقتصر على دليل واحد مما ذكره الشيخ الإمام في شرحه لحفيده الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهم الله، يقول الشيخ الإمام:
(قوله صلى الله عليه وسلم - فيما زاده البرقاني في صحيحه – وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتى بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان..) (1) الحديث)(2).
يقول الشيخ سليمان – شارحاً له -: (وفي رواية لأبي داود: (وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان) ومعناه ظاهر، وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عبّاد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك، وعبادة الأوثان في هذه الأمة، وفي معنى هذا ما في (الصحيحين) عن أبي هريرة مرفوعاً: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة...) إلى آخر ما قاله رحمه الله)(3).
ويرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن – رحمه الله – على استدلال صاحب الإحساء بالآيتين السابقتين … فيقول:
(قلت: فترك من الآيتين ما هو دليل عليه، وذلك أن الله وصف خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات وهي لأهل الإيمان خاصة، وليس لأهل الكفر والشرك، والنفاق والبدع والفسوق فيها نصيب فقال: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، فليس المشركون والمنافقون من خير أمة .. بل هم شرار الأمة)..)(4)
__________
(1) وهذه الزيادة عند الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجة وبحشل في تاريخ واسط، والحاكم، وأبي نعيم في الحلية والدلائل بسند صحيح على شرط مسلم) عن كتاب (النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد) لجاسم فهيد الدوسري، ط 1، دار الخلفاء، الكويت، 1404هـ، ص 129.
(2) تيسير العزيز الحميد)، ص 369.
(3) المرجع السابق ص 377.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل 2/54، 59 بتصرف.
…وانظر رد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على الاستدلال بالآيتين السابقتين ({كنتم خير أمة أخرجت للناس}، {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} ونحوهما، (الدرر السنية) 9/354-356.(131/267)
.
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله:
(وكل أهل الملل من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة من أمته الذين أرسل إليهم، وكلهم من أمة محمد، وهم أمة الدعوة … ومن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه من هذه الملل الخمسة فهو في النار، كما قال تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية)(1) فأخبر تعالى أنهم في النار مع كونهم من هذه الأمة.
وأما استدلاله بقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) .. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم المعنيون بهذه الآية، ومن كان مثلهم من أهل الإيمان لحق بهم، وأما الكفار والمشركون والمنافقون فهم أعداء الأمة الوسط في كل زمان ومكان، ولا يمكن لأحد أن يزعم أنهم من الأمة الوسط إلا مثل هذا الجاهل الذي يقول ليس في الأمة كافر ولا مشرك …)(2).
ويبين الشيخ عبد الرحمن بن حسن جانباً من البدع والشرك والضلال الذي وقع في هذه الأمة … مثل المرتدين في عهد الصديق، والخوارج زمن علي بن أبي طالب والقدرية، والجهمية الجبرية، ودولة القرامطة، الذين وصفهم شيخ الإسلام بأنهم أشد الناس كفراً والبويهيين، والعبيديين وغيرهم (3).
وأما استدلال الشيخ سليمان بن عبد الوهاب بحديث (إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) على عدم وقوع الشرك في جزيرة العرب فقد أجاب على ذلك الاستدلال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين فكان مما قاله رحمه الله:
__________
(1) سورة البينة: آية 6.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل) 2/57، 61.
…وانظر: رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن (التوحيد وطروء الشرك على المسلمين في مجموعة التوحيد) ص 350-358.
(3) انظر: (مجموعة الرسائل) 2/62-80.(131/268)
(قال ابن رجب على الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر الأكبر، وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) (1) قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني يئسوا أن تراجعوا دينكم.
وأيضاً ففي الحديث نسبة اليأس إلى الشيطان مبيناً للفاعل لم يقل أيس بالبناء للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياساً مستمراً فإنما ذلك ظن منه وتخمين، لا عن علم؛ لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله..، كما أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا مسيلمة في دعواه الكاذبة للنبوة، ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده، لا تختص عبادة الشيطان بنوع من الشرك، كما أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم قبلها: اليهود والنصارى وفارس والروم..) (2).
وكان من جواب علامة العراق محمود شكري الآلوسي على الاستدلال بهذا الحديث أنه قال:
(.. الحديث لا يدل على عدم وقوع الكفر في جزيرة العرب وانتفاء الإلحاد فيها، فإن الدلالة على ذلك مما لا يحتاج في إبطالها إلى دليل .. فقد ارتد عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعض قبائل العرب الساكنين في صميم الجزيرة العربية، حتى قاتلهم الصديق رضي الله عنه، بعد أن حكم هو والصحابة بكفرهم. ولا يبعد أن يقال مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الشيطان..) أن الشيطان لا يطمع أن يعبده المؤمنون في جزيرة العرب، وهم المصدقون بما جاء به الرسول من عند ربه المذعنون له، المتمثلون لأوامره، ولا شك أن من كان على هذه الصفة فهو على بصيرة ونور من ربه، فلا يطمع الشيطان أن يعبده …
__________
(1) سورة المائدة: آية 3.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل 4/482 – 487 بتصرف.(131/269)
فوجود مثل هذا في جزيرة العرب لا ينافي الحديث الصحيح، كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل رجيح، وإطلاق لفظ المصلين على المؤمنين كثير في كلام العارفين.
ويحتمل أن يراد بالمصلين أناس معلومون بناء على أن تكون (أل) للعهد وأن يراد بهم الكاملون فيها … وهم خير المقرون، يؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث -: (ولكن في الترحيش بينهم).. يقول الطيبي: لعل المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر بما يكون بعده من التحريش الواقع بين صحبه رضوان الله عليهم أجمعين. أي أيس أن يعبد فيها، ولكن يطمع في التحريش.
- إلى أن قال الآلوسي – وأنت تعلم أن الدليل متى طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال) (1).
وكما أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد أخبر بوقوع الشرك وحدوثه في هذه الأمة، ووقع وحصل هذا الإخبار بما هو مشاهد عياناً، فإنه – أيضاً – أخبر بأن الله تكفل لهذه الأمة بحفظها دينها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) (2).
وأما دعوى ابن منصور في منع وقوع الشرك في هذه الأمة، فقد أبان الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن تلبيس ابن منصور في ذلك، فكان مما قاله:
(وبالجملة فهذا المعترض مموه بلفظ الأمة ملبس. قال تعالى في ذم هذا الصنف من الناس (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) (3) وهذا من أعظم اللبس والخلط والتمويه، والأمة تطلق ويراد بها عموم أهل الدعوة ويدخل فيها من لم يستجب لله ورسوله. وتطلق أيضاً ويراد بها أهل الاستجابة المنقادين لما جاءت به الرسل، ومن لم يفصل ويضع النصوص مواضعها فهو من الجاهلين الملبسين) (4).
__________
(1) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس) ص 497- 499 باختصار.
(2) رواه مسلم.
(3) سورة البقرة: آية 42.
(4) مصباح الظلام) ص 30.(131/270)
ويكشف الشيخ عبد اللطيف عن أصل هذه الشبهة عند ابن منصور، وسبب حدوثها فيقول: (واعلم أن هذا المعترض لم يتصور حقيقة الإسلام والتوحيد، بل ظن أنه مجرد قول بلا معرفة ولا اعتقاد، وإلا فالتصريح بالشهادتين والإتيان بهما ظاهر هو نفس التصريح بالعداوة، ولأجل عدم تصوره أنكر هذا، ورد إلحاق المشركين في هذه الأزمان بالمشركين الأولين، ومنع إعطاء النظير حكم نظيره، وإجراء الحكم مع علته، واعتقد أن من عبد الصالحين، ودعاهم، وتوكل عليهم وقرب لهم القرابين مسلم من هذه الأمة، لأنه يشهد أن لا إله إلا الله) (1) ويظهر جهل ابن منصور حين لم يفرق بين أمة الإجابة، وأمة الدعوة، وقد رد الشيخ عبد اللطيف ذلك الاشتباه، فقال:
(ليس كل من وصف بأنه من الأمة يكون من أهل الإجابة والقبلة، وفي الحديث (ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار) رواه ابن ماجة(2). وقال تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوي بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا) (3) فدلت هذه الآية على أن هؤلاء الكافرين من الأمة التي يشهد عليهم صلى الله عليه وسلم … والأمة في مقام المدح والوعد يراد بها أهل القبلة وأهل الإجابة، وتطلق في مقام التفرق والذم بها غيرهم. فلكل مقامٍ مقال) (4).
__________
(1) المرجع السابق ص 36.
(2) لم أعثر عليه في سنن ابن ماجة، والحديث أخرجه مسلم في (صحيحه)، 1/134 في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته.
(3) سورة النساء: آية 41، 42.
(4) مصباح الظلام) ص 341 باختصار.(131/271)
وأما المنع من تكفير هذه الفرق.. فليس لأنهم من الأمة، ولكن – كما يقول الشيخ عبد اللطيف رحمه الله -: (بل لأن التفرق قد يبقى معه أصل الإيمان والتوحيد المانع من الكفر المخرج من الملة. ولذلك وقع النزاع في كثير من هذه الطوائف، فمن كفّر بعضهم فهو يحتج بالنصوص المكفرة لهم من الكتاب والسنة، ومن لم يكفر فحجته أن أصل الإسلام الثابت لا يحكم بزواله إلا لحصول مناف لحقيقته..) (1).
ونختم هذا المبحث بما ذكره العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي توضيحاً لمقصد الشيخ الإمام من إيراد باب (ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان) ضمن (كتاب التوحيد).
يقول السعدي رحمه الله:
(مقصود هذه الترجمة الحذر من الشرك والخوف منه، وأنه أمر واقع في هذه الأمة لا محالة، و الرد على من زعم أن من قال: لا إله إلا الله وتسمى بالإسلام أنه يبقى على إسلامه ولو فعل ما ينافيه من الاستغاثة بالقبور ودعائهم.
فإن الوثن اسم جامع لكل ما عبد من دون الله، لا فرق بين الأشجار والأحجار والأبنية، ولا بين الأنبياء والصالحين والطالحين في هذا الموضع، وهو العبادة فإنها حق الله وحده فمن دعا غير الله، أو عبده، فقد اتخذه وثناً وخرج بذلك عن الدين، ولم ينفعه انتسابه إلى الإسلام، فكم انتسب إلى الإسلام من مشرك وملحد، وكافر، ومنافق.
والعبرة بروح الدين وحقيقته لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها) (2).
المبحث السادس
شبهة تنزيل آيات في المشركين على مسلمين
عرض ثم رد
يفتعل الخصوم شبهة أخرى، هي في حقيقتها لا تختلف عن أختها السابقة، فيدعون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من بعده، قد عمدوا إلى آيات من القرآن نزلت في المشركين، وخوطب بها الكفار – آنذاك – فحملها – أي الشيخ وأتباعه كما يدعون – على المسلمين، فجعلوا المسلمين مثل الكفار..
__________
(1) المرجع السابق ص 340.
(2) القول السديد في مقاصد التوحيد)، ص 71 – 73، باختصار.(131/272)
هذه هي شبهتهم، مع ملاحظة أنهم يقصدون بالمسلمين – هاهنا – من يستغيث بالأموات، ويذبح للجن، وينذر للأولياء … فهم مسلمون – على حد ظنهم – ماداموا يعترفون بأن الله هو المؤثر، والفاعل وبيده النفع والضر..، وهم مسلمون – أيضاً – لأنهم ينطقون بالشهادتين، ولو وقعوا في تلك الشركيات.
وسنورد شبهتهم في ذلك.. ثم نتبعها بالرد والبيان.
يشير سليمان بن عبد الوهاب إلى تلك الشبهة، فيقول – مخاطباً أنصار الدعوة السلفية -:
(ولكن ليس هذا بأعجب من استدلالكم بآيات نزلت في الذين (إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) (1) والذين يقال لهم (أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) (2) والذين يقولون (أجعل الآلهة إلهاً واحداً) (3)، ومع هذا يستدلون بهذه الآيات، وتنزلونها على الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقولون ما لله من شريك، ويقولون ما أحد يستحق أن يعبد مع الله …) (4).
ويورد علوي الحداد تلك الشبهة فيقول:
(وأما ما استدل به من الآيات الكريمة على تكفير المسلمين كقوله تعالى (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون) (5).
وما بعدها من الآيات فهي إنما نزلت في حق الكفار المنكرين للقرآن والرسول فأي مناسبة بين المسلم والكافر)(6).
ويدعي اللكنهوري تلك الدعوى فيقول:
(كما أن الخوارج طبقوا ما ورد في الكفّار والمشركين من الآيات على المسلمين المؤمنين، فكذلك هؤلاء الوهابيون يطبقون سائر تلك الآيات الواردة في المشركين على مسلمي العالم..) (7).
__________
(1) سورة الصافات: آية 35، 36.
(2) سورة الأنعام: آية 19.
(3) سورة ص : آية 5.
(4) الصواعق الإلهية) ص 11.
(5) سورة المؤمنون: آية 84، 85.
(6) مصباح الأنام) ص 17، 18 باختصار.
(7) كشف النقاب عن عقائد ابن عبد الوهاب) ص 80.(131/273)
ويزيد دحلان عن غيره – كعادته – الأكاذيب والشبهات، فيقول مستكثراً من تلك الشبهة:
(وعمدوا إلى آيات كثيرة من آيات القرآن التي نزلت في المشركين فحملوها على المؤمنين..) (1).
ويقول في موضع آخر:
(وحملوا الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على خواص المؤمنين وعوامهم. كقوله تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحدا) (2) وقوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) (3).. حيث حملوها على المؤمنين، وأدخلوهم في عموم هذه الآيات) (4).
ويقول دحلان في موضع ثالث، أثناء ذكره معتقد الشيخ الإمام:
(وتمسك في تكفير المسلمين بآيات نزلت في المشركين، فحملها على الموحدين) (5).
وتلقف الزهاوي تلك الشبهة فرددها - كغيره - قائلاً:
(وحمل الآيات التي نزلت في الكفّار من قريش على أتقياء الأمة) (6) ثم قالها مرة أخرى: (فعمد إلى الآيات القرآنية النازلة في المشركين فجعلها شاملة لجميع المسلمين) (7).
ويرددها ثالثة فيقول: (حملت الوهابية جميع الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الموحدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم..) (8).
ويسوق محمد نجيب سوقية هذا الشبهة بأسلوبه المعتاد من بذاءة اللسان وكثافة الجهل وانعدام الورع.. فيقول عن الوهابية:
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية) ص 32.
(2) سورة الجن: آية 18.
(3) سورة الأحقاف : آية 5، 6.
(4) الدرر السنية) ص 39 باختصار.
(5) المرجع السابق ص 51.
(6) الفجر الصادق) ص 19.
(7) المرجع السابق ص 25.
(8) المرجع السابق ص 47.(131/274)
(أما كفاها فجوراً فيما تدعيه، وتموه به على العامة من هذه الأمة بقولها أن جميع ما جاء في آي القرآن مما كان أنزل بحق المشركين والكافرين يحملونه على كافة المسلمين الموحدين، ليتني أدري عنهم هل وجدوا أحداً ينسب التأثير لشيء ما في الوجود إلا لله وحده لا شريك له … أو يعتقد أن يكون فاعلاً غير الله تعالى في هذا العالم …)(1).
ويظهر في هذه الشبهة تلبيس الخصوم، وتمويههم على سواد الناس، حيث جعلوا عبّاد القبور مسلمين موحدين، لأنهم يعترفون بأن الله هو الفاعل دون غيره، ولذا فهم مسلمون – كما صرح بذلك (نجيبهم) سوقية !.
وقد أشار الشيخ عبد الله أبو بطين إلى خطر مقالة الخصوم، فقال رحمه الله:
(وأما قول من يقول أن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين، فلا تتناول من فعل فعلهم، فهذا كفر عظيم، مع أن هذا قول ما يقوله إلا ثور مرتكس في الجهل، فهل يقول أن الحدود المذكورة في القرآن والسنة لأناس كانوا وانقرضوا؟ فلا يحد الزاني اليوم، ولا تقطع يد السارق، ونحو ذلك، مع أن هذا قول يستحي من ذكره، أفيقول هذا أن المخاطبين بالصلاة والزكاة وسائر شرائع الإسلام انقرضوا وبطل حكم القرآن ؟) (2).
وقد تحدث الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن آثار هذه الشبهة فكان مما قاله رحمه الله:
(أن من منع تنزيل القرآن، وما دل عليه من الأحكام على الأشخاص والحوادث التي تدخل العموم اللفظي، فهو من أضل الخلق وأجهلهم بما عليه أهل الإسلام وعلماؤهم قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، ومن أعظم الناس تعطيلاً للقرآن، وهجراً له وعزلاً عن الاستدلال به في موارد النزاع، فنصوص القرآن وأحكامه عامة لا خاصة بخصوص السبب.
وما المانع من تكفير من فعل ما فعلت اليهود من الصد عن سبيل الله والكفر به. مع معرفته ؟) (3).
__________
(1) تبيين الحق والصواب) ص 13.
(2) الدرر السنية) 8/237.
(3) مصباح الظلام) ص 140.(131/275)
ويذكر الشيخ عبد اللطيف أن تلك الشبهة قد وقع فيها داود بن جرجيس فقال الشيخ عبد اللطيف:
(ومن شبهاته قوله في بعض الآيات هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام، هذه نزلت في أبي جهل، هذه نزلت في فلان وفلان يريد – قاتله الله – تعطيل القرآن عن أن يتناول أمثالهم وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدله بربه)(1).
ويبين الشيخ عبد اللطيف أن هذه الشبهة من الأسباب المانعة عن فهم القرآن:
(ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم ووصفهم به خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا، وانقرضوا، لم يعقبوا وارثاً.
وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين هذه نزلت في عبّاد الأصنام، هذه في النصارى …، فيظن الغر أن ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم، وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة) (2).
ويظهر الشيخ صالح بن محمد الشثري خطورة هذه الشبهة ومدى انحرافها فيقول – رداً على دحلان -:
(فيا سبحان الله كيف بلغ اتباع الهوى بصاحبه إلى هذا الجهل العظيم، والتناقض البين، وتحريف آيات الله المحكمات الدالة على السؤال والطلب، ويحتج بها على أنها وردت في المشركين وأن حكمها لا يتعداهم … مع أن أحكام القرآن متناولة لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة. قال تعالى (لأنذركم به ومن بلغ) (3) وعلى قول هذا المبطل أن حكم القرآن لا يتعدى من نزل فيه، فيقال: قد خاطب الله الصحابة بشرائع الدين كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وبآيات المواريث، وبآيات الحدود، فيلزم على قول هذا المبطل أن حكمها لا يتعدى الصحابة. وهذا كفر وضلال، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب..) (4).
ويوضح السهسواني – رحمه الله – صحة معتقد الشيخ الإمام في تلك المسألة، فقال:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 3/78.
(2) دلائل الرسوخ) ص 44.
(3) سورة الأنعام: ص 19.
(4) تأييد الملك المنان) ق 39.(131/276)
(نعم قد استدل الشيخ رحمه الله على كفر عباد القبور بعموم آيات نزلت في الكفّار، وهذا مما لا محذور فيه، إذ عبّاد القبور ليسوا بمؤمنين عند أحد من المسلمين …، وإنما تمسك الشيخ في تكفير الذين يسمّون أنفسهم مسلمين، وهم يرتكبون أموراً مكفرة بعموم آيات نزلت في المشركين، وقد ثبت في علم الأصول أن العبرة لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، وهذا مما لا مجال فيه لأحد) (1).
ومما كتبه الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين - رداً على دحلان وغيره ممن وقع في تلك الشبهة - قوله:
(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل آية نزلت في مشرك على مؤمن بتشبيه به شائع ذائع، ولأجل ذلك أجرى الفقهاء حكم الكفر بالتشبه بالكفر، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)(2))(3).
ويقول ابن سحمان:
(فمن فعل كما فعل المشركون من الشرك بالله، بصرف خالص حقّه لغير الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، واستغاث بهم كما يستغيث بالله، وطلب منهم ما لا يطلب إلا من الله، فما المانع من تنزيل الآيات على من فعل كما فعل المشركون، وتكفيره، وقد ذكر أهل العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن إذا عميت قلوبهم عن معرفة الحق، وتنزيل ما أنزله الله في حق المشركين على من صنع صنيعهم واحتذا حذوهم فلا حيلة فيه) (4).
ويكشف محمد رشيد رضا عن كثافة جهل أصحاب هذه الشبهة فيقول:
__________
(1) صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان) ص 487.
(2) أخرجه أبو داود وأحمد.
(3) الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين) ص 46.
(4) كشف غياهب الظلام عن أوهاب جلاء الأوهام) ص 195، وانظر: (الأسنة الحداد) ص 122.(131/277)
(ومن عجائب جهل دحلان وأمثاله أنهم يظنون أن ما بيّنه القرآن من بطلان شرك المشركين خاص بهم لذواتهم، وليس بحجة على من يفعل مثل فعلهم كأن من ولد مسلماً يباح له الشرك لجنسيته الإسلامية، وإن أشرك بالله في كل ما عده كتاب الله شركاً، وعلى هذا لا يتصور وقوع الردة في الإسلام، لأن من سمي مسلماً يجب أن يسمى كفره وشركه إسلاماً، أو يعد مباحاً له أو حراماً على الأقل، وقد يعدونه مشروعاً بالتأويل) (1).
ويرد الشيخ فوزان السابق تلك الدعوى، فيقول:
(وأما القول بأن الآيات التي نزلت بحق المشركين من العرب لا يجوز تطبيقها على من عمل عملهم ممن يتسمى بالإسلام لأنه يقول: لا إله إلا الله، فهو قول من أغواه الشيطان. فآمن ببعض الكتاب وكفر ببعض لأن مجرد التلفظ بالشهادة مع مخالفة العمل بما دلت عليه لا تنفع قائلها. وما لم يقم بحق لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً، وإلا كان قوله لغواً لا فائدة فيه.
فالمعترض يريد تعطيل أحكام الكتاب والسنة، وقصرهم على من نزلت فيهم، وهذا القول يقتضي رفع التكليف عن آخر هذه الأمة) (2).
ونختم هذه الأجوبة، بما سطره القصيمي ردا على هذه الشبهة، يقول:
(وما زال المسلمون والعلماء والأئمة الأعلام، يستدلون بالآيات العامة النازلة في الكفار على ما يفتون به المسلمين … وما زالوا يأخذون من تلك العموميات الحجج والدلالات على معتقداتهم وإيمانهم، ولا خلاف عندهم أن القرآن إذا ما نهى اليهود، والنصارى، أو المجوس عن أمر من الأمور، أو أخبر أن ذلك كفر فيهم، أنهم هم أيضاً منهيون عن ذلك الأمر، وأنه كفر فيهم.
__________
(1) صيانة الإنسان) للسهسواني (تعليق محمد رشيد رضا) ص 487.
(2) البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار) ص 277.(131/278)
وقد عقد الإمام الشاطبي في أول كتابه (الاعتصام) فصلاً مبسوطاً رد به على البدع والمبتدعين، محتجاً بعموم الآيات النازلة في أهل الكتاب، وذكر فيه أقاويل كثيرة عن السلف من صحابة وتابعين ومن بعدهم قد احتجوا فيها بالآيات المطلقة النازلة أصلاً في طوائف الشرك، وأهل الكتاب على إثم البدعة، وخطأ المبتدعين من المسلمين) (1).
المبحث السابع
شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة
ادعى بعض خصوم الدعوة السلفية أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب قد خرج على دولة الخلافة العثمانية، ففارق بذلك الجماعة، وشق عصا السمع والطاعة.
فيصف ابن عفالق التوحيد الذي عليه أتباع الدعوة السلفية، فيقول: (وأما توحيدكم الذي مضمونه الخروج على المسلمين … فهذا إلحاد لا توحيد)(2) وينعتهم عمر المحجوب مخاطباً لهم: (ووقعتم في شق العصا)(3) ونلاحظ أن ابن عابدين في حاشيته - كما سبق ذكره - قد وصف أتباع هذه الدعوة بأنهم خوارج، وذلك ضمن باب البغاة، وهم الخارجون عن طاعة الإمام بلا حق(4).
ويدعي دحلان أن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (فارقوا الجماعة والسواد الأعظم) (5)، كما يدعي الزهاوي أنهم عرفوا (بالمروق عن طاعة أمير المؤمنين)(6)، وإن كثيراً من الخصوم قد وصفوا الشيخ الإمام وأتباعه بأنهم خوارج؛ لأن من صفات الخوارج الخروج على إمام المسلمين، وشق عصا الطاعة بمجرد وقوعه في المعاصي التي دون الكفر الأكبر …
ونوضح ذلك بما ادعاه العاملي حيث يقول:
(الخوارج استحلوا قتال ملوك المسلمين والخروج عليهم.. وكذلك الوهابيون) (7).
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية) 1/419 باختصار.
(2) جواب ابن عفالق على رسالة ابن معمر، ق 57.
(3) رسالة في الرد على الوهابية ص 4.
(4) انظر : حاشية ابن عابدين 4/262.
(5) الدرر السنية في الرد على الوهابية) ص 32.
(6) الفجر الصادق) ص 73.
(7) كشف الارتياب) ص 115 باختصار.(131/279)
ويذكر صاحب كتاب (خلاصة تاريخ العرب)، مبحثاً لعنوان:
(المبحث السادس: في خروج الوهابية عن الطاعة) (1).
ويدعي عبد القيوم زلوم أن الوهابيين بظهور دعوتهم قد كانوا سبباً في سقوط دولة الخلافة.
يقول:
(وكان قد وجد الوهابيون كيان داخل الدولة الإسلامية بزعامة محمد بن سعود ثم ابنه عبد العزيز، فأمدتهم انجلترا بالسلاح والمال، واندفعوا على أساس مذهبي للاستيلاء على البلاد الإسلامية الخاضعة لسلطان الخلافة أي رفعوا السيف في وجه الخليفة، وقاتلوا الجيش الإسلامي جيش أمير المؤمنين بتحريض من الإنجليز وإمداد منهم) (2).
وقبل أن نورد الجواب على شبهة خروج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة، فإنه من المناسب أن نذكر ما كان عليه الشيخ الإمام من اعتقاد وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، لأن الطاعة إنما تكون في المعروف.
يقول الشيخ الإمام في رسالته لأهل القصيم:
(وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه) (3).
ويقول أيضاً:
(الأصل الثالث: أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمّر علينا، ولو كان عبداً حبشياً فبين له هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً. ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند كثير من يدعي العلم، فكيف العمل به)(4).
وصرح الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله باعتقادهم في هذه المسألة فقال:
(ونرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية) (5).
__________
(1) سيديو، خلاصة تاريخ العرب، ترجمة علي باشا مبارك، ط 1 مطبعة محمد أفندي، مصر، 1309هـ، ص 279.
(2) كيف هدمت الخلافة)، ص 10.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/11.
(4) المرجع السابق 1/394.
(5) الهدية السنية) ص 109.(131/280)
وبعد هذا التقرير الموجز الذي أبان ما كان عليه الشيخ من وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برّهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله.
فإننا نشير إلى مسألة مهمة جواباً عن تلك الشبهة، فهناك سؤال مهم هو: هل كانت نجد موطن هذه الدعوة ومحل نشأتها تحت سيطرة دولة الخلافة العثمانية ؟ يجيب الدكتور صالح العبود على هذا السؤال فيقول:
(لم تشهد نجد على العموم نفوذاً للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها، ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارها حامية تركية في الزمان، الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية، فمن خلال رسالة تركية عنوانها (قوانين آل عثمان مضامين دفتر الديوان) يعني قوانين آل عثمان في ما يتضمنه دفتر (الديوان) ألفها – يمين علي أفندي – الذي كان أميناً للدفاتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافقة 1609م من خلال هذه الرسالة يتبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري، كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى اثنتين وثلاثون إيالة، منها أربع عشرة إيالة عربية، وبلاد نجد ليست معها ما عدا الإحساء إن اعتبرناه من نجد..) (1).
ويقول الدكتور عبد الله العثيمين:
(ومهما يكن فإن نجداً لم تشهد نفوذاً مباشراً للعثمانيين عليها قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كما أنها لم تشهد نفوذاً قوياً بفرض وجوده على سير الحوادث داخلها لأية جهة كانت، فلا نفوذ بني جبر، أو بني خالد في بعض جهاتها، ولا نفوذ الأشراف في بعض جهاتها الأخرى أحدث نوعاً من الاستقرار السياسي، فالحروب بين البلدان النجدية ظلت قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة استمر حاداً عنيفاً)(2)
__________
(1) عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي) – غير منشور – 1/27.
(2) محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره، ص 11.
…واستكمالاً لما ذكره العثيمين آنفاً، فإننا نورد قوله: (وما ورد من أن بعض أئمة المساجد النجديين كانوا حينذاك يمجدون السلطان العثماني في الخطبة، ربما كان سببه ما يكنه الناس عامة من مشاعر طيبة تجاه ذلك السلطان، وربما كان ناتجاً عن استعمال أولئك الأئمة لخطب من هم أغزر علماً في المناطق الخاضعة خضوعاً مباشراً للعثمانيين).
عن كتاب (تاريخ المملكة العربية السعودية)، ص 36، 37.(131/281)
.
يقول الدكتور عجيل النشمي:
(إن نجداً وما جاورها لم تعرها دولة الخلافة أهمية تذكر، وربما كانت سياستها هذه تجاه بلاد نجد لسعة أراضيها، وترامي أطرافها، هذا من جانب، ولتمكن التوزيع القبلي والعشائري من جانب آخر..) (1)
ويقول أمين سعيد في هذا الشأن:
(ولقد حاولنا كثيراً في خلال دراستنا لتاريخ الدولتين الأموية والعباسية، وتاريخ الأيوبيين، والمماليك في مصر، ثم تاريخ العثمانيين الذين جاءوا بعدهم وورثوهم، أن نعثر على اسم وال، أو حاكم أرسله هؤلاء، أو أولئك أو أحدهم إلى نجد أو إحدى مقاطعتها الوسطى، أو الشمالية أو الغربية أو الجنوبية، فلم نقع على شيء، مما يدل على مزيد من الإهمال تحمل تبعته هذه الدول..
على أن الذي استنتجناه في النهاية هو أنهم تركوا أمر مقاطعات نجد الوسطى والغربية إلى الأشراف الهاشميين حكام الحجاز الذين جروا على أن يشرفوا على قبائلها إشرافاً جزئياً) (2).
ويقول أيضا:
__________
(1) مجلة المجتمع، عدد 509، 23 صفر 1401هـ.
…ومما يدل على أن موقف الشيخ من دولة الخلافة كان سليماً، وأن الشيخ كان لا يجد شكاً بأن محل دعوته ليس لها علاقة بدولة الخلافة، ما جاء في رسالته لفاضل آل مزيد رئيس بادية الشام حيث قال له: (إن هذا الذي أنكروا عليّ وأبغضوني وعادوني من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام أو اليمن أو غيرهم يقول هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحق اتبعه) (مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/32.
فيبدو من هذا النص سلامة موقف الشيخ من دولة الخلافة، وأن الشيخ كان لا يجد شكاً بأن محل دعوته ليست خاضعة لدولة الخلافة.
(2) تاريخ الدولة السعودية)، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، ص 23.(131/282)
(وكان كل شيخ أو أمير في نجد مستقل استقلالاً تاماً في إدارة بلاده وما كان يعرف الترك، ولا الترك يعرفونه)(1).
ويبين حسين خزعل حال نجد زمن العصر العثماني فيقول:
(ولما حلت سنة 923هـ، وظهرت الدولة العثمانية على المسرح السياسي في جزيرة العرب، - وإن كانت الجزيرة العربية لن تشتمل بالحكم العثماني المركزي المباشر، بل اكتفت الدولة العثمانية بالسلطة الأسمية عليها -، كان كل قطر من أقطار الجزيرة العربية مستقلا بذاته، ولا سيما نجد، فقد كانت العصبيات فيها قائمة على قدم وساق، لكل عشيرة دولة، ولكل حاكم من أولئك الحكام حوزته الخاصة يحكمها حكماً مطلقاً (2).
ويقول جاكلين بيرين في ذلك:
(ولكن شبه الجزيرة العربية ظلت ممتنعة على الفتح التركي بفضل صحرائها التي هلكت فيها عطشاً الجيوش التي وجهها السلطان سليمان سنة 1550 م) (3).
فإذا كانت نجد - محل ظهور وانطلاق هذه الدعوة - ليست تحت سيطرة العثمانيين، فكيف ترد هذه الشبهة ويظن أن الشيخ قد خرج على دولة الخلافة ؟.
واستكمالاً لهذا المبحث نذكر بعض جواب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على ذلك الاعتراض، يقول الشيخ عبد العزيز:
__________
(1) كتاب عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، ط 1، شركة التوزيع العربية، بيروت، ص 179.
(2) تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، دار مكتبة الهلال، ص 38، 39.
(3) اكتشاف جزيرة العرب)، نقله إلى العربية قدري قلعجي، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 24.(131/283)
(لم يخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على دولة الخلافة العثمانية - فيما أعلم وأعتقد -، فلم يكن في نجد رئاسة ولا إمارة للأتراك بل كانت نجد إمارات صغيرة وقرى متناثرة، وعلى كل بلدة أو قرية - مهما صغرت - أمير مستقل … وهي إمارات بينها قتال وحروب ومشاجرات، والشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يخرج على دولة الخلافة، وإنما خرج على أوضاع فاسدة في بلده، فجاهد في الله حق جهاده وصابر وثابر حتى امتد نور هذه الدعوة إلى البلاد الأخرى …) (1).
ويجيب الشيخ محمد نسيب الرفاعي على من ادعى أن هذه الدعوة حركة انقلابية المراد منها خلع الخليفة العثماني، وإعادة الخلافة إلى العرب، فكان مما قاله:
__________
(1) ندوة تجديد الفكر الإسلامي، ألقيت في قاعة المحاضرات بجامعة الملك سعود، 1402هـ، (مسجلة على أشرطة كاسيت).(131/284)
(لم يكن ليخطر على بال الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن ينقلب على خليفة المسلمين ولا مرّ بخاطره ذلك.. ولكن الملتفين حول الخليفة إذ ذاك من الطرقيين المتصوفة قلبوا له الأخبار، وشوهوها، ليوغروا صدر الخليفة عليهم، وحرضوه عليهم بحجة أنهم أهل حركة انقلابية على الخليفة نفسه، تقصد إرجاع الخلافة إلى العرب.. مع أن من صميم عقيدة الشيخ رحمه الله التي هي العقيدة الإسلامية الحقة أنه لا تنقض الأيدي من طاعة الخليفة القائم إلا أن يروا فيه كفراً بواحاً صراحاً، ولم ير الشيخ شيئاً من هذا حتى يدعو الناس إلى خلع الخليفة، حتى ولو كان الخليفة فاسقاً في ذاته، إن لم يصل فسقه إلى درجة الكفر البواح الصراح، فلا يجوز الانقلاب عليه، ولا الانتقاض على حكمه، وأن الشرع يخالف القيام على السلطان إلا في حالات الكفر البواح الصراح، حتى وإن الحركة – من أولها إلى آخرها – لم يكن للخليفة والخلافة أي علاقة في الدعوة ألبتة، حتى ولما استتب لهم الأمر في نجد والحجاز، أنهم انتقضوا على الخليفة، ولم يكن للخليفة ذكر قط في مراحل الدعوة..) (1).
يتبين – من خلال النصّيْن السابقين – جانب من موقف الشيخ من دولة الخلافة فليس هناك عداء أو خصومة لدولة الخلافة.
ولذا يقول الدكتور عجيل النشمي:
(نستطيع القول باطمئنان أن كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس فيها تصريح بموقف عدائي ضد دولة الخلافة.
- يقول أيضا: ولم نعثر على أي فتوى له تكفر الدولة العثمانية بل حصر افتاءاته في البوادي القريبة منه التي كان على علم بأنها على شرك..) (2).
__________
(1) الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (من بحوث أسبوع الشيخ – غير منشور - ) ص 9، 10.
(2) مجلة المجتمع، عدد 506، 17 محرم 1401هـ.(131/285)
بل – كما يقول النشمي – أن موقفه من دولة الخلافة هو موقف الناصح الآمر بالمعروف، المنكر لما يخالف الشرع دون أن يتعداه إلى الصدام المسلح، بل كان يتجنبه ويتحاشاه، كما هو واضح في موقفه من الأشراف الذين يحكمون الحجاز باسم دولة الخلافة. ويذكر النشمي بعض الأحداث التاريخية – في زمن الشيخ – التي تثبت ما كان عليه الشيخ الإمام من نبل الموقف، وتقدير العثمانية وإجلالها(1).
ونورد خلاصة ما كتبه النشمي في هذا الموضوع، حيث يقول:
(فكانت سياسة الشيخ وموقفه تجاه الحجاز أنه لم يؤثر عنه طوال حياته تحريض أو استعداء أو دعوة لحربها، أو الاستيلاء عليها لشعوره أن ذلك الفعل قد يسفر على أنه خروج على دولة الخلافة.
لم تحرك دولة الخلافة ساكناً، ولم تبدر منها أية مبادرة امتعاض، أو خلاف يذكر رغم توالي أربعة من سلاطين آل عثمان في حياة الشيخ..) (2).
إذا كان - ما سبق - يعكس تصور الشيخ لدولة الخلافة، فكيف كانت صورة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لدى دولة الخلافة ؟
يقول د. عجيل النشمي مجيباً على هذا السؤال:
(لقد كانت صورة حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لدى دولة الخلافة صورة قد بلغت من التشويه والتشويش مداه، فلم تطلع دولة الخلافة إلا على الوجه المعادي لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، سواء عن طريق التقارير التي يرسلها ولاتها في الحجاز، أو بغداد، أو غيرهما .. أو عن طريق بعض الأفراد الذين يصلون إلى الآستانة يحملون الأخبار)(3).
وساق النشمي بعضاً من الأمثلة التي تظهر مدى التشويه وقلب الحقائق الذي ضمته تلك التقارير، أو نقله بعض الأفراد.
__________
(1) انظر: ما كتبه النشمي في مجلة المجتمع: عدد 509، 23 صفر 1401هـ، عدد 510، 30 صفر 1401هـ.
(2) مجلة المجتمع، عدد 510، 30 صفر 1401هـ.
(3) مجلة المجتمع، عدد 504، 3 محرم 1401هـ.(131/286)
ولا زالت آثار هذا التشويش، وتبديل الحقائق وتزويرها ظاهراً جلياً فيما كتب عن تاريخ العثمانيين، ونورد مثالاً على ذلك:
يقول المؤرخ التركي سليمان بن خليل العزي:
(إن المراسلات التي وصلت إلى القسطنطينية من الشريف مسعود بن سعيد شريف مكة تبين أن ملحداً لا دينياً باسم محمد بن عبد الوهاب، قد ظهر من الشرق، قام بضرب وإجبار سكان تلك المنطقة لإخضاعهم لنفسه عن طريق اجتهاد زائف..) (1) .
وأما دعوى (زلوم) أن دعوة الشيخ أحد أسباب سقوط الخلافة، وأن الانكليز ساعدوا الوهابيين على إسقاطها.
فيقول محمود مهدي الاستانبولي جواباً على هذه الدعوى العريضة:
(قد كان من واجب هذا الكاتب أن يدعم رأيه بأدلة وإثباتات، وقديماً قال الشاعر:
وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها ……بالنص، فهي على السفاه دليل
مع العلم أن التاريخ يذكر أن هؤلاء الانكليز وقفوا ضد هذه الدعوة، منذ قيامها خشية يقظة العالم الإسلامي) (2).
ويقول الاستانبولي:
(والغريب المضحك والمبكي معاً أن يتهم هذا الأستاذ حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها من عوامل هدم الخلافة العثمانية، مع العلم أن هذه الحركة قامت حوالي عام 1811م، والخلافة هدمت حوالي 1922م) (3).
__________
(1) نقلاً عن (الوهابيون الأوائل) لعبد الباري عبد الباقي، ص 5.
…وقد تضمن (تاريخ الدولة العلية العثمانية) لمحمد فريد بك ص 404 معلومات خاطئة عن الشيخ محمد بن الوهاب، فقد ذكر أن الشيخ ولد في الدرعية وأنه درس مذهب أبي حنيفة، وسافر إلى أصفهان، وأنه عاد يقرر مذهب أبي حنيفة، ويذكر – أيضاً – أن الشيخ أدته ألمعيته إلى الاجتهاد والاستقلال فأنشأ مذهباً جديداً.
(2) الشيخ محمد بن الوهاب في مرآة علماء الشرق والغرب) ص 62.
(3) المرجع السابق ص 64.(131/287)
ومما يدل على أن الانكليز ضد الحركة الوهابية، أنهم أرسلوا الكابتن فورستر سادلير ليهنيء إبراهيم باشا على النجاح الذي حققه ضد الوهابيين – إبان حرب إبراهيم باشا للدرعية -، وليؤكد له أيضاً مدى ميله إلى التعاون مع الحركة البريطانية لتخفيض – ما أسموه بأعمال القرصنة الوهابية في الخليج العربي(1).
بل صرحت هذه الرسالة بالرغبة في إقامة الاتفاق بين الحكومة البريطانية، وبين إبراهيم باشا، بهدف سحق نفوذ الوهابيين بشكل كامل(2).
يقول الشيخ محمد بن منظور النعماني:
(لقد استغل الانجليز الوضع المعاكس في الهند للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورموا كل من عارضهم ووقف في طريقهم، ورأوه خطراً على كيانهم بالوهابية، ودعوهم وهابيين …، وكذلك دعا الإنجليز علماء ديوبند – في الهند – بالوهابيين من أجل معارضتهم السافرة للانجليز، وتضييقهم الخناق عليهم..) (3).
وبهذه النقول المتنوعة ينكشف زيف هذه الشبهة، وتهافتها أمام البراهين العلمية الواضحة من رسائل الشيخ الإمام ومؤلفاته، كما يظهر زيف الشبهة أمام الحقائق التاريخية التي كتبها المنصفون.
الفصل الثاني
تحريم التوسل.. عرض ثم رد
__________
(1) انظر: الكابتن فورستر سادلير، رحلة عبر الجزيرة العربية خلال عام 1819م، ترجمة أنس الرفاعي، أشرف على طبعها سعود العجمي، ط 2، الصفاة، الكويت 1403هـ، ص 7.
(2) انظر المرجع السابق ص 156، 157.
…وانظر: كتاب (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم) لمسعود الندوي، ص 121، 123.
(3) دعايات مكثفة ضد الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، ص 105، 106 باختصار.
…بل إن القس زويمر يذكر أن الوهابيين في الهند لا يجاهرون بمعتقدهم؛ لأنه نسب إليهم الحث على الجهاد ضد الحكومة الإنجليزية.
…وهذه شهادة خصم، والحق ما شهدت به الأعداء.
…انظر: مجلة المقتطف م 27، ص 295.(131/288)
ادعى كثير من خصوم الدعوة السلفية أن الشيخ الإمام وأتباعه - من بعده - وأنصار دعوته .. أنهم يحرمون التوسل .. وحشد الخصوم لإثبات صحة دعواهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وسنتحدث - بشيء من الإطناب - عن تلك الشبهة، نظراً لكثرة الخصوم وتعددهم، ممن رموا الشيخ الإمام وأنصار دعوته السلفية بتلك الشبهة دون تبيين أو تفصيل لدعواهم.
لقد ادعى هؤلاء الخصوم جواز التوسل بالأموات مثلما جاز التوسل بالأحياء؛ لأنه لا فرق بينهما - على حدَّ زعمهم -، ومما يدل على أهمية الشبهة وخطورتها أن الخصوم قد اتخذوا لفظ (التوسل) مطيّة يتوصلون بها إلى إثبات ما تهواه أنفسهم من جواز بعض الشركيات، والكفريات مثل: الاستغاثة بالأموات، والاستغاثة بهم في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ لأن هؤلاء الجهلة يزعمون أنه لا فرق بين لفظ التوسل، ولفظ الاستغاثة، فخلطوا بينهما..
ونظراً لكثرة أقوال الخصوم وتنوعها في هذه المسألة فإنه يمكن حصر أقوالهم – بعد استقرائها – في هذين العنصرين الأساسيين التاليين:
العنصر الأول: جواز التوسل بذوات المخلوقين أحياء وأمواتاً، وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم، فيجوز التوسل به في حياته، وبعد وفاته، ويوم البعث، بل يجوز التوسل به قبل وجوده، وجواز الإقسام على الله بكريم عليه، وأنه حيث جاز التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض، فجواز التوسل بالذوات الفاضلة وهي أعيان من باب أولى ويورد هؤلاء القوم ما عندهم من الأدلة والنصوص التي تثبت دعواهم.
العنصر الثاني: جواز التوسل بالأموات كما جاز التوسل بالأحياء؛ لأنه لا فرق بينهما، فليس للحي تأثير كما أنه ليس للميت تأثير؛ لأن المؤثر والفاعل هو الله وحده، إضافة إلى أن الميت حي في قبره، كما أن له حياة قبل موته ….
وحيث جاز التوسل بالأموات والأحياء جميعاً بلا فرق، فإنه لا فرق أيضاً بين معنى التوسل ومعنى الاستغاثة ومعنى الالتجاء.. ونحوها؛ لأن المعنى واحد.(131/289)
وسنورد أقوال الخصوم – كما جاءت مسطورة في كتبهم – في بيان هذين العنصرين، ونشرع في سرد أقوالهم في بيان العنصر الأول على النسق الآتي:
يدعي ابن عفالق جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فيقول – مخاطباً الوهابيين -:
(فإن كنتم تنكرون التوسل والتشفع به صلى الله عليه وسلم مطلقاً فالكلام ساقط معكم، والخطاب مستد بيننا وبينكم، وإن كنتم تقولون يجوز ذلك في حياته، وفي عرصات يوم القيامة إظهاراً لعظيم شأنه وتنويهاً برفيع مقامه، وتقولون بعدم ذلك بعد وفاته، فأي دليل قام لكم على ذلك، وأي أمر أسقط عظيم جاهه بعد وفاته … ومن المعلوم إنما أقره عليه السلام في حياته فهو شرع بعد وفاته) (1).
ويقرر محمد سليمان الكردي مشروعية التوسل بالأنبياء والصالحين فيقول:
(وأما التوسل بالأنبياء والصالحين فهو أمر محبوب ثابت في الأحاديث الصحيحة وغيرها، وقد أطبقوا على طلبه، واستدلوا بأمور يطول شرحها .. بل ثبت في الأحاديث الصحيحة التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض. فالبذوات أولى) (2).
ويؤكد عمر المحجوب كثرة الأدلة التي تثبت دعواه في جواز التوسل بذوات الخلق فيقول:
(.. فإن التوسل بالمخلوق مشروع. ووارد في السنة ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة، تضيق المهارق عن استقصائها، ويكل اليراع إذا كلف بإحصائها. ويكفي منها توسل الصحابة والتابعين في خلافة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين واستسقاؤهم عام الرمادة بالعباس …) (3).
ويردد الحداد نفس المقالة السابقة فكان مما قاله:
(وثبت في الأحاديث الصحيحة أن التوسل بالأنبياء والصلحاء أمر محبوب، وقد أطبقوا على طلبه، واستدلوا بأمور يطول شرحها..) (4).
__________
(1) رسالة ابن عفالق إلى ابن معمر ق 43.
(2) قرة العين بفتاوى علماء الحرمين، ط 1، المكتبة التجارية، مصر 1357، ص 259.
(3) رسالة في الرد على الوهابية ص 5.
(4) مصباح الأنام) ص 85.(131/290)
ويجوز إسماعيل التميمي التوسل بذوات المخلوقين ويدعي الإجماع على جواز التوسل بالمصطفى صلى الله عليه وسلم …
فيقول: (وإذا جاز التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض جاز التوسل بالذوات الفاضلة بعد موتها من باب أولى)(1).
ويقول – أيضاً -: (أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أمر مجمع عليه لا خلاف فيه .. وإن التوسل بغيره الأكثر على المشروعية..) (2).
وكذلك يجوّز عبد الرؤوف بن محمد بن عبد الله التوسل بذوات المخلوقين فيقول مستغرباً:
(كيف جاز التوسل بأعراض المفضولين – أي الأعمال الصالحة -، ولم يجز بأعيان الفاضلين، مع كون العين أفضل من العرض، والفاضل أفضل من المفضول) (3).
ويجوّز عبد الرؤوف – أيضاً – الإقسام على الله بما أقسم به، فيقول: (الإقسام على الله بما أقسم به ليس حلفاً بغير الله حتى تحرمه، والذي يحكم بالتحريم لابد له من إقامة الدليل، ومع فقد الدليل ليس إلى المنع سبيل …)(4).
ومما ذكره النجفي في تجويز التوسل بكل معظم قوله:
(إن من توسل إلى الله بمعظم من قرآن، أو نبي، أو عبد صالح، أو مكان شريف، أو بغير ذلك فلا بأس عليه، بل كان آتياً بما هو أفضل وأولى …)(5).
__________
(1) المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية)، ق 39.
(2) المرجع السابق ق 44 باختصار.
(3) فصل الخطاب) ق 43.
(4) المرجع السابق ق 47.
(5) منهج السداد لمن أراد الرشاد) ص 47.(131/291)
وسرد أحمد دحلان أدلتهم في مشروعية التوسل بذات المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فكان مما ذكره من الأدلة (ما رواه الطبراني والبيهقي أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن خلافته في حاجة، فكان لا يلتفت إليه، ولا ينظر إليه في حاجته، فشكا ذلك لعثمان بن حنيف فقال: ائت الميضأة فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل ثم قل: اللهم إني أسالك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضي حاجتي وتذكر حاجتك فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى بباب عثمان رضي الله عنه، فجاء البواب فأخذ بيده، فأدخله على عثمان رضي الله عنه، فأجلسه معه، قال له: اذكر حاجتك، فذكر حاجته فقضاها …).
قال دحلان: (فهذا توسل ونداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم) (1).
ومما استدل به: حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم حين اقترف آدم الخطيئة فقال: يا رب أسالك بحق محمد إلا ما غفر لي … فغفر له. فهذا دليل على جواز التوسل بمحمد قبل وجوده – كما يقول دحلان - (2).
واستدل على جواز التوسل بالأنبياء بقول النبي صلى الله عليه وسلم (اغفر لأمي فاطمة بنت أسيد، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي)(3).
كما استدل على جواز التوسل بالأحياء بحديث استسقاء عمر بالعباس – رضي الله عنهما -(4).
ويذكر السمنودي دليلاً آخر على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم مع ندائه بعد وفاته وهو مرثية صفية رضي الله عنها عمة الرسول فإنها رثته بأبيات فيها قوله:
ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا ………وكنت بنا برا ولم تك جافياً
ثم يقول السمنودي:
(ففي ذلك النداء بعد وفاته مع قولها أنت رجاءنا، وقد سمع تلك المرثية الصحابة رضوان الله عليهم فلم ينكر عليها أحد منهم …) (5).
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية)، ص 8، 9.
(2) المرجع السابق.
(3) المرجع السابق.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق.(131/292)
ومما كتبه محمد بن محمد القادري، مكذباً الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود في مسألة التوسل قوله:
(والحاصل أن قوله لا يجوز التوسل بالأنبياء والأولياء فهذا كذب وافتراء، وقد نص الأئمة على أنه يجوز التوسل بأهل الخير والصلاح) (1).
ويدعي الكسم اختصاص المصطفى صلى الله عليه وسلم بجواز أن يقسم على الله به، فقال:
(واختص صلى الله عليه وسلم بجواز أن يقسم على الله به، وفي المواهب اللدنية: قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغي أن يكون مقصوراً على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره.. وخالف في ذلك بعضهم فجوّز القسم على الله تعالى بكل نبي..) (2).
ويذكر الدجوي أن التوسل بذوات الصالحين هو توسل بأعمالهم الصالحة فيقول – مخاطباً الوهابيين -: (لماذا لا تجعلون التوسل بالولي أو النبي توسلاً بعمله الصالح، فإنك تتوسل بالولي من حيث هو ولي مقرب إلى الله، وما تقرب إليه بما أحبه من صالح الأعمال، وسؤال الله بالأعمال الصالحة مجمع على جوازه منا ومنكم) (3).
ويقول العاملي في تجويز الإقسام على الله بكل ما هو صالح، وأن ذلك توسل مستحب: (الإقسام على الله بكريم عليه من نبي، أو ولي، أو عبد صالح، أو عمل صالح، أو غير ذلك نوع من التوسل.. وهو محبوب لله تعالى، وأنه تعالى يحب أن يتوسل إليه عبده بأنواع الوسائل) (4).
ويزعم الطباطبائي أن التوسل بالأموات كالتوسل بالأحياء في الحكم، فيقول:
(إن التوسل بالميت نظير التوسل بالحي، وسؤاله قضاء الحوائج بواسطة دعائه من الله تعالى .. فأحد التوسلين كالآخر بجامع السؤال من المخلوق، فإذا جاز بالنسبة إلى الأحياء، جاز مطلقاً) (5).
__________
(1) سعادة الدارين) 1/204.
(2) رسالة في الرد على الوهابية ق 7.
(3) مجلة نور الإسلام، المجلد الثاني، مقال التوسل وجهلة الوهابيين ص 114، 115.
(4) كشف الارتياب) ص 329.
(5) البراهين الجلية) ص 27 باختصار.(131/293)
ويورد الشطي بعض النصوص القرآنية التي استدل بها على دعواهم من جواز التوسل بالأموات، نذكر من أدلته قوله تعالى:
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) (1).
وقوله عزَّ وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون(2)) (3).
ويجمع خزبك خلاصة دعواهم فيقول:
(وخلاصة القول أن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذلك بغيره من الأنبياء والمرسلين والعلماء والصالحين كما دلت عليه الأحاديث الثابتة المتواترة) (4).
ويجوز السيامي – كأسلافه – التوسل بالأنبياء والصالحين ويجعله مستحباً، فيقول:
(إن التوسل بالأنبياء والصالحين … جائز، بل مستحب ومطلوب …) (5).
ويدعي (الجبالي) أن التوسل بالجاه هو من باب التبرك … فيقول:
(وليس التوسل بجاههم إلى المولى لتقضى له حاجته إلا تبركاً بمن كرّمهم الله، وجعل لهم منزلة عنده..) (6).
ويفسر المالكي لفظ (الوسيلة) في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) فيقول:
(لفظ الوسيلة عام في الآية كما ترى فهو شامل للتوسل بالذوات الفاضلة من الأنبياء والصالحين، في الحياة وبعد الممات، والإتيان بالأعمال الصالحة على الوجه المأمور به، وللتوسل بها بعد وقوعها) (7).
__________
(1) سورة النساء: آية 64.
(2) سورة المائدة : آية 35.
(3) انظر : النقول الشرعية ص 107.
(4) المقالات الوفية) ص 199.
(5) رسالة السنيين في الرد على المبتدعين الوهابيين ص 20 باختصار.
(6) مجلة نور الإسلام م 1، ص 646، مقال التوسل والاستغاثة.
(7) مفاهيم يجب أن تصحح) ص 45.(131/294)
يظهر من هذه النقول السابقة عن كتب المناوئين لهذه الدعوة السلفية – والتي أوردناها بإيجاز – أنها تجوز التوسل البدعي المحظور، فتجوز التوسل بذوات المخلوقين وأشخاصهم أحياء كانوا أم أمواتاً وتجوز – أيضاً – التوسل بجاه الأولياء ومنزلتهم عند الله، كما تجوز الإقسام على الله بكل صالح أو فاضل، ويورد هؤلاء الخصوم نصوصاً من القرآن، ونصوصاً من السنة يستدلون بها على دعواهم، كما سبق ذكر بعضها.
وأما أقوالهم التي يتضمنها العنصر الثاني، فنسردها على النحو الآتي:
يدعي القباني عدم الفرق بين لفظ التوسل، ولفظ الاستغاثة، ولفظ التشفع فيقول:
(جواز التوسل والتشفع والاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء … ولا فرق في ذلك بين التعبير بالتوسل، أو الاستغاثة، أو التشفع، أو التوجه به صلى الله عليه وسلم في الحاجة..) (1).
ويذكر معنى الاستغاثة، حين تكون مرادفة لمعنى التوسل، فيقول:
(فالمستغاث في الحقيقة هو الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث، فهو تعالى مستغاث، والغوث منه خلقاً وإيجاداً، والنبي صلى الله عليه وسلم مستغاث، والغوث منه تسبباً وكسباً) (2).
ويؤكد صاحب (إزهاق الباطل) عدم الفرق في التعبير بين لفظ الاستغاثة أو التوسل أو التشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقرر جواز التوسل أو الاستغاثة بالنبي، ما دام أن المتوسل أو المستغيث يعتقد أن الله هو المتصرف في الأمور، فيقول:
__________
(1) فصل الخطاب) ق 19.
(2) المرجع السابق ق 28.(131/295)
(لا فرق أن يعبر بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو التشفع، أو التوجه.. فكل من الاستغاثة والتوسل والتوجه والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره في (تحقيق النصرة)، و (مصباح الظلام)، و(المواهب اللدنية) للقسطلاني واقع في كل حال قبل خلقه، وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة..) (1).
ثم يقول، بعد كلام طويل: (ولا ينبغي أن يستريب أحد في جوازه، كيف والقائل معتقد بأن الله هو الشافي والكاشف للضر، وأن الأمور ترجع إليه) (2).
ويقول أيضاً:
(إن كان يعتقد - أي المتوسل والمستغيث بغير الله - أن المتصرف في الأمور هو الله والطلب في الحقيقة، ونفس الأمر منه، وغيره لا يملك شيئاً من الضر والنفع والوضع والرفع، ولكن مع ذلك يتوجه الخطاب، والطلب إلى الوجيه المقرّب لدى الرب … فالطلب في الحقيقة منه تعالى لا من سواه، وإن كان في الظاهر متوجهاً إلى غيره فلا بأس به في المعنى..) (3).
فالتوسل والاستغاثة بالأموات جائزة – عند صاحب (إزهاق الباطل) – ما دام أن المتوسل والمستغيث بالموتى يعترف بأن الله هو المتصرف في الأمور.
ويؤكد محسن بن عبد الكريم هذا المعنى الذي قرره سلفه، فيقول:
(والمتوسل بالنبي، أو الولي لا يعتقد أنه يفعل ما يريد، وأنه إن شاء الضر فعله، وإن لم يأذن به الله، وإن شاء النفع فعله، وإن لم يأذن به الله. ولو كان معتقداً لذلك لما جعله – أي الولي أو النبي – وسيلة إلى الله، ولوجّه العبادة إليه من أول الأمر)(4).
ويستنكر داود بن جرجيس على من استغرب طلب التسبب من الموتى، ما دام أن ذلك الذي طلب من الموتى، ويستغيث، ويتوسل بهم يعترف بأن الله هو الفاعل، فيقول:
__________
(1) إزهاق الباطل) لمحمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني، ق 62.
(2) المرجع السابق، ق 72.
(3) المرجع السابق، ق 75، بتصرف يسير.
(4) لفحات الوجد على فعلات أهل نجد)، ق 26.(131/296)
(كيف يستغرب طلب التسبب من الموتى والتشفع والتوسل بدعائهم إلى ربهم …؟ فهل إذا عامل أحد هؤلاء الذين هذا حالهم معاملة الأحياء يلام على ذلك، أو يعاب أو يؤثم أو يكفّر .. مع اعتقاده أن الفعل لله وحده خلقاً وإيجاداً لا شريك له، وأنه يكون من أهل القبور من الأنبياء، والأولياء تسبباً وكسباً؟) (1).
ويدعي داود أن الصالحين بعد وفاتهم أحياء في قبورهم، كما هم عليه في الدنيا فيقول:
(وكان بعد من يدعي العلم في زعمه وهو أجهل من هبنقة، يقول كيف يعلم الأنبياء، والأولياء بمن يستشفع بهم ويناديهم؟ فقلت لهم هم مكشوف لهم في الدنيا، وهم على ما هم عليه بعد موتهم..) (2).
ويقول: (إن سائر الموتى أحياء حياة برزخية، ولا ينكر التوسل والتشفع بهم إلا من جعلهم تراباً وعظاماً، وترك ما يجب لهم ويسند إليهم إكراماً وتعظيماً..) (3).
ويزعم ابن جرجيس أن منكري التوسل والاستغاثة بالموتى، إنما أتاهم الإنكار من اعتقادهم أن الميت لا يسمع ولا يرى وليس له حياة برزخية، يقول داود:
(اعلم أيها المؤمن أن المنكر للتوسل والتشفع من الأنبياء، والأولياء من عبّاد الله الصالحين والاستغاثة بهم .. إنما أتاه الإنكار من اعتقاده أن الميت إذا مات صار تراباً، لا يسمع ولا يرى وليس له حياة برزخية في قبره .. ولو كان معتقداً أن سائر أهل القبور أحياء حياة برزخية يعقلون، ويسمعون، ويرون، ويتزاورون، وأن أعمال الأحياء تعرض عليهم، لما وسعه الإنكار..) (4).
وجاء في رسالة ضد الوهابية ما نصه:
(ثم أي فرق بين التوسل بالأحياء في قضاء الحاجات، وبين من مضي من الأنبياء والأولياء حتى جوزتم الأول وأنكرتم الثاني) (5).
__________
(1) المنحة الوهبية في الرد على الوهابية) ص 25 باختصار.
(2) المرجع السابق، ص 15.
(3) المرجع السابق، ص 25 بتصرف.
(4) المرجع السابق، ص 2، 3 باختصار.
(5) رسالة في الرد على أجوبة الوهابية، مخطوطة من ورقة واحدة، دارة الملك عبد العزيز.(131/297)
ويبين محمد بن مصطفى الحسني جواز التوسل والاستغاثة بغير الله، لعدم اعتقاد – هؤلاء المستغيثين والمتوسلين – التأثير لغير الله، ولا يكتفي الحسني بذلك، بل يقرر انتقاء التأثير وسقوط الأسباب، فليست النار سبباً في الاحتراق وإنما اقترنت النار بالإحراق فقط … يقول:
(والمسلمون لم يعتقد أحد منهم التأثير في الواسطة المتوسل بها إلى الله، كيف وصغار الولدان منهم يعرف ذلك ضرورة لقراءته كلام الله كل حين، وقد نفوا التأثير عما يحكم عليه بالعادة أنه مؤثر بحاسة العيان كالنار مثلاً، فإن إحراق ما مسته لا دلالة للعادة عليه أصلاً، وإنما غاية ما دلت عليه العادة الاقتران فقط بين الأمرين ..) (1).
ويجعل دحلان كلاًّ من التوسل والتشفع والاستغاثة بالأموات بمعنى واحد هو التبرك فقط … ثم يدعي أنهم أسباب يرحم الله بهم، لكن الله هو المؤثر وحده، ولكن – أيضاً – هؤلاء الأموات سبب عادي لا تأثير له !! يقول دحلان:
(فالتوسل والتشفع والاستغاثة كلها بمعنى واحد، وليس لها في قلوب المؤمنين معنى إلا التبرك بذكر أحباء الله تعالى، لما ثبت أن الله يرحم العباد بسببهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً، فالمؤثر والموجد حقيقة هو الله تعالى، وذكر هؤلاء الأخيار سبب عادي في ذلك التأثير، وذلك مثل الكسب العادي فإنه لا تأثير له) (2).
ويورد دحلان قولاً آخر يدعي فيه مساواة الحي بالميت؛ لأن كلاًّ منهما لا تأثير له في شيء، ومن اعتقد أن الحي يقدر على بعض الأشياء، فقد اعتقد اعتقاداً باطلاً، يقول:
__________
(1) إظهار العقوق في الرد على منع التوسل إلى الله تعالى بالنبي والولي الصدوق)، ط 1، مطبعة التقدم، مصر، 1327هـ، ص 48.
(2) الدرر السنية في الرد على الوهابية) ص 14.(131/298)
(الحي والميت مستويان في أن كلاًّ منهما لا تأثير له في شيء .. واعتقادكم أن الحي قادر على بعض الأشياء يستلزم اعتقادهم أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية، وهو اعتقاد فاسد ومذهب باطل، فإن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الخالق للعباد وأفعالهم هو الله وحده لا شريك له، والعبد ليس له إلا الكسب الظاهري .. فيستوي الحي والميت في أن كلاًّ منهما لا خلق له ولا تأثير، والمؤثر هو الله تعالى وحده..) (1).
ويدعي السمنودي - كأسلافه السابقين - عدم التفريق في التوسل بين أن يكون بلفظ التوسل، أو الاستغاثة أو التوجه.. ما دام أن الاستغاثة بالأنبياء والصالحين ليس لها معنى إلا طلب الغوث حقيقة من الله ومجازاً بالتسبب العادي(2).
ويطنب الدجوي في هذه المسألة، فيجوّز التوسل والاستغاثة بالأموات إذا كان من فعلها يسند الخلق إلى الله وحده .. ولو أسند شيئاً لغير الله فإن ذلك يحمل على الإسناد المجازي لا الحقيقي ..، فلا تفرقة – إذن – بين الأحياء والأموات في هذا المقام، بل إن حصر التوسل في الحي دون الميت أقرب إلى وقوع الناس في الشرك.
يقول الدجوي:
(لا أدري كيف يكفرون من يقول: إن الله خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، والمتوسل ناطق بهذا في توسله. فإن المتوسل إلى الله بأحد أصفيائه قائل أنه لا فاعل إلا الله، ولم ينسب إلى من توسل به فعلاً ولا خلقاً، وإنما أثبت له القربة والمنزلة عند الله .. حتى أننا لو رأيناه أسند شيئاً لغير الله تعالى، علمنا بمقتضى إيمانه أنه من الإسناد المجازي، لا الحقيقي كقولهم أنبت الربيع البقل) (3).
ويقول في موضع آخر:
__________
(1) المرجع السابق ص 34، بتصرف يسير.
(2) انظر: (سعادة الدارين) 1/207.
(3) مجلة نور الإسلام، م 1، مقال حكم التوسل بالنبي، ص 588.(131/299)
(ولست أدري هل يأخذ هؤلاء بالظواهر أم بالمقصود منها؟ فإن كان التعويل عندهم على الظواهر، كان قول القائل (أنبت الربيع البقل، وأرواني الماء وأشبعني الخبز) شركاً وكفراً.
وإن كانت العبرة بالمقاصد والتعويل على ما في القلوب التي تعتقد أنه لا خالق إلا الله وأن الإسناد لغيره إنما هو لكونه كاسباً له، أو سبباً فيه، لا لكونه في التفرقة بين الحي والميت على نحو ما يقولونه (كأن الحي يصح أن يكون شريكاً لله دون الميت))(1).
ثم يقول: (فالتفرقة بين الأحياء والأموات في هذا المقام غير صحيحة، فإن الطلب من الله، والفعل لله لا من المستغاث به) (2).
ويهاجم الدجوي مخالفيهم فيقول:
(إن تخصيص جواز التوسل بالحي دون الميت أقرب إلى إيقاع الناس في الشرك، فإنه يوهم أن للحي فعلاً يستقل به دون الميت، فأين هذا من قولنا أن الفعل في الحقيقة لا للحي ولا للميت ؟ ومن أمعن النظر في كلامهم لم يفهم منه إلا مذهب المعتزلة في الأحياء ومذهب الذين يئسوا من أصحاب القبور في الأموات) (3).
ويقرر العاملي أن: (الأخبار صرحت بعدم الفرق بين الحي والميت بل - وكذا - الموجود والمعدوم) (4).
ويدعي العاملي – أيضاً – أن: (التفرقة بين التوسل بالأحياء والأموات تحكم محض وجمود بحت) (5).
ويذكر الزهاوي مقالة أسلافه، فيدعي أن التوسل والتشفع والاستغاثة بمآل واحد؛ لأن القصد منها التبرك بالأموات الذين بسببهم يرحم الله عباده، ولكنهم أسباب – عادية – لا تأثير لهم؛ لأن الموجد حقيقة هو الله(6).
ويقول الزهاوي:
__________
(1) المرجع السابق، م 2، مقال التوسل وجهلة الوهابيين، ص 31.
(2) المرجع السابق، م 2، مقال التوسل وجهلة الوهابيين، ص 33.
(3) المرجع السابق، م 2، مقال التوسل وجهلة الوهابيين، ص 114 بتصرف يسير.
(4) كشف الارتياب، ص 306).
(5) المرجع السابق، ص 304.
(6) انظر: (الفجر الصادق)، ص 60.(131/300)
(المراد من الاستغاثة بالأنبياء والصالحين والتوسل بهم هو أنهم أسباب ووسائل لنيل المقصود، وأن الله هو الفاعل.. لا أنهم هم الفاعلون كما هو المعتقد الحق في سائر الأفعال، فإن السكين لا يقطع بنفسه بل القاطع هو الله، والسكين سبب عادي خلقه الله تعالى القطع عنده) (1) فليست السكين – على حد زعم الزهاوي – سبباً في القطع وإنما خلق الله القطع عند اقترانه بالسكين..
ويدعي الزهاوي - بناء على ما قرره - عدم التفريق في التوسل بذوات المخلوقين أحياء أو أمواتاً، فليس لهم تأثير في شيء(2).
ويزعم الطباطبائي أن الميت كالحي إدراكاً وشعوراً بل يزيد الميت على الحي فيقول:
(أما عدم كون نداء الأموات توجيهاً للخطاب نحو المعدوم، فلأن للميت من الإدراك والشعور، والالتفات مثل ما له في الحياة، بل أزيد لإجماع المسلمين عليه بعد الكتاب والسنة) (3).
ويذكر خزبك عدم الفرق في التوسل بين الأحياء والأموات؛ لأن الله وحده هو المؤثر والأحياء والأموات ليس لهم تأثير في شيء (4).
ويورد حسن الشطي شبهة لمن خالفهم، ويردّ عليهم، فيقول:
(فإن قلت شبهة من منع التوسل رؤيتهم بعض العوام يطلبون من الصالحين أحياءً وأمواتاً أشياء لا تطلب إلا من الله، ويجدونهم يقولون للولي افعل لي كذا وكذا، فهذه الألفاظ الصادرة منهم توهم التأثير لغير الله.
أجيب بأن الألفاظ الموهمة محمولة على المجاز العقلي، والقرينة عليه صدوره من موحد، ولذا إذا سئل العامي عن صحة معتقده بذلك فيجيبك بأن الله هو الفعال وحده لا شريك له، وإنما الطلب من هؤلاء الأكابر عند الله تعالى المقربين لديه على سبيل التوسط بحصول المقصود.. ولا يصح لنا أن نمنعهم من التوسل والاستغاثة مطلقاً..) (5).
__________
(1) الفجر الصادق)، ص 53، 54.
(2) انظر: (الفجر الصادق)، ص 59.
(3) البراهين الجلية)، ص 23.
(4) انظر: (المقالات الوفية)، ص 199.
(5) النقول الشرعية)، ص 107، 108، باختصار.(131/301)
ويورد سوقية معتقدهم في الأفعال، فكان مما أورده أنه قال:
(واعتقاد أهل السنة والجماعة أن الفاعل في هذه العوالم هو الله وحده لا شريك له، لا تأثير لشيء من الأشياء كبر أو صغر، شديداً كان أو ضعيفاً، والشيء يوجد عنده لا به.. مثل قول الموحد أنبت الربيع البقل، فإسناد الإنبات إلى الربيع إسناد مجازي، للعلم بأن المنبت حقيقة هو الله وحده لا يشاركه فيه غيره..) (1).
ويذكر محمد عاشق الرحمن – بعد أن ساق حديث توسل آدم بمحمد قبل وجوده – عدم الفرق بين لفظ التوسل ولفظ الاستعانة ولفظ الالتجاء، فيقول:
(ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبر عنه بلفظ التوسل، أو الاستعانة، أو التشفع، أو الالتجاء، والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه متوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه ومستغيث به) (2).
ويقول محمد الطاهر يوسف - في شأن التوسل بالموتى -:
(بالنسبة للمتوسل بهم، فلا فرق بين أنهم أحياء أو أموات؛ لأن المتولي لأمورهم هو الله، وهو حي لا يموت، ومن اعتقد أن الولي ينفع في حياته دون مماته، وهو رأي الفرق المعتزلة – يعني الوهابيين - فقد ضل عن السبيل..) (3).
ويجيء المالكي أحد أفراخ أولئك الخصوم، فيردد ما قاله أشياخه، فيقول:
(إن الاستغاثة، والتوسل إن كان المصحح لطلبها هو الحياة كما يقولون فالأنبياء أحياء في قبورهم وغيرهم من عباد الله المرضيين، ولو لم يكن للفقيه من الدليل على صحة التوسل والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم إلا قياسه على التوسل والاستغاثة به في حياته الدنيا لكفى، فإنه حيي الدارين، دائم العناية بأمته متصرف بإذن الله في شؤونها..) (4).
ويقول أيضاً:
__________
(1) تبيين الحق والصواب)، ص 14.
(2) عذاب الله المجدي لجوف منكر التوسل النجدي)، مكتبة الحقيقة، استنابول، 1402هـ، ص 43.
(3) قوة الدفاع والهجوم)، ص 12.
(4) مفاهيم يجب أن تصحح)، ص 91.(131/302)
(أما دعوى أن الميت لا يقدر على شيء فهي باطلة..) (1)
ويدعي المالكي (أن الأرواح لها من الإطلاق والحرية ما يمكنها من أن تجيب من يناديها، وتغيث من يستغيث بها كالأحياء سواء بسواء، بل أشد وأعظم) (2).
وهكذا يتضح العنصر الثاني من خلال تلك النقول – التي سبق إيرادها – عن كتب المناوئين، فظهر أن الخصوم يعتقدون أن التوسل إلى الله بالأموات بمعنى الاستغاثة بهم فلا فرق بين المعنيين.
وتبين أنه لا فرق – عندهم – في التوسل والاستغاثة بين الحي وبين الميت، لأنه ليس للميت ولا للحي تأثير، فالمؤثر والفاعل هو الله وحده، ولو جد في بعض (الألفاظ الموهمة) – كما يسمونها – ما يتوهم منه إسناد الفعل إلى الأموات، فلا حرج في ذلك؛ لأن هذا الإسناد مجازي لا حقيقي …
وكذلك لا فرق عندهم بين الأحياء والأموات في التوسل، والاستغاثة؛ لأن الأموات أحياء في قبورهم، بل إن حياتهم وإدراكهم أتم وأكمل ممن كان في الدنيا.
وسنورد الرد والبيان الشافي على تلك الشبهة من خلال ما سطّره بعض أئمة الدعوة السلفية، وأنصارها.
وقبل أن نورد الرد والبيان – بشيء من التفصيل – لما تضمنته شبه تحريم التوسل بكلا عنصريها، نرى أن يسبق ذلك إشارة لما يحتويه لفظ (التوسل) من الإجمال والاشتراك الذي يحتاج إلى تفصيل وتمييز.
ولقد بين علماء الدعوة ذلك، فأوضحوا ما يحمله مصطلح (التوسل) من الإجمال الذي لابد من تفصيله، وما يتضمنه من الإطلاق الذي لابد تقييده.
يقول صاحب كتاب (التوضيح):
(إن التوسل فيه إجمال واشتراك بحسب الإصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة والتابعين طلب الدعاء من النبي أو الصالح، أو التوجه بدعائه …
__________
(1) المرجع السابق، ص 92.
(2) المرجع السابق، ص 93.(131/303)
وأما معناه في لغة المعاندين فهو أن يسأل الله عز وجل بذات ذلك المخلوق، ويقسم عليه تعالى به، أو يسأل ذلك المخلوق نفسه على معنى أنه وسيلة من وسائل الله يتقرب بذاته ويسأل منه شفاعته..) (1).
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ما يحتويه لفظ (التوسل) من الاشتراك، فيقول:
(إن لفظ التوسل صار مشتركاً، فعبّاد القبور يطلقون التوسل على الاستغاثة بغير الله، ودعائه رغباً ورهباً والذبح والنذر، والتعظيم بما لم يشرع في حق مخلوق.
وأهل العلم يطلقونه على المتابعة والأخذ بالسنة فيتوسلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو التوسل في عرف القرآن والسنة … ومنهم من يطلقه على سؤال الله ودعائه بجاه نبيه أو بحق عبده الصالح. أو بعباده الصالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخرين كالسبكي والقسطلاني وابن حجر – أي الهيتمي -) (2).
وكذا ذكر الآلوسي ما تضمنه لفظ التوسل من جمال، فقال رحمه الله:
(إن لفظ التوسل صار مشتركاً على ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، ويطلق على التوسل بذوات الصالحين ودعائهم واستغفارهم، ويطلق في عرف عبّاد القبور التوجه إلى الصالحين ودعائهم مع الله في الحاجات والملمَّات) (3).
لقد استغل الخصوم هذا الإجمال والاشتراك في لفظ التوسل، فقلبوا الحقائق، وأجازوا دعاء الموتى والاستغاثة بهم باسم التوسل، ثم زعموا أن الشيخ الإمام يكفّر من توسل بالأنبياء والصالحين.
__________
(1) كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق)، ص 310.
(2) منهاج التأسيس) ص 267. وذكر قريباً من هذا الكلام في كتابه (مصباح الظلام) ص 178.
(3) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس) ص 400، وانظر: (الأسنة الحداد) لابن سحمان ص 150، و(الصواعق المرسلة الشهابية) ص 7، 8.(131/304)
فزعم ابن سحيم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يكفّر من توسل بالصالحين(1). وحرّف ابن منصور الكلم عن مواضعه، فادعى أن الشيخ الإمام يكفّر من توسل بذوات الصالحين(2)، وافترى دحلان حين قال:
(كان محمد بن عبد الوهاب يخطب للجمعة في مسجد الدرعية ويقول في كل خطبة: ومن توسل بالنبي فقد كفر)(3).
ويزيد العاملي كذباً وزوراً على سلفه، فيقول:
(والتوسل بأنواعه مما منعه الوهابية وجعلوه شركاً) (4).
إن الشيخ الإمام كفّر من استغاث بالأموات سواء كانوا أنبياء أو أولياء ولو سميت تلك الاستغاثة توسلاً فالعبرة بالحقائق والمعاني وليست بالأسماء والمباني، فالتوسل عند عبّاد القبور يطلقونه على الاستغاثة بالموتى وطلب الحاجات منهم – كما تقدم -.
وأما دعوى أن الشيخ كفّر من توسل بالصالحين، بمعنى سؤال الله بجاه هؤلاء الصالحين فقد أجاب الشيخ الإمام على تلك الدعوى – رداً على ابن سحيم – فقال:
(فالمسائل التي شنع بها منها، ما هو من البهتان الظاهر – وذكر الشيخ الإمام منها – قوله: أني أكفر من توسل بالصالحين، وجوابي أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم) (5).
__________
(1) انظر: (مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/12 وانظر: أيضاً 5/64.
(2) انظر: (مصباح الظلام) للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ص 73.
(3) الدرر السنية في الرد على الوهابية) ص 42.
(4) كشف الارتياب) ص 301.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ) 5/64.(131/305)
وفي المقابل نجد أن خصوماً فهموا أن الشيخ لا ينكر الاستغاثة بالموتى، وطلب الحاجات منهم، واحتجوا بجواب كتبه الشيخ الإمام في حكم التوسل إلى الله بالصالحين ذكر فيه أنه لا ينكر من توسل بالصالحين؛ لأنها من مسائل الفقه، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد، مع أن الشيخ الإمام صرّح، ووضّح في نفس الجواب الفرق بين التوسل بذوات الصالحين بمعنى سؤال الله بذواتهم، وبين سؤال الصالحين ودعائهم والاستغاثة بهم – فيما لا يقدر عليه إلا الله -، فكان مما قاله رحمه الله: (ولكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يطلب منه تفريج الكربات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً، ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك، أو بالمرسلين، أو بعبادك الصالحين، أو غيره يدعو عنده، لكن لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين) (1).
فاحتجوا بهذا النص الذي هو حجة دامغة عليهم، وادعوا به جواز الاستغاثة بالموتى الصالحين باسم التوسل، مع أن كلام الشيخ دليل عليهم لا لهم، وردّ على خطئهم وانحرافهم(2).
وعقب هذه الإشارة التي أوضحت ما يتضمنه لفظ التوسل من الإجمال والاشتراك، فإننا نورد بياناً موجزاً للتوسل الشرعي - كما بينه وقرره علماء الدعوة - تمييزاً له عن التوسل البدعي..
إن التوسل الشرعي إما أن يكون بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى وإما أن يكون التوسل بالأعمال الصالحة، وإما أن يكون التوسل بدعاء الرجل الصالح.
وقد أشار الشيخ حمد بن ناصر بن معمر إلى هذه الأنواع الثلاثة التي تشمل التوسل الشرعي فقال:
__________
(1) مجموعة مؤلفات الشيخ) 3/68، وانظر: (تاريخ ابن غنام) 1/208.
(2) انظر إلى تلبيس المالكي في كتابه (مفاهيم يجب أن تصحح) حيث نقل كلام الشيخ – الذي سبق إيراده – بعنوان (الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر التوسل) ص 62، 63، واحتج به – زوراً وبهتاناً – على جواز الاستغاثة بالموتى.(131/306)
(.. الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسول ومحبته وطاعته ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته وتوسلوا بدعاء العباس وبيزيد..) (1).
ويذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين بعض أنواع التوسل المشروع فيقول:
(فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة كتوسل المؤمنين بإيمانهم في قولهم: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان)(2)..، وكتوسل أصحاب الصخرة المنطبقة عليهم(3)، وكسؤاله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وهذا معنى قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (4) فإنها القربة التي تقرب إلى الله وتقرب فاعلها منه، وهي الأعمال الصالحة) (5).
ويوجز الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أنواع التوسل المشروع بقوله:
(التوسل المشروع الذي جاء به الكتاب والسنة وهو التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات اللائقة بجلال رب البريات، وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم) (6).
ويبين الشيخ سليمان بن سحمان التوسل المشروع، وأنه ما كان في عرف الصحابة والتابعين فيقول:
__________
(1) الدرر السنية) 9/17.
(2) سورة آل عمران: آية 193.
(3) حديث رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم.
(4) سورة المائدة : آية 35.
(5) الدرر السنية) 2/85 باختصار، وانظر: (التوضيح عن توحيد الخلاق) ص 43.
(6) الدرر السنية) 9/232.(131/307)
(التوسل في عرف الصحابة والتابعين هو طلب الدعاء من الرسول في حياته كما كانوا يتوسلون به عند القحط، فيدعوا الله ويستسقيه، فيسقيهم الله، ثم بعد مماته توسل عمر بدعاء عمه.. فهذا (من) التوسل المشروع، والشيخ – أي محمد بن عبد الوهاب – لا يمنع من هذا ولا ينكره) (1).
فالتوسل الشرعي معلوم ومفهوم بأدلته وأنواعه، وكما قال أبو السمح: (وأما التوسل إلى الله تعالى فقد أمر تعالى به إجمالاً وتفصيلاً، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً حتى أصبح من فلق الصبح..) (2).
وقد فصّل القصيمي أنواع التوسل المشروع، فجعلها أحد عشر نوعاً .. وهي في الحقيقة كلها مندرجة ضمن الأنواع الثلاثة من التوسل المشروع(3).
وهذا التوسل المشروع قد أقر به الشيخ رحمه الله، وكذا أتباعه امتثالاً لما شرعه الله تعالى لعباده من الوسائل التي تقربهم إليه.
لذا يقول محمد بن نسيب الرفاعي:
(فإن أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب يقرون بالتوسل المشروع، ويدعون إليه.. فهل الإنصاف يا ناس أن نتهم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنها تنكر التوسل، ونقيم الدنيا عليها ونقعدها بالباطل، بينما هي تقر بالتوسل على ما يحب الله ورسوله، وتحض المسلمين عليه) (4).
وبعد هذه العجالة التي أوضحنا فيها المراد بالتوسل المشروع وأنواعه، وبعض أدلته، وإقرار وإيمان أئمة الدعوة السلفية بهذا التوسل الذي شرعه الله تعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الأسنة الحداد) ص 150، باختصار، وانظر: ص 231.
(2) الرسالة المكية في الرد على الرسالة الرملية)، ط 1، مطبعة المنار، مصر، 1349هـ، ص 29.
(3) انظر: (البروق النجدية في اكتساح الطاعات الدجوية)، مطبعة المنار، مصر، 1350هـ، ص 22-25.
(4) الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ص 20 باختصار.(131/308)
ننتقل إلى الرد والبيان لما تضمنه العنصر الأول من شبهة تحريم التوسل، ونعرض لأنواع التوسل البدعي بالرد والمناقشة، ثم نتحدث عن أدلتهم ومدى صحتها سنداً، ومدى صحة الاستدلال بها متناً.
نقصد بالتوسل البدعي، التوسل إلى الله بذوات المخلوقين وأشخاصهم، والتوسل إلى الله بجاه الصالحين ومنزلتهم عند الله، الإقسام على الله بالمتوسل به – كما ذكره خصوم الدعوة السلفية -:
وينبغي أن يعلم – ابتداء – أن حكم هذه الأنواع الثلاثة لا يصل إلى درجة الشرك الأكبر الذي يخرج عن الملة، وإنما هي بدع قد تصل إلى درجة التحريم، أو دونه، لأن من توسل إلى الله بهؤلاء الصالحين، أو جاههم، فهو يدعو الله مخلصاً له الدين، ولكن يقول: أسألك بهؤلاء الصالحين(1).
ولعلنا إذا أوردنا – الآن – الردود على تلك الأنواع من التوسل البدعي يتضح الحكم ويزول اللبس والإشكال.
وقد تحدث الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن ذلك التوسل فقال:
(وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين ومن قال هذا من الصحابة والتابعين.
وأما التوسل بالذات بعد الممات فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقض ذلك. وقد نص غير واحد من العلماء على أن هذا لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه، وهذه المسألة وغيرها من المسائل إذا وقع فيها النزاع بين العلماء، فالواجب رد ما تنازعوا إلى الله والرسول. ومعلوم أن هذا لم يكن منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مشهوداً بين السلف، وأكثر النهي عنه.
__________
(1) انظر بيان ذلك في كتاب (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان) للسهسواني ص 209.(131/309)
ولا ريب أن الأنبياء والصالحين لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم عند الله من الجاه والمنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا، فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ومحبته وطاعته واتباع سنته كان هذا من أعظم الوسائل وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته، فلا يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل بما مرّ من التوسل به من الدعاء للمتوسل وبمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل به الإنسان إذا توسل إلى غير بوسيلة، فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه اشفع لنا عند فلان، وهذا جائز، وإما أن يقسم عليه لا يجوز الإقسام بالمخلوق، كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين، فالتوسل إلى الله بذات خلقه بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان) (1).
ويوجز الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الجواب على أنواع هذا التوسل، فيقول:
(وأما التوسل، وهو أن يقال: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بحق نبيك أو بجاه عبادك الصالحين، أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدع المذمومة ولم يرد بذلك نص) (2).
يبين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حكم سؤال الله بالموتى فقال:
(وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، ولكن بعض العلماء يرخص فيه، وبعضهم ينهي عنه ويكرهه .. لكنه لا يوصله إلى الشرك الأكبر..) (3).
وأما التوسل إلى الله في الدعاء بغير النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول عنه الشيخ عبد الله:
(لا نعلم أحداً من السلف فعله، ولا روي فيه أثر) (4).
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية) 9/23.
(2) الدرر السنية) 1/129.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل) 1/69 باختصار.
(4) المرجع السابق 1/71.(131/310)
ويذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الحصين حكم الإقسام على الله بمخلوق فقال:
(وأما الإقسام على الله بمخلوق فهو منهي عنه باتفاق العلماء، وهل هو منهي عنه تنزيه أو تحريم ؟ على قولين أصحهما أنه كراهة تحريم) (1).
ومما أجاب به الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب لمن سأله عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والمرسلين، فكان مما قاله رحمه الله:
(وأما التوسل بجاه المخلوقين كمن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك بعد موتهم، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على النهي عنه، وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى أنه بدعة إجماعاً. ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم؛ لأن الذين لهم من الجاه والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك بشيء إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم) (2).
ويوضح الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن سؤاله الله بالرجل الصالح ليس في الشريعة ما يدل على جوازه فيقول:
(ولو جاز (سؤال الله بالرجل الصالح)، لما ترك الصحابة السابقون الأول من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا. وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب عام الرمادة بمحضر من السابقين الأولين يستسقون فقال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، ثم قال ارفع يديك يا عباس فرفع يده، يسأل الله تعالى، ولم يسأله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بغيره، ولو كان هذا التوسل حقاً، كانوا إليه أسبق، وعليه أحرص) (3).
__________
(1) الدرر السنية) 2/85.
(2) المرجع السابق 9/232.
(3) الدرر السنية) 2/113.(131/311)
ونورد بعض جواب الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن في مسألة سؤال الله بالمخلوق، والإقسام على الله به، حيث قال رحمه الله:
(وإذا تقرر هذا، فقد عرفت سلمك الله كلام الناس في مسألة سؤال الله بمخلوق، والإقسام على الله به، وقد ذاكرتك فيها بأن الذي نعتقده أنا لا نكفر بها أحداً، بل نقول هي بدعة شنيعة نهى عنها السلف..) (1)
ويسوق السهسواني جواباً حول السؤال بحق فلان فيقول:
(فالقول الفصل في ذلك: أن السؤال بحق فلان إن ثبت بحديث صحيح، أو حسن فلا وجه للمنع، وإن لم يثبت فهو بدعة، وقد عرفت فيما سلف أن كل حديث ورد في هذا الباب لا يخلو من مقال ووهن، فالأحوط ترك هذه الألفاظ، وقد جعل الله في الأمر سعة، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التوسل المشروع على هيئات متعددة، فلا ملجيء إلى الوقوع في مضيق الشبهات..) (2).
ويقول الشيخ صالح بن أحمد:
(وأما التوسل بذوات الأشخاص فغير جائز، وهو من البدع المحدثة وأمر لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن اجتلبوا له أحاديث لا أصل لها، ودندنوا حولها، وحملوا بعض الآيات على غير محملها لهواهم، وليس كل قول قيل بالقبول يقابل، إلا ما جاء في كتاب الله، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جل ذلك عن الرد)(3).
ولعل تصور أنواع التوسل البدعي – الثلاثة – يكون أكثر وضوحاً وبياناً، وكذلك حكمها، عندما ننتقل إلى رد وبيان العنصر الثاني من شبهة هذا الفصل.
ومن المناسب – في هذا المقام – أن نذكر كلمة جامعة لشيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة التوسل بالصالحين حيث يقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق 1/271.
(2) صيانة الإنسان) ص 207.
(3) تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور)، ص 55.(131/312)
(ومازلت أبحث، وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك)(1).
وأما ما أورده القوم من الأدلة القرآنية واستدلالهم بها، وكذا أحاديثهم..، فنذكر أمثلة من إجابات أنصار هذه الدعوة السلفية على تلك الأدلة.
فأما استدلالهم بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (2) فيقول الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين:
(الوسيلة هي القربة والتوسل إلى الله التقرب إليه بطاعته، واتباع رسوله، والاقتداء به، وهذا هو الوسيلة المأمور بها في قوله سبحانه (وابتغوا إليه الوسيلة) ومن الوسيلة دعاؤه لهم صلى الله عليه وسلم وطلبهم ذلك منه في حياته كما كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم ويستسقي لهم كقول عمر: اللهم كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، فهذا من الوسيلة المأمور بها) (3).
ويبين الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المراد بالوسيلة في الآية فيقول:
(إن الوسيلة في شرع الله الذي شرعه على ألسن جميع رسله هي عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به، وبرسله، والأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها) (4).
وقد ساق القصيمي الجواب على استدلالهم بهذه الآية من ثمان وجوه كلها على طريق الإلزام والجدل(5).
__________
(1) نقلاً عن: أحمد بن عيسى، (الرد على شبهات المستعينين بغير الله)، دار مصر للطباعة، ص 49.
(2) سورة المائدة: آية 35.
(3) تأسيس التقديس) ص 107.
(4) دلائل الرسوخ في الرد على المنفوخ)، ص 89.
(5) انظر: (البروق النجدية) ص 26، 27.(131/313)
كما أورد القصيمي سبعة وجوه جواباً على استدلالهم بقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله …. الآية) (1)، نختار وجهاً واحداً منها حيث قال:
(وهي واقعة معينة لا تفيد العموم بمعناها، ولا لفظها، وقعت في حياته صلى الله عليه وسلم، فمن أين أخذت التعميم في الحياة والممات ؟ مع أن لفظها لا يفيد، ومعناها لا يريده، وأما كون الوقائع المعينة تكون عامة لغير صاحب الواقعة فمن أدلة أخرى دلت عليه) (2).
وأما استدلالهم ببعض الأحاديث، فالجواب عليها ما يلي:
فأما حديث توسل آدم بحق محمد، فقد أجاب عليه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فكان مما قاله رحمه الله:
(فأما حديث توسل آدم بحق محمد. فالجواب أن هذا الحديث ساقط، لأن عبد الرحمن بن يزيد ضعيف بالاتفاق ضعفه مالك، وأحمد، وابن معين، وابن المديني، وأبو زرعة، وأبو داود، وابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه، فهذا كما ترى تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو هو. وقال الحافظ الذهبي في (تلخيص المستدرك) لما ذكر الحاكم هذا الحديث، فقال هذا صحيح.
قال الذهبي: أظنه موضوعاً ثم هو مخالف للقرآن؛ لأن الله عز وجل ذكر قصة آدم عليه السلام، وتوبته وتوسله، ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم) (3) .
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المعنى الصحيح لحديث (أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي …) – وهو في السنن – حيث استدلوا به على سؤال الله بخلقه. فقال الشيخ رحمه الله في بيان معناه:
__________
(1) سورة النساء: آية 64.
(2) البروق النجدية) ص 37.
(3) الدرر السنية) 9/233 بتصرف يسير.(131/314)
(وأما ما ورد في السنن (بحق السائلين عليك) وبحق ممشى الذاهب إلى المسجد ونحو ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل على نفسه حقاً تفضلاً منه وإحساناً إلى عباده، فهو توسل إليه بوعده، وإحسانه، وما جعله لعباده المؤمنين على نفسه حقاً تفضلاً منه، وإحساناً إلى عباده، فليس هذا من الباب أعني باب مسألة الله بخلقه، وقد منعه فقهاء الحنفية، كما حدثني به محمد بن محمود الجزائري الحنفي(1) رحمه الله بداره بالأسكندرية، وذكر أنهم قالوا: لا حق لمخلوق على الخالق.
ويشهد لهذا ما يروي أن داود قال: اللهم إني أسألك بحق آبائي عليك، فأوحى الله إليه: (أي حق لآبائك عليّ) أو نحو هذا. والحق المشار إليه بالنفي هذا غير ما تقدم إثباته. فإن المثبت بمعنى الوعد الصادق وما جعله الله للماشي إلى الصلاة، وللسائلين من الإجابة، والإنابة فضلاً منه وإحساناً، والمنفي هنا هو الحق الثابت بالمعارضة، والمقابلة على الإيمان والأعمال الصالحة، فالأول يرجع ويعود إلى التوسل بصفاته الفعلية والذاتية، والثاني يرجع إلى التوسل بذوات المخلوقين، فتأمله فإنه نفيس جداً) (2) .
وأما استدلالهم بحديث (يا عباد الله أعينوني)، وحديث (يا عباد الله احبسوا) فأجاب عنه الشيخ محمد بن ناصر الحازمي فقال: (والحديثان لا يصحان. أما الأول: فرواه الطبراني في الكبير بإسناد منقطع، والثاني: ففي إسناده معروف بن حسان، قال ابن عدي: منكر الحديث..) (3) .
__________
(1) أحد شيوخ الشيخ عبد اللطيف في مصر، فقيه، مقريء، تولى إفتاء الأسكندرية في عهد محمد علي، وله عدة مؤلفات، توفي سنة 1267هـ. انظر: (معجم المؤلفين) 12/5، وانظر: تعليق محمد حامد الفقي على كتاب (مصباح الظلام)، ط أنصار السنة المحمدية، ص 166، 167.
(2) مصباح الظلام) ص 179، 180.
(3) إيقاظ الوسنان)، ق 24، وانظر: ما كتبه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ حول هذا الحديث في (تيسير الحميد) ص 247.(131/315)
وكتب الشيخ أحمد بن عيسى جواباً على استدلالهم بحديث الأعمى، فكان مما كتبه:
(قد قرر جمع من العلماء ما قرره شيخ الإسلام في معنى حديث الأعمى، وبينوا أنه ليس فيه إلا طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه دلالة فيه على التوسل بالذات، كالعلامة السويدي وابنه، والشيخ نعمان بن محمود أفندي الآلوسي..) (1).
وقد أفاض الشيخ السهسواني في الرد على ما استدلوا به من أحاديث، وتعقبها بالرد والنقد، فكان مما قاله رحمه الله – جواباً على استدلالهم بحديث فاطمة بنت أسيد على جواز التوسل بالأنبياء -:
(وفيه – أي حديث فاطمة بنت أسيد – روح بن صلاح، وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقال الذهبي في (الميزان) روح بن صلاح المصري يقال له ابن سبابة ضعفه ابن عدي، يكنى أبا الحارث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحاكم ثقة مأمون. أ.هـ.
فقد علم بذلك أن في سنده روح بن صلاح المصري وهو ضعيف ضعفه ابن عدي، وهو داخل في القسم المعتدل من أقسام من تكلم في الرجال كما في (فتح المغيث) للسخاوي ولا اعتداد بذكر ابن حبان له في الثقات، فإن قاعدته معروفة من الاحتجاج بمن لا يعرف كما في (الميزان).
وكذلك لا اعتداد بتوثيق الحاكم وتصحيحه فإنه داخل في القسم المتسمح كما قال السخاوي) (2).
ويقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري في حاشية الجواب السابق:
__________
(1) الرد على شبهات المستعينين بغير الله، ص 55.
…وانظر : ما كتبه الشيخ سليمان بن عبد الله حول هذا الحديث في (تيسير العزيز الحميد) ص 244 – 247. وما كتبه الشيخ محمود شويل حول هذا الحديث سنداً ومتناً في (القول السديد على الحرازي العنيد) ص 48 – 101.
(2) صيانة الإنسان) ص 129.(131/316)
(هذا الحديث – أي حديث فاطمة بنت أسيد – لا يصح دراية، إذ صيغة متنه وركاكة ألفاظه وما فيه من المبالغة مما يدل على عدم ثبوته. زيادة على غرابته، وما في سنده من الضعف الذي تكلم عليه المؤلف) (1).
وأما استدلالهم بحديث عثمان بن حنيف، فقال السهسواني عن هذا الحديث:
(في سنده أبو جعفر، فإن كان هو عيسى بن أبي عيسى ما هان أبو جعفر الرازي التميمي – كما ظنه الحافظ ابن حجر في (التقريب) – فالأكثرون على ضعفه .. قال عنه الحافظ في (التقريب): صدوق سيء الحفظ، وقال أبو زرعة: يهم كثيراً، وقال الفلاس: سيء الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي.
وإن كان أبا جعفر المدني كما في سنن ابن ماجة فهو مجهول..) (2).
وأما استدلالهم بحديث (أسألك بحق السائلين إليك)، فقد تكلم السهسواني على سنده فقال:
(ففي سنده عطية العوفي فإن جارحيه أكثر من معدليه، ووجه ضعفه كونه شيعياً مدلساً، وكذا عدم الضبط وكثرة الخطأ .. كما أن في سنده فضيل بن مرزوق، وهو ممن اختلف فيه.. وكذا في سنده الفضل بن موفق أبو الجهم ضعفه أبو حاتم، والأشبه أن هذا الحديث موقوف كما قال أبو حاتم) (3).
__________
(1) المرجع السابق ونفس الصفحة.
…وانظر: ما كتبه محمود شويل حول حديث فاطمة في كتابه (القول السديد) ص 117 – 121.
(2) صيانة الإنسان) ص 131باختصار.
…وانظر ما كتبه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ حول حديث عثمان بن حنيف في (تيسير العزيز الحميد) ص 248، 249.
(3) صيانة الإنسان) ص 124 – 126 باختصار.(131/317)
هذه بعض الردود على استدلال الخصوم في إثبات التوسل البدعي، ولم نقصد بتلك الردود الإحاطة والتفصيل، وإنما قصدنا مجرد التنبيه والتمثيل، فلقد ألفت – ولله الحمد – كتب عرضت لهذه الأدلة بالرد والنقد التفصيلي(1)، فأغنى ذلك عن ذكره. وننتقل إلى الرد على ما جاء في العصر الثاني من هذه الشبهة ونشرع في الرد عليها – أولاً – فيما ادعوه بأن التوسل إلى الله بالموتى بمعنى الاستغاثة بهم، فقد أورد صاحب كتاب (التوضيح) هذه الدعوى ثم أبطلها من عدة وجوه، فكان مما قاله رحمه الله:
(فإن قيل يجوز أن يكون لفظ الاستغاثة بغير الله بمعنى التوسل، فمعنى قول المستغيث أستغيث برسول الله، وبفلان الولي أي أتوسل برسول الله أو بالولي الصالح، ويصح حينئذٍ أن يقال تجوز الاستغاثة في كل ما يطلب من الله بالأنبياء والصالحين بمعنى أنه يجوز التوسل بهم في ذلك ويصح لفظاً ومعنى. الجواب أن هذا باطل من وجوه:
أحدهما: أن لفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به لا بمعنى التوسل، وقد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن الاستغاثة لا تجوز بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وقول القائل أستغيث به بمعنى توسلت بجاهه، هذا كلام لم ينطق به أحد من الأمم لا حقيقةً ولا مجازاً ولم يقل أحد مثل هذا، ولا معناه لا مسلم ولا كافر.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) لابن تيمية، و (رسالة في التوسل) للألباني، و (التوصل إلى حقيقة التوسل) لمحمد بن نسيب الرفاعي، ومقال د. محمد خليل هراس: (الرد على كتاب حكم التوسل بالأنبياء والأولياء)، لمحمد حسنين مخلوف، مجلة كلية أصول الدين ع 3، ص 393 – 482، و (الشفاعة) لمقبل بن هادي الوادعي.(131/318)
الثاني: أنه لا يقال أستغيث إليك يا فلان بفلان أن تفعل بي كذا، وإنما يقال أستغيث بفلان أن يفعل بي كذا، فأهل اللغة يجعلون فاعل المطلوب هو المستغاث به، ولا يجعلون المستغاث به واحداً والمطلوب آخر، فالاستغاثة طلب منه لا به.
الثالث: أن من سأل الشيء، أو توسل به، لا يكون مخاطباً له ولا مستغيثاً به، لأن قول السائل، أتوسل إليك يا إلهي بفلان: إنما هو خطاب لله، لا لذلك المتوسل به بخلاف المستغاث به، فإنه مخاطب مسئول منه الغوث فيما سأل من الله فحصلت المشاركة في سؤال ما لا يقدر عليه إلا الله، وكل دعاء شرعي لابد أن يكون الله هو المدعو فيه.
الرابع: أن لفظ التوسل والتوجه ومعناهما يراد به أن يتوسل إلى الله ويتوجه إليه بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم عند خالقهم في حال دعائهم إياه، فهذا هو الذي جاء في بعض ألفاظ السلف من الصحابة رضوان الله عليهم .. وهذا هو الذي عناه الفقهاء في كتاب الاستسقاء في قولهم ويستحب أن يستسقى بالصالحين..) (1)
ويوضح الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الفرق بين التوسل والاستغاثة فيقول:
__________
(1) كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق) ص 307 – 312 باختصار.(131/319)
(وبينهما فرق عظيم أبعد ما بين المشرق والمغرب.. فالعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين كقول أحدهم أتوسل إليك بنبيك أو بملائكتك أو بالصالحين أو بحق فلان وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور ولا يسألونها وينادونها فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه، ولا يسأل وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو به وبين المدعو والمستغاث، ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم أن من قال أتوسل إليك برسولك أو أتوجه إليك برسولك فقد استغاث به حقيقة فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسئول مدعو فيفرقون بين المسئول وبين المسئول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق) (1).
كما يوضح الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الفرق بينهما فيقول:
(واعلم أن التوسل بذات المخلوق أو بجاهه غير سؤاله ودعائه، فالتوسل بذاته أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك فهذا بدعة ليس شرك، وسؤاله ودعاؤه هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة وأنا في كرب شديد، فرج عني، واستجرت بك من فلان فأجرني ونحو ذلك، فهذا كفر وشرك أكبر ينقل صاحبه من الملة؛ لأنه صرف حق الله لغيره؛ لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله، فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك، والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله فافهم ذلك) (2).
ويرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن على هؤلاء المجوزين للشرك باسم التوسل، فيقول:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 1/70.
(2) الدرر السنية) 9/234.(131/320)
(وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة التي فيها النهي عن الشرك في العبادة إلا قولهم قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان يجوز التوسل بالصالحين ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول هذا وأمثاله ليسوا بحجة تنفع عند الله وتخلصكم من عذابه، بل الحجة ما في كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله، وكلما جاءنا رجل أجدل من رجل نترك ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. إذا عرف ذلك فالتوسل يطلق على شيئين فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه، فإن كان أرادوا بالتوسل دعاء الميت والاستشفاع به فهذا هو شرك المشركين بعينه، والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جداً) (1).
ويبين الشيخ عبد الرحمن بن حسن ضلال داود بن جرجيس حيث خلط بين التوسل إلى الله بالموتى وبين الاستغاثة بالموتى، فكان مما قاله الشيخ رحمه الله:
(فدخل عليه الضلال والخطأ من وجوه: منها أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغيثاً به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم لا حقيقة ولا مجازاً مع دعواه الإجماع على ذلك، فإن المستغاث هو المسئول المطلوب منه لا المسئول به) (2).
ويوضح الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن الفرق بين مسألة الله بجاه الخلق، ومسألة الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله، فيقول:
__________
(1) المرجع السابق 2/112، 113.
(2) القول الفصل النفيس)، ص 143.(131/321)
(فاعلم أن مسئلة الله بجاه الخلق نوع، ومسئلة الخلق ما لا يقدر عليه إلا الله نوع آخر، فمسئلة الله بجاه عباده منعها أهل العلم، ولم يجزها أحد ممن يعتد به، ويقتدي به كالأئمة الأربعة، وأمثالهم من أهل العلم والحديث، إلا أن ابن عبد السلام أجاز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقيده بثبوت صحة الحديث الذي جاء في ذلك وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ادع الله يا محمد.. الحديث. قال ابن عبد السلام إن صح الحديث فيجوز بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، والحديث في سنده من لا يحتج به عند أهل العلم كما لا يخفى على أهل الصناعة.- إلى أن قال الشيخ عبد اللطيف: وبالجملة فهذه المسألة نوع، ولا يخرج بها الإنسان عن مسئلة الله، وإنما الكلام في سؤال العباد وقصدهم من دون الله، فسؤال العباد والاستعانة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، ولو قال يا ولي الله اشفع لي فإن السؤال محرم، وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله) (1).
ويشير الشيخ السويدي(2) إلى الفرق بينهما فيقول:
(وهذا التوسل الذي ذكر فيه الخلاف فيما إذا كان الداعي يتوجه إلى ربه، متوسلاً إليه بغيره مثل أن يقول أسألك بجاه فلان عندك، أو بحرمته أو بحقه، وأما إذا توجه إلى ذلك الغير وطلب منه فهو شرك كما تحقق) (3).
ويبين الشيخ سليمان بن سحمان أنواع التوسل جملة، موضحاً الفرق بينهما فيقول:
__________
(1) البراهين الإسلامية في رد الشبه الفارسية)، (مخطوط) المكتبة السعودية، رقم 359/86، ق 48، 49.
(2) هو محمد أمين السويدي، أحد علماء العراق، له عدة مؤلفات، توفي سنة 1246هـ. انظر: (المسك الإذفر)، ص 149.
(3) نقلاً عن : (الرد على شبهات المستعينين بغير الله) لأحمد بن عيسى ص 55.(131/322)
(والتوسل له أقسام، فقسم مشروع وهو التوسل بالأعمال الصالحة، وبدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وطلب الاستغفار منه، وبدعاء الصالحين وأهل الفضل والعلم، وكذلك بالأعمال الصالحة، وقسم محرم، وبدعة مذمومة، وهو التوسل بحق العبد وجاهه وحرمته نبياً كان ذلك، أو ولياً، أو صالحاً؛ لأن ذلك لم يرد به نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين.. وأما قصد هؤلاء من التوسل فهو دعاء الأنبياء والأولياء، والصالحين، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين..) (1).
وبهذا يعلم أن هناك توسلاً شرعياً، توسلاً بدعياً محرماً، وأن التوسل عند عباد القبور هو بمعنى دعاء الموتى والاستغاثة بهم. وكذلك ندرك خطأ ما ذكره هؤلاء الخصوم بأن لفظ التوسل بمعنى الاستغاثة، وكذلك بمعنى الالتجاء، وغيرها من الألفاظ التي أوردوها بقصد التمويه والتلبيس، وتزيين الشرك بأسماء ينخدع بها عامة الناس، لذا يقول أبو بطين رحمه الله:
(ولما علم الشيطان أن كل من قرأ القرآن، أو سمعه ينفر من الشرك، ومن عبادة غير الله ألقى في قلوب الجهال أن هذا توسل، وتشفع بهم، والتجاء إليهم ونحو ذلك فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم، وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب) (2).
ولكن تغيير الأسماء لا يغير الحقائق، الحكم يدور مع الحقيقة وجوداً وعدماً، وليس مع الأسماء والألفاظ، لذا قال الشيخ ابن سحمان رحمه الله:
__________
(1) الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية)، مطابع الرياض، 1376هـ، ص 7، 8.
(2) الانتصار) ص 13.(131/323)
(فإنه من المعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير أسمائها، فلا تزول هذه المفاسد بتغير أسمائها، كتسمية عبادة غير الله توسلاً وتشفعاً، أو تبركاً وتعظيماً للصالحين وتوقيراً، فإن الاعتبار بحقائق الأمور، لا بالأسماء والاصطلاحات والحكم يدور مع الحقيقة، وجوداً وعدماً لا مع الأسماء..) (1).
وأما دعواهم بعدم الفرق بين التوسل والاستغاثة بالأحياء وبين التوسل والاستغاثة بالأموات؛ لأنه ليس للميت ولا للحي تأثير أو فعل؛ لأن الفاعل – حقيقة – هو الله وحده، وإن وجد في كلام العامة بعض (الألفاظ الموهمة) التي توهم إسناد الفعل إلى الأموات، فلا جناح عليهم؛ لأن هذا الإسناد إسناد مجازي لا حقيقي، هذه هي دعواهم، فأما الرد عليهم فيكون على النحو التالي:
يبين الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين بطلان دعواهم بأن الطلب من الأموات من باب التسبب(2)، فيقول:
(نحن لا ننكر إضافة الأشياء إلى أسبابها، ولكن الله سبحانه هو خالق الأسباب والمسببات، ولا يلزم من ذلك أن نعتمد على الأسباب، فضلاً عن أن نسألها ونرغب إليها وهي مخلوقة، بل يتعين على العباد أن يعتمدوا على خالق الأسباب ويرغبوا إليه، ويستعينوا به ويعبدوه وحده، إياك نعبد وإياك نستعين).
__________
(1) الضياء الشارق) ص 182.
(2) سبق إيراد تلك الدعوى كما ذكرها داود بن جرجيس في كتابه (المنحة الوهبية).(131/324)
ثم يقول: (فطرد هذا الأصل الباطل – أي دعاء الأموات كأسباب – أن يجوز ذلك في جميع الأسباب، وقد قال تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً) (1). فيلزمه أن يجوز للناس أن يطلبوا من الريح أن تسير لهم سحاباً ماطراً، وقال تعالى في حق نبيه: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) (2) والمراد بالظلمات ظلمات الجهل والكفر والشك إلى نور العلم والإيمان، فيجوز على أصل هذا أن يقال يا رسول الله أخرجنا من الظلمات إلى النور) (3).
ويكشف الشيخ صالح الشثري بطلان دعوى دحلان – ومن معه – حين جوز التوسل والاستغاثة بالأموات، ما دام أن المتوسل والمستغيث بهم يعتقد أن التأثير والإيجاد لله وحده، وأنه ليس للحي ولا للميت فعل أو تأثير، يقول الشثري رحمه الله:
(وعلى معتقد هذا الملحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ وظلم في قتال المشركين؛ لأنهم لا يعتقدون تأثيراً، ولا إيجاداً لغير الله، مع أن هذا الملحد قد نقض أصله في نفس تعريفه بقوله: فالمستغيث يطلب ممن استغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، فهل التحصيل إلا فعل قائم بالواسطة الذي طلب منه، وقد سلك في معتقده هذا مع تناقضه مذهب القدرية المجبرة، القائلين بأن العبد مجبور لا فعل له حقيقة، بل إسناد الفعل إليه مجاز، فكأنه لم يسمع قول الله سبحانه وتعالى: (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) (4) فأثبت سبحانه فعل الظلم لهم فعاقبهم عليه، وقال تعالى (ومكروا ومكر الله) (5) الآية، أيظن من له أدنى رائحة من عقل أن الله قصد نسبة مكر المشركين إليهم مجاز، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً) (6).
__________
(1) سورة الروم: آية 48.
(2) سورة إبراهيم: آية 1.
(3) تأسيس التقديس) ص 5.
(4) سورة هود: آية 101.
(5) سورة آل عمران: آية 54.
(6) تأييد الملك المنان) ق 35، 36.(131/325)
ويرد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على دعوى ابن جرجيس حين ادعى أن من اعتقد أن الأسباب العادية فاعلة من غير استنادها إلى الله فهو كافر إجماعاً فيقول:
(إذا كان إسناد الفعل إليها استقلالاً يكفر فاعله إجماعاً، وهي من الأسباب العادية التي أودع الله فيها قوة فاعلة، فكيف لا يكفر من أسند مالا يقدر عليه إلا الله من إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات إلى غير الله من الصالحين، ونحوهم، وزعم أنها وسائل أو أن الله وكل إليهم التدبير كرامة لهم، هذا أولى بالكفر وأحق به ممن قبله.
ويقال للعراقي أنت لا ترضى تكفير أهل القبور لاحتمال العذر والشبهة وأنه شرك أصغر يثاب من أخطأ فيه، فكيف جزمت بكفر من أسند القطع للسكين من غير استناد إلى الله وما الفرق بين من عذرته وجزمت بإثباته، وبين من كفرته وجزمت بعقابه ليست إحدى المسألتين بأظهر من الأخرى، وما يقال من الجواب فيما أثبته من الكفر يقال فيما نفيته..
ويقال جمهور العقلاء على الفرق بين الأسباب العادية وغيرها، فالشبع والري والدفء أسباب عادية فاعلة، وإنما يكفر من أنكر خلق الله لهذه الأسباب، وقال بفعلها دون مدبر عليم حكيم، وهذا البحث يتعلق بتوحيد الربوبية، وأما جعل الأموات أسباباً يستغاث بها وتدعى وترجى، وتعظم على أنها وسائط فهذا دين عباد الأصنام، يكفر فاعله بمجرد اعتقاده وفعله، وإن لم يعتقد الاستقلال كما نص عليه القرآن في غير موضع) (1).
ويورد الشيخ السهسواني ما في دعوى دحلان من البطلان، حين ادعى أن المتوسلين والمستغيثين بالأموات لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده، فيقول السهسواني رحمه الله:
.. أقول: فيه كلام من وجوه:
الأول: أنه يعتقد كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله..
__________
(1) منهاج التأسيس) ص 266، 267.(131/326)
الثاني: أن مجرد عدم اعتقاد التأثير والخلق والإيجاد والإعدام.. لا يبريء من الشرك فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضاً كانوا مقرين بأن الله هو الخالق الرازق بل لابد فيه من إخلاص توحيده وإفراده..
الثالث: أن مجرد كون الأحياء والأموات شركاء في أنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم تأثير في شيء، لا يقتضي أن يكون الأحياء والأموات متساوين في جميع الأحكام، حتى يلزم من جواز التوسل بالأحياء جواز التوسل بالأموات، وكيف وليس معنى التوسل بالأحياء إلا التوسل بدعائهم، وهو ثابت بالأحاديث الصحيحة، وأما التوسل بدعاء الأموات فلم يثبت بحديث صحيح ولا حسن..) (1).
ويسوق الشيخ عبد الكريم بن فخر الدين حجة في الرد على دعوى دحلان – ومن سار على نهجه – حين زعم أن ذكر الصالحين في الاستغاثة والتوسل إنما هو سبب عادي لا تأثير له، فقال الشيخ عبد الكريم مجيباً:
(فإن كان كما زعم، فينبغي أن لا يكون التأثير والخلق والإيجاد لله القدير بدون ذكر الأخيار عادة، فإنه سبب عادي على قوله، فيلزم منه أنه لا يشبع بطن أحد بمجرد أكله إلا إذا ذكر هؤلاء الأخيار، فإن الأكل سبب عادي للشبع، وذكر الأخيار سبب عادي ثاني، وأن لا يسرج سراج بالفتيلة والزيت إلا بذكر الأخيار وقس على ذلك كل شيء من غير انحصار) (2).
وأما دعوى بعضهم أنه يجوز الاستغاثة بالأموات والأحياء؛ لأن لهم قدرة كسبية وتسببية، فيجيب الآلوسي عن هذه الدعوى فيقول:
__________
(1) صيانة الإنسان) ص 216 باختصار.
(2) الحق المبين في الرد على اللهابية المبتدعين) ص 33.(131/327)
(وما أورد على الجواب من أن للمستغاث بهم قدرة كسبية وتسببية، فتنسب الإغاثة إليهم بهذا المعنى سواء أكانوا أحياءً أم أمواتاً وسواء كانت الاستغاثة بما يقدر عليه المستغاث به أم لا، مدفوع بأن كون العبد له قدرة كسبية لا يخرج بها عن مشيئة رب البرية لا يستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله ولا يستغاث به، ولا يتوكل عليه ـ ولا يلتجأ في ذلك إليه، فلا يقال لأحد حي، أو ميت قريب، أو بعيد ارزقني، أو أمتني، أو أحيّ ميتي، أو اشف مريضي إلى غير ذلك مما هو من الأفعال الخاصة بالواحد الفرد الصمد، بل يقال لمن له قدرة كسبية قد جرت العادة بحصولها ممن أهله الله لها، أعني في حمل متاعي أو غير ذلك، والقرآن ناطق بحظر دعاء كل أحد، لا من الأحياء، ولا من الأموات سواء كانوا أنبياء أو صالحين، أو غيرهم، وسواء كان الدعاء بلفظ الاستغاثة، أو بغيرها، فإن الأمور غير المقدورة للعباد لا تطلب إلا من خالق القدر ومنشيء البشر، كيف والدعاء عبادة وهي مختصة به سبحانه) (1).
ويرد الشيخ ابن سحمان على ما زعمه الخصوم حين ظنوا أن السكين لا يقطع بنفسه، وإنما القاطع هو الله تعالى، والسكين سبب عادي خلق الله تعالى القطع عنده فيقول رحمه الله:
(فالجواب أن يقال: هذا من أقوال أهل البدع والأهواء، وليس هو من كلام أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام، وهؤلاء هم الاقترانية الذين يقولون أن الله يخلق عند السبب، لا بالسبب ومن نحا نحوهم من المتصوفة القائلين بإسقاط الأسباب الظاهرة، وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سبباً لشيء أصلاً، ولا شيء جعل لشيء ولا يكون شيء لشيء، فالشبع عندهم لا يكون بالأكل.. ولا الطاعات عندهم سبب الثواب، ولا المعاصي سبب للعقاب) (2).
ويبطل القصيمي دعواهم بالمجاز العقلي في هذه الشبهة، فيقول:
__________
(1) فتح البيان تتمة منهاج التأسيس) ص 347.
(2) الضياء الشارق)، ص 205 باختصار.(131/328)
(إذا كان إدخال المجاز جائزاً لديكم في الأدعية وفي النداء، وفي كل الأقوال المعبرة عن الاعتقاديات، وعن الديانات فهل ترون أن هذا جائز بلا قيد ولا شرط في هذه المسائل بحيث إدخال المجاز في كل قول وفي كل دعاء ما دام مقبولاً في قانون البلاغة وعلوم المجازات ؟ أم أنتم لا تدعون هذه الدعوى ولا تذهبون هذا المذهب، فلا تطلقون جواز المجاز في جميع أقوال العبادات .. إنه لا فرار لكم من اختيار أحد المذهبين وأيا اخترتم فقد خصمتم، ولا ريب فإنكم إذا اخترتم الرأي الأول، وزعمتم أن المجاز جائز مطلقاً بلا قيد ولا شرط في كل كلام ومقال، قيل لكم هذا باطل بالإجماع والضرورة فإنه لو كان صحيحاً حقاً لما استطعنا أن نخطيء ولا أن نعارض من قال مثلاً عيسى هو ابن الله، أو قال علي بن أبي طالب هو خالق محمد عليه السلام.. وذلك أن هنالك مجاز الحذف، فيرد بقوله عيسى هو ابن الله أي ابن أمة الله.. وبقوله علي خالق محمد أنه مختار خالق محمد. وبهذا التأويل تصبح هذه الأقاويل من أقاويل المؤمنين الصحيحة المقبولة: التي لا اعتراض عليها ولا فند فيها، وهذا يقضي بألا يؤخذ قائل بمقال، ولا متكلم بكلام…
وأما إن قلتم بالرأي الثاني، أي قلتم أنه ليس كل ما صح مجازاً صح ديناً بل من المجازات ما هو ضلالات، ومنه ما الذهاب إليه إثم كبير، وذنب لا يجوز للمسلم اقتحامه، قيل لكم إذن لعل هذا المجاز الذي زعمتموه وأجريتموه.. هو إثم وباطل) (1).
ويقول أيضاً في الرد على الدعوى السابقة:
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية) 2/430 باختصار.(131/329)
(هنالك فرق بين دعوة الميتين وبين قول الناس أنبت الربيع البقل والماء العشب، ذلك أن الأول طلب والثاني خبر، وبين الأمرين فرق حقيقي عظيم معروف، وليس كل ما جاز إخباراً، جاز طلباً، والدليل على هذا الفرق الواضح أنه صح أن يقال أنبت الربيع البقل والماء العشب ولم يصح أن يقال: يا ربيع أنبت البقل، ويا ماء أنبت العشب) (1).
وأما دعواهم بأن هؤلاء المستغيثين بالأموات لا يعتقدون التأثير إلا لله وحده، وليس قصدهم من تلك الاستغاثات إلا التبرك، ولو وقع منهم بعض (الألفاظ الموهمة) التي توهم إسنادهم التأثير لغير الله.
فإن واقع أولئك المستغيثين بغير الله، يبطل تلك الدعوى ويسقطها، لذا قال الشيخ حسين النعمي(2) معقباً على تلك الدعوى:
(إن من يتكلم بهذا لا يدري ما فشى في العامة.. وما صار هجيراهم عند الأموات، ومصارع الرفات من دعائهم، والاستغاثة بهم، والعكوف حول أجداثهم، ورفع الأصوات بالخوار. وإظهار الفاقة، والاضطرار، واللجأ في ظلمات البحر، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال) (3).
ويرد ابن سحمان تلك الدعوى الخاطئة، فكان مما قاله:
(والألفاظ التي يقولها العوام، وينطقون بها دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله فما معنى الشبهة ؟) (4).
وأما الرد على دعواهم بأنه لا فرق بين الحي والميت؛ لأن الميت له حياة في قبره، وله إدراك وشعور، فإذا كان لا فرق بينهما، فيجوز التوسل، والاستغاثة بالأموات، والأحياء دون تفريق، فإن الرد على تلك الدعوى يكون على النحو التالي:
__________
(1) المرجع السابق 2/466.
(2) هو حسن بن مهدي النعمي التهامي، من أهل صبيا بتهامة اليمن، تعلم ودرس في صنعاء، توفي سنة 1187هـ.
…انظر (الأعلام) 2/260، وانظر : مقدمة كتابه (معارج الألباب).
(3) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب)، تحقيق محمد حامد الفقي، ص 2، مطابع الرياض، 1393هـ، ص 169.
(4) كشف غياهب الظلام)، ص 205.(131/330)
يوضح الشيخ أبو بطين بطلان دعواهم، وتناقضهم فيها، مع بيان الحق في تلك المسألة، فيقول:
(فمن سوى بين الحي والميت بقوله يطلب من الميت ما يطلب من الحي، فقد سوى بين ما فرق الله والناس بينهما، حتى المجانين يعرفون الفرق بين الحي والميت) (1).
(ويقال لهذا المساوي بين الأحياء والأموات من المعلوم أن أهل الدنيا يستقضون حوائج بعضهم من بعض، برهم وفاجرهم، مسلمهم وكافرهم وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم أدرعاً من صفوان بن أمية وهو مشرك، وما زال المسلمون يستقضون حوائجهم من المسلم، والذمي والبر، والفاجر، فيلزم المساوي بين الأحياء والأموات أن يساوي بين أموات المذكورين كما كانوا في الدنيا كذلك، فإن قال طلب الحاجات مختص بموتى الصالحين فلا يجوز طلبها من موتى الكفار والفساق قيل له نقضت أصلك حيث فرقت بين أحياء هؤلاء، وأمواتهم، فإن قال موتى الصالحين أحياء في قبورهم كما زعم، فهو كاذب في ذلك، ولم يرد في ذلك حديث إلا ما أخبر الله عن حياة الشهداء مع أن حياتهم لا تدرك بالحس، ولا بالعقل فالله سبحانه أعلم بحقيقتها، وأما سوى الشهداء غير الأنبياء، فلم يأت خبر عن الرسول أنهم أحياء في قبورهم، وإنما هو افتراء وكذب.. فإن قال: أن صالحي الأموات ينعمون في البرزخ، قيل له وضدهم يعذبون فيدركون العذاب كما يدرك الصالح النعيم. وهذا إدراك وإحساس لا يعلم حقيقته إلا الله) (2).
ويؤكد الشيخ صالح الشثري بداهة الفرق بين الطلب من الحي وبين الطلب من الميت فقال:
(من المعلوم بالفطرة السليمة، وإن كان جاهلاً يفرق بين الطلب من الحي الحاضر مما في يده أو دعائه له، وبين الطلب من الميت والغائب، ولا يسوي بين الحي والميت إلا من اختالته الشياطين عن الفطرة التي فطره الله عليها، أو إنسان أعماه الهوى والتقليد..) (3).
__________
(1) تأسيس التقديس)، ص 54.
(2) المرجع السابق، ص 59، 60 باختصار يسير.
(3) تأييد الملك المنان)، ق 49.(131/331)
وقد أورد السهسواني كثيراً من الحجج في إبطال التسوية بين الحي والميت فكان مما قاله:
(إن قدرة الحي على بعض الأشياء دون الميت ثابت بالكتاب والسنة … - منها – قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (1). – ومن الأحاديث – قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان، انقطع عنه عمله …))(2)
كما أن إثبات الكسب ولو باطنياً للميت مخالف للنص الصريح هو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله) فلا يعبأ به، على أن قدرة الحي على الكسب يعلم حدها بالمشاهدة، مثلاً نعلم أن الحي يقدر على حمل الحجر، وعلى أن يحول بينه، وبين عدوه الكافر، أو يدفع عنه سبعاً صائلاً، أو لصاً، أو يدعو له، أو نحو ذلك، وأما قدرة الميت على الكسب فعلى تقدير تسليمها لا تعلم حدها بالمشاهدة، فما طريق العلم بها ؟ وهل هي مساوية لقدرة الحي أو زائدة عليها أو ناقصة عنها؛ فلابد من بيانه حتى يطلب منه على حسبه، ودونه لا معنى لهذه الدعوة العمياء) (3).
ويصف أحد العلماء قياس الأموات على الحياء بهذا الوصف:
(قياس الأموات من الأنبياء والصالحين في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله على الأحياء القادرين على الأسباب العادية المقدور عليها من أفسد القياس، وأبطل إبطال، وأمحل المحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى فرق بين الأحياء والأموات ولم يسو بينهما بقوله (وما يستوي الأحياء والأموات (4))(5).
ويتحدث علامة العراق الآلوسي عن مسألة سماع الأموات فيقول:
__________
(1) سورة البقرة: آية 286، انظر: أدلته القرآنية في كتابه (صيانة الإنسان) ص 247، 248.
(2) رواه مسلم. انظر : الأحاديث الأخرى في كتابه (صيانة الإنسان) ص 249 - 252.
(3) صيانة الإنسان)، ص 252 – 253، باختصار، وانظر : الرد تفصيلاً ص 247 - 253.
(4) سورة فاطر: آية 22.
(5) مجموعة الرسائل والمسائل) 4/837.(131/332)
(لا يشك أحد من أهل العلم أن في مسألة السماع قولين، أحدهما: أن الأموات يسمعون، ومع ذلك لا يستمد منهم ولا يستغاث بهم في قضاء الحاجات، ولا يلجأ إليهم لعدم ورود ذلك في الشريعة.
والآخر: أنهم لا يسمعون، وإلى كل قول من هذين القولين ذهب جم غفير من أهل العلم، وكل منهما أورد أدلة على مدعاه لا يمكن إنكارها، وليس هذا الاختلاف في متأخري الأمة، بل عن السلف كانوا مختلفين في ذلك فإنكار السماع رأساً، وإثباته مطلقاً لا شك في أنه مكابرة محضة، فالراجح قصر السماع على ما ورد وهذا الوجه يجمع بين الروايات المختلفة) (1).
ولكن - كما يذكر الآلوسي - من يقول بسماع الأموات لا يقول بأنهم يسمعون كل كلام، ومن أي محل كان قريب أو بعيد … فإن هذا باطل بإجماع المسلمين) (2).
وأخيراً نكتفي بما أوردناه من نقول موجزة لأئمة الدعوة وأنصارها في إزالة اللبس في هذه الشبهة، ثم ردها، ومن أراد المزيد والتفصيل فعليه بما كتب السلف قديماً، وأتباعهم من أهل هذه الدعوة وغيرهم.
الفصل الثالث
منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم (3)
أطلق الخصوم على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأنصار دعوته شبهة منع الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم، فادعوا أن الشيخ الإمام وأتباعه من بعده يمنعون طلب الشفاعة من المصطفى صلى الله عليه وسلم وكذلك يمنعون طلبها من الأنبياء والصالحين.
__________
(1) فتح المنان تتمة منهاج التأسيس) ص 380.
(2) المرجع السابق، ص 382.
(3) كان هذا الفصل ضمن الشبهات، لأن مسألة الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم من المسائل المجملة التي تحتاج إلى تفصيل وبيان، وسيتضح ذلك في ثنايا هذا الفصل.
وانظر : تفصيلاً لهذه المسألة في كتاب (شرح العقيدة الطحاوية) لابن أبي العز الحنفي، ط الرابعة، المكتب الإسلامي ببيروت ص 261 – 263.(131/333)
وقبل الشروع في عرض هذه الشبهة ثم ردها، ينبغي أن ننبه إلى أن موضوع الشفاعة يرتبط – إلى حد كبير – بموضوع التوسل، لذا فهناك تداخل كبير بين هذا الفصل، وبين الفصل السابق – كما سيتضح أثناء عرض هذا الفصل -، إلا أنه مع هذا التداخل فهناك بعض المسائل التي يستقل بها موضوع الشفاعة عن موضوع التوسل، مما ناسب إفراده بهذا الفصل.
وقد تحدث خصوم هذه الدعوة عن شبهة منع الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فادعوا أن الشيخ الإمام، وأتباعه من بعده يمنعون طلب الشفاعة من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا سائر الأنبياء والأولياء، وذكر الخصوم حجتهم في هذه المسألة، وسنورد أقوالهم – من خلال كتبهم -، وحججهم في هذا المقام.
يدعي القباني الفرق بين المشركين الذين اتخذوا الأصنام شفعاء لهم عند الله لتقربهم إليه زلفى، وبين المسلمين – كما زعم القباني – الذين يطلبون الشفاعة من الأنبياء والأولياء.
فليس سبب كفر مشركي العرب هو اتخاذ الأولياء شفعاء تقربهم عند الله زلفى، وإنما كان كفرهم بسبب اعتقادهم أن الملائكة والأولياء بنات وأبناء الله على حد دعوى القباني، لذا يقول القباني:
(العلة التي وجبت كفر المشركين هي اعتقادهم في الأنبياء، والأولياء، والملائكة أنهم أبناء الله، وبنات الله تعالى الله عن ذلك..) (1).
ويقول أيضاً: (إن عبادة المشركين للأنبياء، والأولياء إنما هي بالسجود لتماثيلهم، ليتقربوا إليهم) (2).
ويستنكر القباني أن يكفر من قال: يا رسول الله اشفع لي، فيقول بكل قبح ووقاحة مخاطباً الشيخ الإمام:
(أما أنهم كفروا بمجرد قولهم يا رسول الله اشفع لي، أو أغثني، وأنها مساواة لقول المشرك واعتقاده أن المسيح هو الله، ولعبادة تمثاله من السجود والذبح كما ادعيت ذلك، وجزمت به. فما أقمت على ذلك الدليل والبرهان يا طويل الآذان) (3).
__________
(1) فصل الخطاب) ق 36.
(2) المرجع السابق) ق 38.
(3) المرجع السابق ق 38.(131/334)
ويجوّز ابن داود الهمداني طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء فلا يحتاج إلى إذن من الله، لأن الله أذن لهم في الشفاعة، يقول ابن داود:
(إن الله تعالى أذن لنا أن نطلب منهم – أي الأنبياء والأولياء – الشفاعة، وليعلم أولاً أن طلب الشفاعة منهم لا يحتاج إلى ورود إذن من الله في ذلك، فإنا بعد أن علمنا أن لهم جاهاً وجيهاً عنده تعالى، بحيث إذا شفعوا قبلت شفاعتهم، فعلمنا مع ذلك أن الله تعالى أذن لهم في الشفاعة، ساغ لنا أن نطلبها منهم، ونجعلهم شفعاء عنده، ونقول لهم اشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا فإن لكم عند الله جاهاً وجيهاً، وشفاعة مقبولة كما يسوغ لأحدنا أن يقول لآخر توسط لي عند السلطان واشفع لي لدى فلان) (1).
ويرد ابن داود على الشيخ الإمام في تلك المسألة، فيقول:
(وقول الزنديق الحجازي: إن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن طلبها منه كما قال: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } (2) غلط، فإن الدعاء المنهي عنه هنا بمعنى العبادة، وطالب الشفاعة لا يعبد الشفيع، بل يطلب منه أن يشفّعه عند الله، كما أن يوسف بدعائه لأحد صاحبي السجن لم يكن عابداً له ولا كافراً، وقوله(3) (فإن الشفاعة التي أعطاها غير النبي، فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون. أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة، فاطلبها منهم. فإن قلت هذا، فقد عبدتم) غلط أيضاً، لما قلنا من أن طلب الشفاعة ممن أعطيها سواء كان نبياً، أو كان ولياً، أو وصياً، أو ملكاً، أو مؤمناً ليس عبادة له، فيصح لنا أن نطلب الشفاعة من الأوصياء، والأولياء، والملائكة، والصلحاء، وليس في ذلك شرك) (4).
ويسوي ابن داود بين قول: اللهم شفّع محمداً فينا، وبين قول: يا محمد اشفع لي، فيقول:
__________
(1) إزهاق الباطل) ق35.
(2) سورة الجن : آية 18.
(3) أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(4) إزهاق الباطل) ق 35.(131/335)
(وإذا ثبت أن لهم – محمد صلى الله عليه وسلم وعترته – الشفاعة المقبولة، وأنهم مأذونون في الشفاعة، ونحن مأمورون بطلبها، كان لنا الخيار في الدعاء. فإن شئت طلبناها، وقلنا اللهم شفعهم فينا، أو لا تحرمنا شفاعتهم، أو تقبل شفاعته فينا، وإن شئنا طلبناها منهم وقلنا يا أولياء الله اشفعوا لنا عند الله، واستغفروا ذنوبنا إلى غير ذلك) (1).
ويفسر محمد بن عبد المجيد معنى الإذن – أحد شرطي قبول الشفاعة – فيقول:
(والذي يظهر - والله أعلم - تفسير الإذن بلازمه، من الرضى والاختيار، والمعنى: لا أحد يشفع عنده شفاعة نافعة، إلا برضاه، واختياره تعالى، إذ لا ينفذ لأحد مراد لم يرده الله تعالى …)(2).
وبناءً على ذلك فإن محمد بن عبد المجيد لا يشترط الإذن للشافع، لذا يقول:
(والمتحصل من هذا أن الشفاعة لا تتوقف على إذن خاص، بمعنى إطلاقها وإباحتها للشافع، ولكن يتوقف نفعها على رضاه تعالى أن يقبلها واختياره لذلك..) (3).
ويدافع محمد بن عبد المجيد عن المستغيثين بالموتى والذين يسألونهم الشفاعة فيقول:
(والمشركون كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها تنفع وتضر.. فأين هذا ممن يستغيث من المسلمين بنبي، أو ولي، ويسأله الشفاعة، معتقدا أنه لا يملك نفعاً ولا ضراً..) (4).
ويرد محمد ابن عبد المجيد على اعتراض لما قرره، فيقول:
__________
(1) المرجع السابق ق53.
(2) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية، ص 13.
(3) المرجع السابق، ص14.
(4) المرجع السابق، ص 16.(131/336)
(وأما تمسكه – أي الإمام سعود بن عبد العزيز – في منع استشفاعهم إلى الله بقوله تعالى: { قل لله الشفاعة جميعا } (1) قلنا مسلم، ولا ينافي طلبنا منهم الشفاعة في مآرب الدنيا والآخرة، لأن شفاعتهم لنا من بعد إذنه تعالى لهم بإلهام، أو غيره مما يعلمونه أولاً، ولأن شفاعتهم مجرد دعائه لله تعالى، وطلب وابتهال، كما يدعو المؤمن لأخيه بظهر الغيب. ومعنى توقفها على الإذن توقف قبولها على رضاه تعالى، واختياره الإجابة، لا كما زعم المشركون أن معبوداتهم تشفع لهم عنده، وجزموا بذلك، ولم يلتفتوا إلى توقف نفع شفاعتها على قبوله تعالى، ورضاه، حتى كأنهم لا يجوزون رد شفاعتها …)(2).
ويدعي الحداد أن سبب كفر مشركي العرب هو نسبتهم الولد لله تعالى، وليس لأنهم جعلوا الأصنام، أو الأولياء شفعاء تقربهم عند الله زلفى. فيقول:
(وقوله تعالى في سورة الزمر: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (3) فإن بعدها قوله تعالى ردا على من نسب له الولد، تعالى الله { لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار } (4).. وقولهم ليقربونا معتقدين أنهم آلهة وأنهم شركاء، كما حكي عنهم سبحانه في قوله: { هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } (5)، الآية، ولو أنهم آمنوا بالله وحده، وأقروا برسالة نبيه، وما جاء به، واعتقدوا في الحجر أنه من خلقه، وأنه لا ذنب له، نفعهم، لقوله عليه السلام (لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه) (6)
__________
(1) سورة الزمر : آية 44.
(2) الرد على بعض المبتدعة..، ص 47 بتصرف يسير.
(3) سورة الزمر : آية 3.
(4) سورة الزمر : آية 4.
(5) سورة الأنعام : آية 136.
(6) قال ابن تيمية – عن هذا الحديث – كذب، ونحوه قول الحافظ ابن حجر لا أصل له، وقال ابن القيم: هو من كلام عباد الأصنام، الذين يحسنون ظنهم بالأحجار).
عن كتاب (كشف الخفاء) لإسماعيل العجلوني، مكتبة التراث سوريا، 2/216، 217 باختصار.(131/337)
، لاعتقاده أنه لا يضر ولا ينفع خلق من خلقه إلا بإذنه)(1).
ويدعي عمر المحجوب أن الوهابيين ينكرون الكثير من الشفاعة فيقول:
(ولعلك من المبتدعة الذين ينكرون أنواعاً كثيرة من الشفاعة)(2).
ويذكر إسماعيل التميمي أن الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس عبادة له؛ لأنها في ملكه.. يقول:
(وليست – أي مسألة الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم - عبادة للمطلوب – أي محمد ؛– لأنه لا يعظم طالبها كتعظيم المعبود..)(3).
(أما مسألة طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فإن هذا الطلب ليس عبادة، فإن الله لما وعده بها، وبالإذن فيها صارت في يده، فطلبها منه كطلب حاجة من يد قادر على إعطائها..) (4).
ويورد جعفر النجفي كلاماً حول الشفاعة، كان مما قاله:
__________
(1) مصباح الأنام، ص 18 – يظهر – جلياً – من كلام الحداد، وغيره من المبتدعة الذين سبق ذكرهم، أنهم لا يدركون، ولا يعرفون معنى إذن الله، فهم لا يفرقون، ولا يميزون بين الإذن الكوني القدري، وبين الإذن الديني الشرعي.. فقد ظن هؤلاء الجهلة أن معنى إذن الله للشافع، أي تحقق ذلك قدراً وكوناً، ومن ثم استنكروا كلام أئمة الدعوة في إيراد هذا الشرط لتحقيق الشفاعة، لأنهم فهموا من هذا الشرط بإمكانية وقوع ما يخالف القدر – الكوني -، مع أن علماء الدعوة قصدوا بالإذن – ها هنا – أي الشرعي الديني.
انظر : بيان الفرق بين الإذن الكوني القدري وبين الإذن الديني في كتاب شفاء العليل، لابن القيم، مكتبة التراث، القاهرة، ص 588.
(2) الرد على الوهابية ص 7.
(3) المنح الإلهية) ص 25.
(4) المرجع السابق، ص 64.(131/338)
(إن الشفاعة إن كانت من قبيل الدعاء، فيرجع طلبها إلى التماس الدعاء من الأنبياء والأولياء، فتكون عبارة عن دعاء مخصوص لنجاة الغير، أو قضاء حاجته في أمور الدنيا والآخرة. فلا كلام، ولا بحث في جواز طلبها من كل أحد كما لو سألت إخوانك الدعاء .. ولا ريب أن المستشفع بالنبي، والأولياء في دار الدنيا يريد هذا المعنى). (1)
ويسوق دحلان ما قرره علماء الدعوة من اشتراط إذن الله في قبول الشفاعة، ثم ذكر رده، فيقول:
(ومما يعتقده المنكرون للزيارة، والتوسل منع طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون أن الله تعالى قد قال في كتابه العزيز: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2)، وقال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (3) فالطالب للشفاعة لا يعلم حصول الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة للمؤمنين.
وقد صحت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم يشفع لمن قال بعد الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة..) (4) إلى آخر الدعاء المشهور، ولمن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، ولمن زار قبره صلى الله عليه وسلم .. فالطالب للشفاعة كأنه يتوسل إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يحفظ عليه الإيمان إلى أن يتوفاه الله، فيدخل في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون من أهلها) (5).
ويذكر السمنودي ما اشترطه علماء الدعوة لقبول الشفاعة، من الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، ثم يرد ذلك بقوله:
__________
(1) منهج الرشاد، ص 49، 50 باختصار.
(2) سورة البقرة : آية 255.
(3) سورة الأنبياء : آية 28.
(4) رواه البخاري.
(5) الدرر السنية في الرد على الوهابية) ص 33.(131/339)
(وأقول أن منعهم المذكور، واحتجاجهم هذا عليه مردود عليهم، وباطل بالأحاديث الصحيحة الصريحة في حصول الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة للمؤمنين، لكونهم ممن ارتضى الله تعالى أن يشفع له، وبما صح متواتراً من طلب بعض الصحابة الشفاعة لله من النبي صلى الله عليه وسلم)(1).
ويورد السمنودي النصوص التي تثبت الشفاعة، ثم يقول:
(وهذه الآيات، والأحاديث وما ماثلها على عمومها، ولم يخصصها أحد بحال الحياة دون الممات)(2).
ويدعي السمنودي أن طلب الشفاعة من باب التسبب فقال:
(والشفاعة وإن كانت في الحقيقة بإذن الله..، ولكن على المسلم أن يباشر السبب، وأمر الإذن في القضاء إلى الله تعالى إن شاء، وإن لم يشأ، لم يكن. هذا هو اعتقاد المسلمين لا يعتقدون غيره، فمقصودهم بطلبهم الشفاعة من الأنبياء، والصالحين إنما هو التسبب) (3).
ويذكر الطباطبائي أن الوهابيين يثبتون الشفاعة، ولكن يمنعون طلبها في الدنيا من أصحابها، ثم يرد على هذا المعتقد فيقول:
(قالت الوهابية أن الشفاعة للأنبياء، والأولياء منقطعة في الدنيا وإنما هي ثابتة لهم في الآخرة، فلو جعل العبد بينه وبين الله وسائط من عباده يسألهم الشفاعة كان ذلك شركاً وعبادة لغير الله، فاللازم أن يوجه العبد دعاءه إلى ربه ويقول: اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز له أن يقول يا محمد اشفع لي عند الله) – ثم ذكر أدلتهم على ذلك:
ثم قال: (وقالت الإمامية أن الشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصالح المؤمنين، والملائكة المقربين، فيجوز الاستشفاع بهم إلى الله تعالى لنهوض الكتاب والسنة عليه..
__________
(1) سعادة الدارين) 2/2.
(2) المرجع السابق 2/6.
(3) المرجع السابق 2/7.(131/340)
وقول ابن عبد الوهاب: أن الله أعطى نبيه الشفاعة، ولكن نهاك عن الاستشفاع به.. كلام شعري مبناه الخيال، فإنه مثل أن يقول أن الله تعالى أعطى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة سقاية الحوض، ولكن نهى الناس عن الورود عليه، والاستسقاء منه.
وقوله تعالى: { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } (1) دلت على جواز وقوع الشفاعة الحسنة من المؤمنين، بعضهم في حق بعض، ومتى جاز، جاز التوسل بالشفيع ولو كان ذلك شركاً لما صح الإذن في الشفاعة لا عقلاً ولا سمعاً مع أنها مأذون فيها ومرغب إليها بقوله سبحانه: { يكن له نصيب منها } (2).
ويجوز عبد الرؤوف الرافضي الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى الله فيقول:
(وقد جوز الشرع الاستشفاع به إلى الله، وليس فيه شرك ولا هو دين المشركين أصلاً، ونوضح المقال بضرب من المثال ونقول:
ولا شك أن السجود لغير الله شرك، وقد أمر الله تعالى ملائكته المقربين أجمعين أن يسجدوا لآدم، فانقادوا كلهم أجمعون، فصار سجودهم لغير الله الذي كان كفراً وشركاً لولا أمر الله، طاعة مقبولة عند الله، وخاتم الأنبياء خير من فاتح الأنبياء، بل من سائر الأنبياء والاستشفاع به أيسر من السجود..) (3)
ويدعي العاملي جواز طلب الشفاعة من كل مؤمن حياً أو ميتاً، لأنه كطلب الدعاء فيقول:
(فطلب الشفاعة من الغير، كطلب الدعاء منه. وقد ثبت جواز طلب الدعاء من أي مؤمن كان … ويجوز طلب الشفاعة إلى الله تعالى من كل مؤمن فضلاً عن الأنبياء والصالحين، وفضلاً عن سيد المرسلين) (4).
ويدعي العاملي – أيضاً – أن اتخاذ الأصنام، أو الأولياء شفعاء عند الله، ليس سبباً في شرك عباد الأصنام والأولياء، يقول:
__________
(1) سورة النساء : آية 85.
(2) البراهين الجلية) ص 17، 18.
(3) فصل الخطاب) ق39، باختصار.
(4) كشف الارتياب) ص 242.(131/341)
(والمشركون لم يعلم أن هذا سبب في شركهم؛ لأنه لم يصدر منهم وحده، بل صدر معه ما هو كاف في الشرك، والكفر من إنكار الرسل، والشرائع، والعبادة للأصنام)(1).
ويستنكر العاملي طلب الشفاعة من الله وحده في الدنيا، فيقول:
(أما قولهم فالشفاعة حق، ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله. فإذا كانت حقاً فما المانع من طلبها ؟ أفيجعل الله طلب الحق باطلاً وشركاً؟ تعالى الله عن ذلك، فطلب الحق لا يكون إلا حقاً، وطلب الباطل لا يكون إلا باطلاً، والتقييد بقولهم في دار الدنيا دال على جواز طلبها في الآخرة، كما يدل عليه حديث تشفع الناس بالأنبياء، واعتذار كل منهم ثم تشفعهم بمحمد صلى الله عليه وسلم..
وهل منع الناس من الشرك في الدنيا، وأبيح لهم الشرك في الآخرة (2). ثم يورد العاملي دليلاً له، ويرد عليه:
(وأما قوله: إن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك أن تطلبها منه وقال: { فلا تدعوا مع الله أحداً } (3) فقول فاسد، لأن الدعاء المنهي عنه في الآية لا يشمل طلب الشفاعة، كما لا يشمل طلب الدعاء التي هو نوع منه، ولا يمكن أن يكون شاملاً لذلك، إذ يكون محصله أن الله تعالى أباح لك أن تطلب من كل أحد ما أعطاه الله إياه إلا الشفاعة) (4).
وادعى فضل الرسول البركاتي هذه المقالة:
(والنجدية خالفوا أهل السنة والجماعة في الشفاعة، وخلطوا مع الاعتزال أنواعاً من الخبط والشناعة، قالوا إن الشفاعة بالوجاهة غير ممكنة واعتقادها كفر) (5).
ويبيح الأوردبادي الاستشفاع بالأولياء بقوله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 251.
(2) المرجع السابق، ص 260.
(3) سورة الجن : آية 18.
(4) كشف الارتياب) ص 260 يتصرف.
(5) المعتقد المنتقد، مكتبة الحقيقة، استانبول 1983، ص 136.(131/342)
(وأما الاستشفاع بهم، فلم يكن إلا لأن الله أثبت الشفاعة لعباده المكرمين في قوله تعالى: { إلا لمن ارتضى } (1) وأذن بشفاعتهم في قوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2) فيتوسل عند الله، ويتوجه، ويستشفع إليه بأوليائه من عباده) (3).
يتبين – من خلال هذه النقول أن هؤلاء الخصوم يدعون أن العلّة التي أوجبت كفر المشركين، هي اعتقادهم في الأنبياء، والملائكة أنهم أبناء الله وبناته – تعالى الله عن ذلك -، أو اعتقادهم أن الأصنام تنفع وتضر، وليست علة كفرهم اتخاذهم الأصنام، أو الأولياء شفعاء كي تقربهم عند الله زلفى.
كما أن المناوئين يجوّزون طلب الشفاعة من الأنبياء، والأولياء في دار الدنيا؛ لأن الله أذن لهم في الشفاعة، وبعضهم يفسر الإذن بمعنى الرضا والاختيار. ونلاحظ أنهم ينفون أن يكون طلب الشفاعة من الأنبياء أو الأولياء عبادة لهم، بل هو دعاء المسلم لأخيه كما أن طلب الشفاعة منهم عام لا فرق في ذلك بين الأحياء منهم والأموات.
ويدعي الخصوم أن الشفاعة حين تطلب في الدنيا من الأنبياء، فلأنها في ملكهم وحوزتهم.
لقد أفاض علماء هذه الدعوة السلفية الحديث عن ما يتعلق بهذه المسألة فوضوحها غاية الوضوح، وأوردوا الأدلة والبراهين عليها، وذكروا شبهات الخصوم، واعتراضهم، ثم أعقبوها بالرد والمناقشة.
وقد تحدث الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب عن هذه المسألة في أكثر من موضوع، وأطال في بيانها وإظهارها.
__________
(1) سورة الأنبياء : آية 28.
(2) سورة البقرة آية 255.
(3) رسالة في الرد على الوهابية، المطبعة العلومية، النجف، 1345هـ، ص 22.(131/343)
فيبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب مشابهة هؤلاء الذين اتخذوا الصالحين شفعاء، ووسائط بينهم وبين الله، ويدعونهم، ويرجونهم، بحال المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن اتخذ الأصنام أو الأولياء شفعاء تقربهم عند الله زلفى، مع اعتقاد أن النفع والضر من عند الله، ويورد الاعتراضات في ذلك فيقول:
(إن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدون بها الناس عنه، منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق، ولا يرزق ولا ينفع، ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً، ولا ضراً، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم.
فجوابه هو أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرّون بما ذكرت، ومقرّون أن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه، والشفاعة، كما في القرآن. فإن قال هؤلاء الآيات إنما نزلت فمن يعبد الأصنام. كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناماً فجاوبه بما تقدم .. فإنه إذا أقرّ أن الكفّار يشهدون بالربوبية كلها، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن أراد أن يفرق بين فعله، وفعلهم بما ذكر – فأذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب } (1) ويدعون عيسى بن مريم وأمه، ويدعون الملائكة..
__________
(1) سورة الإسراء : آية 57.(131/344)
فقل له: أعرفت أن الله كفّر من قصد الأصنام، وكفّر أيضاً من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال: الكفّار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبّر، لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم. فالجواب أن هذا قول الكفّار سواء بسواء، واقرأ عليه قوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (1). وقوله تعالى: { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (2) واعلم أن هذه الشبهة أكبر ما عندهم) (3).
ويقرر الشيخ الشفاعة، ويثبتها، ويذكر شرطي الشفاعة، ثم يرد على من قال إن الله أعطى الشفاعة محمداً فأطلبها منه، يقول رحمه الله:
__________
(1) سورة الزمر : آية 3.
(2) سورة يونس آية 18.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1/161
وانظر : ما كتبه الشيخ الإمام في بيان أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قصدوا الأصنام إلا لطلب القربة والشفاعة.
…(مجموعة مؤلفات الشيخ، 1/200، 398.(131/345)
(فإن قال أتنكر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منها ؟ فقل لا أنكرها ولا أتبرأ منها، بل هو صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، وأرجوا شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: { قل لله الشفاعة جميعاً } (1) ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2)، ولا يشفع في أحد إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال عز وجل: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } (3) فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيها، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، تبين لك أن الشفاعة كلّها لله فاطلبها منه، وقل: اللهم لا تحرمني شفاعته، اللهم شفعه فيّ وأمثال هذا.
فإن قال النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله.
فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة، ونهاك عن هذا فقال: { فلا تدعوا مع الله أحداً } (4)، فإن كنت تدعو الله أن يشفّع نبيّه فيك، فأطعه في قوله: { فلا تدعوا مع الله أحداً } ، وأيضاً فإن الشفاعة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأفراط يشفعون، أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم، فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه، وإن قلت: لا، بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة، وأنا أطلبه مما أعطاه) (5).
ويرد الشيخ الإمام على من ألصق بهم فرية إنكار شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
__________
(1) سورة الزمر : آية 44.
(2) سورة البقرة : آية 255.
(3) سورة آل عمران : آية 85.
(4) سورة الجن آية: 18.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ) 1 / 165، 166.(131/346)
(يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، صاحب المقام المحمود، نسأل الله رب العرش العظيم أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه. هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح، وهم أحب الناس لنبيهم، وأعظمهم في اتباع شرعه) (1).
ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن الشفاعة لا تطلب في الدنيا إلا من الله، فلا تطلب من الأنبياء، أو الأولياء بعد موتهم يقول رحمه الله:
(والشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى: { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً } (2) وقال: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } (3)، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع ابتداء بل (يأتي فيخر ساجداً فيحمده بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم يحد لهم حداً فيدخلهم الجنة) (4) فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء؟ وهذا الذي ذكرناه، ولا يخالف فيه أحداً من علماء المسلمين. بل قد أجمع السلف الصالح من الصحابة والتابعين الأئمة الأربعة وغيرهم..) (5).
وعلى ضوء ذلك، فلا تطلب الشفاعة من المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولأنه – أيضاً – ليس هناك دليل على طلبها منه بعد موته، لذا قال الشيخ الإمام:
(القائل أنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنّة رسول الله، أو من اجتماع الأمة. والحق أحق أن يتبع) (6).
__________
(1) المرجع السابق 5/48.
(2) سورة الجن : آية 18.
(3) سورة يونس : آية 106.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ 5/113 باختصار.
(6) المرجع السابق 5/48.(131/347)
ويؤكد الشيخ الإمام أن طلب الشفاعة من موتى الصالحين يضاد توحيد العبادة وينافيه، فيقول:
(إن أهل الجاهلية يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله، وعبادته. يريدون شفاعتهم، لظنهم أن الله يحب ذلك، وأن الصالحين يحبونه كما قال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (1)، وقال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (2).
وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص..) (3).
ويردّ الإمام عبد العزيز الأول على من ادعى عدم شرط الإذن من الله في مسألة الشفاعة فيبين أن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب .. يقول رحمه الله:
(ولهذا حسم جل وعلا مادة الشفاعة عن كل أحد بغير إذن الإله وحده، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه لا ملك ولا نبي ولا غيرهما؛ لأن من شفع عند غيره بغير إذنه فهو شريك له في حصول ذلك المطلوب لتأثيره فيه بشفاعته، ولا سيما إن كانت من غير إذنه فجعله يفعل ما طلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه، وكل من أعان غيره على أمر فقد شفعه فيه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد بوجه من الوجوه، ولهذا قال عز من قال: { قل لله الشفاعة جميعاً } (4) (5).
وتبدو أهمية هذه المسألة ومدى قيمتها، من خلال ما كتبه الإمام عبد العزيز الأول، حين تحدث عن حال أولئك المستشفعين بالموتى، ثم أشار إلى فائدة مهمة وهي أن الشفاعة ثابتة بالوصف، لا بالشخص .. يقول:
__________
(1) سورة يونس : آية 18.
(2) سورة الزمر : آية 3.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ 1/334.
(4) سورة الزمر : آية 44.
(5) 10) الهدية السنية / ص 14.(131/348)
(وما حجتهم علينا إلا أن المدعو يكون شفيعاً ووسيلة، ونحن نقول: هؤلاء الداعون الهاتفون بذكره، المعتقدون في الأحياء الغائبين المدعوين، والأموات يطلبون كشف شدتهم، وتفريج كربتهم، وإبراء مريضهم وتكثير رزقهم.. لم يكفهم الاقتصار على مسألة الشفاعة والوسيلة، وهما من أعظم المخاصمة الجارية علينا مما قاتلنا وبدّعنا، وجعل اليهود والنصارى أخف شراً منا ومن أتباعنا.
وحقيقة قولنا أن الشفاعة وإن كانت حقاً في الآخرة فلها أنواع مذكورة في محلها، ووجب على كل مسلم الإيمان بشفاعته صلى الله عليه وسلم، بل وغيره من الشفعاء، فهي ثابتة بالوصف لا بالشخص، ماعدا الشفاعة العظمى فإنها لأهل الموقف عامة وليس منها ما يقصدون، فالوصف من مات لا يشرك بالله شيئاً كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل نبي دعوة مستجابة وأني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً) (1) (2).
ويقرر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب معتقدهم في مسألة الشفاعة فيقول:
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الهدية السنية، ص 12.(131/349)
(ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذا نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة، والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضاً، ونسألها من المالك لها، والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعاً إلى الله تعالى: اللهم شفّع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو اللهم شفّع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم. فلا يقال يا رسول الله، أو يا ولي الله، أسألك الشفاعة، أو غيرها كأدركني، أو أغثني، أو اشفعني، أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى) (1).
ويبين الشيخ محمد بن ناصر بن معمر أن الشفاعة كلّها لله وحده، وأنها لا تكون إلا بشرطيها: الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، فيقول رحمه الله:
(وبيان أن الشفاعة كلّها لله، ليس لأحد فيها شيء، وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله تعالى، وأنه تعالى لا يأذن إلا لمن رضى قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، ومعلوم أن أعلى الخلق، وأفضلهم، وأكرمهم عند الله الرسل والملائكة المقرّبون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه لهم وأمره، فيأذن سبحانه لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له تعالى، والذي شفع عنده إنما بإذنه له، وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته أن يرحم عبيده) (2).
ويسوق صاحب كتاب (التوضيح) شرط رضا الله عن المشفوع له، وشرط الإذن للشافع، مما يقضي وجوب التجرد، والتوجه لله وحده، فيقول:
__________
(1) الهدية السنية، ص 42. وانظر : كلاما قريبا من ذلك في رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ ضمن كتاب) الهدية السنية، ص 107.
(2) المرجع السابق ص61. وانظر : ما كتبه الشيخ حمد بن معمر في أقسام الناس في مسألة الشفاعة (مجموعة الرسائل والمسائل)، 4/207.(131/350)
(ومسألة الشفاعة لم ينفها الله سبحانه، لكن أخبر أنها لا تكون ولا تنفع إلا لمن أذن له، فالشفاعة بعد رضائه تعالى عن المشفوع فيه وهذا بخلاف الشفعاء للمخلوقين، فإنهم قد يشفعون لمن لم يؤذن لهم في الشفاعة وقبل استئذان المشفوع إليه، وهذا كقوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (1).
وقوله: { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } (2)، وقال: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (3) وقال: { ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون } (4)، وهذا يوجب انقطاع تعلق القلوب بغيره، ولو كان نبياً، أو ملكاً. فكيف بالمشايخ، والعلماء، والملوك. فإن غاية الراجي لهم المعتقد أن يقول هم يشفعون لي، فقد أخبر سبحانه أنه ما من شفيع إلا من بعد إذنه، وأنكر أن يشفع أحد إلا بإذنه وأخبر أن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له) (5).
ويبيّن الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب مناسبة إيراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب لباب (الشفاعة) ضمن أبواب (كتاب التوحيد)، فيقول:
(لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه، إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة. كما قال تعالى: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (6)، وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها، وأخبر أنه شرك، ونزّه نفسه عنه، ونفى أن يكون للخلق من دونه ولي أو شفيع، كما قال تعالى:
__________
(1) سورة البقرة : آية 255.
(2) سورة النجم : آية 26.
(3) سورة الأنبياء : آية 28.
(4) سورة يونس : آية 3.
(5) التوضيح عن توحيد الخلاق)، ص77.
وانظر : تفصيلاً عن شرطي الشفاعة في الكتاب نفسه ص 236، 324.
(6) سورة يونس : آية 18.(131/351)
{ الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون } (1) أراد المصنف – الشيخ الإمام – في هذا الباب، إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك، وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله ليشفع له، كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى، وأنها لله، هو الذي يأذن للشافع ابتداء، لا يشفع ابتداء كما يظنه أعداء الله } (2).
ويرد الشيخ سليمان على دعوى الخصوم بأن طلب الشفاعة من الموتى ليست عبادة لهم، لأنه دعاهم للشفاعة فقط، فيقول رحمه الله:
(فإن قلت: إنما حكم سبحانه وتعالى بالشرك على من عبد الشفعاء، أما من دعاهم للشفاعة فقط، فهو لم يعبدهم، فلا يكون ذلك شركاً.
قيل: مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك، والشرك لازم له، كما أن الشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى، والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى. وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله لا وجود له في الخارج، وإنما هو شيء قدره المشركين في أذهانهم، فإن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، فإذا دعاهم للشفاعة، فقد عبدهم، وأشرك في عبادة الله شاء أم أبى) (3).
ويكشف الشيخ سليمان بن عبد الله عما يتضمنه اتخاذ الشفعاء من دون الله من التنقص لعظمة الإلهية، والهضم لحق الربوبية، وسوء الظن برب العالمين فيقول:
__________
(1) سورة السجدة : آية 4.
(2) تيسير العزيز الحميد) ص 273، 274.
(3) المرجع السابق، ص 276.(131/352)
(إن المتخذ للشفعاء والأنداد، إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني من كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته، وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع، وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع، أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه كما هو حال ملوك الدنيا.. وهذا أصل شرك الخلق، وكله تنقص للربوبية وهضم لحقها، ولهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك، ونزّه نفسه عنه فقال: { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } (1) (2).
ويجمل الشيخ سليمان بن عبد الله حقيقة أمر الشفاعة فيقول:
(وحقيقة أمر الشفاعة، أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فهذا هو حقيقة الشفاعة، لا كما يظن المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء، فيدخله الجنّة، وينجيه من النار. ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم إذا زاروهم..) (3).
ويتحدث الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن امتناع طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فيسوق الأدلة النقلية التي تثبت هذا المنع ثم أورد دليلاً عقلياً في منع ذلك فقال:
__________
(1) سورة يونس : آية 18.
(2) تيسير العزيز الحميد)، ص 275 / 276 باختصار.
(3) المرجع السابق، ص 295، بتصرف يسير.(131/353)
(وأما دليله من العقل، فالعقل الصريح يقضي، ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح وأسباب ذلك كله لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله تعالى وحده، وإخلاص الدعاء، والالتجاء له؛ لأن الخير كله بيده، وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء كما قال تعالى: { ما يملكون من قطمير } (1) فتسوية المخلوق بالخالق خلاف العقل كما قال تعالى: { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } (2) فالذي له الخلق، والأمر، والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقير إليه لا يستغني عنه طرفة عين، هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى ويرغب إليه ويرهب منه …) (3).
ويرد الشيخ عبد الرحمن بن حسن على من كذب وادعى فرية الإجماع على طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، فيقول:
(الله أكبر ما أعظمها من فرية على الله، وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى السلف، وأئمة الدين. فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة، جعل ما أجمع عليه الرسل، والكتب، والسلف، والمسلمون من تحريم دعاء غير الله، وتشديد النهي عنه، وعن اتخاذا الشفعاء، جعل ذلك المحرم أشد التحريم مجمعاً على جوازه..) (4).
ويوضح الشيخ عبد الرحمن بن حسن شناعة اتخاذ الشفعاء من دون الله، وما يتضمنه من الطامات.. فكان مما قاله:
(ولا ريب أن اتخاذ الشفعاء والتوجه إليهم بالقلب واللسان ينافي إسلام القلب والوجه لله وحده، وقد قال تعالى: { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع.. } (5). أخبر تعالى أن النذارة بالقرآن لا ينتفع بها إلا من تخلى عن الشفعاء في دار العمل، وعلق رغبته، ورهبته وسؤاله وطلبه بمن له الملك وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله..) (6).
__________
(1) سورة فاطر : آية 13.
(2) سورة النحل : آية 17.
(3) القول الفصل النفيس)، ص 253.
(4) المرجع السابق، ص 82.
(5) سورة الأنعام : آية 51.
(6) القول الفصل النفيس)، ص86.(131/354)
ويقول أيضاً: (ولا ريب أن الاستشفاع بالموتى يتضمن أنواعاً من العبادة: سؤال غير الله، وإنزال الحوائج به من دون الله، ورجائه، والرغبة إليه، والإقبال عليه بالقلب والوجه والجوارح واللسان .. وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله) (1).
ويظهر الشيخ عبد الرحمن بن حسن المراد بالاستشفاع بالمصطفى في حياته فيقول:
(وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه، وأن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة..) (2).
ويفرّق الشيخ أبو بطين بين أن تطلب من الشافع أن يشفع، وبين أن تطلبه يقضي حوائجك، كما فرّق القرآن بينهما .. يقول أبو بطين:
(وقد فرق القرآن بينهما في قول صاحب يس { ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون } (3) فالإنقاذ هو بالنصرة والمظاهرة، والشفاعة بالجاه والمكانة) (4).
وينبّه الشيخ أبو بطين على ما يقع اللبس فيه، من إطلاق القول بأن الله ملّك المؤمنين الشفاعة، فيقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 90.
انظر : ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن اتخاذ الشفعاء شرك في مجموعة الرسائل والمسائل 1/24.
(2) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)، ص 504.
(3) سورة يس : آية 23.
(4) تأسيس التقديس) ص 24.(131/355)
(إطلاق القول بأن الله ملّك المؤمنين الشفاعة، خطأ، بل الشفاعة كلّها لله وحده { قل لله الشفاعة جميعاً } (1)، وأثبت سبحانه الشفاعة بإذنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء يشفعون والصالحين يشفعون، وعلى هذا فمن أذن الله له في الشفاعة، يصح أن يقال أنه ملك ما أذن له فيه فقط، لا ما لم يؤذن له فيه، فهو تمليك معلق على الإذن والرضا لا تمليك مطلق كما يزعمه هذا الضال (2)، وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع حتى يقال له ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع..) (3).
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على هذا التنبيه، ويزيده بياناً ووضوحاً بقوله:
(وليس قولهم: أنه أعطى الشفاعة بمعنى ملكها وحازها كسائر العطايا والأملاك التي يعطاها البشر، وأيضاً فإن الله يعطي رسله وأولياءه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أفيقال أن الله أعطاهم ذلك، وملكهم إياه، فيطلب منهم ويرغب إليهم فيه؟ فإن كان ذلك مشروعاً وسائغاً، فالشفاعة قيدت بقيود لم تقيد بها هذه العطايا والمواهب السنية، وقد قال تعالى: { قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض } (4)، وقد قال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (5)، وقال تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (6) (7).
ويقرر الشيخ عبد اللطيف مشابهة من طلب الشفاعة من الأولياء الموتى، بحال النصارى فيقول:
__________
(1) سورة الزمر : آية 44.
(2) يقصد داود بن جرجيس.
(3) تأسيس التقديس)، ص 82.
(4) سورة الزمر : آية 44.
(5) سورة الأنبياء : آية 28.
(6) سورة البقرة : آية 255.
(7) مصباح الظلام)، ص 255.
وانظر : ماكتبه الشيخ عبد اللطيف حول منع طلب الشفاعة من محمد صلى الله عليه وسلم بعد موته في (الدرر السنية) 9/301.
وانظر : ما كتبه أيضاً حول أن الشفاعة لله لا تطلب إلا منه في كتاب (منهاج التأسيس)، ص312.(131/356)
(ولو قال يا ولي الله اشفع لي، فإن نفس السؤال محرم، وطلب الشفاعة منهم يشبه قول النصارى، يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله. وقد أجمع المسلمون أن هذا شرك، وإذا سألهم معتقداً تأثيرهم من دونه فهو أكبر وأطم) (1).
ويتحدث الحازمي عن الشفاعة، فيؤكد على شرط الإذن للشافع أن يشفع فيقول:
(وأما الشفاعة فإن الله تعالى يقول: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } (2) ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشفع يوم القيامة، حتى يأذن الله به بالشفاعة، ثم إن هؤلاء الذين اعتقدهم الخلق، ونصبوا على قبورهم الأعواد المنقوشة، ووضعوا في محلاتهم الفرش النفيسة، ونحروا عند قبورهم، لا يدري هل لهم شفاعة أم لا ؟ قال الله تعالى: { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } (3)، وقال تعالى في الملائكة الكرام: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } (4)، ولما قال صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت: { وما نتنزل إلا بأمر ربك.. الآية } ) أخرجه البخاري، فإذا كان نزول جبريل عليه السلام لزيارة خير الأنام لا يكون إلا بأمر ذي الجلال والإكرام، فكيف يطلب منه شيء وبالأولى من ليس بأمين وحي رب العالمين) (5).
ويذكر الشيخ صالح الشثري ما وقع فيه المبتدعة من قلب الحقائق فكان مما ذكره:
(فإذا كنا على جنازة ميت، ندعوا له لا ندعوا به، ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى، فبدّل أهل الشرك والبدع قولاً غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعاء نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به..) (6).
ومما ذكره السهسواني – أثناء رده على دحلان – قوله:
__________
(1) البراهين الإسلامية)، ق 49.
(2) سورة البقرة : آية 255.
(3) سورة الزمر : آية 43.
(4) 10) سورة الأنبياء : آية 28.
(5) إيقاظ الوسنان)، ق19.
(6) تأييد الملك المنان)، ق 15.(131/357)
(وجملة القول أن طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم في حياته ثابت بلا شك، وكذلك طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهذا لا ينكره أحد) (1).
ويقول رحمه الله: (ثبوت الشفاعة، وحصول الإذن يوم القيامة مسلّم لا ينكره أحد من أهل السنة والجماعة، وأما حصول الإذن الآن بالشفاعة التي تكون يوم القيامة فثبوته غير مسلّم) (2).
ويشير الشيخ أحمد بن عيسى إلى أن صرف طلب الشفاعة إلى غير الله من الموتى ونحوهم شرك عظيم.. يقول رحمه الله:
(قد أخبر تعالى أن الشفاعة جميعها له، فمن طلبها من غير الله، فقد طلبها ممن لا يملكها، ولا يسمع ولا يستجيب، وفي غير الوقت الذي تقع فيه، ولا قدرة له عليها إلا برضا ممن هي له، وإذنه فيها وقبوله، فطلبها ممن هي له في دار العمل عبادة من جملة العبادات، وصرف ذلك الطلب لغيره شرك عظيم، ومن تدبر آيات الشفاعة حق التدبر، علم علماً يقينياً أنها لا تقع إلا لمن أخلص أعماله كلّها لله واتبع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده وشرائع دينه، فليس لله من عمل عبده إلا الإخلاص) (3).
ويوضح الشيخ ابن سحمان رحمه الله الحكم في الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم فيقول أثناء ردّه على الزهاوي:
__________
(1) صيانة الإنسان)، ص 363.
(2) المرجع السابق، ص 372.
(3) الرد على شبهات المستعينين بغير الله) ص 45.(131/358)
(قوله ثم إن الوهابية عدوا الاستشفاع إلى الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته كفراً مع أن الإجماع منعقد على جوازه. فأقول إن كان أراد بالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول القائل: اللهم إني أسألك بجاه محمد، أو بحقه، أو حرمته، فهذا القول بدعة محدثة محرمة ولا يكفر الوهابية أحداً بهذا، وإن أراد بالاستشفاع بالنبي بأن يدعوه ويستغيث به كأن يقول يا رسول الله أغثني، وأدركني، وأنا في حسبك، أو يسأله، أو يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، ويتوكل عليه، ويلجأ إليه في جميع مهماته .. فإن كان أراد هذا فقد ذكر في (الإقناع) من كتب الحنابلة أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً.
وأما دعوى انعقاد الإجماع على جوازه فدعوى مجردة اللهم إلا إجماع عبّاد القبور، وأولئك ليسوا من أهل الإسلام، فضلاً عن أن يجمعوا على الأحكام) (1).
ومما اتفق عليه علماء مكة وعلماء نجد في (البيان المفيد) ما نصّه:
(ونعتقد) أن الشفاعة ملك لله وحده ولا تكون إلا لمن أذن الله له { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (2) ولا يرضى الله إلا عمن اتبع رسله، فنطلبها من الله مالكها، فنقول اللهم شفع فينا نبيك مثلاً، ولا نقول: يا رسول الله اشفع لنا، فذلك لم يرد به كتاب، ولا سنّة ولا عمل سلف، ولا صدر ممن يوثق به من المسلمين، فنبرأ إلى الله أن نتخذ واسطة تقربنا إلى الله أو تشفع لنا عنده، فنكون ممن قال الله فيهم وقد أقروا بربوبيته، وأشركوا بعبادته ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } (3) (4).
وقد ساق القصيمي الدلائل على بطلان الاستشفاع بالموتى، نختار منها قوله:
__________
(1) الضياء الشارق : ص156.
(2) سورة الأنبياء : آية 28.
(3) سورة يونس : آية 18.
(4) البيان المفيد) ، ص 7.(131/359)
(المستشفعون بالموتى لابد أن يعتقدوا أنهم قد أعطوا من كمال السمع، والإحاطة بالغيب ما لم يكن لهم، وما لم يكن إلا لله وحده، ولابد أن يعتقدوا فيهم أيضا أنهم يعلمون الغيوب، ويحيطون علماً بالقريب والبعيد .. ولهذا يدعو النبي والولي في الوقت الواحد منهم الداعون الكثيرون المختلفون لغات، ولهجات، وحاجات، ثم لا يشكون أن ذلك النبي، أو الولي يسمع دعاءهم، واستشفاعهم. فإذا كان الاستشفاع بالموتى يلزمه نحلهم هذه الصفات التي لا يمكن أن تعدو رب العالمين، أو نحل بعضها فلا ريب في بطلان هذا الاستشفاع، وفساد عقائد القائلين به) (1). ثم يقول القصيمي:
(كما أن الله قد ذكر في كتابه إنكار شفاعات المشركين، ونعى عليهم أنواع استشفاعاتهم، فنفى شفاعاتهم جملة، ونعى عليهم استشفاعهم أيضاً جملة، وأخبر أن من جملة ضلال القوم، وفساد عقائدهم، ومن جملة شركهم بالله، واستحقاقهم النقمة والمقت، اتخاذهم الشفعاء إليه، وطلبهم الشفاعة من معبوديهم..)(2).
ويقول القصيمي أيضاً: (ولا يمكن أيضا أن يقال: أن هذا الاستشفاع المنكر على المشركين هو الاستشفاع المقرون باعتقاد صاحبه بأن ذلك المستشفع به المرجو للشفاعة قديم مع الله مساوٍ له في القدرة والسلطان، وذلك لأن المشركين كانوا مقرّين بأن الله وحده هو خالق الخلق وخالق العالم وخالق أصنامهم وشفعائهم وما يعبدون ويدعون من دون الله.
__________
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية) 2/212 باختصار.
(2) المصدر السابق، 2/279.(131/360)
ولا يمكن أيضاً أن يحمل هذا الاستشفاع الذي يعتقد صاحبه أن من استشفع به يشفع بدون إذن الله، وبدون رضاه، بل يشفع قهراً وقسراً، لأن المشركين كانوا مقرّين بخضوع أصنامهم وخضوع كل شيء لله لا ينازعون في هذا ولا يمحالون، ولهذا يتخذون أصنامهم شفعاء لديه تعالى، ويقولون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ولا ريب أنه لابد أن يكون الشافع والمشفوع له خاضعين دائنين لسلطانه وقهره؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون أن الأصنام مستقلة عن الله، قادرة على منح الخير، والفلاح، والسعادة من دون الله، وبدون إذنه ورضاه، لما احتاجوا إلى جعلهم شفعاء لديه سبحانه) (1).
فإذا كان الأمر كذلك، فإن هؤلاء المستشفعين بالموتى قد شابهوا المشركين الأولين في اتخاذهم الأصنام شفعاء، ووسائط تقربهم إلى الله زلفى.
ثم يتحدث عما يجره الاستشفاع بالموتى من المحرمات فكان مما قاله:
(إن تجويز الاستشفاع بالموتى يلزمه أنواع كثيرة من أنواع المحرمات المحظورة في الدين، وفي العقول، فإن الميت إذا استشفع به، وقصد للشفاعة، فلابد أن يعكف على قبره وأن يطاف به، وأن يستلم، ويقصد، ويحج من كل مكان … ومما يدل على هذا التلازم الواقع والعادة..) (2).
ويرد القصيمي على دعوى العاملي بأن الله أعطى الصالحين الشفاعة، فلا مانع من سؤالهم ما أعطوا، فكان من ردوده أنه قال:
__________
(1) المصدر السابق 2/286.
(2) المصدر السابق، 2 / 288، باختصار.(131/361)
(قد أعطى الله الملائكة الشفاعة على ما ذكر في الآية، ولا يجوز طلبها منهم، ولا الاستشفاع بهم بالضرورة، بل لقد أعطى الجماد الشفاعة كما قال: أنه أعطاها الحجر الأسود، وأخبر أنه يشفع ويشفّع يوم القيامة. وهل يجرأ المخالف الرافضي أن يدعي أنه يجوز طلب الشفاعة من الجماد ومن الحجر الأسود، وأنه يجوز الاستشفاع به ؟ بل لقد جاء وصح أن القرآن يشفع، وأن الأطفال يشفعون لآبائهم وأقاربهم. فهل يزعم الرافضي أن الاستشفاع بالقرآن، والقرآن عندهم مخلوق، وبالأطفال جائز مطلوب ودين يتقرب إلى الله به ؟)(1).
ثم أورد جواباً أخر على دعوى العاملي السابقة، يقول القصيمي:
(ثم من ذا الذي قال بأن كل من أعطي شيئاً جاز طلبه منه ؟ وأي دليل على هذا القول إذا قيل ؟ وهل يجوز للناس جميعاً أن يسألوا الأغنياء الأموال والأشياء التي أعطاها الله إياها ؟ وهل يجوز لكل مسلم أن يسأل كل مخلوق ما أعطاه الله وما ملّكه إياه من أنواع الأموال والأعطيات بحجة أن الله أعطاه ذلك وبحجة أن لا مانع من سؤال الخلق ما أعطوا؛ لأن طلب الحق لا يكون باطلا) (2).
ونختم هذا الفصل بسؤال وجه إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ونص هذا السؤال: -
هل الوهابية ينكرون شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ؟
فأجاب سماحته بما يلي: -
__________
(1) المصدر السابق 2/300، 301.
(2) المصدر السابق، 2 / 301
وانظر : ما كتبه القصيمي في بيان الدلائل على بطلان الاستشفاع بالموتى، والرد على حجج المخالفين 2/209 – 330.(131/362)
(لا يخفى على كل عاقل درس سيرة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه أنهم براء من هذا القول، لأن الأمام – رحمه الله – قد أثبت في مؤلفاته، لاسيما في كتابيه (التوحيد)، و (كشف الشبهات) شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة، ومن هنا يعلم أن الشيخ رحمه الله وأتباعه لا ينكرون شفاعته عليه الصلاة والسلام، وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين، بل يثبتونها كما أثبتها الله، ورسوله، ودرج ذلك سلفنا الصالح عملاً بالأدلة من الكتاب والسنة، وبهذا يتضح أن ما نقل عن الشيخ وأتباعه من إنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من أبطل الباطل، ومن الصد عن سبيل الله والكذب على الدعاة إليه وإنما أنكر الشيخ – رحمه الله – وأتباعه طلبها من الأموات ونحوهم.. (1).
يظهر من خلال هذه النقول المتعددة ما كان عليه أئمة هذه الدعوة السلفية من الفهم العميق والمعتقد الصحيح لمسألة الشفاعة، وطلبها وشروطها، وما يتعلق بها..، ومن ثم استطاعوا أن يردوا شبهات الخصوم ودعاويهم بأقوى الأدلة وأوجزها.
الباب الثالث
فيما اعترض عليه من قضايا الدعوة مع المناقشة
نورد في هذا الباب ما سطره الخصوم من كتابات تتضمن وصف هذه الدعوة السلفية وأنصارها بما هو حق وصدق، ولكنهم ساقوا هذه الجوانب الصادقة من قضايا الدعوة السلفية في مقام الاعتراض والاستنكار، وليس من أجل الإقرار بها والإنصاف، ولذا فإن هذه الاعتراضات على هذه الدعوة السلفية لا تخلو من كذب وتحامل كما سيظهر جلياً في فصول هذا الباب.
__________
(1) مجلة البحوث العلمية، العدد التاسع، ص 323.(131/363)
وسيكون مسلكنا في الباب هو إيراد اعتراض الخصوم بما فيه من حق وصدق، وما زادوا عليه من إفك وكذب، ثم مناقشة هذا الاعتراض وسيتضح بالأدلة والبراهين ما كان عليه أئمة الدعوة السلفية من موافقة الحق والصواب في تلك المسائل، كما تكشف حال أولئك الخصوم وما كانوا فيه من ضلال وزيغ وانحراف، أثناء إيرادهم تلك الاعتراضات.
الفصل الأول
هدم الأبنية على القبور
والنهي عن شدّ الرحال لزيارتها
اعترض خصوم الدعوة السلفية على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه – من بعده – بأنهم يهدمون الأبنية على القبور، كما يهدمون القباب التي على الأضرحة والمشاهد، ويمنعون تجصيص القبور وكسوتها وتزيينها، ويرون النهي عن شدّ الرحال لزيارة القبور … ونحو تلك الأمور.
وبالفعل فقد كان رحمه الله وأتباعه من بعده يعتقدون تلك الأمور قولاً وعملاً، ولكن هؤلاء الخصوم ساقوا تلك الأمور من هدم القباب ومنع كسوة القبور وتزيينها والنهي عن شدّ الرحال لزيارة المشاهد وغيرها، ساقوها في مقام الاعتراض، وأوردوها بقصد التحامل والتشنيع على هذه الدعوة السلفية، ولذا فإنها لا تخلو – غالباً – من الكذب والافتراء.
ومن أوائل المعترضين - في هذا الفصل - سليمان بن سحيم، حين ذكر ذلك في رسالته التي بعثها إلى الأمصار فقال: -
(فمن بدعه وضلالاته أن عمد إلى شهداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكائنين في الجبيلة، زيد بن الخطاب والصحابة، وهدم قبورها وبعثرها؛ لأجل أنهم في حجارة، ولا يقدرون أن يحفروا لهم، فطووا على أضرحتهم قدر ذراع ليمنعوا الرايحة والسباع، والدافن لهم خالد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمد أيضاً إلى مسجد في ذلك وهدمه..) (1).
ويستعظم المحجوب هدم القباب، فيقول – مخاطباً الإمام عبد العزيز الأول: -
__________
(1) نقلاً عن : ابن غنام، روضة الأفكار، 1 / 112.(131/364)
(وأما ما جنحت إليه من هدم ما يبنى على مشاهد الأولياء من القباب من غير تفرقة بين العامر، والخراب، فهي الداهية الدهياء، والعظيمة العظمى) (1).
وجعل علوي الحداد في كتابه (مصباح الأنام) فصلاً في صحة بناء القباب على الأولياء والعلماء، فضلاً عن الأنبياء، ثم عقد فصلاً في القبة وندبها، وأنها قربة حيث طعن الحداد في الوهابيين حين هدموا القباب وأزالوها(2).
ووصف الحداد الوهابيين بأنهم (يهدمون القبب المبنية عليهم – أي على القبور -) (3).
ويستدل إسماعيل التميمي على جواز اتخاذ القبور مساجد، بما جاء في قصة أصحاب الكهف في قوله تعالى: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً) (4) يقول إسماعيل: -
(.. فإن الله تعالى لما حكى بناء المسجد هاهنا، ولم يسقه مساق الذم، ولا تعقبه بإبطال دلّ على أن اتخاذ المسجد على الميت لا بأس به) (5).
وأورد هذا التميمي مبحثاً في البناء على القبور، جوّز فيه البناء على القبور، مستدلا على ذلك ببعض النقول لبعض المنتسبين للعلم، ومؤولاً النصوص الشرعية حسب تجويزه … (6).
ويورد الرافضي (اللكهنوري) معتقد الشيخ الإمام في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول:
__________
(1) رسالة في الرد على الوهابية، ص 7.
(2) انظر : (مصباح الأنام)، ص42 – 44.
(3) انظر : (مصباح الأنام)، ص 29.
(4) سورة الكهف : آية 21.
(5) المنح الإلهية) ق 58.
(6) انظر : المصدر السابق، ق56 – 60.(131/365)
(وأنه يحرم شد الرحال إلى زيارة قبره.. ومستنده إلى حديث رووه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) (1) والاستدلال به على مرادهم غلط ظاهر، فإن مفهوم الحديث كما يظهر على من له أدنى إلمام بالعربية هو أنه لا تشد الرحال من المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد، فإن المستثنى منه يجب أن يكون من جنس المستثنى .. وأين من ذلك النهي عن شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يزل المسلمون وعلمائهم يتعاهدون زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنكر قط منكر. فقد ثبت إجماع المسلمين) (2).
ثم يذكر مذهب الشيخ الإمام في حكم البناء على القبور، فيقول:
(اعلم رحمك الله أن مذهبه في القبور أنه يحرم عمارتها. والبناء حولها، وتعاهدها، والدعاء والصلاة عندها، بل يجب هدمها وطمس آثارها..) (3).
ويدعي اللكنهوري (أن هذه المشاهد تقلع أصول الشرك والعدوان وتجتاح جراثيم الكفر والطغيان …) (4).
ويورد اللكنهوري الأدلة على جواز عمارة القبور، فيقول: -
(وثبت ذلك في الكتاب في قوله تعالى: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذنّ عليهم مسجداً)(5) حيث قال المسلمون لما مات أهل الكهف نحن نبني عليهم مسجداً يصلى فيه، فحكى سبحانه مقالة المسلمين من غير ردّ عليهم ولا إنكار. والعجب من شارح كتاب (التوحيد) لابن عبد الوهاب حيث قال ذكر هذه الآية: هذا دليل على أن الذين غلبوا هم الكفّار إذ لو كانوا مؤمنين ما أرادوا أن يتخذوا على قبور الصالحين مسجداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعل ذلك)(6).
ويذكر إجماع قومه من الإمامية الرافضة في ذلك، فيقول :
__________
(1) رواه البخاري ومسلم .
(2) كشف النقاب)، ص 21.
(3) المرجع السابق، ص 82.
(4) المرجع السابق، ص 82، 83..
(5) سورة الكهف آية 21.
(6) كشف النقاب) ص 90.(131/366)
(وأما الإجماع عند أصحابنا الإمامية فهو أيضاً متحقق في هذا المقام فإن علمائنا رضي الله عنهم من صدر الإسلام إلى هذا العصر لم يزالوا مطبقين على استحسان مشاهد الأئمة وتعظيمها، وتعاهدها، وتجديدها على ذلك مضت القرون، ونسلت الأزمنة من غير خلاف أحد)(1).
ويحمل اللكنهوري حديث أبي الهياج (2) (بأنه وارد في قبور الكفّار التي لا فائدة في بقائها ولا حرمة لها عند الله تعالى)(3).
(وأن المراد بالقبر المشرف هو المرتفع مثل قبور النصارى المرتفعة من الأرض، وأما إذا كان نفس القبر مسطحاً، ولكن بنى حوله قبة عالية، فلا يصدق عليه أنه القبر المشرف) (4).
ويدعي اللكنهوري أن (تقبيل القبر بعد الموت كتقبيل اليد في الحياة لوجود الملاك، وهو التعظيم فيما على السواء)(5).
ويذكر اللكنهوري أن الوهابيين سنة 1223هـ (هدموا القباب، فهدموا قبة سيدتنا خديجة رضي الله عنها … وهدموا قبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد أبي بكر..) (6).
ويعقد جعفر النجفي باباً في بناء قبور الأنبياء والأولياء، ويجعل ذلك أمراً مشروعاً، بحجة أن بنائها سبباً لزيارة القبور وإدراك فضل الزيارة، وأنه علامة للمزار (7).
ويثبت دحلان مشروعية شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: -
__________
(1) المرجع السابق ص 104.
(2) سيأتي إيراد نص هذا الحديث .
(3) المرجع السابق، ص 105 .
(4) المرجع السابق، ص 107.
(5) المرجع السابق، ص118.
(6) المرجع السابق، ص129.
ومما يجدر ذكره أن هذا الرافضي ألف كتاباً سماه (البيت المعمور في عمارة القبور) ويقول – كما جاء في كتابه (كشف النقاب) ص89 – (أن هذا الكتاب قد طبع في الهند، وتهافت عليه الناس كالفراش المبثوث).
(7) انظر : (منهج الرشاد) ص 71.(131/367)
(وإذا كانت كل زيارة – أي للقبر – قربة، كان كل سفر إليها قربة، وقد صح خروجه صلى الله وعليه وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع وأحد، فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غيره صلى الله عليه وسلم، فقبره الشريف أولى وأحرى، والقاعدة المتفق عليها أن وسيلة القربة المتوقفة عليها قربة أي من حيث إيصالها إليها) (1).
ويرد دحلان على من قال: أن منع شد الرحال من باب المحافظة على التوحيد فيقول: (إن هذا تخيل باطل؛ لأن المؤدي إلى الشرك إنما هو اتخاذ القبور مساجد، أو العكوف عليها، وتصوير الصور فيها.) (2).
ويجيب دحلان عن حديث (لا تشد الرحال …) بقوله: -
وأما قوله (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) (3) فمعناه أن لا تشد الرحال إلى مسجد لأجل تعظيمه والصلاة فيه إلا إلى المساجد الثلاثة فإنها تشد الرحال إليها لتعظيمها والصلاة فيها، وهذا التقدير لابد منه، ولو لم يكن التقدير هكذا، لاقتضى منع شد الرحال للحج، والهجرة من دار الكفر، ولطلب العلم، وتجارة الدنيا وغير ذلك. ولا يقول بذلك أحد) (4).
وذكر دحلان الأحاديث في وجوب زيارة القبر النبوي، حيث نقلها عن ابن حجر الهيتمي من كتابه (الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي المكرم)، يقول دحلان:
(من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني) رواه ابن عدي بسند يحتج به.
(من زار قبري وجبت له شفاعتي) رواه الدارقطني.
(من حج فزارني في مسجدي بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي).
(من زارني بعد موتي، فكأنما زارني في حياتي).
__________
(1) الدرر السنية في الرد على الوهابية)، ص5.
(2) المرجع السابق، نفس الصفحة.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) الدرر السنية، ص5.(131/368)
ثم قال: فتلك الأحاديث كلها في تأكيد زيارته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً والزيارة شاملة للسفر؛ لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور، وإذا كانت كل زيارة قربة، كان كل سفر إليها قربة..)(1).
وخصص السمنودي باباً في الكلام على إثبات مشروعية، التمسح بالقبور، وتقبيلها وكسوتها، وجعل توابيت أو قباب أو عمائم لها، وأعمال المولد للأنبياء، والأولياء. وغيرها ذلك (2).
وقد تحدث السمنودي عن البناء على القبور، فأشار إلى حديث أبي الهياج (أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته) قائلاً:
(لم يرد تسويته بالأرض، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار .. كما أن ذلك كان في قبور عظماء المشركين محواً لآثار ما كانت تفعله الجاهلية .. فلا حجة فيه للوهابية، وإلا لكان التسنيم والتسطيح ممنوعين، وقد علمت أنهما مشروعان) (3).
ولما أجاب علماء المدينة المنورة على استفتاء قدمه الشيخ عبد الله بن بلهيد رئيس القضاة في الحجاز، إليهم حول البناء على القبور ..، وكان جوابهم على الاستفتاء في اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وألف (25 رمضان 1344هـ)، ومما جاء في هذا الجواب ما نصّه: -
__________
(1) المرجع السابق، ص 4، 5 باختصار.
وقد ذكر دحلان في كتابه (خلاصة الكلام) ص 278 ما حدث سنة 1218هـ حيث أن (الأمير سعود بن عبد العزيز قد أمر بهدم القباب، فهدموا أولاً ما في المعلى من القبب، فكانت كثيرة، ثم هدموا قبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومولد سيدنا علي رضي الله عنه، وقبة السيدة خديجة رضي الله عنها).
(2) انظر : سعادة الدارين، 2/59.
(3) سعادة الدارين، 2/71.
وانظر : جوابه على حديث (لا تشد الرحال..) في كتابه (سعادة الدارين) 1/120.(131/369)
(أما البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً لصحة الأحاديث الواردة في منعه ولهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه مستندين على ذلك بحديث علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته). رواه مسلم.
وأما إتخاذ القبور مساجد، والصلاة فيما فهو ممنوع مطلقاً، وإيقاد السرج عليها أيضاً لحديث ابن عباس لعن رسول الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن، وأما ما يفعله الجهال عند الضرائح من التمسح بها، والتقرب لهم بالذبح والنذر ودعاء أهلها مع الله فهو حرام ممنوع شرعاً لا يجوز فعله أصلاً. وأما التوجه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم عند الدعاء فالأولى منعه كما هو معروف من معتبرات كتب المذهب؛ ولأن أفضل الجهات جهة القبلة، وأما الطواف بها والتمسح وتقبيلها فهو ممنوع مطلقاً) (1).
فلما كتبوا هذا الجواب قام ناس لذلك وقعدوا وضجوا وصالوا وقالوا وحرروا بذلك المقالات والكتب، وقد تولى كبر هذا الضجيج والصياح علماء الرافضة، فكان مما كتبوه ما ذكره العاملي رداً على الوهابية، يقول العاملي معترضاً عليهم: -
(إن بناء القبور، وتجصيصها، وعقد القباب فوقها وعمل الصندوق والخلعة لها مما حرمه الوهابية. وأوجبوا هدم القبور والقباب التي عليها والبناء الذي حولها، وزعم الوهابيون أن البناء على القبور بدعة حدثت بعد عصر التابعين..) (2).
ويذكر العاملي بعض أعمال الوهابيين فيقول:
__________
(1) جريدة أم القرى، عدد 69، 17 شوال 1344هـ.
(2) كشف الارتياب)، ص 357.(131/370)
(هدم الوهابية المسجد الذي عند قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بأحد، بعدما هدموا القبة التي على القبر. وأزالوا تلك الآثار الجليلة، ومحوا ذلك المسجد العظيم الواسع فلا يرى الزائر لقبر حمزة اليوم إلا أثر قبر على تل من التراب …) (1).
ويذكر العاملي أيضا عنهم:
(ومنع الوهابية تعظيم القبور، وأصحابها، والتبرك بها من لمس، وتقبيل لها، ولأعتاب مشاهدها، وتمسح بها، وطواف حولها، ونحو ذلك) (2).
ويحكي العاملي عن الوهابيين فيقول:
(ومنعت الوهابية اتخاذ الخدمة، والسدنة لقبور الأنبياء، والأولياء والصلحاء، واتخاذها عيداً) (3).
(ومنعوا أيضاً تزيين المشاهد بالذهب، والفضة، والمعلقات والحلي والكسوة ونحو ذلك) (4).
ويذكر العاملي حال الوهابيين بالنسبة إلى شدّ الرحال لزيارة القبر النبوي، فيقول: -
(وقد منع الوهابية من شد الرحال إلى زيارة النبي صلي الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن غيره، وقد عرفت أن ابن تيمية في مقام تشنيعه على الإمامية قال: إنهم يحجون إلى المشاهد كما يحج الحاج إلى البيت العتيق، وما هو حجهم إلا قصدهم زيارتها فسماه حجاً لزيادة التهويل والتشنيع) (5).
وقد أورد العاملي ما فعله أتباع هذه الدعوة السلفية من هدم القباب والأبنية على القبور في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز سنة 1218هـ (6)، كما ذكر هدمهم للقباب كذلك في عهد الملك عبد العزيز سنة 1343هـ فقال عنه:
__________
(1) المرجع السابق، ص 414.
(2) المرجع السابق، ص 429.
(3) المرجع السابق، ص 448.
(4) المرجع السابق، ص 450.
(5) المرجع السابق، ص 474.
(6) انظر : المرجع السابق، ص22، 23.(131/371)
(لما دخل الوهابيون إلى الطائف هدموا قبة ابن عباس كما فعلوا في المرة الأولى، ولما دخلوا مكة المكرمة هدموا قبة عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي طالب عمه، وخديجة أم المؤمنين، وخربوا مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد فاطمة الزهراء، ولما دخلوا جدة هدموا قبة حواء وخربوا قبرها كما خربوا قبور من ذكر أيضاً، وهدموا جميع ما بمكة ونواحيها والطائف ونواحيها من القباب والمزارات والأمكنة التي يتبرك بها) (1).
وينادي محمد علي الأوردبادي بالويل والثبور حين يقول:
(طرقت الإسلام تلك الداهية الفادحة، والفاجعة المبرحة، مفرقة الكلمة ومضعضعة أركان الجامعة ومشوشة أمر الأمة، ومضيعة الحرمة ألا وهي فادحة هدم القباب..) (2).
ويدعي الأوردبادي أن معنى اتخاذ القبور مساجد، هو السجود على القبور فقط، لأن المسلمين لم يتخذوا القبور كالمساجد الشرعية (3).
ويتعجب الأوردباي فيقول: -
(ويا للعجب فإن العدوان بهدم القباب الشرعية لم يكن إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرمه المدينة المنورة) (4).
ويقول: -
(وهل يستطيع مسلم أن ينكر المقام العظيم في الإسلام لهؤلاء الذين هتكت حرمتهم بهدم القباب التي بناها المسلمون معاونة لزوارهم على البرّ واستدامة لزيارتهم، واستكثار من تلاوة القرآن، وذكر الله عند مراقدهم…)(5).
ويكتب الرافضي محمد حسين رسالة (في نقض فتاوى الوهابية) جواباً على فتوى علماء المدنية – التي سبق ذكرها -، مؤكداً ومقرراً أن التسوية في حديث أبي الهياج (ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) بمعنى عدلته وسطحته لا بمعنى ساويته وهدمته (6).
ويقول محمد حسين:
__________
(1) المرجع السابق، ص 59.
(2) رسالة في الرد على الوهابية، ص 3.
(3) انظر : المرجع السابق، ص 9.
(4) المرجع السابق، ص 4.
(5) المرجع السابق، ص 6.
(6) انظر : (رسالة في نقض فتاوى الوهابية)، ، ص 9 – 17.(131/372)
(والأخبار ناطقة بمشروعية بنائها، وإشادتها، وأنها من تعظيم شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) (1).
ويحتج حسن صدر الدين الكاظمي على فتوى علماء المدينة بوجود القباب والمشاهد، فوجودها دليل على جواز البناء على القبور، يقول: -
(ماذا ينكرون وهذه القباب العالية والبنايات الشامخة القائمة حول مراقد الأنبياء، والأئمة، والأولياء من الصحابة والتابعين، ومراقد العلماء والصالحين قد حشيت بها بطون الأقطار والأمصار. بل أن في الآثار القائمة حول قبور الأنبياء السابقين كقبر دانيال، وقبر هود، وصالح، وذي الكفل، ويوشع في بابل، وكقبور الأنبياء المدفونين عند البيت المقدس، بل في بناء الحجر على قبر إسماعيل، وأمه هاجر لأكبر دليل على اهتمام الأمم السالفة في تعظيم مراقد أنبيائهم، وليس بأقل من اهتمام المسلمين في تعظيم مرقد نبيهم، ومراقد أوليائهم) (2).
وينتقد الطباطبائي الوهابيين ويمدح قومه الإمامية فيقول:
(قالت الوهابية: لا يجوز بناء القبور وتشييدها.
وقالت الإمامية: (يجوز بناء القبور للأنبياء والأولياء، وتشييدها وحفظها) (3)، ويستدل الطباطبائي على ذلك بأن البناء على القبور من باب تعظيم شعائر الله؛ لأن المشاهد المتضمنة لأجساد النبيين، وأئمة المسلمين من معالم الدين الواجب حفظها، وصونها عن الاندراس.
__________
(1) المرجع السابق، ص 17، 18.
(2) رسالة الرد على فتاوى الوهابيين)، ص 9، 10.
يظهر من هذه النقول المتعددة لبعض علماء الرافضة ضد فتاوى علماء المدينة حول البناء على القبور، أن هؤلاء الرافضة لحقهم غيظ شديد فسودوا الكتب من أمثال العاملي، والأوردبادي، ومحمد حسين، وحسن صدر الدين، والبلاغي وغيرهم، ولا عجب في ذلك فالرافضة قد عرفوا بعمارة المشاهد وهجر المساجد.
انظر : توضيحاً لموقفهم من الفتوى في جريدة أم القرى عدد 104.
(3) البراهين الجلية) ص 41.(131/373)
والمشاهد من البيوت التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، فإن المراد من البيت هو بيت الطاعة، وكل محل أعد للعبادة، فيعم المساجد، والمشاهد لكونها من المعابد ) (1).
ويشنع الطبطبائي على الوهابيين، فيقول عنهم: -
(واجتراؤهم على الله ورسوله بهدم القباب الطاهرة لأئمة البقيع الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وأن ذلك منهم إنكار لمودة ذي القربى التي هي من الضروريات الثابتة بالكتاب والسنة) (2).
ويطعن حسن خزبك في الشيخ الإمام فيقول: -
(وكذا تنقيصه الرسل، والأنبياء، والأولياء، وهدم قببهم، بل ونبش قبورهم) (3).
ويورد محمد الطاهر يوسف دليلاً لهم على شدّ الرحال لزيارة القبور، فيقول: -
(نحن نستدل على شد الرحال على سبيل الوجوب، أو الندب لأماكن دون المساجد الثلاثة بشد الرحال للتجارة الشرعية، وطلب العلم الشرعي، والمقابر، وللإخوان المؤمنين أحياءً وأمواتاً، ولا سيما قبر نبينا صلى الله عليه وسلم. وجميع الأنبياء والرسل والصحابة والأولياء والصالحين والشهداء..) (4).
لقد اهتم علماء الدعوة – كعادتهم – بمسألة البناء على القبور ولعلنا في هذا الأوراق المعدودة نكشف جانباً من هذا الاهتمام والحرص. ولا غرو في هذا، فإن البناء على القبور، وتشييدها، وشد الرحال إليها قد اشتمل – قديماً وحديثاً – على الكثير من البدع والمنكرات، عدا ما يترتب، وترتب عليه من إحياء الوثنية، وإعادة مظاهر الشرك المتنوعة، وأن التاريخ والواقع أكبر برهان على ذلك والله المستعان.
وقبل أن نورد بعضاً من أجوبة أئمة الدعوة وأنصارها، ومناقشتهم على هذا الاعتراض، نرى مناسبة أن يسبق ذلك شيئاً مما كتبه الشيخ حسين بن مهدي النعمي رداً على من زعم أن هدم القباب والمشاهد أذيّة لأولياء الله، يقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 47.
(2) المرجع السابق، ص 72.
(3) المقالات الوفية)، ص 188.
(4) قوة الدفاع والهجوم)، ص 46.(131/374)
(وليت شعري، كيف يكون أمرهم إذا لم يرعهم إلا نزول الإمام الأطهر صاحب السبق الأشهر، علي رضي الله عنه ونضّر، بساحتهم يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالاً إلا طمسته).
فعلى الذي يشاهد من حالهم، كأنا لهم وقد ثاروا ذلك المثار، وأخذوا لتلك المعاقل بالثار، وأرجعوا عليًّا القهقرى، وتركوه زاحفاً على الوراء وقالوا: أذية لأولياء الله ….
ثم كيف الخطب لديهم في هذه الأبنية على الأموات المعدة للتلاوة، والصلوات المشتملة على المحاريب، والفرش، والسرج وسائر الآلات إذا أتاهم في شأنها رسول صاحب الوحي المنزل، والهدي السويّ الأعدل، يقول: بعثني لإزالة ما قد تقدم إليكم بالنهي عنه من اتخاذ القبور مساجد.
وهذا كله بالنظر إلى نفس البناء على القبر، لا إلى ما ترتب عليه من الوثنية والشرك، وعلى إحياء هذه المشاهد من كلم الإسلام وفقء عين شريعة المختار عليه الصلاة والسلام، وما يقع في الزيارات من أنواع الشرك بدعاء المقبورين، والطواف بتلك الأنصاب، والعكوف عندها، والنذر والتقرب لها بأنواع القربات. وما ترتب على ذلك من المفاسد، والمنكرات كترك الصلاة المكتوبة، وما يقولون من أقاويلهم المفتراة المكذوبة، قد حملوا الولي أو حملها عنهم، واختلاط الرجال بالنساء وأرباب الملاهي، واتخاذ الزينات والمجاهرات بالبدع والمعاصي..) (1).
ثم تحدث النعمي عن المفاسد والمنكرات التي تحدث بسبب البناء على القبور من أنواع المفاسد الوثنية، كما صارت هذه الأبنية معتكف كل طامة، ومناخ فجور أهل الفسوق والعقوق من العامة (2).
__________
(1) معارج الألباب)، ص 40، باختصار.
انظر : ما كتبه النعمي – في نفس الكتاب. حول الأحاديث في النهي عن البناء على القبور ص 105 – 113.
(2) انظر : المرجع السابق، ص 113.(131/375)
ويرد النعمي على هؤلاء المبتدعة قولهم: (من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم له قبة، وأولياء المدينة وأولياء سائر البلدان وأنها تزار كل وقت..).
أقول: (الأمر كذلك فكان ماذا؟ بعد أن حذر صلى الله عليه وسلم وأنذر، وبرأ جانبه المقدس الأطهر صلى الله عليه وسلم، فصنعتم عين ما نهى عنه ..، أفلا كان هذا كافياً لكم عن أن تجعلوا أيضاً مخالفتكم عن أمره حجة عليه، وتقدماً بين يديه. فهل أشار بشيء من هذا أو رضيه، أو لم ينه عنه ؟) (1).
ويقول النعمي حاكياً حال عبّاد القبور:
(تأمل دين عبّاد القبور اليوم، خصوصاً الغالين منهم فيها، إذا مسهم الضر أنابوا إليها، ويروون قاتلهم الله أنى يؤفكون إذا دهمتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، ثم يذوقون الرحمة من الله مع كفرهم هذا. فيقولون كرامة الشيخ وبرهانه، وإذا خفق سعيهم يقولون هو غائب أو ساخط) (2).
وأما ما أورده الخصوم من الاعتراض على هدم الشيخ للقباب، والأبنية التي على القبور، والنهي عن شد الرحال لزيارة القبور، فنجد أن الشيخ حسين بن غنام – رحمه الله – من أوائل من بيّن ووضّح صواب هذا الاعتراض، فقد بيّن ذلك في جوابه على رسالة ابن سحيم، مع رده على ما زاد ابن سحيم من الكذب والبهتان، يقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 146 ,
وانظر : ما كتبه النعمي من وقائع حدثت للقبوريين من الشرك بالله، والتضرع إلى الأموات، والذبح لها، وقصدها من أجل الشفاء وقضاء الحاجات، ص177 – 182.
(2) المرجع السابق، ص 203.(131/376)
(فهذا الكلام ذكر فيه ما هو حق وصدق، وذكر فيه ما هو كذب وزور وبهتان، فالذي جرى من الشيخ رحمه الله وأتباعه أنه هدم البناء الذي على القبور، والمسجد المجعول في المقبرة على القبر الذي يزعمون أنه قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه وذلك كذب ظاهر، فإن قبر زيد رضي الله عنه ومن معه من الشهداء لا يعرف أين موضعه بل المعروف أن الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلوا في أيام مسيلمة في هذا الوادي، ولا يعرف أين موضع قبورهم من قبور غيرهم، ولا يعرف قبر زيد من قبر غيره، وإنما كذب ذلك بعض الشياطين وقال للناس: هذا قبر زيد، فافتتنوا به، وصاروا يأتون إليه من جميع البلاد بالزيارة، ويجتمع عنده جمع كثير ويسألونه قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فلأجل ذلك هدم الشيخ ذلك البناء الذي على قبره، وذلك المسجد المبني على المقبرة اتباعاً لما أمر الله به رسوله من تسوية القبور، والنهي الغليظ الشديد في بناء المساجد عليها، كما يعرف ذلك من له أدنى ملكة من المعرفة والعلم.
وقوله (1): (وبعثرها لأجل أنهم في حجارة ولا يقدرون أن يحفروا لهم فطووا على أضرحتهم قدر ذراع، ليمنعوا الرائحة والسباع). فكل هذا كذب وزور وتشنيع على الشيخ عند الناس بالباطل والفجور، وكلامه هذا تكذبه المشاهدة، فإن الموضع الذي فيه تلك القبور موضع سهل لين الحفر، وأهل العيينة والجبيلة وغيرهما من بلدان العارض يدفنون موتاهم في تلك المقبرة، وهي أرض سهلة لا حجارة فيها) (2).
وذكر ابن غنام ما فعله الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع عثمان بن معمر أمير العيينة – في باديء دعوته – من هدم القباب وأبنية القبور، يقول:
__________
(1) أي سليمان بن سحيم.
(2) روضة الأفكار)، 1/123.(131/377)
(فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى الأماكن التي فيها الأشجار التي يعظمها عامة الناس والقباب وأبنية القبور، فقطعوا الأشجار، وهدموا المشاهد والقبور، وعدلوها على السنّة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة: ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود، وأحمد بن سويلم، وجماعة سواهم) (1).
ويؤكد ابن غنام أن ما فعله الشيخ الإمام هو عين الحق والصواب الذي عليه أهل العلم من كل المذاهب.. يقول رحمه الله.
(ولقد كان العلماء رضي الله عنهم من قديم الزمان ينكرون هذا الذي حدث في هذه الأمة من تعظيم القبور، وبنائها وبناء المشاهد عليها، ودعائها وسؤال أهلها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وقد بيّنوا للناس أن هذا خلاف دين الإسلام.
فليس هذا الذي بيّنه للناس الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – في النهي عن دعوة أهل القبور والتبرك بالأشجار والأحجار، فهمه من تلقاء نفسه دون أن يفهمه أحد من علماء هذه الأمة. بل إن العلماء كلهم من جميع المذاهب مطبقون على النهي عنه، والإنكار، والتغليظ على من فعله من الجهال وهم مجمعون على وجوب تغيير ما قدروا عليه من ذلك) (2).
ويبيّن الإمام عبد العزيز الأول معنى حديث (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فيقول:
__________
(1) المرجع السابق، 1/78 بتصرف يسير.
(2) المرجع السابق، 1/44.
ومما يدل على اهتمام الشيخ الإمام بهذه المسألة أنه عقد في (كتاب التوحيد) باباً بعنوان (باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده)، ثم تلاه بـ (باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله) ثم أعقبه بباب ثالث (باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك) انظر : (مجموعة مؤلفات الشيخ) 1/62 – 67.(131/378)
(وهو حديث ثابت باتفاق أهل العلم يتلقى بالقبول عنهم، وهو إن كان معناه لا تشدوا الرحال إلى مسجد من المساجد إلا إلى الثلاثة التي قد ذكرت، فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة إنما هو للصلاة، والدعاء، والذكر، وقراءة القرآن، والاعتكاف الذي هو من الأعمال الصالحة، وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرحال إليه من بعيد، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إليه كل سبت ماشياً وراكباً، وكان ابن عمر يفعله كما في الصحيح.
وإذا كان السفر المشروع لقصد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، ودخلت زيارة القبر تبعاً؛ لأنها غير مقصودة استقلالاً، فحينئذٍ فالزيارة مشروعة مجمع على استحبابها بشرط عدم فعل محذور عند القبر.
واتخاذ قبور الأنبياء، والأولياء مساجد هو الموقع لكثير من الأمم، إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم كود وسواع ويغوث، وتماثيل طلاسم الكواكب، ونحو ذلك) (1).
ويذكر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ما فعلوه أثناء دخولهم مكة المكرمة سنة ثمان وعشر ومائتين وألف من الهجرة (1218هـ)، فكان مما قاله:
(فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه، ورجاء النفع، ودفع الضر بسببه من جميع البناء على القبور وغيرها، حتى لم يبق في البقعة المطهرة طاغوت يعبد، فالحمد لله على ذلك) (2).
ويعلل الشيخ عبد الله الدافع لهذا الهدم فيقول:
(وإنما هدمنا بيت السيدة خديجة وقبة المولد، وبعض الزوايا المنسوبة لبعض الأولياء حسماً لذرائع الشرك، وتنفيراً من الإشراك بالله ما أمكن لعظم شأنه فإنه لا يغفر) (3).
ويشير الشيخ عبد الله إلى أن بناء القباب على القبور من علامات الكفر فيقول:
__________
(1) الهدية السنية، ص 18، 19.
(2) المرجع السابق، ص 37.
(3) المرجع السابق، ص 43.(131/379)
(أما بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر، وشعائره؛ لأن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجل صالح؛ لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره، وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف، وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهراً، لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدين فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب، وأمرهما بهدمها) (1).
ولما سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: هل يجوز البناء على القبور ؟، كان مما أجاب به رحمه الله:
(ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمه، كما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي: إلا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
كما أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يكتب عليه …) (2).
وذكر الشيخ حمد أحاديث أخرى، ثم أورد أقوال العلماء في ذلك، ثم قال:
(ومن جمع بين سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب، والمحجوب وغيرهما، وجد أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له، بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور.. وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في المعلاة أكثر من عشرين قبة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها، وأنتم تزيدون عليها غير التراب، التابوت الذي عليه، ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص) (3)
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل)، 1/246.
(2) الهدية السنية)، ص 83.
(3) الهدية السنية)، ص 85.
وهذه السطور التي نقلناها من كلام الشيخ حمد بن ناصر بن معمر هي جزء من مناظرته لعلماء مكة سنة 1211هـ.(131/380)
.
ويبين صاحب (التوضيح) بعضاً مما يجب تجاه القبور فيقول:
(وأما تعظيم القبور بمعنى احترامها، فإن كانت للمسلمين فواجب لا يجوز تبول، ولا تغوط، ولا جلوس ووطوء عليها لما في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، وفيه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد اتكأ على قبر فقال: (لا تؤذوا صاحب القبر) وفيه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر مسلم).
وأما تعظيمها بمعنى عبادتها فهو أكبر الكبائر عند الخاص والعام، وأصل فتنة عبّاد الأصنام كما قاله السلف من الصحابة، والتابعين والأئمة المجتهدين) (1).
ثم ذكر صاحب (التوضيح) الأحاديث في النهي عن اتخاذ القبور مساجد منها حديث عائشة وابن عباس قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة كانت على وجهه، فإذا اغتم كشفها، فقال وهو كذلك (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر أمته ما صنعوا) متفق عليه ثم يقول صاحب (التوضيح) – بعد هذه الأحاديث – مشيراً إلى حال عبّاد القبور.
(وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن يسجد للقبر أو دعاه، وعدل عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع الجهال والطغام وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم، فسهلت لهم، وطابت بها قلوبهم من تعظيم القبور، وإكرامها، –والتوكل عليها، والنذر لها، وكتب الرقاع فيها، وخطاب الموتى بالحوائج ياسيدي يامولاي أفعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها، والخرق التي عليها تبركاً، وإيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها وشد الرحال إليها)(2).
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 208.
(2) المرجع السابق، ص 214.(131/381)
وأورد صاحب (التوضيح) الكثير مما يحدث عند القبور من الشركيات والبدع والمحدثات (1).
ثم يبيّن صاحب (التوضيح) الزيارة الشرعية لقبر نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول:
(فأما المشروع من زيارة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ما قاله الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من المجتهدين كلّهم قالوا: إن من كان حاضراً في المدنية، فيشرع في حقّه أن يأتي إلى القبر، فيصلي، ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضوان الله عليهما. قالوا: ولا يكثر من المجيء عليه، ولا يكرره في اليوم مرات احتراماً له، ولأنه لم يفعله الصحابة ولا التابعون، وأن من قدم من سفر، أو خرج إليه فيقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي، ويسلم عليه، وعلى صاحبيه بعد أن يصلي لله في المسجد ركعتين)(2).
ثم يتبعه ببيان الزيارة البدعيّة للقبر النبوي فيقول:
(وأما غير المشروع فهو قصده للدعاء واتخاذه عيداً بالاجتماع عنده، والسفر إليه، لما في (الصحيحين) وغيرها من المسانيد والسنن أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتخذ قبره مسجداً وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) بعد قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها، بل لما يخاف على القاصدين لها من الفتنة بدعائها، أو الدعاء عندها) (3).
ويبين صاحب (التوضيح) بطلان ما استدلوا به من أحاديث في مشروعية شد الرحال لزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وسائر القبور(4)، فيذكر أوجه البطلان فيها:
__________
(1) انظر : المرجع السابق، ص 216، 229.
(2) المرجع السابق، ص 241، وانظر : ص 242 – 245.
(3) المرجع السابق، ص 246.
(4) وقد ذكر صاحب (التوضيح) تلك الأحاديث، وقد سبق إيرادها نقلاً عن دحلان.(131/382)
أحدهما: أن هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة باتفاق غالب أهل العلم، ولم يجعلها في درجة الضعيف إلا القليل.
الثاني: أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روي في ذلك شيء لأهل الصحيح، ولا السنن، ولا الأئمة المصنفين في المسانيد كالإمام أحمد وغيره.
الثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيداً كما ثبت عنه من غير وجه رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، ورواه سعيد بن منصور في سننه من حديث أبي سعيد المهري وغيرهما.
فكيف يقول لا تجعلوا قبري عيداً وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم ثم يقول: من حجّ ولم يزرني فقد جفاني، أو يقول من زار قبري وجبت له شفاعتي، ونحوها من المختلقات، وكيف يسأل ربه لا يجعل قبره وثناً يعبد ثم يأمر بشد الرحال إليه، وأنه للدعاء عنده يقصد.
الرابع: أن متأخري الفقهاء القائلين بزيارة القبور من الشافعية، وغيرهم حتى ابن حجر الهيتمي صرح في الإمداد الذي شرح به الإرشاد كلّهم قالوا ينوي الزائر مع زيارته التقرب بالسفر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وشد الرحل إليه، والصلاة فيه لتكون زيارة القبور تابعة له..) (1).
__________
(1) التوضيح عن توحيد الخلاق)، ص 251، 252 باختصار.
وانظر : باقي الأوجه ص 252، 253.(131/383)
ويتحدث الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عن حال عبّاد القبور فيقول: (فإن عبّاد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع، بل كل من ظنوا فيه ذلك بالغوا في مدحه، وأنزلوه منزلة الربوبية، وصرفوا له خالص العبودية، حتى أنهم إذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح، بادروا إلى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف، وعبدوها بأنواع من العبادة، وأما القبور المعروفة أو المتوهمة فأفعالهم معها، وعدها لا يمكن حصره. فكثير منهم إذا رأوا القباب التي يقصدونها، كشفوا الرؤوس، فنزلوا عن الأكوار، فإذا أتوها طافوا بها، واستلموا أركانها، وتمسحوا بها، وصلّوا عندها ركعتين)(1).
ويجيب الشيخ عبد الرحمن بن حسن على من سأله عن حكم شد الرحال إلى المكانات المشرفة للأنبياء والأولياء، فيقول:
(فالجواب لا ريب أن هذا مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فإذا كان تبركاً للمحل المزور فهو من الشرك؛ لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور كقصد النبي صلى الله عليه وسلم، أو الولي لتعود بركته بزعمهم. وهذه حال عبّاد الأصنام سواء كما فعله المشركون باللات، والعزى ومناة، فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزيارتهم لها، وإتيانهم إليها..) (2).
ويوجز الشيخ عبد الرحمن بن حسن الجواب في مسألة شد الرحال إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
(إن بعض العلماء قد قال يجوز السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، وهذا القول لصاحب (المغني)، وبعض المتأخرين من الحنابلة والشافعية، وهؤلاء يحتجون بقوله (فزوروها) وأما ما يحتج به بعض من لا يعرف الحديث من قوله (من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي) فهذا الحديث لا تقوم به حجة عند من له معرفة بعلل الحديث.
__________
(1) تيسير العزيز الحميد)، ص 221
(2) مجموعة الرسائل والمسائل) 2/41 بتصرف يسير.(131/384)
ويقول ابن تيمية رحمه الله: والصحيح ما ذهب إليه المتقدمون كأبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف من المتقدمين من أن هذا السفر منهي عنه لا تقصر فيه الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وحجتهم ما في (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد). وهذا الحديث أتفق الأئمة على صحته والعمل به في الجملة. فلو نذر الرجل أن يصلي في مسجد، أو مشهد، أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة، لم يجب عليه ذلك باتفاق العلماء ولو نذر أن يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى، كما نصَّ عليه، شيخ الإسلام..) (1).
ويعلق الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن على ما يردده عبّاد القبور من قول: الدعاء عند قبر فلان ترياق مجرب، فيقول رحمه الله:
(وهذه العبارة وهي قولهم الدعاء عند قبر فلان ترياق مجرب، قد تنازعها عبّاد القبور والمتبركون بها، فمنهم من يدعي ذلك لقبر أبي حنيفة ومنهم من يدعيه لقبر معروف الكرخي، وعبّاد عبد القادر وأحمد البدوي والحسين عندهم ما هو أعظم من ذلك وأطم، وبعضهم يفضل الدعاء عندها على الدعاء في المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وبهذا وأمثاله عمرت المشاهد، وعطلت المساجد وبنيت القباب، وأرخيت الستور على التوابيت بمضاهاتها لبيت الله …) (2).
ولقد أفاض الشيخ عبد اللطيف في الحديث عن حال بلاد المسلمين قبيل ظهور دعوة الشيخ الإمام، وما كانت عليه تلك البلاد من الفتنة بالقبور، والغلو في المشاهد، وما عمّ فيها وطمّ من مظاهر الوثنية.. فكان مما قاله رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص2/51.
وانظر : جواباً أخر للشيخ عبد الرحمن بن حسن في نفس الكتاب 4/390، 393.
(2) البراهين الإسلامية)، ق39.(131/385)
(وفي بندر جدة، ما قد بلغ من الضلال حدّه، وهو القبر الذي يزعمون أنه قبر حواء وصنعه لهم بعض الشياطين، وأكثروا في شأنه الإفك المبين، وجعلوا له السدنة والخدام وبالغوا في مخالفة ما جاء به محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، من النهي عن تعظيم القبور، والفتنة بمن فيها من الصالحين والكرام، وكذلك مشهد العلوي بالغوا في تعظيمه، وتوقيره، وخوفه، ورجائه.
وكذلك الموصل، وبلاد الأكراد ظهر فيها من أصناف الشرك والفجور والفساد.. فعندهم المشهد الحسيني قد اتخذه الرافضة وثناً بل رباً مدبراً وخالقاً ميسراً، وأعادوا به المجوسية، وأحيوا به معاهد اللات والعزى، وما كان عليه أهل الجاهلية الأولى وكذلك مشهد العباس، ومشهد علي ومشهد أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر فإنهم قد افتتنوا بهذه المشاهد رافضتهم وسنتهم.
والرافضة يصلون لتلك المشاهد ويركعون ويسجدون لمن في تلك المعاهد، وقد صرفوا من الأموال والنذور لسكان تلك الأجداث والقبور ما لا يصرف عشر معشاره للملك العلي القدير …) (1).
وهذه البدع والشركيات قد أنكرها أهل العلم، وليس إنكار الشيخ الإمام بدعاً في هذا الأمر.. يقول الشيخ عبد اللطيف مبيناً ذلك:
(وهذه الحوادث المذكورة والكفريات المشهورة والبدع المزبورة قد أنكرها أهل العلم والإيمان، واشتد نكيرهم، حتى حكموا على فاعلها بخلع ربقة الإسلام والإيمان ولكن كان الغلبة للجهال والطغام انتقض عرى الدين وانثلمت أركانه.
فليس إنكار الحوادث من خصائص هذا الشيخ، بل له سلف صالح من أئمة العلم والهدى، قاموا بالنكير والرد على من ضل وغوى وصرف خالص العبادة إلى من تحت أطباق الثرى ..) (2).
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل) 3/387 باختصار.
(2) المرجع السابق، 3/388، 389، باختصار.
وانظر : المرجع السابق 3/397، 450، وانظر : كتاب (مصباح الظلام)، ص 314.(131/386)
ومن المناسب أن ننقل ما سطره المؤرخ الشهير ابن بشر رحمه الله عن بعض الأعمال التي قام بها الإمام سعود بن عبد العزيز في هذا المقام.
(ففي حوادث سنة 1216هـ حين توجه سعود بالجيوش إلى كربلاء، فهدم القبة الموضوعة على قبر الحسين) (1).
(وفي حوادث سنة 1217هـ حين دخل سعود مكة، وطاف وسعى، فرق جيوشه يهدمون القباب التي بنيت على القبور والمشاهد الشركية، وكان في مكة من هذا النوع شيء كثير في أسفلها، وأعلاها، ووسطها، وبيوتها).
ثم يقول ابن بشر:
(فأقام فيها أكثر من عشرين يوماً، ولبث المسلمون في تلك القباب بضعة عشر يوماً يهدمون، يباكرون إلى هدمها كل يوم، وللواحد الأحد يتقربون، حتى لم يبق في مكة شيء من تلك المشاهد، والقباب إلا أعدموها وجعلوها تراباً)(2).
ويصف الشيخ الشثري شد الرحال إلى المشاهد بأنه من محدثات الأمور.. فيقول:
(قد علم بالضرورة من دين الإسلام أن شد الرحال إلى المشاهد، وإلى قبور الأنبياء، والصالحين، لأجل تعظيمهم ليس من عمل المصطفى، ولا من عمل الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، بل هو مبتدع محدث مردود على صاحبه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد(3) (4).
ويفند السهسواني دعاوى دحلان، ويكشف الصواب في هذا المقام فيقول رحمه الله:
__________
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد) 1/257 بتصرف.
(2) المرجع السابق، 1/263.
وقد ذكر الجبرتي قريباً من ذلك.
انظر : كتاب (من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي)، لمحمد غالب، إشراف دار اليمامة للبحث الرياض، سنة 1395هـ، ص11.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) تأييد الملك المنان)، ق4.(131/387)
(قوله – أي دحلان: - والزيارة شاملة للسفر، لأنها تستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور كلفظ المجيء الذي نصت عليه الآية الكريمة) (1).
أقول: هب أن الزيارة مطلقة شاملة للسفر، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) مقيد لذلك الإطلاق، على أن لفظ الزيارة مجمل كالصلاة والزكاة والربا. فإن كل زيارة قبر ليست قربة بالإجماع للقطع بأن الزيارة الشركية والبدعية غير جائزة، فلما زار النبي صلى الله عليه وسلم القبور وقع ذلك الفعل بياناً لمجمل الزيارة، ولا يثبت السفر من فعله صلى الله عليه وسلم، مع أن الخروج إلى مطلق المسجد أيضاً شامل للسفر وهو قربة..، فيكون السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة أيضاً قربة، والخصم أيضاً لا يقول به، وكذلك الصلاة والذكر شاملان لجميع الصلوات المبتدعة والأذكار المبتدعة، فلو سوغ الاستدلال بمثل تلك الإطلاقات، للزم جواز تلك الصلوات المبتدعة والأذكار المحدثة) (2).
ثم يرد السهسواني قول دحلان: (وقد صح خروجه صلى الله عليه وسلم لزيارة قبور أصحابه بالبقيع، وبأحد، فإذا ثبت مشروعية الانتقال لزيارة قبر غير قبره صلى الله عليه وسلم فقبره الشريف أولى).
فيقول السهسواني مجيباً: -
(أقول: الثابت بالحديث المذكور إنما هو مشروعية الانتقال الذي هو دون السفر للزيارة، ولم ينكر أحد، والانتقال الذي تنكر مشروعيته هو السفر، وهو ليس بثابت) (3).
ثم يبطل السهسواني قاعدة دحلان: أن وسيلة القربة المتوقف عليها قربة .. لكي يجوّز دحلان من خلالها شد الرحال لزيارة القبور .. فأبطلها السهسواني من عدة أوجه، نذكر منها ما يلي:
__________
(1) أي قوله تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } {سورة النساء: آية 64}.
(2) صيانة الإنسان)، ص76.
(3) المرجع السابق، ص77.(131/388)
الأول: أن هذه القاعدة في أي كتاب من كتب الأصول والفقه ؟ وما الدليل عليها من الكتاب والسنة ؟ ولابد من نقل الإجماع عليها.
الثاني: أن هذه القاعدة منقوضة بأن إتيان مسجد قباء والصلاة فيه ركعتين قربة. لما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً ويصلي فيه ركعتين. مع أن السفر إلى قباء ليس بقربة، فإنه سفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال.
الثالث: أنا لا نسلم أن مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة، بل القربة هي الزيارة التي لا يقع فيها شد رحل بدليل حديث (لا تشد الرحال …).
الرابع: أنه لو سلم كون مطلق زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة، فلا نسلم كونها متوقفة على السفر للزيارة، لجواز أن يسافر لزيارة المسجد النبوي، أو أمر آخر من التجارة وغيرها.
الخامس: أنه لو سلمت هذه القاعدة فهي إنما هي وسيلة لم ينه الشرع عنها، والسفر للزيارة قد نهى الشارع عنه بدليل (لا تشد الرحال) (1).
ويذكر الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله، جانباً من معتقدهم في مسألة البناء على القبور فيقول: -
(فنحن ننكر الغلو في أهل القبور والإطراء والتعظيم، ونهدم البنايات التي على قبور الأموات لما فيها من الغلو والتعظيم الذي هو أعظم وسائل الشرك بالله..) (2).
ويرد مسعود الندوي على فرية كاذبة … فيقول:
(ومما افتراه الأعداء من التهم المكذوبة أن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود كان هدم القبة المبنية على القبر النبوي، والغريب أن المؤرخين الأوربيين يتلذذون بذكر هذه الأسطورة الكاذبة) (3).
ومما كتبه ابن سحمان في الرد على الحداد، ما قاله رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، ص 77 – 79 باختصار.
(2) الهدية السنية)، ص 105.
(3) محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم)، ص 183.(131/389)
(لم يعهد في زمن من الأزمنة، إطباق جميع الناس خاصتهم وعامتهم على جواز البناء على القبور، واتخاذها مساجد، وإسراجها، وخدمتها وسدانتها والعكوف عندها، بل كل أهل العلم بالله وبدينه في كل زمان ومكان ينهون عن البناء عليها، وعن إسراجها، والعكوف عندها، وعن شد الرحال إليها للزيارة) (1).
ويقول: (وأما هدم القباب فنعم، فإن الشيخ فعل ذلك، وقد اتبع في ذلك أئمة الإسلام من سادات الحنابلة وغيرهم من العلماء، فبناء القبور إنما أحدثه الرافضة، فهم سلف الحداد وأشباهه من عبّاد القبور) (2).
ويجيب ابن سحمان على اعتراض الطبطبائي قائلاً:
(وأما ما ذكره من منع الوهابية لزيارة قبور الأئمة، فنعم منعوا زيارة المشاهد التي تعبد من دون الله، وشرعوا فيها من الأمور التي لم يأذن بها الله، ولا كان عليه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا هدي أصحابه، ولا من بعدهم من الأئمة المهتدين..) (3).
ويقول أيضاً:
(نعم امتثلت الوهابية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القباب التي بنيت على أهل البقيع من أهل البيت وغيرهم؛ لأن ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّة أصحابه، ومن بعدهم من الأئمة المهتدين، ولا يعيب على الوهابية بهدمهم القباب التي بنيت على ضرائح الأموات إلا من أعمى الله بصيرة قلبه)(4).
__________
(1) الأسنة الحداد)، ص204.
(2) المرجع السابق، ص 205. وانظر : كتاب (الضياء الشارق)، ص 276، وكتاب (كشف غياهب الظلام)، ص 250.
(3) الحجج الواضحة الإسلامية)، ق 35.
(4) المرجع السابق، ق44.(131/390)
ويبيّن أحمد الكتلاني أن اتخاذ القبور مساجد من المحدثات الشركية فيقول: (لم يثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه بطريق صحيح ولا ضعيف، أنهم اتخذوا القباب والمشاهد، وأوقدوا فيها السرج، ولثموا ترابها، وركبوا عليها التوابيت، وكسوها بالورود والديباج إلى غير ذلك من أنواع البدع التي يفعلها الخارجون عن وفق الشريعة وهديه الذي كان عليه وأصحابه. بل الثابت الصحيح أنه جاء بهدمها وإبطالها كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن عبسة بعثت بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحّد الله لا يشرك به شيئاً.
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن كل عمل جار تحت أحكام الشريعة فما كان موافقاً لها فهو مقبول، وما كان خارجاً عن ذلك فهو مردود، وإن كان تقاضته الطباع، وتحالته النفوس) (1).
وينقل محمد رشيد رضا بعض أقوال أهل العلم في البناء على القبور، فكان من قوله: (ذكر الإمام الشافعي في (الأم) أن ولاة مكة كانوا يهدمون ما بني في مقبرتها من القبور، ولا يعترض عليهم الفقهاء، ونقله عنه النووي في (شرح مسلم) عند شرح ما ورد في هذا المعنى من الأحاديث، وفي (الزواجر) لابن حجر الهيتمي أن اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثاناً والطواف بها، واستلامها والصلاة إليها كلّها من كبائر الذنوب..) (2).
ويورد عبد الكريم بن فخر الدين بعض العلماء المانعين شد الرحال لزيارة القبور، فيقول: (ومن المانعين عن السفر لزيارة قبور الأولياء، القاضي الحسين من الشافعية، وابن عقيل، وابن بطة وابن تيمية، وابن القيم ،وابن عبد الهادي من الحنابلة) (3).
ويصف الشيخ محمد بن عثمان الشاوي ما شاهده من الأعمال القبورية في مكة المكرمة حيت دخلها مع أتباع هذه الدعوة السلفية سنة 1343هـ، وما فعلوه من هدم قباب الشرك، يقول رحمه الله :
__________
(1) الصيب الهطال)، ص16.
(2) الهدية السنية) (حاشية)، ص43، 44.
(3) الحق المبين)، ص23.(131/391)
(وبعد أن فرغنا من أعمال العمرة، وبادرنا إلى هدم القباب، وجدنا في القبة المبنية على قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ما لا تستطاع حكايته، من ذلك أنا وجدنا رقاعاً مكتوباً فيها: يا خديجة يا أم المؤمنين جئناك زائرين، وعلى بابك واقفين، فلا تردينا خائبين فاشفعي لنا إلى محمد يشفع لنا إلى جبرائيل، ويشفع لنا جبرائيل إلى الله ووجدنا عندها كبشاً قد جاء به صاحبه ليقربه إليها … ووجدنا عند باب القبة عجوزاً شوهاء من سدنتها، ولقد حدثني غير واحد أنهم سألوها ما حالك، فقالت: هي خادمة لسيدتها المتصرفة في الكون منذ عدة سنين، ولا تصوم، ولا تصلي، ومع ذلك يتمسح بها الزوّار، وعند القبة من الشمع والسرج والآلات ما لا يحصى، وعندها من أنواع الطيب، ما لم نجد مثله عند البيت الحرام والحجر الأسود، وأمثال هذا كثير معلوم، فلهذا استعنا بالله تعالى على إزالة تلك القباب … وأما ما هناك من القباب والأبنية على القبور والكتابة وأنواع الزخرفة فذلك شيء لا يعده عاد، لكن الذي نعتقد أن مجرد البناء على القبر من غير صرف شيء من أنواع العبادة لها ذلك بدعة محرمة؛ لأنها من أكبر الوسائل إلى تعظيم أرباب القبور وعبادتهم من دون الله..) (1)
ويفصح الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بن عبد اللطيف (2) (ت 1376هـ) عن موقفهم من المشاهد والقباب على القبور، وذلك في قصيدة يرد بها على من سمى نفسه بـ (فتى البطحاء)، حين استنكر ذلك الفتى، ما فعلته جيوش الموحدين أثناء دخولها مكة من هدم القباب، والأبنية على القبور … يقول الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) القول الأسد)، ق3.
(2) وهو حفيد الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، ولد في الرياض سنة 1315هـ-، وتعلم بها، ثم جلس للتدريس، وتولى إدارة المعاهد العلمية، وله معرفة بالعروض ويقرض الشعر، وأصدر مجلة إسلامية، توفي في الرياض. انظر : (مشاهير علماء نجد). ص 164.(131/392)
وقولنا أننا قد هدمنا مشاهداً ……لخير نبي أو لأفضل صاحب
نعم أننا والحمد لله وحده…… …نهدم قباب الشرك من كل جانب
ونكسر أوثاناً ونهدم ما بني ………على أثر أو بقعة للأطايب(1)
وقد تضمن (البيان المفيد) – الذي اتفق فيه علماء الحجاز ونجد – أن البناء على القبور بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل علياً، فأمره أن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه بالأرض (2).
ولما سأل الشيخ عبد الله بلهيد علماء المدينة عن البناء على القبور سنة 1344هـ، وكتبوا جواباً مطابقاً للسؤال جار على الأصول الشرعية والقوانين المرعية من ذكر الحكم بدليله، وقام بعض المبتدعة وقعدوا وضجوا على تلك الفتوى – كما سبق بيانه -، لما حدث كل ذلك كتب الشيخ عبد الله بن بلهيد رحمه الله مقالة نورد منها قوله:
(وهذه الكتب من جميع المذاهب الأربعة قد ثبت فيها أحكام القبور، ونحن لم نخرج عما قالوه، فأفيدونا من شرع البناء على القبور، ومن أول من بني عليها، وغير خاف على من له أدنى ممارسة لعلوم الحديث والتفسير والتاريخ أنه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دفن أحد في قبر إلا في التراب، ولم يجصص، ولم يبن عليه، وكذلك من مات من الصحابة بالمدينة المنورة، وفي مكة المكرمة، وغيرها من البلاد البعيدة، وكل من مات منهم دفنوا هنالك، ولم تجصص قبورهم، ولم يبن عليها..) (3).
ويذكر الشيخ فوزان السابق جانباً من تلبيس عبّاد القبور، فيقول عنهم:
__________
(1) القول الأسد) ق20، وقد ألحقت هذه القصيدة بعد نهاية رسالة الشاوي، وقد قرض قصيدة الشيخ عبد اللطيف كل من المشايخ:
سعد بن حمد بن عتيق، وابن سحمان ومحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ كما أن للشيخ محمد الشاوي قصيدة يرد بها على فتى البطحاء، وقد قرظ هذه القصيدة الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ.
(2) انظر : (البيان المفيد)، ص9.
(3) جريدة أم القرى، عدد 104، 4 جمادى الثانية 1345هـ، وانظر : (خطاب الشيخ ابن بلهيد) ص19.(131/393)
(إنهم يتعلقون بالأسماء، ويغيرون الحقائق من نصوص الكتاب والسنّة ويحرفونها عن مواضعها، ويعارضونها بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، محتجين بها على فتح أبواب شركهم وضلالهم، الذي أضلوا به كثيراً من جهلة هذه الأمة مقتفين في ذلك أثر من حذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم عن سلوك سبيلهم، وذلك فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الصحيحة في لعن متخذي القبور مساجد، لأنه من الغلو الذي نهى الله تعالى عنه، وهو أصل عبادة الأصنام، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (ولو لا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً(1)(2).
والتأمل فيما نقلناه من موقف بعض أئمة الدعوة قولاً وفعلاً أبنية القبور، واتخاذ القباب والافتتان بها، يظهر أن قولهم وفعلهم هو عين الحق والصواب الذي تشهد له الأدلة وتثبته البراهين، وتعضده أقوال أهل العلم والدين، ومن ثم ظهر ما كان عليه الخصوم من الضلال والبعد عن جادة الصواب حين خالفوا ذلك الحق، وزاغوا عن الصدق، فظنوا الحق باطلاً، واعترضوا على الشيخ الإمام وأتباعه – من بعده – فيما جاء به من الصواب.
وأدركنا ما كان عليه أئمة الدعوة من البصيرة والفقه لواقعهم ببيئتهم فيما حكوه من الطامَّات الشركية والمصائب الكفرية والحوادث البدعية التي نزلت ووقعت في بلاد المسلمين بسبب الافتتان بالقبور وتزيينها.
الفصل الثاني
تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبيّة وتوحيد الألوهية
أورد خصوم الدعوة السلفية اعتراضاً آخر على إحدى قضايا الدعوة، فادعوا أن الشيخ الإمام ابتدع أمراً جديداً، واستحدث شأناً منكراً، حين جعل التوحيد قسمين: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وفرّق بين معنيهما.
وقد ساق الخصوم هذا التقسيم والتفريق بين التوحيدين في مقام الاعتراض والمخالفة للشيخ الإمام وأتباع دعوته، لذا فإن اعتراضهم لا يخلو من تلبيس وتمويه وتزوير.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) البيان والإشهار)، ص 321.(131/394)
ويظهر أن سبب هذا الاعتراض من قبل الخصوم، هو اعتقادهم أن الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبّر، بيده النفع والضر .. هو غاية التوحيد، فتوحيد الربوبية هو الواجب على المكلَّف، وليس معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله عندهم إلا بأن الله وحده هو القادر على الاختراع، فإذا كان توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، وهو المطلوب من كل مكلَّف، فلا اعتبار إلى غيره، ولا نظر إلى ما عداه، ومن ثمّ رفض هؤلاء القوم هذا التقسيم واستنكروه، واعترضوا على الشيخ الإمام في ذلك.
ونورد اعتراضهم كما جاء مسطوراً في كتبهم، ثم نتبعها بالمناقشة التي تكشف عن صحة ما قصده الشيخ الإمام وأتباعه من إيراد هذا التقسيم والتفريق، وأن تقسيم التوحيد إلى توحيد ربوبية وألوهية هو تقسيم تثبته النصوص القرآنية، والأحاديث الصحيحة وآثار السلف الصالح.
يسوق علوي الحداد هذا الاعتراض فيقول:
(توحيد الألوهية داخل في عموم توحيد الربوبية، بدليل أن الله تعالى لما أخذ الميثاق على ذرية آدم، خاطبهم الله تعالى بقوله (ألست بربكم)(1) ولم يقل بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقر له بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله بل هو الإله بعينه.
ومن العجب العجاب قول المدعي الكذّاب لمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من أهل القبلة أنت لم تعرف، التوحيد نوعان: توحيد الربوبية الذي أقرت به المشركون والكفّار، وتوحيد الألوهية الذي أقرت به الحنفاء وهو الذي يدخلك في دين الإسلام.
وأما توحيد الربوبية فلا، فيا عجباً هل للكافر توحيد صحيح، فإنه لو كان توحيده صحيحاً لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد كما صرحت به الأحاديث) (2).
ويورد محسن بن عبد الكريم قول أحد أسلافه، وهو عبد الله بن عيسى حيث يقول – معترضاً على هذا التقسيم - :
__________
(1) سورة الأعراف : آية 172.
(2) مصباح الأنام)، ص 17.(131/395)
(ثم إن المخالف - يعني ابن عبد الوهاب - جعل التوحيد توحيدين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فقال: إن الأول اعترف به المشركون، وأما الثاني فلم يعترفوا به، وجعل توحيد الإلهية راجعاً إلى العبادة ولا نعلم سلف له في هذا، ونحن لا نسلم الفرق، بل توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، إذ الصفة لا تزول عن الموصوف، فرب السموات والأرض إلههما..) (1).
ثم ينكر ابن عيسى إقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية مستدلاً بقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً). (2)
ثم قال ابن عيسى: (فلم يكن مشركوا العرب مقرّين بالأحدية والربوبية كما زعم..) (3).
ويقول داود بن جرجيس حول هذا التقسيم:
(إن هذه الشبهة هي التي غرّ بها إبليس هؤلاء وأشباههم، فإذا رأيت جوانبها سقطت وتبين المؤمن من الكافر، والموحد من المشرك، فاعلم أن الكفّار كانوا مشركين بالله تعالى أصنامهم في الربوبية والعبادة .. فمن قال أن الكفّار يوحدون الله توحيد الربوبية أخذاً من ظاهر بعض الآيات، فقد أخطأ، وما أصاب، ولا تدبر السنّة ولا الكتاب، فإن الربوبية والألوهية متلازمان. الرب والإله معناهما واحد، لأن الذي يستحق أن يعبد لابد أن يكون رباً) (4)
ويدعي السمنودي أن مشركي العرب وقعوا في الكفر بسبب اتخاذهم رباً من دون الله، وعلى ذلك فهم غير مقرّين بتوحيد الربوبية، يقول السمنودي:
__________
(1) لفحات الوجد) ، ق23، 24.
(2) سورة الفرقان : آية 60.
(3) لفحات الوجد) ق 24.
(4) نقلاً عن : (سعادة الدارين) 2/22.(131/396)
(لقد جاء مشركوا العرب الكفر من جهة اعتقادهم استحقاق العبادة لغير الله، واتخاذه رباً من دون الله، وأما المسلمون فإنهم بحمد الله بريئون من ذلك، إذ لا يعتقدون شيئاً يستحق الألوهية والعبادة غير الله تعالى، فهذا هو الفرق بين الحالين. وأما هؤلاء الجاهلون المكفرون للمسلمين، فإنهم لم يعرفوا الفرق بين الحالين، تخبطوا وقالوا أن التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية). (1)
ويقول السمنودي – في موضع آخر: -
(وأما المشركون الذين نزلت فيهم الآيات القرآنية، فكانوا يعتقدون استحقاق أصنامهم الألوهية والعبادة، ويعظمونها تعظيم الربوبية، وإن كانوا يعتقدون أنها لا تخلق شيئاً (2).
ويورد أحمد دحلان تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية ويستنكر هذا التقسيم، ثم يذكر أدلته على إبطاله، يقول دحلان:
(وقالوا أن التوحيد نوعان توحيد الربوبية، وهو الذي أقر به المشركون، وتوحيد الألوهية وهو الذي أقر به الموحدون، وهو الذي يدخلك في دين الإسلام، وأما توحيد الربوبية فلا يكفي، وكلامهم باطل .. فإن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية.
ألا ترى إلى قوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى)(3) ولم يقل ألست بإلهكم، فاكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ومن المعلوم أن من أقرّ لله بالربوبية فقد أقر له بالألوهية، إذ ليس الرب غير الإله، بل هو الإله بعينه.
وفي الحديث (إن الملكين يسألان في قبره فيقولان له: من ربك ؟) (4) ولا يقولا: من إلهك؟، فدل على أن توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية.
__________
(1) سعادة الدارين) 2/22.
(2) المرجع السابق، 1/304.
(3) سورة الأعراف : آية 172.
(4) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، وهو جزء من حديث البراء بن عازب.(131/397)
ثم قال - وهل للكافر توحيد صحيح؟ فإنه لو كان للكافر توحيد صحيح لأخرجه من النار، إذ لا يبقى فيها موحد. فهل سمع المسلمون في الأحاديث والسير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه أجلاف العرب ليسلموا على يده، يفضّل لهم توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، ويخبرهم أن توحيد الألوهية هو الذي يدخلهم في دين الإسلام، أو يكتفي منهم بمجرد الشهادتين، وظاهر اللفظ ويحكم بإسلامهم، فما هذا الافتراء والزور على الله ورسوله، فإن من وحّد الربّ فقد وحّد الإله، ومن أشرك بالرب فقد أشرك بالإله، فليس للمسلمين إله غير الرب، فإذا قالوا لا إله إلا الله، إنما يعتقدون أنه هو ربهم، فينفون الألوهية عن غيره، كما ينفون الربوبية عن غيره)(1).
وقد تحدث يوسف الدجوي عن هذا الاعتراض فأطال، فاستنكر التقسيم - السابق - وذكر أدلته وحججه، فقال:
(فقولهم أن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية تقسيم غير معروف لأحد قبل ابن تيمية ..، وغير معقول، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد دخل في الإسلام أن هناك توحيدين، وأنك لا تكون مسلماً حتى توحّد توحيد الألوهية، ولا أشار إلى ذلك بكلمة واحدة، ولا سمع ذلك عن أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في كل شيء، ولا معنى لهذا التقسيم، فإن الإله الحق هو الرب الحق، والإله الباطل هو الرب الباطل، ولا يستحق العبادة والتأليه إلا من كان رباً ولا معنى لأن نعبد من لا نعتقد فيه أنه رب ينفع ويضر …) (2).
ثم ساق الدجوي أدلته واستدلاله فقال:
__________
(1) الدرر السنية) ص 40، 41.
(2) مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع، مقال بعنوان (توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية)، ص 255، 256.(131/398)
(يقول تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) (1) فصرح بتعدد الأرباب عندهم، وعلى الرغم من تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أرباباً، يقول ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب:
أنهم موحدون توحيد الربوبية، وليس عندهم إلا رب واحد، وإنما أشركوا في توحيد الألوهية.
ويقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن وهو يدعوهما إلى التوحيد (ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) (2)، ويقول الله تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي) (3) وأما هم – أي مشركوا العرب – فلم يجعلوه رباً، ومثل ذلك قوله تعالى: (لكنا هو الله ربي) (4) خطاباً لمن أنكر ربوبيته تعالى).
إلي أن قال الدجوي -: (فليس عند هؤلاء الكفّار توحيد الربوبية، كما قال ابن تيمية، وما كان يوسف عليه السلام يدعوهم إلا إلى توحيد الربوبية، لأنه ليس هناك شيء يسمى توحيد الربوبية، وشيء آخر يسمى توحيد الألوهية عند يوسف عليه السلام. فهل هم أعرف بالتوحيد منه أم يجعلونه مخطئاً في التعبير بالأرباب دون الآلهة.
__________
(1) سورة آل عمران : آية 80.
(2) سورة يوسف : آية 39.
(3) سورة الرعد : آية 30.
(4) سورة الكهف : آية 38.(131/399)
ويقول الله تعالى في أخذ الميثاق: (ألست بربكم قالوا بلى)(1)، فلو كان الإقرار بالربوبية غير كاف، وكان متحققاً عند المشركين، ولكنه لا ينفعهم كما يقول ابن تيمية، ما صحّ أن يؤخذ عليهم الميثاق بهذا، ولا صحّ أن يقولوا يوم القيامة: (إنا كنا عن هذا غافلين) (2)، وكان الواجب أن يغير الله عبارة الميثاق إلى ما يوجب اعترافهم بتوحيد الألوهية، حيث أن توحيد الربوبية غير كاف كما يقول هؤلاء إلى آخر ما يمكننا أن نتوسع فيه، وهو لا يخفى عليك، وعلى كل حال فقد اكتفى منهم بتوحيد الربوبية، ولو لم يكونا متلازمين لطلب إقرارهم بتوحيد الألوهية أيضاً (3).
ثم يقول:
(فهل ترى للمشركين توحيداً بعد ذلك يصح أن يقال فيه أنه عقيدة؟ أما التيميون (4) فيقولون بعد هذا كله أنهم موحدون توحيد الربوبية، وأن الرسل لم يقاتلوهم إلا على توحيد الألوهية الذي لم يكفروا إلا بتركه، ولا أدري ما معنى هذا الحصر مع أنهم كذبوا الأنبياء وردّوا ما أنزل عليهم، واستحلوا المحرمات وأنكروا البعث واليوم الآخر، وزعموا أن لله صاحبةً وولداً … الخ، وذلك كله لم يقاتلهم عليه الرسل في رأي هؤلاء، وإنما قاتلوهم على عدم توحيد الألوهية كما يزعمون) (5).
ويتعجب الدجوي مرة أخرى من هذا التفريق فيقول:
(وإني أعجب لتفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية، وجعل المشركين موحدين توحيد الربوبية مع قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)(6) وهل المراد من الأرباب إلا المعبودون ؟) (7).
ويسوق العاملي تقسيم التوحيد في مقام الاعتراض حيث يقول:
__________
(1) سورة الأعراف : آية 172.
(2) سورة الأعراف : آية 172.
(3) مجلة نور الإسلام، المجلد الرابع، مقال بعنوان (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية)، ص256، 257.
(4) يريد الدجوي بهذا اللقب : أتباع ابن تيمية.
(5) المرجع السابق، ص 259.
(6) سورة التوبة : آية 31.
(7) المرجع السابق، ص 322.(131/400)
(وقسموا التوحيد إلى توحيد الربوبية، وهو الاعتقاد بأن الخالق الرازق المدبر للأمر هو الله، وتوحيد العبادة وهو صرف العبادة كلّها إلى الله قالوا: ولا ينفع الأول بدون الثاني، لأن مشركي قريش كانوا يعتقدون بالأول فلم ينفعهم لعدم إقرارهم بالثاني؛ كذلك المسلمون لا ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية، لعبادتهم الأنبياء والصالحين وقبورهم بنفس الأشياء التي كان المشركون يعبدون أصنامهم بها) (1).
ويورد حسن خزبك عنواناً - في كتابه المقالات الوفية - باسم: (العقيدة المستحدثة التفريق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية) كان مما قاله فيه: -
(وعقيدتهم الجديدة هي التفريق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية فقالوا أن الكفّار وحدوا توحيد الربوبية، ولم يوحدوا توحيد الألوهية؛ لأنهم مع اعترافهم بأن الله هو الخالق الرازق عبدوا الأصنام..) (2) - ثم نقل حسن خزبك كلام دحلان – .
فأنكر هؤلاء الخصوم تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولم يفرّقوا بينهما، وجعلوا توحيد الربوبية هو الغاية والمطلوب من المكلَّف، وادعوا أن مشركي العرب الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا مقرّين بأن الله هو الرب الخالق الرازق المدبّر المحي المميت .. ونحوها من صفات الربوبية – كما هو ظاهر كلام الخصوم -.
لذا يقول الطبطبائي:
(ثم إنه سبحانه حكم بشركهم لاتخاذهم تلك الأصنام شريكاً لله في خلق وتدبير العالم، وجوّزوا عبادتها خلافاً لله تعالى فيما نهاهم عنه على لسان أنبيائه بقوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً) (3)، وأين هذا ممن لا يعتقد في الأنبياء، والصلحاء الخلق والتدبير ولا يعتقد عبادتهم) (4).
__________
(1) كشف الارتياب)، ص 140.
(2) المقالات الوفية، ص203 بتصرف يسير.
(3) سورة البقرة : آية 22.
(4) البراهين الجلية)، ص32، 33، وانظر : (منهج الرشاد) لجعفر النجفي، ص29.(131/401)
وترتب على ما سبق بيانه، أن الخصوم فهموا أن العبادة لله هي مجرد الخضوع للرب، والاعتراف بأفعال الرب مثل الرزق والإحياء والإماتة والنفع والضر.
لذا يقول أحدهم – وهو محمد بن عبد المجيد – في تعريف العبادة:
(فالعبادة شرعاً غاية التذلل والخضوع لمن يعتقد له الخاضع بعض صفات الربوبية، كما ينبيء عنه مواقع استعمالها في الشرع.
فغاية الخضوع لا تكون عبادة بمجردها بل حتى تكون على وجه خاص، وهو اعتقاد الخاضع ثبوت صفة من صفات الربوبية للمخضوع له) (1).
وإذا انتقلنا إلى مجال المناقشة والجواب على الاعتراض - السابق - ، فنجد أن الشيخ الإمام رحمه الله قد اعتنى بهذا التقسيم، والتفريق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فقد قرر رحمه الله الفرق بينهما في أكثر من موضع، وبيّن أن مشركي العرب مقرّون بتوحيد الربوبية - كما سيأتي موضحاً بالنصوص القرآنية -، ولكنهم أنكروا توحيد العبادة، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم - (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيء عجاب) (2).
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -:
(فإذا تحققت أنهم مقرّون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: (فلا تدعوا مع الله أحداً) (3).
فإقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وإن قصدهم الملائكة والأنبياء، والأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم .. وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله الله) (4).
ويبين الشيخ الإمام الفرق بين التوحيدين فيقول:
__________
(1) الرد على بعض المبتدعة من الطائفة الوهابية)، ص10.
(2) سورة ص : آية 5.
(3) سورة الجن : آية 18.
(4) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 1/156، 157.(131/402)
(فإذا قيل لك ما الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وإنزال المطر، وإنبات النبات، وتدبير الأمور. وتوحيد الإلهية فعلك أيها العبد مثل: الدعاء، والرجاء، والخوف، والتوكل، والإنابة، والرغبة، والرهبة، والنذر، والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة). (1)
ويوضح الشيخ رحمه الله اجتماع الربوبية والألوهية، وافتراقهما فيقول :
(اعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان، ويفترقان كما في قوله: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس) (2)، وكما يقال رب العالمين وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: من ربك، مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله:
(إنما الصدقات للفقراء والمساكين)(3)، ونوع واحد في قوله صلى الله عليه وسلم: (افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم)(4)، إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك ؟ معناه من إلهك، لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها وكذلك قوله: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)(5) وقوله: (قل أغير الله أبغي رباً) (6) وقوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (7) فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها، كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التفطن لهذه المسألة) (8).
__________
(1) المرجع السابق، 1/371.
وانظر : ما كتبه الشيخ حول تلك المسألة في مجموعة مؤلفاته :
1/200، 363، 398، 399 ، 5/124، 144، 150، 182، 187.
(2) سورة الناس : آية 1-3.
(3) سورة التوبة : آية 60.
(4) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم.
(5) سورة الحج : آية 40.
(6) سورة الأنعام : آية 164.
(7) سورة فصلت : آية 30.
(8) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 5/17.(131/403)
وفي هذه المقالة – السابقة – التي سطرها الشيخ الإمام جواب على كثير من الأدلة التي استدل بها أولئك الخصوم في إبطال هذا التقسيم، حين أظهر الشيخ وفصّل متى يجتمع توحيد الربوبية والألوهية، ومتى يفترفان مما أثبت صواب هذا التقسيم والتفريق، وأن نصوص القرآن والسنّة تثبته وتدل عليه.
ويرد صاحب (التوضيح) على من أدعى أن الألوهية هي القدرة على الاختراع فيذكر مقالته ثم يجيب عليها:
(معنى الألوهية أنها القدرة على اختراع الخلق والتدبير، فمن قال لا إله إلا الله واعتقد أنه لا يقدر على اختراع الخلق والتدبير إلا الله فلا شريك له في ذلك، كان ذلك هو معنى لا إله إلا الله.
ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرّين بهذا المعنى معترفين، فلم يقولوا أن العالم له خالقان، أو مدبران بل الخالق والمدبر واحد (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى تؤفكون)(1).
فهذا التوحيد من الواجب على العبيد، ولكن لا يحصل به التوحيد لإله كل العبيد، ولا يخلص بمجرده عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر، ولا يغفره الله يوم تبلى السرائر، بل لابد أن يخلص الدين كله لله فلا يتأله بقلبه غير الله، ولا يعبد إياه مخلصاً له الدين) (2).
ويرد صاحب (التوضيح) على من زعم أن مشركي العرب يعتقدون النفع والضر لغير الله فيقول:
(زعمه أن المشركين الأولين كانوا يعتقدون النفع والضر، والعطاء والمنع من غير رب العالمين، ويرد هذا صريح قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) (3)، وقوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)(4)..) (5)
__________
(1) سورة العنكبوت : آية 61.
(2) التوضيح عن توحيد الخلاف)، ص 180.
(3) سورة الأنعام : آية 40، 41.
(4) سورة يوسف آية 106.
(5) التوضيح عن توحيد الخلاق)، ص 180
وانظر : بقية الأدلة ص 181، 182.(131/404)
.
ويذكر الحازمي الغاية من إرسال الرسل، فيشير إلى الفرق بين التوحيدين حيث يقول:
(اعلم أن الله تعالى لم يبعث رسله عليهم السلام وينزل كتبه ليعرف خلقه بأنه هو الخالق لهم، الرازق لهم ونحو ذلك، فإن هذا يقرّ به كل مشرك قبل بعثة الرسل، قال الله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) (1) – وذكر الحازمي آيات كثيرة تدل على ما قال - … بل بعث رسله، وأنزل كتبه، لإخلاص توحيده، وإفراده بالعبادة لا يتمّ إلا بأن الدعاء كله لله والنداء والاستغاثة، والاستعانة، والرجا، واستجلاب الخير، واستدفاع الشر له ومنه، لا لغيره، ولا من غيره، ولا يدعى مع الله أحد .. وقد تقرر أن شرك المشركين الذين بعث الله تعالى إليهم خاتم رسله صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا باعتقادهم أن الأنداد التي اتخذوها تنفعهم، وتقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم عنده مع اعترافهم بأن الله سبحانه هو خالقها، وخالقهم، ورازقها، ورازقهم، ومحييها ومحييهم ومميتها ومميتهم..) (2).
ثم يقول الحازمي – مبيناً وجه الشبه بين المشركين الأولين وبين عبّاد القبور:
(فإن قلت أن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع، والخير والشر بيده وإنما استغاثوا بالأموات قصداً لإنجازه ما يطلبونه من الله عزّ وجل.
قلت: وهكذا كانت الجاهلية فإنهم يعلمون أن الله سبحانه هو الضار النافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز) (2).
ويورد الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين هذا التقسيم، ويسوق بعض أقوال أهل العلم التي توضح ذلك التقسيم وتقرره، فيقول رحمه الله :
__________
(1) سورة الزخرف : آية 9.
(2) ، (2) (إيقاظ الوسنان)، ق1 ، 2.(131/405)
(وأما الإقرار بتوحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه خالق كل شيء ومليكه ومدبره. فهذا يقر به المسلم والكافر ولا بد منه، لكن لا يصير الإنسان به مسلماً حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم من المشرك، وأهل الجنة من أهل النار، فقد أخبر سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويحتج عليه سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية على إشراكهم في توحيد الألوهية.
قال سبحانه: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله } (1)الآية.
قال البكري الشافعي في تفسيره على هذه الآية: إذا قلت إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام ؟ قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله، والتقرب إليه، لكن في طرق مختلفة، ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى. وفرقة قالت: الملائكة ذو وجاهة عند الله، اتخذناها أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى، وقالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته. وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً متوكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله.
وقال ابن كثير عند قوله تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (2) إنما يحملهم على عبادتهم أنهم عبدوا الأصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم، ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا.
__________
(1) سورة يونس : آية 31.
(2) سورة الزمر : آية 3.(131/406)
وقال تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } (1) قال ابن عباس وغيره: إذا سألتهم من خلق السموات والأرض قالوا الله، وهم يعبدون معه غيره. ففسروا الإيمان في هذه الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك بعبادتهم غير الله وهو توحيد الألوهية) (2).
ويبين الشيخ الشثرى الفرق بين التوحيدين من خلال إقرار المشركين بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، فيقول رحمه الله :
(توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا به، فلو أشرك أحد فيما يختص بالرب من ذلك، لكان شركاً في توحيد الربوبية لا يغفر، والرب سبحانه يأمر نبيّه في كتابه العزيز بأن يحتج على المشركين في شركهم في توحيد الألوهية بإقرارهم بتوحيد الربوبية. قال تعالى: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، و يخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } (3) وقال تعالى: { هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى يؤفكون } (4) – وغيرها من الآيات التي ذكرها المؤلف – ثم قال الشثرى:
(أتراهم مشركين في ربوبيته التي أقروا بها أم شركهم في توحيد الإلهية بجعل معبوديهم وسائط بينهم وبين الله؟) (5).
ويقول أيضاً – موضحاً شرك كفّار العرب الأولين -:
__________
(1) سورة يوسف : آية 106.
(2) الانتصار)، ص 8، 9.
(3) سورة يونس : آية 31.
(4) سورة يونس : آية 34.
(5) تأييد الملك المنان)، ق24، 25.(131/407)
(فإذا عرفت أنهم لم يعتقدوا فيمن عبدوهم صفات الربوبية، وإنما جعلوهم وسائط بينهم وبين الله يحبونهم كحب الله، يدعونهم ويتذللون لهم، ويتضرعون إليهم لطلب الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، بزعمهم أن رتبتهم قصرت عن التأهل لسؤال رب الأرض والسماوات قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفّار) (1) (2).
ومما أورده السهسواني في الجواب على اعتراض دحلان، قوله رحمه الله: -
(لا مرية في أننا مأمورون باعتقاد أن الله وحده هو ربنا ليس لنا رب غيره، وباعتقاد أن الله وحده هو معبود ليس لنا معبود غيره، وأن لا نعبد إلا إياه، والأمر الأول هو الذي يقال له توحيد الربوبية، والأمر الثاني هو الذي يقال له توحيد الألوهية.)(3). ثم ذكر السهسواني الآيات الدالة على كلا الأمرين(4)– إلى أن قال رحمه الله:
(ولا أظنك شاكاً في أن مفهوم الرب، ومفهوم الإله متغايران، وإن كان مصداقهما في نفس الأمر، وفي اعتقاد المسلمين الخالص واحداً. وذلك يقتضي تغاير مفهومي التوحيد، فيمكن أن يعتقد أحد من الضالين توحيد (الرب) ولا يعتقد توحيد الإله، وأن يشرك واحد من المبطلين في الإلهية، ولا يشرك في الربوبية، وإن كان هذا باطلاً في نفس الأمر، ألا ترى أن مصداق الرازق، ومالك السمع والأبصار، والمحي والمميت، ومدبر الأمر، ورب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء والخالق، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومصداق الإله واحد ؟ ومع ذلك كان مشركو العرب يقرّون بتوحيد الرازق ومالك السمع والأبصار وغيرهما ويشركون في الألوهية والعبادة) (5).
__________
(1) سورة الزمر : آية 3.
(2) تأييد الملك المنان) ق 26.
(3) صيانة الإنسان) ص 444.
(4) انظر : المرجع السابق، ص 444 – 446.
(5) المرجع السابق، ص446، 447.(131/408)
ويكشف السهسواني عن تنبيه مفيد، وهو أن كون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية والألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين..
يقول رحمه الله:
(فعبّاد القبور يقرون بتوحيد الرازق، والمحي والمميت، والخالق والمؤثر، والمدبر والرب، ومع ذلك يدعون غير الله من الأموات خوفاً وطمعاً، ويذبحون لهم، ويطوفون لهم، ويحلقون لهم، ويخرجون من أموالهم جزءاً لهم، وكون مصداق الرب عين مصداق الإله في نفس الأمر، وعند المسلمين المخلصين، لا يقتضي اتحاد مفهوم توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ولا اتحاد مصداق الرب والإله عند المشركين من الأمم الماضية، وهذه الأمة.
أما نعقل أن لفظ توحيد الربوبية، ولفظ توحيد الألوهية كلاهما مركبان إضافيان، والمضاف في كليهما كلي، وهذا غني عن البيان، وكذلك المضاف إليه في كليهما، فإن الربوبية والألوهية منتزعان من الرب والإله، وهم كليان. أما الرب فلأن معناه المالك والسيد والمتصرف للإصلاح والمصلح والمدبر، والمربي، والجابر، والقائم والمعبود، وكل واحد مما ذكر معنى كلي.
وأما الإله فلأن معناه المعبود بحق أو باطل، وهو معنى كلي، فالمنتزع منهما أيضاً يكون معنى كلياً، فتوحيد الربوبية اعتقاد أن الرب واحد سواء كان ذلك الرب عين الإله أو غيره، وتوحيد الألوهية اعتقاد أن الإله واحد سواء كان ذلك الإله عين الرب أو غيره.(131/409)
وإذا تقرر هذا فنقول: يمكن أن يوجد في مادة توحيد الربوبية ولا يوجد توحيد الألوهية لمن يعتقد أن الرب واحد، ولا يعتقد أن الإله واحد، بل يعبد آلهة كثيرة. ويمكن أن يوجد في مادة توحيد الألوهية ولا يوجد توحيد الربوبية لمن يعتقد أن المستحق للعبادة واحد، ولا يعتقد وحدانية الرب، بل يقول أن الأرباب كثيرة متفرقة، ويمكن أن يجتمعا في مادة واحدة كمن يعتقد أن الرب والإله واحد، فثبت أن مفهوم توحيد الربوبية مغاير لمفهوم توحيد الألوهية. نعم توحيد الربوبية من حيث أن الرب مصداقه إنما هو تعالى لا غير يستلزم توحيد الألوهية من حيث أن الإله مصداقه إنما هو الله تعالى لا غير، لكن هاتين الحيثيتين زائدتان على نفس مفهومي التوحيدين، ثابتان بالبرهان العقلي والنقلي) (1).
ثم يقول السهسواني:
(على أنا لو قطعنا النظر عن بحث تغاير مفهومي التوحيدين، فمطلوبنا حاصل أيضاً، فإن توحيد الألوهية لا يتأتى إنكاره من أحد من المسلمين).
وهو كاف لإثبات إشراك عبّاد القبور، فإنهم إذا دعوا غير الله رغبة ورهبة، وطلبوا منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ونحروا لهم، ونذروا لهم، وطافوا لهم، وحلقوا لهم، وصنعوا غير ذلك من العبادات فقد عبدوا غير الله، واتخذوهم آلهة من دون الله) (2).
ثم يسوق السهسواني ما استدل به دحلان على اتحاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ويعقبه بالمناقشة والجواب، فلما ادعى دحلان أن قوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى) (3)دليل على أن الله اكتفى من البشر بتوحيد الربوبية، لأنه لم يقل ألست بإلهكم، فكان جواب السهسواني على هذا الاستدلال بما يلي:
__________
(1) المرجع السابق، ص447 – 449.
(2) المرجع السابق، ص449.
(3) سورة الأعراف : آية 172.(131/410)
(إن غاية مايثبت من الآية أن الله تعالى لم يذكر في هذه الآية توحيد الألوهية، وهذا لا دلالة له بشيء من الدلالات على اتحادهما، فرب حكم يذكر في آية دون أخرى، وتوحيد الألوهية وإن لم يذكر في هذه الآية فهو مذكور في آيات أخرى، وتوجيه الاكتفاء بتوحيد الربوبية ليس منحصراً في أنهما لما كانا متحدين اكتفى بذكر أحدهما، بل هناك احتمالات أخر:
الأول: أن الإقرار بتوحيد الربوبية مع لحاظ قضية بديهية، وهي أن غير الرب لا يستحق العبادة يقتضي الإقرار بتوحيد الألوهية عند من له عقل سليم وفهم مستقيم، قال ابن كثير تحت قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار) (1) الآية، يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانية ربوبيته على وحدانية ألوهيته.
الاحتمال الثاني: أن في الآية اختصاراً والمقصود: ألست بربكم وإلهكم ؟ يدل عليه أثر ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وتكفل لهم بالأرزاق.. الحديث.
الاحتمال الثالث: أن المراد بالرب المعبود، قال القرطبي: الرب المعبود، وعن عكرمة في تفسير قوله تعالى: (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) (2)، قال يسجد بعضنا لبعض، كذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره، وقال الله تعالى في سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (3) فالمراد بالأرباب في تلك الآية هم المعبودون(4)
__________
(1) سورة يونس : آية 31.
(2) سورة آل عمران : آية 64.
(3) سورة التوبة : آية 31.
(4) صيانة الإنسان)، ص 450 – 454 باختصار.
وما كتبه السهسواني في الاحتمال الثالث، هو قريب مما كتبه الشيخ الإمام حول اجتماع التوحيدين، وافتراقهما، فإن كلمة (الرب) وكلمة (الإله) إذا اجتمعتا افترقتا، وإذا افترقتا اجتمعتا، كما بينه الشيخ الإمام بالأدلة والبراهين، مما ذكرناه سابقاً.(131/411)
.
ويرد الشيخ ابن سحمان دعاوى الحداد في اعتراضه على ذلك التقسيم، فيقول رحمه الله:
(وأما قوله – أي الحداد –: فيا عجباً هل للكافر توحيد صحيح؟ فإنه لو كان توحيده صحيحاً لأخرجه من النار … الخ.
والجواب: لم يقل الشيخ أن للكافر المشرك توحيداً صحيحاً، ولكن أخبر أن مشركي العرب كانوا مقرّين بأن الله وحدة خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (1)، قال طائفة من السَّلف: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع ذلك يعبدون غيره، فإيمانهم هو إقرارهم بتوحيد الربوبية، وهذا الإيمان بتوحيد الربوبية لا يدخلهم في الإسلام وهم يعبدون غير الله، أي يشركون به في توحيد الألوهية) (2).
ويؤكد عبد الكريم بن فخر الدين على ضرورة التفريق بين نوعي التوحيد، فيقول:
(أقول قال الله سبحانه: (قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون)(3) وقال عزَّ من قائل: (وإذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون(4) الآية، فتبيّن لك أن المشركين من العرب الأول كانوا يقرون بربوبية الله تعالى، وينكرون وحدانيته تعالى في الألوهية أي العبودية، ويقولون إنكاراً منهم (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب)(5) الآية .. فلأجل ذلك تنوع التوحيد بنوعين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، فإنكار هذا إنكار الحس) (6).
وقد أجاب القصيمي على دعاوى الدجوي، وتتبعها بالرد والنقاش، ثم أعقبها بالبراهين الدالة على خلاف تلك الدعوى ..
__________
(1) سورة يوسف : آية 106.
(2) الأسنة الحداد)، ص 117.
وانظر : ما كتبه ابن سحمان في الفرق بين التوحيدين في كتابه (الصواعق المرسلة الشهابية) ص 141.
(3) سورة المؤمنون : آية 86.
(4) سورة الصافات : آية 35.
(5) سورة ص : آية 5.
(6) الحق المبين)، ص36.(131/412)
فلما زعم الدجوي أن المشركين كانوا ينكرون وجود الله مستدلاً بما فهمه من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)(1). فأجاب القصيمي على هذا الاستدلال بعدة أوجه نذكر منها:
(الأول: ليس في الآية الكريمة إنكار للرحمن، وإنما فيها استفهام عنه (بما) التي يسأل بها حقيقة الشيء، والمصدق بوجود الأمر يسأل عنه، لا خلاف بين اللغويين في ذلك فهم يقولون: ما الروح؟ كما قال تعالى: (ويسألونك عن الروح)(2) وهم يؤمنون بها .. فالسؤال عن الأمر ليس إنكاراً له.
الثاني: نقول هب ذلك جحوداً، ولكن هل هو جحود لذاته تعالى؟ أم جحود لتسميته بالرحمن؟ هو لم يدلل على ما قال، وقد سمع العربي لفظ عقار وخندريس وكميت، من أسماء الخمر، فيقول ما العقار وما الخندريس وما الكميت؟ وهو مؤمن بها، وقد يكون شربها، ولكن يجحد تسميتها بهذا الاسم، أو يجهلها، فالاسم غير المسمى، والمدلول غير الدال.
الثالث: في خبر صلح الحديبية لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو نائب المشركين في الصلح: أما الرحمن فلا نعرفه، ولكن أكتب باسمك اللهم، فقول سهيل: لا نعرف الرحمن، ولكن أكتب باسمك اللهم. يدل على أمرين، على أنهم مؤمنون بالله، وأنهم يستعينون به في أمورهم، وعلى أن الذي ينكرونه هو وصفه بالرحمن، ولو كانوا ينكرون ذاته لعارض باسم اللهم، ولأنكر لفظ الجلالة، ولفظ الرحيم المذكورين فهذا يفسر الآية، ويوضح قولهم (وما الرحمن).
الرابع: المفسرون قاطبة يفسرون الآية بإنكار المشركين لهذا الاسم لا لذاته، وقد أجمعوا على هذا التفسير.
__________
(1) سورة الفرقان : آية 60.
(2) سورة الإسراء : آية 85.(131/413)
الخامس: هذه الآية على فهمهم مخالفة لتسمية العرب مشركين بالله والناس قاطبة يقولون أنهم مشركون بالله، فلو كان جاحديه لما كانوا مشركين به، فتسميتهم مشركين بالله يدل على أنهم مؤمنون بوجوده، ولكن عبدوا معه غيره)(1).
وقد ذكر القصيمي أجوبة أخرى .. فنكتفي بما ذكرناه (2).
ثم رد القصيمي مقالة الدجوي بأن الرسول لم يذكر الفرق بين التوحيدين فقال القصيمي:
(نقول: إما أن يريد أنهم لم يذكروه باللفظ المذكور، وإما أن يريد أنهم لم يذكروه ولا بالمعنى، ولم يفهموا من دخل في الدين أن هناك توحيدين، إن أراد الأول فلا يضرنا ولا ينفعنا ..، وإن أراد الثاني نازعناه، وقلنا إنك لم تقم دليلاً عليه، بل نقول أن الرسول وأصحابه أعلموا الداخلين في الدين أن هناك توحيد ألوهية وربوبية بقولهم لهم قولوا لا إله إلا الله، ولا تعبدوا إلا الله ولا تدعوا إلا إياه، مع قولهم لا خالق ولا رازق إلا الله، وهؤلاء يريدون أن يكون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: ينقسم التوحيد إلى قسمين..) (3).
ثم ذكر القصيمي البراهين على الفرق بين توحيد الألوهية، والربوبية فكان مما قاله:
البرهان الأول: فرّقت كتب اللغة والتفسير بين معنى كلمة الإله، وبين معنى كلمة الرب، فإله بمعنى المعبود، والرب بمعنى المالك للشيء وصاحبه.
البرهان الثاني: قال تعالى: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس) (4) ذكر الرب ثم المالك ثم الإله، فلو كان الرب والإله شيئاً واحداً. لكان في الآية تكرار ينبو بها عن حدّ البلاغة.
__________
(1) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)، ص 23 – 25.
(2) انظر : المرجع السابق، ص25 – 40.
ثم ذكر القصيمي البراهين الدالة على أن المشركين الأوائل مؤمنون بأن الله خالق كل شيء ص 40 – 55.
(3) المرجع السابق ص59، باختصار، انظر : الرد مفصلاً ص58 – 67.
(4) سورة الناس : آية 1-3.(131/414)
البرهان الثالث: باتفاق أهل اللغة أن إلهاً بمعنى مألوه ككتاب أي مكتوب، وأن رباً بمعنى راب أي اسم فاعل، لأنه يقال رب الناس أي ملكهم، فلا يصح تفسير اسم الفاعل باسم المفعول.
البرهان الرابع: أخبر القرآن أن الكفّار كان يسمون أصنامهم آلهة قالوا: (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك)(1) ولم يخبر في آية أنهم قالوا لها أرباباً، فلو كان لا فرق بين اللفظين لسموها أرباباً كما سموها آلهة.
البرهان الخامس: الذي يحقن دم المشرك أن ينطلق بكلمة الإخلاص على – ألا يأتي بما ينقضها – وهذه الكلمة التي تحقن الدم هي لا إله إلا الله باتفاق المسلمين. ولا يعصمه أن يقول لا خالق إلا الله بإجماع المذاهب، ولو كان معنى الإله والرب واحداً لما عصم دمه أحد اللفظين دون الآخر) (2).
وهكذا يظهر – عبر تلك النقول لأئمة الدعوة وأنصارها – أن تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والتفريق بينهما، أن ذلك تقسيم وتفريق تثبته الأدلة وتقرّره النصوص، ويشهد له أئمة العلم والهدى. فليس تقسيماً مبتدعاً – كما ادعاه أولئك الناس – استحدثه ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، بل الصواب والحق في هذا التقسيم والتفريق، والزيغ والضلال في الإعراض عنه، والاعتراض عليه، ومن ثم ظهر ما كان عليه الخصوم من الجهل بحقيقة التوحيد، وقصر التوحيد على توحيد الربوبية، حتى ظنّوا أن مشركي العرب قد أنكروا توحيد الربوبية، الذي يعتبرونه – هؤلاء الخصوم – غاية التوحيد.
ومن المناسب في نهاية هذا الفصل أن نذكر ماكتبه حسين بن مهدي النعمي رحمه الله حول إقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية، دون الإقرار بتوحيد العبادة يقول:
__________
(1) سورة هود : آية 53.
(2) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم)، ص67 – 71. بتصرف يسير.
وانظر : بقية البراهين ص67 – 72، ومجموعها سبعة عشر برهاناً.(131/415)
(ولقد تتبعنا في كتاب الله فصول تراكيبه، وأصول أساليبه، فلم نجده تعالى حكى عن المشركين أن عقيدتهم في آلهتهم وشركائهم التي عبدوها من دونه، أنها تخلق، وترزق، وتحي، وتميت، وتنزل من السماء ماء، وتخرج الحي من الميت، والميت من الحي .. بل إذا ضاق عليهم الأمر واشتدت بهم الكرب، فزعوا إلى الله وحده، فإذا سئلوا عن حقيقة دينهم هل هو شرك في الربوبية ؟ دانوا وأذعنوا للرب وحده بالاختصاص بكل ذلك والإنفراد، وهذا واضح لمن ألقى السمع للقرآن فيما حكى عنهم بقوله: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون ..) (1)الآيات.
فهذا شرك القوم واتخاذهم الآلهة الذي كان سبباً أن سجّل عليهم ربهم القاهر فوق عباده بالشرك والغي والضلال والكفر والظلم والجهلة) (2).
ويقول النعمي في موضع آخر:
(ومن أمعن النظر في آيات الكتاب وما قصَّ من محاورات الرسل مع أممهم وجد أن أسّ الشأن، ومحط رحال القصد شيوعاً، وكثرةً وانتشاراً وشهرةً، هو دعاء الله وحده، وإخلاص العبادة له، وأن الغافلين كانوا بنقيض هذه الصفة من دون أن يضيفوا لما عبدوا شيئاً من صفات الربوبية كخلق ورزق وغيرهما، أو يجعلوا لها من ذواتها وصفاتها مقتضياً وملزماً للعبادة، بل أعربوا عن اتخاذها آلهة لتقريبهم إلى الله وشفاعتها عنده …) (3).
الفصل الثالث
إنكار دعاء الموتى
ساق خصوم الدعوة السلفية اعتراضاً ثالثاً على دعوة الشيخ الإمام، فذكروا أن الشيخ الإمام ينكر دعاء الموتى، وينكر الاستغاثة بهم، بل ويكفّر من دعا الأموات واستغاث بهم.
__________
(1) سورة المؤمنون : آيات 84 – 87.
(2) معارج الألباب) ص 202، 204 باختصار.
(3) المرجع السابق، ص 214.(131/416)
وقبل أن نورد هذا الاعتراض بشيء من البيان والتوضيح، وما تضمنه من استدلالات الخصوم في جواز دعاء الموتى والاستغاثة بهم، فإن من المناسب أن نذكّر بأن هذا الفصل يتداخل مع فصل تحريم التوسل، فهناك علاقة وارتباط بينهما، حيث أن مسألة الدعاء والاستغاثة تتصل بمسألة التوسل – كما هو ظاهر في فصل تحريم التوسل - .
ولذا فإن بعض المسائل والأفكار التي سبق ذكرها هناك – في فصل تحريم التوسل – ولها صلة بهذا الفصل، فإننا هاهنا نسوقها بإيجاز وإجمال، لكي يكتمل عرض أفكار هذا الفصل بصورة شمولية، وقد نضيف إليه ما يزيده بياناً ووضوحاً.
وأفردت مسألة دعاء الموتى بهذا الفصل، نظراً لأهمية عبادة الدعاء ووجوب صرفها لله وحده، فالدعاء – كما هو معلوم – من أفضل الطاعات وآكد العبادات، وأعظمها شأناً، وأعلاها قدراً، وقد دلّ على هذا الكثير من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية.
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – في هذا المقام-:
(الدعاء عبادة من أجل العبادات، بل هو أكرمها على الله .. فإن لم يكن الإشراك فيه شركاً، فليس في الأرض شرك، وإن كان في الأرض شرك، فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركاً من الإشراك في غيره من أنواع العبادة، بل الإشراك في الدعاء هو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة ليشفعوا لهم عند الله، ولهذا يخلصون في الشدائد لله، وينسون ما يشركون(1).
__________
(1) تيسير العزيز الحميد)، ص 219، باختصار يسير .(131/417)
ومع أهمية هذه العبادة ووجوب صرفها لله وحده وإخلاص الدعاء له سبحانه في السراء والضراء، حيث أن تجريد الدعاء لله وحده إيمان وتوحيد، ودعاء غيره – مهما كان – كفر وإشراك، ومع كل ذلك، فإن الكثير قد اتخذوا من الموتى ملجأ وملاذاً يلوذون بهم، فيسألونهم تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، وربما زادوا على ذلك فسألوهم دخول الجنان، والنجاة من النيران.
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل تجاوزوا ذلك، فأنكروا على من أخلص الدعاء لله وحده، واعترضوا عليه وخالفوه، كما فعل أولئك الخصوم مع أتباع هذه الدعوة السلفية.
ومما يجدر ذكره أن الخصوم قد يعترضون على الشيخ الإمام في إنكاره دعاء الموتى والاستغاثة بهم، ولكن لا يسمونه دعاء، فقد يسمونه توسلاً – أحياناً – وربما أطلقوا عليه استمداداً، وربما جعلوه تشفعاً، وربما زينوا دعاء الموتى وصيّروه نداء لا دعاء، وكل ذلك يفعله أولئك الخصوم لكي يزينوا للعوام ذلك الشرك بأسماء لا ينفرون منها ...
وقصدهم ومرادهم من تلك الأسماء هو سؤال الموتى، وطلب الحاجات منهم، وطلب حصول الغوث منهم، وسؤال المدد، وشفاء المرض وغيره من الأمور التي لا تسأل ولا تطلب إلا من الله وحده.(131/418)
ويورد الخصوم اعتراضهم على إنكار دعاء الموتى، فيستغربون ويستنكرون المنع من سؤال الموتى والاستغاثة بهم، ثم يوردون ما عندهم من الاستدلالات في إثبات وتجويز دعاء الأموات فيدعون أن سؤال الموتى ودعائهم جائز، كما جاز سؤال الأحياء وطلب عونهم، ووجه المساواة بين الموتى والأحياء هو أن الأموات كالأحياء في الحياة. فلهم حياة برزخية يدركون فيها ويشعرون، ويتصرفون كالأحياء، وأيضاً فالأموات مثل الأحياء في السؤال وطلب الحاجات؛ لأن من سأل ودعا ميتاً معتقداً أن الله هو المؤثر والفاعل، فهذا جائز، مثل سؤال الأحياء، فلا فرق بين الأحياء والأموات، لأن الفاعل حقيقة هو الله، ويدعي أولئك الخصوم أن سؤال الموتى ليس دعاء لهم، بل هو نداء كنداء الغائب، وليس كل نداء دعاء، فيجوز نداء الموتى ما دام أن الذي يناديهم لا يعتقد التأثير لهم، يجعل الله هو المؤثر وحده.
وبهذا يظهر ما تضمنه اعتراض الخصوم – في هذا الفصل – إجمالاً، وسنذكره الآن بشيء من التفصيل مدعماً بأقوال الخصوم من خلال كتبهم:
يقول القباني معترضاً.
(وأما ما ادعاه بأن الاستغاثة هي عبادة لغير الله تعالى، وأنها شرك أكبر من شرك الكفّار، فلم يقم على ذلك الدليل والبرهان..)(1).
ويجوّز القباني الاستغاثة بغير الله فيقول:
(جواز التوسل والتشفع والاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء)(2).
ويدعي القباني أن منع الاستغاثة بالأموات قول محدث فيقول:
(قد قلدت ابن تيمية في عدم جواز التشفع والاستغاثة بمخلوق ميت أو غائب)(3).
ويؤكد الحداد جواز الاستغاثة بالأنبياء، والمرسلين وبالعلماء الصالحين بعد موتهم … ويعلل ذلك بقوله:
__________
(1) فصل الخطاب)، ق 60.
(2) المرجع السابق، ق 19، انظر : ق 27.
(3) المرجع السابق، ق 53.(131/419)
(لأن معجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يأكلون، ويشربون، ويصلون، ويحجون بل وينكحون كما وردت بذلك الأخبار.
والشهداء أيضاً أحياء عند ربهم شوهدوا نهاراً، وجهاراً يقاتلون الكفّار في العالم المحسوس في الحياة وبعد الممات)(1).
ويدعي الحداد أن إنكار الاستغاثة بالأموات من هفوات الشيخ الإمام، فيقول:
(ومن هفوات النجدي إنكار التوسل والاستغاثة والمناداة بأسمائهم أي الأموات ..) (2).
ثم يقول محتجاً: (.. كيف ساغ له أن ينكر على الأكابر، بل يسميهم مشركين لما استغاثوا بالأموات) (3).
ويسوق محسن بن عبد الكريم أقوال أسلافه ممن عارض هذه الدعوة، فأنكروا أن يوجد الشرك في دعاء غير الله، فيقول:
(وألزمهم – أي ألزم يوسف بن إبراهيم الأمير الوهابيين – أن الشرك في الدعاء ليس بشرك أكبر، فلا يخرج به فاعله من دائرة الإسلام بعد تحقق دخوله فيه، وعرفهم أن للدعاء في الآيات والحديث التي تمسكوا بها معنى غير النداء لطلب الحاجات)(4).
ويقول محسن: (وأما المولى عبد الله بن عيسى في كتابه (السيف الهندي) فإنه لم يساعدهم من أول الأمر على تسمية دعاء الأولياء والتوسل بهم معصية فضلاً عن أن يكون شركاً أصغر. فكيف يكون شركاً أكبر مخرجاً عن الإسلام)(5).
__________
(1) مصباح الأنام)، ص 26.
(2) المرجع السابق، ص 54.
(3) المرجع السابق، ص 62.
(4) لفحات الوجد)، ق 18.
(5) المرجع السابق، ق 20.
وقد تضمنت رسالة (في الرد على الوهابية) لعبد الله بن بلفقيه العلوي أدلة كثيرة استدل بها العلوي على أن الشرك في الدعاء ليس بشرك أكبر، والرسالة المذكورة عبارة عن محاورة جرت بين هذا العلوي وبين بعض أتباع الدعوة السلفية سنة 1211هـ، كما ذكر ذلك العلوي في مقدمة رسالته.(131/420)
ويدعي ابن جرجيس أن الواقع لمنع الوهابيين من الاستغاثة بالأنبياء والأولياء بعد موتهم هو عدم إيمانهم بالحياة البرزخية (1)، وابن جرجيس بدعواه تلك قد افترى عليهم بهتاناً عظيماً …
ويدعي ابن جرجيس أن حياة الأنبياء عليهم السلام في قبورهم حياة حقيقية، ويجعل باباً في سماع الموتى يقول فيه:
(ولما كان الميت لا يردّ رداً متعارفاً ،بل رداً نؤمن به ولا نسمعه غالباًلم يحصل حقيقة التكلم .. لا لأن الميت لا يسمع. وهذا ظاهر) (2).
ويقول أيضاً: (وكان بعض من يدعي العلم في زعمه، يقول كيف يعلم الأنبياء والأولياء، بمن يستشفع بهم ويناديهم، فقلت لهم هم مكشوف لهم في الدنيا، وهم على ما هم عليه بعد موتهم) (3).
ويدعي ابن جرجيس أن الأولياء حياتهم حقيقية، فلا مانع من الطلب منهم فلا إثم في ذلك، مادام أن الطالب منهم يعتقد أن الفعل لله وحده، ثم يزيد في كذبه وافترائه، ويدعي إجماع العلماء على جواز الطلب من الموتى.
يقول ابن جرجيس:
(إن الأنبياء والأولياء المنقولين بسيف المجاهدة لله كالشهداء الوارد فيهم النص القرآني في حياتهم الحقيقة. كيف يستغرب طلب التسبب منهم والتشفع .. فهل إذا عامل أحد هؤلاء الذين هذا حالهم معاملة الأحياء يلام على ذلك. أو يعاب، أو يؤثم .. مع اعتقاده أن الفعل لله وحده خلقاً وإيجاداً لا شريك له، وأنه يكون من أهل القبور من الأنبياء والأولياء تسبباً وكسباً) (4).
ثم يقول: (فالأحاديث الواردة في الطلب من الموتى، وأجمع عليها العلماء مبني أمرها على هذا الأصل ..)(5).
__________
(1) انظر (المنحة الوهبية)، ص 4.
(2) المرجع السابق، ص 6.
(3) المرجع السابق ص 15.
(4) المرجع السابق، ص 25.
(5) المرجع السابق، ص 25.(131/421)
ويجوّز ابن داود الهمداني الاستغاثة بالموتى، ويعلل ذلك أن المستغيث بهم يعتقد أن المتصرف في الأمور هو الله، وأنه وحده يملك الضر والنفع، ولكن مع ذلك يوجه الخطاب والطلب إلى المقرب. فالطلب في الحقيقة منه تعالى لا من سواه، وإن كان في الظاهر متوجهاً إلى غيره (1).
ويجوّز ابن داود الاستغاثة بالموتى؛ لأنه لا فرق بين الأحياء والأموات فيقول:
(فإنه لا فرق بين الميت والحي، إلا أن الروح مفارق عن البدن العنصري في الميت وحالّ في الحي، ومتعلق التعظيم، والاستغاثة والمخاطبة والاستجارة ونحوها إنما هو الروح وليس للبدن) (2).
ويدعي دحلان كذلك عدم الفرق بين الأحياء والأموات؛ لأنهم لا يخلقون شيئاً، والمؤثر والخالق هو الله وحده .. كما أن المستغاث به حقيقة هو الله، وأما النبي أو الولي فهو واسطة بينه وبين المستغيث، فالغوث من الله خلقاً وإيجاداً، والغوث من المخلوق تكسباً وتسبباً .. (3).
ويرد دحلان على من جعل دعاء غير الله شركاً، ويسمي دحلان هذا الدعاء نداء، فيقول:
(وشبهتهم التي يتمسكون بها أنهم يزعمون أن النداء دعاء، وكل دعاء عبادة، بل الدعاء مخ العبادة.
__________
(1) انظر : (إزهاق الباطل)، ق 75، 76 باختصار.
(2) المرجع السابق، ق77، باختصار.
وانظر : أدلته على إثبات حياة الموتى، ق 77 – 82.
(3) انظر : (الدرر السنية) ص 13، 14، 17.(131/422)
وحاصل الرد عليهم أن النداء قد يسمى دعاء في قوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً}(1) لكنه لا يسمى عبادة، فليس كل دعاء عبادة، ولو كان كل نداء دعاء وكل دعاء عبادة، لشمل ذلك نداء الأحياء والأموات، فيكون كل نداء ممنوعاً مطلقاً سواء كان للأحياء والأموات، أم للحيوانات والجمادات. وليس الأمر كذلك، وإنما النداء الذي يكون عبادة هو نداء من يعتقد ألوهيته، واستحقاقه للعبادة فيخضعون بين يديه، فالذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد ألوهية غير الله تعالى، أو اعتقاد التأثير لغير الله تعالى، وأما مجرد النداء لمن لا يعتقدون ألوهيته وتأثيره، فإنه ليس عبادة ولو كان ميتاً أو غائباً) (2).
ويورد السمنودي إنكار أئمة الدعوة السلفية الاستغاثة بالموتى في مقام الاعتراض والمخالفة، فيقول عنهم:
(أنكروا جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذا بغيره من الأنبياء والصالحين والأولياء. بل تجاوزوا الحد فزعموا أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذا بغيره ممن ذكروا شرك أكبر..) (3).
ويقرر السمنودي أن حياة الموتى في قبورهم حياة حقيقية، فبعد أن ساق حديث حمل الجنازة والإسراع بها، وأنها إن كانت صالحة قالت قدموني .. الحديث قال السمنودي بعد إيراد هذا الحديث:
(فهذا يدل على أن الميت يتكلم حقيقة بلسان المقال بحروف وأصواتاً يخلقها الله تعالى فيه، وأسند الفعل إلى الجنازة وأراد الميت) (4).
ويجوّز الطباطبائي الاستغاثة بالموتى، وأنها ليست بشرك فيقول:
__________
(1) سورة النور : آية 63.
(2) الدرر السنية)، ص 34.
(3) سعادة الدارين)، 1/151.
(4) المرجع السابق، 1/341.
ونقل السمنودي بعض ما سطّره ابن جرجيس في مسألة سماع الموتى وتزاورهم وتصرفهم بعد موتهم، وزاد عليه. انظر : (سعادة الدارين)، 1/335، 336.(131/423)
(وأما عدم كون التوسل بالميت إلى الله شركاً، فلأنه نظير التوسع بالحي وسؤاله قضاء الحوائج بواسطة دعائه من الله تعالى، فكما أنه ليس من الشرك، كذلك التوسل بالميت، فيجعل أحد التوسلين كالآخر، بجامع السؤال من المخلوق، إذ لا وجه لتوهم كونه شركاً، إلا كونه دعاء لغير الله تعالى، فإذا جاز بالنسبة إلى الأحياء جاز مطلقاً.. وذلك لوقوع نداء المخلوق والدعاء، والالتماس له في الكتاب لقوله سبحانه { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه}(1) وسؤال قوم موسى منه الاستسقاء، وقال سبحانه حكاية عن يوسف (اذكرني عند ربك) (2). فلو جازت هذه الأسئلة ولم تكن شركاً جاز سؤال الأنبياء والأولياء عند الوقوف على قبورهم، أو من مكان بعيد إجابة للمضطر)(3).
ويدعي الطباطبائي عدم التفريق بين الحي وبين الميت؛ لأن للميت من الإدراك والشعور مثل ماله حال الحياة، بل يدعي أن الميت يزيد على الحي في الإدراك، وأن الكتاب، والسنّة والإجماع قد دلّ على ذلك (4).
ويزعم الطباطبائي أن الأنبياء قد استعانوا بغير الله فيقول:
(فالأنبياء مع أنهم معصومون، استعانوا بغير الله تعالى، حتى نزل في حق محمد صلى الله عليه وسلم (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)(5) فكيف تنكر الوهابية جواز الاستمداد بالمخلوق) (6).
ويذكر الطباطبائي مقالة الوهابيين في شأن دعاء غير الله، ثم يردها.. فيقول:
(وثالثها قول الوهابية: أن الدعاء مخ العبادة، والعبادة لا تجوز لغير الله تعالى، لأنها شرك.
__________
(1) سورة القصص : آية 15.
(2) سورة يوسف : آية 42.
(3) البراهين الجلية)، ص 27، باختصار.
(4) انظر : المرجع السابق ص 24 – 27.
(5) سورة الأنفال : آية 64.
(6) البراهين الجلية)، ص 33 ،34.(131/424)
والجواب عنه: المنع عن أن مطلق الدعاء عبادة فضلاً عن أين يكون روح العبادة، وإنما الدعاء من الدعوة، ومنها قوله تعالى: (ندع أبناءنا) (1)– وذكر الطباطبائي آيات أخرى، إلى أن قال -: فإن المراد من الدعاء فيها النداء، وليس كل نداء دعاء، وكل دعاء عبادة، بل ولا دعاء الله عبادة لمحض ندائه ومجرد خطابه..) (2).
وعقد النبهاني في كتابه (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) باباً يتكون من أربعة فصول لتقرير مشروعية الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والأولياء أحياءً وأمواتاً (3).
ويدعي النبهاني أن هؤلاء المستغيثين بالموتى يعترفون بأن الله وحده هو الفعّال فلا حرج عليهم في ذلك.. يقول:
(وأنت إذا نظرت إلى كل فرد من أفراد المسلمين عامتهم وخاصتهم، لا تجد في نفس أحد منهم غير مجرد التقرب إلى الله لقضاء حاجاتهم الدنيوية والأخروية بالاستغاثات. مع علمهم بأن الله هو الفعّال المطلق المستحق للتعظيم بالأصالة وحده لاشريك له)(4).
ويدعي الزهاوي تجويز العلماء الأجلاء الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
(وقد جوّز العلماء الاستغاثة والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإطلاق لفظ الاستغاثة على من يحصل منه غوث ولو تسبباً وكسباً أمر نطقت به اللغة، وجوّزه الشرع..) (5).
ويجوّز الزهاوي الاستغاثة بالموتى، لأن الموتى لهم حياة وسماع مثل الأحياء، فيقول:
(لا يقال أن حياة الأنبياء والشهداء غير الحياة الدنيوية، فلا تنطبق هذه على تلك، لأنا نقول لو سلمنا أن تلك الحياة ليست من نوع الحياة الدنيوية، فمجرد ثبوت الحياة لهم أي حياة كانت، كاف لثبوت السماع لهم وتجويز التوسل والاستغاثة بهم..)(6).
__________
(1) سورة آل عمران : آية 61.
(2) البراهين الجلية)، ص 39 ،40.
(3) انظر (شواهد الحق)، ص 98 – 121.
(4) 10) المرجع السابق، ص 116، باختصار.
(5) الفجر الصادق)، ص 54.
(6) المرجع السابق، ص 68.(131/425)
ويبيح الدجوي الاستغاثة بغير الله من الموتى والغائبين، ويذكر المسوّغات لتجويز دعواه فيقول:
(فالمستغيث لا يعتقد أن المستغاث به من الخلق مستقل في أمر من الأمور غير مستمد من الله تعالى، أو راجع إليه. وذلك شيء مفروغ منه، ولا فرق في ذلك بين الأحياء والأموات، فإن الله خالق كل شيء..) (1).
كما يدعي الدجوي أيضاً عدم الفرق بين الأحياء، والأموات، لأن الأموات لهم حياة مثل الأحياء، فيقول:
(لا فرق بين الحي والميت، فإن منزلته ميتاً كمنزلته حياً؛ لأن الفاعل حقيقة هو الله .. كما أن الأرواح بعد موتها باقية مدركة فاهمة على نحو ما كانت عليه في حياتها أو أشد، ولذلك يتساءلون عن الأحياء، ويفرحون، ويحزنون بما يكون منهم..)(2).
ويسوّغ محمد حسنين مخلوف الاستغاثة بالرسول فيقول:
(الدعاء بنحو أغثني أو أعني يا رسول الله ليس توسلاً ممنوعاً بل هو جائز سائغ، فإن الاستغاثة طلب الغوث والتخلص من البلية. وهذا كما يسند إلى الله تعالى، يسنده إلى غيره.. وكذلك الاستعانة فإنها طلب المعونة من الغير، وهي من الله تعالى خلق الفعل في العبد، ومن العباد المشاركة في الفعل ليسهل..) (3).
ويقول مخلوف:
(أن الاستغاثة تستعمل تارة في طلب الإغاثة بمعنى خلق التخلص من البلية وهذا مختص به تعالى، وتارة في طلب الإغاثة بمعنى السعي في التخلص من الشدة وهذا المعنى يصح إسناده إلى العباد) (4).
__________
(1) المقالات الوفية) (تقريظ الدجوي تلك المقالات...) ص 223 ،224 بتصرف يسير.
وانظر ما كتبه الدجوي في مجلة نور الإسلام، المجلد الأول، مقال حكم التوسل بالنبي، ص 589.
والمجلد الثاني، مقال التوسل وجهلة الوهابيين، ص 30.
(2) المرجع السابق، نفس الصفحات.
(3) رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء) (ضمن مجموعة كتب) ص 173 بتصرف يسير.
(4) المرجع السابق، ص 175.(131/426)
ويجوّز حسن الشطي الإستغاثة بالأنبياء، والأولياء والصالحين حال حياتهم، وبعد مماتهم بحجة أن: (الاستغاثة والطلب في حقيقة الأمر من الله تعالى لا من غيره فلا يصح القول بمنعها) (1).
ويسوق العاملي ما ذكره الشيخ الإمام في حكم من استغاث بغير الله، وذلك في مقام الاعتراض عليه، والإنكار لمقالته فيقول العاملي:
(وصرّح محمد بن عبد الوهاب بأن دعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله موجب للارتداد عن الدين، والدخول في عداد المشركين) (2).
ويرد العاملي على الوهابيين في منعهم من الاستغاثة بالمصطفى بعد وفاته وسائر الأنبياء، فيقول :
فإن كان منعه لأنه خطاب غير قادر على سماع الكلام فالنبي محمد وسائر الأنبياء أحياء بعد الموت (3).
ويجوّز العاملي دعاء الأنبياء مادام أن الداعي لا يعتقد استقلالاً لهم بقضاء الحاجات، فيقول:
(فدعاء الأنبياء والصالحين ليس دعائهم بالذات بأن يحسبوا كافين في قضاء الحاجة، وإنجاح المأمور ..
وأما الذين يحسبهم كفاة مستقلين في دفع مكروه أو جلب نفع واستغنى بذلك عن دعوة الله فنحن أيضاً نحكم بكفره وشركه)(4).
ويسوق سوقية دليلاً على حياة الموتى فيقول:
__________
(1) النقول الشرعية)، ص 113.
(2) كشف الارتياب)، ص 269.
(3) المرجع السابق، ص 278.
وقد جعل العاملي في كتابه المذكور ثلاثة فصول، الأول في حياة النبي بعد موته، والثاني في حياة سائر الأنبياء والشهداء، والثالث في حياة سائر الناس (انظر : (كشف الارتياب)، ص 109-114).
وكان العاملي بتلك الفصل، يقلد أسلافه من أمثال جعفر النجفي الذي اتخذ تلك الفصول (انظر : كتابه (منهج الرشاد)، ص 51-55)، وقد ادعى جعفر النجفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره يسمع الكلام، ويرد الجواب كما في حياته، غير أن الله حبس سمع الناس إلا قليلاً من الخواص.
(4) المرجع السابق، ص 45 – 47 باختصار.(131/427)
(فالحياة ثابتة قطعاً لا يشك فيها مؤمن .. خلافاً لهذه الفرقة المغرورة الشاذة، بل إن علماء أوربا يقولون بخلود الأرواح وقد توصلت لاستحضارها ومخاطبتها بالنوم .. مما يدل دلالة قاطعة على الحياة بعد الموت)(1).
ويزعم محمد بن أحمد نور – فيما نقله عنه الشيخ صالح بن أحمد – أن تفسير قوله تعالى – في شأن الشهداء – (بل أحياء ولكن لا تشعرون) (2) هو: (أن الشهداء أحياء، ولكن لا تشعرون ما هم فيه من الحال من تنعيم وفرح وسرور واستبشار) (3).
ويجوّز محمد الطاهر يوسف الاستغاثة بالأموات، ويعلل ذلك (بأن استناد الإغاثة إلى الله استناد حقيقي، واستنادها إلى الخلق مجازي، ولا فرق بين الحي والميت؛ لأن المتولي لأمورهم في الدارين هو الله الذي أكرمهم بفضله) (4).
وبعد إيراد اعتراض أولئك الخصوم على إنكار أئمة الدعوة السلفية الاستغاثة بالموتى ودعاءهم، وما تضمنه هذا الإيراد من بيان بعض استدلالاتهم وحججهم في ذلك، بعد ذلك نسوق بعض ما كتبه أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في تقرير وتأكيد أن الدعاء عبادة يجب صرفها لله وحده، وأن من دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر. وسيتضح هذا جلياً من خلال أجوبتهم ومناقشتهم لأقوال الخصوم.
لقد ركز الشيخ الإمام على عبادة الدعاء، وبيّن وجوب صرفها لله وحده سواء كان الدعاء دعاء مسألة، أو دعاء عبادة، وعقد باباً في كتابه (كتاب التوحيد) بعنوان: (باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره) (5).
__________
(1) تبيين الحق والصواب، ص 18.
(2) سورة البقرة : آية 154.
(3) نقلاً عن : (تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور)، ص74.
(4) قوة الدفاع والهجوم)، ص 12، 13 بتصرف يسير. وانظر : كتاب (الحقائق الإسلامية)، ص 39.
(5) مجموعة مؤلفات الشيخ، 1/42.(131/428)
وألف الشيخ الإمام رحمه الله رسالة موجزة في مسائل مستنبطة من قول الله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) (1) ، فقال رحمه الله فيها عشرة درجات .. نختار منها قوله:
الأولى: تصديق القلب أن دعوة غير الله باطلة، وقد خالف فيها من خالف.
الثانية: أنها منكر يجب فيها البغض، وقد خالف فيها من خالف.
الثالثة: أنها من الكبائر، والعظائم المستحقة للمقت والمفارقة وقد خالف فيها من خالف.
الرابعة: أن هذا هو الشرك بالله الذي لا يغفره، وقد خالف فيها من خالف.
الخامسة: أن الداعي لغير الله لاتقبل منه الجزية كما تقبل من اليهود، ولا تنكح نساؤهم كما تنكح نساء اليهود، لأنه أغلظ كفراً) (2).
ولما دخلت جيوش الموحدين مكة سنة 1218هـ، كان مما حدث مع علماء مكة ما سطّره الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:
__________
(1) سورة الجن : آية 18.
(2) مجموعة مؤلفات الشيخ)، 1/388، 389، باختصار.(131/429)
(عرّفناهم أنّا دائرون مع الحق أينما دار، وتابعون للدليل الجلي الواضح، ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمراً فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات إن بقي لديهم شبهة، فذكر بعضهم شبهة أو شبهتين، فرددناها بالدلائل القاطعة من الكتاب والسنّة حتى أذعنوا، ولم يبق عندهم أحد منهم شك ولا ارتياب فيما قاتلنا الناس عليه، أنه الحق الجلي الذي لا غبار عليه، وحلفوا لنا الأيمان المعقدة من دون استحلاف على انشراح صدورهم، وجزم ضمائرهم، أنه لم يبق لديهم شك في من قال: يا رسول الله أو قال ابن عباس، أو يا عبد القادر، أو غيرهم من المخلوقين طالباً بذلك دفع شر أو جلب خير في كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من شفاء المريض، والنصر على العدو، ونحو ذلك أنه مشرك الشرك الأكبر الذي يهدر دمه ويبيح ماله، وإن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هو الله وحده، لكنه قصد المخلوقين بالدعاء متقرباً لهم لقضاء حاجته) (1).
وقد سبق – في فصل تحريم التوسل – بيان بطلان أن تكون الاستغاثة بالأنبياء وغيرهم بمعنى التوسع من عدة أوجه، كما قرر ذلك في كتاب (التوضيح) فأغنى عن إعادته وتكراره (2).
ويبين الشيخ حمد بن ناصر بن معمر – رحمه الله – بطلان دعاء الموتى فيقول:
__________
(1) الهدية السنية)، ص 36، 37.
(2) انظر : كتاب (التوضيح عن توحيد الخلاق)، ص 307 – 312.(131/430)
(نحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، بل نعلم أنه نهى عن كل هذا الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله ….يقول تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً) (1) فهذه الآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو (2) يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته. ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين فقد تناولته هذا الآية، وقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله..) (3)
ويوضح الشيخ حمد حكم من دعا ميتاً أو غائباً فيقول:
(من دعا ميتاً أو غائباً فقال يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني، أو اكشف عني شدتي، ونحو ذلك فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم لم يكونوا يقولون: أنها تخلق، وترزق وتدبر أمر من دعاها بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع في كتابه، وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها..)(4).
ويسوق الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – إجماع العلماء في حكم من صرف الدعاء لغير الله فيقول:
__________
(1) سورة الإسراء : آية 56، 57.
(2) أي من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين.
(3) الهدية السنية)، ص 54، 55 باختصار.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل)، 4 / 596.(131/431)
(اعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء – أي دعاء العبادة ودعاء المسألة – لغير الله فهو مشرك، ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام. إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله فمن أتي بالشهادتين وعبد غير الله، فما أتي بهما حقيقة وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون لا إله إلا الله وهم مشركون) (1).
ومما أورده الشيخ سليمان في شرحه للآية الكريمة وهي قوله تعالى: {ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } (2) – أثناء شرحه لباب (من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره من (كتاب التوحيد) – يقول رحمه الله.
(حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، واستغاثة من هذه حاله، ومعنى الاستفهام في إنكار أن يكون الضلال كلهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه، حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام، ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم ولا قدرة على استجابة أحد منهم مادام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة) (3).
ولما سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن حكم الاستغاثة بالموتى، كان مما قاله رحمه الله:
__________
(1) تيسير العزيز الحميد)، ص227.
وانظر : الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال العلماء في بيان أن الاستغاثة بغير الله شرك أكبر يخرج عن دين الإسلام:
(تيسير العزيز الحميد)، ص 214 – 236.
(2) سورة الأحقاف : آية 5.
(3) تيسير العزيز الحميد)، ص 239.(131/432)
(وأما مسألة – استغاثة الأحياء بالموتى في طلب الجاه والسعة والرزق والأولاد فالجواب هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وهذا شرك في الربوبية، والألوهية، وقد كان شرك المشركين في جاهليتهم بطلب الشفاعة والقربة، وأما طلب الرزق والأولاد وشفاء المرضى فقد أقروا بأن آلهتهم لا تقدر على ذلك كما قال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } (1) (2).
ويقول الشيخ أيضاً في مسألة سماع الموتى:
(ومن قال أن الميت يسمع، ويستجيب، فقد كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه .. قال تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون) (3) (4).
ويبين الشيخ عبد الرحمن خطورة دعاء الموتى والتعلق بهم، ثم يبطله فيقول:
(إن التعلق بالأموات والالتجاء والرغبة إليهم هو أصل دين المشركين.
__________
(1) سورة يونس : آية 31.
(2) مجموعة الرسائل والمسائل)، 2/36.
(3) سورة الأحقاف : آية 5.
(4) مجموعة الرسائل والمسائل)، 2/37.(131/433)
ويترتب على ذلك من أنواع العبادة جلها ومعظمها، كالمحبة والدعاء، والتوكل والرجاء ونحو ذلك، وكل هذا عبادة لا يصلح منه شيء لغير الله أبداً. ولو جاز التعلق بالأموات، لجاز أن يستظهر العبد بالحفظة من الملائكة الذين هم لا يفارقونه بيقين، وهم كما وصف الله: {عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (1)، وهذا لا يقوله مسلم أصلاً، بل لو فعله أحد لكان مشركاً بالله، فإذا لم يجز ذلك في حق الملائكة الحاضرين، فإنه لا يجوز في حق أرواح أموات قد فارقت أجسادها لا يعلم مستقرها إلا الله من باب أولى، قال تعالى: { والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون}(2)(3).
ويوضح الشيخ عبد الرحمن بن حسن كيف كان الاستمداد بالأموات شركاً أكبر فيقول:
(إن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية وأجمعها لأعمال القلوب.
كما أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعياً، وراغباً، وراهباً، وخاشعاً، ومتذللاً، ومستعيناً. فإن الاستمداد طلب المدد بالقلب، واللسان، والأركان ولابد، وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده، فقد ألهمه العبد، فإذا صرف لغير الله تعالى صار مألوهاً له) (4).
ويرد الشيخ عبد الرحمن دعواهم في التفريق بين الدعاء والنداء، ويثبت أنهما مترادفان، ويذكر الأدلة القرآنية التي تدل على أنهما بمعنى واحد ومنها ما قاله – رحمه الله -:
__________
(1) سورة الأنبياء : آية 26، 27.
(2) سورة النمل : آية 26، 27.
(3) مجموعة الرسائل والمسائل)، 4/385 – 387 باختصار.
(4) الدرر السنية)، 9/152 بتصرف يسير.(131/434)
(قال تعالى: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء) (1) فعطف النداء على الدعاء عطف مرادف.
ومما يوضح ترادف النداء والدعاء وأنهما بمعنى واحد، ما أخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام بقوله: (ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له) (2) فأخلص القصد لله بندائه في كربه وشدته فاستجاب الله له. وقال في الآية الأخرى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)(3) فسماه تعالى دعاء (4).
ومما كتبه الشيخ أبو بطين – رحمه الله – في شأن الحياة البرزخية للشهداء، والحياة البرزخية للمصطفى صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
(فحياتهم برزخية الله أعلم بحقيقتها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنّة، ومن شك في موته فهو كافر، وكثير من الناس خصوصاً في هذه الأزمنة، يدعون أنه صلى الله عليه وسلم حي كحياته لما كان على وجه الأرض بين أصحابه، وهذا غلط عظيم، فإن الله سبحانه أخبر بأنه ميت، وهل جاء أثر صحيح أنه باعثه لنا في قبره مثل حياته على وجه الأرض يسأله أصحابه عما أشكل عليهم، ومعلوم ما صار بعده صلى الله عليه وسلم من الاختلاف العظيم، ولم يجيء أحد إلى قبره صلى الله عليه وسلم يسأل عما اختلفوا فيه، وفي الحديث المشهور (ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) (5). فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست دائمة في قبره) (6).
__________
(1) سورة البقرة : آية 171.
(2) سورة الأنبياء : آية 76.
(3) سورة القمر : آية 10.
(4) القول الفصل النفيس)، ص 29، 30.
(5) رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهما. وقال عنه ابن تيمية : إسناده جيد، وصححه ابن القيم في (جلاء الأفهام) عن كتاب (النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد)، ص121 باختصار.
(6) مجموعة الرسائل والمسائل) 2 /128 باختصار.(131/435)
ويشير أبو بطين إلى كثرة وقوع الاستغاثة بالنبي عند المتأخرين، وما كتبه ابن تيمية في ذلك، فيقول أبو بطين رحمه الله:
(والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم صدرت من كثير من المتأخرين ممن يشار إليهم بالعلم، وقد صنف رجل يقال له ابن البكري كتاباً في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورد عليه الشيخ ابن تيمية، بين فيه بطلان ما ذهب إليه وبين أنه من الشرك. قال الشيخ رحمه الله:
(وقد طاف هذا – يعني ابن البكري – على علماء مصر، فلم يوافقه منهم أحد، وطاف عليهم بجوابي الذي كتبته، وطلب منهم معارضته، فلم يعارضه أحد منهم، مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى ..)(1).
ويرد الشيخ أبو بطين على افتراء داود، حين زعم الإجماع على مشروعية الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال رحمه الله:
(ثم زعم أن الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم في الشدائد أمر مشهور معمول به عند الصحابة والتابعين، فنسب إلى خير القرون ما هم أبعد الناس عنه، ويكفي في إبطال الشبهة كلّها قول الله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله) (2)، وقوله سبحانه: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً) (3)، وهذا في حال حياته صلى الله عليه وسلم فكيف الحال بعد الممات) (4).
ويستنكر الشيخ أبو بطين دعوى التفريق بين الدعاء والنداء، ثم يبطلها، فيقول رحمه الله:
__________
(1) المرجع السابق، 2 / 242.
(2) سورة الأعراف : آية 188.
(3) سورة الجن : آية 21.
(4) تأسيس التقديس)، ص 114.(131/436)
(ومن العجب قول بعض من ينسب إلى علم ودين أن طلبهم من المقبورين والغائبين ليس دعاء لهم بل هو نداء، أفلا يستحي هذا القائل من الله إذا لم يستح من الناس من هذه الدعوى الفاسدة السّمجة التي يروج بها على رعاع الناس. والله سبحانه وتعالى قد سمى الدعاء نداء كما في قوله: {إذ نادى ربه نداء خفياً} (1)، وقوله تعالى: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (2) وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربه حاجة، وبين ما إذا طلبها من غيره ميت أو غائب، بأن الأول يسمى دعاء والثاني نداء؟ وما أسمج هذا القول وأقبحه .. وهو قول يستحي من حكايته لولا أنه يروج على الجهال) (3).
ويقول الشيخ محمد بن ناصر التهامي مبيناً تحريم دعاء غير الله:
(فإذا رددنا ما تنازعنا فيه، وقلنا بتحريم دعوة غير الله والاستغاثة به.. وجدنا القرآن ينادي بالنهي عن دعوة غير الله ويختمها بالوعيد الشديد لمن فعل ذلك، ولو لم يحتج على صاحب الرسالة إلا بآية واحدة، لانقطعت حجته، ووهت شبهته، والسنة كذلك تنادي في النهي عن أن يدعى مع الله غيره، كما في (الصحيح) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار) (4). ومسمى الدعاء هو السؤال والطلب لغة وشرعاً، والند هو الشبه والمثل. فمن استغاث بغير الله من ميت أو غائب، أو دعاه فقد شبهه بالله الذي يصمد إليه كل مخلوق في كل ما يحتاجون إليه في دنياهم وأخراهم) (5).
كما أن القول بتحريم دعاء غير الله واعتباره من الشرك الأكبر المخرج من الملة ليس مما انفرد واختص به الشيخ ابن عبد الوهاب، بل جمهور أهل العلم على ذلك … فيقول الحازمي مدافعاً عن الشيخ الإمام.
__________
(1) سورة مريم : آية 3.
(2) سورة الأنبياء : آية 87.
(3) الانتصار)، ص 25.
(4) رواه البخاري.
(5) إيقاظ الوسنان)، ق 26 باختصار.(131/437)
(إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – ليس أول من فتح هذا الباب، بل ما ذكره هو ما عليه جمهور العلماء.. فهو يقول لا يدعى في الممات إلا الله عز وجل وأكثر الخلق يدعون سواه في كل محل، إذا عثرت دابة نادى من يعتقده كالشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد بن علوان، أو العيدروس، أو البدوي، أو العلوي، وإذ مسّهم الضر في البحر، دعى كل واحد منهم شيخ بلده في زعمه، ويقول ابن عبد الوهاب: هذا فعل المشركين؛ وليس هو أول من قال هذه المقالة بل قد سبق إليها..) (1).
ويبطل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن دعوى تصرف الموتى فيقول رحمه الله:
(وأما القول بالتصرف بعد الممات، فيقول تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (2) وقوله سبحانه: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى)(3) وقوله: (كل نفس ذائقة الموت) (4)، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله.. الحديث) (5). فجميع ذلك دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، فإن أرواحهم ممسكة، وإن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أن ليس للميت تصرف في ذاته، فضلاً عن غيره بحركة، وإن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره..) (6).
ويتحدث الشيخ عبد اللطيف عن مسألة سماع الموتى فيقول:
__________
(1) المرجع السابق، ص 11 باختصار.
(2) سورة الزمر : آية 30.
(3) سورة الزمر : آية 42.
(4) سورة الأنبياء : آية 35.
(5) رواه مسلم.
(6) البراهين الإسلامية)، ق10 باختصار يسير.(131/438)
(واعلم أن مسألة السماع فيها كلام للمحققين لا يحيط به علماً إلا من فقه عن الله قلبه، ودق في باب العلم نظره وفهمه.. فتأمل قوله تعالى: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم.. الآية) (1).
فإن هذه الآيات فيها دعوى نفي الإجابة فقط مع بقاء أصل السماع، لئلا يتحد فعل الشرط وجوابه، والأظهر أن سماع الميت مقيد بحال دون حال، لا في جميع حالاته) (2).
ويبين الشيخ عبد اللطيف اختلاف حياة البرزخ عن حياة الدنيا فيقول:
(والذي دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع الأمة أن الحال بعد مفارقة الأرواح للأبدان ليست كحال الحياة من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها ويكفي المؤمن قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..) (3)فهذا الحديث يدخل تحته جميع أعماله الباطنة والظاهرة، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأن الأسباب الحسية تزول بالموت، فكيف بغيره، وإذا كان لا يملك لنفسه شيئاً وعمله قد انقطع فكيف يتصرف، ويدبر ويستمد منه، وتطلب منه الحوائج إن هذا لهو الضلال المبين)(4).
وينقل الشيخ عبد اللطيف نصاً نفيساً لابن تيمية – رحمه الله – في بطلان الاستغاثة بالأموات، وآثارها السيئة ..، وأن الاستغاثة بالله وحده هي سبب انتصار المسلمين على التتار – آنذاك -، يقول ابن تيمية:
__________
(1) سورة فاطر : آية 13.
(2) البراهين الإسلامية)، ق14، 15.
(3) رواه مسلم.
(4) 10) (البراهين الإسلامية)، ق36، 37.(131/439)
(ونحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء، ولا غيرهم بلفظ الاستغاثة ولا غيرها .. وربما قصدوا الأموات في ضرورة نزلت بهم فيدعون دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم .. حتى أن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور قال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر.. لوذوا بقبر أبي عمر … ينجيكموا من الضرر
فقلت لهؤلاء الذين يستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال، لا نهزموا كما انهزم المسلمون يوم أحد، فإنه كان قد قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة كانت لله في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، فلما كان ذلك بعد ذلك جعلنا نأمر بإخلاص الدين لله والاستعانة به، وأنهم لا يستعينون إلا به، ولا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل.
فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم الله على عدوهم نصراً عزيزاً لم يتقدم نظيره، ولم يهزم التتار مثل هذه الهزيمة أصلاً..) (1).
ويرد الشيخ عبد اللطيف على افتراء داود ابن جرجيس حين كذب، وزعم إباحة دعاء الموتى فقال الشيخ عبد اللطيف:
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل)، 3/409.(131/440)
(من المستحيل شرعاً وفطرةً وعقلاً أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول القائل يا علي، أو يا حسين أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو نحو ذلك من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله والتسوية به تعالى وتقدس (1)وقد نص على ذلك مشايخ الإسلام حتى ذكره ابن حجر في (الأعلام) (2) مقراً له) (3).
ويؤكد الشيخ عبد اللطيف أن دعاء الموتى شرك أكبر، وإجماع العلماء على ذلك فيقول:
(الأدلة والنصوص متواترة متظاهرة على أن طلب الحوائج من الموتى، والتوجه إليه شرك محرم، وأن فاعله من أسفه السفهاء، وأضل الخلق وأنه ممن عدل بربه، وجعل له أنداداً وشركاء في العبادة التي لا تصلح لسواه، ولا تنبغي لغيره، وأنه أصل شرك العالم، وقد حكى الإجماع على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كلامه، وكذلك ابن قيّم الجوزية قرر تحريمه، وأنه من الشرك الأكبر، وأنه أصل شرك العالم في كتابه (إغاثة اللهفان) وغيره، وابن عقيل كفّر بطلب الحوائج من الموتى) (4).
ويكشف الشيخ عبد اللطيف عما لبّس فيه المخالفون حين ادعوا الحياة الحقيقية للموتى – كما لهم في الدنيا - ومن ثم جوّزوا سؤالهم، فيقول جواباً على هذا التلبيس:
__________
(1) يقصد الشيخ عبد اللطيف بالتسوية بالله أي في ألوهيته وعبادته وليس في ربوبيته، لأن كفار مكة يقرون بتوحيد الربويية كما هو معلوم، انظر : تفصيل ذلك : (تيسير العزيز الحميد)، ص469.
(2) أي ابن حجر الهيتمي في كتابه (الأعلام بقواطع الإسلام).
(3) دلائل الرسوخ)، ص 79 باختصار.
(4) مصباح الظلام)، ص 252.(131/441)
(ليست حياة الأنبياء والشهداء كما يظنه هؤلاء وأسلافهم من الصابئة من أن لهم علماً بحال من دعاهم، وقدرة على إجابته، وتصرفاً في العالم وجولاناً في الملكوت، ويكفي المؤمن في بيان حياتهم والإشارة إلى حقيقتها قوله تعالى: (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما صحَّ عنه ((أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت)(2)، ويكفي في إبطال قول الصابئة وورثتهم قوله تعالى في المسيح: { وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد } (3) فإن في هذه الآية ما يدل على أنه عليه السلام لا علم له بما صدر وجرى منهم بعد وفاته وأنه إنما يشهد بما كان منهم مدة حياته، وبقائه فيهم، ولا يعلم سواه ..) (4).
ويرد الشيخ عبد اللطيف على من ادعى حياة الأنبياء بعد وفاته كحياتهم الدنيا، فقال الشيخ رحمه الله:
(إن هذه مقالة جاهل لا يفرق بين حياة الأنبياء والشهداء بعد الموت، وحياتهم في الدنيا فظنّ الغبي أنها هي الحياة الدنيوية ولذلك نفى الموت، والله تعالى يقول { إنك ميت وإنهم ميتون } (5) والحياة البرزخية تجامع الموت ولا تنافيه كحال الشهداء) (6).
ويرد الشيخ عبد اللطيف دعوى داود حين ظنّ جواز دعاء الموتى، مادام أن الذي يدعوهم ويستغيث بهم يعتقد أن الفاعل والموجد هو الله وحده، ثم يرد ويبطل الشيخ عبد اللطيف تفريق داود بين الدعاء والنداء، فقال رحمه الله:
__________
(1) سورة آل عمران : آية 169.
(2) رواه مسلم.
(3) سورة المائدة : آية 117.
(4) مصباح الظلام)، ص 291.
(5) سورة الزمر : آية 30.
(6) مصباح الظلام)، ص 249.(131/442)
(وهذا الأحمق زاد قيداً، فقال لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله، وفي تلبية المشركين في الجاهلية لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين. وقوله وهذا نداء لا دعاء من أدل الأشياء على جهله، فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر أو النهي ويقابله النجا الذي هو المسارة وخفض الصوت. هذا بإجماع أهل اللغة كما حكاه ابن القيم في نونيته، وشيخ الإسلام في تسعينيته، وليس قسيماً للدعاء، قال تعالى: { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم}(1) الآية، فما فعلوه هو عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله.
وقال تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه) (2) ونوحاً إذ نادى من قبل) (3) وسمى هذا النداء دعاء في كتابه العزيز، قال عن نوح عليه السلام: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) (4)، وقال: (هنالك دعا زكريا ربه) (5) وفي الحديث: (دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه) (6) – وذكر الشيخ عبد اللطيف غيرها من النصوص، إلى أن قال: فانظر هذه النصوص وما أفادت من إطلاق اسم الدعاء على المسألة والطلب) (7).
__________
(1) سورة الكهف : آية 52.
(2) سورة الأنبياء : آية 83.
(3) سورة الأنبياء : آية 76.
(4) 10) سورة القمر : آية 10.
(5) 11) سورة آل عمران : آية 38.
(6) رواه أحمد والترمذي والنسائي.
(7) دلائل الرسوخ)، ص 81، 82.(131/443)
ولما سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن – رحمهم الله – عن بعض الأحاديث التي وصفت موسى عليه السلام في حياة البرزخ، فأجاب عن ذلك جواباً شافياً، وضّح فيه وبيّن ما تختص به الحياة البرزخية وتتميز به عن الحياة الدنيوية، ثم نقل جواباً لابن تيمية رحمه الله في الجواب على ذلك السؤال، سئل الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن عما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى وهو يصلي في قبره، ورآه يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك الأنبياء فأجاب :
(هذه الأحاديث وأشباهها تمر كما جاءت ويؤمن بها، إذ لا مجال للعقل في ذلك، ومن فتح على نفسه هذا الباب هلك، في جملة من هلك، فهذه الأحاديث التي مر البحث فيها خاض فيها بعض الزنادقة، وصنف مصنفاً بناه عليها، وجادل وماحل في أن من كان حياً هذه الحياة التي أطلقت في القرآن فينبغي أن ينادى، لا فرق عند هذا الجاهل بين الحياة الحسية والبرزخية، لأنه اشتبه عليه أمر هذه الصلاة .. ولم يعلم أنه لا خلاف في أن أهل البرزخ يجري عليهم من نعيم الآخرة ما يتلذذون به مما هو ليس من عمل التكليف، ومعاذ الله أن نعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، والحديث عام؛ لأن المقصود به جنس بني آدم؛ لأن الفرد يعم كما هو مقرر في محاله، ألم يعلم المسكين أن البرزخ طور ثان وله حكم ثان؟ إذ لو كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة أن يلاقي الأولياء والأفاضل كما زعم بعض المصنفين، لبطل حكم الاجتهاد بعده، ولم يتراجع الصحابة رضوان الله عليهم بعده مسائل طال فيها نزاعهم إلى زماننا هذا، إذا تحققت هذه الإشارة، وتأملتها، فلابد أن أنقل كلام ابن تيمية قدس الله روحه في أحاديث السؤال:(131/444)
(قال رحمه الله: أما رؤيا موسى في الطواف فهذا كان رؤيا منام لم يكن ليلة المعراج، كذلك جاء مفسراً لما رأى المسيح أيضاً، ورأى الدجال، أما رؤيته ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صورة أبدانهم .. وأما كونه رأى موسى يصلي في قبره، ورآه في السماء أيضاً، فهذان لا منافاة بينهما فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة، في اللحظة الواحدة تصعد وتهبط، كالملك ليست كالبدن …. إلى آخر ما نقله) (1).
ويورد الشيخ أحمد بن عيسى الأدلة المتعددة على ترادف الدعاء والنداء وأنهما بمعنى واحد، فكان مما قاله رحمه الله رداً على من فرق بينهما :
(كأنه لم يسمع ما ذكره الله في كتابه من أن مدلول النداء والدعاء واحد، قال الله تعالى: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا. إذا نادى ربه نداء خفياً، قال رب إني وهن العظم مني)(2) فقوله: (رب) هذا هو الدعاء، سماه نداء، ثم قال (ولم أكن بدعائك رب شقياً)(4) فتبين أن النداء في هذه الآية هو الدعاء لا غير.
وقال في سورة آل عمران: (هنالك دعا زكريا ربه قال رب)(3) فقوله: (رب) هو الدعاء في قوله: (هنالك دعا)، وفي سورة مريم قال: (إذ نادى)، وفي سورة آل عمران قال: (دعا) والصيغة واحدة. ثم قال: { إنك سميع الدعاء}، وقال تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) (4)، وفي الحديث مرفوعاً: (دعوة أخي ذي النون لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه)) (5).
ومما يدل على ترادف الدعاء والنداء في كلام العرب، قول الشاعر:
__________
(1) الدرر السنية)، 1/274، 275 باختصار يسير.
(2) سورة مريم : آية 2، 3، وجزء من آية 4.
(3) سورة آل عمران : آية 38.
(4) سورة الأنبياء : آية 87.
(5) رواه أحمد والترمذي والنسائي.(131/445)
فقلت ادعي وأدعو فإني أنـ………ـدى لصوت أن ينادي داعيان) (1)
ويبين علامة العراق محمود الآلوسي اختلاف الحياة البرزخية عن الحياة المعهودة .. ومن ثم فلا يجوز سؤال الموتى، يقول رحمه الله:
(إن الأموات لا يسألون سؤال الأحياء بوجه من الوجوه، إذ الموت غير الحياة، وما ثبت لهم من الحياة فهي برزخية غير الحياة المعهودة في الدنيا فمن أراد بها الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه، ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا انتكاس ظاهر، والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص، ومن أراد أنها حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ وقد دل عليه النص الصحيح الصريح) (2).
ويوضح الشيخ ابن سحمان الفرق بين طلب الغوث من الأحياء، وطلبه من الأموات، والفرق بين الأحياء والأموات .. فكان من توضيحه أنه قال:
(وأما الإغاثة بالأسباب العادية، وما هو في طوق البشر وقدرتهم فهذا ليس الكلام فيه، والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العادية وما هو في طوق البشر وقدرتهم.. والله سبحانه خلق في الحي اختياراً ومشيئة بها يثاب وبها يعاقب وبها يكلّف، والميت ليس له قدرة الحي، ولا يكلف، بل ينقطع عمله بموته، وتطوى صحيفته، ولا يسأل، ولا يستفتى ولا يرجع إليه في شيء مما للعباد عليه قدرة، وسائر الحيوان يفرقون بين الحي والميت) (3).
ويرد الشيخ ابن سحمان على من جوّز الاستغاثة بالأموات بشرط الإقرار بأن الله هو المؤثر، والموجد وحده سبحانه فقال رحمه الله:
__________
(1) الرد على شبهات المستعينين بغير الله،) ص14، 15 باختصار.
(2) تتمة منهاج التأسيس)، ص 379، وانظر : ص347، 348، وانظر : كتاب (غاية الأماني)، 1/256.
(3) كشف غياهب الظلام)، ص 303 بتصرف يسير.(131/446)
(إن مجرد عدم التأثير، والخلق والإيجاد، والإعدام والنفع والضر إلا الله لا يبريء من الشرك، فإن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم أيضاً كانوا مقرّين بأن الله هو الخالق الرازق النافع والضار، بل لابد فيه من إخلاص توحيده وإفراده، وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله والطلب منه والنداء، والاستغاثة كلها يكون لله) (1).
وقرر علماء الحجاز وعلماء نجد في (البيان المفيد) أن الدعاء عبادة يجب صرفها لله وحده، وأن صرفها لغيره شرك أكبر فقالوا رحمهم الله:
(ونعتقد أن عبادة غير الله شرك أكبر، وأن دعاء غير الله من الأموات والغائبين، وحبه كحب الله، وخوفه ورجائه ونحو ذلك شرك أكبر، وسواء دعاء عبادة أو دعاء استعانة في شدة أو رخاء فإن الدعاء مخ العبادة وسواء دعاه لجلب نفع أو دفع ضر ..)(2)
ويوضح الشيخ عبد الله بن بلهيد رحمه الله أن دعاء غير الله شرك أكبر، وإن كان فاعله يعتقد أن الله بيده النفع والضر.. فقال رحمه الله:
(فإن قال قائل أن من يدعو النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأولياء لا يعتقد أنه يملك نفعاً أو ضراً، ولا يطلب ذلك منه. وأن قوله عند قيامه، أو دخوله، أو خروجه أو غير ذلك من أحواله يا رسول الله أو يا فلان إن أراد به طلب النفع والضر فهو شرك، وإن أراد أنه يشفع له عند الله أو يقّربه إلى الله فهذا ليس بشرك.
فيقال أن شرك المشركين الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم هو بتعلقهم على الأنبياء، والصالحين لطلب القربة، والشفاعة، كما قال تعالى: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (3) (4).
__________
(1) الصواعق المرسلة الشهابية)، ص 62.
(2) البيان المفيد)، ص 6.
(3) سورة الزمر : آية 3.
(4) خطاب ابن بلهيد أثناء اجتماع علماء الحجاز ونجد، ص 17.(131/447)
(ولما سئل أحد العلماء: هل النداء بمعنى الدعاء أم بينهما فرق ؟ كان جوابه: لا فرق بينهما، وتفريق من فرّق بين النداء والدعاء تفريق يرده الكتاب والسنة واللغة ..
- ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة ثم قال:
- وقال في (المصباح) : النداء الدعاء، وقال النحاة النداء هو الدعاء بأحرف مخصوصة) (1).
ويرد الشيخ صالح بن أحمد على من ادعى أن حياة الشهداء في قبورهم حياة حقيقية فيقول:
(إن حياة الشهداء في قبورهم كما قال تعالى: (بل أحياء ولكن لا تشعرون) (2)، فنؤمن بأننا لا نشعر بحقيقة حياتهم التي أخبرنا بها سبحانه وتعالى، وهو المختص بحقيقة علمها وأما الأستاذ (3) فحمل قوله تعالى: (ولا تشعرون) على عدم شعوره بالسرور والنعيم الذي هم فيه، وهذا مبلغ علمه.
وتقتضي دعواه عدم موتهم، تحريم تقسيم أموالهم، على الورثة، وعدم تزوج نسائهم؛ لأنهم أحياء على زعمه، والمسلمون متفقون الوهابية وخلافهم على تقسيم أموالهم، وتزويج نسائهم كسائر الأموات) (4).
وأما دعوى المجوّزين الاستغاثة بالأموات، بحجة أن الفاعل هو الله وحده والعبد لا فعل له، فيرد القصيمي تلك الحجة فيقول:
(قولك أن العبد ليس فاعلاً، إما أن يكون دلّ عليه العقل، أو القرآن أو الحديث، أو الإجماع، أو المشاهدة، أو الضرورة، أو شيء غيرها، ولا شيء، أما العقل فإنه لا يفهم أن العبد ليس فاعلاً وأنه كالريشة تقلبها الريح أنّى شاءت، بل العقل يعلم أنه لا يحسن عقاب العبد، ولا ثوابه، ولا أمره، ولا نهيه، إلا إذا كان فاعلاً قادراً على الفعل والترك، ولهذا لا يلوم الحجر الهاوي من أعلى إلى أسفل إذا ضر، ولا يشكره إذا نفع ..
__________
(1) جريدة أم القرى، عدد 285.
(2) سورة البقرة : آية 154.
(3) يقصد محمد بن أحمد نور، وسبق نقل قوله.
(4) تدمير أباطيل محمد بن أحمد نور)، ص 74، بتصرف يسير.(131/448)
وأما القرآن فمن أوله إلى آخره ينادي بهدم هذه المقالة، منها قوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (1)، وأما الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) (2)، وأما الإجماع فالسَّلف قاطبة يرون العبد فاعلاً حقيقة لا يشذ منهم واحد.
وهذا مذكور في كتاب (خلق أفعال العباد للبخاري، وغيره) (3).
وعقب إيراد ما سطّره أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في مسألة دعاء الموتى، اتضح جلياً عظم شأن الدعاء، وأنه من آكد العبادات وأهمها وأعلاها قدراً، وأن الدعاء عبادة يجب أن لا تصرف إلا لله وحده. فمن خالف ذلك، ودعا الأموات والغائبين فقد صرف هذه العبادة العظيمة إلى غير مستحقها، فوقع في الشرك الأكبر المخرج عن دين الإسلام، وإن كان يعتقد أثناء دعاءه للموتى، أن الله هو الخالق المؤثر وبيده – سبحانه – النفع والضر، فإن هذا لن ينفعه كما لم ينفع مشركي العرب ممن قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعترفون ويقرون بما يقر به طالبوا الحاجات من الموتى، من إقرار بتوحيد الربوبية.
كما ظهر – في ثنايا هذا الفصل – الجواب والرد على دعواهم بعدم التفرقة بين الحي والميت، إما على حسب ظنهم، لأن الموتى لهم حياة حقيقية في قبورهم كالأحياء في دنياهم، أو عدم التفريق بينهما؛ لأن المؤثر والفاعل هو الله وحده، وليس للميت ولا للحي فعل أو تأثير.
كما تبين – أيضاً – بطلان تلبيسهم في التفرقة بين الدعاء والنداء ولله الحمد والمنة.
خاتمة
وفي هذه الخاتمة أحمد الله تعالى وأشكره على إنجاز هذا البحث وإنهائه.
وقد بينتُ – أولاً في المقدمة – أهمية هذا الموضوع، وأسباب اختياره ثم ذكرت خطة البحث، ومنهجي الذي سرت عليه في كتابة أبواب البحث، ثم تحدثتُ عن جمع المادة العلمية لهذا البحث.
__________
(1) سورة النساء : آية 79.
(2) رواه مسلم.
(3) البروق النجدية)، ص 82 باختصار.(131/449)
وقد تحدثت في التمهيد عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبينتُ أن هذه الدعوة ما هي إلا دعوة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وأن هذه الحركة الإصلاحية ما هي إلا تجديد لمنهج السلف الصالح، وأشرتُ إلى بعض العلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ، ممن لم يذكرهم الكتّاب الذين كتبوا في هذا المجال، كما أشرت إلى خطأ دعوى أن بعض الحركات الإصلاحية أو الشخصيات الإسلامية قد تأثرت بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مثل الحركة السنوسية، والحركة المهدوية، ومثل: محمد عبده، ومحمد إقبال.
ثم أوردت دراسة استقرائية مجملة لمؤلفات المناوئين مع موقف علماء الدعوة من هذه المؤلفات المناوئة، وقد اتضح أن خصوم هذه الدعوة على عدة أصناف، فمنهم من أبغض هذه الدعوة حسداً وبغياً كما وقع من سليمان بن سحيم مطوع الرياض، ومنهم من عادى هذه الدعوة وأهلها انتصاراً لطريقته الصوفية كما هو ظاهر في كتابات علوي الحداد وداود بن جرجيس النقشبندي ومحمد الطاهر يوسف ومالك بن داود، وغيرهم.
ومنهم من ناهض هذه الدعوة انتصاراً لمسلكه الرافضي كما هو واضح في كتابات محمد بن عبد الوهاب بن داود الهمداني، وعلي اللكنهوري، وجعفر النجفي، ومحسن الأمين العاملي، وغيرهم ممن سبق ذكر أقوالهم.
وقد بينتُ بكثير من الأمثلة الكم الهائل من المؤلفات التي صنفت ضد هذه الدعوة السلفية، وبمختلف اللغات، ثم وضحت بكثير من الأمثلة – أيضاً -، ما سطّره بعض أئمة الدعوة السلفية وأنصارها في الرد على تلك المؤلفات، ومناقشة الشبهات، وتفنيد الاعتراضات.
ثم أوجزت أهم الأسباب التي أدت إلى كثرة تلك المؤلفات المناوئة وتعددها ثم انتقلت إلى الباب الأول، ويتضمن الحديث عن مفتريات ألصقت بدعوة الشيخ مع الرد عليها.(131/450)
وقد عرضتُ في الفصل الأول منه لافتراء الخصوم بأن الشيخ ادعى النبوة، وانتقص الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدأت أولاً بالحديث عن معتقد الشيخ الإمام وأتباعه في مسألة ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم أوردتُ الفرية كما جاءت مدونة في كتب الخصوم، ثم أتبعتها بالرد والدحض من خلال ما كتبه أئمة الدعوة السلفية.
وكذلك كان الأسلوب في فرية انتقاص الرسول صلى الله عليه وسلم، فقبل إيراد الافتراء، كان هناك تمهيد يتضمن بيان مقام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عند الوهابيين، ثم بيان الافتراء كما جاء مسطوراً في كتب المناوئين، وعقب ذلك يأتي الرد والدحض لهذا الافتراء، وفي آخر الفصل كشفت عن ضلال أولئك الخصوم – من خلال كتبهم – وجهلهم بحقه عليه الصلاة والسلام، وزيغهم عن معرفة مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وكتبتُ الفصلين: الثاني والثالث بنفس أسلوب الفصل الأول، وكان الفصل الثاني حول الزعم بأن الشيخ مشبه مجسم، وقد ظهر بكثير من الأدلة والبراهين أن الشيخ وأتباعه في باب أسماء الله عز وجل وصفاته على منهج أهل السنة والجماعة، من وصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، فلا يتجاوزون القرآن والحديث.
كما ظهر ضلال أولئك الخصوم في هذا الباب، ووقوعهم في التعطيل والتحريف كما بيناه بأمثلة من كتبهم.
أما الفصل الثالث وهو حول فرية إنكار الشيخ لكرامات الأولياء، فقد اتضح بطلان هذه الفرية، وأن الشيخ الإمام وأتباعه يقرون بكرامات الأولياء، كما ظهر جلياً تلبيس الخصوم وتضليلهم حين اتخذوا من لفظ كرامات الأولياء قناعاً أخفوا تحته الكثير من الشركيات والبدعيات.
وتحدثتُ في الباب الثاني عن الشبهات المثارة حول دعوة الشيخ مع بيان الحق في ذلك.
وكان موضوع الفصل الأول عن شبهة التكفير والقتال، وقد أطنبت – نوعاً ما في الحديث عن هذه الشبهة، وذكرت أسباب ذلك.(131/451)
وقد ذكرت في المبحث الأول من هذا الفصل مفتريات الخصوم وأكاذيبهم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير، ثم أتبعتها بالرد والدحض.
ثم تحدثت في المبحث الثاني عن فرية أن الوهابيين خوارج، وأن موطنهم قرن الشيطان، وقد ثبت كذب هذه الفرية، واتضح الفرق الشاسع بين الوهابيين والخوارج، ثم ذكرت بعض أقوال العلماء قديماً وحديثاً في بيان معنى حديث نجد قرن الشيطان مع توضيح بطلان استدلال الخصوم بهذا الحديث في نصر فريتهم.
وفي المبحث الثالث كشفت - من خلال ما نقلته عن أئمة الدعوة وأنصارها - عن زيف شبهة الخصوم حين ادعوا أن الوهابيين أدخلوا في نواقض الإسلام ما ليس منها، وبينت سلامة موقفهم في هذه المسألة، وأنه هو الصواب الذي سار عليه السلف الصالح.
وفي المبحث الرابع بينت موافقة الشيخ الإمام لابن تيمية وابن القيم في مسألة التكفير، وأنه لم يخالفهم في ذلك كما ادعى الخصوم، وأوردت الأمثلة على ذلك.
وفي المبحث الخامس وضحت أن الشرك واقع في هذه الأمة، كما شهدت بذلك النصوص، فلا صحة لشبهة الخصوم من عدم طروء الشرك على هذه الأمة.
وعرضت في المبحث السادس لشبهة الخصوم بأن الشيخ يجعل الآيات التي نزلت في المشركين منطبقة على المسلمين، وأوردت الردود عليها.
وختمت مباحث ذلك الفصل بشبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة العثمانية، وبينت ابتداء، وبنقول متعددة أن نجداً – موطن هذه الدعوة – لم تكن تحت سيطرة دولة الخلافة ثم بينت بطلان هذه الشبهة.
وفي الفصل الثاني تحدثت عن شبهة تحريم التوسل، وعرضت أولاً لشبهة الخصوم في هذه المسألة، ثم أعقبتها بالرد والبيان، وبينت ما في لفظ التوسل من الإجمال والإطلاق، وأشرت إلى التوسل المشروع، ثم التوسل البدعي المحظور وعرضت لأدلة الخصوم واستدلالاتهم بالرد والجواب وبشيء من التفصيل.(131/452)
وتحدثت في الفصل الثالث عن شبهة منع الاستشفاع بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعرضت لمقالة الخصوم في تجويز طلب الشفاعة من المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وأن ذلك ليس عبادة للرسول أو للولي وذكرت حججهم في ذلك، ثم عطفت عليها بالرد والبيان، وبينت شرطي قبول الشفاعة، والفرق بين قول الداعي: اللهم شفع محمداً فينا، وبين قول: يا محمد اشفع لي، وذكرت خلط الخصوم وعدم تفريقهم بين كلا القولين.
ثم انتقلت إلى الباب الثالث، ويتضمن الحديث عما اعترض على الشيخ من قضايا الدعوة مع المناقشة لها.
فبينت في الفصل الأول اعتراض الخصوم على الشيخ وأنصار دعوته فيما فعلوه من هدم الأبنية على القبور، والنهي عن شد الرحال لزيارة الأضرحة، وقد ظهر بالأدلة والبراهين صواب فعل الشيخ وأتباعه، وأن ما اعتقدوه وفعلوه في هذه المسألة هو الحق الذي تعضده النصوص الشرعية كما ظهر في نفس الوقت ضلال الخصوم وانحرافهم في تلك المسألة.
وأظهرت في الفصل الثاني، ومن خلال كتابات أنصار الدعوة الوهابية، صحة تقسيم التوحيد إلى توحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وأنه تقسيم تقره الأدلة، وتثبته نصوص الوحيين، وأقوال السلف الصالح، وبينت بطلان اعتراض الخصوم على ذلك التقسيم، كما اتضح أيضاً زيغ الخصوم حين اقتصروا على تقرير توحيد الربوبية واكتفوا به.
وفي الفصل الثالث تحدثت عن اعتراض المناوئين على هذه الدعوة في إنكارهم دعاء الموتى وظهر جلياً – عبر أقوال أئمة الدعوة – صحة ما ذهب إليه الشيخ ومن تبعه في إنكار دعاء الموتى، وأبطلت على ضوء تلك النقول حجج الخصوم واستدلالاتهم في هذا الاعتراض.
وفي نهاية هذه الخاتمة أحب أن أقترح بعضاً من الحلول والأساليب لمن يهمه نشر مذهب السلف الصالح عموماً، وبصورة صادقة، والتي يمكن أن تحقق في نفس الوقت تصوراً صحيحاً لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فمن هذه الحلول:(131/453)
الاهتمام بنشر تراث السلف الصالح، وفي سائر بلاد المسلمين، وعلى مختلف المستويات الثقافية، واختيار الرسائل والمؤلفات التي توضح عقيدة أهل السنة والجماعة، وتتصف بالوضوح والإيجاز وملائمة العصر، وأن يتضح ويظهر لعامة المسلمين – من خلال الرسائل – (عالمية) معتقد أهل السنة والجماعة، فتنشر رسائل موجزة لبعض علماء السلف الصالح ومن مختلف المذاهب الأربعة، وتنشر رسائل موجزة أخرى لبعض علماء السلف الصالح من مختلف أقطار المسلمين، ومختلف الأزمان. فتطبع – على سبيل المثال – رسالة (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي ومعها رسالة (تطهير الاعتقاد) للصنعاني، أو رسالة (شرح الصدور في تحريم رفع القبور) للشوكاني، أو رسالة (قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر) لمحمد صديق خان.
نشر مؤلفات الشيخ الإمام التي توضح معتقده مثل (كتاب التوحيد) و (الأصول الثلاثة) وغيرهما، وكذلك نشر الرسائل الجامعة لأئمة الدعوة في نجد، والتي توضح معتقدهم ومنهجهم، كما فعل الشيخ سليمان بن سحمان – رحمه الله – حين جمع بعض الرسائل الهامة في كتاب سماه (الهدية السنية) وهو خمس رسائل لكبار أئمة نجد وعلمائها. وترجمة هذا التراث النفيس إلى أشهر اللغات العالمية.
إبراز الجوانب الدعوية عند الشيخ الإمام، وكذا أئمة الدعوة من بعده، وبيان ما كان عليه الشيخ وأتباعه من فقه للدعوة، وإدراك لأساليبها المناسبة.
التحذير من كتب الخصوم، وتتبعها بالرد والمناقشة، وتصحيح الأخطاء الواقعة في بعض المراجع العامة، مثل (دوائر المعارف) عموماً و (حاشية الصاوي على الجلالين) و (حاشية ابن عابدين) وبعض المصادر التاريخية.(131/454)
الاهتمام بتدريس كتب ورسائل الشيخ في التعليم الجامعي، وحسن عرض ترجمة الشيخ الإمام في المناهج الدراسية، وإبراز آثاره العلمية والعملية على هذه البلاد، وكذلك إظهار فضله وعظيم نفعه على بلاد المسلمين عموماً والعناية أيضاً بحسن عرض أبواب (كتاب التوحيد) – في المناهج الدراسية للمرحلة المتوسطة -، وإعادة صياغة ذلك المنهج بأسلوب جذاب يفهمه الناشئة ويدركونه، مع مراعاة ربط مادة الكتاب بالواقع الذي يعيشه الطالب.
فتح باب الحوار والمناقشة مع المتعلمين من الوافدين لهذه البلاد، ودعوتهم إلى التجرد والإنصاف، واتباع الحق أينما دار وتحرير أفكارهم من تبعية حملات التشويه والتضليل.
وهذه الاقتراحات الموجزة ما هي إلا غيض من فيض، وأسأل الله عز وجل أن يمدنا بالعون لتحقيقها، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(131/455)
دلائل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
بين السنة والبدعة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصل عظيم من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
* قال الله تعالى: (( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين))[ التوبة:24].
قال القاضي عياض في شرح الآية: »فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها -صلى الله عليه وسلم-، إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله تعالى: ((فتربصوا حتى يأتي الله بأمره))، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله« (1).
* وقال الله تعالى: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم))[ الأحزاب: 6].
* وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين« (2).
* وقال أيضاً: »والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده« (3).
* وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك«، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: »الآن يا عمر« (4).
آثار محبته -صلى الله عليه وسلم-:
المحبة عمل قلبي اعتقادي تظهر آثاره ودلائله في سلوك الإنسان وأفعاله ومن علامات ذلك:
أولاً تعزير النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره:(132/1)
قال الله تعالى: ((إنا أرسلناك شاهداْ ومبشراْ ونذيراْ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاْ))[ الفتح:9].
ذكر ابن تيمية أن التعزير: »اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه«. والتوقير: »اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار« (5).
وتوقير النبي -صلى الله عليه وسلم- له دلائل عديدة، منها:
1 - عدم رفع الصوت فوق صوته:
قال الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون))[ الحجرات: 2].
وعن السائب بن يزيد قال: »كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ص« (6).
2 -الصلاة عليه:
قال الله تعالى: ((إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماْ))[ الأحزاب: 57].
قال ابن عباس: يصلون: يُبرّكون (7).
وفي الآية أمر بالصلاة عليه، والأمر يقتضي الوجوب، لهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »البخيل من ذكرتُ عنده فلم يصل عليّ« (8).
وقال: »رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ« (9).
ثانياً الذ ب عنه وعن سنته:
إن الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصرته، آية عظيمة من آيات المحبة والإجلال، قال الله تعالى: ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاْ من الله ورضواناْ وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون))[ الحشر: 8].(132/2)
ولقد سطر الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، وكتب السير عامرة بقصصهم وأخبارهم التي تدل على غاية المحبة والإيثار، وما أجمل ما قاله أنس بن النضر يوم أحد لما انكشف المسلمون: »اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه (10).
ومن الذب عن سنته -صلى الله عليه وسلم-: حفظها وتنقيحها، وحمايتها من انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، ورد شبهات الزنادقة والطاعنين في سنته، وبيان أكاذيبهم ودسائسهم، وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنضارة لمن حمل هذا اللواء بقوله: »نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مُبلّغ أوعى من سامع« (11).
والتهاون في الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو الذب عن سنته وشريعته، من الخذلان الذي يدل على ضعف الإيمان، أو زواله بالكلية، فمن ادعى الحب ولم تظهر عليه آثار الغيرة على حرمته وعرضه وسنته، فهو كاذب في دعواه.
ثالثاً تصديقه فيما أخبر:
من أصول الإيمان وركائزه الرئيسة، الإيمان بعصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلامته من الكذب أو البهتان، وتصديقه في كل ما أخبر من أمر الماضي أو الحاضر أو المستقبل، قال الله تعالى: ((والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى))[ النجم: 14].(132/3)
والجفاء كل الجفاء، بل الكفر كل الكفر اتهامه وتكذيبه فيما أخبر، ولهذا ذم الله المشركين بقوله: ((وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين، أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين))[يونس: 37-39].
ومن لطائف هذا الباب التي تدل على منزلة الشيخين الجليلة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: »بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع ليس لها راع غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: »فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما« (12).
رابعاً اتباعه وطاعته والاهتداء بهديه:
الأصل في أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله أنها للاتباع والتأسي، قال الله تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراْ))[ الأحزاب: 21].
قال ابن كثير: »هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل« (13).
وجاء أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) [ الحشر: 7].(132/4)
وجعل الله عز وجل طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طاعته سبحانه، فقال: ((من يطع الرسول فقد أطاع الله))[ النساء: 80].
وأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول، فقال: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) [ النساء: 59].
وتواترت النصوص النبوية في الحث على اتباعه وطاعته، والاهتداء بهديه والاستنان بسنته، وتعظيم أمره ونهيه، ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: »فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة« (14).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: »صلوا كما رأيتموني أصلي« (15).
وقال: »لتأخذوا عني مناسككم« (16).
فطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي المثال الحي الصادق لمحبته عليه الصلاة والسلام فكلما ازداد الحب، زادت الطاعات، ولهذا قال الله عز وجل: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله))[ ال عمران: 31].
فالطاعة ثمرة المحبة، وفي هذا يقول أحد الشعراء:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه *** ذاك لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن أحب مطيع
خامساً التحاكم إلى سنته وشريعته:
إن التحاكم إلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أصل من أصول المحبة والاتباع، فلا إيمان لمن لم يحتكم إلى شريعته، ويسلم تسليماً، قال الله تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاْ مما قضيت ويسلموا تسليماْ))[النساء: 65].(132/5)
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من علامات الزيغ والنفاق الإعراض عن سنته، وترك التحاكم إليها، قال الله تعالى: ((ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاْ بعيداْ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداْ)) [ النساء: 60،61].
الغلو في محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
انحرف بعض الناس عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحدثوا في دين الله عز وجل ما ليس منه، وغيروا وبدلوا، وغلوا في محبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- غلواً أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم، الذي قال الله عز وجل فيه: ((وأن هذا صراطي مستقيماْ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله))[ الأنعام: 153].
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على حماية جناب التوحيد، فكان يحذر تحذيراً شديداً من الغلو والانحراف في حقه، ودلائل ذلك كثيرة جداً منها:
* عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: »لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله« (17).
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد إلا أني أنهاكم عن ذلك يحذر ما صنعوا« (18).
* وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: »جعلتني لله عدلاً، بل قل ما شاء الله وحده« (19).(132/6)
* وعن أنس أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل« (20).
ونظائر هذه النصوص كثيرة جداً، وثمرتها كلها بيان أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه لا تكون إلا بالهدي الذي ارتضاه وسنه لنا، ولهذا قال عليه أفضل الصلاة والسلام: »من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ« (21).
حقيقة المولد النبوي:
ظهرت هذه الفكرة في عصر الدولة العبيدية الباطنية، إظهاراً منهم لدعوى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم انتشرت في كثير من دول العالم الإسلامي، إلى يومنا هذا فأصبح اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عيداً مشهوداً عند كثير من المبتدعة يجتمعون فيه لإنشاد المدائح النبوية والأوراد الصوفية، وإقامة الحفلات والرقصات، وقد يقترن بذلك بعض الشركيات من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستغاثة به، وقد يحدث الاختلاط بين الرجال والنساء والاستماع إلى الملاهي.
إن تحويل الإسلام إلى طقوس وثنية من الأهازيج الشعرية والطبول والمزامير والتمايل والرقص، وبالتالي الانحراف به عن صفائه ونقائه، هو من قبيل جعله إلى العبث والخرافة أقرب منه إلى الدين الحق.
وحينما تكون هذه العقلية الساذجة المنحرفة حاكمة للعالم الإسلامي يكون رد الفعل الرئيس لدخول خيول نابليون إلى الأزهر الشريف هو اجتماع الشيوخ للتبرك بقراءة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- من صحيح البخاري! وكلما ازدادت الدائرة على المسلمين ازدادت الدروشة، وتمايلت الرؤوس وبحت الأصوات بالأناشيد والأوراد والمدائح النبوية.(132/7)
إن الاحتفال بالمولد النبوي أصبح عند بعض الناس من العامة والخاصة الآية الرئيسة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأذكر أنني كنت قبل سنوات في بلد إسلامي في أوائل شهر ربيع الأول، والناس منهمكون في التجهيز والإعداد لليوم الثاني عشر، تحدثت مع أحد كبار الأساتذة الجامعيين عن هذه البدعة، وبعد أن بح صوتي بذكر الأدلة والشواهد، قال لي: هذا صحيح، ولكن هذا سيدنا النبي!! عندها تذكرت قول غلاة الصوفية: »من أراد التحقيق فليترك العقل والشرع!« (22)، وصدق ابن تيمية حينما قال عن غلاتهم: »كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم«(23).
ومن المفارقات التي تدعو إلى التأمل، أن بعض الناس قد يعصى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلاً ونهاراً، ويتهاون في تعظيم أوامره، فضلاً عن الالتزام بسنته، ومع ذلك فهو يحتفي بيوم المولد، ويوالي فيه ويعادي، وكأن غاية الحب عنده هو إحياء هذا اليوم بالمدائح والأوراد، وبعد ذلك ليفعل ما يشاء...؟! يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: »من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غلواً فيه ولاسيما أصحابه رضي الله عنهم ومن يليهم من خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشد غلواً في القول وابتداعاً في العمل«.
وليس عجيباً أن يحظى هذا اليوم باحتفاء رسمي من الحكومات العلمانية وتسخر له كافة الإمكانات الرسمية، وتجري تغطية فعالياته من جميع وسائل الإعلام، لأنها تعلم يقيناً أن غاية هؤلاء الدراويش لا تتجاوز الأوراد والمدائح حتى إن النذور والقرابين التي ترمى على القبور والأضرحة والمزارات أصبحت مصدر دخل رئيس لوزارات الأوقاف والسياحة، ولهذا كان حافظ إبراهيم يقول متهكماً:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف يرزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة قامت على أحجارها الصلوات؟!(24)(132/8)
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين، ثمرتها الاقتداء والبذل والعطاء والتضحية والجهاد في سبيل نصرة دينه وإعلاء لوائه وحماية سنته، ولا يوجد بين محبي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكان للعجزة النائحين، وما أجمل قول أنس بن النضر رضي الله عنه لما مر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه«(25).
===========
هوامش:
(1)الشفا بتعريف أحوال المصطفى 2/18.
(2)أخرجه البخاري 1/58، ومسلم 1/67.
(3)أخرجه البخاري 1/58.
(4)أخرجه البخاري 11/523.
(5)الصارم المسلول على شاتم الرسول ص422.
(6)أخرجه البخاري 1/560.
(7)أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به 8/532.
(8)أخرجه أحمد 201، والترمذي 5/551.
(9)أخرجه أحمد 2/254، والبخاري في الأدب المفرد ص 220، والترمذي 5/550.
(10)أخرجه البخاري 6/21 و 7/354.
(11)أخرجه أحمد 1/437، والترمذي 5/34، وابن ماجة 1/85.
(12)أخرجه البخاري في عدة مواضع منها: 6/152 و 7/18 و 42.
(13) تفسير القرآن العظيم 3/475.
(14)أخرجه أحمد 4/126،127، وأبو داود 5/13-15، والترمذي 5/44، وابن ماجة 1/16.
(15)أخرجه البخاري 2/111 و 10/438.
(16)أخرجه مسلم 2/943.
(17)أخرجه البخاري في عدة مواضع منها 6/478.
(18)أخرجه البخاري 8/140، ومسلم 1/377.
(19)أخرجه أحمد 1/214 و 283 و 347.
(20)أخرجه أحمد 3/153 و 241.
(21)أخرجه مسلم 3/1344.
(22) مجموع الفتاوى 11/243.
(23) مجموع الفتاوى 2/174.
(24)الديوان، ج1، ص 318.
(25)أخرجه البخاري 6/21 و 7/355 ومسلم 3/1512.
* من تعليقاته على كتاب »صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان« للسهسواني.(132/9)
رجال الصوفية الذين تكلم عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد:
فهذا جمع لعدد ممن الصوفية بأصنافهم وأشكالهم وعقائدهم المختلفة والتي تجتمع على الابتداع ؛ وقد خرج بعضها من الملة كالاتحادية قاتلهم الله.
وهذا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني رحمه الله ينصح للأمة بكشف المتلبسين بلباس الدين ، من أهل الأهواء والبدعة والزندقة ..
وكما ترى هذه المعلومات التي جمعها الشيخ عبدالحميد السحيباني حفظه الله، وقد رغبت باختيار ما يخص الصوفية من رجال تكُلم عليهم ..
ويتميز شيخ الإسلام بالإنصاف وبيان الحق والتعليق على النقاط الهامة.
فإلى هذه الوقفات:
الحلقة الأولى:
الحلاج:
سئل شيخ الإسلام:
ما تقول أئمة الإسلام في الحلاج؟
وفيمن قال:أنا أعتقد ما يعتقدهُ الحلاج، ويقول:إنهُ قُتل ظلماً كما قتل بعض الأنبياء ، ويقول: الحلاج من أولياء الله، فماذا يجب عليه بهذا الكلام ، وهل قتل بسيف الشريعة؟
فأجاب شيخ الإسلام:
الحمد لله .
من اعتقد ما يعتقدهُ الحلاج من المقالات التي قتل عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين ، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد ، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد كقوله:أنا الله . وقولهِ:إله في السماء وإله في الأرض.
قال الشيخ:
والحلاج كانت لهُ مخاريق وأنواع من السحر ، ولهُ كتب منسوبة إليه في السحر.
وبالجملة:
فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر ، واتحادهِ به ، وإن البشر يكون إلهاً وهذا من الآلهة فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قُتل الحلاج.
ومن قال:(133/1)
إن الله نطق على لسان الحلاج ، وإن الكلام المسموع من الحلاج كان كلام الله، وكان الله هو القائل على لسان:أنا الله فهو كافر باتفاق المسلمين، فإن الله لا يحل في البشر ، ولا تكلم على لسان بشر.
قال شيخ الإسلام:
وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات لهُ عند قتلهِ، مثل كتابة دمهِ على الأرض الله ، الله، وإظهار الفرح بالقتلِ أو نحو ذلك ، فكلهُ كذب ، فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة كما ذكر ثابت بن سفيان في أخبار الخلفاء-وقد شهد مقتله- ، وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه ، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد ، وكما ذكر القاضي أبو بكر الطيب ، وأبو محمد بن حزم وغيرهم ، وكما ذكر أبو يوسف القزويني ، وأبو الفرج بن الجوزي ، فيما جمعا من أخباره.
وقد ذكر الشيخ أبو عبدالرحمن السلمي في طبقات الصوفية أن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق ، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته من المشايخ الذين عدهم من مشايخ الطريق.
وما نعلم أحداً من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير ، لا من العلماء ولا من المشايخ، ولكن بعض الناس يقف فيه ؛ لأنه لم يعرف أمره ، وأبلغ من يحسن به الظن يقول: إنه وجب قتلهُ في الظاهر ، فالقاتل مجاهد ،والمقتول شهيد، وهذا أيضاً خطأ.
وقول القائل:
إنهُ قتل ظلماً قولٌ باطل، فإن وجوب قتلهِ على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين ، لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه صار زنديقاً ، فلما أُخذ وحبس أظهر التوبة ، والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق ، فأكثرهم لا يقبلها وهو مذهب مالك وأهل المدينة ، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه ، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة ، ووجه في مذهب الشافعي ، والقول الآخر يقبل توبته.
وقد اتفقوا على أنهُ إذا قُتل مثل هذا لا يقال قُتِلَ ظُلماً.
وأما القائل:(133/2)
أن الحلاج من أولياء الله ، فالمتكلم بهذا جاهل قطعاً ،متكلم بما لا يعلم ، لو لم يظهر من الحلاج أقوال أهل الإلحاد ، فإن ولي الله –تعالى- من مات على ولاية الله ، يحبه ويرضى عنه ، والشهادة بهذا لغير من شهد لهُ النبي-صلى الله عليه وسلم- بالجنة لا يجوز عند كثير من العلماء أو أكثرهم ..
المرجع مجموع الفتاوى (2/480 وما بعدها) والحلاج هو الحسين بن منصور بن محمي، قُتِلَ سنة 309هـ؟
الحلقة الثانية:
الشاذلي:
ذكر شيخ الإسلام أن غاية هذا الرجل إذا عظم الأمر والنهي أن يقول:
يكون الجمع في قلبك مشهوداً ، والفرق على لسانك موجداً.
قال الشيخ:
ولهذا يوجد في كلامه وكلام غيره أقوال وأدعية وأحزاب تستلزم تعطيل الأمر والنهي، مثل أن يدعو أن يعطيه الله إذا عصاهُ أعظم مما يعطيه إذا أطاعهُ ، ونحو هذا مما يوجب أن يجوز عندَهُ أن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، بل أفضل منهم ،ويدعو بأدعية فيها اعتداء.
مجموع الفتاوى (14/353-354)
....
البروق السنية في اكتساح ظلمات "الطرق الصوفية"
وأن هذا صراط الله فاتبعوا … لا تسلكوا سُبلاً تفضي إلى النارِ
ما قالهُ ربنا في الذكرِ أنزلهُ … بينتهُ واضحاً يا خيرَ مُختارِ
علمتنا خُطةً في الدين واضحةً .. على هداها يسير المُدْلجُ الساري
وليس لله من شرعين فاعتبروا … يا أيها الناس يا أصحاب أبصاري
ماذا جنيتم من الأحزابِ من طُرُقٍ .. غير اقتتال وتخريبٍ وإضراري
أين الشريعة والتوحيدُ جوهرها … توحيدُ معبودنا توحيدُ أفكارِ
نوحدُ الله في أحكام شرعتهِ …. ما غيرهُ آمرٌ فالشرعُ للباري
محمدٌ وضح القرآن بينهُ ….. لم يترك الناس في جهلٍ وأسراري
على محجة بيضاء فارقنا … الليلُ عاد كصبحٍ بعدَ إظهارِ
فأين شرع الهدى من شرعِ من رسموا .. هذه الطرائق في سرٍ وإضمارِ
قالوا طريقتنا للشرع راجعَةٌ … قلت اخسئوا نهجكم تشريعُ أغيارِ(133/3)
ما لي أراكم تبعتم شيخَ معصيةٍ … بابٌ ولكنهُ بابٌ إلى النارِ
راقبتم الشيخ دون الله وارتبطت … قلوبكم بطواغيتٍ وأحجارِ
أغمضتم العينَ تضليلاً وشعوذةً … لتستمدوا بهِ كشفاً لأسرارِ
يُمدكم مدداً ما بعدهُ مددٌ …. من الشياطينِ من غاديٍ ومن سارِ
طريقكم كجور الخُلدِ غامضةٌ … فيها متاهات أوكارٍ وأحجارِ
أين الحقيقة ما كانت حقيقتكم … غير الخرافاتِ والتضليلِ والعارِ
أقطابكم رِممٌ ، أوتادكم صنمٌ … وغوثكم قبةٌ حُفت بأستارِ
ما من مغيث سوى الرحمنِ يحفظُنا .. من كُلِ نازلةٍ ، من كل أخطارِ
أين الكرامات؟! ما كانت كرامتكم .. غير القذارات في جهرٍ وإسراري
هذا الوحيش الذي ينزوا على أوتنٍ .. وذاك عُريانكم في مسجد عاري
تأتون فاحشةً جهراً بلا خجلٍ … أهكذا كشفكم هتكٌ لأستاري
وقال حلاجكم كفراً وزندقةً … فقلتموا خطأً في كشفِ أسراري
سميتم الكافر الزنديق عاشقكم … وكيف يليق شهيدُ العشق في النارِ
كل الطواغيتِ في الجناتِ مرتعهم .. فرعون هامان حلاج أبو العاري
إن الولي يفوق الرسل قاطبةً … والرسل قد شرعوا شرعاً لأغراري
خضتم بحاراً،ورسل الله عاجزةٌ .. عن خوضها ليس من فُلكٍ ولا طاري
نازعتم الله في أكوانهِ فلكم …. غوثٌ مُغيثٌ وحامٍ حافظُ الدارِ
الشيخ رسلان حاميكم وحافظكم .. وخالد النقش والخرازُ والعاري
وشيخ بسطان والكبريتُ أحمرهم .. وتستري عفيف القوم والدارِ
وهيكل صمدان لهُ كُتبٌ … في مدحهم ضاع حقٌ بين أشراري
قالوا:تجلى إلهُ الكونِ في صورٍ … فالعبدُ ربٌ،وما التكليفُ للبارئ
وهل يُكلفُ ربٌ نفسهُ شططاً … والكون مظهره بل سرهُ الساري
وهل يعذب ربٌ نفسهُ بلظى؟! … ما ثم من جنةٍ ، ما ثم من ناري
ليس العذابُ عذاباً ، بل عذوبتهُ … معروفةٌ في فتةحاتٍ وأشعاري
أبو الفصوص التي فاحت فضائحها .. فدنست كل أرضٍ،كل أنصاري
كذلك تائية ابن الفارضِ انتشرت … أدرانها مُنذُ أزمانٍ وأعصاري(133/4)
يطري عبادةَ الفرسِ يجعلها …. حقاً ويمدحُ من دانوا لأحجاري
فالكلُ يعبدُ رباً واحداً أحداً … لكن على شكلِ أحجارٍ وأشجاري
كفرٌ بواحٌ وإلحادٌ وزندقةٌ … ما قالوه غير فُجارٍ وكفاري
لكنهم غيبوا في الناس باطلهم … وأظهروا نسكهم في لُبسِ أطهاري
وأعلنوها عباداتٍ مظلمةً للناس .. فأغتروا أقوامٌ بمكاري
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها .. عند التقلبِ وحشٌ قاتلٌ ضاري
من حَسَنَ الظن في كفرٍ وزندقةٍ … أضحى شريكاً لكفارٍ وفجاري
فأعلنوا حربكم أهل الحُجا علناً … على الخديعةِ في عزمٍ وإصراري
واستنصروا الله إن الله يحفظكم … من مكرِ ما كرهم أو غدرِ غُداري
.............
الشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري ومقاومته للصوفية
ترتبط مقاومة الصُّوفيَّة المبتدعة بإصلاح العقيدة ارتباطاً وثيقاً, وقدَ كشفَ الإبراهيميُّ رحمه اللَّه
عن مخازي هؤلاء وحاربهم بشدَّة, وعاملهم بما يستحقُّون لأَّنهم تاجروا باسم الدِّين, وزجَّت بهم فرنسا في أتون المعركة, فَأَصغِ إليه وهو يقول :
"في أيَّام الحملة الكبرى على الحكومة الفرنسيَّة ظهرَ هؤلاء بمظهر مناقض للدِّين، فكشفوا السِّترَ عن حقيقتهم المستوردة، ووقفوا في صفِّ الحكومة مؤيِّدين لها، خاذلين لدينهم وللمدافعين عن حريَّته مطالبين بتأييد استعباده، عاملين بكُلّ جهدهم على بقائه بيد حكومة مستحيِّة تخرِّبه بأيديهم، وتشوِّه حقائقه بألسنتهم، وتلوِّثُ محاربيه ومنابره بضلالتهم"
ويقول :(133/5)
"وقد أخَذوا في الزَّمن الأخير ببعض مظاهر العصر ، وتسلَّموا بعضَ أسلحتهم بإملاء من الحكومة للدِّفاع عن الباطل ، فكوَّنوا جمعيَّة ، وأنشأوا مجلَّة ، وجهَّزوا كتيبة من الكُتَّاب يقودها أعمى –ليشترك عاقلهم وسفيههم في هذه المخزيَات ، وبحكم العموميَّة في الجمعيَّة ، والاشتراك في المجلة ،ولو في دائرته الضيِّقَة ومن أهله وجيرانه … دافعناهم –عندما ظهروا بذلك المظهر- بالحق فركبوا رؤوسهم ، فتسامحنا قليلاً إبقاءً على حرمة (المحراب) و (المنبر) التي انتهكوها ، فشدَّدوا إبقاءً على حرمة (الخبزة) !! فكشفنا عن بعض الحقائق المستوردة فلجُّوا وخاضوا ، وثاروا وخاروا ، فلمَّا عَتَوْا من أمر ربِّهم رميناهم بالآبدَة … وهي أنَّ الصَّلاة خلفهم باطلة ، لأنَّ إمامتهم باطلة … لأنَّهم جواسيس" !!
.....
وقد عد الشيخ الإبراهيمي الصُّوفيَّةَ داءً عُضالاً يحب التَّخلُّصُ منه، لِتُحَرّر عقيدة المسلم من التَّشويش، وتطلق لعقله العنان في التَّشبُّع وفهم الشريعة ، فتراه يصرِّح بقوله:
"إننا علمنا حقَّ العلم بعد التَّروِّي والتَّثبُّت ودراسة أحوال الأُمَّة ومناشئ أمراضها أنَّ هذه الطُّرق المبتدعة في الإسلام هي سببُ تفرُّق المسلمين ، ونعلم أنَّنا حين نقاومها نقاوم كلَّ شر ،إنَّ هذه الطُّرق لم تسلم منها بقعة من بقاع الإسلام ، وإنَّها تختلف في التَّعاليم والرُّسوم الظاهر كثيراً ، ولا تختلف في الآثار النَّفسيَّة إلاّ قليلاً ، وتجتمعُ كلها في نقطة واحدة وهي التَّحذير والإلهاء عن الدِّين والدُّنيا"(133/6)
ويتابعُ شارحاً مخاطرَ الطرقيَّة وبدعها ، حيث تعلَّقَ كثيرٌ من المسلمين بطقوس طريقتهم ، وبطروحات مشايخهم ، ولم يعودوا على اتِّصال مباشر مع الكتاب وصحيح السُّنَّة ، بل أصبحت هذه الطُّرقُ حاجزاً بينهم وبين مصادر الشريعة ، وكأنَّها دين جديد ، لقد أصبحت بعض الطُّرق –كما يرى الإبراهيمي- في بلاد العرب والمسلمين ، وفي الجزائر بخاصَّة ، إضافة جديدة إلى محاولات الدَّس التي قام بها أعداء كثيرون للإسلام ، إن كان بنحل الأحاديث ، أو بالتَّأويلات المزِّورة للحقيقة ، أو ما شاع عند العديد من الحركات الباطنيَّة ، ولكن يعود ليؤكِّد أن هذا كان خطره أقل بكثير من خطر هذه الطَّريقة ، فيقول:
"أما والله ما بلغَ الوضَّاعون للحديث ، ولا بلغت الجمعيَّات السريَّة والعلنيَّة الكائدة للإسلام من هذا الدِّين عشر معشار ما بلغتهُ من هذه الطُّرق المشؤومة … إنَّ هذه الهَّوة العميقة التي أصبحت حاجزة بين الأمَّة وقرآنها هي من صنع أيدي الطرقيِّين" .
ويقول مقرِّعاً والطَّرقيَّة وفَهْمَهم الخاطئ للإسلام:
" .. فكل راقصٍ صوفي ، وكل ضاربٍ بالطَّبل صوفي ، وكل عابثٍ بأحكام الله صوفي ، وكل ماجنٍ خليعٍ صوفي ، وكل مسلوب العَقل صوفي ، وكل آكل للدُّنيا بالدين صوفي ، وكل ملحدٍ بآيات الله صوفي ، وهَلُّم سحباً ، أَفيَجْمُلُ بجنودِ الإصلاح أن يَدَعُوا هذه القلعة تحمي الضَّلال وتُؤْويه ، أم يجب عليهم أن يحملوا عليها حملةً صادقَةً شعارهم: (لا صوفيَّة في الإسلام) حتى يدكُّوها دكَّاً ، وينسفوها نسفاً ، ويذروها خاويةً على عروشها" .
........(133/7)
وقد كان رحمه الله تعالى في محاربتهِ للصُّوفيَّة وخرافاتها وتُرّهاتهم متأثِّراً بتعاليم حركة الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب الإصلاحيَّة ،ويتَّضحُ ذلك عندما نراه يُعَلّل هجوم المتاجرين بالدَّين على هذه الدَّعوةِ السُّنِّيَّة الإصلاحيَّة في البلاد الحجازيَّة التي سَّماها خصومُها بِـ(ـالوهَّابيَّة) –تنفيراً وتَشويهاً- لأنَّها قضت على بدعهم ، وحاربت خرافاتهم ، فيقول:
"إنَّهم موتورون لهذه الوهَّابيَّة التي هدمت أنصابهم ، ومحت بدعهم فيما وقعَ تحتَ سلطانهم من أرضِ الله ، وقَد ضجَّ مبتدعة الحجاز فضجَّ هؤلاء لضجيجهم والبدعة رحم ماسة ، فليس ما نسمعهُ هنا من ترديد كلمة (وهابي) تُقذف في وجه كل داعٍ إلى الحقِّ إلاّ نواحاً مردَّداً على البدع التي ذهبت صرعى هذه الوهَّابيَّة" .
---
مقالة بقلم الشيخ مشهور حسن آل سلمان من علماء الأردن
نشرت بمجلة الأصالة العدد (1) بعنوان "الشيخ محمَّد البشير الإبراهيمي"
....
اختارها وجمعها
أبو عمر المنهجي - شبكة الدفاع عن السنة(133/8)
الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم
شيخ الإسلام ابن تيمية
وسئل :
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين في الكلام الذي تضمنه كتاب " فصوص الحكم " وما شاكله من الكلام الظاهر في اعتقاد قائله : أن الرب والعبد شيء واحد ليس بينهما فرق وأن ما ثم غير كمن قال في شعره : أنا وهو واحد ما معنا شيء ومثل : أنا من أهوى ومن أهوى أنا ومثل : إذا كنت ليلى وليلى أنا وكقول من قال : لو عرف الناس الحق ما رأوا عابدا ولا معبودا . وحقيقة هذه الأقوال لم تكن في كتاب الله عز وجل ولا في السنة ولا في كلام الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين . ويدعي القائل لذلك : أنه يحب الله سبحانه وتعالى والله تعالى يقول :
{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } والله سبحانه وتعالى ذكر خير خلقه بالعبودية في غير موضع فقال تعالى عن خاتم رسله صلى الله عليه وسلم { فأوحى إلى عبده ما أوحى } وكذلك قال في حق عيسى عليه السلام { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } وقال تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } - الآية . فالنصارى كفار بقولهم مثل هذا القول في عيسى بمفرده فكيف بمن يعتقد هذا الاعتقاد :(134/1)
تارة في نفسه وتارة في الصور الحسنة : من النسوان والمردان ويقولون : إن هذا الاعتقاد له سر خفي وباطن حق وإنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق . فهل في هذه الأقوال سر خفي يجب على من يؤمن بالله واليوم الآخر وكتبه ورسله أن يجتهد على التمسك بها والوصول إلى حقائقها - كما زعم هؤلاء - أم باطنها كظاهرها ؟ وهذا الاعتقاد المذكور هو حقيقة الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به أم هو الكفر بعينه ؟ . وهل يجب على المسلم أن يتبع في ذلك قول علماء المسلمين ورثة الأنبياء والمرسلين أم يقف مع قول هؤلاء الضالين المضلين ؟ وإن ترك ما أجمع عليه أئمة المسلمين ووافق هؤلاء المذكورين فماذا يكون من أمر الله له يوم الدين ؟ . أفتونا مأجورين أثابكم الله الكريم .
فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين(134/2)
. ما تضمنه كتاب " فصوص الحكم " وما شاكله من الكلام : فإنه كفر باطنا وظاهرا ؛ وباطنه أقبح من ظاهره . وهذا يسمى مذهب أهل الوحدة وأهل الحلول وأهل الاتحاد . وهم يسمون أنفسهم المحققين . وهؤلاء نوعان : نوع يقول بذلك مطلقا كما هو مذهب صاحب الفصوص ابن عربي وأمثاله : مثل ابن سبعين وابن الفارض . والقونوي والششتري والتلمساني وأمثالهم ممن يقول : إن الوجود واحد ويقولون : إن وجود المخلوق هو وجود الخالق لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر بل يقولون : الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق . ويقولون : إن وجود الأصنام هو وجود الله وإن عباد الأصنام ما عبدوا شيئا إلا الله . ويقولون : إن الحق يوصف بجميع ما يوصف به المخلوق من صفات النقص والذم . ويقولون : إن عباد العجل ما عبدوا إلا الله وأن موسى أنكر على هارون لكون هارون أنكر عليهم عبادة العجل وأن موسى كان بزعمهم من العارفين الذين يرون الحق في كل شيء بل يرونه عين كل شيء وأن فرعون كان صادقا في قوله : { أنا ربكم الأعلى } بل هو عين الحق ونحو ذلك مما يقوله صاحب الفصوص .
ويقول أعظم محققيهم : إن القرآن كله شرك لأنه فرق بين الرب والعبد ؛ وليس التوحيد إلا في كلامنا .
فقيل له : فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأم حراما ؟ فقال : الكل عندنا واحد ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام . فقلنا : حرام عليكم .
وكذلك ما في شعر ابن الفارض في قصيدته التي سماها نظم السلوك كقوله : -(134/3)
لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان لي صلى سواي ولم تكن صلاتي لغيري في أداء كل سجدة وقوله : وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت وقوله : إلي رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي علي استدلت فأقوال هؤلاء ونحوها : باطنها أعظم كفرا وإلحادا من ظاهرها فإنه قد يظن أن ظاهرها من جنس كلام الشيوخ العارفين أهل التحقيق والتوحيد وأما باطنها فإنه أعظم كفرا وكذبا وجهلا من كلام اليهود والنصارى وعباد الأصنام .
ولهذا فإن كل من كان منهم أعرف بباطن المذهب وحقيقته - كان أعظم كفرا وفسقا كالتلمساني ؛ فإنه كان من أعرف هؤلاء بهذا المذهب وأخبرهم بحقيقته فأخرجه ذلك إلى الفعل فكان يعظم اليهود والنصارى والمشركين ويستحل المحرمات ويصنف للنصيرية كتبا على مذهبهم يقرهم فيها على عقيدتهم الشركية .
وكذلك ابن سبعين كان من أئمة هؤلاء وكان له من الكفر والسحر الذي يسمى السيمياء - والموافقة للنصارى والقرامطة والرافضة : ما يناسب أصوله .
فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب ووافقهم عليه كان أظهر كفرا وإلحادا .
وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانا ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي وتجد فيهم إقرارا لهؤلاء وإحسانا للظن بهم وتسليما لهم بحسب جهلهم وضلالهم ؛ ولا يتصور أن يثني على هؤلاء إلا كافر ملحد أو جاهل ضال .
وهؤلاء من جنس الجهمية الذين يقولون : إن الله بذاته حال في كل مكان ولكن أهل وحدة الوجود : حققوا هذا المذهب أعظم من تحقيق غيرهم من الجهمية .(134/4)
وأما ( النوع الثاني : فهو قول من يقول بالحلول والاتحاد في معين كالنصارى الذين قالوا بذلك في المسيح عيسى والغالية الذين يقولون بذلك في علي بن أبي طالب وطائفة من أهل بيته ، والحاكمية الذين يقولون بذلك في الحاكم ، والحلاجية الذين يقولون بذلك في الحلاج ، واليونسية الذين يقولون بذلك في يونس وأمثال هؤلاء ممن يقول بإلهية بعض البشر وبالحلول والاتحاد فيه ولا يجعل ذلك مطلقا في كل شيء .
ومن هؤلاء من يقول بذلك في بعض النسوان والمردان أو بعض الملوك أو غيرهم ؛ فهؤلاء كفرهم شر من كفر النصارى الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم . وأما الأولون : فيقولون بالإطلاق . ويقولون : النصارى إنما كفروا بالتخصيص . وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى ؛ ولهذا يقولون بالحلول تارة وبالاتحاد أخرى وبالوحدة تارة فإنه مذهب متناقض في نفسه ؛ ولهذا يلبسون على من لم يفهمه .(134/5)
فهذا كله كفر باطنا وظاهرا بإجماع كل مسلم ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى والمشركين . ولكن هؤلاء يشبهون بشيء آخر وهو ما يعرض لبعض العارفين في مقام الفناء والجمع والاصطلام والسكر فإنه قد يعرض لأحدهم - لقوة استيلاء الوجد والذكر عليه - من الحال ما يغيب فيه عن نفسه وغيره فيغيب بمعبوده عن عبادته وبمعروفه عن معرفته وبمذكوره عن ذكره وبموجوده عن وجوده . ومثل هذا قد يعرض لبعض المحبين لبعض المخلوقين كما يذكرون أن رجلا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال له : أنا وقعت ؛ فما الذي أوقعك ؟ فقال : غبت بك عني . فظننت أنك أني . وينشدون : - رق الزجاج وراقت الخمر وتشاكلا فتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر وهذه الحال تعرض لكثير من السالكين وليست حالا لازمة لكل سالك ولا هي أيضا غاية محمودة بل ثبوت العقل والفهم والعلم مع التوحيد باطنا وظاهرا كحال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكمل من هذا وأتم .
والمعنى الذي يسمونه الفناء ينقسم ثلاثة أقسام :
فناء عن عبادة السوى وفناء عن شهود السوى وفناء عن وجود السوى .
فالأول : أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه ؛ وهذا هو حقيقة التوحيد والإخلاص الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وهو تحقيق " لا إله إلا الله " فإنه يفنى من قلبه كل تأله لغير الله ولا يبقى في قلبه تأله لغير الله وكل من كان أكمل في هذا التوحيد كان أفضل عند الله .(134/6)
والثاني : أن يفنى عن شهود ما سوى الله وهذا الذي يسميه كثير من الصوفية حال الاصطلام والفناء والجمع ونحو ذلك . وهذا فيه فضيلة من جهة إقبال القلب على الله وفيه نقص من جهة عدم شهوده للأمر على ما هو عليه فإنه إذا شهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه وأنه المعبود لا إله إلا هو الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب وأمر بطاعته وطاعة رسله ونهى عن معصيته ومعصية رسله فشهد حقائق أسمائه وصفاته وأحكامه خلقا وأمرا : كان أتم معرفة وشهودا وإيمانا وتحقيقا من أن يفنى بشهود معنى عن شهود معنى آخر وشهود التفرقة في الجمع والكثرة في الوحدة وهو الشهود الصحيح المطابق . لكن إذا كان قد ورد على الإنسان ما يعجز معه عن شهود هذا وهذا كان معذورا للعجز لا محمودا على النقص والجهل .(134/7)
والثالث : الفناء عن وجود السوى ؛ وهو قول الملاحدة أهل الوحدة كصاحب الفصوص وأتباعه الذين يقولون : وجود الخالق هو وجود المخلوق وما ثم غير ولا سوى في نفس الأمر . فهؤلاء قولهم أعظم كفرا من قول اليهود والنصارى وعباد الأصنام . وأيضا فإن ولاية الله : هي موافقته بالمحبة لما يحب والبغض لما يبغض والرضا بما يرضى والسخط بما يسخط والأمر بما يأمر به والنهي عما ينهى عنه والموالاة لأوليائه والمعاداة لأعدائه كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ؛ فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يسعى ؛ ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ؛ وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه } فهذا أصح حديث روي في الأولياء . فالملاحدة والاتحادية يحتجون به على قولهم لقوله : " كنت سمعه وبصره ويده ورجله " والحديث حجة عليهم من وجوه كثيرة : -
منها قوله : { من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة } فأثبت معاديا محاربا ووليا غير المعادي وأثبت لنفسه سبحانه هذا وهذا . ومنها قوله : { وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه } فأثبت عبدا متقربا إلى ربه وربا افترض عليه فرائض .
ومنها قوله : { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } فأثبت متقربا ومتقربا إليه ومحبا ومحبوبا غيره . وهذا كله ينقض قولهم : الوجود واحد . ومنها قوله : { فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به } إلى آخره .(134/8)
فإنه جعل لعبده بعد محبته هذه الأمور وهو عندهم قبل المحبة وبعدها واحد وهو عندهم هذه الأعضاء : بطنه وفرجه وشعره وكل شيء لا تعدد عندهم ولا كثرة في الوجود ؛ ولكن يثبتون مراتب ومجالي ومظاهر ؛ فإن جعلوها موجودة نقضوا قولهم .
وإن جعلوها ثابتة في العدم - كما يقوله ابن عربي - أو جعلوها المعينات والمطلق هو الحق - كانوا قد بنوا ذلك على قول من يقول : المعدوم شيء وقول من جعل الكليات ثابتة في الخارج زائدة على المعينات . والأول : قول طائفة من المعتزلة وهو قول ابن عربي . والثاني : قول طائفة من الفلاسفة وهو قول القونوي صاحب ابن عربي وكلا القولين باطلان عند العقلاء ولهذا كان التلمساني أحذق منهما فلم يثبت شيئا وراء الوجود . كما قيل : -
وما البحر إلا الموج لا شيء ## غيره وإن فرقته كثرة المتعدد
لكن هؤلاء الضلال من الفلاسفة والمعتزلة ما قالوا : وجود المخلوق هو وجود الخالق وهؤلاء الملاحدة قالوا : هذا هو هذا ؛ ولهذا صاروا يقولون بالحلول من وجه لكون الوجود في كل الذوات أو بالعكس وبالاتحاد من وجه لاتحادهما ؛ وحقيقة قولهم هي وحدة الوجود . وفي الحديث وجوه أخرى تدل على فساد قولهم . والحديث حق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فإن ولي الله لكمال محبته لله وطاعته لله يبقى إدراكه لله وبالله وعمله لله وبالله ؛ فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه وما يسمعه مما يبغضه الحق أبغضه وما يراه مما يحبه الحق أحبه وما يراه مما يبغضه الحق أبغضه ؛ ويبقى في سمعه وبصره من النور ما يميز به بين الحق والباطل ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته { اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا } .(134/9)
فولي الله فيه من الموافقة لله : ما يتحد به المحبوب والمكروه والمأمور والمنهي ونحو ذلك فيبقى محبوب الحق محبوبه ومكروه الحق مكروهه ومأمور الحق مأموره وولي الحق وليه وعدو الحق عدوه ؛ بل المخلوق إذا أحب المخلوق محبة تامة حصل بينهما نحو من هذا حتى قد يتألم أحدهما بتألم الآخر ويلتذ بلذته . ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم : كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر }
ولهذا كان المؤمن يسره ما يسر المؤمنين ويسوءه ما يسوءوهم ومن لم يكن كذلك لم يكن منهم . فهذا الاتحاد الذي بين المؤمنين : ليس هو أن ذات أحدهما هي بعينها ذات الآخر ولا حلت فيه بل هو توافقهما واتحادهما في الإيمان بالله ورسوله وشعب ذلك : مثل محبة الله ورسوله ومحبة ما يحبه الله ورسوله . فإذا كان هذا معقولا بين المؤمنين : فالعبد إذا كان موافقا لربه تعالى فيما يحبه ويبغضه ويأمر به وينهى عنه ونحو ذلك مما يحبه الرب من عبده : كيف تكون ذات أحدهما هي الأخرى أو حالة فيها ؟ .
فإذا عرفت هذه الأصول من الحلول والاتحاد المطلق والمعين الذي هو باطل ومما هو من أحوال أهل الإيمان ومن ولاية الله تعالى وموافقته فيما يحبه ويرضاه وتوابع ذلك : تبين لك جواب مسائل السائل . وهؤلاء قد يجدون من كلام بعض المشايخ - كلمات مشتبهة مجملة - فيحملونها على المعاني الفاسدة كما فعلت النصارى فيما نقل لهم عن الأنبياء فيدعون المحكم ويتبعون المتشابهة .(134/10)
فقول القائل : إن الرب والعبد شيء واحد ليس بينهما فرق : كفر صريح لا سيما إذا دخل في ذلك كل عبد مخلوق ؛ وأما إذا أراد بذلك عباد الله المؤمنين وأولياءه المتقين فهؤلاء يحبهم ويحبونه ويوافقونه فيما يحبه ويرضاه ويأمر به ؛ فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه . ولما رضوا ما يرضى وسخطوا ما يسخط : كان الحق يرضى لرضاهم ويغضب لغضبهم ؛ إذ ذلك متلازم من الطرفين . ولا يقال في أفضل هؤلاء : إن الرب والعبد شيء واحد ليس بينهما فرق ؛ لكن يقال لأفضل الخلق كما قال الله تعالى : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } وقال : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وقال : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } وأمثال ذلك .
وأما سائر العباد : فإن الله خالقهم ومالكهم وربهم وخالق قدرتهم وأفعالهم ثم ما كان من أفعالهم موافقا لمحبته ورضاه : كان محبا لأهله مكرما لهم وما كان منها مما يسخطه ويكرهه : كان مبغضا لأهله مهينا لهم . وأفعال العباد مفعولة مخلوقة لله ليست صفة له ولا فعلا قائما بذاته .(134/11)
وقوله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } فمعناه : وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل المرمي ؛ فإن { النبي صلى الله عليه وسلم كان قد رمى المشركين بقبضة من تراب وقال : شاهت الوجوه } فأوصلها الله إلى وجوه المشركين وعيونهم ؛ وكانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم عاجزة عن إيصالها إليهم والرمي له مبدأ وهو الحذف ومنتهى وهو الوصول ؛ فأثبت الله لنبيه المبدأ بقوله : { إذ رميت } ونفى عنه المنتهى وأثبته لنفسه بقوله : { ولكن الله رمى } وإلا فلا يجوز أن يكون المثبت عين المنفي ؛ فإن هذا تناقض . والله تعالى - مع أنه هو خالق أفعال العباد - فإنه لا يصف نفسه بصفة من قامت به تلك الأفعال ؛ فلا يسمي نفسه مصليا ولا صائما ولا آكلا ولا شاربا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وقول القائل : " ما ثم غير " إذا أراد به ما يريده أهل الوحدة أي ما ثم غير موجود سوى الله : فهذا كفر صريح . ولو لم يكن ثم غير لم يقل : { أغير الله أتخذ وليا } ولم يقل { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } فإنهم كانوا يأمرونه بعبادة الأوثان فلو لم يكن غير الله لم يصح قوله : { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } ولم يقل : { أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا } ولم يقل الخليل { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } ولم يقل : { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } فإن إبراهيم لم يعاد ربه ولم يتبرأ من ربه ؛ فإن لم تكن تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها هم وآباؤهم الأقدمون غير الله : لكان إبراهيم قد تبرأ من الله وعادى الله وحاشا إبراهيم من ذلك . وهؤلاء الملاحدة في أول أمرهم ينفون الصفات ويقولون : القرآن هو الله أو غير الله . فإذا قيل لهم : غير الله . قالوا : فغير الله مخلوق . وفي آخر أمرهم يقولون : ما ثم موجود غير الله أو يقولون العالم(134/12)
لا هو الله ولا هو غيره . ويقولون : وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه فينكرون على أهل السنة إذا أثبتوا الصفات ولم يطلقوا عليها اسم الغير وهم لا يطلقون على المخلوقات اسم الغير وقد سمعت هذا التناقض من مشايخهم فإنهم في ضلال مبين .
وأما قول الشاعر في شعره :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ؟ وقوله : إذا كنت ليلى وليلى أنا .
فهذا إنما أراد به هذا الشاعر الاتحاد الوضعي كاتحاد أحد المتحابين بالآخر الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر ويبغض ما يبغض ويقول مثل ما يقول ويفعل مثل ما يفعل وهو تشابه وتماثل لا اتحاد العين بالعين إذ كان قد استغرق في محبوبه حتى فني به عن رؤية نفسه كقول الآخر : غبت بك عني فظننت أنك أني فإما أن يكون غالطا مستغرقا بالفناء أو يكون عنى التماثل والتشابه واتحاد المطلوب والمرهوب لا الاتحاد الذاتي . فإن أراد الاتحاد الذاتي - مع عقله لما يقول - فهو كاذب مفتر مستحق لعقوبة المفترين .
وأما قول القائل : لو رأى الناس الحق لما رأوا عابدا ولا معبودا : فهذا من جنس قول الملاحدة الاتحادية الذين لا يفرقون بين الرب والعبد ؛ وقد تقدم بيان قول هؤلاء وهؤلاء يجمعون بين الضلال والغي بين شهوات الغي في بطونهم وفروجهم وبين مضلات الفتن .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم } حتى يبلغ الأمر بأحدهم إلى أن يهوى المردان ويزعم أن الرب تعالى تجلى في أحدهم ويقولون : هو الراهب في الصومعة ؛ وهذه مظاهر الجمال ؛ ويقبل أحدهم الأمرد ويقول : أنت الله . ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه ويدعي أنه الله رب العالمين أو أنه خلق السموات والأرض ويقول أحدهم لجليسه :
أنت خلقت هذا وأنت هو وأمثال ذلك .
فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطؤها الذي تفترشه ؛ وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا .(134/13)
ومن قال : إن لقول هؤلاء سرا خفيا وباطن حق وإنه من الحقائق التي لا يطلع عليها إلا خواص خواص الخلق : فهو أحد رجلين - إما أن يكون من كبار الزنادقة أهل الإلحاد والمحال وإما أن يكون من كبار أهل الجهل والضلال . فالزنديق يجب قتله ؛ والجاهل يعرف حقيقة الأمر فإن أصر على هذا الاعتقاد الباطل بعد قيام الحجة عليه وجب قتله .
ولكن لقولهم سر خفي وحقيقة باطنة لا يعرفها إلا خواص الخلق . وهذا السر هو أشد كفرا وإلحادا من ظاهره ؛ فإن مذهبهم فيه دقة وغموض وخفاء قد لا يفهمه كثير من الناس . ولهذا تجد كثيرا من عوام أهل الدين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض ويتواجد عليها ويعظمها ظانا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها ؛ وكذلك كلام هؤلاء يسمعه طوائف من المشهورين بالعلم والدين فلا يفهمون حقيقته فإما أن يتوقفوا عنه أو يعبروا عن مذهبهم بعبارة من لم يفهم حقيقة ؛ وإما أن ينكروه إنكارا مجملا من غير معرفة بحقيقته ونحو ذلك وهذا حال أكثر الخلق معهم . وأئمتهم إذا رأوا من لم يفهم حقيقة قولهم طمعوا فيه وقالوا : هذا من علماء الرسوم وأهل الظاهر وأهل القشر وقالوا : علمنا هذا لا يعرف إلا بالكشف والمشاهدة وهذا يحتاج إلى شروط وقالوا : ليس هذا عشك فادرج عنه ونحو ذلك مما فيه تعظيم له وتشويق إليه وتجهيل لمن لم يصل إليه .
وإن رأوه عارفا بقولهم نسبوه إلى أنه منهم وقالوا : هو من كبار العارفين . وإذا أظهر الإنكار عليهم والتكفير قالوا : هذا قام بوصف الإنكار لتكميل المراتب والمجالي . وهكذا يقولون في الأنبياء ونهيهم عن عبادة الأصنام . وهذا كله وأمثاله مما رأيته وسمعته منهم . فضلالهم عظيم وإفكهم كبير وتلبيسهم شديد . والله تعالى يظهر ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا والله أعلم .(134/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة لشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب
يجيب فيها عن سؤال حول معنى
لا إله إلا الله
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه.. سئل الشيخ عن معنى لا إله إلاّ الله، فأجاب بقوله
إعلم رحمك الله أنّ هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.
وليس المراد بقولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإنّ المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدّرك الأسفل من النار، مع كونهم يُصلون ويتصدقون، ولكن المراد بقولها مع معرفتها بالقلب ومحبتها ومحبة أهلها وبغض ما خالفها ومعاداته، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال لا إله إلاّ الله مخلصا )، وفي رواية (خالصا من قلبه)، وفي رواية (صادقا من قلبه،) وفي حديث آخر: (من قال لا إله إلاّ الله وكفر بما يُعبد من دون الله) ، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة، فاعلم أن هذه الكلمة نفي وإثبات نفي الإلهية عمّا سوى الله تعالى من المخلوقات، حتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجبرائيل فضلا عن غيرهم من الأولياء والصالحين.
إذا فهمت ذلك فتأمل هذه الألوهية التي أثبتها الله لنفسه، ونفاها عن محمد وجبرائيل وغيرهما، أن يكون لهم مثقال حبة من خردل، فاعلم أنّ هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا السر والولاية، والإله معناه الولي الذي فيه السرّ، وهو الذي يسمونه الفقير والشيخ، وتسميه العامة السيد وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أنّ الله جعل لخواص الخلق منزلة، يرضى أنّ الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله، فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم وهم الذين يسميهم الأولون (الآلهة)، والواسطة هو الإله، فقول الرجل لا إله إلاّ الله، إبطال الوسائط.
فإذا أردت أن تعرف هذا معرفة تامة، فذلك بأمرين:(135/1)
الأول: أن تعرف أنّ الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقتلهم ونهب أموالهم، واستحلّ نساءهم، كانوا مقرين لله سبحانه، بتوحيد الربوبية، وهو أنه لا يخلق، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبّر الأمور إلاّ الله وحده، كما قال الله تعالى: ((قُل مَن يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السّمع والأبصار ومَن يُخرج الحي من الميت ويُخرج الميت من الحي، ومَن يدبّر الأمر، فسيقولون الله)).
وهذه مسألة عظيمة مهمة، وهي أن تعرف أنّ الكفار شاهدون بهذا كله ومقرّون بها ومع ذلك لم يدخلهم ذلك في الإسلام ولم يحرم دماءهم ولا أموالهم، وكانوا أيضا يتصدّقون ويحجون ويعتمرون ويتعبّدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله عزّ وجل، ولكن الأمر الثاني هو الذي كفّرهم وأحلّ دماءهم وأموالهم، وهو أنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية، وهو أنه لا يُدعى ولا يُرجى إلاّ الله وحده لا شريك له ولا يُستغاث بغيره ولا يُذبح لغيره ولا يُنذر لغيره، لا لملَك مقرّب ولا نبي مرسل، فمن استغاث بغيره فقد كفر، ومن ذبح لغيره فقد كفر، ومن نذر لغيره فقد كفر وأشباه ذلك.
وتمام هذا، أن تعرف أنّ المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى وعُزير وغيرهم من الأولياء، فكفروا بهذا مع إقرارهم بأنّ الله هو الخالق الرازق المدبّر، وإذا عرفت هذا عرفت معنى لا إله إلاّ الله، وعرفت أن من نخا نبيا أو ملكا أو ندبه أو استغاث به فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قال قائل من المشركين نحن نعرف أنّ الله هو الخالق الرازق المدبّر، يمكّن هؤلاء الصالحين أن يكونوا مقرّبين ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم ونريد بذلك الوجاهة والشفاعة، وإلاّ نحن نفهم أنّ الله هو الخالق المدبّر.(135/2)
فقل: كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله فإنّهم يدعون عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك، كما قال تعالى: (( والذين اتّخذوا من دونه أولياءَ ما نعبدهم إلاّ ليُقرّبونا إلى الله زلفى)).
وقال تعالى: ((ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)).
فإذا تامّلت هذا تاملا جيداً، عرفت انّ الكفار يشهدون لله بتوحيد الربوبية، وهو تفرّد بالخلق والرزق والتدبير، وهم ينخون عيسى والملائكة والأولياء يقصدون أنهم يقرّبونهم إلى الله ويشفعون عنده.
وعرفت أنّ من الكفار خصوصا النصارى منهم، من يعبد الله الليل والنهار، ويزهد في الدنيا، ويتصدق بما دخل عليه منها، معتزل في صومعة عن الناس، ومع هذا: كافر عدو لله.. مخلّد في النار، بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء، يدعوه أو يذبح له أو ينذر له، تبيّن لك كيف صفة الإسلام، الذي دعا إليه نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل، وتبين لك معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: بدا الإسلام غريباً، وسيعود غريبا كما بدأ. فالله الله يا إخواني تمسّكوا بأصل دينكم، وأوله وآخره وأسّه ورأسه: شهادة أن لا إله إلاّ الله.. واعرفوا معناها، وأحبّوها وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين، واكفروا بالطواغيت وعادوهم وابغضوهم، وابغضوا من أحبّهم أو جادل عنهم أو لم يكفّرهم أو قال ما علي منهم أو قال ما كلّفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، فقد كلّفه الله بهم وافترض عليه الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانهم وأولادهم... فالله الله، تمسّكوا بذلك لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئا، اللهم توفّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.(135/3)
ولنختم الكلام بآية ذكرها الله في كتابه، تُبيّن لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفراً من الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: ((وإذا مسّكم الضرّ في البحر ضلّ مَن تدعون إلاّ إياه فلمّا نجّاكم إلى البرّ أعرضتم وكان الإنسان كفوراً)).
فقد سمعتم أنّ الله سبحانه ذكر عن الكفار أنهم إذا مسّهم الضرّ تركوا السادة والمشائخ ولم يستغيثوا بهم بل أخلصوا لله وحده لا شريك له واستغاثوا به وحده، فإن جاء الرخاء أشركوا، وانت ترى المشركين من أهل زماننا ولعل بعضهم يدّعي أنه من أهل العلم وفيه زهد واجتهاد وعبادة، إذا مسّه الضرّ قد يستغيث بغير الله مثل معروف أو عبد القادر الجيلاني وأجلّ من هؤلاء مثل زيد بن الخطاب والزبير، وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله المستعان... وأعظم من ذلك وزرا أنّهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة مثل شمسان وإدريس ويونس وأمثالهم والله سبحانه أعلم.
الحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على خير خلقه محمد وآله أجمعين(135/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِّل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى دين الحق: ((لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)) [التوبة:33].. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:102].. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) [النساء:1].. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد، فإن الله أرسل الرسل ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ليخرجوهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه وتعالى، ليكون الدين كله لله.(136/1)
ولقد عملت الشياطين على اجتيالهم عن دينهم، وصدهم عما جاء به الرسل، وإعادتهم للظلمات، وإلى الشرك والضلال والانحراف، وبعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لا نبوة ولا رسالة، فهو خاتم الأنبياء، ولكن الله تعهد بحفظ دينه وبأن يبقى طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، وما ذاك إلا لأن عوامل الهدم كثيرة، ودعاة الضلال على كل سبيل، ومن أشد الداعين إلى الضلال والانحراف المتصوفة القبورية، الذين غيروا الدين، ونقضوا العقيدة، وشوهوا وجه الإسلام بما نشروا في الأمة من وثنية وخرافة وجهل وضلال.
ولدينا في حضرموت - إحدى محافظات الجمهورية اليمنية - نصيب وافر من القبورية، وكم هائل من البدع والخرافات، ومن تلك الخرافات خرافة قبر هود في الموضع المعروف شرقي وادي حضرموت، ومن تلك البدع ما تحفل به زيارة ذلك القبر المزعوم من طقوس عبادية، ومظاهر وثنية، وفنون من اللهو المحرم، وغير ذلك من المخالفات.(136/2)
وفي هذا البحث المتواضع، حاولت أن أثبت عدم صحة وجود القبر في ذلك الموضع، وأن أكشف النقاب عما تحتوي عليه تلك الزيارة من بدع وضلالات، ودجل وخرافات، وبين ذلك أوضحت - بشكل مختصر - هدي الإسلام في التعامل مع القبور، وهدية في زيارة القبور، وهدي اليهود والنصارى في ذلك، وأن تلك الزيارة وما شاكلها، إنما تسير على هَدي اليهود والنصارى وليس على هَدي المسلمين، وقد قسَّمْت البحث إلى مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة، وقسَّمْت الأبواب إلى فصول، والفصول إلى مباحث، والذي أحب التنبيه عليه في هذه المقدمة أن الباعث على كتابة هذا البحث، هو تجديد وإحياء هذه الزيارة من نواح مختلفة، ومحاولة دُعاتها تأصيلها، وإثبات أنها حق، وتبرير ما فيها من المخالفات، وإلباسها لباس السنة، والاستدلال عليها بالآية والحديث، وإيهام القارئ البسيط أن كل ما فيها حق، وكل ما قيل عنها من قِبَلْ مروجيها حق، وتأويل المفتريات التي اخترعها من لا خلاق له بأنها حق، كما فعل سالم الشاطري في رسالته التي كتب عليها «زيارة نبي الله هود -عليه السلام- في ميزان الشرع» «مع العلامة سالم بن عبد الله الشاطري».
وهي رسالة حول زيارة نبي الله هود، مفعمة بالأدلة وتوضيح شبه تثار حولها، وكما فعل فهمي عبيدون في رسالته «الدر المنضود في أخبار قبر وزيارة نبي الله هود» التي طبعت عام (1419هـ). وكذلك الرسالة التي طبعت قديماً فصورت ووزعت هذه الأيام والمسماة «بذل المجهود في خدمة ضريح نبي الله هود عليه السلام»
وبعد ما شاهدته بعيني أثناء زيارتي لموضع القبر مؤخراً، وما رأيت من جهود كبيرة لعمارة الموقع وبناء المزيد من المرافق والمساكن هناك، وما رأيت كذلك من طقوس للزيارة عبر أشرطة (الفيديو)، كل ذلك حملني على إخراج هذا البحث لبيان الحق وتفندي الباطل على مروجي البدعة ودعاة الخرافة.(136/3)
ولقد حاولت جاهداً الإنصاف والأمانة في النقل، حتى أني أنقل من كتبهم كما وجدت، ولو مع الأخطاء المطبعية أو غيرها، حتى لا أقع في اجتهاد قد أخطئ فيه، وحتى لا أفتح باباً لمنتقد يطعن في أمانتي في النقل.
وليعلم القارئ الكريم أن ما ذكر عن الزيارة مستمر إلى اليوم وليس حديثاً عن أمر قد انتهى، ومن أحب التأكد فليحضر ليرى بعينيه، أو يشاهد شريط فيديو تلك الزيارة، ليشاهد بعض ما فيها، أما بعض الأمور فهم لا يصورونها خشية الانتقاد.
وقد سميت هذه الدراسة «الكشف المبين عن حقيقة القبوريين، زيارة هود عليه السلام وما فيها من ضلالات ومنكرات».
أسأل الله أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يؤدي الغرض الذي كتب من أجله أنه سميع مجيب.
الباب الأول
بطلان ما استدلوا به على وجود القبر في ذلك المكان
الفصل الأول
بطلان ما استدلوا به من النقل
المبحث الأول: إثبات أن الله لم يحدد موضع ذلك القبر ولا غيره من قبور الأنبياء وعلة ذلك:
هذا القرآن أمامنا محفوظ معلوم، لم نجد فيه أي إشارة إلى ذكر أي قبر من قبور الأنبياء والمرسلين مع تكرار قصصهم وسرد أخبارهم مع أقوامهم.
وما ذاك إلا أن القرآن ذكر لنا ما فيه من العبرة والفائدة، وما يمكن أن نقتدي بهم فيه، أو نتعلم منه الثبات والصبر على مواجهة من ندعوهم إلى الإسلام. كما ذكر من أحوالهم ما يكون تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً على ما يواجه من صدود وجحود من قومه.(136/4)
قال تعالى ((وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)) [هود:120]، وقال: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [يوسف:111] ولم يتعرض لتفاصيل من حياتهم لا تؤدي ذلك الغرض، مثل مواطن بعض منهم وحياتهم وغير ذلك مما لا يترتب عليه فائدة.
إذن فبيان القرآن لحكمة، وسكوته عما سكت عنه لحكمة، واسمع للإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهو يتحدث عن الأحقاف ومنازل عاد قوم هود التي يدخل من ضمنها القبر، حيث يقول بعد أن ذكر اختلاف المفسرين في موضع الأحقاف، قال رحمه الله تعالى: «وجائز أن يكون ذلك جبلاً بالشام، وجائز أن يكون وادياً بين عمان وحضرموت، وجائز أن يكون في الشحر، وليس العلم به أداء فرض ولا في الجهل به تضييع واجب» انتهى المراد منه(1).
فالقرآن ذكر موطن عاد، وأنه بالأحقاف، وأقرب الأقوال أن الأحقاف بحضرموت، ولكن لا يلزم أن يكون القبر هنالك، لاحتمال أن هوداً رحل بمن معه من المؤمنين بعد أن أرسل الله الريح العقيم فدمرت ديار عاد. فإن لم يرحل فلا يمكن أن نحدد موضع قبره إلا بنص إما من القرآن - ولقد علمنا أن لا نص في القرآن يشير إلى ذلك فضلاً عن أن يحدده - وإما من السُنة.
المبحث الثاني: بطلان ما نسب إلى السنة من ذكر ذلك القبر في موضعه المعروف:
__________
(1) ج:26- ص:16).(136/5)
وكما أن القرآن لم يشر إلى موضع قبر هود عليه السلام، فإن السنة - كذلك - لم يثبت فيها ما يشير إلى ذلك، وقد ورد حديث عن علي رضي الله عنه يفيد أن القبر في حضرموت، غير أن ذلك الحديث ضعيف جداً، وبعض ألفاظه تشعر أنه من حكايات الإخباريين التي تظهر عليها آثار الكذب والوضع، وهو مع ضعفه لا يفيد أنه في الموضع المعروف اليوم، وإنما ينفي ذلك وإليك البيان:
الحديث المذكور روي عن علي رضي الله عنه من ثلاث طرق:
1- الطريق الأولى: عن محمد بن إسحاق المطلبي (صاحب السيرة) عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عامر بن وائلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب -عليه السلام- يقول لرجل من حضرموت: «هل رأيت كثيباً أحمر يخالطه مدرة حمراء، ذا أراك وسدر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه، قال: لا، ولكن حدثت عنه، قال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود صلوات الله عليه». رواه البخاري في تاريخه(1)، والحاكم(2)، والطبري في التفسير(3) كلهم من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عن علي -رضي الله عنه-.
__________
(1) ج:1-ق:1 -ص:135).
(2) ج:2- ص:564).
(3) ج:8- ص:153).(136/6)
وهذا سند ضعيف، لأن فيه سلمة بن الفضل الأبرش، قال في التقريب: «صدوق كثير الخطأ»، فهو لا يحتج به بمفرده، وفيه كذل (محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي) مجهول (لم يرو عنه غير محمد بن إسحاق) قال ذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل عن أبيه(1)، ومثل هذا لا يصلح حتى في الشواهد كما هو معلوم في موضعه، وأما محمد بن إسحاق فقد صرح بالتحديث عند البخاري في التاريخ، وعلى ذلك فالحديث ضعيف، ثم أن علياً -رضي الله عنه- لم يسم من حدثه بذلك، واحتمال أن محدثه أحد الوافدين من تلك البلاد، ثم أن وصف الموقع لا ينطبق على موضع القبر المشهور اليوم، هذا لو صح السند إلى علي -رضي الله عنه- وقد علمت أنه لم يصح.
__________
(1) ج:7- ص:297).(136/7)
2- الطريق الثانية: ذكرها في معجم البلدان، وعنه الأكوع في البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي(1)، قال: «بعد أن رجح أن الأحقاف بأرض اليمن» ويشهد بصحة ذلك ما رواه أبو المنذر هشام بن محمد عن أبي يحي السجستاني عن مرة بن عمر الأيلي عن الأصبغ بن نباته قال: «إنا لجلوس عند علي بن أبي طالب ذات يوم في خلافة أبي بكر بن الصديق -رضي الله عنه- فذكر قصة طويلة - حتى قال: ثم أن علياً سأله ذات يوم ونحن مجتمعون للحديث: أعالم أنت بحضرموت؟ قال: إذا جهلتها لم أعرف غيرها، قال له علي -رضي الله عنه- أتعرف الأحقاف؟ قال الرجل: كأنك تسأل عن قبر هود -عليه السلام- قال علي -رضي الله عنه-: لله درك ما أخطأت! قال: نعم، خرجت وأنا في عنفوان شبيبتي في أغيلمة من الحي، ونحن نريد أن نأتي قبره لبعد صيته فينا، وكثرة ذكره منا، فسرنا في بلاد الأحقاف أياماً ومعنا رجل قد عرف الموضع فانتهينا إلى كثيب أحمر، فيه كهوف كثيرة، فمضى بنا الرجل إلى كهف منها فدخلناه، فأمعنا فيه طويلاً، فانتهينا إلى حجرين قد أطبق أحدهما دون الآخر، وفيه خلل يدخل منه الرجل النحيف متجانفاً، فدخلته فرأيت رجلاً على سرير شديد الأدمة، طويل الوجه، كث اللحية، وقد يبس على سريره فإذا مسست شيئاً من بدنه أصبته صلباً لم يتغير، ورأيت عند رأسه كتاباً بالعربية: أنا هود النبي الذي أسفت على عاد بكفرها، وما كان لأمر الله من مرد، فقال لنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كذلك سمعته من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم»، ورواه ابن عساكر كما في نثر الدر المكنون. وهذا حديث باطل أيضاً في سنده ومتنه، فأول راوٍ فيه هشام بن محمد بن السائب الكلبي أبو المنذر، قال فيه أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أحداً يحدث عنه، وقال الدار قطني وغيره: متروك. وقال ابن عساكر: «رافضي ليس بثقة». وقال البلاذري في تاريخه: «هشام لا يوثق به»(2)
__________
(1) ج:1).
(2) انظر الميزان (ج:4- ص:304- 305).(136/8)
وفيه كذلك أصبغ بن نباتة قال ابن حجر في التقريب: (متروك رافضي).
وأما من ناحية متنه، فإنه ذكر أنه وجد عند رأسه كتاباً بالعربية، وهذا يتناسب مع حكايات الأسمار والأخبار التي تساق لتسلية وتزيين المجالس، وإلا فمتى بدأت الكتابة العربية حتى يكتبها هود ويضعها عند رأسه؟!
ثم مع بطلان السند وظهور علامات الوضع على المتن، فإن المتن كذلك لا ينطبق على الموضع، فالموضع واد مثل أي واد من وديان حضرموت، والقبر في سفح الجبل الذي يطل على ذلك الوادي، وليس هناك كثيب ولا كهوف(1) ومثل هذه الملاحظات قد لاحظها رجال قبلي.
فهذا محمد عبد القادر بامطرف يقول في ملاحظاته على الهمداني: «وقد زرت هذا القبر المزعوم سنة 1954م فألفيته عبارة عن كوم مستطيل من الحجارة الصغيرة طوله اثنان وتسعون قدماً، وارتفاعه في بعض جوانبه أربعة أقدام، ويقع في سفح جبل إلى الشرق من بئر برهوت (نسبة إلى البراهيت الحميريين) فلا كثيب أحمر، ولا كهف مشرف مما ذكره الأصبغ بن نباتة ونقله عنه الهمداني»(2).
وقبل بامطرف قد لاحظ مثل ذلك أحد مشاهير مؤرخي حضرموت السيد علوي بن طاهر، قال في تذكير الناس: «وقال سيدي علوي بن طاهر الحداد: سألت سيدي أحمد -رضي الله عنه- هل عند نبي الله هود عليه السلام غار أحمر كما ذكر في رواية عن سيدنا علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)؟ وقلت له: إن أخي عبد الله يقول: إني أظن الغار الأحمر الذي جاء في الرواية المذكورة هو الغار الذي عند نبي الله هادون عليه السلام بهدون في دوعن.
فقال سيدي أحمد: وأنا الذي عندي هو هذا، وقد ذكر القزويني في تلك الرواية - وعنده الوجرات - وهي الأجرات المعروفة اليوم، وقد يكون نبي الله هدون هو المعني في تلك الرواية، وقد أشار إلى شيء من ذلك الشيخ عبد العزيز الدباغ في الإبريز»(3).
__________
(1) انظر صورة موقع القبر المزعوم.
(2) ص:22).
(3) تذكير الناس (ص:228-229).(136/9)
3- الطريق الثالثة: ما ذكره عبيدون عن الكسائي في كتابه (مبتدأ الخلق)، قال كعب الأحبار: «كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خلافة عثمان رضي الله عنه، فإذا رجل رمقه الناس لطوله! قال: أيكم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: أي ابن عمه تريده؟ قال: ذلك الذي آمن به صغيراً، فأومئوا إلى علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) فقال: من الرجل؟ قال: من بلاد حضرموت، قال: تعرف الأراك والسدرة التي يقطر من أوراقها ماء مثل السدم؟ فقال الرجل: كأنك سألتني عن قبر هود (عليه السلام) فقال: عنه سألتك فحدثني، فقال: مضيت في أيام شبابي بعشرة من فتيان الحي نريد قبره (عليه السلام) قال: فسرنا إلى جبل شامخ فيه كهوف ومعنا رجل عارف بقبره، حتى دخلنا كهفاً، فإذا نحن بحجرين وقد أطبق أحدهما على الآخر، وبينهما فرجة يدخل فيها الرجل النحيف، وكنت أنا أنحفهم، فدخلت بين الحجرين، فسرت حتى صرت إلى فضاء واسع، وإذا أنا بسرير عليه ميت، وعليه أكفان كأنها الهباء، فمسست بدنه فكان صلباً، وإذا هو كبير العينين، مقرون الحاجبين واسع الجبهة، أسيل الخد، طويل اللحية، وإذا عند رأسه حجر مكتوب عليه: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الإسراء:23] أنا هود بن الخلود بن عاد رسول الله إلى عاد بن عوص بن سام بن نوح، جئتهم بالرسالة، وبقيت فيهم مدة عمري، فكذبوني فأخذهم الله بالريح العقيم، فلم يبقِ منهم أحداً، وسيجيء بعد ذلك صالح بن كالوخ، فيكذبه قومه، فتأخذهم الصيحة، فقال سيدنا على -رضي الله عنه-: صدقت هذا قبر النبي هود (على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام)(1).
__________
(1) ص:24).(136/10)
وقد ذكر هذه الرواية العيدروس في «بذل المجهود»(1) مع اختلاف يسير، وفيه أن السرير من ذهب، وأن الكتابة (بخط السند والهند)، قلت وهذه الطريق لم أطلع على سندها، ولكن الوضع لائح على متنها، فهناك سرير من ذهب، ولوح مكتوب فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وآية من سورة الإسراء: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الإسراء:23]، أفلا يفكر من صاغ تلك الحكاية متى أنزلت هذه الآية؟؟ وهناك شق صغير يفضي إلى فضاء واسع، فهل يمكن أن نجرب ذلك ونحفر وراء تلك الصخرات حتى نصل إلى ذلك الفضاء الواسع، ويزول ما يخالجنا من شك.
هذا هو الحديث الذي عول عليه بعض المفسرين، وبعض المؤرخين، وهو ضعيف تالف، لا يصح اعتماده ولا الاحتجاج به كما رأيت، وهو على ما فيه من الوهن لا ينطبق على الموضع المعروف اليوم، وهناك حكاية أخرى نقلها عبيدون عن الشلّي في المشرع قال:
(ومن عجيب ما جاء في أيام الصديق -رضي الله عنه-: أنه حصل مطر عظيم بحضرموت، فأبرز السيل باباً مغلوقاً، فهاب الناس، وظنوه كنزاً، وكتبوا إلى الصديق -رضي الله عنه- فأرسل أمناء ففتحوا الباب فنفذ بهم إلى مغارة، فإذا فيها سرير عليه رجل ميت عليه حلة منسوجة من الذهب، وفي يده لوح مكتوب فيه هذان البيتان:
إذا خان الأمير وكاتباه………وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل………لقاضي الأرض من قاضي السماء
وفي يده خاتم مكتوب فيه (ما وجدنا لأكثرهم من عهد)، وعند رأسه مكتوب:
يا لائمي في جرهم جاهلاً………عذري مكتوب على خاتمي
وسيف أخضر مكتوب عليه: «هذا سيف هود بن عاد بن إرم»(2)، قلت: وهذه الحكاية لا ندري عن سندها شيئاً، والشلي يذكر في كتابه ذلك ما لا يحتمله العقل ولا يقره الشرع، فلا يجوز الاعتماد على نقله، ولا إثبات حكم شرعي بروايته، أضف إلى ذلك الصنعة الظاهرة على الحكاية.
__________
(1) ص:4، 5).
(2) ص:34).(136/11)
ومع ذلك فهي لا تحدد من هو ذلك الرجل: وإن كان البيت المذكور(يا لائمي في جرهم) يشير إلى أنه رجل له علاقة بجرهم التي كانت بعد عاد بقرون طويلة، وهكذا السيف والكتابة التي عليه، كل ذلك يجعلنا نقطع بأن الحكاية لا تمت إلى قبر هود بسبب مطلقاً، ولكن عادة هؤلاء القوم أن يكثروا من حشد ما يقدرون عليه من شبهات، حتى إذا كثرت وجد الإنسان البسيط نفسه مضطراً لتصديقها دون تأمل فيها.
وخلاصة الكلام أن ما استدل به مروجو خرافة قبر هود، لا يثبت سنداً، ولا يستقيم نظراً، ويدفع بعضه بعضاً في محتواه.
المبحث الثالث : مناقشة ما نقلوه عن المفسرين في ذلك:
لقد تكلم المفسرون عندما فسروا الآيات التي ذكرت قصة هود في (سورة هود) وفي (سورة الأحقاف) عن موطن قبيلة عاد التي أرسل إليها هود عليه السلام، ولم يتعرضوا لذكر القبر على سبيل البحث الذي يجدد موضعه مطلقاً، وإنما كان الحديث عن مواطن عاد والأحقاف، وذكروا روايات مختلفة، أكثرها تشير إلى حضرموت عموماً أو إلى الشحر أو إلى المهرة أو إلى ما بين عُمان والمهرة، وساق ابن جرير في تفسير سورة هود أثر على الذي تكلمنا عليه سابقاً، وعنه نقله بعض المفسرين المتأخرين، ومنهم ابن كثير، وعلى الرغم من ذلك فقد سئل الشاطري هذا السؤال: ما هي الدلائل والأدلة التي تشير إلى أن قبر هود عليه السلام هو الذي يزار الآن؟ فأجاب:
أولاً: النقول التاريخية المذكورة سابقاً، ثانياً: كتب التفسير فقد أشارت إلى أنه بوادي حضرموت، قرب برهوت والمهرة، ووصفته بصفته المعروفة الآن، وإليك بعض النقول:
[وقبل أن ننقل إليك أخي القارئ الحبيب ما ذكر من نقول: نلفت نظرك إلى ما انطوت عليه مقدمة الجواب، فهو يقول: «إنه بوادي حضرموت»، «وأنه قرب برهوت والمهرة»، وأن تلك النقول «وصفته بصفته المعروفة الآن»، وبعد أن تحفظ هذه الفقرات الثلاث من مقدمة الجواب وتحاول فهمها واستحضارها، تعال معي لنرى تلك النقول].(136/12)
1- تفسير ابن كثير ج4 (سورة الأحقاف) قال: قال الإمام علي بن أبي طالب: الأحقاف واد بحضرموت، يدعى برهوت، تلقى فيه أرواح الكفار.
نحن هنا لا نضايق الرجل ولا نطلب بسند هذا القول، مع علمنا أن العلماء يضعفون رواية أن أرواح الكفار في بئر برهوت، وربما حكموا عليها بالوضع، ولكننا نقول له: أين ذكر القبر في هذا النقل؟.
2- ثم قال: قال البغوي في تفسيره ج 5 (سورة الأحقاف) عند آية: ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ)) [الأحقاف:21] قال ابن عباس: «الأحقاف واد بين عُمان والمهرة»، وقال مقاتل: «كانت منازل عاد باليمن بحضرموت بموضع يقال له المهرة»، أين ذكر وادي حضرموت؟ وأين برهوت؟ وأين ذكر القبر؟!، ثم قول ابن عباس إنه واد بين عُمان والمهرة، هل يصح أن نقول: إنه موضع القبر المعروف؟، كم من مئات الأميال بين ذلك الموضع وبين ما يصح أن نسميه بين عُمان والمهرة؟ إن موضع القبر غرب المهرة بمسافة طويلة، وما ذكره ابن عباس شرقها، كيف أجاز لنفسه أن يغالط الناس في محافظة كاملة من محافظات الجمهورية اليمنية تمتد مئات الأميال؟ أليس على قول ابن عباس لو صح عنه إن أهل ظفار أحق أن يدعوه، وهم قد ادعوه فعلاً، ولديهم ضريح هناك يقال له ضريح هود وقد زاره ابن بطوطه وذكره في رحلته.
وهكذا قول مقاتل إنه «بموضع يقال له المهرة» هل يدل على موضع القبر؟، لا طبعاً! لا يدل على شيء من ذلك، ولكن ظنه أن الناس لا يعقلون هو الذي حمله على هذه المغالطة.
3- ثم قال: قال الرازي في تفسيره ج 14 عند نفس الآية: قال ابن عباس «الأحقاف واد بين عُمان والمهرة» ونحن نكتفي بما ذكرناه عند النقل عن ابن كثير، لأن هذا القول المنقول عن ابن عباس هو نفسه الذي ذكره ابن كثير.
هذا ما ذكره الشاطري، وقد ذكر بعضه عبيدون في (الدر المنضود في أخبار قبر وزيارة النبي هود) وزاد أقوالاً لمفسرين آخرين فقال(1): أقوال العلماء في ذلك:
__________
(1) ص:22).(136/13)
الإمام ابن كثير (ت:774هـ)، ثم نقل عنه أثر علي -رضي الله عنه- من طريق أبي الطفيل، وقد تقدم الكلام عليه وأنه لا يثبت سنده، ولا ينطبق متنه على القبر المزعوم، قال: ورواه ابن جرير، قلت: نعم، هو كذلك، وقد رواه من طريق محمد بن حميد الذي وصف بالكذب من كثير من علماء الجرح والتعديل. وسبق الكلام على بقية السند.
4- ثم قال(1): الإمام السيوطي:
ذكر في تفسيره الدر المنثور: وأخرج ابن سعيد - كذا ولعله ابن سعد - وابن عساكر عن إسحاق قال: «ما يُعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة، قبر إسماعيل تحت الميزاب بين الركن والبيت، وقبر هود، فإنه في حقف تحت جبل من جبال اليمن، وموضعه أشد الأرض حراً، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذه القبور محققة».
وقد ذكر الإمام الواقدي (المتوفى سنة 207هـ) هذه الرواية نفسها، قلت: ابن سعد من أخص أصحاب الواقدي، ومادام الواقدي قد رواها فالغالب أن ابن سعد وكذلك ابن عساكر قد روياها من طريقه، وهو شديد الضعف غير معتبر الرواية، قال عنه ابن حجر في التقريب: «متروك مع سعة علمه»، وعلى ذلك فلا قيمة لهذه الرواية، ومع ذلك فلفظ هذا الأثر لا ينطبق على موقع القبر المزعوم، لأن الحقف هو جبل الرمل أو ما استطال من الرمل مع اعوجاج، ولا أثر مطلقاً للأحقاف بهذا المعنى في ذلك الوادي الذي يزعم أنه موضع القبر.
5- ثم قال في نفس الصفحة: الإمام الخازن:
وفي لباب التأويل للخازن: فلما أهلك الله عاداً ارتحل هود ومن معه من المؤمنين من أرضهم بالأحقاف، إلى موضع يقال له الشحر من أرض اليمن فنزل هناك، ثم أدركه الموت فدفن بأرض حضرموت، ويروى عن سيدنا علي بن أبي طالب أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر.
__________
(1) ص:25).(136/14)
قلت: كلام الخازن لا ندري إلى أي شيء استند فيه، ثم هو مضطرب، فأكثر المفسرين يجعلون الشحر من الأحقاف، وهذا يفرق بينها وبين الأحقاف، ولو سلمنا أن هذا الكلام صحيح فإنه رد صارخ على من يزعم أنه في موضعه المشهور، إذ يعقل كل من عرف حضرموت أن الشحر تبعد عن موضع القبر مئات الأميال، فكيف نحتج بقول يثبت أن قبر هود في الشحر على صحة الدعوى بالموضع المزعوم؟.
6- قال(1) الإمام الشوكاني:
(وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير وابن عساكر عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: «قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة».
قلت: هو كذلك عند الشوكاني(2) ولكن بعد هذه الرواية رواية أخرى تركها صاحبنا، لأنها تفسد عليه مغالطته، حيث قال الشوكاني بعد ذلك: «وأخرج ابن عساكر عن عثمان بن أبي عاتكة، قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود».
ومع أن الروايتين لا يصح سندهما ولا ينطبق متنهما على موضع القبر المزعوم، إلا أن هذا المصنف وجد أن الرواية الأولى يمكن أن يغالط بها القارئ بينما الرواية الثانية لا يمكن أن تمر على أحد فأخفاها، وهذا هو الهوى، نسأل الله أن يعصمنا منه، ولا غرابة فهذه هي طريقة المبتدعة في الاستدلال، يحتجون بالواهيات والموضوعات، ويلوون أعناق النصوص لتوافق هواهم، ويردون ما يخالف هواهم ولو كان في الصحيحين أو أحدهما، وهذه الطائفة المبتدعة عندنا في حضرموت يطعنون في حديث الجارية الذي رواه مسلم في صحيحه لأنه يثبت أن الله في السماء على ما يليق بجلاله وكماله، فيطعنون فيه لأنه صريح في الرد عليهم، وهم مع ذلك تراهم هنا يحتجون بالموضوعات والواهيات والحكايات التي لا زمام لها ولا خطام.
ولعلي أطلت في تتبعهم فيما نقلوه من كتب التفسير حتى لا يأتوا يوماً آخر فيقولوا للعامة: معنا أدلة غير ما ذكر، والله أعلم.
المبحث الرابع: الروايات التاريخية في الموضوع:
__________
(1) ص:26).
(2) ج:2- ص:219) - طبعة دار الفكر.(136/15)
لقد ذكر المروجون لهذه الزيارة عدداً من النقول التاريخية التي تخدم - في زعمهم - قولهم بوجود القبر في ذلك الموضع، وليس هناك شيء صريح في تحديده أبداً، وكثير من تلك النقول في الحقيقة معتمدة على ما ذكرنا بطلانه من الآثار المنسوبة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو إلى ما ذكره الإخباريون القدامى الذين طُعن فيهم واتهموا بالكذب، كابن الكلبي وعبيد بن شرية الجرهمي والواقدي ونحوهم، وهذه النقول لا يمكن الاعتماد عليها وإثبات الأحكام الشرعية بها.
إن احتمال وجود قبر هود بحضرموت قائم وقوي، ولكن تحديد هذا الموضع هو الذي لا يمكن إثباته، وهنا ثلاثة من مشاهير مؤرخي حضرموت يصلون إلى هذه النتيجة.
أولهم: وهو معتمد عند الجميع وبالذات العلويين الذين يتزعمون الدعوة لزيارة قبر نبي الله هود في موضعه ذلك وهو علوي بن طاهر الحداد: حيث يلاحظ أن الكهف أو الكثيب المذكور في رواية علي غير موجود في المكان الذي يزعم أنه قبر هود، وأن احتمال أن يكون المقصود بتلك الرواية قبر هدون بدوعن وليس قبر هود، وقد مر نص كلامه من قبل.
الثاني: الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف، فقد قال بالنص: «أما القبر الذي يعتقده بعض الحضارمة أنه قبر النبي هود، فهو في حقيقته مخالف للروايات الإخبارية القديمة، ومنها رواية الأصبغ والهمداني»(1).
الثالث: المؤرخ المشهور الأستاذ سعيد عوض باوزير حيث يقول: «وقد سار النبي هود عليه السلام بعد هلاك قومه في دعوته التوحيدية إلى أن أدركته الوفاة في حضرموت، ولكن التاريخ لم يعين موضع هذا القبر، والقبر المعروف اليوم شرقي الوادي الرئيسي بحضرموت مثار للشك لأسباب متعددة، فضلاً عن أنه لم تقم أدلة تاريخية تحدد موضع القبر»(2)
المبحث الخامس: اختلاف المفسرين في موضع القبر:
__________
(1) ص:22) وقد تقدم كلامه كاملاً.
(2) معالم تاريخ الجزيرة العربية (ص:30) - بواسطة الصبان (ص:13).(136/16)
مما يؤكد عدم وجود دليل قطعي أو ظني صاح للاحتجاج به أن المؤرخين اختلفوا اختلافاً كبيراً في تعيين الموضع الذي دفن فيه هود (عليه السلام)، فقد وردت أقوال كثيرة في تحديد الموضع الذي دفن فيه.
1- فمنها دمشق قبلي الجامع الأموي:
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية «في سياق قصة هود في آخرها وهو يذكر الاختلاف في موضع قبره»: «وقد قدمنا حج هود عليه السلام عند ذكر حج نوح عليه السلام، وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن، وذكر آخرون أنه بدمشق، وبجامعها مكان في حائطه القبلي يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام والله أعلم»(1)
2- ومنهم من قال أنه بفلسطين:
قال عبد الوهاب النجار «في كتاب قصص الأنبياء» ويقول أهل حضرموت: أن هوداً عليه السلام سكن حضرموت بعد هلاك عاد إلى أن مات، ودفن شرقي بلادهم على نحو مرحلتين من مدينة تريم قرب وادي برهوت، وقد ورد عن علي (كرم الله وجهه) أنه مدفون عند كثيب أحمر وعند رأسه سمر في حضرموت، وأهل فلسطين يدعون أنه مدفون عندهم وقد بنوا له قبراً، ويعملون له كل سنة مولداً، وقول أهل حضرموت أقرب إلى المعقول لأنها متاخمة لبلاد عاد وهي الأحقاف دون فلسطين(2).
3- ومنهم من قال أنه كان بمكة:
قال الشيخ حسن عبد الله باسلامة «في كتابه تاريخ الكعبة المعظمة»: «وروى العلامة أبو البقاء محمد بن أحمد بن الضياء المكي العمري القرشي - المتوفى سنة (854هـ) - في كتابه (البحر العميق) عن محمد بن سابط قال: مات هود ونوح وصالح وشعيب بمكة فقبورهم بين زمزم والحجر، وكان النبي إذا هلكت أمته لحق بمكة يتعبد فيها إلى أن يموت». أهـ(3).
4- ومنهم من قال أنه بظفار:
__________
(1) ج:1- ص:130).
(2) قصص الأنبياء (ص:74).
(3) ص:167).(136/17)
قال ابن بطوطة في رحلته الشهيرة وهو يتحدث عن المسجد الأموي بدمشق: ويقال إن الجدار القبلي منه وضعه نبي الله هود (عليه السلام) وأنه قبر به، وقد رأيت على مقربة من مدينة ظفار باليمن بموضع يقال له الأحقاف بنية فيها قبر مكتوب عليه هذا قبر هود بن عابر صلى الله عليه وسلم(1).
5- ومنهم من قال: أن في العراق في وادي السلام قرب قبر علي بن أبي طالب (رضي الله عنه هود وصالح (عليهما السلام) فقد ذكر ذلك محمد الشهيد في كتابه (دليل الزائر إلى العتبات المقدسة في العراق)(2) وذكر كيف يزاران، وأورد صور كتب تحتها (صورة مقامي هود وصالح عليهما السلام).
فهذه كما ترى خمسة مواضع قيل إن بها قبر هود والسادس القبر الذي في حضرموت مع تشكيك بعض المؤرخين الحضارمة أن يكون في ذلك الموضع، فإذا أضفنا هذا إلى ما سبق من عدم الإشارة إليه في القرآن، وعدم صحة الأحاديث الواردة فيه، وعدم اتفاق المفسرين على شيء فيه نتج أنه لا يُعرف مكان محدد ثابت يبيح للباحث المنصف الجزم به.
وعلى ذلك فنحن نتوجه إلى مروجي خرافة زيارة هود بأن يتقوا الله وأن يتركوا المغالطة، والإصرار على الباطل، وتكلف إقامة الحجج على إثبات ما يدعون، ولا يحملوا الناس على التعب والنصب والخسارة من جهة، وعلى الاعتقاد الباطل والابتداع في دين الله أو إحياء ما اندثر من البدع إن كان قصدهم القربة إلى الله حقاً، فطرق التقرب المشروع إلى الله واسعة ومضمونة النتائج لمن بحث عنها: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)) [العنكبوت:69].
الفصل الثاني
بطلان ما استدلوا به من الكشف والإلهام على وجود قبر هود في الموضع المزعوم
المبحث الأول: تعريف الكشف والإلهام:
يقول الجرجاني عن الكشف: «في اللغة: رفع الحجاب، وفي الاصطلاح: هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجوداً أو شهوداً»(3)
__________
(1) ص:85).
(2) ص:27).
(3) التعريفات (ص:184).(136/18)
ويقول عن الإلهام: «ما يلقى في الروع بطريق الفيض، وقيل الإلهام ما وقع في القلب من علم، وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بالآية، ولا نظر في حجة وهو ليس بحجة عند العلماء إلا عند الصوفيين» انتهى محل الغرض(1).
هذا هو الكشف، وذلك هو الإلهام، توصل إلى معرفة الحقائق - كما تزعم الصوفية - بدون الطرق التي جعلها الله سبلاً لمعرفتها، ولم يكن الالتفات والاهتمام بهما معروفاً عند السلف الصالح ولا عند العلماء المقتدى بهم في كل الأعصار والأمصار.
المبحث الثاني: بيان أنه لا يحتج بالكشف عند علماء أهل السنة:
مر بك تعريف الكشف والإلهام، وتبين مما مر أنه لا يمكن إقامة حجة ولا برهان على صحة دعوى من يدعي الكشف والإلهام إلا مجرد قوله، ولهذا رده العلماء، ورفضوا الاستدلال به، قال ابن عبيد الله السقاف رحمه الله: «لو انفتح باب الاحتجاج به في الشريعة سهلت للمتاجرين بالدين الذريعة واتسع الخرق على الراقع»(2). من محاضرة مطبوعة للعلامة ابن عبيد الله. وقال الشوكاني في (إرشاد الفحول)(3) بعد أن ذكر كلام الناس عن الإلهام واستدلال من استدل لثبوته، قال: «ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة؟ وما الدليل على أن قلبه من القلب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة؟!».
وصرح العلامة ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى(4):«إن الأئمة مجمعون على أنه لا يعمل بالإلهام في الأحكام الشرعية كما صرح به حتى شراح المنهاج في أوائل الطهارة» ، والكشف والإلهام متقاربان في الحقيقة كما قال ابن عبيد الله: «وما أدراكم ما هو الإلهام؟ هو شيء يثلج به القلب، وينشرح به الصدر، وهذا هو الكشف بعينه أو نوع منه»(5).
__________
(1) نفس المصدر (ص:34).
(2) ص:30).
(3) ص:219).
(4) ج:4- ص:184).
(5) المرجع السابق.(136/19)
ولقد عول مروجو خرافة قبر هود على الكشف واستكثروا منه وصرحوا بالاعتماد عليه والاعتقاد بموجبه، قال العيدروس في كتابه بذل المجهود: «وهو محقق عند ذوي البصائر والمشاهدات من أرباب القلوب وأصحاب المكاشفات وقد رأوا هوداً عليه السلام وشاهدوه عياناً في اليقظة بعين الكشف ومشاهدة العيان في تلك البقعة الطاهرة الشريفة، والساعة المباركة المنيفة، المعروفة عند الخاصة والعامة بالنفحات السابغة العميمة، والبركات الشاملة العظيمة، وبمثابة هؤلاء المذكورين نحن زائرون، ولقبره محققون، ولقربة نايلون، وللفضل الجزيل والأجر العظيم راجون» الخ(1).
وبهذا تعلم أن القوم مخالفون لإجماع الأئمة، مجانبون لما عليه فقهاء الشافعية بل سائر علماء أهل السنة.
ولقد حاول أن يغالط سالم الشاطري في أجوبته المتعلقة بزيارة قبر هود - حاول أن يغالط حين ذكر أن الشوكاني عقد فصلاً في كتابه (إرشاد الفحول) وذكر أدلة القائلين بحجيته في الأمور التي لم ترد بدليل من الكتاب والسنة، والتي لا يترتب عليها حلال أو حرام، ولكن يستدل عليها بأنها موافقة للشرع.
أقول ما سبق أن قلته من قبل: إن هذا هو أسلوب الباطنية في التأويل والمغالطة، وإلا فالشوكاني عقب عليها بقوله: «ثم على تقدير الاستدلال بثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة، من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام صحيحة؟ وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة؟!»(2).
فهل في كلام الشوكاني هذا أنه يؤيد من يقول بحجية الإلهام؟! - اللهم لا.
المبحث الثالث: نماذج من المكاشفات الزاعمة وجود القبر في موضعه المعروف:
__________
(1) ص:7-8).
(2) إرشاد الفحول (ص:219).(136/20)
1- النموذج الأول: ما حكاه العيدروس في (بذل المجهود) عن الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي أنه قال: «تخلفت عن زيارة قبر هود (عليه السلام) سنة من السنين، فبينما أنا جالس في مكان متعال سقفه، إذ دخل علي النبي هود يطأطئ رأسه كيلا يصيبه السقف فقال: يا شيخ أن لم تزرنا زرناك»(1)
هذا أحد نماذج الكشف الذي استدل به العيدروس على صحة وجود قبر نبي الله هود في ذلك الموضع، فهل يصدق العقلاء مثل هذا الهراء ويجعلونه حجة يثبتون بها أحكاماً وعبادات لا دليل عليها من الشرع، بل الشرع بخلافها؟!.
2- النموذج الثاني: ما رواه الشيخ علوي بن الفقيه المقدم قال: «زرت النبي هوداً (عليه السلام) فلما وصلت وسوست في نفسي: هل هود في هذا المكان الذي يزوره الناس فيه أم لا؟ فغصت فيه، ثم عدت بعد ساعة، وقد وجدت النبي هوداً (عليه الصلاة والسلام) في ذلك المكان، وتحدثت معه، فشرط علي النبي هود أن أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عنه معه، فقبلت الشرط»(2)
قلت: وهذا النموذج الثاني، ففي الأول هود عليه السلام هو الذي أتى إلى المكاشف، وفي هذا النموذج المكاشف هو الذي غاص في باطن القبر، فلقي هوداً عليه السلام وتحدث معه!! ونحن نلمح أن الرواية اشتملت على أمرين:
الأمر الأول: وسوسة ذلك الشيخ في صحة وجود القبر في ذلك المكان، فلو كان الأمر مجزوماً به مثبتاً لما وسوس به، وهذا اعتراف لا يقدر أحد أن ينكره، أن القوم مازالوا متشككين في صحة ما يزعمون من وجود القبر في ذلك المكان.
__________
(1) بذل المجهود (ص:12).
(2) ص:13).(136/21)
والأمر الثاني: فهو دعوى أنه غاص في ذلك الموضع ولقي هوداً وتحدث معه، ونحن نكذب ذلك ولا نصدقه، لاسيما وهذا الرجل مجرب عليه الكذب الذي لا يمتري فيه عاقل، إذ روى عنه صاحب المشرع الروي أن الشيخ عبد الله باعباد سأل صاحب الترجمة (علوي بن الفقيه المقدم) عما ظهر له من المكاشفات بعد موت والده فقال: «ظهر لي ثلاث: أحيي وأميت بإذن الله، وأقول للشيء كن فيكون، وأعرف ما سيكون» فقال الشيخ عبد الله: «نرجو فيك أكثر من هذا»(1)، فهذا كلام لا شك في أنه كذب على الله، فإن كان هو قاله فهو كذاب، ولا يجوز الأخذ بخبره في هذه الأمور الظاهرة، فكيف في مثل هذه المكاشفات؟
وإن كان قد كُذِبَ عليه، فإن هذا أيضاً جائز أنه مكذوب عليه، وفي كلا الحالين هو كذب لا يجوز روايته فضلاً عن الاحتجاج به.
3- النموذج الثالث: ما رواه العيدروس أيضاً عن الشيخ عبد الرحمن السقاف قال:» رأيت النبي هوداً (عليه السلام) في حجر، وبين يديه لوح وهو شاب، وشعر رأسه محاليل(2)، قال العيدروس: قلت لعل الحجر المذكور في كلام الشيخ (رضي الله عنه) هو الحجرة المتصدعة التي هي في أسفل القبر الشريف لأن الناس يخصونها بالتعظيم»(3).
قلت: لم يصرح المكاشف أرآه ميتاً أم حياً؟ وما علاقة ذلك بإثبات القبر في ذلك الموضع؟ لأن أهل الكشف - كما يزعمون - يرون الملائكة والأنبياء في كل مكان، فلو كان الكلام صدقاً ما ثبت به شيء، فكيف وهو إلى الكذب أقرب؟!
__________
(1) المشرع الروي (ج:2- ص:211).
(2) المحاليل الشعر الكثير أو ضرب من الحلي.
(3) ص:13).(136/22)
4- النموذج الرابع: ما ذكره العيدروس عن سلطانة الزبيدية قال: «وقيل عند سيدتنا الشيخة سلطانة الزبيدية ’’ رضي الله عنها ‘‘: هل النبي هود (عليه السلام) في المكان الذي يزوره الناس فيه أم لا؟ فقالت: أشهد عني أنه في ذلك المكان، وأني رأيته وصافحته، فوجدته مسوراً بسوار من كعبه بسوار من فضة وسوار من ذهب»(1)، وهذا النموذج كذلك واضح البطلان فهذه الشيخة تزعم أن هوداً كان مسوراً بسوار ذهب وسوار فضة، وما أرى ذلك لائق بأنبياء الله، وتقول أنها صافحته، مع أن مصافحة النساء للرجل حرام لا يجوز، فإن قال قائل: إن ذلك ليس في شريعة هود عليه السلام، قلنا: إن المذكورة تزعم أنها من كبار أولياء الله، وإنما يكون الولي ولياً بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهديه معلوم في المنع من ذلك، فكيف ساغ لها أن تصافح الرجال وهي ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا بكمال المتابعة؟!.
هذه أربعة نماذج من المكاشفات التي يزعمونها، وهي عند البحث والتدقيق لا تساوي شيئاً!!.
وبما مر يتضح غاية الوضوح أن القبر المزعوم الذي يزوره الناس، ويخصونه مع البقعة التي هو فيها بالتقديس، ويلفقون له أكاذيب يوهمون بها العامة، أنه موضوع مقدس، وأنه قد جمعت فيه فضائل ومناقب، أن ذلك خرافة لا أساس لها من الصحة، وإنما تدل على جرأة القوم على الله، وعدم تورعهم في الكذب عليه، وأنهم يستحلون في سبيل الحصول على أغراضهم وأهوائهم كل وسيلة، وإن كانت من أشد المحرمات وأكبر الموبقات، وأنهم لا يوثق بهم في نقل ولا يركن إليهم في أمر من أمور العقيدة والسنة، والله المستعان.
الباب الثاني
هدي الإسلام في التعامل مع قبور الأنبياء والصالحين وهدي اليهود والنصارى
الفصل الأول
هدي الإسلام في التعامل مع القبور
المبحث الأول: موازنة الإسلام بين مصالح الأحياء والأموات والحفاظ على كرامة الأموات وعقيدة الأحياء:
__________
(1) ص:14).(136/23)
من مزايا الإسلام شموله واكتماله ووسطيته واعتداله، وموازنته بين المصالح والمفاسد، بحيث لا يحث على جلب منفعة يترتب عليها حصول مفسدة، أو تفويت مصلحة أعظم منها، ومن هذا المنطلق جاءت نظرته إلى مقابر المسلمين، فحفظت للأموات كرامتهم، وشرعت ما فيه مصلحتهم، ونهت أن تقدس القبور تقديساً يؤدي إلى تعظيمها في نظر الأحياء وافتتانهم بها، والاعتقاد في أصحابها ما لا يجوز اعتقاده إلا في الله.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن امتهان المقابر، بجعلها مواطن لقضاء الحاجة، وعن وطء القبور والجلوس عليها وعن كسر عظام الميت، وحذر علماء المسلمين وفقهاؤهم من نبش القبور لغير مصلحة تعود إلى الميت أو ضرورة تلجئ إلى ذلك، وأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم الماشي بين القبور أن يخلع نعليه، وهذه الأمور فيها غاية الحفاظ على قبور المسلمين وغاية التكريم لأمواتهم، وحتى لا يؤدي تكريم أموات المسلمين والحفاظ عليهم إلى تقديسهم والغلو فيهم فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يؤدي إلى ذلك.
فنهى عن الصلاة على القبور وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وعن تجصيصها والبناء عليها، والكتابة عليها، وأمر بتسوية القبور المشرفة التي ترفع فوق الحد الذي يسمح به الشرع، وقد عقل الصحابة والتابعون لهم بإحسان والأئمة المقتدى بهم ذلك، وحافظوا على ذلك الهَدي الصالح، والطريقة الرشيدة حتى نهاية القرون المفضلة، عندما آلت ولاية المسلمين إلى الروافض والباطنية، فغيروا وبدلوا، وأماتوا سنة الرسول وأصحابه، ونشروا سنة اليهود والنصارى في بلاد المسلمين، وتبعهم على ذلك جهلة الحكام ومنحرفو المتصوفة، حتى شاع ذلك في بلاد المسلمين، وصار هو الغالب على كثير منها رغم تحذير العلماء وتقرير الفقهاء وصيحات الغيورين على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وإليك براهين ما أجملته لك في هذه المقدمة:(136/24)
أما نهيه عن قضاء الحاجة بين القبور وعن وطئها: فقد رواه ابن ماجه من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أمشي على جمرة أو سيف أو أخصف نعلي برجلي أحب إليّ من أن أمشي على قبر رجل مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق»(1).
وأما نهيه عن الجلوس عليها: فقد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه، فتخلص إلى جلده خير له من يجلس على قبر مسلم»(2)
وأما نهيه عن كسر عظم الأموات: فمن حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كسر المؤمن ميتاً مثل كسره حياً»(3)
و أما النهي و التحذير من نبش القبور: فكما نقل شيخنا الألباني عن النووي في المجموع قال رحمه الله: (وقال النووي في «المجموع» (5/ 303) ما مختصره: (ولا يجوز نبش القبر لغير سبب شرعي باتفاق الأصحاب، ويجوز بالأسباب الشرعية كنحو ما سبق في المسألة (109) ومختصره: (أنه يجوز نبش القبر إذا بلي وصار تراباً وحينئذ يجوز دفن غيره فيه، ويجوز زرع تلك الأرض وبناؤها وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب، وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم وغيره، ويختلف ذلك باختلاف البلاد و الأرض، و يعتمد فيه قول أهل الخبرة بها)(4)
__________
(1) رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيحه (1/261).
(2) رواه مسلم (ج:7/37-38) مع النووي.
(3) رواه أحمد و أبو داود و ابن ماجة، وحسنه الألباني في أحكام الجنائز وبدعها (233).
(4) المرجع السابق (235).(136/25)
و أما إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى خلع النعال عند المشي بين القبور: فقد رواه أبو داود وغيره من حديث بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال: وحانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان، فقال: «يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك، فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما» وحسنه الألباني هناك(1)
وأما نهيه عن الصلاة على القبور وإليها: ففيما رواه مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها»(2) وفيما رواه أبو يعلي بإسناد صحيح كما قال الألباني رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها»(3)
وأما نهيه عن اتخاذها مساجد: ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه أحمد وغيره بسند صحيح(4).
وفي حديث عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن شرار الناس يوم القيامة من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذون القبور مساجد» رواه ابن خزيمة(5).
ومنها حديث جندب عند مسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك»(6)
__________
(1) صحيح ابن داود (ج:2- ص:622).
(2) انظر أحكام الجنائز (ص:209-210).
(3) تحذير الساجد (ص:31).
(4) تحذير الساجد (ص:25).
(5) ج:5- ص:6-7) قال المعلق وإسناده حسن.
(6) رواه مسلم (ج:5- ص:13).(136/26)
وسيأتي جملة من الأحاديث الناهية عن اتخاذ القبور مساجد ولعن من فعل ذلك، في الفصل الثاني من هذا الباب إن شاء الله.
وأما نهيه عن البناء عليها وتجصيصها: ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه»(1).
المبحث الثاني: إغفال الوحي لذكر قبور الأنبياء والدلالة عليها:
سبق الحديث عن ذلك ونفيه، وأحب هنا أن أؤكد ذلك وأبين شبهات حول الموضوع:
حيث ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة موسى وملك الموت، وكيف قبض موسى عليه السلام، قال أبو هريرة رضي الله عنه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت ثم لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر»(2).
هذا الحديث استغله مروجو إحياء المشاهد، فقال عبيدون في الدر المنضود(3): ومع ذلك فإن النبي في حادثة الإسراء والمعراج قد عرفهم، ووصف لهم قبر سيدنا موسى عليه السلام، وقال: «لو كنت هناك لأريتكم إياه» هو بنفسه عليه الصلاة والسلام يتولى تعريفهم بهذا الموطن المقدس المبارك من أجل ماذا؟! من أجل إقامة الصلات والروابط بين المؤمنين وأنبيائهم، والتأدب معهم وسلوك طريقتهم وزيارتهم في حياتهم وبعد مماتهم، وهو مقصد سامٍ سعت إليه شريعتنا، له أثر بين على القلوب، فالمرء يوم القيامة مع من أحب. كذا قال، وكذب فيما قال، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما عرفهم موضع القبر وإنما أشار إلى معرفته بذلك، ولو كان فيه مصلحة للأمة لما تركه بذلك الإبهام، ولو كانت الإشارة إليه تعريفاً من النبي صلى الله عليه وسلم له وحثاً على زيارة ذلك القبر وإحيائه لما غفل عنه الصحابة ولما أغفلوه.
__________
(1) ج:7- ص:37) نووي.
(2) البخاري مع الفتح (ج:3- ص:206)، ومسلم (ج:1- ص:128). مع الشرح.
(3) ص:21).(136/27)
إن الواقع أن ما ذكره ذلك المتعالم الجاهل لم يخطر على بال الصحابة، ولذلك لم يثبت أن أحداً منهم جاء يبحث عن القبر مع مرورهم بتلك النواحي غزاة ومجاهدين وتجاراً ومسافرين لأغراض شتى، فلا يليق بهم أبداً أن يفهموا حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وأن لذلك مقصداً سامياً سعت إليه الشريعة، ثم لم يعملوا على تحقيقه!! حاشاهم من ذلك!! وهو - كذلك - لم يخطر على بال العلماء الذين شرحوا ذلك الحديث:
فهذا النووي -رحمه الله- يقول في شرح مسلم: «قال بعض العلماء: وإنما سأل الإدناء ولم يسأل بيت المقدس، لأنه خاف أن يكون قبره مشهوراً عندهم فيفتتن به الناس»(1)، وقال الحافظ في الفتح: «لكن حكى ابن بطال عن غيره أن الحكمة في أنه لم يطلب دخولها ليعمي موضع قبره، لئلا تعبده الجهال من أمته» انتهى(2)، ففهم العلماء على العكس تماماً لفهم هؤلاء مرضى القلوب!.
المبحث الثالث: تعامل الصحابة مع ما عرف من قبور الأنبياء:
أولاً: تعاملهم مع قبر النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد صرحت عائشة رضي الله عنها بأن الصحابة لم يبرزوا قبر النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يتخذ مسجداً لما تقرر عندهم أن ذلك منهي عنه، مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، موافق لسنة اليهود والنصارى، ففي البخاري ومسلم من حديثهما رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: فلولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً»(3).
__________
(1) ج:15- ص:128).
(2) ج:3- ص:207).
(3) مسلم (ج:5- ص:12)، والبخاري فتح (ج:3- ص:200).(136/28)
وقال النووي في شرح هذا الحديث: «قال العلماء إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً، خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن أدخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث: ولولا ذلك لأبرز قبره ، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، والله أعلم بالصواب»(1).
قلت: هذا الكلام من الإمام النووي رحمه الله، فيه رد على الذين يحتجون بكون قبر النبي في مسجده.
وقد أورد السمهودي في «وفاء الوفاء» معارضة عروة بن الزبير وإنكاره لذلك فذكر عن عروة أنه قال: «نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة فأبى، وقال: كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه، قال قلت: فإن كان ولا بد فاجعلوا له حوجواً - قال السمهودي: أي وهو الموضع المزور خلف الحجرة»(2).
__________
(1) ج:5- ص:13-24).
(2) ج:3- ص:548).(136/29)
وقال في نفس الصفحة: «ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك البيت هذا البناء الظاهر، وعمر بن عبد العزيز زواه لئلا يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) الحديث، قالوا والبناء الذي حول البيت، بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين البناء الظاهر اليوم مما يلي المشرق ذراعان، ومما يلي المغرب ذراع، ومما يلي القبلة شبر، ومما يلي فضاء الشام فضاء كله، وفي الفضاء الذي يلي الشام مركن مكسور ومكيل خشب، قال عبد العزيز بن محمد يقال أن البنائين نسوه»(1).
ثانياً: تعاملهم مع قبر النبي دانيال عليه السلام حين عثروا عليه:
__________
(1) ص:548-549)، وقال ابن كثير (ج:9- ص:75): ويحكى أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً والله أعلم.(136/30)
قال الإمام ابن كثير في تاريخه(1):«وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبي خلد بن دينار حدثنا أبو العالية قال: لما افتتحنا تستر وجدنا في بيت الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، وقال: فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثل ما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية ما كان فيه؟ قال: سيركم وأمركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها، لتعميته على الناس، فلا ينبشونه، قلت: فما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، قلت: منذ كم وجدتموه قد مات؟ قال منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع، وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية» اهـ. المراد من البداية والنهاية.
قلت: فانظر إلى هدي الصحابة الذين يصدرون عن أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم وسنته، وهو القائل «إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» وكيف وجدوا ذلك النبي فلم يتخذوه مزاراً، ولم يبنوا عليه مشهداً، ولم يقروا الفرس الذين كانوا يستسقون به، وإنما حسموا الأمر وغيبوا القبر وقطعوا عروق الفتنة به، ولو كانوا ممن قدوتهم اليهود لعظموا مكانه واتخذوا عليه مسجداً ومشهداً وجعلوا له زيارة سنوية كما هو الحال عند أصحابنا، ومما يزيد الأمر تأكيداً أن هدي الصحابة هو قطع التعلق بآثار الأنبياء والصالحين، قصة عمر رضي الله عنه حينما رأى الناس ينتابون موضعاً للصلاة في طريق مكة فزجرهم عن ذلك.
__________
(1) ج:2- ص:40).(136/31)
فعن المعرور بن سويد رحمه الله قال: «خرجنا مع عمر بن الخطاب فعرض في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه، فقال عمر ما شأنهم؟ فقالوا هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أيها الناس إنما هلك من قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً، فمن عرضت له صلاة فليمض» رواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وابن وضاح في كتابه (البدع والنهي عنها)، وقال شيخنا الألباني بإسناد صحيح على شرط الشيخين(1).
فانظر إلى هذا وقارن بما تراه في زيارة هود أو غيرها كلما قيل عن مكان أن صالحاً صلى فيه أو جلس أو تعبد اتخذوا عليه مصلى مثلما اتخذها اليهود، (حتى أحدثوها بيعاً).
__________
(1) عن التبرك (ص:345). الجديع.(136/32)
ويؤكد ما أقوله كذلك قطع عمر للشجرة التي بايع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، قال الحافظ بن حجر في الفتح [ج7 ص 448]: «ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها، فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت»، وقد وردت آثار رواها البخاري عن المسيب بن حزن أن الشجرة عميت على الصحابة فيحتمل أنها عميت على بعضهم وبقيت معروفة للبعض، كما ثبت عن جابر أنه قال: لو كنت أبصر لأريتكم مكانها، ويحتمل أن الناس اتخذوا شجرة أي شجرة، وجعلوا يصلون عندها ويتبركون بها، ويؤيد هذا ما ثبت في البخاري عن طارق بن عبد الرحمن قال: «انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب وأخبرته، فقال: حدثني أبي وكان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، فقال: فلما خرجنا العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، قال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم!! فأنتم أعلم»(1) وإذا كان عمر قد قطع الشجرة فإن الناس بقوا يصلون في موضعها والله أعلم.
__________
(1) البخاري مع الفتح (ج:7- ص:447).(136/33)
وعلى كل حال فالشجرة قد اختفت إما بقدرة الله تعالى - وكانت رحمة من الله - كما قال ابن عمر فيما رواه البخاري(1)، أو كانت على يد عمر بن الخطاب، وهذا يدل على أنه ليس من الإسلام في شيء البحث عن آثار الأنبياء والصالحين، وتعظيم الأماكن التي وقعت فيها الأحداث العظيمة وقد بين الحافظ الحكمة من خفاء تلك الشجرة بما يدل أنه رحمة من الله ينكر ما يفعله الجهال والمجهِّلون مما هو حاصل الآن وقبل الآن حول مآثر الصالحين، قال رحمه الله: «وبيان الحكمة في ذلك وهو ألا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن من تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها نفعاً أو ضراً كما نراه اليوم مشاهداً فيما هو دونها، وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: (كانت رحمة) أي كان خفاؤها عليهم رحمة من الله تعالى»(2).
المبحث الرابع: استمرار ما درج عليه الصحابة من الهدي في تسوية القبور والنهي عن تعظيمها إلى نهاية القرون المفضلة:
__________
(1) ج:6- ص:117).
(2) ج:6- ص:118).(136/34)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولم يكن في العصور المفضلة «مشاهد» على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في دولة بني بويه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بويه من الموافقة لهم على بعض ذلك، ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد المكذوبة، كمشهد علي رضي الله عنه وأمثاله(1). ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ما جاء في الأم(2) وهو قول الشافعي رحمه الله: «ولم أرَ قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، قال الروي عن طاووس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تبنى القبور أو تجصص (قال الشافعي) وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها، فلم أرى الفقهاء يعيبون ذلك» ثم قال(3):«وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى أو يصلى عليه وهو غير مسوى، أو يصلى إليه، قال وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولا يبقى دينان بأرض العرب، (قال) وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعد» انتهى محل الغرض منه، فهذا هو الحال في القرون المفضلة، وقد بقي كذلك عند العلماء والفقهاء، فلا تجد كتاب فقه صغيراً أو كبيراً إلا وينص على النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها، وهذا هو الذي عليه التعويل، فكتب الفقه والحديث والتفسير والعقيدة هي كتب الهداية، وهي عمدة الناس، أما كتب التصوف، وكتب المناقب الكاذبة وكتب المؤصلين للخرافة فلا عبرة بها، وإن من حفظ الله لهذا الدين أنك تجد كتب الهداية المذكورة في الغالب خالية من البدع الشركية
__________
(1) من مجموع الفتاوى (ج:27- ص:167).
(2) ج:1- ص:277).
(3) ص:278).(136/35)
والكفرية، وكثير من البدع العملية، وإن كانت تمارس في الواقع لتبقى الحجة قائمة... والله الموفق.
الفصل الثاني
هدي اليهود والنصارى في البناء على القبور
وتعظيمها واتخاذها مساجد وكيف انتقل ذلك إلى أمة الإسلام
المبحث الأول: هدي اليهود والنصارى في اتخاذ القبور مساجد واستحقاقهم اللعن على ذلك وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فعلهم
لا لبس ولا إشكال في أن اتخاذ القبور مساجد من هدي اليهود والنصارى، وبذلك صرح النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما:
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت: «فلولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً»(1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(2)
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة جعل يلقي على وجهه طرف خميصة له، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه وهو يقول: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، تقول عائشة رضي الله عنها: «يحذر ما صنعوا»(3)
__________
(1) رواه البخاري (ج:3- ص:200). مع الفتح، ومسلم (ج:3- ص:376).
(2) رواه البخاري (ج:1- ص:532). ومسلم (ج:3- ص:376).
(3) رواه البخاري (ج:6- ص:494-495) ومسلم (ج:3- ص:377).(136/36)
وعنها رضي الله عنها أيضاً قالت: لما كان مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية، وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاويرها، قالت: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه: فقال: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة»(1).
هذه أربعة أحاديث مخرجة في البخاري ومسلم تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يلعن اليهود والنصارى بسبب أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فهي تدل لما ترجمنا له من اتخاذ القبور مساجد والبناء عليها وتعظيمها من هدي اليهود والنصارى، وأنهم استحقوا على فعلهم ذلك اللعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الإمام الليث بن سعد رحمه الله كما في مختصر اختلاف الفقهاء للجصاص [1/407]: «بنيان القبور ليس من حال المسلمين، وإنما هو من حال النصارى» بواسطة التعليق على كتاب البناء على القبور للمعلمي(2).
المبحث الثاني: النهي عن التشبه باليهود والنصارى:
إذا ثبت عندنا أن البناء على القبور واتخاذها مساجد أنه من هدي اليهود والنصارى، فاعلم أننا منهيون عن مشابهتهم نهياً مؤكداً يلحق المتشبه بهم بأولئك الكافرين الملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى ((وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)) [البقرة:120]، وقد دلت السنة كذلك على تحريم التشبه باليهود والنصارى.
__________
(1) رواه البخاري (ج:3- ص:208). ومسلم (ج:1-ص:376).
(2) ص:57-58).(136/37)
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم»(1).
وفي سنن أبي داوود والحاكم من حديث شداد ابن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا اليهود والنصارى فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم»(2).
ولكن برغم هذا التحذير من مشابهة أهل الكتاب إلا أن السنة الكونية قاضية بوقوع ذلك من هذه الأمة كما يتبين من هذا الحديث الذي أخرجه الترمذي رحمه الله وأحمد من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر! إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ((اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)) [الأعراف:138] لتركبن سنن من كان قبلكم»(3).
__________
(1) البخاري (ج:6- ص:496). مع الفتح - ومسلم طبعة عبد الباقي (ج:3- ص:166).
(2) صحيح أبو داود (ج:1- ص:128).، والحاكم (ج:1- ص:260). وصححه الألباني في صحيح الجامع.
(3) أحمد (ج:5- ص:218).، والترمذي (ج:2- ص:235). صحيح الترمذي.(136/38)
وهذا هو الذي حصل ولا حول ولا قوة إلا بالله، تشبه القوم باليهود والنصارى وتركوا سنة نبيهم، ثم ذهبوا ينصبون الشبهات لتبرير فعلهم، نسأل الله أن يهدينا وإياهم، وأما أهل العلم فقد فهموا تلك الأحاديث على ما يليق بعلمهم وفضلهم، وبينوها للناس كما أوجب الله عليهم، وحذروا مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن رجب في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري: «هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين وتصوير صورهم كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراده، فتصوير صور الآدميين يحرم وبناء المساجد على القبور بانفراده يحرم، كما دلت نصوص أخرى يأتي ذكر بعضها، قال: والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرت أم حبيبة وأم سلمة، كانت على الحيطان ونحوها ولم يكن لها ظل، فتصوير الصور على مثال صور الأنبياء والصالحين للتبرك بها والاستشفاع بها يحرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة، وتصوير الصور للتأسي برؤيتها أو للتنزه بذلك والتلهي محرم وهو من الكبائر، وفاعله من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، وأنه تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى»(1)
__________
(1) بواسطة تحذير الساجد (ص:17): (وقد ظهر عندنا رجل يدعي العلم والولاية والدعوة إلى الله يغلو فيه أصحابه غلواً مفرطاً وهو مقر لهم على ذلك، وتحكى عنه إشاعات كثيرة، تدل على دجل وتخريف كبيرين، ومن ذلك أن من نام وصورته تحت رأسه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولست أجزم بذلك، ولكن الذي أجزم به أن صور الرجل تباع في المكتبات بأحجام مختلفة، وبأوضاع مختلفة كذلك، وهي تعلق في المجالس والدكاكين وغيرها، ولا شك أنه سوف يبررها بما يعقل أو بما لا يعقل، فهذه عادتهم، وقد نقل صاحب تذكير الناس [ص:154).]: "عن أحمد بن حسن العطاس عن الحبيب عبد الله بن عمر بن يحي أنه لما وصل إلى -مليبار- دخل على الحبيب علوي بن سهل فرأى في بيته تصاوير طيور وديكة وغيرها فقال: يا مولانا إن جدكم صلى الله عليه وسلم يقول: يكلف صاحب التصاوير يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، فقال له الحبيب علوي: عاد شيء غير هذا؟ فقال: لا، فنفخ الحبيب علوي على تلك التصاوير فإذا الديكة تصرخ والطيور تغرد، فسلم الحبيب عبد الله بن عمر له حاله" فانظر إلى هذا الهراء بل الجرأة على الله والتحدي للرسول حيث يقول عليه الصلاة والسلام: " وليس بنافخ " بينما يثبت هذا المدعي القدرة عليه وصاحبنا سوف يظهر بمثل ذلك أو أشد منه، وإذا لم تستح فاصنع ما شئت).(136/39)
.
وقال الحافظ ابن حجر: «وكأنه علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره، كما فعل من مضى فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من فعل فعلهم».
المبحث الثالث: الرافضة هم أول من أحدث المشاهد المعظمة في الملة الإسلامية وغلوا في أصحابها حتى عبدت من دون الله تعالى:
مر بنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه والسلف الصالح في القرون المشهود لها بالخير، كيف كانت قبورهم وكيف كان هديهم في وضع المقابر، وكيف كانوا يبادرون إلى إنكار كل محدث ولو كان صغيراً، مما يؤدي إلى الانحراف عن ذلك المنهج، فكانوا يطمسون ما ارتفع من القبور، وينكرون على من خالف في ذلك، ويهدمون ما بني في المقابر من أبنية، واستمر ذلك الوضع إلى أواخر القرن الثالث، حيث ضعفت سلطة الخلفاء العباسيين وقوي النفوذ الرافضي والباطني، وعند ذلك أحدثت المشاهد على القبور، وانفتح هذا الباب الكبير من الشر على أمة الإسلام.
وقد شرح شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك فقال:
«ولم يكن في العصور المفضلة» مشاهد «على القبور، وإنما كثر بعد ذلك في دولة بني بُوَيْه لما ظهرت القرامطة بأرض المشرق والمغرب، وكان بها زنادقة كفار مقصودهم تبديل دين الإسلام، وكان في بني بُوَيْه من الموافقة لهم على بعض ذلك، ومن بدع الجهمية والمعتزلة والرافضة ما هو معروف لأهل العلم، فبنوا المشاهد المكذوبة كمشهد علي رضي الله عنه وأمثاله» وقال في موضع آخر:(136/40)
«وظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد، وتعطيل المساجد... ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم (ابن النعمان) كتاباً في (مناسك المشاهد) وكذبوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه، وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين الشرك والكذب»(1).
صدق شيخ الإسلام رحمه الله وأهل التاريخ والآثار قد أقاموا البراهين على صدق ما يقول، فهذه الدكتورة المصرية سعاد ماهر - أستاذة العمارة الإسلامية بجامعة القاهرة - في موسوعتها الضخمة (مساجد مصر وأوليائها الصالحون) تثبت أن أوائل الأضرحة التي شيدت عليها المشاهد هي أضرحة الشيعة الرافضة، فيعد أن أثبتت أن أول ضريح في الإسلام أقيمت عليه قبة عرفت بقبة الصليبية، وأنها بنيت عام (284هـ) على قبر الخليفة المنتصر العباسي، ونقلت عن الطبري أن أم الخليفة العباسي المنتصر استأذنت في بناء ضريح منفصل لولدها فأذن لها (إذ كانت العادة قبل ذلك أن يدفن الخليفة في قصره) وتلك الأم هي أم ولد نصرانية رومية، فهي بحكم عقيدتها وما تربت عليه من تعظيم القبور طلبت ذلك، وأجيبت إليه عندما تمكن نساء القصر من تسيير الحياة، وغلبن على الخلفاء في حال ضعفهم وانصرافهم إلى شهواتهم وملذاتهم، إذن فالتأثير النصراني ظاهر في إنشاء هذا المشهد.
قالت: ويليها من حيث التاريخ ضريح إسماعيل الساماني المبني سنة (296هـ) في مدينة بخارى، ثم ضريح الإمام علي في النجف الذي بناه الحمدانيون سنة (317هـ) ثم ضريح محمد بن موسى في مدينة قم بإيران سنة 366هـ، ثم ضريح السبع بنات في الفسطاط سنة (400هـ) (ج:1 ص:46) وهذا الترتيب قد ذكره غير واحد من المستشرقين والباحثين في الآثار والعمارة الإسلامية.
__________
(1) من دمعة على التوحيد (ص:13-17).(136/41)
وكل الذين ذكَرَتْهم إما متأثرون بالرافضة كالخليفة العباسي المنتصر مع تأثير أمه النصرانية في ذلك، أو هم في دولة شيعية، وإن قيل إن إسماعيل المذكور رجع إلى السنة، فالعبرة بالجو العام وليس بالفرد المتوفى الذي لم يعط له اختيار بحكم البيئة، وهكذا الدولة الحمدانية دولة رافضية معروفة وأهل قم معروفون بالرفض ومدينتهم من المدن المقدسة عند الرافضة، وضريح السبع بنات في عصر الدولة الفاطمية الباطنية، فثبت بهذا ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله من أن الشيعة هم الذين جلبوا القبورية إلى أمة الإسلام، وفتحوا باب الشرك والوثنية فيها، وعندنا في اليمن ابتدأت المشاهد المعظمة ودفن الأموات في المساجد في عهد الدولة الصليحية الإسماعيلية الباطنية، التي هي امتداد لدولة الفاطميين في مصر، فمن أوائل المشاهد هنا مشهد الرأسين في زبيد، ومشهد الصليحي علي بن محمد في صنعاء، ومشهد الملكة السيدة بنت أحمد في جبلة.
فهذه قصة انتشار المشاهد في اليمن وبداية القبورية الوثنية كانت على أيدي أحفاد عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أنشأ أول فرقة شيعية غالية في الإسلام تؤله البشر، وأحفاد ميمون القداح اليهودي كذلك الذي أنشأ الدولة الإسماعيلية الباطنية ذات الأصول اليهودية والتي عرفت باسم الدولة الفاطمية، فمن يا ترى ينبغي له أن يكون قدوتنا في ذلك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من أصحابه، والذين اتبعوهم بإحسان من أئمة الدين وعلماء الملة أم اليهود الظاهرون واليهود المستترون كابن سبأ وميمون القداح ومن سلك سبيلهم الغالي؟!! ((بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)) [الكهف:50].
…
الباب الثالث
هدي الإسلام في زيارة القبور والحكمة في زيارتها
الفصل الأول
مشروعية زيارة القبور والعلة في زيارتها
المبحث الأول: مشروعية زيارة القبور:(136/42)
قد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى في بداية الأمر عن زيارة القبور، ثم أذن في ذلك وفعله صلى الله عليه وسلم، وعلم أمته كيف يزورون.
فروى مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»(1).
وروى رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي أن استغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت»(2).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجراً». رواه الحاكم بسند حسن كما قال الألباني رحمه الله في «أحكام الجنائز»(3)
وفي حديث مسلم الطويل عن عائشة رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل... فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله، قال: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»(4).
ومن حديث بريدة عن طريق زهير بن حرب في مسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية»(5)
المبحث الثاني: العلة في مشروعية زيارة القبور عند أهل السنة:
__________
(1) ج:7 ص:46).
(2) ج:7- ص:46)
(3) ص:180).
(4) ج:7 ص:44).
(5) أحكام الجنائز (ص:45).(136/43)
هذه الأحاديث واضحة في مشروعية زيارة القبور ومبينة العلة في ذلك، وهي تذكر الموت ورقة القلب ودمعة العين، وأنها تزهد في الدنيا كما في حديث ابن مسعود عند الحاكم، وهي كذلك للدعاء والاستغفار للميت، هذه هي العلل التي وردت بها السنة وعرفها أهل السنة فزاروا القبور لأجل تحقيقها، ويقول الإمام الصنعاني رحمه الله في سبل السلام: «الكل دال على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار، فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً»(1).
المبحث الثالث: العلة في مشروعية زيارة القبور عند القبوريين:
لقد حاول الشاطري في إجابته على الأسئلة المتعلقة بزيارة هود أن يموه على القارئ ويشعره أن هناك من يمنع من زيارة القبور، فأحذ يسرد الأحاديث الدالة على مشروعية زيارتها، ليخرج القارئ بانطباع أن الذين ينكرون ما يحدث في زيارة هود من بدع ومحدثات وشركيات، أنهم ينكرون زيارة القبور من أصلها.
لقد نقل ميدان المعركة إلى ميدان آخر لا مقاتل فيه، وهرب من الميدان الذي يعرف أنه مغلوب مهزوم فيه، لأن سلاحه فيه الهوى والبدعة والكذب الذي لا ينفق على أصحاب البصائر، ونحن نقول له:
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل………ما هكذا تورد يا سعد الإبل
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرع لنا زيارة القبور، وعللها بعلل واضحة، فمتى زار الزائر القبور لأجل تحقيق تلك العلل، كانت زيارته مشروعة، ومتى زارها لعلل أخرى لم تكن مشروعة كما بين ذلك الإمام الصنعاني رحمه الله.
__________
(1) السبل (ج:2- ص:114).(136/44)
لقد صرح علماؤكم وقدواتكم: أن علة الزيارة عندكم ليست تلك العلل التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما علتها عندكم ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء لمحاربته وإزالته، ألا وهو الاستشفاع بالمخلوقين ولاستمداد منهم، واعتقاد أنهم يقربون إلى الله زلفى، ألم يقل العيدروس في «بذل المجهود» ذلك الكتيب الذي طبع عام (1328هـ) وأعدتم هذه الأيام تصويره وتوزيعه على الناس، ليقرؤوه ويعتقدوا ما فيه. ألم يقل: «فإن المقصود من الزيارة الاستمداد من أرواح الأنبياء والأئمة والعبارة عن هذا الاستمداد من هذا الجانب، والإمداد من الجانب الآخر، ولزيارة المشاهد أثر عظيم في هذين الركنين، أما الاستمداد فهو بانصراف همة صاحب الحاجة باستيلاء ذكر الشفيع والمَزور على الخاطر، حتى تصير كلية همته مستغرقة في ذلك، وتقبل كليته على ذكره وحضوره بباله، وهذه الحالة سبب منبه لروح ذلك الشفيع والمَزور حتى تمده تلك الروح الطيبة بما يستمد منها»(1).
واضح من هذا النقل العلة لدى القبوريين في زيارة القبور، وهي الاستمداد ويؤكد هذا واقع حالهم، فإنهم في كل مرحلة من مراحل زياراتهم يلهجون بالاستمداد من الأولياء، ودعائهم من دون الله والاستعانة بهم، والتوسل بهم إلى الله.
وفي زيارة هود بالذات يعلمون الناس حينما يحثونهم على زيارته أن يطلبوا حاجاتهم منه، فتراهم كثيراً ما يرددون في فترة التحريض على الزيارة:
هود النبي المرسل………في وداي الأحقاف قبره صحيح
قم زره واحذر تكسل………واطلب مرادك منه حول الضريح(2)
فهل يقول مسلم عالم بشرع الله فقيه فيه أن هذه الزيارة لهذه الأغراض التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
__________
(1) بذل المجهود (ص:20).
(2) الصبان (ص:30).(136/45)
أقول: لا، بل أن القوم قد صرحوا بأنهم نقلوا تلك الزيارة من الزيارة الشرعية التي عبروا عنها بأنها على طريقة الفقهاء إلى الطريقة البدعية الشركية التي عبروا عنها بطريقة الصوفية.
يقول الصبان: «كانت السنة النبوية قد أوضحت كيفية زيارة القبور، وأنها للسلام والترحم على الميت، ومن هذا المنطلق كانت زيارة السابقين»(1) ثم يقول(2):«في عهد الإمام عبد الله بن أبي بكر العديروس انتقلت الزيارة من الكيفية الفقهية إلى الطريقة الصوفية، والتي لا تقتصر على السلام والترحم بل تتناول التوسل والاستمداد والتبرك بالمزار له».
ويقول عبد اللاه بلفقيه في كتابه (الفوائد حول المزارات)، إن الزيارة انتقلت إلى الطريقة الصوفية في عهد العيدروس من التجمع لها، وكان ميلاد سيدنا العيدروس سنة (811هـ) (1408م) ووفاته سنة (865هـ) (1460م) وكان ذلك لتوقف العيدروس طيلة 13 سنة كما ذكر مؤلف (التحف النورانية) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن باوزير هو الداعي لانتظار الإذن الرباني في نقل زيارة النبي هود من طريقة الفقهاء إلى الطريقة الصوفية.
أعود بعد هذا وأقول: أهكذا يا سالم الشاطري يحتج بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أهكذا تغالط الأمة وتستدل بأدلة تدل على عكس ما تدعو إليه؟ أما تخاف الله؟؟
إن العيدروس ظل حسب تعبير بلفقيه ثلاثة عشر عاماً ينتظر الإذن الرباني بتحويل الزيارة من إجرائها على الطريقة الشرعية إلى إجرائها على الطريقة البدعية، ثم بعد تلك المدة يأتيه الإذن بذلك، فتتحول الزيارة إلى استمداد وتبرك وتوسل، هذا ما اعترفوا به، وما خفي كان أعظم.
أبعد هذا كله تحتج بالأحاديث على مشروعية هذه البدع والشركيات؟؟.
الفصل الثاني
النهي عن شد الرحال إلى القبور وعن اتخاذها أعياداً
المبحث الأول: النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة:
__________
(1) ص:25).
(2) ص:25)(136/46)
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد، مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى»(1) ، وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى»(2).
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة: يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد، الكعبة ومسجدي، ومسجد إيليا»(3).
وروى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال: لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة وهو جاء من الطور فقال من أين أقبلت. فقال: من الطور صليت فيه، فقال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل ما رحلت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»(4)
__________
(1) ج:9- ص:105-106).
(2) ج:9- ص:167-168).
(3) ج:9- ص:168).
(4) أحمد (ج:6- ص:7)(136/47)
هذه هي الأحاديث التي في هذا الباب، وقد اختلف العلماء المتأخرون في تأويلها، وفيما تدل عليه، وذكر ذلك الاختلاف النووي في شرح مسلم، وابن حجر في فتح الباري وغيرهما، وأوسع من رأيته تناول هذا البحث العلامة صديق حسن خان في شرحه (السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج) فقد استغرق بحثه أربعاً وثلاثين صفحة من الحجم الكبير من ص 84 - 117 من الجزء الخامس من طبعة قطر، وبعد إيراد مختلف الأقوال ومناقشتها قال: (وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت ذلك بأدلة صحيحة ووقع في عصره صلى الله عليه وسلم وقرره النبي -عليه السلام- فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبر، فإنه لم يقع في زمنه صلى الله عليه وسلم ، ولم يقرَّ عليه أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره، ولم يشرعه لأحد من أمته لا قولاً ولا فعلاً)(1).
(وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور أهل البقيع وغيرهم من غير سفر ولا رحلة إلى قبورهم لتذكر الآخرة، وهي رخصة مشروعة، بل مندوبة مستحبة، بل سنة واجبة إلى يوم القيامة لمن يحب الدار الآخرة، ويتمسك بالسنة المطهرة، لكن لا بإيثار السفر، واختيار الرحلة إلى الشقة البعيدة)(2). ثم ذكر ما أفضى به السفر لزيارة القبور من أفعال شركية وبدعية، ثم قال: «وحاصل الكلام وجملة المرام في هذا المقام: أن مسألة السفر لزيارة القبور (أي قبر كان) أقل درجاتها: أن تكون من المشتبهات، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، لكن من شد الرحل وأعمل المطي إلى مسجد المدينة ونزل بها، فقد سن له أو وجب أن يزور قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يترك هذه الفضيلة، وبهذا يخرج من مزالق أفهام العلماء، وسباب الفقهاء، واعتراض السفهاء، ويحصل بذلك نوع من الجمع بين مختلف الروايات.
__________
(1) السراج الوهاج (ص:113).
(2) السراج الوهاج (ص:113).(136/48)
ومن قال إن زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته الشريف (في بلده المنيف) لساكنيه أو وارديه ونازليه يكره أو يحرم فقد بغى وطغى وأساء (1).
انتهى مقصود كلامه، وبه اكتفي، ومن أراد التوسع فليعد إلى ذلك الشرح أو إلى المواطن التي أشرت إليها من شرح النووي وابن حجر والشوكاني، والله أعلم.
المبحث الثاني: النهي عن اتخاذ القبور أعياداً:
وكما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال إلى زيارة القبور، النهي الذي تضمنه قصر إباحة الرحلة إلى المساجد الثلاثة، فإنه كذلك نهى عن اتخاذ القبور أعياداً نهياً تضمنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» وذلك فيما رواه أبو داود وغيره بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله طرق أخرى عنه وعن غيره من الصحابة(2).
__________
(1) السراج الوهاج (ص:116).
(2) انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود (ج:6- ص:32).(136/49)
وقد فهم العلماء من هذا الحديث النهي عن إقامة الزيارات الموسمية الحولية للقبور، قال العلامة المناوي رحمه الله (معناه النهي عن الاجتماع لزيارته اجتماعهم للعيد، إما لدفع المشقة أو كراهة أن يتجاوزوا حد التعظيم، ثم قال: ويؤخذ منه أن اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو شهر مخصوص من السنة، ويقولون هذا يوم مولد الشيخ ويأكلون وبشربون، وربما يرقصون فيه، منهي عنه شرعاً وعلى ولي الشرع ردعهم عن ذلك، وإنكاره عليهم وإبطاله) انتهى بواسطة عون المعبود(1). وزيارة هود زيارة حولية تقام في تاريخ محدد معلوم، معلومة أيامها من ذلك الشهر، وهي الأيام التاسع والعاشر والحادي عشر من شهر شعبان، بل الأدهى والأمر أنها شبهت إلى حد كبير بأيام الحج، فهناك يوم النحر، ويوم الوقوف، ويوم النفر، ويوم العيد هو اليوم العاشر، ويوم الوقفة هو اليوم الحادي عشر، الذي يقول عنه الصبان - وهو ممن يحضر هذه الزيارة ويعرفها حق المعرفة معرفة مشاهدة وليست منقولة عن أحد - يقول: (يعتبر اليوم العاشر عيد الزوار بالشِعب، فينحرون الأغنام، ويأكلون ألذ المأكولات - ويتفننون في الطهي للطعام، وفي أجناس الطعام من الهريسة وغيرها)(2)
ويقول قبل ذلك: (تكون الوقفة يوم الحادي عشر تكتمل وفود الزائرين، ومن أدرك الوقفة أدرك الزيارة، والوقفة يوم الحادي عشر شعبان صباحاً، وسميت بالوقفة كالوقوف بعرفات، فمن أدرك الوقوف بعرفات أدرك الحج، ومن فاته الوقوف بعرفات فاته الحج، وهكذا في الزيارة).
__________
(1) ج:6- ص:32-33).
(2) ص:43)، وقد خالف الصبان في جعله اليوم الحادي عشر يوم الوقفة سائر من كتب عن ذلك.(136/50)
ثم يقول [ص:43] تحت عنوان «النفرة»: تبتدي النفرة الأولى في عصر يوم الحادي عشر، فينفر ويرحل آل علوي وآل سيئون ومن كان غربي سيئون(1). أما موكب أهل تريم فيبتدي في النفرة يوم 12 شعبان(2).
بل أن شعبان نفسه قد أضيف إلى هود، فيعرفه الناس هناك بشهر هود، يقول الصبان: «وشهر هود هو شهر شعبان ولتقدير الزيارة سمي الشهر وأطلق عليه شهر هود، وهذا الاسم معروف لدى العمال والفلاحين، ولدى كثير من الطبقات الأخرى، ومشهور أكثر من شهر شعبان»(3).
هذا التأكيد كله على اعتبار زيارة هود حولية موسمية داخلة في النهي، لا يمنع الشاطري أن ينفي أن تكون الزيارة موسمية، فلا أدري كيف يستمرئ هؤلاء الناس الكذب، ويستخفون بعقول الناس، فالله المستعان!!!.
الباب الرابع
ضلالات الزائرين
الفصل الأول
كيف نشأت زيارة هود وكيف تطورت؟
المبحث الأول: دخول التصوف إلى حضرموت وعلاقته بإشهار زيارة هود:
__________
(1) أي أصحاب علو الوادي، وقد فسره بأنهم من كان غربي سيئون.
(2) ص:43).
(3) ص:35).(136/51)
كانت حضرموت كغيرها من نواحي اليمن على السنة والاتباع، وكان السائد فيها عقيدة أهل السنة التي اشتهرت فيما بعد بمذهب الإمام أحمد رحمه الله، أو عقيدة الحنابلة، حتى وفدت عليها العقائد الوافدة: الخوارج في أوائل القرن الثاني، ولكن لم يكن لهم تأثير في أوساط الناس، إلا فترة وجيزة حين قامت دولتهم على يد عبد الله بن يحي الكندي طالب الحق، والتي استمرت سنوات قصيرة جداً ثم سحقت على يد الأمويين في آخر دولتهم. كما وفدت الشيعة الإمامية مع المهاجر أحمد بن عيسى جد آل باعلوي عام (318هـ)، ولكنها لم تجد قبولاً مما اضطر أحفاد هذا الرجل أن يتظاهروا بالدخول في مذهب أهل السنة مع بقاء بعض العقائد الإمامية لديهم، كما يقر ذلك ابن عبيد الله في رسالته (نسيم حاجر) ثم تطرأ العقيدة الأشعرية بقدوم الدولة الأيوبية التي حملتها معها إلى اليمن كما يقول مؤرخو اليمن، ومع هذا كله كان السائد هو علم الكتاب والسنة، والناس عليه مقبلون حتى كان أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع بعد أن اكتمل المد الصوفي في العالم الإسلامي، وفدت دعوة التصوف إلى حضرموت يمثلها عبد الله الصالح لمغربي، الذي أرسله شعيب أبو مدين لغرس بذرة التصوف في شخصية الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي، بدرجة أساسية،ثم في شخصية الشيخ سعيد العمودي.
قال الشلي في المشرع الروي: «وكان أهل حضرموت مشتغلين بالعلوم الفقهية، وجمع الأحاجيث النبوية، ولم يكن فيهم من يعرف طريق الصوفية ولا من يكشف اصطلاحاتهم السنية، فأظهر الأستاذ - الفقيه المقدم محمد بن علي باعلوي المتوفى سنة 652 - علومها ونشر أعلامها»(1). ويقول الحامد في تاريخه:
__________
(1) ج:2- ص:5).(136/52)
(ومع كون الأستاذ الفقيه المقدم هو الذي فتح لأهل حضرموت باب التصوف على مصراعيه، وأنار لهم السبيل لسلوك تلك الطريقة، فلم يكن هو أول متصوف في بني علوي إذ كان أول متصوف منهم هو الشريف الصالح أحمد بن علوي بن محمد صاحب مرباط، وهو ابن عم الأستاذ الفقيه، وتوفي الشريف أحمد المذكور في عشر الخمسين بعد الستمائة، ثم تصوف بعده الإمام الفقيه المقدم، فكان ذلك فاتحة لتصوف العلويين الحضرميين، وتبعهم في ذلك غيرهم من أهل حضرموت)(1)، أما عن كيفية إرسال مندوب الشيخ أبي مدين إلى حضرموت، ووصله إلى الفقيه المقدم بتريم وإلباسه لباس الصوفية، وانخلاعه عن طريق الفقهاء، فقد ذكرها الحامد في نفس التاريخ نقلاً عن الجوهر الشفاف لعبد الرحمن الخطيب (الحكاية السابعة وعشرون)، وما جاء في تلك الحكاية: وفي رواية أنه قال أيضاً: اذهب إلى حضرموت تجد فيها الفقيه محمد بن علي أبوعلوي عند الفقيه علي بن أحمد با مروان يستقي منه العلم طارحاً سلاحه على رجليه فاغمزه من عند الفقيه وحكمه، واذهب إلى (قيدون) تجد فيها سعيد بن عيسى فحكمه، قال الشيخ عبد الرحمن فغمزته وحكمته وما شاور أبا مروان، فلما رجع إليه وفي رأسه الخرقة اغتاظ عليه وقال له: رجوناك إماماً مثل ابن فورك، فتركت صحبتنا ورجعت إلى زي الصوفية، أو كما قال، فقال محمد بن علي الفقر خير، وهاجره أبو مروان إلى أن توفى)(2)
__________
(1) ص:715-716).
(2) ص:716-717) (هنا يختلف السياق قليلاً عن القصة في الجوهر الشفاف: (وفي رواية أنه قال أيضاً: اذهب إلى حضرموت تجد فيها الفقيه محمد بن علي أبو علوي عند الفقيه علي بن أحمد أبي مروان يستقي منه العلم طارحاً سلاحه على رجليه فاغمزه من عند الفقيه وحكمه، واذهب إلى (قيدون) تجد فيها سعيد بن عيسى فحكمه، قال الشيخ عبد الله فلما وصلت إلى تريم وجدت الفقيه محمد بن علي كما قال الشيخ عبد الرحمن فغمزته وحكمته وما شاور أبا مروان، فلما رجع إليه وفي رأسه الخرقة اغتاظ عليه وقال له: رجوناك إماماً مثل ابن فورك، فتركت صحبتنا ورجعت إلى زي الصوفية، أو كما قال، فقال محمد بن علي الفقر خير، وهاجره أبو مروان إلى أن توفى) [الجوهر الشفاف (ج:1ص-82)].(136/53)
.
هذه حكاية دخول الصوفية إلى حضرموت، وعندها ظهر الاهتمام بزيارة هود، وتوافدت إليه الصوفية من حضرموت وغيرها، وإن كان بعض المؤرخين قد أشار إلى أن الزيارة كانت معروفة قبل القرن السابع، إلا أن ذلك لا يمكن إثباته بنقل صحيح ولا مفصل لتلك الزيارة المزعومة، وأول من نصوا على اهتمامه بهذه الزيارة وعنايته بها وجعلها موسماً عاماً محدداً هو الشيخ عبد الله با عباد المشهور بـ(القديم) كما نص على ذلك صالح الحامد في تاريخه فقال: (وفي القرن السابع عهد الشيخ عبد الله با عباد القديم، كان للزيارة موسم يذهبون فيه مع الشيخ عبد الله، وذلك بعد فراغ الناس من أشغال التمر وتعبئته، لا على الأشهر القمرية)(1) والشيخ باعباد متوفى عام (678هـ)، كما وردت إشارة إلى زيارة الفقيه المقدم لذلك القبر كما مر، وجاء في طبقات الخواص في ترجمة أحمد بن أبي الجعد الأبيني حكاية تدل على عناية الصوفية بهذا القبر، قال: (ومن غريب ما يحكى عنه في أيام النهاية أنه خرج يوماً هو وأصحابه لزيارة قبر النبي هود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فوافق الشيخ سعيد بن عيسى الحضرمي في جماعة من أصحابه يريدون الزيارة أيضاً، فساروا جميعاً فلما بلغوا بعض الطريق بدا للشيخ سعيد أن يرجع، فرجع هو وأصحابه، ومضى الشيخ أحمد فزاروا ورجعوا، فلما كان بعد أيام خرج كل منهما هو وأصحابه لزيارة ذلك القبر المذكور من غير موعد، فالتقوا في بعض الطريق، فقال الشيح أحمد للشيخ سعيد: قد توجب عليك حق للفقراء، فقم وأنصف من نفسك، فقام الشيخ سعيد وقال: من أقامنا أقعدناه، فقال الشيخ أحمد: ومن أقعدنا أبتليناه، فأصاب كل واحد منهما ما قال صاحبه، وصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي الله تعالى، وصار الشيخ سعيد مبلياً في جسمه حتى لقي الله تعالى)(2)، والقصة على ما فيها من المجازفة تدل على عناية الصوفية بزيارة هذا القبر، وقد توفي أحمد بن أبي الجعد لبضع
__________
(1) ص:69).
(2) ص:74).(136/54)
وتسعين وستمائة كما في الطبقات المذكورة(1) وتوفي الشيخ سعيد فيما بين الستين والسبعين وستمائة(2) من تلك الطبقات.
وبما مر يتضح أن هذه الزيارة اشتهرت وتوطدت بدخول التصوف إلى اليمن، وعلى يد أقطابه، وكل من سبقت الإشارة إليهم هم من أقطاب الصوفية.
والصوفية من أشد طوائف هذه الأمة غلواً في القبور وأهلها، وهم الذين أدخلوها إلى ديار أهل السنة، بعد أن اختلطوا بغلاة الشيعة الباطنية وأخذوا بعض عقائدهم ومنها الغلو في الأولياء كما قال ابن خلدون في مقدمته: (وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين بالحلول وإلهية الأئمة مذهباً لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين... الخ)(3). وعلى كل ما ذكر تعرف إن شاء الله سر المسألة، وأن خرافة قبر هود من أصلها وراءها الصوفية القبورية الذين يريدون أن يؤسسوا لهم منطقة مقدسة يستغلون العامة من خلالها، كشأن الطرق الصوفية التي تجعل مقام شيوخ الطريقة مقاماً مقدساً، وينالون بذلك الشهرة والسلطة الروحية على قلوب الملايين من البشر، وستأتي الأدلة على هذا الكلام في آخر الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني: آل باعلوي يتسلمون قيادة هذه الزيارة ويطورونها
__________
(1) ص:74).
(2) ص:146).
(3) المقدمة (ص:473).(136/55)
عرفنا أن أول من أظهر الاهتمام بهذه الزيارة وزار زيارة جماعية هو الشيخ عبد الله القديم با عباد، ولكن بعد رسوخ أقدام آل باعلوي في تريم لم يبق مكان لأحد معهم، فهم القادة والسادة في البلاد، وغيرهم من الطوائف إنما يعلمون تحت مظلتهم، وبما يعزز مكانتهم، ولذا أصبح القائمون على الزيارة هم آل باعلوي. وصار دور آل با عباد لا يعدو دور خادم المقام الذي وظيفته ترميمه وإعداده لاستقبال الزوار بالشكل الذي يكفل راحتهم وطمأنينتهم، يقول الصبان: تحت عنوان (بعث العاملين قبل الزيارة): «قبل الزيارة يرحل العمال المندوبون لإصلاح المنازل والخدور، ويرحل المشايخ آل با عباد قبل مسير الركب ليمهدوا الطريق ويصلحوا ما خرب من المساجد أو المآثر حول القبر باعتبار أن لهم اليد الطولى في هذه الزيارة، ومنذ أيام الشيخ عبد الله القديم»(1).
هذا ما بقي لآل باعباد الذين (لهم اليد الطولى في هذه الزيارة) كما يقول الصبان، وأما القيادة الحقيقية والصدارة والهيمنة على جوهر الزيارة فهي للسادة آل باعلوي، وهناك ثلاث شخصيات برزت منهم وارتبطت أسماؤهم بالزيارة، هم:
عبد الله بن أبي بكر العيدروس المتوفى سنة (865هـ)، الذي انتقلت في عهده الزيارة من طريقة الفقهاء إلى طريقة الصوفية.
__________
(1) ص:34 - 35).(136/56)
أحمد بن عبد الرحمن شهاب الدين المتوفى سنة (946هـ)، الذي قيل أنه كان أول من حول الزيارة من الأشهر الشمسية إلى الأشهر القمرية، وهو الذي سلم راية الزيارة لأبي بكر بن سالم كما قال العطاس في تذكير الناس: (ثم نظر سيدنا أحمد بن عبد الرحمن شهاب الدين بعين الباطن، واستخلف على الزيارة والزوار في حياته سيدنا الشيخ أبا بكر بن سالم فخر الوجود صاحب عينات، السر في ذلك يعرفه من نور الله بصيرته، وكان سيدنا شهاب الدين يجلس عند أراكة بالقرب من بيته بقرية اللسك أيام الزيارة، ويقول: من بشرني أن ولد سالم بن عبد الله زار بالناس وهم سالمون ضمنت له على الله بالجنة، فكان الناس يتسابقون ويبتدرون بالتبشير.
ولما أسن وثقل كان يجلس بالمجف في تريم لاستقبال أخبار الزيارة ويقول القول المتقدم)(1).
الشيخ أبو بكر بن سالم الملقب (فخر الوجود) وهو على المشهور أول من جعل الزيارة على الشهر القمري، إذ جعل ذلك في شعبان، وجعل المبيت ليلة النصف من شعبان هناك(2).
ولهذا فزيارة مشهد هذا الشيخ ومشاهد أبنائه بمدينة عينات كأنها فرض من فروض الزيارة على كل زائر أن يأتي به قبل التوجه إلى موضع القبر، وهذا أمر مستفيض كما أن زيارته التي ما زال يتوارثها أبناؤه وأحفاده هي الركن الأساسي من أركان الزيارة مع زيارة آل شهاب الدين أحفاد أحمد بن عبد الرحمن آل شهاب الدين.
يقول الصبان: «تكون الوقفة يوم الحادي عشر بزيارة الشيخ أبو بكر بن سالم، وزيارة آل شهاب، ففي اليوم الحادي عشر تكتمل وفود الزائرين، ومن أدرك الوقفة فقد أدرك الزيارة، والوقفة يوم الحادي عشر من شعبان صباحاً، وشبهت وسميت بالوقفة كالوقوف بعرفات، فمن أدرك الوقوف بعرفات أدرك الحج، ومن فاته الوقوف بعرفات فاته الحج، وهكذا الزيارة»(3)
__________
(1) ص:229).
(2) انظر الصبان (ص:27)، والدر المنضود لعبيدون (ص:43).
(3) ص:41).(136/57)
وقد ذكر في تذكير الناس من كان يزور بالناس من آل أبي علوي منذ الفقيه المقدم إلى أبي بكر بن سالم(1).
المبحث الثالث: اتخاذ هذه الزيارة عيداً سنوياً محدداً بحدود زمانية:
سبق أن نقلنا الحديث الصحيح الذي ينهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره عيداً، وأن العلماء استنبطوا من ذلك أنه لا يجوز أن تتخذ قبور غيره من الأنبياء أو الأولياء أعياداً، وأن معنى العيد هو ما يعتاد مجيئه في السنة أو الشهر أو الأسبوع. ولكن برغم ذلك وبرغم الأدلة الصحيحة ترى القبوريين يتجاهلون هذه الأدلة المحكمة ويلجئون إلى المتشابهات فيعتمدون عليها، ويموهون بها على الناس شأنهم شأن من قال الله فيهم: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)) [آل عمران:7]، ولذلك فقد جعلوا هذه الزيارة عيداً، وجعلوا مواقيت محددة لكل منسك من مناسكها، يقول الحامد في تاريخه: (قد صار منذ عهد غير قريب لزيارة قبر النبي هود عليه السلام بحضرموت موسم خاص يجتمع له الناس، ولا أظن إلا أن موسم زيارته كان في عهد الجاهلية أيضاً، فقد ذكر اليعقوبي سوق الشحر: «وأنه تقوم به مهرة تحت ظل الجبل الذي عليه قبر هود عليه السلام» وفي القرن السابع في عهد الشيخ عبد الله، وذلك بعد فراغ الناس من أشغال التمر وتعبئته لا على الأشهر القمرية، وأول من جعل موسم الزيارة على الشهر القمري هو الشيخ الكبير فخر الوجود أبو بكر بن سالم العلوي المتوفى سنة (992هـ) إذ جعل ذلك في شعبان، وجعل المبيت ليلة النصف من شعبان هناك، إذ كان هو يقيم هناك من الليلة الحادية عشرة منه، وقيل أن أول رتب الزيارة في ذلك الحين هو شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن والمشهور الأول(2).
الفصل الثاني
__________
(1) انظر (ص:229).
(2) ص:69).(136/58)
لاهتمام الكبير بهذه الزيارة والهدف من وراء ذلك
المبحث الأول: الاهتمام الكبير بهذه الزيارة
لا يشك من يعرف تاريخ هذه الزيارة ويعرف أحوال الناس عندها، وما تبذل لأجل إنجاحها واستمرارها من جهود، وردود دعاتها على من يحاول إيضاح حقيقتها، لا يشك أن هناك اهتماماً كبيراً بهذه الزيارة يتعدى ما درج عليه الناس من الحث على الطاعات المشروعة، وما يتحلى به أهل البدع من اهتمام ببدعهم والدعوة إليها، ويتمثل هذا الاهتمام في:
أولاً: الجهد الكبير في محاولة تأصيل هذه الزيارة من الناحية الشرعية والناحية التاريخية، فهناك مؤلفات كثيرة في هذا الباب:
منها كتاب اسمه (الفوائد في قيد الأوابد حول المزارات والزيارات) لعبد اللاه بن حسن بلفقيه، مخطوط بمكتبة الأحقاف ذكره الصبان [ص:26].
وهناك كتاب بعنوان (بذل المجهود في خدمة ضريح سيدنا نبي الله هود) لعبد الرحمن بن محمد العيدروس المشهور بصاحب «الدشتة»، هذا الكتاب طبع بحيدر أباد الهند سنة (1328هـ) ثم صور، وهو يوزع هذه الأيام.
وكذلك كتاب بعنوان (فتح الودود في تحقيق قبر نبي الله هود) لعبد الله بن محمد بن عقيل مطهر.
وكتاب (وسيلة الصب الودود إلى الإله المعبود بسر زيارة نبي الله هود) لم يذكر له مؤلف، وقد قام على طباعته في الطبعة الأولى حسنين محمد مخلوف في عام (1378هـ)، وعند زيارتي لموقع القبر المزعوم وجدت كميات كبيرة في ذلك المكان، وقد طبع ثلاث مرات، ويعتبر هذا المنسك الذي يسير عليه الزوار ويقرؤون منه الدعوات والتسليمات، فهو أشبه ما يكون بتلك الكتيبات الصغيرة المنوعة التي تباع عند أبواب الحرم المكي للحجاج والمعتمرين!!(136/59)
وكتاب (زيارات وعادات، زيارة نبي الله هود) لعبد القادر محمد الصبان، وهذا الكتاب يتحدث من وجهة أدبية تاريخية، ولكن مؤلفه يذكر أنه ممن عايش تلك الزيارة، وشارك فيها وعرفها عن قرب، وقد حققه أحد المستشرقين، ونقله إلى الإنجليزية، فهو مطبوع باللغتين العربية والإنجليزية، ونشره المعهد الأمريكي للدراسات اليمينة.
وكتاب (الدر المنضود في أخبار قبر وزيارة النبي هود) بقلم فهمي بن علي بن عبيدون التريمي الحضرمي شاب من طلاب جامعة الأحقاف وصدر الكتاب عن دار الفقيه للنشر والتوزيع.
وهناك نشرة فيها أسئلة وإجابات للسيد سالم بن عبد الله الشاطري بعنوان (زيارة نبي الله هود عليه السلام في ميزان الشرع) للعلامة سالم بن عبد الله الشاطري، رسالة حول زيارة نبي الله هود مفعمة بالأدلة وتوضيح شبهات تثار حولها.
ثانياً: التغطية الإعلامية: عندما يقترب موعد هذه الزيارة تعلن عن ذلك كثير من الصحف المحلية ثم تقوم بتغطيتها، ونشر أخبارها، وإجراء المقابلات مع بعض الشخصيات التي تزورها، وهناك نشرة صحفية تصدر في تريم اسمها «أنوار التلاقي» تكاد تخصص العدد الصادر في شعبان لهذه الزيارة، وتتحدث عنها من جوانب مختلفة.
ثالثاً: الإعداد منذ شهر جمادى الآخرة لهذه الزيارة، وعقد اللقاءات وطرح الأقوال والآثار الحاثة على زيارتها، وتجييش الناس لهذه الزيارة، علماً أن معظم ما يطرح هو كذب على الله ورسوله، وتضليل لعوام المسلمين، وسيأتي نماذج منه.
رابعاً: تسمية شهر شعبان كله شهر هود، وإعطاء العمال عطلة رسمية مدة الزيارة، يقول الصبان تحت عنوان «أيام العطلة السنوية»: (تعتبر أيام الزيارة أيام عطلة بالنسبة للمزارعين والعمال، فالفلاحون يعتبرون أيام الزيارة ثمانية أيام، وهي استراحة لهم، وهم يعدون أنفسهم بالتمتع بهذه الأيام، يقول شاعرهم:
يا فرحة القلب لا قالوا دخل شهر هود
ثمانية أيام باتسلى صباح المقود
ثمانية أيام في راحة ونحنا قعود(136/60)
وشهر هود هو شهر شعبان، ولتقدير الزيارة سمي الشهر وأطلق عليه شهر هود، وهذا الاسم معروف لدى العمال والفلاحين، ولدى كثير من الطبقات الأخرى، ومشهور أكثر من شهر شعبان(1).
خامساً: الاهتمام بالجانب العمراني للمنطقة، وهو على جانبين:
الجانب الأول: البناء العام، والمتمثل في بناء القبة الضخمة فوق جزء من القبر المزعوم وموضع الناقة، وبناء متعبدات بعض من تنسب لهم الولاية، والبناء حول بعض الأحجار التي تعبد عليها بعض الصالحين في زعمهم، فهناك قبة ضخمة جداً مبنية بناءً محكماً وحولها ساحة ممهدة ومبنية بالحجارة، ومطلية بالنورة البيضاء، وكذلك ساحة كبيرة تتسع لجموع الزوار الذين يجتمعون تحت ما يسمونه بالناقة المتحجرة، مبنية بنفس الطريقة ومظللة بسقف على عدد من الأعمدة والأقواس، وسمعنا من العمال الذين يعملون هناك أن هناك مشروعاً لتوسعة هذه الساحة في المستقبل، وهناك الطرق الفسيحة المبنية بنفس الطريقة، بل هناك عقبة شقت في الجبل لتصل بعض السيارات إلى تحت القبة، كما أن هناك بعض المساجد العادية والتي لا تتميز عن غيرها من المساجد إلا أنها ذات قباب مرتفعة تميزها عن بقية المساجد.
وهناك المتعبدات، وهي عبارة عن بنايات صغيرة على شكل مسجد ذي محراب، لا تتسع إلا لنفر قليل جداً من الناس، وهو منسوب إلى من كان يتعبد في تلك البقعة من الأولياء حسب زعمهم، وأيضاً هناك حصاتان حسب تعبيرهم، الأولى الشهيرة حصاة عمر المحضار، وهي صخرة عادية متوسطة الحجم، يقال أنه كان يتعبد عندها، فجعل ذلك مصلى، وبني حوله سور ومهد بالأسمنت حديثاً وسويت أرضه ووسع، بحيث أقاموا له أعمدة من الخرسانة المسلحة من الوادي سقفوا عليها ليكون ذلك السقف امتداداً للمصلى وتوسعة له، وهي من المناسك التي تؤدى عندها بعض طقوس الزيارة إلى اليوم.
__________
(1) ص:35).(136/61)
وهناك صخرة أخرى رأينا حولها بناءً من الطين ولكنها تبدو شبه مهجورة عندما زرنا المنطقة بخلاف حصاة المحضار، وتنسب تلك الحصاة لعلي بن أبي بكر السكران(1).
وهنالك اهتمام بسقي الزوار، وأماكن وضوئهم وقضاء حاجتهم، وهناك بعض المرافق القديمة، ولكن في الوقت الذي زرنا فيه الموقع وجدنا عمالاً يشتغلون ولديهم العُدَدُ الكافية للبناء، يقولون أنهم يعملون في مقاولة لبناء واحد وأربعين حماماً «دورة مياه»، وكذلك لتوسعة مسجد الناقة، وقد سألناهم عن القائم بالمشروع، فأجابوا إن الذي يعرف ذلك هو المقاول وهو غير حاضر، ولاحظنا كذلك عمائر ضخمة مبنية بالأسمنت فهمنا أنها سبيل لإقامة بعض الشخصيات المرموقة التي تأتي للزيارة.
وأما الجانب الثاني فهو: البنايات الخاصة التي تسمى عند أصحابها «الخدور» جمع خدر وهو البيت الصغير، ولكن الموجود قصور لا خدور، فهناك عدد كبير من الخدور، بل القصور، قد يصل إلى مائتي قصر، فهي مدينة - كما يسميها بعضهم - متكاملة، غير أنها لا تسكن إلا ثلاث أو أربع أيام في السنة ثم تظل خاوية على عروشها!!
وإليك ما يقوله بعض المؤرخين في هذا الصدد:
يقول الشاطري في أدوار التاريخ الحضرمي: «وبنيت مدينة حواليه في سفح الجبل الذي فيه القبر، ولكنها لا تسكن سوى عدة أيام في السنة، وهي أيام الزيارة، أما بقية العام فتبقى بيوتها الكثيرة خاوية، فهي تشبه مدينة منى بالحجاز من هذه الناحية»(2).
__________
(1) انظر صور هذه المباني في الفصل الرابع والخامس من هذا الكتاب.
(2) ص:38).(136/62)
وقال الحامد «وكان موضع القبر متوعراً غير ممهد، وفي القرن التاسع الهجري قام الشيخ الفقيه حكم بن عبد الله باقشير المتوفى سنة (879هـ) بعمارة المشهد المذكور عمارة تامة، وبناه بالحجر والنورة، وجعل عليه قبة، ومهد ما حواليه غربيه وذلك ليقابل الزائرن وجهه، ويجلسوا مستقرين، هكذا قال صاحب السعادة والخير، ثم زيدت العمارة بعد ذلك». قال السيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن العيدروس صاحب (الدشتة) في رسالته (بذل المجهود): «وقد بنى السيد الشريف الفاضل أبو بكر بن محمد بلفقيه - كان الله عز وجل له ونفع به - قبة عظيمة على جانب الصخرة المتصدعة السابق ذكرها، في نحو نصف القبر عام (1079هـ) سبع وتسعين بتقديم السين في الأول وتأخيرها في الثاني وألف، بضبط تاريخها بحساب الجمل أي كسكر» اهـ، وقد تعددت بعد ذلك العمارة أيضاً إلى عصرنا، وفيه انتدب لعمارة الموضع وتهيئته تهيئة زائدة على ما تقدم السيد المرحوم علوي بن عبد الله الكاف فمهد الدرج المعروف اليوم، وبنى حول القبر موضعاً واسعاً، وبنى حول الصخرة المسماة «الناقة» بناءً من الحجر وردمه وسواه، فتهيأ هناك موضع واسع يتسع لجموع الزوار وطلي ذلك كله بالنورة، أصلح ذلك كله بكل إحكام، وصرف على ذلك مالاً لا يستهان به، يقدر بنحو خمسة آلاف من الريالات(1).
وقد لخص ما ذكره الأستاذ كرامة سليمان بامؤمن في كتابه «الفكر والمجتمع في حضرموت» (ص:91-292).
كما وصف المستشرقان (دانيال فان در ميولين، والدكتور هـ فون فتسمان) هذه العمائر في رحلتهما التي سمياها (حضرموت، إزاحة النقاب عن بعض غموضها)، وترجمها وعلق عليها الدكتور (محمد سعيد القدال) وصفا هذه العمائر بما لا يبعد عما تقدم وذلك من (ص:182) إلى (ص:185).
__________
(1) ص:68-69).(136/63)
سادساً: التنادي لهذ الزيارة من الأماكن البعيدة، والترويج لها في البلدان المختلفة، وفي مجلة «أنوار التلاقي» العدد الثالث شعبان ورمضان عام (1419هـ) أجريت مقابلات مع زوار من كل من بريطانيا وهما دكتور وبروفيسور، والأمارات العربية المتحدة ومصر وتنزانيا والولايات المتحدة الأمريكية وكينيا، هذا عدا من يأتون من السعودية، وقد أخبرني أحد المشايخ الأجلاء أنه طلب حجز سفر إلى السعودية في فترة الزيارة أي بعد انتهائها، فأخبر أن المقاعد محجوزة للعائدين من زيارة هود عن آخرها، وأما زوار اليمن فقد يأتون من معظم المحافظات.
هذه بعض مظاهر الاهتمام بهذه الزيارة، فما الهدف من وراء هذا كله؟
المبحث الثاني: الهدف من هذه الزيارة
ما من عامل يعمل ويكد نفسه ويجهدها إو يعمل فكره إلا وهو يبغي بذلك تحقيق هدف، وبقدر ضخامة الهدف تكون التضحية، ومن يعرف المطلوب يحقر ما بذل.
ونحن إذا نظرنا إلى هذا الاهتمام الكبير وتلك الجهود الكبيرة، والأموال التي تبذل لإنعاش هذه الزيارة، عرفنا بدون شك أن وراء ذلك هدفاً كبيراً، فما هو يا ترى ذلك الهدف؟
إن الذي يظهر لي - والعلم عند الله - أن هذه الزيارة يقصد منها أن تكون أحد الروافد لإقامة سيادة دينية وسلطة روحية يتمتع بها آل باعلوي في حضرموت، وقد تحققت لهم تلك السيادة في الماضي بهذه الزيارة وأمثالها، مما استحوذوا به على عقول الأجيال الجاهلة في مختلف العصور، وهم يسعون لإعادة ذلك المجد الذي تداعى وأوشك على السقوط، وهناك أدلة كثيرة على ما أدعي من أن هذه الزيارة يراد أن تسهم في إقامة السيادة الدينية والسلطة الروحية لتلك الطائفة.
الدليل الأول: تحويل الزيارة من الطريقة الشرعية لزيارة القبور إلى الطريقة الصوفية، أو من طريق الفقهاء - كما عبر عنها الصبان - إلى الطريقة الصوفية، على يد أحد هؤلاء السادة بعد صدور الأذن الرباني بذلك!!(136/64)
ومعلوم أن زيارة الفقهاء أو الزيارة السنية إنما هي للسلام على الأموات والترحم عليهم والاعتبار بحالهم، بينما الزيارة الصوفية توسل واستمداد من الأموات، وربط للعامة برموز يضفى عليهم التقديس ويسري تقديسهم إلى ذرياتهم، فحوّل العيدروس هذه الزيارة إلى الطريقة الصوفية ٍ، بعد أن بقي ثلاثة عشرة سنة ينتظر الأذن الرباني بذلك،(1) وقد نقلت عنه ذلك فيما تقدم.
الدليل الثاني: ربط الزيارة ربطاً محكماً بهم، فلا يزور بالناس ولا يدعوهم إلا واحد منهم، ولا يسقيهم إلا منصب أو حبيب، يقول الصبان: «تتوافد كل مجموعة زوار من بلد إلى النهر وإلى الناحية التي يقف فيها الحبيب المنصب، وكل بلد يتقدم زوارها منصب أو حبيب أو شيخ» ويقول: «يتزاحم الزوار على المنصب أو الحبيب أو الشيخ، وهو يسقيهم بيده من النهر تبركاً به، وهو يرمز إلى الشرب من الكوثر يوم القيامة».
ويقول عن التسليم على الأنبياء عند بئر التسلوم: «ويتقدم الحبيب أو المنصب أو الشيخ، ولا يقوم بالتسلوم في الغالب إلا من ينتمي إلى العلويين» وعند قبر هود (يسلمون مثل التسليمة الأولى، ثم بعد انتهاء التسليم يجلسون ويقرؤون سورة هود، ثم ترتيب الفاتحة يرتبها الحبيب أو المنصب... الخ)(2)
وهكذا كل الزيارة محكمة الارتباط بهم، ويتوارثونها كابراً عن كابر، حتى القبائل مرتبطون بهم، يقول الصبان: «وفي عصر يوم الحادي عشر من شهر شعبان تكون دخلة القبائل المناهيل، يتقدمهم منصب آل حامد» [نفس المصدر والصفحة]
__________
(1) انظر الصبان (ص:276).
(2) انظر الصبان (ص:38-39، 42).(136/65)
الدليل الثالث: مظاهر العظمة التي تضفى عليهم أثناء الزيارة، منها آل الشيخ أبي بكر وما فيها من أبهة: «ويدخل آل أبو بكر بن سالم بالطيالة والأهازيج والطبول، ويجتمع الناس من كل الزوار، ويكون لزيارتهم ودخلتهم زجل عظيم، وتعتبر دخلتهم الدخلة العظمى، وهي في مراسمها لا تختلف عن الأطر المقيد بها نظام الزيارة كما ذكرنا، إنما تمتاز بالطيالة والطبول والبيارق وكثرة الناس»(1)
إذن هذه البيارق والرايات والمواكب على أي شيء تدل؟ تدل على فرض المجد والشرف والسيادة على الناس، وليس ذلك خاصاً بآل أبي بكر بن سالم وإنما كل المناصب لهم من ذلك نصيب، وإن كان أقل، يقول الصبان عن انتهاء الزيارة: «ثم تنقضي الزيارة الأولى، ويرجع الناس إلى خدورهم، أما المناصبة فإنهم يعودون إلى الخدور في ظل خابات العمال، الذين يترنمون بالأهازيج المناسبة(2)، ويستغيثون مع كل منصب بجده، مثل (يا شيخنا يا بن سالم) و (يا شيخنا يا سقاف)... الخ.
الدليل الرابع: مما يدل على اعتبار زياراتهم وقيامهم بقيادة الناس دليل شرف وفخر، تقاسمهم تلك الزيارات وترتيبها بينهم، والتزامهم بذلك الترتيب، يقول عبيدون تحت عنوان «ترتيب الزيارات»:
أما عن ترتيب الزيارات العامة، فإنه في اليوم الثامن من شهر شعبان تقام زيارتان: الأولى منهما وقت الضحى، وهي لآل الحبيب الحبشي بالحوطة، نسبة للحبيب أحمد بن زين الحبشي، والثانية: عصر هذا اليوم وهي لآل الحبيب الحبشي بسيئون نسبة للحبيب علي بن محمد الحبشي رضي الله عنه.
أما أهل تريم، فإن زيارتهم تبدأ في اليوم التاسع، ولهم فيه زياراتان الأولى منهما: لآل بلفقيه نسبة للحبيب عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه المشهور بعلامة الدنيا! والثانية: لآل الحداد نسبة للإمام الحبيب حامد بن عمر باعلوي.
__________
(1) ص:42).
(2) ص:40).(136/66)
وفي اليوم العاشر تقام زيارتان: الأولى لآل بن شهاب نسبة للحبيب أحمد بن شهاب الدين، والثانية هي أكبر زيارة، وهي زيارة آل الشيخ أبي بكر نسبة لسيدنا أبي بكر بن سالم باعلوي، وفي هذه الزيارة ترى ذلك المظهر المثير، والجموع الكثيرة التي تحضرها، حتى أنك لا ترى في ذلك اليوم موضعاً من الشعب خالياً من الناس(1).
وما يزيدك تأكيداً على أن هذا التصدر يقصد به الفخر والشرف والسيادة، عدم تنازل بعضهم لبعض عن شيء من ذلك، بل أن هاك خبراً وقصة تشهد بكل صراحة أن القوم يبتغون من وراء ذلك الشرف والسيادة، قال الصبان وهو يتحدث عن النفرة من شعب هود:
«وقد كان أهل شهاب وآل الشيخ يجلسون في الشعب إلى ليلة النصف من شعبان، ليقرؤوا دعاء شعبان في الشعب بهود، لكنه حصل اختلاف بينهم على قراءة الدعاء، مما أدى إلى حسم الخلاف بتحديد انتهاء الزيارة قبل النصف، وأن يقرأ كل منهم دعاء شعبان في قريته أو مدينته، ويكتمل النفر يوم الثاني عشر من شعبان، وتنتهي الزيارة يوم 12، 13 شعبان»(2)
وقد أخبرني بمثل هذا بعض الثقات من أهل تريم، وقال: إن الذي فصل النزاع هو الحبيب أحمد بن حسن العطاس، هل بعد هذا شك في أن الأمر سعي وراء وجاهات ومناصب وفخر وسيادة؟!.
ومما يلتحق بذلك ويؤكده أنه حتى في الدعاء الذي يسمونه (الفاتحة) يخصون به أنفسهم من دون الناس، ولا يدخلون معهم إلا تحلة القسم ثلاثة من الصحابة واثنين من آل با عباد، ويعدون بالاسم 54 منهم عداً ما يقولون فيهم، وأولاده وإخوانه، ثم يختم بذلك بقوله: «وأصولهم وفروعهم، وجميع سادتنا آل أبي علوي والمتعلقين بهم والمنتسبين إليهم»(3)
أما غيرهم من الناس، ومنهم مئات وربما ألوف الحاضرين من عمال وفلاحين وقبائل ومشايخ وسائر طوائف المجتمع فلا شيء لهم إلا على وجه العموم.
__________
(1) ص:68).
(2) ص:43).
(3) من وسيلة الصب الودود (ص:52-53).(136/67)
بعد هذه الأدلة على ما قررته من أن هدف هذه الزيارة وغيرها من الزيارات والطقوس القبورية إنما يراد بها بناء مجد وعز لطائفة مخصوصة هي طائفة آل أبي علوي، أنقل لك كلاماً لا تنقصه الصراحة ينسب المجد لهذه الطائفة، ويحثها على المحافظة عليه، وألا تبدل نعمة الله كفراً، أي هذا المجد، والعز ذلة ومهانة، هذا الكلام مرتبط بهذه الزيارة ارتباطاً وثيقاً، فقد نقله عبيدون في كتابه الدر المنضود بعد أن قدم له بقوله: «ولأجل أن الزيارة هذه ما قامت إلا بأهل حضرموت خاصة، وغيرهم عامة فهذه صورة موجزة عنهم ثم عنون بالخط العريض:
مجد أهل حضرموت عامة وأهل تريم خاصة:
وهي نبذة مختصرة عن مجد أهل حضرموت عامة، وأهل تريم خاصة، التي تعقد فيها اجتماعات قبل زيارة نبي الله هود، ونقلاً من كلام الإمام العلامة عمر بن محمد بن سالم بن حفيظ:
إن المتأمل الذي يتأمل تاريخ الإسلام فيجد بلدتكم (أي تريم) هذه من أنظر صفحات التاريخ وأزهاها وأشرفها وأنورها، أفيريد أحد أن يبدل نعمة الله كفراً؟ ويقول: فعلهم تركهم؟!(136/68)
هذا فخرك، هذا عزك، هذا مجدك، هذه كرامتك التي أكرمك الله بها، أفتريد أن تقلبها كفراً.. ؟ فهل الله محتاج إليك.. ؟ أيكرمك ويشرفك وتعاند بعد ذلك، وتحول النعمة كفراً، ثم تظن أنه محتاج إليك...؟ سيقصمك ولا يبالي.. ، إن كانت الأمة المحمدية في الشرق والغرب تفتخر بوجود الصلحاء، فقد جعل الله حظنا من وجودهم وافراً، بل من أفخر الحظوظ على ظهر الأرض، إن كان لأهل الإسلام من جميع أهل «لا إله إلا الله» عز وشرف وفخر منذ نشر الإسلام ودعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فبلدتنا من أوفر البلاد حظاً وأكبرها قسماً، وأجزلها نصيباً، بل مئات الآلاف والملايين من المسلمين الآن ما دخلوا الإسلام من أوائلهم إلا على يد رجال من هذه البلدة، أفنبدل نعمة الله كفراً.. ؟ أفنأتي ونقول فعل وترك.. ؟! فهذه الغباوة بنفسها، وهذه البلادة بنفسها، نأتي إلى بيت عزنا وشرفنا ومجدنا فنريد أن نقصمه... ، ثم لو كان هذا العز والشرف من أي مخلوق ربما تمكنا من تهديم القصر، لكن العزيز الذي أعز أهل طاعته كل من حام حول قصر هذه العزة كما سمعتم انتقم العزيز منه، لأن العزيز يغار على عزته التي قال عنها: ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)) [المنافقون:8] أنت تريد أن تهدم قصراً عزه بالله، إنه ليس عز بمال، وليست العزة بسلطة، وليست العزة بحكم، وإنه ليس بعز تكبر، إنه ليس عز بترفع عن أحد من الخلق، بل صفات هؤلاء الرجال التواضع الذي قل نظيره في الشرق والغرب، ولقد شهدت شوارع البلدة قلوباً في التذلل والتواضع للجمادات فضلاً عن الحيوانات فضلاً عن بني آدم، تبوأت فيها منزلة من وصل إليها وهم عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً... الذين لم يتكبروا حتى على الجمادات ولا على الأرض التي يمشون عليها.(136/69)
ومنهم طوائف كثيرة مضوا في خدمة الفقراء، في خدمة المتعبين، في خدمة العجائز، كثير ممن هم من أكابر وخواص الظاهرين فيهم المشهور فضلهم وهو يتقمص قميص الخدمة لعجوز أو لشائب أو لمتعب أو لمسكين أو لمحتاج أو لمضطر... هذا تاريخهم وهذه أوصافهم.. إذن فلا عز لهم بشيء سوى الله.
ثم إذا كان عزهم بالله فأراد إنسان أن يهدم بيت العزة هذا أنى له ذلك؟ لو كان عزهم بحكم ربما استطعت، لو كان عزهم بسلطة ربما استطعت أن تهدمه، أنت تريد أيضاً حكماً، أنت تريد سلطة، لكنه عز لحي دائم كيف تهدمه.. ؟! ومن أين تدخل عليه.. ؟! فرضي الله عمن لا عز لهم إلا الانتساب لعظمة الله والإقبال على الله.
ثم قال: وينقل أهل التاريخ أنه لما انتشرت الردة في نواحي حضرموت وخرج الصحابة لقتال المرتدين، وكان من جملة من اختصت به هذه البلدة ما وجد فيهم مرتد، وأن أهل البلدة قاموا بنصرة الصحابة فور ما وصلوا، وقاتلوا معهم، ودارت معركة هناك في النجير، هناك دارت معركة من المعارك حضرها جماعة من الصحابة ومنهم أهل بدر قُبِروا في مقبرتكم والتي تسمى «زنبل» وقامت قائمة الدين حتى ذكر أهل التاريخ أنه لما وصل الخبر إلى الصديق سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه دعا بثلاث دعوات لهذه البلدة وقال: «اللهم أبقها معمورة إلى يوم القيامة وبارك في مائها، وانبت الصالحين والأولياء فيها كما ينبت الماء الزرع» وقد استجاب الله دعوته هذه رضي الله عنه.(136/70)
وأهل بلدة لهم مثل هذا التاريخ الصاتع الناصع المضيء من غير شك أن المسئولية كبيرة عليهم، أفيخلف بعد الأتقياء خلف أشقياء.. ؟! أو يخلف بعد الأنبياء خلف بكدر أو قذر.. ؟ أو يحل بنا ما وصف الله به أقواماً لم يحسنوا الخلافة للأنبياء من قبلنا.. ؟! وقال بعد ذكر الأنبياء: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)) [مريم:59] وقال في الآية الأخرى: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى -أي: الدنيا- وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا)) [الأعراف:169].
ولكن نرجو أن يخلف الماضين من الأكابر أخيار، ويظهر الله فيهم صدق الخدمة للدين وللرسالة ولهذا النور المبين) اهـ(1).
هذا هو نص كلام الإمام العلامة كما وصفه عبيدون، يتحدث عن مجد أهل تريم ووجوب المحافظة عليه، ومن هم يا ترى أهل تريم الذين لهم المجد؟ من هم أهل تريم المستحقون للعز؟ هل هم القبائل الذين نصيبهم من ذلك العز حمايته والحفاظ عليه لأربابه دون أن يشركوا فيه بأدنى نصيب؟ هل هم المساكين من الفلاحين والعمال وطوائف الحضر المختلفة؟ هل يمكن أن نقول بأنهم المعنيون بالأمر وهم يعاملون معاملة العبيد الأرقاء من أسياد سيئي الملكة يسخرون للخدمة ولإظهار مجد أهل المجد وعز أهل العز بإذلالهم وإهانتهم؟ هل هؤلاء لهم نصيب من العز؟ إن المقصود بالعز الذي تجب المحافظة عليه هم أولئك السادة وحدهم! ومن هنا يمكن أن نفهم كيف لقيت زيارة هود ذلك الاهتمام وتلك العناية وذلك الجهد لتكون من دعائم العز المنشود!!
__________
(1) الدر المنضود في أخبار وزيارة النبي هود (ص:49-53).(136/71)
وإضافة لما تقدم ومما يؤكد أن القوم يتخذون من هذه الزيارة وسيلة للوصول إلى رفعتهم ومجدهم، هذه الحكاية التي ذكرها الصبان نقلاً عن تاريخ الدولة الكثيرية للأستاذ السيد محمد بن هاشم قال: (ويذكر الأستاذ محمد بن هاشم عن بدر أبو طويرق ونسبه واهتمام العلويين به، قال: تصدى جماعة من السادة العلويين في أوائل ظهوره «أي بدر» للبحث والتنقيب عن سلسلة نسبه، وأسفرت النتائج إلى اتصال نسبه إلى يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود، قال: ولما تحققوا صحة هذا النسب، ذهب سبعة منهم إلى ضريح النبي هود على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، واعتكفوا هناك متضرعين إلى الله أن يقيض هذا السلطان لحفظ القطر، قال: وظهرت آثار الإجابة في السنة نفسها.. الخ)(1).
قلت انظر إلى هذا الاستغلال العجيب، فالسلطان بدر أبو طويرق أشهر سلاطين حضرموت ربما على الإطلاق وعندما شعر القوم بصعود نجمه، نسجوا هذه المسرحية، فأثبتوا نسبه إلى هود ثم اعتكفوا - حسب زعمهم - عند قبر هود لاستمداد النصر والتأييد لهذا السلطان، ولما ظهر بوضوح انتصاره وظفره، جاءوا ليبشروه أن علامات قبول تلك الدعوات والتوسلات قد ظهرت، وأن ما أحرزه من نصر هو ببركة دعائهم لجده نبي الله هود، وبذلك يكتسبون المكانة عنده، واستغلال دولته للوصول لأهدافهم.
__________
(1) ص:29-30).(136/72)
وفي هذا الصدد يقول كرامة سليمان: (ويشير التراث الفكري العلوي إلى التأثير الفكري الصوفي، الذي أحكم حول حكام حضرموت وأحيط بهم، مبيناً أن استقامة العقيدة والتوفيق في الدنيا والآخرة مربوطان ومرهونان بالتشيع لأهل البيت، وأن صلاح عقيدة المسلم يقوم على أساس حب العلويين، وحسن الظن بهم، وأن فساد العقيدة ينشأ من سوء الظن بهم، وأن كثيراً من الحكام ينتصرون ويتوفقون في مساعيهم السياسية بفضل ورضا العلويين عنهم، فقيام دولة آل يماني مثلاً كان بدعوة ورضا من العلويين، وكانت نهاية دولتهم نتيجة عدم رضائهم عنها، حين شاء العلويين أن يستبدلوهم بآل كثير. يقول صالح الحامد: «لم تتبدل الدولة اليمانية في تريم حتى شاء الله، وذلك بعد أن شاء العلويين ورأوا في ذلك المصلحة العامة فاستولى آل كثير عليها».
وفي الواقع أنه لم يكن خروج آل يماني من تريم واستيلاء آل كثير عليها بفعل «رضا» العلويين عن آل كثير وغضبهم على آل يماني، وإنما بفعل السلاح الجهنمي الجديد - بنادق أبو فتيلة - والتي تسمى علوق الروم «أي الأتراك» والتي استخدمها جنود السلطان بدر الكثيري، والتي حصل عليها من الأتراك(1).
الفصل الثالث
الترويج لهذه الزيارة ووسائل الجذب لها
المبحث الأول: النص على أن القوم يروجون لهذه الزيارة من كتبهم
لا يتخفى ولا يتستر دعاة خرافة قبر وزيارة هود بدعوتهم إليها وترويجهم لها، وحث الجميع على المشاركة فيها، قال في [بذل المجهود ص 11]: (وكان سيدنا الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي الله تعالى عنه يقول: إن النبي هود عليه الصلاة والسلام يتحمل ذنوب زواره حتى يرفعها الله تعالى، وكان رضي الله عنه لا يفرح بشيء مثل فرحه له بزيارة قبر النبي هود، وكان يحث على زيارته ويقول لمن رآه يتخلف عن زيارته بسبب قوت أهله وعياله: من لم يكن معه لعياله شيء فليأت إلينا ونحن ننظر لعياله كفايتهم، يعني أيام مكثه بسبب الزيارة.
__________
(1) ص:299).(136/73)
ويقول عبيدون: (لقد حث السلف الصالح رضوان الله عليهم على هذه الزيارات والاجتماعات)... الخ(1)، ثم ذكر بعض النقول عن بعضهم فقال: يقول الإمام العارف بالله تعالى علي بن أبي بكر السكران: (أما بعد فإن زيارة الأنبياء والمرسلين في مقابرهم المعروفة ومشاهدهم المشهورة من أجلّ الطاعات وأجزل القربات، ومن أجلّ المشاهد وأفضل المعابد وأجلها الموضع المعروف والمشهد المألوف بحضرموت، قبر النبي هود المرسل المعظم المبجل المكرم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم)(2)
ويقول تحت عنوان «استعداد أهل تريم للزيارة»: عندما يدخل شهر رجب تبدأ الاجتماعات التي يحضرها العلماء والتي يرغبون فيها في زيارة هذا النبي الكريم وعدم التخلف عنها، وتنشد في هذه المجالس الأشعار التي تحث الناس على حضور هذه الزيارة، وعدم الالتفات إلى قول الحساد الذين يخذلون عنها، ومن تلك الأشعر قول سيدنا عبد الرحمن بن الشيخ علي:
ياذا البريق الشرقي………اللي تنمنم من قدا قبر هود
نبي رب الخلق………صلى الله عليه نعم الودود
ويقول في أثنائها:
هود النبي المرسل………في واد الأحقاف قبر صحيح
سر وزره واحذر تكسل………واطلب مرادك منه حول الضريح
ويقول في قصيدته الأخرى:
طوبى لمن زار ذا الرسول………يعطيه مولاه كل سول
يكفي المضرات والمهول………والسر يلقاه في اللحود
كم جملة أخبار………وبحور أنوار جميعهم زار
ضريح قبر النبي هود………فسر إليه واترك القعود
ويقول الصبان تحت عنوان «الإعلام»:
منذ جمادى الثانية يبتدي الوعاظ بالحث على زيارة نبي الله هود، ويقولون: أنه لا ولاية تعقد لولي بحضرموت إلا بجوار وفي حضرة نبي الله هود - ثم ذكر قصة ليس هنا موضع ذكرها - ثم قال: ويستمر الإعلام في مجالس الوعظ الأسبوعية والليلية وتتلى القصائد المحبذة للزيارة)... الخ(3)
__________
(1) ص:46).
(2) ص:47).
(3) ص:64).(136/74)
فهذه النصوص فيها التصريح الواضح بالحث الكبير على هذه الزيارة، رغم أن هناك سنناً مهجورة، ماحث أحد على إحيائها بل واجبات وفرائض ضائعة ولم تحظ بالحث على إقامتها ولو بعشر الحث على هذه الزيارة، فبماذا نفسر ذلك؟!
المبحث الثاني: الفضائل المفتراة التي يروجون بها لهذه الزيارة
من أقبح الأعمال وأعظمها الكذب الذي يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وأعظم من ذلك أن يكون الكذب على الله ورسوله لإضلال الناس.
يقول الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) [يونس:69]، وقال تعالى: ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) [الأنعام:144]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» [حديث متواتر]، ولا شك أن الوعد بمغفرة الذنوب أو بالبشارة بالجنة أو بتحمل ذنوب الناس إنما يُعلم بالوحي، فمن صرّح بشيء من ذلك أو وعد به أحداً من الناس بغير وحي، وبغير أذن من الله فقد افترى على الله الكذب، وقد قال الله تعالى عن اليهود: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً)) [النساء:49-50]، فجعل تزكيتهم لأنفسهم إثماً مبيناً لأن حقيقة النفس وما فيها من خير وما يختم لها به لا يعلمه إلا الله، فلما تجرءوا وزكوا أنفسهم جعل الله ذلك من الكذب عليه سبحانه، وهكذا هنا الذي يدعي بأن العمل الفلاني جزاءه الجنة أو مغفرة الذنوب، أو أن العمل الفلاني فيه كذا أو كذا من الأجر من دون علم به عن طريق الوحي، فهو من المفترين على الله الكذب وكفى به إثماً مبيناً!(136/75)
ونحن عندما نعتبر ما نمثل به كذباً لا يعني أننا نتهم فلاناً أو فلاناً بأنه هو الذي افتراه، ولا نصف من نسب إليه ذلك الكذب ونقطع بأنه هو الكاذب، فربما نسب كلام إلى شخص لم يقله، لكننا نقطع أن الكلام المعني كذب، ونجزم أن من يروج ذلك الكلام مشارك في الكذب، وعليه نصيب من وزره، قال صلى الله عليه وسلم: «من حدث عني بحديث يُرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين» [رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» [رواه مسلم أيضا].
إذا علمت هذا فاعلم أن القوم يستحلون الكذب أو يستخفون به في سبيل الوصول إلى أهدافهم على قاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) بل أنهم يدافعون عن الكذب ويحاولون بكل ما أوتوا من قوة أن يصوروه للناس بصورة الصدق والحق الذي لا مرية فيه، وستمر بك أمثلة من ذلك، وترى كيف يؤولونها بتأويلات الباطنية ليثبتوا للناس أن سلفهم كانوا على حق، وأن ما اقترفوه من الكذب هو عين الصدق، ومحض الصواب.
وإليك جملة من تلك الفضائل المزعومة التي افتروها ليضلوا الناس بغير علم:
منها أنه يتحمل ذنوب زواره، وأن من زار قبر هود ولو للفضول غفرت ذنوبه!!
قال صاحب بذل المجهود: (وكان سيدنا الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي الله عنه يقول: إن النبي هود عليه الصلاة والسلام يتحمل ذنوب زواره حتى يرفعها الله تعالى)(1)
وقال أيضاً: (وقال سيدي الشيخ عبد الرحمن السقاف، وسيدي الشيخ فضل بن عبد الله رضي الله عنهما: التقى اثنان من الصالحين في الطريق أحدهما صادر من زيارة قبر سيدنا هود - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم - والآخر وارد إليها، فقال الوارد للصادر ما وجدت النبي هود! قال الصادر وجدته!، قال: تان، فقلت: يا نبي الله فما تان؟ فقال: من ذنوب الزوار أتحملها عنهم حتى يرفعها الله تعالى عني وعنهم)(2)، ويقولون كما في رسالة الشاطري: من زار هوداً ولو للفضول غفرت ذنوبه!
__________
(1) ص:11).
(2) ص:13).(136/76)
وهذا لا يخفى أنه كذب على الله وعلى رسوله هود، وإضلال للناس وتغرير بهم، وتعليق لقلوبهم على هذا الكذب الذي ما أنزل الله به من سلطان، وقد حاول الشاطري أن يبرر ذلك، ولكن على طريقته الباطنية.
ومنها بشارة من بشر بعودة الزوار بالجنة: قال الحبيب أحمد بن حسن العطاس كما في تذكير الناس: (وكان سيدنا شهاب الدين يجلس عند أراكة بالقرب من بيته، بقرية اللسك أيام الزيارة، ويقول من بشرني أن ولد سالم بن عبد الله زار بالناس وهم سالمون ضمنت له الجنة، فكان الناس يستبقون على التبشير، ولما أسن وثقل كان يجلس بالمجف في تريم لاستقبال أخبار الزيارة، ويقول هذا القول الذي تقدم)(1).
وهذا كالذي قبله من الافتراء على الله لإضلال الناس بغير علم، وليس كما قال الشاطري في جوابه على السؤال الثاني عشر أن معنى «ضمنت له الجنة» أي دعوت الله له بالجنة وذلك جائز للمجاز اللغوي.
__________
(1) ص:229-230).(136/77)
فمن يعقل معنى «ضمنت له على الله الجنة» بهذا الوضوح والتصريح أن ذلك من المجاز اللغوي أي دعوت الله له، فما وجه العلاقة بين ضمنت التي تعني الالتزام الجازم بإعطاء الجنة وبين دعوت التي توجه إلى الله إن شاء قبل، وإن شاء رد، ولو فرضنا على سبيل التنزل أن المتكلم يقصد ذلك فما أدرى العوام بذلك؟ أليس فيه تغرير بهم؟ الجواب: بلي! ولذلك يتسابقون معتقدين صدق تلك الضمانة، لا سيما وقد وصف المذكور بأنه (له اطلاع على أهل القبور، وماهم عليه من عذاب وسرور، وله في ذلك حكايات وخوارق للعادات، منها أنه قيل له: إن بعضهم يقول في قبر الإمام أحمد بن عيسى: أنه ليس بقبره حقيقة، فزاره في بعض زياراته وهو متوجه لقضاء حاجاته، فحصل له عند القبر غيبة وذهول ثم أفاق وهو يقول: اجتمعت بروحانية الإمام أحمد بن عيسى وسألته عن قبره هل هو هذا حقيقة؟ فقال: نعم، فقلت: إني أريد كذا، فقال: تقضى من غير كلفة، ثم ذهب إلى قرية بور، وقصد جامعها، قضيت حاجته في جلسته تلك، وحكي أنه اجتمع بالإمام حجة الإسلام في داره بتريم، وأنه طلب منه الإجازة في جميع كتبه فأجازه)(1)، وهذا الرجل توفي في سنة (946هـ) بينما الغزالي حجة الإسلام توفي سنة (505هـ).
فلماذا يحاول الشاطري صرف هذا الكلام عن معناه، وتحريفه عن مواضعه وتفسيره بخلاف مراد قائله وناقله ومروجه بين الناس، وبخلاف ما يفهمه من يحسن الظن بأهل الله؟!
__________
(1) المشرع (ج:2- ص:63 - 64).(136/78)
إن هذا تجنٍّ على كلام الناس، ولا أدري أيفسر الشاطري تلك البشارة بهذا التفسير عند كل من يحدثه بها، أم أنه يفسرها تفسيرين: تفسير للتصدير، وتفسير للاستهلاك؟!، وأما قوله: «وحولها يبلبل المبلبلون، ولنار الفتنة والفرقة بين المسلمين يشعلون»، فأقول: إن الذي يبلبل ويثير الفتنة والفرقة بين المسلمين هو الذي ينشر هذه الأقوال المضللة والأعمال المبتدعة، والعقائد المنحرفة، وليس الذي يعمل على تصحيح عقائدهم وتقويم سلوكهم وتنبيه عقولهم إلى ما يراد بهذا الإضلال.
ومنها أن الضحكة في زيارة هود بتسبيحة: قلت: ولتصديق هذا الوعد من قبل العوام، تراهم يكثرون الضحك واللهو واستخدام المعازف كما سيأتي لأن كل ذلك يحسب لهم تسبيحاً وحسنات، ولهم عادة أنهم كلما مروا بقرية في طريقهم نبزوا أهلها بلقبهم الذي يغضبون منه، وبذلك يكثر الضحك، وانظر الصبان وكرامة سليمان.
والعجيب أن الشاطري مع أنه لا شك خبر الحياة واطلع من خلال رحلاته وقراءاته على كثير من أحوال الناس، وأن مثل هذه الدعايات أصبحت ممجوجة عند الناس، إلا أنه - مع ذلك - يصر على تبريرها فيقول في جواب السؤال السابع: (ومعناه أن الكلمة الطيبة والابتسامة والضحكة عند لقاء الأخوان - وذلك لكثرته بينهم في الزيارة - من المعروف والصدقة التي يثاب عليها فاعلها، ودليله ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكلمة الطيبة صدقة» [متفق عليه]، وعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق» [رواه مسلم] ومعنى طليق: متهلل بالفرح والبشر والابتسام.
وأقول: إن هذه الأمة لم تبل بشيء كابتلائها بمزيني الباطل، ومروجي البدعة والمدلسين على عقول عوام المسلمين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أخشى على أمتي الأئمة المضلين» [رواه مسلم].(136/79)
وهذا - والحمد لله - صان الله منه علماء أهل السنة وجعله شعاراَ لأهل البدعة وخصوصاً الباطنية، الذين اشتهروا بالتأويل الفاسد وليِّ أعناق الكلام لموافقة مبادئهم الخبيثة، ولا يفهم أحدٌ من كلامي أنني أرمي الشاطري بالباطنية، فأنا أبرأ إلى الله أن أقول ما ليس لي به علم!.
وإنما أعني أن الرجل سلك سلوكهم واتبع سبلهم في التأويل، فالضحك مذموم وليس بممدوح! قال صلى الله عليه وسلم: «وإياك وكثرة الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب»، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر الابتسام ولكنه لم ير مستجمعاً ضاحكاً حتى تبدو لهواته إلا في مواطن معدودة جمعها بعضهم في رسالة خاصة، فكيف تكون الضحكة بتسبيحة؟ ثم كيف تفسر الضحكة بابتسامة، وقد فرق العلماء بين الضحك والابتسام؟ ولو فرضنا أن ذلك سواء ومعنى الضحكة أي الابتسامة، فلماذا لا تكون الضحكة في السوق بتسبيحة مع كثرة لقاء الناس في السوق وكثرة حاجتهم لملاطفة إخوانهم هناك؟ لماذا لا تكون الضحكة بتسبيحة في المسجد أو في أي مكان آخر؟ ألا أن تلك العبارة مقصودة لذاتها، وهي تهدف كما يهدف غيرها من البشارات والدعايات إلى تجميع الناس لتلك الزيارة ولو بالكذب على الله ورسوله والاستخفاف بعقول الناس!!!
وكذلك عمر بن حفيظ فيما نقله عن عبيدون تحت عنوان: «الضحكة في هود بتسبيحة» قال: «ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه السيوطي في الجامع الصغير يقول فيه: " مزاح المؤمن في السفر عبادة «هذا معنى ضحكة تسبيحة، مزاح المؤمن في السفر عبادة لأنه ينشط ويخفف أعباء السفر وثقله، وليس هذا أن تضحك بالحرام.. إلى آخر كلامه الذي راح يتحدث فيه عن آداب المزاح»(1).
وأقول: أولاً الحديث ليس في الجامع الصغير كما زعم، ولو صح أنه في الجامع الصغير فلا يلزم أنه صحيح كذلك، لأن الجامع الصغير فيه الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، والعرب تقول: - ثبِّت العرش ثم انقش - فصحح الحديث ثم احتج به.
__________
(1) ص:60).(136/80)
ولو ثبت هذا الحديث لما كان فيه حجة، لأن القوم قد خصصوا ذلك الضحك بأنه الضحك الذي في زيارة هود فقط! ولم يجعلوا كما سبق الضحك في أي موضع آخر تسبيحاً!.
إذن هذا القول إنما هو من جملة الأقوال التي يراد بها الدفع بالناس إلى تلك الزيارة بغض النظر عما يترتب عليها.
ومنها: لا تعقد ولاية لولي في حضرموت إلا عند قبر هود!!
يقول الصبان: «ويقولون أنه لا تعقد ولاية لولي بحضرموت إلا بجوار وفي حضرة نبي الله هود»(1)
ويقول العيدروس: «والخلوة عند قبر هود عليه السلام عند مشايخ حضرموت ربحها مضاعف، بل قد فتح عنده على خلق كثير وجمع غفير من أرباب المجاهدات وأرباب الرياضيات بجزيل الفتح وسني المنوحات(2).
5- ومنها: حضور الملائكة والصالحين من الأحياء والأموات لتلك الزيارة!
في بذل المجهود:» وقال سيدنا أبي بكر ابن الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي الله تعالى عنهما لزوجته بنت أبي رشد رضي الله عنهما بعد زيارة عظيمة: أما رأيتني أتطاول عند القبر وأرفع رأسي حين أدعو انظر من يأتي من الصالحين؟ ثم قال: لم يبق في ذلك المكان - يعني حول القبر الشريف - - لا شجر ولا حجر ولا جبل ولا أرض إلا امتلأ من الملائكة والصالحين في تلك الساعة(3).
6- ومنها أن هوداً عليه السلام يوزع الجوائز على الزائرين:
قال في تذكير الناس: (قال سيدي: ورأيت نبي الله هوداً عليه السلام قائماً عند الشق المعروف، الذي يسلمون عنده ورأيته يجيز الزائرين بشيء كالشبوط التي يعتادها أهل الجهة من الطيب، وصافحته في تلك البقعة)(4).
هذه ستة نماذج من الفضائل التي تذكر لزيارة نبي الله هود عليه السلام، وعلامات الكذب واضحة عليها، والافتراء ظاهر لا يحتاج إلى استدلال، وهذه هي بضاعة القوم التي يروجون بها ما يريدون، ويغسلون بها عقول الجهال كفى الله شرهم وكشف عوارهم، إنه على ذلك قدير!!
__________
(1) ص:29).
(2) ص:8).
(3) ص:15).
(4) ص:229).(136/81)
المبحث الثالث: نماذج من أشعر القوم في الترويج لها
ولم يكتفوا بما يشيعونه نثراً بل جندوا الشعر أيضاً لنفس الغرض، واستغلوا خاصية الشعر وخصوصاً أنه يلقى ملحناً، وعلى إيقاع الطبول والشبابات في كثير من الأحيان، فيعمل عمله في الناس، ويهزهم هزاً ويحركهم إلى لزيارة بقوة.
فمما ينشدون من القصائد:
ياذا البريق الشرقي………اللي تنمنم من قدا قبر هود
نبي رب الخلق………صلى الله عليه نعم الودود
وأشتب جمر العشق………من ضوء نوره في سحاب النجود
وأنهل مزن الودق………وعم نفعه في جميع الوجود
نوره بدأ للزوار………مثل القمر في الأغدار………يا بخت من هو قد زار
يعطيه خير الرزق………والأنس والأنوار………وسط اللحود
باللطف ثم الرفق………بصحبة من رب………كريم يجود
هود نبي مرسل………بوادي الأحقاف………قبره صحيح
سر زره واحذر تكسل………واطلب مرادك منه………حول الضريح
تعطى وتحظى فأسأل………بقلب منكسر………فقير طريح
وإن لاح ضوء البرق………فاشرب صفا………حالي هنيء الورود
ومنها:
قد زاره ذو القرنين………مذكور في تاريخ تيجانهم
وزاره كم من زين………محمد بن علي وعلويهم
وابنه نور الدين………وابنه محمد وابنه غوثهم
والبحر زاره وعمر………والعيدروس الأشهر وضوء النور
والشيخ قد اسقى………عند النبي هود وسمي العمود
وأحمد أبي الجعد أرقى………إلى المعالي وارتقى في السعود
وزاره با عباد………وبنى هناك مسجد وسبع المكان
ومنها:
قبره محقق يا صاح………بالموضع المعروف في حضرموت
في الشعب نوره يلتاح………زاروه الأقطاب الكبار الرتوت
باشباحهم والأرواح………ساروا جميعاً للحسين النعوت
أو قصيدة عبد الله بن علوي الحداد:(1)
يا وجيه إنها هبت رياح السعود………وأومض البرق في الداجي من أقصى النجود
ذكرتني ليالي قد خلت حول هود………شعب ثبر المرسل وفي العهود
ياليالي الرضا عودي ليخضر عودي………باللقا والتداني بعد طول الصدود
التهويدة:
__________
(1) الصبان (ص:30)، وانظر الدر المنضود (ص:48).(136/82)
ومن النماذج الطريفة لاستخدام الشعر وتجنيده في الحث على هذه الزيارة، ما يسمى بـ«التهويدة» وهي: «إعلان وإعلام مسبق، وتذكير للناس بقرب موعد زيارة قبر النبي هود عليه السلام»، تتم التهويدة في ساحات المساجد بعد خروج المصلين من صلاة العشاء في ليلة 27 رجب، حيث تتم قراءة قصة الإسراء والمعراج في المسجد، كما تتم التهويدة أيضاً في آخر يوم أربعاء من شهر رجب بعد خروج الناس أيضاً من المساجد، وبعد قراءة المولد وصلاة العشاء.
والتهويدة هي رفع الصوت بشكل جماعي عند المناداة بعبارات من مثل:
هود يا هود النبي.
يا نبي الله هود
يا مولى النهر - يقصد النبي هود(1).
ويفصل أكثر الصبان حيث يقول تحت عنوان «التهويدة»:
«في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، تقرأ في المساجد والجوامع قصة الإسراء والمعراج، وعند الانتهاء تكون التهويدة، وفي آخر يوم أربعاء من شهر رجب، تقرأ قصة المولد بتريم، وعند الانتهاء تكون التهويدة، وهي تسجيعات تحث على زيارة قبر هود، وعند كل آخر تسجيعة تغنى لفظ الجلالة ثم يقول الجميع بأصوات مرتفعة (هود يا هود).
يا غافل أذكر الله.. وقل لا إله إلا الله
موجود في كل مكان.. الله الله الله
يا هود يا نبي الله
يا اللي كلمه الغزال
وحنت عليه الجمال
رسول الله مولى بلال
شفيع الخلق عند الله
يا هود يا هود يا نبي الله
__________
(1) كرامة سليمان (ص:292).(136/83)
وبعد الانتهاء من التهويدة يصطف الناس صفوفاً، وتبدأ الأراجيز في مجاميع، كل مجموعة تتكون غالباً من عشرين إلى خمسين شخصاً، ويتوسطهم شلال «حادي» يتغنى بالقصائد، والمجموعة تردد الترجيع الذي لقنهم إياه من أراجيز الإعلام، يا زائرين النبي «يا نبي الله، جئنا إليك» ويستمر الحادي يتلو أهازيجه والجميع يرددون بعد كل بيت «يا نبي الله، جئنا إليك». ثم هناك أراجيز أخرى: توسلات وتمجيد للمناصب والمشايخ «يا شيخنا يا سقاف» «يا شيخنا يا محضار»، ومن الأراجيز ما هو تمجيد لله كقوله «سبحان من لا يفنى ولا يزول ملكه».
وتعتبر هذه الليلة الشهار (إي الدعوة إلى الزيارة)، ويعتبرها الحاضرون والمرتجون ليلة سعد فيرددون «يا ليلة السعد عودي ويتلو الحادي القصائد على هذه النغمة، والغالب أن طبقة العمال والحرف هم الذين يقومون بهذه الأراجيز، ويشاركهم غيرهم من الطبقات الأخرى بقلة»(1)
المبحث الرابع: وسائل جذب الزوار لهذه الزيارة
سبق أن أثبتنا أن للعاملين على إحياء وإقامة هذه الزيارة أهدافاً كبيرة وبالتالي يعملون بكل ممكن على تحقيقها، ومن المعلوم أن بعض الناس لا يتورع عن استخدام الوسائل غير الشرعية لتحقيق أهدافه، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، وهذا ما يحصل هنا، يقول الصبان: (والزيارة وإن تحدت المفهوم الشرعي أو القيد الشرعي، فإن الدوافع لحضورها تختلف اختلافاً جذرياً، فمن الزوار من يرحل للبيع والشراء، ويدفعه السوق التجاري إلى ذلك، ومنهم من يرحل للنزهة، ويرى فيها متنفساً من متاعب العام، ومنهم من يرحل للتبرك وطلب المدد من المزار له، ولكل امرئ ما نوى)(2).
__________
(1) الصبان (ص:31-32)، وذكر عبيدون التهويدة بإيجاز (ص:65).
(2) ص:29).(136/84)
وفقهاء الشافعية يصرحون بما لا يدع مجالاً للشك بتحريم المعازف وآلات اللهو، ومنها الطبول والشبابات كما ذكر ذلك بتوسع العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر ج2 ص 202 - 211) وفي كتابه الخاص بذلك «كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع»، ومع ذلك فاللهو المصحوب بالطبول والشبابات هو السمة الغالبة على هذه الزيارة، يقول الصبان: (منذ أن يتحرك الركب فهو يعيش عوائد وتقاليد وأغاني وأناشيد منها ما هو مستحسن، ومنها ما هو غير مستحسن)(1)، ويقول: (عند الصباح الباكر يتوافد الجميع إلى الساحة الكبيرة، ويمشي الجميع أولاً لزيارة الأضرحة الموجودة في كل بلد كجزء من الزيارة، وتخرج العدة والخابة - أي الألعاب الشعبية - على اختلاف أنواعها يقوم بها أهل الحرف والعمال ويمشي المناصب والسادات والمشايخ قبل أهل العدة والخابة وتزغرد النساء)(2).
__________
(1) ص:36).
(2) ص:33-34).(136/85)
ويقول: ويبيت الركب في فغمة أو يبحر وهي على أميال من شعب هود، وتكون هذه آخر مرحلة إلى الشعب وتكون فيها السمرات بالمغاني والأهازيج، وفي الصباح يرحل القوم، وعند دخولهم للجبل تكون الدخلات بالزوامل والخابات)(1)، ويقول: (أما المناصبة فإنهم يعودون إلى الخدور في ظل خابات العمال والذين يترنمون بالأهازيج المناسبة)(2)، ويقول: (تقام في ليالي الزيارة ألعاب شعبية، ورقصات الشبواني والخابة، فكل بلد تقوم بألعابها، وأمام بيت منصبها وحتى الليل)(3)، وحتى الزيارة الأساسية التي تعتبر الركن الأعظم من أركان زيارة هود هي الأخرى تتميز عن غيرها بكثرة اللهو واللعب، ومظاهر الفخر والعظمة، ويقول الصبان: (تكون الوقفة يوم الحادي عشر بزيارة آل الشيخ أبو بكر بن سالم، وزيارة آل شهاب الدين ففي اليوم الحادي عشر تكتمل وفود الزائرين، ومن أدرك الوقفة فقد أدرك الزيارة، والوقفة يوم الحادي عشر من شعبان صباحاً، وشبهت وسميت بالوقوف كالوقوف بعرفات، فمن أدرك الوقوف بعرفات أدرك الحج ومن فاته الوقوف بعرفات فاته الحج وهكذا الزيارة.
ويدخل آل الشيخ أبو بكر بن سالم بالطيالة والأهازيج والطبول، ويجتمع الناس من كل الزوار، ويكون لزيارتهم ودخلتهم زجل عظيم، وتعتبر دخلتهم الدخلة العظمى وهي في مراسيمها لا تختلف عن الأطر المقيد بها نظام الزيارة كما ذكرنا، إنما بالطيالة والطبول والبيارق وكثرة الناس)(4).
__________
(1) ص:37).
(2) ص:40).
(3) ص:41).
(4) ص:41).(136/86)
وهكذا منذ الانطلاق من البلدان المختلفة، والقوم في لهو ولعب، وحتى العودة إلى ديارهم، وبذلك تختم كما فتحت به، يقول الصبان: (وفي عصر يوم الثالث عشر تبدأ الدخلات بالألعاب الشعبية والخابة بأنواعها، وتردد «زرنا وقد رجعنا عسى القبول»، ويردد الجميع هذا الترجيع ويتقدم المناصب والحبائب والمشايخ، وتدق الطبول وتقام الرقصات الشرعية ويزغرد النساء، ويقام في تريم سباق أخير للإبل عند مدخل تريم، وعند علب المجف بتريم ينتهي التجمع الجماعي ويبتدئ إيصال المناصب إلى بيوتهم، كل منصب توصله خابّة حافته إلى بيته، والجميع إلى بيوتهم.
وفي سيئون ينتهي التجمع في ساحة طه حيث يرتب المنصب الذي زار الفاتحة تحت قرع الطبول الشعبية، ثم يبتدئ أهل الحافة بإيصال المناصب إلى بيوتهم بالعدة والألعاب والخابة وزغردة النساء)(1).
فهذه هي الوسيلة الأولى لجذب الشباب المائل إلى اللهو واللعب لتلك الزيارة، فهو يعيش ألعاباً ورقصات شعبية وفنوناً مختلفة من اللهو منذ أن ينطلق من بيته حتى يعود إليه!!.
__________
(1) ص:44).(136/87)
أما الوسيلة الثانية من وسائل الجذب فهي وسيلة قبيحة محرمة ولكنها محببة للعوام، لما فيها من الشد والجذب ومضايقة بعض الناس وإثارة غضبهم، وهي وسيلة التنابز بالألقاب، فالزوار كلما مروا بقرية نبزوا أهلها بلقبهم الذي يغضبون لذكره، وتحصل هناك مناوشات تضفي جواً مرحاً يحرص البطالون عليه ويتلذذون به، يقول الصبان وهو يتحدث عن عوائد المسير إلى الزيارة: (لكل بلد أو قرية من قرى حضرموت غلاباً لقب تلقب به على غير رضى به، وعندما يمر أي ركب يردد بصوته بترديد جماعي لقب تلك البلدة أو القرية ليثير حفيظتها، ومن الناس من يتندر عندما يسمع لقب بلدته، ومنهم من يغضب ويقوم للمضاربة)(1)، وهذا الأمر مستفيض عند من يعرف عادات تلك الزيارة مع النهي القرآني الواضح في قول الله تعالى: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)) [الحجرات:11]، وقريب من ذلك عادة أخرى هي عادة الوعيلة والعبيب.
يقول الصبان: (الوعيلة هو الذي لم يقم بزيارة هود قبل هذه الزيارة، وهذا يلقى من الجمهور شماتة - ويعبعبون عليه - والعبعبة كهدير الجمل على الناقة، وتخرج بعض الشفاه لعاب وتفل يؤذي الإنسان، ويكاد يبكي ويتضارب معهم، فتراهم يلفون حوله بأصوات مزعجة، لكن المناصب يقولون: الضحكة في هود كالتسبيحة في غيرها، وهؤلاء السذج يريدون أن يضحكوا الناس على العويلة!!، وعلى العويلة عندما يصل قبر هود وتشاهد عيناه القبر رأس غنم كفدية تعطى للخبرة هدية منه وإلا فالويل له إن حرم الخبرة حقها)(2).
__________
(1) ص:37).
(2) وهذا شبيه بما يعتقده العوام من أن كل حاج يحج لأول مرة عليه هدي أو فدية تذبح في مكة وتعطى للرفقة.(136/88)
والوسيلة الثالثة: سباق الإبل، فالرياضة من أهم ما يشد أنظار الجماهير، وكما هو واضح اليوم ما للرياضة من تأثير كبير في حياة الناس، كذلك الحال في من قديم، فلم يغفل المنظمون هود هذه الوسيلة، بل استفادوا منها لجذب مجاميع من الناس لهم الهواية والولع بهذا الضرب من الرياضة، يقول الصبان: (يقام السباق بين الجمال قبل الدخول إلى الشعب، ولأهل تريم في هذا السباق القدح المعلى، فإنهم يقومون بالسباق، ويتكرر السباق مرات قبل الوصول إلى الشعب، وعند الوصول وعند الرجوع من الزيارة)(1).
الوسيلة الرابعة: إعطاء العمال عطلة رسمية من العمل حتى يتمكنوا من الزيارة، يقول الصبان(2) (تعتبر أيام الزيارة ثمانية أيام، وهي أيام استراحة لهم، وهم يعدون أنفسهم بالتمتع بهذه الأيام، يقول شاعرهم:
يا فرحة القلب لا قالوا دخل شهر هود
ثمانية أيام باتسلى صباح المقود
ثمانية أيام في راحة ونحنا قعود
الوسيلة الخامسة: وسيلة التجارة والبيع والشراء، فكثير من الناس يأتون إلى ذلك المكان بقصد الربح والبيع والشراء، وهم بذلك يكثرون سواد القوم، ويتأثرون بهم، ويأخذون بعض ما عندهم، وهكذا كانت أسواق الجاهلية، كانت تقوم على أساس عقدي ثم يضاف إليها ما يحمل الناس على حضورها كالتفاخر والمسابقات الشعرية التي يتوج فيها الفائز شاعراً للعرب والتجارة ونحو ذلك، ولا شك أن الكم الهائل من الناس الذين يفدون إلى ذلك الشعب بحاجة إلى من يحضر متطلباتهم من الغذاء والشراب وغير ذلك، فمن هنا يأتي التجار وطلاب المكاسب وإن لم يكن لهم قصد في الزيارة نفسها، فتشملهم البركة وتعمهم المغفرة، لأنهم يقولون لهم: (من زار هود ولو للفضول غفرت ذنوبه)، هذا إلى جانب الفضائل التي سبق الكلام عنها.
الفصل الرابع
مظاهر وثنية في هذه الزيارة
المبحث الأول: النص على وجود الشعور الوثني والمظاهر الوثنية في زيارة هود عليه السلام:
__________
(1) ص:41).
(2) ص:35).(136/89)
لقد صرّح بعض المؤرخين والباحثين الذين زاروا وشاركوا القوم فيما هم فيه، واطلعوا على ما يمارسون من شعائر، وما يكمن وراء تلك الشعائر من عقائد، لقد نصوا على وجود الوثنية في هذه الزيارة.
فمن ذلك ما قاله الأستاذ صلاح البكري في كتابه «تاريخ حضرموت السياسي»: «وقد بولغ في تقديس هذا الضريح، فتراهم يشدون الرحال لزيارته، وعندهم شيء من بقايا الشعور الوثني الذي كان يشعر به العرب للات والعزى يستعينون به ويتجهون إليه ويولون وجوههم شطره لقضاء الحاجات واستنزال البركات ودفع الكربات»(1).
ومن ذلك ما قاله الأستاذ محمد عبد القادر بامطرف في ملاحظاته على الهمداني: «ويحتمل أن يكون هذا المكان سوقاً من الأسواق اليمنية الموسمية القديمة، وقد أقيم هذا القبر ليعطيها طابعاً وثنياً جذاباً»(2)، ومن ذلك ما قاله الأستاذ كرامة سليمان في كتابه «الفكر والمجتمع في حضرموت» وهو يتحدث عما يفعله العوام عند ذلك القبر المزعوم: «وتخفي هذه العادة المستحكمة اعتقاداً بقدسية هذه الشقوق التي أحدثها انفلاق الحجر، لولوج النبي هود واختفائه داخلها، إن هذه العادة تجسد الوثنية بعينها»(3).
وحتى المستشرقون يشمتون بنا ويصفون بعضاً منا بأنهم وثنيون، لما يبدونه من تقديس لهذا المكان، قال المستشرقان (دانيال فان در ميولين، والدكتور فون فستمان) في كتابهما «حضرموت إزاحة النقاب عن بعض غموضها»: (وفهمنا الآن البدوي الذي يسمي نفسه مسلماً، ولكنه ما زال وثنياً حيث يقترب من هذه البقعة برهبة مقدسة)(4).
هؤلاء بعض الباحثين والمؤرخين الذين رأوا تلك البقعة وما فيها من قدسية وشعور نحو صخورها وبناياتها، لا يترددون في إطلاق الوثنية عليها، فكيف لو رأى ذلك علماء التوحيد وحماة العقيدة والغيورون على صحة المنهج؟ فماذا تراهم يقولون؟.
المبحث الثاني: الطقوس الوثنية فيها
__________
(1) ص:65).
(2) ص:32).
(3) ص:297).
(4) ص:184).(136/90)
إن الوثنية في العالم بدأت بتقديس الصالحين والغلو فيهم وتعظيم مواطن عباداتهم ومجالسهم، أو تعظيم قبورهم ومشاهدهم، كما حصل ذلك في قوم نوح عليه السلام، وكذلك بدأت الوثنية في العرب بتعظيم أحجار الحرم، حيث كان العربي ينقل معه إلى باديته حجراً من أحجار الحرم ليتبرك به ويطوف حوله كونه من بيت الله الحرام، ثم تطور الحال فصارت تلك الأحجار أصناماً تعبد من دون الله تعالى، ولهذا نهى العلماء عن تقبيل القبور والتمسح بها والتبرك بها، وحتى مروجو زيارة هود قد نصوا على ذلك، كما في «بذل المجهود» و «وسيلة الصب الودود» ومقدمتها لحسنين محمد مخلوف، وغير ذلك من كتبهم، ولكن النظرية شيء والتطبيق شيء آخر، ولذلك ظهرت بعض الطقوس الوثنية في هذه الزيارة.
منها دعاء نبي الله هود من دون الله، ودعاء غيره أيضاً، ومنظمو هذه الزيارة يشجعون على ذلك، ففي فترة التحريض على الزيارة، كثيراً ما يرددون هذين البيتين:
هود النبي المرسل………في واد الأحقاف قبر صحيح
سر وزره واحذر تكسل………واطلب مرادك منه حول الضريح
إذ يحثون الناس على طلب مرادهم من هود عند ضريحه!!.
كما أن هناك دعاء لكبار أوليائهم، وذلك منظم ومرتب ترتيباً خاصاً، في زيارة كل واحد من أولئك الأولياء (أي حينما يزور أحفاده القبر) يدعو الأتباع لذلك الولي يقول الصبان وهو يصف الزيارة ومراسمها: (ثم يأتي دور - يا شيخنا يا بن سالم - و - يا شيخنا يا سقاف - توسلات ونداءات)(1).
قلت: وكذلك يقولون كما حكى لي الثقات ممن كانوا يحضرون هذه الزيارة.
(يا نبي الله جئنا إليك... والمنشر علينا والمرجع عليك).
وحيناً (يا عيدروس... يا عيدروس المسمى... يا عيدروس).
وحيناً (أبو بكر بن سالم... خاطرك اليوم معنا).
وحيناً (شيخنا يا حداد... ساعة من العفا).
وحيناً (شي لله يا عمر) يقصدون عمر المحضار، وتارة (يا شهاب الدين يا أحمد).
__________
(1) ص:40)، وانظر كرامة سليمان (ص:294).(136/91)
كل هذه الدعوات لغير الله تعالى، على مسمع ومرأى من علماء القوم ووعاظهم ومناصبهم وحبايبهم دون أي إنكار، وهم قادرون على ذلك لو أرادوا، بل قد فعلوا حينما دعت حاجتهم لذلك، قال في تذكير الناس: (ومن عادة أهل تريم أنهم يتوسلون بالسلف في مرازحهم، فوقعت مرزحة في طريقهم لزيارة نبي الله هود ومعهم (غرامة)(1) وليست له عقيدة صالحة في أحد، فلم يدروا ما يقولون، فقال لهم الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه قولوا: (سبحان من لا يفنى ولا يزول ملكه)(2)، فالكل متفقون على ذلك إذن.
ومنها التمسح بما يزعم أنه القبر وما حوله: يقول الأستاذ صلاح البكري: (وفي وسط القبة يقوم بناء مستدير كقاعدة سميكة فوق صخرة ويظن أن المكان هو الذي انشقت فيه الصخرة، وقد صقلت هذه الصخرة آلاف الأيدي التي مرت عليها، وآلاف الشفاه التي قبلتها)(3).
ويقول الأستاذ كرامة سليمان: (وفي القبة تناولت كتيباً عن آداب الزيارة، ومما في هذا الكتيب توصية بعدم تقبيل القبر لأنه مخل بالعقيدة الإسلامية، ولكن العادة المترسخة لدى السذج والعوام لم تنصت لهذه النصيحة، وأقبل هؤلاء على الصخور والأحجار التي يعتقدون أنها مُقَدِمَة رأس القبر، يدخلون رؤوسهم وصدورهم في شقوق هذه الصخور ويتمسحون بها، وكثير من هؤلاء الزوار السذج من يغمس إصبعه في زيت مدهنة موضوعة بالقرب من فوهة القبر المزعوم ويمسح بالزيت على سطوح الصخر، ثم يتمسح بهذه السطوح تبركاً، وقد أصبحت السطوح ملساء سوداء من كثرة التمسح بها، وتخفي هذه العادة المستحكمة اعتقاداً بقدسية هذه الشقوق التي أحدثها انفلاق الحجر لولوج النبي هود واختفائه داخلها، إن هذه العادة تجسد الوثنية بعينها.
__________
(1) وهو أحد حكام تريم ممن تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
(2) ص:30).
(3) ص:64- 65).(136/92)
لِمَ لا تبعد هذه المدهنة؟ ولماذا لا تزال هذه الصخور المشققة الخرافية؟ ولماذا لا يحذر الوعاظ والمرشدون من مغبة هذا السلوك الوثني؟ وإذا كان السكوت على هذه الأعمال المخلة رضا فهاهنا يكمن الخطر)(1).
قلت: لا شك أنه الرضا، وأما ما في الكتب فهو عذر يُقدم لمن انتقد، فيقال هذه الكتب تحذر من ذلك، لكن معظم من يحضرون للزيارة عوام لا يقرءون، ومن يقرأ فليس لديه الوقت للاطلاع على هذا التحذير، ولو قرأ لغلبه ما يرى الناس عليه، بل أن هناك دعوة صريحة إلى ذلك، هي الحقيقة المعبرة عن النفوس، وقد نقل صاحب «بذل المجهود» قصيدة في آداب الزيارة تحتوي على مراعاة ما ذكره الفقهاء، ثم التأكيد على ما في النفوس الذي هو المطلوب بالفعل:
وسلم إذا ما زرته متأدباً………على الأنبياء أهل العُلا والتفضل
واقصد غدير الماء ثم اغتسل………وسبح وحمد ثم كبر وهلل
إلى البئر تلك الحد سلم بها وعج………إلى ذلك القبر المنيف المحلل
ورد السلام أعني الذي قد ذكرته………لدى البئر عند القبر مع سورة تلي
وقف حوله مستقبل القبر وانتزح………قليلاً مع التأديب إذا ذاك وأسأل
ونيل المنى حقق بربع به الورى………تغاث وللوارد أعظم منهل
والثم ثرى تلك البقاع ممرغاً………بخديك تعظيماً وللترب قبل
ولا تسمع للواشي إذا ما نهاك قل………خلعت عذاري في هواهم وحول
وأزكى صلاة الله ثم سلامه على………المصطفى المختار مع ذا النبي العلي(2)
ومن مظاهر الوثنية التي تبدو ويلاحظها كل من زار ذلك المكان ويستنكرها، مظهر يدل على اعتقاد خاطئ لدى الكثير من الزوار، مع السكوت عليه وإقراره من القائمين على تلك الزيارة إن لم يكونوا هم يعتقدون ذلك الاعتقاد.
__________
(1) ص:297).
(2) بذل المجهود (ص:10).(136/93)
يقول الأستاذ صلاح البكري: (يأتي الشخص من العوام القبر ومعه قطعة من الخشب بها خيط ملون من الصوف في نهايته قطعة صغيرة من الحجر، أما القطعة الخشبية فتوضع في الحائط الخارجي للقبة، ولا يُسمح بقذف الخشب في داخل القبة، أما الخيط الصوفي فيجمع ويرطب باللعاب ويقذف في الحائط أو السقف، ولهذا تظهر الحيطان والسقف كأنها مغطاة بطبقة من الورق المزخرف أو زينت بنقوش مختلفة الألوان)(1)
ويقول المستشرقان في كتابهما: وهما يتكلمان عن ذلك البدوي الذي ما زال وثنياً حسب تعبيرهما يقولان: (وهو أو في الغالب هي يحمل في يده وتداً خشبياً، وخيطاً ملوناً من الصوف، مربوطاً في نهايته حجر صغير، ويدفع الوتد داخل الحائط الخارجي للقبة أو داخل حدود الصخرة المستديرة المطلية بالأبيض التي تحدد المكان الذي يرقد فيه الجسد، ويبدو أنه غير مسموح بدفع الأوتاد داخل قمة القبة، أما خيوط الصوف فتمضغ في شكل كتل وتخلط باللعاب وتغرز في الجدران والسقف فتصبح الجدران مزينة بشكل مسرف، حتى لتبدو أنها مغطاة بورق حائط ملون أو أثْرَتها رسومات بألوان زاهية)(2).
قلت: وقد رأيت ذلك بنفسي عند زيارتي للموقع في قبة القبر، وفي القبة التي عند قبر التسلوم، وأخبرني الأخوة المرافقون أن الذين يصنعون ذلك يعتقدون أن من ثبت ما يرمي به حصل على لباس جديد.
ومن مظاهر الوثنية هناك: الحجر الرمادي اللون الصغير الحجم الذي فيه حفرة طبيعية غير عميقة، والذي قد نصب بإحكام في الدرج الواصل بين صخرة الناقة وبين القبر، والذي يزعمون أنه موطئ قدم هود عليه السلام، حيث يمر به الزوار ويمسحونه بأرجلهم تبركاً به، وآثار ذلك واضحة على الحجر.
__________
(1) ص:65).
(2) ص:184).(136/94)
ومن مظاهر الوثنية انتشار المصليات التي تنسب إلى بعض الأولياء، حيث يتهافت عليها الزوار، ويصلون فيها تبركاً بها وبأصحابها، فهناك صورة مسجدين يمين وشمال القبة، أحدهما ينسب إلى أبي بكر بن سالم والآخر إلى عبد الرحمن السقاف، وهما لا يمكن أن يتسع أحدهما لأكثر من أربعة أو خمسة أشخاص على الأكثر، لا يقصد إلا أن يتبرك الزوار بالصلاة فيهما.
كما أن هناك حصاتين إحداهما - وهي الأشهر والأظهر - الحصاة المنسوبة لعمر المحضار، وقد صارت من المناسك الأساسية للزيارة، حيث يصلي عندها سنة الوضوء بعد الخروج من النهر.
وأخرى باسم علي بن أبي بكر السكران، لا تزال موجودة وإن كان شكلها يوحي بقلة الاعتناء بها في هذه الأزمنة وهي صخرة يحيط بها بناء من الطين على شكل مصلى صغير ولا أدري أيصلي المصلي فوقها أو إليها.
واعتبارنا أن مثل هذه الأمور من المظاهر الوثنية مبني على الأثر الثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما رأى بعض الناس ينتابون أماكن يصلون فيها في الطريق إلى مكة فقال: (أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا حتى أحدثوها بيعاً، ومن عرضت له صلاة فليصل، ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض) وقد سبق تخريجه.
ومن مظاهر الوثنية كذلك: الصخرة التي تسمى (الناقة)، والتي يعتقد أنها ناقة نبي الله هود عليه السلام، التي كان يركبها عند وصوله إلى ذلك الموضع، ودخوله في ذلك الشق، فمات هو هناك، وتحجرت الناقة مكانها!.
يقول الصبان: (الناقة المتحجرة يزعم العوام أن ناقة هود تمخضت ثم صارت حجراً وقد بني حول الصخرة المسماة الناقة بناء من الحجر، وردم وسوي فتهيأ هناك موضع للزوار يسع الجموع وطلي بالنورة)(1)
__________
(1) ص:39).(136/95)
قلت: لا شك أن العوام يعتقدون ذلك، بل حتى العلماء منهم يعتقدون ذلك، ويؤدون طقوسهم أمامها وفي الساحة الممتدة تحتها، فالموالد والمواعظ لا تقام إلا هناك، وهذا ما يؤكد اعتقادهم فيها، ويرسخ عند العوام ذلك الاعتقاد.
ومن مظاهر الوثنية: النهر المقدس الذي يعتقدون أنه من أنهار الجنة، والذي يعتبر الاغتسال فيه أحد أركان الزيارة، حيث يقول الصبان: (تتوافد كل مجموعة زوار من بلد إلى النهر وإلى الناحية التي يقف فيها الحبيب المنصب، وكل بلد يتقدم زوارها منصب وحبيب أو شيخ، ويبدءون في نزع ثيابهم للغسل، إلا ما يستر العورة، ويغتسلون في النهر، وهو يرمز إلى تطهيرهم من الخطايا والدنس)(1)
وهذا ما يؤكد عليه علامتهم عمر بن حفيظ، كما نقل عنه عبيدون: (إذا توجهت قد تغتسل في النهر، اجعل لك نية في الغسل، انظر سنة لكل تائب إلى الله أن يغتسل، فأنت انو الاغتسال للتوبة، كما يتطهر جسدك يتطهر فؤادك وقلبك فهو محل نظر الله جل جلاله)(2).
إذن النهر مقدس والاغتسال فيه مقصود للتعبد والتبرك، وهذا ما حمل الأستاذ كرامة سليمان لأن يشبهه بنهر الكنج المقدس عند الهندوس قال: «فالموقع من الناحية الطبيعية يشبه إلى حد ما ذلك الموقع المقدس لدى الهندوس حيث يجري نهر الكنج المقدس، والذي يحج إليه الهندوس للعبادة والغسل والتطهير»(3).
قلت: ولا يستبعد أن يكون القوم قد اقتبسوا ذلك من الهندوس، فالحضارم قد عرفوا الهند ورحلوا إليها من قرون طويلة، ونقلوا كثيراً من العادات الهندية الدينية والدنيوية، فلعل هذا من ذاك، إضافة إلى أنهم قد نصوا أنه من أنهار الجنة، كما في «بذل المجهود»(4).
الفصل الخامس
مناسك زيارة هود
المبحث الأول: المناسك الزمانية
__________
(1) ص:38).
(2) ص:59).
(3) ص:290).
(4) ص:14).(136/96)
اتفق كل من كتب عن زيارة هود مما اطلعنا على كتابته، أن هذه الزيارة ليست مجرد زيارة قبور يسلم فيها الزائر على أهل القبور ثم يدعو لهم وينصرف عنهم، وإنما لهذه الزيارة مناسك مرتبة لا يجوز تقديم شيء منها عن موضعه أو تأخيره عنه، وهذه المناسك مناسك زمانية ومناسك مكانية، وهذا تشريع ما لم يأذن به الله، وتشبيه لهذا القبر ببيت الله الذي جعله منسكاً ليذكر اسم الله عنده.
لقد رُتِّب كل شيء واتُخذ سنة تجب المحافظة عليها، ولا يجوز الإخلال بها، وذلك على النحو التالي:
يعتبر شهر جمادى الثانية وشهر رجب هما شهرا التحريض على الزيارة(1).
ليلة السابع والعشرين من رجب - وبعد قراءة الإسراء والمعراج في الجوامع - تكون التهويدة وهي أول طقس خاص من طقوس الزيارة. (2)
ليلة آخر ربوع من رجب هي ليلة الإشهار الرسمي للزيارة، وهي ليلة سعد لديهم. (3)
يبتدئ رحيل أهل سيئون وما كان غربيها يوم الرابع أو الخامس من شعبان، كما يبتدئ رحيل شرقي سيئون يوم السابع أو التاسع(4)، وهذا قبل توفر السيارات.
الأيام المحددة للزيارة هي ثلاثة أيام: الثامن والتاسع والعاشر.
ترتيب أيام الزيارة على النحو التالي: (في اليوم الثامن من شهر شعبان تقام زيارتان: الأولى منهما وقت الضحى، وهي لآل الحبيب الحبشي بالحوطة، نسبة للحبيب أحمد بن زين الحبشي، والثانية: عصر هذا اليوم لآل الحبيب الحبشي بسيئون نسبة للحبيب علي بن محمد الحبشي رضي الله عنه.
__________
(1) الصبان (ص:29).
(2) الصبان (ص:31).
(3) الصبان (33).
(4) عبيدون (67).(136/97)
أما أهل تريم فإن زيارتهم تبدأ في اليوم التاسع ولهم فيه زيارتان نهاراً، الأولى: لآل بلفقيه، نسبة للحبيب عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه، المشهور بعلامة الدنيا(!!)، والثانية: لآل الحداد نسبة للإمام الحبيب بعد الله بن علوي الحداد، وعصر ذلك اليوم زيارة الحبيب حامد بن عمر حامد باعلوي، وفي اليوم العاشر تقام زيارتان، الأولى لآل بن شهاب نسبة للحبيب شهاب الدين، والثانية: هي أكبر زيارة وهي زيارة آل الشيخ أبي بكر، نسبة لسيدنا الشيخ أبي بكر بن سالم باعلوي، من عبيدون بالحرف(1).
يوم العيد (يعتبر يوم العاشر يوم عيد الزوار بالشعب، فينحرون الأغنام ويأكلون ألذ المأكولات، ويتفننون في الطهي، وفي أجناس الطعام من الهريسة وغيرها)(2)
الوقفة: (تكون الوقفة يوم الحادي عشر بزيارة آل الشيخ أبو بكر بن سالم، وزيارة آل شهاب، ففي اليوم الحادي عشر تكتمل وفود الزائرين، ومن أدرك الوقفة فقد أدرك الزيارة، والوقفة يوم الحادي عشر من شعبان صباحاً، وشبهت وسميت بالوقفة كالوقوف بعرفات، ومن أدرك الوقوف بعرفات أدرك الحج ومن فاته الوقوف بعرفات فاته الحج، وهكذا الزيارة(3).
وقد خالف الصبان في الترتيب حيث جعل الوقفة يوم الحادي عشر، بينما اتفق الآخرون على أنها يوم العاشر وكما سبق ذلك في النقل عن عبيدون.
__________
(1) ص:67-68).
(2) الصبان (ص:43).
(3) الصبان (ص:41).(136/98)
وللقبائل دخلة أيضاً، ولكنها تختلف عن دخلات السادة من حيث أنها تكون في الوقت الذي قد انصرف فيه كثيرون من الزوار، وأن القبائل لا يستقلون بأنفسهم بل لابد الزيارة بهم أحد السادة آل حامد، يقول الصبان: (وفي عصر الحادي عشر من شعبان تكون دخلة القبائل المناهيل، يتقدمهم ويزور بهم منصب آل حامد، وتكون الزيارة بالمراسيم المحددة، من الغسل في النهر والتسليم، والزيارة أمام القبر، والمولد عند الناقة، وتمتاز بإطلاق العيارات النارية من البنادق، وإقامة النصع وإطلاق العيارات حتى يصاب النصع)(1).
النفرة الأولى: (تبتدئ النفرة الأولى عصر يوم الحادي عشر، فينفر ويرحل آل علوي، وآل سيئون ومن كان غربي سيئون)(2).
النفرة الأخيرة:(أما موكب أهل تريم فيبتدئ يوم الثاني عشر من شعبان من شعبان)(3).
يوم الحلق والتطيب: (يجتمع الزوار يوم الثالث عشر من شعبان كلٌ أمام مدينته أو قريته، ويعتبر ذلك اليوم يوم التطيب، فيذبحون وينحرون الأغنام ويحلقون رؤوسهم)(4).
الدخلات: (في عصر يوم الثالث عشر تبدأ الدخلات بالألعاب الشعبية والخابة بأنواعها، وتردد: زرنا وقد رجعنا عسى القبول)(5).
الخاتمة بالشعبانية: (عصر يوم الرابع عشر ليلة الخامس عشر، يقرأ دعاء شعبان المشهور، وتزار المشاهد والأضرحة ثم تقام الألعاب الشعبية بين الحويف والخابة، ويجتمعون جميعاً في مكان معين، وقد يحصل احتكاك بين الحويف المتنازعة.
وبالشعبانية تنتهي عوائد ومراسيم الزيارة)(6).
هذه هي المناسك الزمانية، وهذا ترتيبها من كتب القوم أنفسهم، وهي تدل على أن الأمر ليس زيارة قبر، ولكنه مناسك متكاملة ومرتبة، كما جعل الله ذلك لبيته الحرام (!!!).
المبحث الثالث: المناسك المكانية:
__________
(1) الصبان (ص:42).
(2) الصبان (ص:43).
(3) الصبان (ص:43).
(4) الصبان (43).
(5) الصبان (ص:44).
(6) الصبان (ص:45).(136/99)
هناك أماكن لابد لزائر هود أن يمر بها، وأن يفعل عندها الطقوس التي شرعها لهم منظمو الزيارة، غير أن هذه الأماكن تختلف، فمنها ما هو كالركن الذي لا يسقط بحال، ومنها ما هو كالواجب الذي يسقط بالعذر، ومنها ما هو مستحب لا حرج في تركه!!.
أول مناسك هذه الزيارة: زيارة أضرحة ومشاهد القرى، فكل أهل قرية يبدءون بزيارة مشاهد وأضرحة قريتهم.
زيارة مشاهد الشيخ فخر الوجود: أبي بكر بن سالم وأبنائه بمدينة عينات، وهذا المنسك عام لكل الزوار الذين يمرون من تلك الطريق.
3-المحذفة: وهي عبارة عن صخرة كبيرة منحدرة من الجبل، ومستقرة على جانب الوادي تمر بها طريق الزوار، فإذا حاذوها كرروا هذه العبارة على طريقة الرجز (وصلنا المحذفة يا عويلة حذفوها)، فالحذف هو الرمي أو الرجم، والمحذفة تأنيث المحذف أي المرجم، فيقفون عندها، ويرجمونها بالحجارة التي تشبه بيض الدجاج أو أكبر قليلاً، وقد شاهدت الصخرة وعلى ظهرها وفي جوانبها أكوام الحجارة التي رجمت بها، وهذا تشبيه بجمار منى التي يرميها الحجاج!!.
قبر الكافرة: ولئن كان العرب قبل الإسلام يرجمون قبر أبي رغال الذي دل أبرهة وجيشه على طريق مكة، وربما تقربوا إلى الله برجم قبره واعتبروه من مناسكهم، كذلك زوار هود لديهم - كما يزعمون - قبر يرجمونه ويسمونه قبر الكافرة، وتقول الخرافة التي لا يتعرض عليها علماء القوم لنقدها وإبطالها: إن هذا القبر اعترض سبيل الزوار ليوهمهم ويضللهم عن قبر نبي الله هود، وهو لامرأة كافرة فاستحق المقت والغضب، وصار الزوار على تعاقب الأزمان يقفون عنده ويشتمونه ويتفلون عليه، وربما رجموه، وقد وقفت عليه عند زيارتي لشعب هود، فرأيت حبالاً طويلة من الحجارة معترضة في جانب الوادي، ربما كانت حاجزاً مائياً قديماً أو حدود مزرعة مندثرة، المهم أن الخرافة نسجت حبالها حوله وأدرج في مناسك زيارة هود عليه السلام!! وذلك تشبه بأهل الجاهلية
!(136/100)
النهر المقدس: وهذا نهر ممتد على مساحة طويلة يمر بأودية وأرض زراعية فسيحة وتحفه النخيل والأشجار من جانبيه، يأتي قبل موضع القبر بعد أميال ويتجاوزه كذلك بعدة أميال، غير أنه لا يقدس منه إلا الجزء الذي بحذاء القبر المزعوم!
أما ما قبل ذلك الموضع وما بعده فلا قدسية له، وقد سبق أن نقلنا زعمهم أنه من أنهار الجنة!
والطقوس التي تؤدى في هذا النهر هي الاغتسال والشرب ولكن بطريقة خاصة!
يقول الصبان تحت عنوان «الغسل في النهر»: (تتوافد كل مجموعة زوار من بلد إلى النهر، وإلى الناحية التي يقف فيها المنصب، وكل بلد يتقدم زوارها منصب وحبيب أو شيخ ويبدءون في نزع ثيابهم للغسل إلا ما يستر العورة، ويغتسلون في النهر وهو يرمز إلى تطهيرهم من الخطايا والدنس)، ثم يقول تحت عنوان «السقيا»: (تتزاحم الزوار على المنصب أو الحبيب أو الشيخ وهو يسقيهم بيده من النهر تبركاً به، وهو يرمز إلى الشرب من الكوثر يوم القيامة)(1).
حصاة عمر: هذه الحصاة من المناسك المتفق عليها، وقد جعل حولها مصلى بني وسوي بالأسمنت المسلح، وذلك تأسياً وتبركاً بمن كان يتعبد عند هذه الحصاة (عمر المحضار)، (عندما ينتهي الغسل والسقي يتأهب الجميع لأداء مراسيم الزيارة، وقبل أن التحرك يركع كل زائر ركعتين أمام حصاة تعرف بحصاة عمر - أي عمر المحضار- نقيب العلويين المتوفى سنة (893هـ) (1487م)، ويركع الجميع ركعتي سنة الوضوء ويتوجهون إلى بئر التسلوم)(2).
__________
(1) الصبان (ص:38).
(2) الصبان (ص:38).(136/101)
بئر التسلوم:أو البئر المعطلة عن النزح (انظر وسيلة الصب الودود ص 18)، وللقوم في هذه البئر ثلاث خرافات، الأولى: أنها البئر المعطلة المذكورة في القرآن، كما سماها صاحب وسيلة الصب الودود، وليس هناك أي دليل على هذا الزعم (انظر الحامد ص 76 - 77)، والخرافة الثانية: أنها ملتقى أرواح الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين، وهذا ما ذكره الصبان ويؤيده لفظ السلام عند هذه البئر، والذي يشمل الأنبياء والرسل والملائكة والصالحين، وهذه كذبة كبيرة وخرافة عظيمة لا أصل لها.
الخرافة الثالثة: وهي التي لم أرَ أحداً ذكرها من المؤلفين إلا أنها شائعة عند بعض العوام، وهي أنها متى ملئت بالتراب قامت القيامة!!
يقول الصبان: (يقف الجميع أمام بئر التسليمة والمعروفة الآن والتي يقال عنها أنها ملتقى أرواح الأنبياء والرسل والأولياء والصالحين، كما أن برهوت ملتقى أرواح الكفار، كأن الأخيار والأشرار كلهم بحضرموت!، يقف الجميع ويتقدم الحبيب أو المنصب أو الشيخ، ولا يقوم بالتسليم في الغالب إلا من ينتمي إلى العلويين فيبتدئ بالسلام على الرسل والأنبياء مبتدئاً بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: السلام على جبريل وعلى آدم إلى آخر السلام على الأنبياء والمرسلين والملائكة، ثم يتوجه الجميع لزيارة القبر(1).
القبر المزعوم: وقد كان التسلوم (كما يقولون) مقصوراً على البئر فقط، وذلك قبل أن يكتشف القبر، فلما اكتشف القبر كرروا التسليم عنده(2). (بعد التسليمة عند بئر التسلوم يتوجه الجميع في زجل دعائي إلى القبر، ويقفون تجاهه، ويسلمون مثل التسليمة الأولى وهم قيام، ثم بعد انتهاء التسليم يجلسون ويقرءون سورة هود ثم ترتيب الفاتحة، يرتبها الحبيب المنصب، ويستمد ويسأل ويتوسل، ويطالب بتحقيق المطالب، ثم يخرجون ويرددون:
__________
(1) ص:39)، وانظر صيغة هذا السلام في وسيلة الصب الودود (ص:18، 19، 20).
(2) انظر كرامة سليمان (ص:287).(136/102)
إن قيل زرتم بما رجعتم يا سيد الرسل ما نقول؟
قولوا رجعنا بكل خير واجتمع الفرع والأصول(1)
المنسك التاسع: من مناسك الزيارة الوقوف أمام الصخرة التي أسفل القبر المزعوم، والتي يزعمون أنها ناقة هود المتحجرة، وقد حظيت هذه الناقة بعناية كبيرة جداً، فهناك أمامها ساحة واسعة جداً، مبنية بالحجر، ومطلية بالنورة، وحول الصخرة رواق مسقوف على أعمدة كثيرة من الحجارة المتوجه بأقواس وعكوف متينة. ولا تزال التوسعة مستمرة إلى هذه الساعة، ليجتمع عندها أكبر عدد ممكن من الزوار، وعندها تقام الموالد والمواعظ والسماع الصوفي (بعد الانتهاء من الزيارة الأولى عند الضريح، يخرج الجميع عند الصخرة الناقة المتحجرة - أي التي صارت حجراً - وتقرأ قصة المولد النبوي في هذا المحل، ثم يقف المذكر ليذكر، وتنشد القصائد الوعظية، وترتب الفاتحة، ومحل الناقة وأمام الضريح من الأماكن والمحلات المقدَّسة والتي تطلب فيها الحاجات واستنزال البركات ودفع الكربات)(2).
وقد اطلعت على شريط فيديو لزيارة آل الشيخ أبي بكر بن سالم لعام (1419هـ) ورأيتهم وهم حول الناقة مجتمعون، يقرءون ويعظون ويذكرون وينشدون السماع الصوفي، ولفت نظري أنهم من بين القصائد التي ينشدونها ويرددونها مع الدفوف والأصوات الجماعية وبحضور معظم علمائهم، ومن بينهم: عمر بن حفيظ وأخوه مشهور - من بين تلك القصائد، القصيدة المنسوبة للشيخ أبي بكر بن سالم والتي يصرح فيها بالكفر الصراح ووحدة الوجود، التي لا مناص من إثباتها عليه وهذا نصها:
صفت لي حميا خلي………وأسقيت من صافيها
وأقبل وثني يملي………على الذي يعليها
ومن ذا شربها مثلي………أنا قبل لا يصفيها
أنا قبل قبل القبل………وبديت على هاليها
أنا أعطيت كل الفضل………تكرم علي باريها
أنا المجتبى بين أهلي………وشفعت في عاصيها
أنا شيخ أهل الوصل………تكرم عليّ واليها
__________
(1) الصبان (ص:39)، وعبيدون (ص:69).
(2) الصبان (ص:40).(136/103)
أنا أعزل أنا للي ولي………وأنا شيخها وقاضيها
أنا حتف لأهل العذل………ونار الجحيم أطفيها
وسيفي ودرعي مجلي………وأعقب على تاليها
ومن كان ينكر فعلي………يجرب وأنا حاميها
أنا بازها والشهب………وأنا للمثاني أقريها
وعين الحقيقة عيني………وأشرب من ساقيها
وفخر الوجود فخري………أبي بكر لي يحميها
لقد طاب فيها أصلي………أنا للفروع أغذيها
وراقت حميا قربي………وإني لها ساقيها
وإذا أفلت شموس الكل………أنا شمسها ضاحيها
أنا عرشها والكرسي………وأنا للسما بانيها
شف أهل الكسا بالفضل………وجبريل لي راويها
فهذه رسالة تبني………بنص القرآن أتليها
وأشكر لنعمة ربي………ولكن لا أحصيها
وأبديت فيها وهبي………على من تبعني فيها
واختم بخير الرسل………نبي الهدى هاديها(1)
والحقيقة أنك عندما تراهم يتزاحمون حول تلك الصخرة ويتعبدون بالرقص والسماع، لتذكر قول الله سبحانه وتعالى: ((وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً)) [الأنفال:35]، وتجزم أن هذا من ذاك!!
المنسك العاشر: مقابر تريم الثلاثة (زنبل - الفريط - أكدر) والتي يجمعها اسم (بشار)، حيث يبدأ موعد هذا المنسك بالطواف حول مقبرة الفريط بتريم، عصر اليوم الرابع عشر من شعبان، حيث يأتي العمال والفلاحون فيجتمعون هناك، ثم يطوفون بالمقبرة سبع مرات، ولا بأس من إيراد صورة هذا المنسك مما كتبه الأستاذ كرامة سليمان في كتاب «الفكر والمجتمع في حضرموت» حيث قال(2):
«وبعد عصر يوم (14) شعبان يتوزع أهل تريم إلى مجموعتين:
__________
(1) انظر مولد الديبع (ص:3، 4، 95) طبع سنة (1327هـ).
(2) ص:295).(136/104)
أ- مجموعة العمال والفلاحين: وهم من حي الخليف وعيديد، ويتحركون بموكبهم (الخابة) من مركز الحي المسمى المسمر أو بالقرب منه، ويطوفون سبع مرات حول مقبرة الفريط، وهي أقدم مقبرة في تريم، وفيها مقابر علماء وفقهاء تريم الأوائل، ويظللها جبل الفريط المبارك، والذي ينمو كما يعتقدون في الموقع الذي تؤخذ منه أحجار لصنع شواهد قبور الموتى!!
وفي نهاية الطواف الذي ينتهي من حيث يبدأ، يقومون بلعبة الرزيح، وهي القيام بحركات وخطوات بالرجلين بصورة إيقاعية إلى الأمام والخلف، أو بالقفز الجماعي في مواقعهم، ويردد المشتركون في الرزيح أثناء حركاتهم العبارات المناسبة للزيارة» وبهذا تنتهي الزيارة.
الخاتمة
وبعد أخي القارئ الحبيب: لقد تجولنا معاً في فن من فنون من القول وضروب من الحديث، كُشِفَتْ لنا من خلالها حقائق، وعرفت أباطيل، وتبيَّنت لنا سنن يجب اتباعها، ووضحت بدع يجب هجرها واجتنابها، وهتكت من خلال هذه الدراسة أستار، وأفشيت أسرار، كان أصحابها يسوؤهم كشفها وإفشاؤها، ويحرصون على بقائها مصونة مكنونة، وقد توصلنا بحمد الله من خلال هذه الدراسة المتواضعة إلى نتائج إليك أهمها:
إبطال ما يزعمه القبوريون من وجود قبر هود عليه السلام في الموضع المشهور لديهم، بالأثر والنظر، وأن الناس قد اختلفوا في موضع قبره على سبعة أقوال لم يثبت دليل على واحد منها.
أن عمدة القبوريين في إثبات دعواهم، هي الحكايات الساقطة والآثار الواهية، وتحريف كلام المؤرخين والمفسرين ليوافق هواهم، والركون إلى الكشف الذي يبدو عليه الصنعة والاختلاق.
أن هدي الإسلام هو العمل على حفظ كرامة الأموات، وحفظ عقائد الأحياء، ومن أجل ذلك حرَّم امتهان القبور كما حرَّم تعظيمها باتخاذها مساجد، وغير ذلك من أنواع التعظيم.
إثبات أن ما درج عليه الصحابة والتابعون وأئمة الهدى هو المنع من البناء على القبور، وهدم ما بني عليها، وإزالة كل ما يؤدي إلى الافتنان بها.(136/105)
إيضاح ما فعله الصحابة بقبر النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يتخذ مسجداً، وما فعلوه بقبر النبي دانيال النبي حين عثروا عليه في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التعمية والإخفاء حتى لا يفتتن به الناس.
إبطال ما يحتج به القبوريون من كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، وبيان ما فعله التابعون حين اضطروا إلى إدخال حجرات أمهات المؤمنين في المسجد حتى يتجنبوا مخالفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الزاجرة عن اتخاذ القبور مساجد.
إثبات أن بناء المساجد والمشاهد على القبور وتعظيمها من هدي اليهود والنصارى، وليس من هدي الإسلام والمسلمين.
معرفة هدي الإسلام في زيارة القبور، والعلة عند المسلمين في مشروعية تلك الزيارة، وأن علة زيارة القبور عند الصوفية هي الاستمداد والشفاعة، والتبرك بالقبور وإثبات ذلك من كتبهم.
كشف ما احتوت عليه زيارة هود عليه السلام من مناكر وانحرافات من أهمهما:
الشرك بالله عز وجل والدعوة إليه.
المظاهر الوثنية الصارخة التي صرح بوجودها باحثون ومؤرخون ورحالة غربيون.
الكذب على الله تعالى، وعلى نبيه هود بما أثبته المروجون لتلك الزيارة من فضائل لأعمالها أو تقديس لبقاعها.
إقرار علماء القبوريين للمناكر الظاهرة من غير ما تقدم، مثل اللهو المحرم، والتنابز بالألقاب التي نص القرآن على تحريمه.
إظهار الجهد الكبير والاهتمام البالغ الذي يبذله القبوريون لحلب الناس لتلك الزيارة، ولتطويرها واستقرارها، وأن الهدف من وراء ذلك هو ترسيخ السلطة الروحية، والسيادة الدينية لطائفة معينة من الناس.
الواجب بعد ما تقدم
والواجب بعد ما تقدم هو المبادرة من كل ذي سلطة سياسية أو شرعية إلى منع تلك الزيارة وما شابهها من زيارات أفسدت عقائد طوائف من المسلمين، وأشاعت الوثنية في الأمة بعد اندثارها، ودنت عليها في جوانب كثيرة من حياتها.(136/106)
والمبادرة - كذلك - إلى امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور المشرفة، وهدم المباني المقامة عليها، من مساجد ومشاهد ومزارات، لأن ذلك مقتضى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، واقتفاء سبيل الصحابة والتابعين الذين حاربوا كل ما يبنى على القبور وأزالوه، واستمر العمل عليه طيلة القرون المفضلة، كما صرح بذلك الإمام الشافعي رحمه الله، وكما نص على وجوب العمل به فقهاء الإسلام وعلماؤه.
كما أن الواجب على عموم المسلمين هجر تلك الزيارات والابتعاد عنها، والتنفير منها، لأنها مخالفة لهدي الإسلام، ولأن من يحضرها لا يسلم من خدش لعقيدته، وابتداع في دينه، ومشاركة في الإثم المترتب على ذلك.
هذا ما وفقنا الله للخروج به من هذه الدراسة المتواضعة، وأسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه نافعة لعباده المؤمنين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أهم المراجع
القرآن الكريم.
الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي.
أحكام الجنائز وبدعها، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة بتاريخ (1406هـ).
أدوار التاريخ الحضرمي، لمحمد أحمد الشاطري، الطبعة الثانية - (1403هـ).
إرشاد الفحول، لمحمد بن علي الشوكاني، دار المعرفة.
أنوار التلاقي، مجلة إسلامية جامعة، تصدر في تريم، عدد شعبان (1419هـ).
البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير، عالم المعرفة (1403هـ).
بذل المجهود في خدمة ضريح سيدنا هود، عبد الرحمن بن محمد العيدروس، المطبعة الفيضية، الهند (1328هـ).
البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي، إسماعيل بن علي الأكوع.
البناء على القبور، عبد الرحمن بن يحي المعلمي، دار أطلس، الطبعة الأولى (1417هـ).
تاريخ حضرموت، صالح بن علي الحامد، مكتبة الإرشاد بجدة، الطبعة الأولى (1417هـ).
تاريخ حضرموت السياسي، صلاح عبد القادر البكري، المطبعة السلفية، الطبعة الأولى.
التاريخ الكبير، محمد بن إسماعيل البخاري.(136/107)
تاريخ الكعبة المعظمة، حسن بن عبد الله باسلامة، دار تهامة، الطبعة الأولى.
التبرك.
تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة (1398هـ).
تذكير الناس من كلام أحمد بن حسن العطاس، أبو بكر العطاس بن عبد الله الحبشي، مطبعة حسان القاهرة، الطبعة الأولى.
التعريفات، للجرجاني.
تفسير البغوي، الحسين بن مسعود، دار طيبة، الطبعة الرابعة، (1417هـ).
تفسير الطبري، محمد بن جرير الطبري، دار المعرفة (1406هـ).
تفسير ابن كثير، إسماعيل بن عمر بن كثير.
تقريب التهذيب، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى (1416هـ).
الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم ، دار الفكر، الطبعة الأولى.
حضرموت إزاحة النقاب عن بعض غموضها، دانيال فان ميولين، د/ هـ - فون فتسمان، ترجمة د/محمد سعيد القدال.
الدر المنضود في أخبار قبر وزيارة هود، فهمي بن علي بن عبيدون، دار الفقيه، الطبعة الأولى.
دليل الزائر إلى العتبات المقدسة بالعراق، محمد الشهيد.
رحلة ابن بطوطة، ابن بطوطة، دار الفكر.
الزواجر عن اقتراف الكبائر، أحمد بن محمد ابن حجر الهيثمي ، دار المعرفة، (1402هـ).
زيارات وعادات «زيارة نبي الله هود»، عبد القادر محمد الصبان، المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية.
زيارة نبي الله هود في ميزان الشرع، سالم بن عبد الله الشاطري.
سبل السلام - شرح بلوغ المرام - محمد بن إسماعيل الأمير، دار الكتاب العربي، الطبعة الخامسة (1410هـ).
السراج الوهاج من مطالب صحيح مسلم بن الحجاج، صديق حسن خان، طبعة قطر.
صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، المطبعة السلفية، مع الفتح.
صحيح الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي.
صحيح الجامع الصغير، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي.
صحيح أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي.(136/108)
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
صحيح مسلم، بشرح النووي، يحي بن شرف النووي، مؤسسة الكتب الثقافية.
صحيح بن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة، المكتب الإسلامي.
طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص، الدار اليمنية، الطبعة الأولى.
عون المعبود شرح سنن أبي داود، شمس الحق العظيم أبادي، المكتبة السلفية بالمدينة، الطبعة الثانية.
الفتاوى الكبرى الفقهية، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثيمي، دار الفكر.
فتح الباري، شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، المطبعة السلفية.
فتح القدير (تفسير الشوكاني) محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر (1403هـ).
الفكر والمجتمع في حضرموت، كرامة مبارك سليمان، مصفوف بالكمبيوتر.
قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، دار الجبل، الطبعة الثانية، (1407هـ).
مجموع فتاوى ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية.
محاضرة لابن عبيد الله، عبد الرحمن بن عبد الله السقاف.
المشرع الروي في مناقب آل ابن علوي، محمد بن أبي بكر الشلي، المطبعة العامرة الشرقية، الطبعة الأولى (1319هـ).
المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم النيسابوري.
مسند الإمام أحمد، أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، دار المعارف بمصر (1377هـ).
مساجد مصر وأولياؤها الصالحون، د/ سعاد ماهر محمد، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر.
مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، دار إحياء التراث العربي (1404هـ).
ميزان الاعتدال، محمد بن عثمان الذهبي - دار المعرفة.
نسيم حاجر بتأييد قولي في مذهب المهاجر، عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، مطبعة النهضة اليمانية بعدن (1368هـ).
وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، علي بن أحمد السمهوري، دار إحياء التراث العربي (1404هـ).
وسيلة الصب الودود، مطبعة المدني، الطبعة الأولى، (1387هـ).
فهرس المواضيع
المقدمة…2(136/109)
الباب الأول بطلان ما استدلوا به على وجود القبر في ذلك المكان…4
الفصل الأول بطلان ما استدلوا به من النقل…4
المبحث الأول: إثبات أن الله لم يحدد موضع ذلك القبر ولا غيره من قبور الأنبياء وعلة ذلك:…4
المبحث الثاني: بطلان ما نسب إلى السنة من ذكر ذلك القبر في موضعه المعروف:…5
المبحث الثالث : مناقشة ما نقلوه عن المفسرين في ذلك:…8
المبحث الرابع: الروايات التاريخية في الموضوع:…11
المبحث الخامس: اختلاف المفسرين في موضع القبر:…12
الفصل الثاني بطلان ما استدلوا به من الكشف والإلهام على وجود قبر هود في الموضع المزعوم…14
المبحث الأول: تعريف الكشف والإلهام:…14
المبحث الثاني: بيان أنه لا يحتج بالكشف عند علماء أهل السنة:…14
المبحث الثالث: نماذج من المكاشفات الزاعمة وجود القبر في موضعه المعروف:…15
الباب الثاني هدي الإسلام في التعامل مع قبور الأنبياء والصالحين وهدي اليهود والنصارى…18
الفصل الأول هدي الإسلام في التعامل مع القبور…18
المبحث الأول: موازنة الإسلام بين مصالح الأحياء والأموات والحفاظ على كرامة الأموات وعقيدة الأحياء:…18
المبحث الثاني: إغفال الوحي لذكر قبور الأنبياء والدلالة عليها:…20
المبحث الثالث: تعامل الصحابة مع ما عرف من قبور الأنبياء:…21
المبحث الرابع: استمرار ما درج عليه الصحابة من الهدي في تسوية القبور والنهي عن تعظيمها إلى نهاية القرون المفضلة:…24
الفصل الثاني هدي اليهود والنصارى في البناء على القبور…25
المبحث الأول: هدي اليهود والنصارى في اتخاذ القبور مساجد واستحقاقهم اللعن على ذلك وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فعلهم…25
المبحث الثاني: النهي عن التشبه باليهود والنصارى:…26
المبحث الثالث: الرافضة هم أول من أحدث المشاهد المعظمة في الملة الإسلامية وغلوا في أصحابها حتى عبدت من دون الله تعالى:…27
الباب الثالث هدي الإسلام في زيارة القبور والحكمة في زيارتها…30(136/110)
الفصل الأول مشروعية زيارة القبور والعلة في زيارتها…30
المبحث الأول: مشروعية زيارة القبور:…30
المبحث الثاني: العلة في مشروعية زيارة القبور عند أهل السنة:…31
المبحث الثالث: العلة في مشروعية زيارة القبور عند القبوريين:…31
الفصل الثاني النهي عن شد الرحال إلى القبور وعن اتخاذها أعياداً…34
المبحث الأول: النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة:…34
المبحث الثاني: النهي عن اتخاذ القبور أعياداً:…35
الباب الرابع ضلالات الزائرين…37
الفصل الأول كيف نشأت زيارة هود وكيف تطورت؟…37
المبحث الأول: دخول التصوف إلى حضرموت وعلاقته بإشهار زيارة هود:…37
المبحث الثاني: آل باعلوي يتسلمون قيادة هذه الزيارة ويطورونها…39
المبحث الثالث: اتخاذ هذه الزيارة عيداً سنوياً محدداً بحدود زمانية:…40
الفصل الثاني لاهتمام الكبير بهذه الزيارة والهدف من وراء ذلك…42
المبحث الأول: الاهتمام الكبير بهذه الزيارة…42
المبحث الثاني: الهدف من هذه الزيارة…45
الفصل الثالث الترويج لهذه الزيارة ووسائل الجذب لها…51
المبحث الأول: النص على أن القوم يروجون لهذه الزيارة من كتبهم…51
المبحث الثاني: الفضائل المفتراة التي يروجون بها لهذه الزيارة…52
المبحث الثالث: نماذج من أشعر القوم في الترويج لها…56
المبحث الرابع: وسائل جذب الزوار لهذه الزيارة…59
الفصل الرابع مظاهر وثنية في هذه الزيارة…63
المبحث الأول: النص على وجود الشعور الوثني والمظاهر الوثنية في زيارة هود عليه السلام:…63
المبحث الثاني: الطقوس الوثنية فيها…64
الفصل الخامس مناسك زيارة هود…71
المبحث الأول: المناسك الزمانية…71
المبحث الثالث: المناسك المكانية:…73
الخاتمة…82
الواجب بعد ما تقدم…84
أهم المراجع…85
فهرس المواضيع…88(136/111)
سؤال للصوفية في سبب تعدد الطُرقِ الصوفية؟!!
إن للصوفية طُرقاً كثيرة ومنتشرة في أنحاء العالم،فلماذا لا يتفق هؤلاء المتصوفة على طريقة واحدة وهي التي جاء بها الإسلام إن كانوا يعلمون لخدمة الإسلام –كما يزعمون- ولكن هذا لم يكن لأن لكل مشيخة دخولاً ومنتفعين وأموراً تتعلق بالمال وصناديق النذور "1" ...
تقول الصوفية:
"إذا سلط على قومٍ ظالماً فليس لأحدٍ أن يقاوم إرادة الله أو يتأفف منها" .
إذن فلا غرابة في دعم الاستعمار لهذه الفرقة وتقريب مشايخها المحسوبين على الإسلام والدفاع عنهم وتسهيل مهمتهم مُستغلين هذا المُعتقد الفاسد عندهم. "2"
إن هذه الطرق الصوفية المنتشرة في الناس اليوم تروج الكفر والوثنية والدجل وتعمل جاهدة لتأليه الدجالين واعتصار دماء الجماهير لتتضخم جيوب شيوخها أولياء الشيطان وتنشر في الناس ظلمات الجاهلية الأولى وتحارب الله ورسوله وتهيء الأمة الإسلامية بهذه الجاهلية العمياء وهذه التقاليد الخرافية وهذه الغباوة البهيمية لتكون لقمة سهلة الهضم للأعداء،هذه الطرق الصوفية هي المعول الذي هدم به اليهود والفرس صرح الإسلام،هذه الطرق الصوفية هي اليد الأثيمة التي مزقت رقعة الدولة الإسلامية،وشيوخ الطرق الصوفية هم الذين يمكنون المستعمرين في مراكش وتونس والجزائر والهند وفي السودان وفي مصر وفي كل مكان من البلاد الإسلامية وهم سماسرة المستعمر وخدمه المخلصون في خدمته إذلال المسلمين واستغلالهم.(137/1)
ولقد كُنتُ واحداً منهم وعرفت دخائل أمورهم وخبايا زواياهم وسيء مكرهم وخبث قصدهم،فالحمد لله الذي أنقذني وهداني إلى الإسلام الحق الذي بعث الله به رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور،وإني بكيدهم وكفرهم ووثنيتهم أعرف،ولذلك أنا أشد حرباً عليهم ولا أزال حرباً عليهم ما بقي فيَّ عرق ينبض بالحياة مُستعيناً بربي وحده،متأسياً بالرسولِ الكريم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم صابراً على كل ما يكيد به أعداء أنفسهم من حزبِ الشيطان،أعداء الرحمن مؤمناً بأن العاقبة للمتقين وأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
مُقتطف من جُملة أحاديث للمُهتدي إلى مُعتقدِ أهل السنة والجماعة بعد تركه لضلالات المبتدعة أصحاب الطُرق الصوفية..
الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله.
مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر.
وأحد العُلماء المحققين الأثبات.
من كتاب:
جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر.
------------------------
1- اقتباساً من مجلة التوحيد.
2- من كتاب كشف الستار للشيخ محمد الناصر العريني-حفظه الله-.
نقلها أبو عمر المنهجي - شبكة الدفاع عن السنة(137/2)
سبيل النجاة والفكاك
من موالاة المرتدين وأهل الإشراك
للشيخ الإمام
حمد بن علي بن عتيق
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيماً بلا اعوجاج ، وجعله عصمة لمن تمسك به وأعتمد عليه في الاحتجاج ، وأوجب فيه مقاطعة أهل الشرك بإيضاح الشرعة والمنهاج ، والصلاة والسلام على محمد الذي مزّق الله ظلام الشرك بما معه من السراج ، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا أهل الكفر وباينوهم من غير امتزاج .
أما بعد : فإني قد تكلمت وشددت في النهي عن مولاة المشركين ، ودعوت من حولي من المسلمين إلى عداوة الكافرين .
ثم كتبت في ذلك بعض الآيات الدالة عليه ، مع كلمات قليلة من كلام بعض المحققين من أهل العلم والدين . وما كنت أظن أن من قرأ القرآن وآمن أنه كلام الله وأن الله تعبدنا بالعمل به والقيام ، إلا إذا سمع ذلك أذعن له وانقاد ، وبادر إلى السمع والطاعة لحكمه ، لقوله تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى . قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا . قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } .
فحصل من بعض الجاهلين والمعاندين إنكارٌ لذلك ، وجحد لما أوجب الله القيام والإقرار به ، فصار المنتسبون إلى العلم والمدعون أنهم من طلبته في ذلك أقسام :
طائفة منهم : استحسنت المعارضة الجاهلة الضالة ورضيتها ، وإن لم تصرح بذلك ، فإنه ظاهر على وجوهها .
وطائفة : كرهت المعارضة واستجهلت صاحبها ، ولكنها لم تفعل ما أوجب الله عليها من رد ذلك ، والإنكار على سالكه .(138/1)
ولولا ما وقع لهؤلاء ، لما كان المعارض مساوياً لمن يجاوبه ، فلأجل ذلك كتب شيخنا عبد الرحمن بن حسن رسالة مفيدة في الرد على هذه المعارض ، نقض فيها أقواله نقضا بديعا ، وهي كافية في الرد عليه ، فصار شيخنا ، هو إمام الطائفة الرادة لأقوال أهل الباطل ، المنكرة لها ، والله ناصر دينه ومظهره على الدين كله ولو كره الكافرون .
ثم إني كاتبٌ إن شاء الله تعالى كلمات ، فيها بيان لأشياء وقع الغلط فيها ممن ينتسب إلى الإسلام ، بل من كثير ممن ينتسب إلى العلم ، لقول الله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } وقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون } .
منها : وجوب معاداة الكفار والمشركين ومقاطعتهم ، ومنها : شيء مما يصير الرجل به مرتداً ، ومنها : ما يعذر الرجل به على موافقة المشركين وإظهار الطاعة لهم ، ومنها : مسألة إظهار الدين ، ومنها: مسألة الاستضعاف ، ومنها : وجوب الهجرة ، وأنها باقية .
وسميت هذا الكتاب : سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك . وأسأل الله تعالى أن يجعله مبنياً على الإخلاص ، وأن ينفع به من قرأه أو سمعه طلبا للنجاة والخلاص .
فصل
اعلم أن الله سبحانه وتعالى ، بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، فبين للناس ما نزل إليهم ، فما من خير إلا دلهم عليه وعرفهم الطريق الموصلة إليه ، وما من شر إلا حذرهم منه وسد عليهم أبوابه المفضية إليه .(138/2)
ومن أعظم ذلك أنه أخبرهم أن : ( الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريبا كما بدأ ) وأخبرهم بظهور الفتن التي : ( كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي كافرا ويصبح مؤمنا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) فكان وقوع هذا لما وقع هو وأمثاله ، من الأدلة على أنه رسول الله .
ومما أخبر به : أن أمته تقاتل الترك الكفار ، ووصفهم بأنهم صغار العيون ذلف الأنوف ، كأن وجوههم المجان المطرقة . ومعنى ذلف الأنوف : أنها قصار منبطحة .
والمجان : جمع مِجن ، وهو الترس . أراد أنه وجوههم مستديرة ناتئة وجناتها . هذا معنى كلام البغوي في شرح السنة .
فكان من حكمة الله وعدله أن سلطهم في المائة الثالثة عشرة فخرجوا على أهل الديار النجدية ، لمّا ظهرت فيهم الملة الحنيفية ودعوا إلى الطريقة المحمدية ، ولكن حصل من بعضهم ذنوب بها تسلطت هذه الدولة الكفرية ، فجرى ما هو ثابت في الأقدار الأزلية ، وإن كانت لا تجيزه الأحكام الشرعية ، والله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
وامتحن أهل الإسلام بأمور تشبه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في حادثة ظهور التتار في زمنه ، وهم بادية الترك ، فناسب أن نذكر بعض كلامه .
قال رحمه الله تعالى : فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام ، قد جرى فيها شبهٌ بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي التي أنزل الله فيها كتابه ، وابتلى بها نبيه والمؤمنين ، مما هو أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيرا ، إلى يوم القيامة . فإن نصوص الكتاب والسنة ، اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، تتناول عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي ، وبالعموم المعنوي .(138/3)
وعهود الله في كتابه وسنته ، تتناول آخر هذه الأمة كما نالت أولها . وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم ، ليكون عبرة لنا فنشبّه حالنا بحالهم ، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها . فيكون للمؤمن من المستأخرين شبه بما كان للمؤمن من المستقدمين ، ويكون للكافر والمنافق من المستأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المستقدمين .
كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة و أجمل ذكر قصص الأنبياء : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } وقال لما ذكر قصة فرعون : { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } وقال في محاصرة بني النضير : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم } إلى قوله : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } .
فأمرنا أن نعتبر بأحوال المستقدمين علينا من هذه الأمة وممن قبلها ، وذكر في غير موضع ، أن سنته في ذلك سنة مطّردة وعادة مستمرة فقال تعالى : { لئن لم ينتهي المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا . ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا . سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وقال تعالى : { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيرا . سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين ، كدأب الكافرين من المستقدمين .(138/4)
فينبغي للعقلاء أن يعتبروا سنة الله وأيامه في عباده ، ودأب الأمم وعاداتهم ، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق خبرها ، واستطار في جميع ديار المسلمين شررها ، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه ، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه ، وكاد فيها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم ، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم ، وعقير دار المؤمنين أن يحل بها البوار ، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار ، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن : { ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا ، وزين ذلك في قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا .
ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيرانا ، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران ، وتركت الرجل اللبيب ، لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان ، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان ، حتى أن في الرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان ، وميّز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان .
ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية ، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية وكفّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة ، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها مختصرة من القيامة الكبرى .
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد ، كما يتفرقون كذلك في اليوم الموعود ، ولم ينفع المنفعة الخالصة إلا الإيمان والعمل الصالح ، والبر والتقوى ، وبليت فيها السرائر ، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر ، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل ، وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيل ، كما حمد ربه من صدق في إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلا . وبان صدق ما جاءت به الأخبار النبوية من الإخبار بما يكون ، وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون أي : ملهمون كما تواطأت عليها المبشرات التي رآها المؤمنون .(138/5)
وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة ، الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة ، حيث تحزب الناس ثلاثة أحزاب :
حزب مجتهد في نصرة الدين ، وآخر خاذل له ، وآخر خارج عن شريعة الإسلام .
وانقسم الناس بين مأجور ومعذور ، وآخر قد غره بالله الغرور ، وكان بهذا الامتحان تمييزاً من الله وتقسيما : { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما } .
قلت : وما ذكره من الامتحان والافتتان ، قد رأينا ما هو نظيره ، أو أعظم منه في هذه الأزمان ، وكذلك انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : أحدها ناصر لدين الإسلام ، وساع في ذلك بكل جهده ، وهم القليلون عددا الأعظمون عند الله أجرا .
القسم الثاني : خاذل لأهل الإسلام ، تارك لمعونتهم .
القسم الثالث : خارج عن شريعة الإسلام بمظاهرة حزب الشرك ومناصحتهم . وقد روى الطبراني ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أعان صاحب باطل ليدحض بباطله حقا ، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ) .
فصل
وهذا أوان الشروع في المقصود : فأما معاداة الكفار والمشركين ، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى أوجب ذلك وأكد إيجابه ، وحرم موالاتهم وشدد فيها ، حتى أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم ، بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده قال الله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ، قالوا إنما نحن مصلحون } قال ابن جرير رحمه الله تعالى : فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عملا إلا بالتصديق به ، والإيقان بحقيقته وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والتكذيب ، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله ، إن وجدوا إلى ذلك سبيلا .(138/6)
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله حسن ، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } فقطع الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين } .
وقوله : { إنما نحن مصلحون } أي : نريد أن نداري بين الفريقين من المؤمنين والكافرين ، ونصلح مع هؤلاء وهؤلاء . يقول الله : { ألا إنهم هم المفسدون } يقول : ألا إن هذا الذي يشهدونه ويزعمون أنه إصلاح ، هو عين الفساد ، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادا . اهـ .
وهذا الذي ذكره ، قد والله سمعناه ورأينا أهله ، فإنه إذا قيل لهم : ما الحامل لكم على مجالسة أهل الشر والفساد ؟ قالوا : نريد أن نصلح أحوالنا ، ونستخرج دنيانا منهم ، ويكون لنا يدٌ عندهم .
وبعضهم : إذا ظن بالله ظن السوء من أدالة أهل الباطل ، ورأى من له اتصال بهم وتوصل إليهم ، أتخذه صديقا ورضي به جليسا ، قائلا بلسان حاله : { نخشى أن تصيبنا دائرة } { ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } وقال تعالى : { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } إلى قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } .(138/7)
قال ابن كثير : ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، يعني أنهم معهم في الحقيقة ، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، يقولون إذا خلوا بهم : إنّا معكم ، إنما نحن مستهزئُون بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة ، قال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين : { أيبتغون عندهم العزة } ثم أخبر بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } وقال تعالى : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } .
والمقصود من هذا : التهييج على طلب العزة من جانب الله تعالى ، والالتجاء إلى عبوديته ، والانتظام في جملة عباده المؤمنين ، الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
قلت : فإذا كانت موالاة الكافرين من أفعال المنافقين ، فهذا كافٍ في تحريمها والنهي عنها .
وقال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } فنهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكافرين ثم قال : { ومن يفعل ذلك } أي : ومن يوالِ الكافرين ، فليس من الله في شيء ، أي : فقد برئ من الله ، وبرئ الله منه ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، حفظا للإسلام والتوحيد .
وقال تعالى : { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون } .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي مستلزم لعدم ولايتهم ، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان ، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم .(138/8)
قلت : رتب الله تعالى على موالاة الكافرين سخطه ، والخلود في العذاب ، وأخبر أن ولايتهم لا تحصل إلا ممن ليس بمؤمن ، وأما أهل الإيمان بالله وكتابه ورسوله ، فإنهم لا يوالونهم ، بل يعادونهم ، كما أخبر الله عن إبراهيم والذين معه من المرسلين ، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } فنهى سبحانه وتعالى المؤمنين أن يوالوا اليهود والنصارى ، وذكر أن من تولاهم فهو منهم ، أي من تولى اليهود فهو يهودي ، ومن تولى النصارى فهو نصراني .
وقد روى ابن أبي حاتم ، عن محمد بن سيرين ، قال : قال عبد الله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا ، وهو لا يشعر ، قال : فظنناه يريد هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء } إلى قوله : { فإنه منهم } وكذلك من تولى الترك ، فهو تركي ، ومن يتولى الأعاجم فهو عجمي ، فلا فرق بين من تولى أهل الكتابين أو غيرهم من الكفار .
ثم أخبر تعالى : أن الذين في قلوبهم مرض أي : شك في الدين وشبهة يسارعون في الكفار قائلين : { نخشى أن تصيبنا دائرة } أي : إذا أنكرت عليهم موالاة الكافرين ، قالوا : نخشى أن تكون الدولةُ لهم في المستقبل فيتسلطوا علينا ، فيأخذوا أموالنا ويشردونا من بلداننا . وهذا هو ظن السوء بالله ، الذي قال الله فيه : { الظآنين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } .
ولهذا قال تعالى في الآية : { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } وعسى : من الله واجب .(138/9)
فالحمد لله الذي أتى بالفتح ، فأصبح أهل الظنون الفاسدة على ما أسروا في أنفسهم نادمين .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } فنهى سبحانه المؤمنين عن موالاة أهل الكتابين وغيرهم من الكفار ، وبين أن موالاتهم تنافي الإيمان .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هو الظالمون . قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانُكم وأزواجُكم وعشيرتُكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } .
فنهى سبحانه وتعالى المؤمن عن موالاة أبيه وأخيه اللذين هما أقرب الناس إليه إذا كان دينهما على غير الإيمان ، وبين أن الذي يتولى أباه وأخاه إذا كانا كافرين فهو ظالم ، فكيف بمن تولى الكافرين الذين هم أعداء له ولآبائه ولدينه ؟! بلى والله إنه لمن أظلم الظالمين .
ثم بيّن تعالى أن هذه الثمانية لا تكون عذراً في موالاة الكافرين ، فليس لأحد أن يواليهم خوفاً : على أبيه ، أو أخيه ، أو بلاده ، أو ماله ، أو مشحة بعشيرته ، أو مخافة على زوجاته ، فإن الله قد سد على الخلق باب الاعتذار بهذه الثمانية ، وذلك أن ما من أحد يوالي المشركين إلا وهو يعتذر بها أو ببعضها ، وقد بان أن هذا ليس بعذر .
فإن قيل : قد قال كثير من المفسرين : أن هذه الآية نزلت في شأن الجهاد .
فالجواب من وجهين :
أحدهما أن نقول : إذا كانت هذه الثمانية ليست عذرا في ترك الجهاد الذي هو فرض على الكفاية ، فكونها لا تكون عذرا في ترك عداوة المشركين ومقاطعتهم ، بطريق الأولى .(138/10)
الوجه الثاني : أن الآية نفسها دلت على ما ذكرناه ، كما دلت على الجهاد ، فإنه قال : { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } فإن محبة الله ورسوله توجب إيثار عداوة المشركين ومقاطعتهم على هذه الثمانية ، وتقديمها عليها ، كما أن محبة الجهاد توجب إيثاره عليها ، وبالله التوفيق .
وهذا إذا سمعه المنصف يكون عنده ظاهرا ، وأما من أعمى الله بصيرته بسبب تعصبه ، فكما قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون . ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } .
وقال تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } ثم قال : { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } فأخبر أن الكفار إذا لم يوال بعضهم بعضا بأن ينحازوا عن المسلمين ، ويقطع المسلمون أيديهم منهم ، وإلا وقعت الفتنة والفساد الكبير .
فتبين أن موالاة المؤمن للكافر سبب الافتتان في الدين ، بترك واجباته ، وارتكاب محرماته ، والخروج عن شرائعه ، وسبب للفساد في الأديان والأبدان والأموال ، فأين هذا من قول أهل الفساد والمجون : أن موالاة المشركين صلاح وعافية وسلامة ؟! .
وقال تعالى : { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء ، حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا } فأخبر تعالى عن الكفار : أنهم يودون كفر المسلمين كما كفّروهم ، ثم نهى أهل الإيمان عن موالاتهم حتى تحصل منهم الهجرة بعد الإسلام .(138/11)
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير . قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } إلى قوله : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } إلى قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } .
وقد ثبت في الصحاح : أن هذه السورة نزلت في رجل من الصحابة ، لما كتب إلى أهل مكة يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح ، فأنزل الله هذه الآيات بخبر هذا الكتاب ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في أثر المرأة التي ذهبت بالكتاب ، فوجده في عقيصة رأسها ، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر ويحلف أنه ما شك ، ولكنه ليس له من يحمي مَن وراءه من أهله بمكة ، وأنه أراد هذا يدا عند قريش ، وأستأذن بعض الصحابة في قتله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( وما يدريك أن الله أطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) فلولا أن ذلك الرجل كان من أهل بدر ، لقتل لأجل هذا الكتاب .
ففي هذه السورة مع سبب نزولها ، من الأدلة على وجوب عداوة الكفار ومقاطعتهم أدلة كثيرة :(138/12)
فنهى تعالى أهل الإيمان عن اتخاذ عدوه وعدوهم وليا ، وهذا تهييج على عداوتهم ، فإن عداوة المعادي لربك باعثة وداعية إلى عداوتك له .
ولنضرب لذلك مثلا ولله المثل الأعلى فقدّر نفسك مملوكا لإنسان هو سيدك ، والسبب في حصول مصالحك ومنع مضارك ، وسيدك له عدو من الناس ، فهل يصح عندك ، ويجوز في عقلك أن تتخذ عدو سيدك ولياً ، ولم ينهك عن ذلك ؟! فكيف إذا نهاك أشد النهي ، ورتب على موالاتك له أن يعذبك ، وأن يسخط عليك ، وأن يوصل إليك ما تكره ، ويمنع عنك ما تحب ؟ فكيف إذا كان هذا العدو لسيدك ، عدوا لك أيضا ، فإن واليته مع ذلك كله ، إنك إذاً لمن الظالمين الجاهلين !! .
ثم قال : { تلقون إليهم بالمودة } وهذا كاف في إبطال شبهة المشبهين ، فإنه إذا أنكر عليهم موالاة المشركين وموادتهم قالوا : لم يصدر منا ذلك ، وهم مع ذلك يعينون أهل الباطل بأموالهم ، ويذبون عنهم بألسنتهم ، ويكاتبونهم بعورات المسلمين .
فأين هذا من الكتاب الذي نزلت فيه هذه السورة ؟ وقد سماه الله إلقاء بالمودة ! ، وهذا ظاهر جداً .
ثم قال : { وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } فذكر ما يدعو إلى عداوتهم : وهو كفرهم بالحق الذي جاءنا من عند الله ، وإخراجهم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل الإسلام ، لأجل الإيمان بالله .
ثم حذر تعالى من موالاتهم ، بأنه يعلم السر و العلانية ، وهذا تهديد شديد .
ثم قال : { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } أي : من يتول أعداء الله ، ويلقي إليهم بالمودة ، ويسر إليهم ، فقد أخطأ الصراط المستقيم ، وخرج عن طريق الصواب .(138/13)
ثم قال : { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءًا } فبين أنهم إن قدروا على المسلم ، واستولوا عليه : ساموه سوء العذاب ، وبسطوا إليه أيديهم وألسنتهم بالضرب أو القتل ، وبالكلام الغليظ ، ولو كان يواليهم ويكاتبهم في حال بعده عنهم ، فإنهم لا يرضون عنه ويسلمونه من شرهم ، حتى يكون دينه دينهم ، ولهذا قال : { وودوا لو تكفرون } وكما قال : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } .
ثم قال : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة } فبين أن كون الرجل له أرحام وأولاد عند المشركين ، لا يبيح له موالاتهم ، كما اعتذر هذا الرجل بأن له في مكة أرحاما وأولاداً ، فلم يعذره الله تعالى ، فإنه يجب على الإنسان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ولا يحصل الإيمان حتى يكون الرسول أحب إلى الإنسان من ولده ووالده والناس أجمعين .
فقوله : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة } أي : لن ينجوكم من عذاب الله ، فكيف تقدمونهم على مراد الله ؟ ، ولأجلهم توالون أعداء الله !! والله تعالى مطلع عليكم ، بصير بأقوالكم وأعمالكم ونيّاتكم .
ثم بين أن هذا الذي دلهم عليه من موالاة المؤمنين ، ونهاهم عنه من موالاة الكافرين : ليس هو أمراً لهم وحدهم ، بل هو الصراط المستقيم الذي عليه جميع المرسلين فقال : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } أي : من المرسلين { إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } .
فقوله : { قد كانت لكم أسوة حسنة } كقوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } .(138/14)
فأمرنا سبحانه وتعالى أن نتأسى بإبراهيم الخليل ومن معه من المرسلين في قولهم : { إنا برءاء منكم } إلى آخره ، وإذا كان واجبا على المسلم أن يقول هذا لقومه الذين هو بين أظهرهم ، فكونه واجبا للكفار الأبعدين عنه المخالفين له في جميع الأمور ، أبين وأبين .
وهاهنا نكتة بديعة في قوله : { إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله } وهي : أن الله تعالى قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله ، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله ، لأن الأول أهم من الثاني ، فإنه قد يتبرأ من الأوثان ولا يتبرأ ممن عبدها ، فلا يكون آتياً بالواجب عليه ، وأما إذا تبرأ من المشركين ، فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم .
وهذا كقوله تعالى : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا } فقدم اعتزالهم على اعتزال معبوداتهم ، وكذا قوله : { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله } وقوله : { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله } فعليك بهذه النكتة ، فإنها تفتح لك بابا إلى عداوة أعداء الله ، فكم من إنسان لا يقع منه الشرك ، ولكنه لا يعادي أهله !! فلا يكون مسلما بذلك ، إذا ترك دين جميع المرسلين .
ثم قال : { كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا } فقوله : { وبدا } أي : ظهر وبان . وتأمل تقديم العداوة على البغضاء ، لأن الأولى أهم من الثانية ، فإن الإنسان قد يبغض المشركين ولا يعاديهم فلا يكون آتياً بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء ، ولابد أيضاً من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين ، أي : ظاهرتين بينتين .(138/15)
واعلم انه وإن كانت البغضاء متعلقة بالقلب ، فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها وتبين علاماتها ، ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة ، فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين ، وأما إذا وجدت الموالاة والمواصلة ، فإن ذلك يدل على عدم البغضاء ، فعليك بتأمل هذا الموضع فإنه يجلو عنك شبهات كثيرة ، ثم قال : { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين ، وأخرجوكم من دياركم ، وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } فذكر سبحانه وتعالى أفعالا تدعو إلى مقاطعتهم ، وترك موالاتهم ، وهي : أنهم يقاتلون في الدين ، أي : من أجله ، يعني أن الذي حملهم على قتالكم ما أنتم عليه من الدين لعداوتهم له ، وأيضا يخرجون المؤمنين من ديارهم ، ويعاونون على إخراجهم ، فمن تولاهم مع ذلك فهو من أظلم الظالمين .
وفي هذه الآية : أعظم الدليل وأوضح البرهان على أن موالاتهم محرمة منافية للإيمان ، وذلك أنه قال : { إنما ينهاكم الله } فجمع بين لفظة : إنما ، المفيدة للحصر ، وبين النهي الصريح ، وذكر الخصال الثلاث ، وضمير الحصر وهو لفظة هم ثم ذكر الظلم المعرف بأداة التعريف .
ثم قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } فنهى سبحانه أهل الإيمان عن موالاة الذين غضب الله عليهم ، فلا يحسن من المؤمن ولا يجوز منه أن يوالي من فعل ما يغضب الله تعالى من الكفر ، فإن موالاته له تنافي الإيمان بالله تعالى .
فصل
وها هنا أمور يجب التنبيه عليها ، ويتعين الاعتناء بها ، ليتم لفاعلها مجانبة دين المشركين .
الأمر الأول : ترك اتباع أهوائهم ، وقد نهى الله تعالى عن اتباعها ، قال تعالى : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن أتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} .(138/16)
قال شيخ الإسلام : فانظر كيف قال في الخبر { ملتهم } وقال في النهي { أهواءهم } لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا ، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير ، وقال تعالى لموسى وهارون : { فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } وقال موسى لأخيه هارون : { أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } وقال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولَّه ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } إلى قوله : { ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } وقال تعالى : { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين . وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون . ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين } .
قال شيخ الإسلام : فأخبرنا سبحانه وتعالى أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا ، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم لبعض ، ثم جعل محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له وأمره باتباعها ، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته وأهواؤهم : ما يهوونه .
قلت : فإذا كان اتباع أهواء جميع الكفار وسلوك ما يحبونه منهيا عنه وممنوعا منه ، فهذا هو المطلوب ، وما ذاك إلا خوفا من إتباعهم في أصل دينهم الباطل .(138/17)
وقال تعالى : { وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق } فأخبر سبحانه : أنه أنزل كتابه حكما عربيا ، ثم توعده على اتباع أهواء الكفار بهذا الوعيد الشديد . وقال تعالى : { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون } إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب ترك أهواء الكافرين ، وتحريم اتباعها ، وأنه من أعظم القوادح في الدين .
الأمر الثاني : معصيتهم فيما أمروا به ، فإن الله تعالى نهى عن طاعة الكافرين ، وأخبر أن المسلمين إن أطاعوهم ، ردوهم عن الإيمان إلى الكفر والخسارة ، فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } وقال تعالى : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } وقال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } وقال تعالى : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } وقال تعالى : { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا . فلا تطع الكافرين وجهادهم به جهادا كبيرا } وقال تعالى : { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما } وقال تعالى إخبارا عمن أطاع رؤساء الكفر : { وقالوا ربنا إنَّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا } وقال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وفسّر النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذهم أربابا : بأنها طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام .(138/18)
فإذا كان من أطاع الأحبار وهم العلماء ، والرهبان وهم العبَّاد في ذلك ، فقد اتخذهم أربابا من دون الله ، فمن أطاع الجهال والفساق في تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله ، بل ذلك أولى وأحرى .
الأمر الثالث : ترك الركون إلى الكفرة الظالمين ، وقد نهى الله عن ذلك ، فقال تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } فنهى سبحانه وتعالى عن الركون إلى الظلمة ، وتوعد على ذلك بمسيس النار وعدم النصر ، والشرك هو أعظم أنواع الظلم ، كما قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } فمن ركن إلى أهل الشرك ، أي : مال إليهم أو رضي بشيء من أعمالهم ، فإنه مستحق لأن يعذبه الله بالنار ، وأن يخذله في الدنيا والآخرة .
وقال تعالى : { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا } فأخبر سبحانه وتعالى : أنه لولا تثبيته لرسوله صلى الله عليه وسلم ، لركن إلى المشركين شيئا قليلا ، وأنه لو ركن إليهم لأذاقه عذاب الدنيا والآخرة مضاعفا ، ولكن الله ثبته فلم يركن إليهم ، بل عاداهم وقطع اليد منهم .
ولكن إذا كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مع عصمته ، فغيره أولى بلحوق هذا الوعيد به .
الأمر الرابع : ترك موادة أعداء الله ، قال الله تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } .
قال شيخ الإسلام : فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا ، فمن واد الكفار فليس بمؤمن اهـ .
قلت : فإذا كان الله تعالى قد نفى الإيمان عمن واد أباه وأخاه وعشيرته إذا كانوا محادّين الله ورسوله ، فمن واد الكفار الأبعدين عنه ، فهو أولى بأن لا يكون مؤمنا .(138/19)
الأمر الخامس : ترك التشبه بالكفار في الأفعال الظاهرة لأنها تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن ، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر .
وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة ، حتى أن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة ، كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم ، وإن كانا في مصرهما ، لم يكونا متعارفين ، أو كانا متهاجرين ، وذلك لأن الإشتراك نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة ، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غربة ، فكانت بينهم مشابهة في العمامة أو الثياب ، أو الشعر أو المركب ، ونحو ذلك ، لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما ، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية : يألف بعضهم ببعض مالا يألفون غيرهم ، حتى أن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة : إما على الملك ، وإما على الدين ، وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء ، وإن تباعدت ديارهم وممالكهم ، بينهم مناسبة تورث مشابهة وحماية من بعضهم لبعض ، وهذا كله موجب الطباع ومقتضاها ، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص .
فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة لهم ، فكيف بالمشابهة في أمور دينية ؟! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد ، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية .
قلت : فإذا كانت مشابهة الكفار في الأفعال الظاهرة ، إنما نُهي عنها لأنها وسيلة وسبب يفضي إلى موالاتهم ومحبتهم ، فالنهي عن هذه الغاية والمحذور أشد ، والمنع منه وتحريمه أوكد ، وهذا هو المطلوب .
…
ذكر بعض الدليل على النهي عن مشابهة الكفار والمشركين
…
روى أبو داود في سننه عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) .
قال شيخ الإسلام : وإسناده جيد ، وأقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم ، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم ، كما في قوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } .(138/20)
وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : من بنى بأرض المشركين ، وصنع نيروزهم ومهرجانهم ، وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة . وقد ثبت عن عائشة ، أنها كرهت الاختصار في الصلاة ، وقالت : لا تشبهوا باليهود .
وروى البيهقي بإسناد صحيح ، عن عمرو بن دينار ، قال : قال : عمر بن الخطاب : لا تعلموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم ، فإن السخطة تنزل عليهم .
وروى بإسناد صحيح ، عن أبي أسامة حدثنا عوف ، عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو ، قال : من بنى ببلاد الأعاجم ، فصنع نيروزهم ومهرجانهم ، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك ، حُشر معهم يوم القيامة .
فهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم ، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم ، فكيف بفعل بعض أفعالهم ؟ أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم ؟! أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة ؟ أوليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم ؟! .
وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم ، فمن يشركهم في العمل أو بعضه ، أليس قد تعرض إلى العقوبة .
وأما عبد الله بن عمرو فصرح : إنه من بنى ببلادهم ، وصنع نيروزهم ومهرجانهم ، وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم ، وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور ، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار ، وإن كان الأول ظاهر لفظه . فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية ، لأنه لو لم يكن مؤثرا في استحقاق العقوبة ، لم يجز جعله جزءا من المقتضى ، إذ المباح لا يعاقب عليه ، وليس الذم على بعض ذلك مشروطاً ببعض ، لأن أبعاض ما ذكره تقتضي الذم منفردا .
وعن عمرو بن ميمون الأودي ، قال : قال عمر رضي الله عنه : كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفاض قبل طلوع الشمس .(138/21)
وقد روي في هذا الحديث فيما أظنه أنه قال : ( خالف هدينا هدي المشركين ) وكذلك كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس ، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإفاضة بعد الغروب .
وعن عبد الله بن عمرو قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين ، قال : ( إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها ) رواه مسلم . علل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار .
وفي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد : وإياك وزِي أهل الشرك . وهو في الصحيحين .
وروى الخلال ، عن محمد بن سيرين : أن حذيفة أتى بيتاً ، فرأى فيه شيئا من زِي العجم ، فخرج ، وقال: من تشبه بقوم فهو منهم . وقال علي بن أبي صالح السواق : كنا في وليمة ، فجاء أحمد بن حنبل ، فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة ، فخرج ، فلحقه صاحب الدار ، فنفض يده في وجهه وقال : زي المجوس ، زي المجوس !! .
وعن قيس بن أبي حازم ، قال : دخل أبو بكر ، على امرأة من أحمس يقال لها : زينب فرآها لا تتكلم ، فقال : ما لها لا تتكلم ؟ فقالوا : حجت مصمتة ، فقال لها: تكلمي ، فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية ، فتكلمت ، فقالت : من أنت ؟ قال : امرء من المهاجرين ، قالت : أي المهاجرين ؟ قال : من قريش ، قالت : من أي قريش ؟ قال : إنكِ لسؤول ، أنا أبو بكر ، فقالت : ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية ؟ قال : بقاؤكم عليه ما استقامت لكم أئمتكم ، قالت : وما الأئمة ؟ قال : أما كان لقومك رؤساء وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم ؟ ، قالت : بلى ، قال : فهم أولئك على الناس ، رواه البخاري في صحيحه .
فأخبر أبو بكر رضي الله عنه : أن الصمت المطلق لا يحل ، وعقب ذلك بقوله : هذا من عمل الجاهلية ، قاصدا بذلك عيب هذا العمل وذمه ، وتعقيب الحكم بالوصف دليل على أن الوصف علّة فدل على أن كونه من عمل الجاهلية وصف يوجب النهي عنه والمنع منه .(138/22)
وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس : إياكم وزي أهل الشرك .
وهذا نهي عنه للمسلمين ، عن كل ما كان من زي المشركين ، وفي كتابه إلى عتبة بن فرقد : إياكم والتنعم ، وزي أهل الشرك ولبوس الحرير .
وروى أحمد بن حنبل في المسند : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بالجابية ، فذكر فتح بيت المقدس ، قال حماد بن سلمة : فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم ، قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول لكعب ، أين ترى أن أصلي ، قال : إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، فكانت القدس كلها بين يديك ، فقال عمر رض الله عنه ، ضاهيت اليهود !! لا ، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه ، وكنس الناس .
فعاب رضي الله عنه على كعب مضاهاة اليهودية ، أي : مشابهتها في مجرد استقبال الصخرة ، لما فيه من مشابهة من يعتقدها قبلة باقية وإن كان المسلم لا يقصد أن يصلي إليها .
وقد كان لعمر رضي الله عنه في هذا الباب من السياسات المحكمة ، ما هي مناسبة لسائر سيرته المرضية ، فإنه رضي الله عنه هو الذي استحالت ذَنوبُ الإسلام في يده غربا ، فلم يفرِ عبقريٌ فريه ، حتى صدر الناس بعطن ، فأعز الإسلام وأذل الكفر وأهله وأقام شعار الدين الحنيف ، ومنع من كل أمر فيه تذرع إلى نقض عُرى الإسلام ، مطيعا في ذلك لله ولرسوله ، وقافا عند كتاب الله ، ممتثلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، محتذيا حذو صاحبه ، مشاورا في أموره للسابقين الأولين ، حتى أن العمدة في الشرط على أهل الكتاب على شروطه ، وحتى منع من استعمال كافر أو ائتمانه على الأمة وإعزازه بعد إذ أذله الله وحتى روي أنه حرق الكتب العجمية ، وهو الذي منع أهل البدع أن ينبغوا وألزمهم ثوب الصغار .(138/23)
وروى الخلال عن عكرمة ، عن ابن عباس : انه سأل رجل أأحتقن ؟ ، قال : لا تبد العورة ، ولا تستن بسنة المشركين . فقوله : لا تستن بسنة المشركين عام ، وروى أبو داود عن أنس : أنه دخل عليه غلام وله قرنان أو قصتان ، فقال : احلقوا هذين أو قصوهما ، فإن هذا زي اليهود .
علل النهي عنهما بأن ذلك زي اليهود ، وتعليل النهي بعلة يوجب أن تكون العلة مكروهة ، مطلوبا عدمها ، نقل ذلك شيخ الإسلام .
وقال أيضا ، عند قوله صلى الله عليه وسلم : ( هل بها عيد من أعياد الجاهلية ) : وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان ، وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد ، كما أن كفر الطائفتين سواء في التحريم ، وإن كان بعضه أشد تحريما من بعض ، وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار الذين يئس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب ، فالخشيه من تدنسه بأوضار الكتابيين الباقين أشد ، والنهي عنه أوكد .
إلى أن قال : وقد بالغ صلى الله عليه وسلم في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات ، وصفات الطاعات ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم ، في غير ذلك من أمورهم ، ولتكون المخالفة في ذلك حاجزاً ومانعا عن سائر أمورهم ، فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أهل الجحيم كان أبعد عن أعمال الجحيم .
فليس بعد حرصه على أمته ونصحه لهم غاية صلى الله عليه وسلم ، وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
قلت : فإذا كانت مبالغته صلى الله عليه وسلم في أمر أمته بمخالفة الكفار ، إنما هي خوفا من أن تكون مشابهتهم في الهدي الظاهر ، مؤدية وجارّة إلى الموافقة والموالاة ، فما بال كثير ممن يدّعي الإسلام قد وقع في المحذور بعينه ، وهم مع ذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟!! .(138/24)
وروى أبو داود في سننه وغيره من حديث هشيم ، أخبرنا أبو بشر ، عن أبي عمير بن أنس ، عن عمومة له من الأنصار ، قال : اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة ، وكيف يجمع الناس لها ، فذكروا له شبور اليهود ، فلم يعجبه ذلك ، وقال : ( هو من أمر اليهود ) ، وقال : ( فذكروا له الناقوس ، فقال : ( هو من أمر النصارى ) الحديث .
قال في القاموس : شبور كتنور . البوق الذي ينفخ فيه ويزمر اهـ .
والغرض : أنه صلى الله عليه وسلم لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد ، علل هذا بأنه من أمر اليهود ، وعلل هذا بأنه من أمر النصارى ، لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له ، وهذا يقتضي نهيه عما هو من أمر اليهود والنصارى ، ويقتضي كراهة هذا النوع من الأصوات مطلقا في غير الصلاة أيضا ، لأنه من أمر اليهود والنصارى .
فإن النصارى كانوا ، يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة غير أوقات عباداتهم ، وإنما شعار الدين الحنيف الآذان المتضمن للإعلان بذكر الله سبحانه ، الذي به تفتح أبواب السماء وتهرب الشياطين ، وتنزل الرحمة ، وقد أبتُلي كثير من هذه الأمة من الملوك وغيرهم بهذا الشعار اليهودي والنصراني ، وهذه المشابهة لليهود والنصارى وللأعاجم من الروم والفرس ، لما غلبت على ملوك المشرق هي وأمثالها ، مما خالفوا به هدي المسلمين ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله ، سلط الله عليهم الترك الكافرون الموعود بقتالهم ، حتى فعلوا في العباد والبلاد ما لم يجرِ في دولة الإسلام مثله ، وذلك تصديق قوله صلى الله عليه وسلم : ( لتركبن سنن من كان قبلكم ) . انتهى من الإقتضاء .(138/25)
وكما وقع من العقوبة على مخالفة هدي المسلمين بتسليط الترك الكفار على ما ذكره شيخ الإسلام ، وقع نظيره في هذه الأزمان ، فإن المنتسبين إلى الإسلام لما سلكوا كثيرا من هدي اليهود والنصارى وأهل الجاهلية المشركين والأعاجم أعداء الدين وتشبهوا بهم في كثير من الأمور سلط عليه الترك الكافرون الخارجون عن شرائع الإسلام .
فجرى على الإسلام محن عظيمة ، وأمور كبيرة حتى أنهم يذلون الرئيس ، ويمتهنون الشيخ الكبير ، ولا يرحمون العاجز ، ولا الضعيف فأفسدوا الأديان ، وخربوا البلدان ، وأهانوا الأبدان ، وذلك بحكمة الديان عقوبة على الظلم والعصيان ، والله المستعان وعليه التكلان .
ولكن من رحمة الله تعالى أن الحق لا يزول ، ويأبى الله إلا إظهار دين الرسول : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } فإذا محص الله أهل الإيمان وانتهى ما عاقبهم به على العصيان ، وشمخت أنوف أهل الفساد والكفران ، وظنوا أن الدولة لهم في غابر الأزمان ، أظهر الله عليهم شمس الإسلام والإيمان ، فمزقهم بها في أقرب أوان ، وشردهم إلى أقصى البلدان ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
والله ناصر دينه وكتابه ورسوله في سائر الأزمان
لكن بمحنة حزبه من حزبه ذا حكمه مذ كانت الفئتان
وقال أيضاً :
والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذه سنة الرحمن
وبذاك يظهر حزبه من حزبه ولأجل ذاك الناس طائفتان
وقال شيخ الإسلام في الكلام على شروط أهل الذمة : وذلك يقتضي إجماع المسلمين على التمييز عن الكفار ظاهرا ، وترك التشبه بهم ، ولقد كان أمراء العدل مثل العمرين وغيرهم يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود .
وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني ، أن عمر رضي الله عنه كتب : أن لا تكاتبوا أهل الذمة فتجري بينكم وبينهم المودة ، ولا تكنوهم ، وأذلوهم ، ولا تظلموهم .(138/26)
ثم قال : ومن جملة الشروط : ما يعود بإخفاء منكرات دينهم ، وترك إظهارها ، ومنها ما يعود بإخفاء شعار دينهم ، فاتفق عمر رضي الله عنه والمسلمون معه وسائر العلماء بعدهم ومن وفقه الله عز وجل ، من ولاة الأمر : على منعهم من أن يظهروا في الإسلام شيئا مما يختصون به ، مبالغة في أن لا يظهر في دار الإسلام خصائص المشركين .
فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها هم !! .
ومنها ما يعود بترك إكرامهم ، وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى ، ومن المعلوم أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها نوع من إكرامهم ، فإنهم يفرحون بذلك ، ويسرون به ، كما يغتمون بإهمال أمر دينهم الباطل .
قال شيخ الإسلام أيضاً : وقال تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، كما قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } وقد قال لنبيه : { لست منهم في شيء } وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء .
ومن تابع غيره في بعض أموره ، فهو منه في ذلك الأمر ، لأن قول القائل : أنا من هذا ، وهذا مني . أي : أنا من نوعه ، وهو من نوعي ، لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع ، كما في قوله : { بعضهم من بعض } وقوله عليه السلام لعلي : ( أنت مني وأنا منك ) .
وقول القائل : لست من هذا في شيء . أي : أنا متبرئ من جميع أموره . وإذا كان الله قد برأ رسوله من جميع أمورهم ، فمن كان متابعا للرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة كان متبرئاً كتبرئه ، ومن كان موافقا لهم كان مخالفا للرسول صلى الله عليه وسلم بقدر موافقته لهم ، فإن الشخصين المختلفين من كل وجه ، كلما شابهت أحدهما خالفت الآخر .(138/27)
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } وقال تعالى : { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم } يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود ، إلى قوله : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله } إلى آخر السورة ، وقال تعالى : { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } إلى آخر السورة .
فعقد سبحانه وتعالى : الموالاة بين المهاجرين والأنصار ، وبين من آمن من بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة .
والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، والجهاد باق إلى يوم القيامة ، وقال تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } الآيتين ، ونظائر هذا في غير موضع من القرآن ، يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا الذين هم حزبه وجنده ، ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ، ولا يوادنهم ، والموالاة والموادة : وإن كانت متعلقة بالقلب ، لكن المخالفة في الظاهر ، أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم .
مشاركتهم في الظاهر ، وإن لم تكن ذريعة ، أو سببا قريباً أو بعيدا إلى نوع ما من الموالاة والموادة : فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة ، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة ، كما توجبه الطبيعة ، وتدل عليه العادة ، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات ، على ترك الاستعانة بهم في الولايات .
فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قلت لعمر رضي الله عنه : إن لي كاتبا نصرانيا . قال : ما لك ؟ قاتلك الله ، أما سمعت الله يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } ألا اتخذت حنيفا ، قال : قلت : يا أمير المؤمنين : إن لي كتابته ، وله دينه ، قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذ أذلهم الله ، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله .(138/28)
وكما دل عليه معنى الكتاب ، جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم .
ففي الصحيحين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم ) أمر بمخالفتهم ، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع ، لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود ، وإن كان الأمر بمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة .
فالمخالفة : إما علة مفردة ، أو علة أخرى ، أو بعض علة ، وعلى التقديرات تكون مأمورا بها ، مطلوبة من الشارع .
وقال تعالى : { والذين لا يشهدون الزور } قال الضحاك : الزور ، عيد المشركين . رواه أبو الشيخ بإسناده ، وبإسناده عنه الزور : كلام الشرك . وبإسناده عن ابن مرة : لا يمالؤون أهل الشرك على شركهم ، ولا يخالطونهم .
وبإسناده عن عطاء بن يسار قال : قال عمر : إياكم ورطانة الأعاجم ، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم .
وقول هؤلاء التابعين : إنه أعياد الكفار . ليس مخالفا لقول بعضهم : إنه الشرك ، أو صنم كان في الجاهلية . ولقول بعضهم : إنه مجالس الخنا . وقول بعضهم : إنه الغناء . لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا ، يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى ، لحاجة المستمع إليه ، أو لينبه به على الجنس .
ووجه تفسير التابعين : أن الزور : هو المحسّن المموّه ، حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة . ولهذا فسره السلف : تارة بما يظهر حسنه لشبهة ، أو لشهوة . فإن الشرك ونحوه : يظهر حسنه للشبهة ، والغناء ونحوه : يظهر حسنه للشهوة .(138/29)
وأما أعياد المشركين : فجمعت الشبهة والشهوة ، وهي باطلة ، إذ لا منفعة فيها في الدين ، وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها الألم ، فصارت زورا ، وشهودها : حضورها . وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع ، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده ؟ !! .
واعلم أنا لو لم نعلم من موافقتهم إلا ما قد أفضت إلى هذه القبائح ، لكان عملنا بما وافقت الطباع عليه ، واستدلالنا بأصول الشريعة : يوجب النهي عن هذه الذريعة ، فكيف وقد رأينا من المنكرات التي أفضت إليها المشابهة ، مما قد يوجب الخروج عن الإسلام بالكلية !! .
وسر هذا : أن المشابهة تفضي إلى كفر أو معصية غالبا ، أو تفضي إليهما في الجملة ، وما أفضى إلى ذلك كان محرما .
فهذا بعض ما جاء من الأدلة في النهي عن مشابهة المشركين والكفار ، ولكن رحم الله من تنبه للسر الذي سيق الكلام لأجله وهو : أن المشابهة في الهدي الظاهر ، إنما نهي عنها ، لأنها تورث نوع مودة وموالاة في الباطن ، وتفضي أيضا إلى كفر أو معصية ، وهذا هو السبب في تحريمها والنهي عنها . فإذا علمت ذلك ، وتبين ما وقع فيه كثير من الناس أو أكثرهم من موالاة الكفار والمشركين ، التي إنما نهي عن هذه الأمور خوفا من الوقوع فيها تبين لك أنهم وقعوا في نفس المحذور ، وتوسطوا مفازة المهلكة . والله الهادي إلى سواء الصراط .
فصل
في ذكر جوابات عن إيرادات أوردها بعض المسلمين على أولاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، رحمهم الله تعالى وعفا عنهم ، فمن ذلك : ما قولكم في رجل دخل هذا الدين وأحبه ، ولكن لا يعادي المشركين ، أو عاداهم ولم يكفرهم ، أو قال : أنا مسلم ولكن ما اقدر أكفر أهل لا إله إلا الله ، ولو لم يعرفوا معناها ؟!
ورجل دخل هذا الدين وأحبه ، ولكن يقول : لا أتعرض القباب وأعلم أنها لا تضر ولا تنفع ولكن لا أتعرضها .(138/30)
الجواب : أن الرجل لا يكون مسلما إلا إذا عرف التوحيد ، ودان به ، وعمل بموجبه ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به ، وأطاعه فيما نهى عنه وأمر به ، وآمن به وبما جاء به .
فمن قال لا أعادي المشركين أو عاداهم ولم يكفرهم ، أو قال : لا أتعرض أهل لا إله إلا الله ، ولو فعلوا الكفر والشرك ، وعادوا دين الله ، أو قال : لا أتعرض القباب ، فهذا لا يكون مسلما ، بل هو ممن قال الله فيهم : { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا . أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } .
والله سبحانه وتعالى : أوجب معاداة المشركين ومنابذتهم ، وتكفيرهم ، فقال : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } وقال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول } الآيات والله أعلم . نقل من : جواب الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأخيه عبد الله .
وفي أجوبة أخرى : ما قولكم في الموالاة والمعاداة ، هل هي من معنى لا إله إلا الله ، أو من لوازمها ؟ .
الجواب : أن يقال : الله أعلم ، حسب المسلم أن يعلم أن الله افترض عليه عداوة المشركين ، وعدم موالاتهم ، وأوجب عليه محبة المؤمنين وموالاتهم ، وأخبر أن ذلك من شروط الإيمان . ونفى الإيمان عمن يواد من حآد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، وأما كون ذلك من معنى لا إله إلا الله ، أو من لوازمها : فلم يكلفنا الله بالبحث عن ذلك ، وإنما كلفنا بمعرفة أن الله فرض ذلك وأوجبه ، وأوجب العمل به . فهذا الفرض والحتم الذي لا شك فيه .(138/31)
ومن عرف أن ذلك من معناها أو من لازمها ، فهو حسن وزيادة خير ، ومن لم يعرف : فلم يكلف بمعرفته ، لاسيما إذا كان الجدال في ذلك والمنازعة فيه مما يفضي إلى شر واختلاف ، ووقوع فرقة بين المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان ، وجاهدوا في الله ، وعادوا المشركين ، ووالوا المسلمين ، فالسكون عن ذلك متعين ، وهذا ما ظهر لي على أن الاختلاف قريب من جهة المعنى . والله اعلم .
فهذا بعض الأدلة الدالة على وجوب مقاطعة الكفار والمشركين ، وهي : المسألة الأولى .
وأما المسألة الثانية وهي : الأشياء التي يصير بها المسلم مرتدا . فأحدها : الشرك بالله تعالى : وهو أن يجعل لله ندا من مخلوقاته ، يدعوه كما يدعو الله ، ويخافه كما يخاف الله ، أو يتوكل عليه كما يتوكل على الله ، أو يصرف له شيئا من عبادة الله .
فإذا فعل ذلك : كفر ، وخرج من الإسلام ، وإن صام النهار وقام الليل ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداد ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار}وقوله تعالى : { ومن يدعوا مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } وغير ذلك من الآيات الدالة : على أن من أشرك مع الله تعالى في عبادته مخلوقا من المخلوقين ، فقد كفر وخرج من الإسلام وحبطت أعماله ، كما قال تعالى : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } .
الثاني : إظهار الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم والدليل ، قوله تعالى :{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم . ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم . فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم . ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } .(138/32)
وذكر الفقيه سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسألة ، عشرين آية من كتاب الله ، وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استدل بها على أن المسلم إذا أظهر الطاعة والموافقة للمشركين من غير إكراه ، إنه يكون بذلك مرتدا خارجا من الإسلام ، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله ، ويفعل الأركان الخمسة ، فإن ذلك لا ينفعه .
وقال شيخ الإسلام المذكور ، إمام هذه الدعوة الحنيفية في كلامه على آخر سورة الزمر : الثانية ، أن المسلم إذا أطاع من أشار عليه في الظاهر ، كفر ، ولو وكان باطنه يعتقد الإيمان ، فإنهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم تغيير عقيدته .
ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب إلى الإسلام في إظهار الموافقة للمشركين خوفا منهم ، ويظن أنه لا يكفر إذا كان قلبه كارها ، إلى أن قال : الثالثة ، أن الذي يكفر به المسلم ، ليس هو عقيدة القلب خاصة ، فإن هؤلاء الذين ذكرهم الله ، لم يريدوا منه صلى الله عليه وسلم تغيير عقيدته ، كما تقدم ، بل إذا أطاع المسلم من أشار إليه بموافقتهم ، لأجل ماله ، أو بلده ، أو أهله ، مع كونه يعرف كفرهم ويبغضهم ، فهذا كافر ، إلا من أكره .
إلى أن قال رحمه الله : ولكن رحم الله من تنبه لسر الكلام ، وهو المعنى الذي نزلت فيه هذه الآيات من كون المسلم يوافقهم في شيء من دينهم الظاهر ، مع كون القلب بخلاف ذلك ، فإن هذا هو الذي أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم فافهمه فهما حسنا ، لعلك تعرف شيئا من دين إبراهيم عليه السلام ، الذي بادأ أباه وقومه بالعداوة عنده .
وقال في سورة الكهف : التاسعة : المسألة العظيمة المشكلة على أكثر الناس أنه إذا وافقهم بلسانه مع كونه مؤمنا حقا ، كارها لموافقتهم ، فقد كذب في قوله لا إله إلا الله ، واتخذ إلهين اثنين . وما أكثر الجهل بهذه ، والتي قبلها .(138/33)
العاشرة : أنه لو يصدر منهم أعني موافقة الحاكم فيما أراد من ظاهرهم ، مع كراهتهم لذلك ، فهو قوله : { شططا } والشطط : الكفر .
واعلم أن إظهار الموافقة والطاعة للمشركين ، له أحوال ستأتي في المسألة الثالثة ، إن شاء الله تعالى .
الأمر الثالث : مما يصير المسلم به مرتدا ، موالاة المشركين ، والدليل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقوله تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } .
فذكر في الآية الأولى : أن من تولى اليهود والنصارى فهو منهم ، وظاهرها أن من تولاهم . فهو كافر مثلهم . ذكر معناه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وتقدم قول عبد الله بن عتبة عند قوله : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ليتق أحكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر .
وقال ابن جرير في قوله تعالى : { فليس من الله في شيء } يعني : فقد برئ من الله ، وبرئ الله منه ، لارتداده عن دينه .
وأما قوله : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } فهي كقوله : { إلا من أكره } وسيأتي بيان ذلك ، إن شاء الله تعالى .
الأمر الرابع : الجلوس عند المشركين في مجالس شركهم ، من غير إنكار ، والدليل قوله تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا } .(138/34)
وفي أجوبة آل الشيخ رحمهم الله تعالى لما سئلوا عن هذه الآية وعن قوله صلى الله عليه وسلم : ( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ) قالوا : الجواب أن الآية على ظاهرها ، وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، فجلس عند الكافرين المستهزئين بآيات الله ، من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، فهو كافر مثلهم ، وإن لم يفعل فعلهم ، لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر ، والرضى بالكفر كفر .
وبهذه الآية ونحوها ، استدل العلماء على أن الراضي بالذنب كفاعله ، فإن أدعى أنه يكره ذلك بقلبه لم يقبل منه ، لأن الحكم بالظاهر ، وهو قد أظهر الكفر ، فيكون كافرا .
ولهذا لما وقعت الردة ، وأدعى أناس أنهم كرهوا ذلك ، لم يقبل منهم الصحابة ذلك بل جعلوهم كلهم مرتدين ، إلا من أنكر بلسانه .
وكذلك قوله في الحديث : ( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ) على ظاهره : وهو أن الذي يدعي الإسلام ، ويكون مع المشركين في الاجتماع والنصرة ، والمنزل معهم بحيث يعده المشركون منهم ، فهو كافر مثلهم وإن أدعى الإسلام ، إلا إن كان يظهر دينه ، ولا يتولى المشركين . اهـ .
قلت : ويأتي مخاطبة خالد لمجاعة ، وفيه : يا مجاعة ! تركت اليوم ما كنت عليه أمس ، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب ، وسكوتك عنه إقرارا له . إلى آخره .
وتقدم قول عبد الله ابن عمر : من بنى ببلاد المشركين ، فصنع نيروزهم ومهرجانهم ، وتشبه بهم حتى يموت ، حشر معهم يوم القيامة .
وقال تعالى : { ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم . ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } .
الأمر الخامس : الاستهزاء بالله ، أو بكتابه ، أو برسوله والدليل على ذلك ، قوله تعالى : { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } .(138/35)
واعلم أن الاستهزاء على نوعين :
أحدهما : الاستهزاء الصريح ، كالذي نزلت الآية فيه ، وهو قولهم : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء . ونحو ذلك من أقوال المستهزئين ، كقول بعضهم : دينكم هذا دين حامض . وقول الآخر دينكم حرق . وقول الآخر إذا رأى الآمرين بالمعروف أو الناهين عن المنكر جاءكم أهل الديك . بالكاف بدل النون ، وقول الآخر إذا رأى طلبة العلم : هؤلاء الطلبة بسكون اللام وما أشبه ذلك ، مما لا يحصى إلا بكلفة مما هو أعظم من قول الذين نزلت فيهم الآية .
النوع الثاني : غير الصريح ، وهو البحر الذي لا ساحل له ، مثل الرمز بالعين ، وإخراج اللسان ومد الشفة ، والغمز باليد عند تلاوة كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الأمر السادس : ظهور الكراهة والغضب عند الدعوة إلى الله ، وتلاوة آياته ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدليل على ذلك قول الله تعالى : { وإذ تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير } فذكر كفر هذا الصنف في أول الآية وآخرها .
الأمر السابع : كراهة ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة ، والدليل قول الله تعالى : { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم } .
الأمر الثامن : عدم الإقرار بما دلت عليه آيات القرآن ، والأحاديث ، والمجادلة في ذلك ، والدليل على ذلك قوله الله تعالى : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } .(138/36)
الأمر التاسع : جحد شيء من كتاب الله ، ولو آية أو بعضها ، أو شيئا مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والدليل على ذلك قول الله تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا . أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا } وهذا أخص من الذي قبله .
الأمر العاشر : الإعراض عن تعلم دين الله والغفلة عن ذلك والدليل قول الله تعالى : { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } .
الأمر الحادي عشر : كراهة إقامة الدين والاجتماع عليه . والدليل على ذلك قول الله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب } فذكر أنه لا يكره إقامة الدين إلا مشرك ، وقد تبين أن من أشرك بالله فهو كافر .
الأمر الثاني عشر : السحر تعلمه وتعليمه ، والعمل بموجبه والدليل على ذلك قوله تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } .
الأمر الثالث عشر : إنكار البعث ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
الأمر الرابع عشر : التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير : كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات ، وكما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكزخان ، الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام اقتبسها من شرائع شتى ، فصار في بنيه شرعا يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة .(138/37)
ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير ، قال تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يؤمنون } .
قلت : ومثل هؤلاء ما وقع فيه عامة البوادي ومن شابههم ، من تحكيم عادات آباءهم ، وما وضعه أوائلهم من الموضوعات الملعونة التي يسمونها ( شرع الرفاقة ) يقدمونها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن فعل ذلك فهو كافر ، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله ، فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله ، فهو كافر ، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسوالف البادية ، وكأوامر المطاعين ، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة .
وهذا هو الكفر ، فإن كثيرا من الناس أسلموا ، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون .
فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله ، فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله ، فهم كفار انتهى . من ( منهاج السنة النبوية ) ذكره عند قوله سبحانه وتعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فرحمه الله وعفا عنه .
فهذه بعض المواضع التي دل القرآن عليها ، وإن كان قد يقال : إن بعضها يغني عن بعض ، أو يندرج فيه . فذكرها على هذا الوجه أوضح ، وأما كلام العلماء رحمهم الله فكثير جدا ، وقد ذكر صاحب الإقناع أشياء كثيرة في باب حكم المرتد وهو الذي يكفر بعد إسلامه وقد لخصت منه مواضع يسيرة .(138/38)
فمن ذلك ، قوله : قال الشيخ : أو كان مبغضا لرسوله أو لما جاء به ، كفر اتفاقا . ومنها قوله : أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعا . ومنها قوله : أو وجد منه امتهان للقرآن ، أي : فيكفر بذلك . ومنها قوله : أو سخر بوعد الله ، أو بوعيده ، أي : فيكفر بذلك . ومنها قوله : أو لم يكفر من دان بغير الإسلام ، أو شك في كفرهم ، أي : فيكفر بذلك . ومنها قوله : قال الشيخ : ومن استحل الحشيشة كفر بلا نزاع .
قلت : ومن استحل موالاة المشركين ومظاهرتهم وإعانتهم على المسلمين ، فكفره أعظم من كفر هذا ، لأن تحريم ذلك آكد وأشد من تحريم الحشيشة .
ومنها قوله : من سب الصحابة أو أحدا منهم ، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي وأن جبرائيل غلط ، فلا شك في كفر هذا ، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره . ومنها قوله : أو زعم أن للقرآن تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ، ونحو ذلك ، فلا خلاف في كفر هؤلاء ، ومنها قوله : أو زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون إلا بضعة عشر ، أو أنهم فسقوا ، فلا ريب أيضا في كفر قائل ذلك ، بل من شك في كفره فهو كافر . انتهى ملخصا ، وعزاه للصارم المسلول .
ومنها قوله : ومن أنكر أن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر ، لقوله تعالى : { إذ يقول لصاحبه } .
قلت : فإذا كان من جحد مدلول آية ( كفر ) ولم تنفعه الشهادتان ، ولا الانتساب إلى الإسلام ، فما الظن بمن جحد مدلول ثلاثين آية أو أربعين آية ! أفلا يكون كافرا لا تنفعه الشهادتان ولا ادعاء الإسلام ! بلى والله ، بلى والله .
ولكن نعوذ بالله من رين القلوب ، وهوى النفوس اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه .
ومنها قوله : أو جحد حل الخبز واللحم والماء ، أي : فيكفر بذلك ، ومنها قوله : أو أحل الزنا ونحوه ، أي : فيكفر بذلك .(138/39)
قلت : ومن أحل الركون إلى الكافرين ، وموادة المشركين فهو أعظم كفرا ممن أحل الزنا بأضعاف مضاعفة .
وكلام العلماء رحمهم الله في هذا الباب لا يمكن حصره ، حتى أن بعضهم ذكر أشياء أسهل من هذه الأمور ، وحكموا على مرتكبها بالارتداد عن الإسلام وأن يستتاب منها ، فإن تاب وإلا قتل مرتدا ، ولم يغسل ولم يصل عليه ولم يدفن مع المسلمين ، وهو مع ذلك يقول : لا إله إلا الله ، ويفعل الأركان الخمسة .
ومن له أدنى نظر واطلاع على كلام أهل العلم ، فلا بد أن يكون قد بلغه بعض ذلك .
وأما هذه الأمور التي تقع في هذه الأزمان من المنتسبين إلى الإسلام ، بل من كثير ممن ينتسب إلى العلم فهي من قواصم الظهور ، وأكثرها أعظم وأفحش من كثير مما ذكره العلماء من المكفرات ، ولولا ظهور الجهل وخفاء العلم وغلبة الأهواء لما كان أكثرها محتاجا لمن ينبه عليه .
فصل
وأما المسألة الثالثة : وهي ما يعذر الرجل به على موافقة المشركين ، وإظهار الطاعة لهم ، فاعلم أن إظهار الموافقة للمشركين ، له ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يوافقهم في الظاهر والباطن فينقاد لهم بظاهره ، ويميل إليهم ويوادهم بباطنه ، فهذا كافر خارج من الإسلام ، سواء كان مكرها على ذلك أو لم يكن وهو ممن قال الله فيه : { ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } .
الحال الثاني : أن يوافقهم ويميل إليهم في الباطن ، مع مخالفته لهم في الظاهر ، فهذا كافر أيضا ، ولكن إذا عمل بالإسلام ظاهرا عصم ماله ودمه ، وهو المنافق .
الحال الثالث : أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن ، وهو على وجهين :(138/40)
أحدهما : أن يفعل ذلك لكونه في سلطانهم ، مع ضربهم أو تقييدهم له ، أو يتهددونه بالقتل ، فيقولون له : إما أن توافقنا وتظهر الإنقياد لنا ، وإلا قتلناك . فإنه والحالة هذه يجوز له موافقتهم في الظاهر مع كون قلبه مطمئن بالإيمان ، كما جرى لعمار حين أنزل الله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وكما قال تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } فإن الآيتين متفقتين ، كما نبه على ذلك ابن كثير في تفسير آية آل عمران .
الوجه الثاني : أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن ، وهو ليس في سلطانهم ، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال ، أو مشحة بوطن ، أو عيال ، أو خوف مما يحدث في المآل . فإنه في هذه الحال يكون مرتدا ، ولا تنفعه كراهته في الباطن ، وهو ممن قال الله فيه : { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } فأخبر أنه لم يحملهم على الكفر الجهل بالحق أو بغضه ، ولا محبة الباطل ، وإنما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا ، فآثروه على الدين . هذا معنى كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وعفا عنه .
وأما ما يعتقده كثيرا من الناس عذرا ، فإنه من تزيين الشيطان وتسويله ، وذلك أن بعضهم إذا خوفه أولياء الشيطان خوفا لا حقيقة له ، ظن أنه يجوز له بذلك إظهار الموافقة للمشركين ، والانقياد لهم .
وآخر منهم إذا زين له الشيطان طمعا دنيويا ، تخيل أنه يجوز له موافقة المشركين لأجل ذلك ، وشبه على الجهال أنه مكره . وقد ذكر العلماء صفة الإكراهـ .(138/41)
قال شيخ الإسلام : تأملت المذاهب ، فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه . فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر ، كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها ، فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب أو قيد ، ولا يكون الكلام إكراها . وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها بمسكنه ، فلها أن ترجع ، بناءا على أنها لا تهب إلا إذا خافت أن يطلقها ، أو يسيء عشرتها . فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة ، إكراها . ولفظه في موضع آخر : لأنه أكرهها ، ومثل هذا لا يكون إكراها على الكفر ، فإن الأسير إن خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته ، لم يبح له التكلم بكلمة الكفر اهـ .
والمقصود منه : أن الإكراه على كلمة الكفر لا يكون إلا بالتعذيب : من ضرب أو قيد ، وإن الكلام لا يكون إكراها ، وكذلك الخوف من أن يحول الكفار بينه وبين زوجته ، لايكون إكراها. فإذا علمت ذلك وعرفت ما وقع من كثير من الناس ، تبين لك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ) وقد عاد غريبا ، وأغرب منه من يعرفه على الحقيقة ، وبالله التوفيق .
فصل
وأما المسألة الرابعة : وهي مسألة إظهار الدين ، فإن كثيرا من الناس ، قد ظن أنه إذا قدر على أن يتلفظ بالشهادتين ، وأن يصلي الصلوات ، ولا يرد عن المساجد ، فقد أظهر دينه وإن كان مع ذلك بين المشركين ، أو في أماكن المرتدين . وقد غلطوا في ذلك أقبح الغلط .(138/42)
فاعلم أن الكفر له أنواع وأقسام تتعدد بتعدد المكفرات ، وقد تقدم بعض ذلك ، وكل طائفة من طوائف الكفر فلا بد أن يشتهر عندها نوع منه ، ولا يكون المسلم مظهرا لدينه ، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عندها ، ويصرح لها بعداوته ، والبراءة منه ، فمن كان كفره بالشرك ، فإظهار الدين عنده التصريح بالتوحيد ، أو النهي عن الشرك والتحذير منه ، ومن كان كفره بجحد الرسالة ، فإظهار الدين عنده التصريح بأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والدعوة إلى اتباعه . ومن كان كفره بترك الصلاة ، فإظهار الدين عنده فعل الصلاة ، والأمر بها ، ومن كان كفره بموالاة المشركين والدخول في طاعتهم ، فإظهار الدين عنده التصريح بعداوته ، والبراءة منه ومن المشركين .
وبالجملة فلا يكون مظهرا لدينه ، إلا من صرح لمن ساكنه من كل كافر ببراءته منه ، وأظهر له عداوته لهذا الشيء الذي صار به كافرا وبراءته منه ، ولهذا قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : عاب ديننا وسفّه أحلامنا ، وشتم آلهتنا .
وقال الله تعالى : { قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين . وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين . ولا تدعوا من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } .
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : { يا أيها الناس } إلى آخره ، أي : إذا شككتم في الدين الذي أنا عليه ، فدينكم الذي أنتم عليه أنا برئ منه ، وقد أمرني ربي أن أكون من المؤمنين الذين هم أعداؤكم ، ونهاني أن أكون من المشركين الذين هم أولياؤكم .
وقال تعالى : { قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون . ولا أنتم عابدون ما أعبد } إلى آخر السورة .(138/43)
فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار : دينكم الذي انتم عليه ، أنا برئ منه ، وديني الذي أنا عليه أنتم برآء منه . والمراد : التصريح لهم بأنهم على الكفر ، وأنه برئ منهم ومن دينهم .
فمن كان متبعا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فعليه أن يقول ذلك ، ولا يكون مظهرا لدينه إلا بذلك ، ولهذا لما عمل الصحابة بذلك ، وآذاهم المشركون ، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة ، ولو وجد لهم رخصة في السكوت عن المشركين ، لما أمرهم بذلك إلى بلد الغربة .
وفي السيرة : أن خالد بن الوليد ، لما وصل إلى العرض في مسيره إلى أهل اليمامة ، لما ارتدوا قدم مائتي فارس ، وقال : من أصبتم من الناس فخذوه . فأخذوا مجاعة ، في ثلاثة وعشرين رجلا من قومه ، فلما وصل إلى خالد ، قال له : يا خالد ، لقد علمت أني قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبايعته على الإسلام ، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس . فإن يك كذابا قد خرج فينا فإن الله يقول : { ولا تزو وازرة وزر أخرى } فقال : يا مجاعة ، تركت اليوم ما كنت عليه أمس ، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة ، وقد بلغك مسيري إقرارا له ورضاء بما جاء به ، فهلا أبديت عذرا ، وتكلمت فيمن تكلم ! ، فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر ، وتكلم اليشكري ، فإن قلت : أخاف قومي ، فهلا عمدت إليّ ، أو بعثت إلي رسولا ، فقال : إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله !! ، فقال : قد عفوت عن دمك ، ولكن في نفسي حرج من تركك ! اهـ .
وسيأتي في ذكر الهجرة ، قول أولاد الشيخ : إن الرجل إذا كان في بلد كفر وكان يقدر على إظهار دينه عندهم ، ويتبرأ منهم ومما هم عليه ، ويظهروا لهم كفرهم وعداوته لهم ، ولا يفتنونه عن دينه لأجل عشيرته أو ماله ، فهذا لا يحكم بكفره . إلى آخره .(138/44)
والمقصود منه : أن الرجل لا يكون مظهرا لدينه حتى يتبرأ من أهل الكفر الذي هو بين أظهرهم ، ويصرح لهم : بأنهم كفار ، وأنه عدو لهم ، فإن لم يحصل ذلك لم يكن إظهار الدين حاصلا .
فصل
وأما المسألة الخامسة : وهي مسألة الاستضعاف ، فإن كثيرا من الناس ، بل أكثر ممن ينتسب إلى العلم في هذه الأزمان ، غلطوا في معنى الاستضعاف ، وما هو المراد به ، وقد بين الله ذلك في كتابه بيانا شافيا فقال : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها وأجعل لنا من لدنك وليا وأجعل لنا من لدنك نصيرا } .
…
فبين تعالى مقالتهم الدالة على أنهم لم يقيموا مختارين للمقام ، وذلك أنهم يدعون الله أن يخرجهم ، فدل على حرصهم على الخروج وأنه متعذر عليهم .
ويدل على ذلك : وصفهم أهل القرية بالظلم ، وسؤالهم ربهم أن يجعل لهم وليا يتولاهم ويتولونه ، وأن يجعل لهم ناصرا ينصرهم على أعدائهم الذين هم بين أظهرهم .
وقال تعالى : { إلا المستضغفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } فذكر في هذه الآية حالهم التي هم عليها وهي أنهم لا يستطيعون حيلة .
قال ابن كثير : ولا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق ، ولهذا قال : { لا يستطيعون حيلة } قال عكرمة : يعني نهوضا إلى المدينة . { ولا يهتدون سبيلا } قال مجاهد وعكرمة : يعني طريقا اهـ .
والحاصل أن المستضغفين هم العاجزون عن الخروج من بين أظهر المشركين ، وهم مع ذلك يقولون : { ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا } وهم مع ذلك لا يدلون الطريق فمن كانت هذه حاله وذلك مقاله : { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله غفورا رحيما } .(138/45)
وأما إذا كان يقدر على الخروج من بلاد المشركين ، ولم يمنعه من ذلك إلا المشحة بوطنه ، أو عشيرته أو ماله أو غير ذلك ، فإن الله تعالى لم يعذر من تعذر بذلك وسماه ظالما لنفسه ، فقال : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } .
وفي تفسير الجلالين قوله : { ظالمي أنفسهم } أي : بالمقام بين المشركين .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى : فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين ، وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين ، فهو مرتكب حراما بالإجماع وبنص الآية ، حيث يقول : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } أي : بترك الهجرة { قالوا فيم كنتم } أي : لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } أي : لا نقدر على الخروج من البلد ، ولا الذهاب في الأرض { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } .
وروى أبو داود عن سمرة بن جندب مرفوعا : ( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ) .
وقال السدي : لما أسر العباس وعقيل ونوفل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : ( أفد نفسك وأبني أخيك ) قال : يا رسول الله ألم نصلي قبلتك ، ونشهد شهادتك ، قال : ( يا عباس إنكم خاصمتم فخصمتم ) ثم تلا هذه الآية : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } . رواه ابن أبي حاتم اهـ .
والمقصود منه بيان مسألة الإستضعاف وأن المستضعف هو الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا وهو مع ذلك يقول : { ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا } وبيان أن الذي يعتذر بوطنه أو عشيرته أو ماله ويدعي أنه يكون بذلك مستضعفا ، كاذبا في دعواه وعذره غير مقبول عند الله تعالى ولا عند رسوله ولا عند أهل العلم بشريعة الله .
فصل(138/46)
وأما المسألة السادسة : وهي وجب الهجرة وأنها باقية ، فالدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) روه أحمد وأبو داود .
وروى أبو يعلى عن الأزهر بن راشد قال : حدث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تستضيئوا بنار المشركين ) قال ابن كثير: معناه لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكون معهم في بلادهم ، بل تباعدوا منهم ، وهاجروا من بلادهم ولهذا روى أبو داود ( لا تتراءى ناراهما ) وفي الحديث الآخر : ( من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله ) .
وقال تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم بفعل بعض ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } .
وقال الضحاك : نزلت في أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا . ذكره ابن كثير .
ثم قال : فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين ، وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين ، فهو مرتكب حراما ، بالإجماع وبنص الآية . إلى آخر كلامه الذي تقدم قريبا .
وفي أجوبة آل الشيخ لما سئلوا : هل يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلاد الكفار ، لأجل التجارة ، أم لا ؟ .
الجواب : إن كان يقدر على إظهار دينه ، ولا يوالي المشركين ، جاز له ذلك ، فقد سافر بعض الصحابة كأبي بكر رضي الله عنه ، وغيره فلم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ،كما رواه أحمد في مسنده وغيره .(138/47)
وإن كان لا يقدر على إظهار دينه ، ولا على عدم موالاتهم ، لم يجز السفر له إلى ديارهم ، كما نص على ذلك العلماء ، وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك . ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد ، وفرض عليه عداوة المشركين ، فما كان ذريعة وسبب إلى إسقاط ذلك لم يجز .
وأيضا فقد يجره ذلك إلى موافقتهم وإرضائهم كما هو الواقع لكثير ممن يسافر إلى بلدان المشركين من فساق المسلمين .
المسألة الثانية : هل يجوز للإنسان أن يجلس في بلد الكفار ، وشعائر الشرك ظاهرة لأجل التجارة أم لا ؟ .
الجواب عن هذه المسألة والجواب عن التي قبلها سواء ولا فرق في ذلك بين دار الحرب ودار الصلح ، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها لا يجوز له السفر إليها .
المسألة الثالثة : هل يفرق بين المدة القريبة مثل شهر أو شهرين وبين المدة البعيدة ؟ .
الجواب : أنه لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة ، فكل بلد لا يقدر على إظهار دينه فيها ولا على عدم موالاة المشركين لا يجوز له المقام فيها ولا يوما واحدا ، إذا كان يقدر على الخروج منها . اهـ .
وفي أجوبة أخرى : وما قولكم في رجل دخل هذا الدين وأحبه ويحب من دخل فيه ، ويبغض الشرك وأهله ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل الإسلام ويقاتلون أهله ، ويعتذر بأن ترك الوطن ولم يهاجر عنهم بهذه الأعذار ، فهل يكون مسلما هذا أم كافرا ؟ .(138/48)
الجواب : أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به وأحبه وأحب أهله ، وعرف الشرك وأبغضه وأبغض أهله ، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك ، ولم يهاجر فهذا فيه تفصيل : فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم ، ويتبرأ منهم ومما هم عليه من الدين ، ويظهر لهم كفرهم وعداوته لهم ، ولا يفتنونه عن دينه لأجل عشيرته أو ماله أو غير ذلك فهذا لا يحكم بكفره ، ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر ومات بين أظهر المشركين ، فنخاف أن يكون قد دخل في أهل هذه الآية : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } فلم يعذر الله إلا من لم يستطع حيلة ، ولا يهتدي سبيلا ، ولكن قل أن يوجد اليوم من هو كذلك ، بل الغالب أن المشركين لا يدعونه بين أظهرهم بل إما قتلوه وإما أخرجوه .
وأما من ليس له عذر في ترك الهجرة وجلس بين أظهرهم وأظهر لهم أنه منهم وأن دينهم حق ودين الإسلام باطل فهذا كافر مرتد ، ولو عرف الدين بقلبه لأنه يمنعه عن الهجرة محبة الدنيا على الآخرة ، وتكلم بكلام الكفر من غير إكراه فدخل في قوله : { ولكن من شرح بالكفر صدرا } الآيات .
هذا من جواب الشيخ حسين والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد عبد بن الوهاب رحمهم الله تعالى وعفا عنهم .
ولم سئلوا عن أهل بلد بلغتهم هذه الدعوة وبعضهم يقول : هذا الأمر حق ، ولا غيّر منكر ولا أمر بمعروف ، وينكر على الموحدين إذا قالوا : تبرأنا من دين الآباء والأجداد ، والذي يقول : هذا أمر زين لا يمكنه يقوله جهارا .
أجابوا : بأن أهل هذه القرية المذكورين إذا كانوا قد قامت عليهم الحجة التي يكفر من خالفها ، حكمهم حكم الكفار ، والمسلم الذي بين أظهرهم ولا يمكنه إظهار دينه تجب عليه الهجرة ، إذا لم يكن ممن عذر الله فإن لم يهاجر فحكمه حكمهم في القتل وأخذ المال اهـ .
وفي هذه الأجوبة مسائل منها بيان المستضعف وأنه الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا وقد تقدم ذلك .(138/49)
ومنها أن المسلم إذا لم يقدر على إظهار دينه ، وجبت عليه الهجرة ، وقد تقدم أيضا ، ومنها صفة إظهار الدين ، وهو أن يصرح للكفار بكفرهم وعداوته لهم ، ولما هم عليه من الدين ، وتقدم أيضاً ومنها : بيان أنه إذا فعل ذلك أعني صرح لهم بكفرهم وعداوته لهم فإنهم لا يتركونه بين أظهرهم ، بل إما قتلوه وإما أخرجوه .
قلت : وقد أخبر الله بذلك عن جميع الكفار ، فقال تعالى : { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين . ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } وقال تعالى إخبارا عن قوم شعيب : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين } .
وقال تعالى إخبارا عن أصحاب الكهف : { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا } وقوله : { يرجموكم } أي : يقتلوكم بالرجم .
وهذا الذي أخبر الله به وأشار إليه أئمة الإسلام هو الواقع في هذه الأزمان ، فإن المرتدين بسبب موالاة المشركين والدخول في طاعتهم ، لا يرضون إلا بمن وافقهم على ذلك ، وإذا أنكر عليهم منكر آذوه أشد الأذى ، وأخرجوه من بين أظهرهم ، بل سعوا في قتله إن وجدوا إلى ذلك سبيلا .
تم تنزيل هذه المادة من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info(138/50)
شرح الصدور بتحريم رفع القبور
محمد بن علي الشوكاني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله المطهرين وصحبه المكرمين. وبعد،
فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في أن هذا الشيء بدعة أو غير بدعة، أو مكروه أو غير مكروه، أو محرم أو غير محرم، أو غير ذلك، فقد اتفق المسلمون ـ سلفهم وخلفهم ـ من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ـ وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية ـ أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأمة المجتهدين هو الرد إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الناطق بذلك الكتاب العزيز (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنة بعد وفاته. وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين. فإذا قال مجتهد من المجتهدين: هذا حلال، وقال الآخر: هذا حرام، فليس أحدهما أولى بالحق من الآخر وإن كان أكثر منه علما أو أكبر منه سنا أو أقدم منه عصرا، لأن كل واحد منهما فرد من أفراد عباد الله ومتعبد بما في الشريعة المطهرة مما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومطلوب منه ما طلب الله من غيره من العباد. وكثرة علمه وبلوغه درجة الاجتهاد أو مجاوزته لها لا يسقط عنه شيئا من الشرائع التي شرعها الله لعباده. بل العالم كلما ازداد علما كان تكليفه زائدا على تكليف غيره. ولو لم يكن من ذلك إلا ما أوجبه الله عليه من البيان للناس وما كلفه به من الصدع بالحق وإيضاح ما شرعه الله لعباده (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون).(139/1)
فلو لم يكن لمن رزقه الله طرفا من العلم إلا كونه مكلفا بالبيان للناس لكان كافيا فيما ذكرناه من كون العلماء لا يخرجون عن دائرة التكليف. بل يزيدون بما علموه تكليفا. وإذا أذنبوا كان ذنبهم أشد من ذنب الجاهل وأكثر عقابا. كما حكاه الله عمن يعمل سوءا بجهالة ومن عمله بعلم. زكما حكاه في كثير من الآيات عن علماء اليهود حيث أقدموا على مخالفة ما شرعه الله لهم، مع كونهم يعلمون الكتاب ويدرسونه. ونعى ذلك عليهم في مواضع متعددة من كتبه، وبكتهم أشد تبكيت. وكما ورد في الحديث الصحيح: "إن أول من تسعر بهم جهنم العلام الذي يأمر الناس ولا يأتمر وينهاهم ولا ينتهي."
وبالجملة فهذا أمر معلوم، أن العلم وكثرته وبلوغ حاملة إلى أعلى درجات العرفان لا يسقط عنه شيئا من التكاليف الشرعية بل يزيدها عليه شدة، ويخاطب بأمور لا يخاطب بها الجاهل ويكلف بتكاليف غير تكاليف الجاهل، ويكون ذنبه أشد وعقوبته أعظم. وهذا لا ينكره أحد ممن له أدنى تمييز بعلم الشريعة، والآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى لو جمعت لكانت مؤلفا مستقيما ومصنفا حافلا. وليس ذلك من غرضنا في هذا البحث، بل غاية الغرض من هذا ونهاية القصد منه هو بيان أن العالم كالجاهل في التكاليف الشرعية والتعبد بما في الكتاب والسنة، مع ما أوضحناه لك من التفاوت بين الرتبتين، رتبة العالم ورتبة الجاهل في كثير من التكاليف واختصاص العالم منها بما لا يجب على الجاهل.(139/2)
وبهذا يتقرر لك أن ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحق ما قاله فلان دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان. بل الواجب عليه- إن كان ممن له فهم وعلم وتمييز- أن يرد ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن كان دليل الكتاب والسنة معه فهو على الحق وهو الأولى بالحق. ومن كان دليل الكتاب والسنة عليه لا له كان هو المخطئ، بل هو معذور، بل مأجور، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " فناهيك بخطأ يؤجر عليه فاعله، ولكن هذا إنما هو للمجتهد نفسه، إذا أخطأ، ولكن لا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا يعذر كعذره، ولا يؤجر كأجره، بل واجب على من عداه من المكلفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ ويرجع إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة. وإذا وقع الرد لما اختلف فيه أهل العلم إلى الكتاب والسنة كان من معه دليل الكتاب والسنة هو الذي أصاب الحق ووافقه، وإن كان واحدا، والذي لم يكن معه دليل الكتاب والسنة هو الذي لم يصب الحق، بل أخطأه، وإن كان عددا كثيرا، فليس لعالم ولا لمتعلم ولا لمن يفهم- وإن كان مقصرا- أن يقول: إن الحق بيد من يقتدي به من العلماء، إن كان دليل الكتاب والسنة بيد غيره. فإن ذلك جهل عظيم، وتعصب ذميم، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة، لأن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق. وليس أحد من العلماء المجتهدين والأئمة المحققين بمعصوم، ومن لم يكن معصوما فإنه يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة ويخطئ أخرى. ولا يتبين صوابه من خطئه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، كبيرهم وصغيرهم، وهذا يعرفه كل من له أدنى حظ من العلم، وأحقر نصيب من العرفان، ومن لم يفهم هذا(139/3)
ويعترف به فليتهم نفسه، ويعلم أنه قد جنى على نفسه بالخوض فيما ليس من شأنه، والدخول فيما لا تبلغ إليه قدرته، ولا ينفذ فيه فهمه. وعليه أن يمسك قلمه ولسانه، ويشتغل بطلب العلم، ويفرغ نفسه لطلب علوم الاجتهاد التي يتوصل بها إلى معرفة الكتاب والسنة وفهم معانيهما، والتمييز بين دلائلهما، ويجتهد في البحث في السنة وعلومها، حتى يتميز عنده صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، وينظر في كلام الأئمة الكبار من سلف هذه الأمة وخلفها حتى يهتدي بكلامهم إلى الوصول إلى مطلوبه. فإنه إن لم يفعل هذا وقدم الاشتغال بما قدمنا، ندم على ما فرط منه قبل أن يتعلم هذه العلوم غاية الندم، وتمنى أنه أمسك عن التكلم بما لا يعنيه، وسكت عن الخوض فيما لا يدريه، وما أحسن ما أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من قول "رحم الله امرءا قال خيرا أو صمت "، وهذا في الذي تكلم في العلم قبل أن يفتح الله عليه بما لابد منه، وشغل نفسه بالتعصب للعلماء، وتصدى للتصويب والتخطئة في شيء لم يعلمه ولا فهمه حق فهمه، ولم يقل خيرا ولا صمت، فلم يتأدب بالأدب الذي أرشد إليه رسول الله ا!قي. وإذا تقرر لك من مجموع ما ذكرناه وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بنص الكتاب العزيز وإجماع المسلمين أجمعين، عرفت أن من زعم للناس أنه يمكن معرفة المخطئ من العلماء من غير هذه الطريق عند اختلافهم في مسألة من المسائل فهو مخالف لما في كتاب الله، ومخالف لإجماع المسلمين أجمعين، فانظر أرشدك الله إلى أي جناية جنى على نفسه بهذا الزعم الباطل وأي مصيبة وقع فيها بهذا الخطأ الفاحش، وأى بلية جلبها عليه القصور والتقصير، وأي محنة شديدة ساقها إليه التكلم فيما ليس من شأنه؟.
وها أنا أوضح لك مثالا لما ذكرناه من الاختلاف بين أهل(139/4)
العلم، ومن كيفية الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليتبين المصيب من المخطئ، ومن بيده الحق ومن بيده غيره، حتى تعرف الحق حق معرفته، ويتضح لك غاية الاتضاح، فإن الشيء إذا ضربت له الأمثلة وصورت له الصور بلغ من الوضوح والجلاء إلي غاية لا يخفي معها على من له فهم صحيح وعقل رجيح، فضلا عمن لم يكن له في العلم نصيب، وفي العرفان حظ، ولنجعل هذه المسألة التي جعلناها مثالا لما ذكرناه وإيضاحا لما أمليناه: هى المسألة التي لهج بالكلام فيها أهل عصرنا ومصرنا، خصوصا في هذه الأيام لأسباب لا تخفي، وهي:
مسألة رفع القبور، والبناء عليها، كما يفعله الناس من بناء المساجد والقباب على القبور.
فنقول: اعلم أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضوان الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهى عنها واشتد وعيد رسول الله لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحي بن حمزة مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه، ومن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله واقتداء به. ولم نجد القول بذلك ممن عاصره، أو تقدم عصره عليه لا من أهل البيت ولا من غيرهم. وهكذا اقتصر صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، بل اشتمل على غالب أتوال المجتهدين وخلافاتهم في المسائل الفقهية، وصار هو المرجوع إليه في هذه الأعصار، وهذه الديار لمن أراد معرفة الخلاف في المسائل، وأقوال القائلين بإثباتها أو نفيها من المجتهدين: فإن صاحب هذا الكتاب الجليل لم ينسب هذه المقالة- أعنى جواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء- إلا إلى الإمام يحيى وحده. فقد قال ما نصه:(139/5)
مسألة الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك؟ لاستعمال المسلمين ولم ينكره. انتهى.
فقد عرفت من هذا أنه لم يقل بذلك إلا الإمام يحيى، وعرفت دليله الذي استدل به، وهو استعمال المسلمين مع عدم النكير، ثم ذكر صاحب البحر هذا الدليل الذي استدل به الإمام يحيى في الغيث واقتصر عليه، ولم يأت بغيره.
فإذا عرفت هذا تقرر لك أن هذا الخلاف واقع بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء، من الصحابة والتابعين، ومن المتقدمين من أهل البيت والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه، ممن جاء بعده من المؤلفين. فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه، فإن وجدت قائلا من بعده من أهل العلم يقول بقوله هذا ويرجحه، فإن كان مجتهدا كان قائلا بما قاله الإمام يحيى ذاهبا إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدل به، وإن كان غير مجتهد فلا اعتبار بموافقته. لأنها إنما تعتبر أقوال المجتهدين لا أقوال المقلدين، فإذا أردت أن تعرف: هل الحق ما قاله الإمام يحيى، أو ما قاله غيره من أهل العلم. فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه. وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: بين لي العمل في هذا الرد حتى تتم الفائدة، ويتضح الحق من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة. قلت: افتح لما أقوله سمعا، واتخذ له فهما، وأرهف له ذهنا. وها أنا أوضح لك الكيفية المطلوبة. وأبين لك مالا يبقى عندك بعده ريب، ولا يصاحب ذهنك وفهمك عنده لبس، فأقول:(139/6)
قال الله سبحانه: (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا! فهذه الآية فيها الإيجاب على العباد بالائتمار بما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ به، والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وتركه. وقال سبحانه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ففي هذه الآية: تعليق محبة الله الواجبة على كل عبد من عباده باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر، وأنه السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله، وقال الله سبحانه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ففي هذه الآية: أن طاعة الرسول طاعة لله، وقال: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا! فأوجب هذه السعادة لمن أطاع الله ورسوله، وهى أن يكون مع هؤلاء الذين هم أرفع العباد درجة عنده، وأعلاهم منزلة. وقال: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها لي ذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين). وقال سبحانه: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ! وقال سبحانه: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وأنزل الله على رسوله أن يقول: (أطيعوا الله وأطيعون ) والآيات الدالة عل هذا المعنى في الجملة أكثر من ثلاثين آية.
ويستفاد من جميع ما ذكره: أن ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجبا بأمر الله سبحانه. وكانت الطاعة لرسول الله في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله أمرا من الله.(139/7)
وسنوضح لك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من النهى عن رفع القبور والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها، ولكنا هنا نبتدي بذكر أشياء في حكم التوطئة والتمهيد لذلك، ثم ننتهي إلى ذكر ما هو المطلوب، حتى يعلم من اطلع على هذا البحث أنه إذا وقع الرد فيما قاله الإمام يحيى وما قاله غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالرد إليه، وهو كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان في ذلك ما يشفي ويكفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه، فضلا عن ذكر جميعه، وعند ذلك يتبين لكل من لهم فهم، ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، من المكيدة البالغة التي كادهم الشيطان بها. وقد كان بها من كان قبلهم من الأمم السابقة، كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز.
وكان أول ذلك في قوم نوح، قال الله سبحانه: (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا كبارا، وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) " كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ثم عبدتهم العرب بعد ذلك "، وقد حكى معنى هذا في صحيح البخاري عن ابن عباسي رضى الله عنهما، وقال قوم من السلف: " إن هؤلاء كانوا قوما صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم ".(139/8)
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: " أن أم سلمة رضى الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "، وأخرج ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) قال: " كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره ".
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ".
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها، فقال- وهو كذلك- لعنة الله على اليهود والنصارى فقد اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"- يحذر ما صنعوا.
وفي الصحيحين مثله أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يكون مسجدا ".(139/9)
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد "، وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ". وفي صحيح مسلم وغيره عن أبى الهياج الأسدي قال: " قال لي علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته". وفي صحيح مسلم أيضا عن ثمامة بن شفي نحو ذلك.
وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع؟ واجبة متحتمة. فمن إشراف القبور: أن يرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد. فإن ذلك من النهي عنه بلا شك ولا شبهة. ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين عليا. ثم أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان من حديث جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ ".
وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث عن مسلم " وأن يكتب عليه". قال الحاكم: النهى عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة.(139/10)
وفي هذا التصريح بالنهى عن البناء على القبور، وهو يصدق على ما بني على جوانب حفرة القبر، كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعا فما فوقه. لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدا، فذلك مما يدل علي أن المراد بعض ما يقربه مما يتصل به، ويصدق على من بنى قريبا من جوانب القبر كذلك، كما في القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة، على وجه يكون القبر في وسطها أو في جانب منها. فإن هذا بناء على القبر، لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم، كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا، أو علي قرية كذا سورا. وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدا، مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو القرية أو المكان. ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها قريبة من الوسط، كما في المدينة الصغيرة والقرية الصغيرة والمكان الضيق، أو بعيدة في الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع، ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق فهو جاهل لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها ولا يدري بما استعملته في كلامها.(139/11)
وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله تارة.. كما تقدم. وتارة قال: " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، فدعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية. وذلك ثابت في الصحيح، وتارة نهى عن ذلك. وتارة بعث من يهدمه. وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى. وتارة قال: "لا تتخذوا قبري وثنا ". وتارة قال: " لا تتخذوا قبري عيدا " أي: موسما يجتمعون فيه كما صار يفعله كثير من عباد القبور؟ يجعلون لمن يعتقدون من الأموات أوقاتا معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم، ينسكون لها المناسك، ويعكفون عليها، كما يعرف ذلك كل أحد من الناس من أفعال هؤلاء المخذولين، الذين تركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم ثم يميتهم ويحييهم.. وعبدوا عبدا من عباد الله، صار تحت أطباق الثرى، لا يقدر على أن يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، كم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله أن يقول (لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا). فانظر كيف قال سيد البشر وصفوة الله من خلقه بأمر ربه أنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا وكذلك قال فيما صح عنه " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا "
فإذا كان هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وفي أخص قرابته به وأحبهم إليه، فما ظنك بسائر الأموات الذين لم يكونوا أنبياء معصومين ولا رسلا مرسلين؟ بل غاية ما عند أحدهم أنه فرد من أفراد هذه الأمة المحمدية، وواحد من أهل هذه الملة الإسلامية؟ فهو أعجز وأعجز أن ينفع أو يدفع عنها ضررا.(139/12)
وكيف لا يعجز عن شيء قد عجز عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم آ وأخبر به أمته كما أخبر الله عنه، وأمره بأن يقول للناس بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وأنه لا يغنى عن أخص قرابته من الله شيئا؟. فيا عجبا! كيف يطمع من له أدنى نصيب من علم، أو أقل حفظ من عرفانأن ينفعه أو يضره فرد من أفراد أمة هذا النبي الذي يقول عن نفسه هذه المقالة؟ والحال أنه فرد من التابعين له المقتدين بشرعه.
فهل سمعت أذناك- أرشدك الله- بضلال عقل اكبر من هذا الضلال الذي وقع في عباد أهل القبور؟! (إنا لله وإنا إليه راجعون).
وقد أوضحنا هذا أبلغ إيضاح في رسالتنا التي سميناها " الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد " وهي موجودة بأيدي الناس. فلاشك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد
في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسن. فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيما لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة؟ ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه جمن العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلا قليلا، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه، فيصير في عداد المشركين.
وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة وعند أول زورة له إذ لابد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية أو أخروية، فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائرا لذلك القبر، وعاكفا عليه ومتمسحا بأركانه.(139/13)
وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أمورا من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين. وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض، ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من أكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك الميت كرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيرا عظيما وأجرأ كبيرا، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر.
فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك أكاذيب، لينالوا جانبا من الحطام من أموال الطغام الأغتام . وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغا عظيما، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين. ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله.(139/14)
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا نذر في معصية الله". وهى أيضا من النذر الذي لا يبتغي به وجه الله؟ بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها غضب الله وسخطه. لأنها تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهية في الأموات من تزلزل قدم الدين؟ إذ لا يسمح بأحب أمواله وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة وتعظيم ذلك القبر وصاحبه والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالما. نعوذ بالله من الخذلان.
ولاشك أن غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طلب منهم طالب أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر ميت على ما هو طاعة من الطاعات وقربة من القربات لم يفعل، ولا كاد.
فانظر إلى أين بلغ تلاعب الشيطان بهؤلاء؟ وكيف رمى بهم هوة بعيدة القعر، مظلمة الجوانب؟ فهذه مفسدة من مفاسد، القبور وتشييدها، وزخرفتها وتجصيصها.
ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويلقيه على أم رأسه من أعلى مكان الدين: أن كثيرا منهم يأتي بأحسن ما يملكه منن الأنعام وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقربا به إليه، راجيا ما يضمر حصوله له منه. فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان إذ أنه لا فرق بين نحر النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثنا، وبين قبر لميت يسمونه قبرا. ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئا، ولا يؤثر تحليلا ولا تحريما فإن من أطلق على الخمر غير اسمها وشربها، كان حكمه حكم من شربها وهو يسميها باسمها، بلا خلاف بين المسلمين أجمعين.(139/15)
ولاشك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه واستدفاع الشر به. وهذه عبادة لاشك فيها. وكفاك من شر سماعه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (إنا لله وإنا إليه راجعون) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا عقر في الإسلام " قال عبد الرزاق: (كانوا يعقرون عند القبر، يعني بقرا وشياها "
وبعد هذا كله فاعلم أن ما سقناه من الدلالة وما هو كالتوطيد لها وما هو كالخاتمة تختم بها البحث: يقضى أبلغ قضاء وينادى أرفع نداء، ويدل أوضح دلالة، ويفيد أجلى مفاد: أن ما رواه صاحب البحر عن الإمام يحيى، غلط من أغاليط العلماء، وخطأ من جنس ما يقع للمجتهدين وهذا شأن البشر. والمعصوم من عصمه الله. وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك، مع كونه رحمه الله من أعظم الأئمة أنصافا وأكثرهم تحريا للحق وإرشادا وتأثيرا، ولكننا رأيناه قد خالف من عداه بما قال: من جواز بناء القباب على القبور رددنا هذا الاختلاف إلى ما أوجب الله الرد إليه. وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فوجدنا في ذلك ما قدمنا ذكره من الأدلة الدالة أبلغ دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك والنهي عنه، واللعن لفاعله والدعاء عليه. واشتداد غضب الله عليه، مع ما في ذلك من كونه ذريعة إلى الشرك، ووسيلة إلى الخروج عن الملة كما أوضحناه. فلو كان القائل بما قاله الإمام يحيى بعض الأئمة أو أكثرهم لكان قولهم ردأ عليهم، كما قدمناه في أول هذا البحث. فكيف والقائل به فرد من أفرادهم؟ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد "، ورفع القبور وبناء القباب والمساجد عليها ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرفناك ذلك فهو رد على قائله، أي مردود عليه.(139/16)
والذي شرع للناس هذه الشريعة الإسلامية هو الرب سبحانه بما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فليس لعالم- وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزلة- أن يكون بحيث يقتدى به فيما خالف الكتاب والسنة أو أحدهما، بل ما وقع منه من الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه يستحق به أجرأ. ولا يجوز لغيره أن يتابعه عليه. وقد أوضحنا هذا في أول البحث بما لا يأتي التكرار له بمزيد.
فائدة
وأما ما استدل به الإمام يحيى حيث قال: (لاستعمال المسلمين ذلك ولم ينكرونه) فقول مردود، لأن علماء المسلمين مازالوا في كل عصر يروون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن من فعل ذلك ويقررون شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسهم ومجالس حفاظهم يرويها الآخر عن الأول والصغير عن الكبير، والمتعلم عن العالم من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية. وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات والمسندات والمصنفات وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير فكيف يقال: إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلة النهي عنه واللعن لفاعله، خلفا عن سلف في كل عصر. ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه.
وقد حكى ابن القيم عن شيخه تقي الدين- رحمهما الله- وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفها. أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: وصرح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهية، لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم، إحسانا للظن بهم، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهى عنه. انتهى.(139/17)
فانظر كيف حكى التصريح عن عامة الطوائف؟ وذلك يدل على أنه إجماع من أهل العلم على اختلاف طوائفهم ثم بعد ذلك جعل أهل ثلاثة مذاهب مصرحين بالتحريم، وجعل طائفة مصرحة بالكراهة وحملها على كراهة التحريم. فكيف يقال: إن بناء القباب والمشاهد على القبور لم ينكره أحد؟.
ثم انظر كيف يصح استثناء أهل الفضل برفع القباب على قبورهم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قدمنا أنه قال: " أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا" ، ثم لعنهم بهذا السبب.
فكيف يسوغ من مسلم أن يستثني أهل الفضل بفعل هذا المحرم الشديد على قبورهم، مع أن أهل الكتاب الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر الناس ما صنعوا لم يعمروا المساجد إلا على قبور صلحائهم.
ثم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر وخير الخليقة وخاتم الرسل، وصفوة الله من خلقه، ينهى أمته أن يجعلوا قبره مسجدا أو وثنا أو عيدا، وهو القدوة لأمته. ولأهل الفضل من القدوة به والتأسي بأفعاله وأقواله الحظ الأوفر. وهم أحق الأمة بذلك وأولاهم به. وكيف يكون فعل بعض الأمة وصلاحه مسوغا لفعل هذا المنكر على قبره؟ وأصل الفضل ومرجعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي فضل ينسب إلى فضله أدني نسبة. أو يكون له بجنبه أقل اعتبار؟ فإن كان هذا محرما منهيا عنه ملعونا فاعله في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بقبر غيره من أمته؟.
وكيف يستقيم أن يكون للفضل مدخل في تحليل المحرمات وفعل المنكرات؟ اللهم غفرا، والحمد لله الذي هدانا للحق ووفقنا لاتباعه، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وعلى آله أجمعين.
تمت بحمد الله رسالة شرح الصدور(139/18)
شركيات وعقائد الصوفية
للشيخ محمد بن عبد الله الإمام
الجمهورية اليمنية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أما بعد : أيها الأخوة يقول الله وهو أصدق القائلين : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون } وجه الشاهد من هذه الآية أن الله أخبرنا أنه فطرنا على الدين ، فما منا من أحد إلا والله فطره على قبول الحق وعلى حب الحق ، ففطرتنا تتفق مع ديننا ليس فطرتنا ضد ديننا وليس ديننا فوق فطرتنا ، فلهذا سمعتم كيف جعل الله الفطرة التي فطرنا عليها هي الدين القيم ، ولهذا جاء في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) المولود كلُ مولود من بني آدم يولد على الفطرة التي هي فطرة الإسلام قبول الإسلام حب الإسلام الرضى بدين الله رب العالمين سبحانه وتعالى ، والرسول عليه الصلاة والسلام يأتنا بخبرٍ عن ربه سبحانه الحديث في صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه والحديث طويل : وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء ) والحنيف : هو المقبل على دين الله رب العالمين ، ولهذا وصف الله أبانا إبراهيم عليه السلام بأنه كان حنيفاً أي مخلصاً فمعنى حنيف مخلص لله رب العالمين سبحانه وليس المائل فقط لأن المائل معنى أن فيه ميول وميول ولكنه الحنيف المخلص فكلنا خلقنا هكذا ، ( قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجتالتهم الشياطين ) ومعنى أجتالتهم أي أجثتهم وأخذتهم ( أجتالتهم الشياطين فأحلوا لهم ما حرمت عليهم ، وحرمت عليهم ما أحلله لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ) فالشاهد من الحديث أن الشرك(140/1)
طارئ على الأمة ، وهكذا البدعة طارئة على الأمة والمعصية طارئة على الأمة ، فالأصل فينا جميعاً في البشرية أنهم خلقوا على الفطرة وخلقوا لهذا الدين وهذا ما اقتضته حكمة الله رب العالمين سبحانه ، فالطفل حين يولد لا يكون عنده قبول ولا معرفة ولا إدراك بالمحرمات لا يعرف يسرق ولا يزني ولا يكذب ولا يقتل ولا يُشرك بالله وليس عنده من الانحرافات شيء ، وما ذاك إلا أن الله فطره على أنه يقبل هذا الدين كله . وبما أنكم علمتم أن كل الشرور الموجودة في الأمة إنما هي طارئة هذا يُعطينا مفهوماً للأصل وأن الأصل هذا يَجعلنا نحرص ونبحث عن الأصل ونعود إلى الأصل ونصحح من الأصل من أجل أن يُوجد في الأمة الخير الذي أراده الله سبحانه وتعالى . وإني سأتكلم عن أخطر المعاصي ألا وهو { الشرك بالله سبحانه وتعالى } ، تكلمت ذات مرة في مسجد مذبح عن السحرة وماذا تفعله السحرة بالأمة ، وفي هذه الليلة نتكلم عن كيف أنتشر الشرك في أمتنا ما دُمنا فُطرنا على الدين وما دامت فطرنا تحملنا على قبول الحق والحب له والتعظيم له والنفرة من الباطل والكره والبغض والمحاربة ، فلماذا وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه في قضية الإشراك بالله رب العالمين ولم يسلم ولم ينجو إلا القليل ممن نجاه الله سبحانه وتعالى . كيف أنتشر الشرك في أمة الإسلام ؟ أسمعوا إلى هذا الحديث العظيم يبين لكم عظمة العقيدة عظمة توحيد الله ، ومعنى توحيد الله أي عبودية الله رب العالمين إفراد الله بالعبادة ، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابرٍ قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في لفظ ( في الجزيرة ) أي في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم ) الرجل منا إذا صلح معتقده إذا كان يخشى الله ويراقب الله ويتوكل على الله ويحب الله ويعظم الله وكذلك أيضاً كان هذا الرجل يُفوض أمره لله ويسلم أمره لله ويثق بالله ويحسن الظن بالله ، إذا كانت عقيدة صحيحه من داخله فإنه(140/2)
يكون قد حقق المنجز الأكبر وإن الشيطان ييأس من أن يدخله في الشرك بالله سبحانه وتعالى ، فإذا لم يكن عنده المعتقد الصحيح الشيطان إلى جانب ما يُوقعه فيه من المعاصي يوقعه في الشرك بالله سبحانه وتعالى . أيها الأخوة كيف دخل الشرك في أمة الإسلام ؟ وكيف دخل في حملة الرسالة وفي حملة التوحيد وفي ورثة النبوة وخلفاء الصحابة كيف دخل ؟ دخل الشرك فينا عن طريق إحياء السنة اليهودية والنصرانية ، وما هذه السنة ؟ هذه السنة هي البناء على القبور بناء القباب بناء المشاهد بناء المساجد على القبور اسمعوا ماذا يقول سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ويقول ما ستسمعون وهو في حالة سكرات الموت وقال هذا عدة مرات عند الموت وعند قرب الموت فقد قال قبل أن يموت بخمس وقال هذا وهو على وشك الخروج وهو في آخر أنفاسه من هذه الحياة ، عليه الصلاة والسلام روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهم جميعاً قال عليه الصلاة والسلام : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) تقول عائشة : يحذر مما صنعوا أي يحذر أمته مما صنع اليهود ومما صنعته النصارى يقول هكذا : ( لعنةُ الله ) ويقول : ( لعن الله اليهود والنصارى ) ، وهذا الحديث بلفظه أو بمعناه قد جاء عن أكثر من أثني عشر صحابياً رضي الله عنهم أجمعين ، وقد جاءت أحاديث تحذر من البناء أو التجصيص أو الكتابة والقعود والجلوس على القبور والمرور على القبور والبناء على القبور ما يزيد عن أربعين حديثاً صحيحاً عن محمدٍ سيد الأولين والآخرين محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، ولكن صاحب الباطل لا يُعظم ديناً ولا يرحمُ أمةً وإنما يريد أن ينصر نفسه وأن ينصر هواه ، فهذه الأحاديث إلى جانب ما في القرآن من التحذير من الشرك تُركت خلف الظهور وعُمل ما حرم الله رب العالمين سبحانه ، روى الإمام البخاري ومسلم من حديث عائشة أن(140/3)
أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لما كانتا في أرض الحبشة رأتا كنيسةً فيها تصاوير ـ أي فيها تصاوير رجال صالحين ـ فأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فماذا قال عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين ؟ قال : ( أولئكِ كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره وصوروا تلك الصور أولئكِ شرار الخلق عند الله ) فسمى رسولنا أن من يفعل هذا من يَدفن الأولياء والصالحين إن كانوا أولياء وصالحين والله أعلم بالأولياء وأعلم بالصالحين لكن سيأتي بعد قليل ماذا في كلمة أولياء من أخطارٍ وأضرار ، لا يجوز أن يُبنى على قبور المسلمين بغض النظر كانوا في المرتبة العالية في الخير والصلاح أو المتوسطة أو أو إلى آخره لا يجوز أن يُبنى على قبورهم لا مساجد ولا قِباب ولا غير ذلك ، ولكن الذي حصل أن الصوفية أحيت هذه السنة النصرانية واليهودية فقد صارت مساجد المسلمين في مشارق الأرض وفي مغاربها مبنية على القبور أو القبور تُدخلُ في المساجد إما أن يُبنى المسجد على القبور وإما أن يُدفن من يدفن في المساجد ، من هنا بدأ الشرك ، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه قوم نوح وهو الشرك الذي وقع فيه اليهود والنصارى ، وهذا الشرك وقع فيه من وقع فيه من هذه الأمة ، اسمعوا أيها الأخوة لما بُنيت المساجد على القبور والقِباب المشيدة على القبور وصار القبر الفلاني يقال عنه كذا وكذا ماذا حصل ؟ أولاً : وضع من وضع من الزنادقة أحاديث مكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام فعندك حديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور ) إذا أعيتكم الأمور أي صَعبت عليكم ما وجدتم لها مخرجاً ولا وجدت لها ملجئاً فرجعوا إلى من ؟ إلى أصحاب القبور ، هذا الحديث وضعته الزنادقة الذين يدعون المسلمين إلى الكفر والشرك بالله رب العالمين ، كم في القرآن من آيات تبين أن العافية من الله وأن النفع من عند الله والضر من عند وأن الرحمة بيد الله(140/4)
والخير بيد الله رب العالمين وأن جميع البشر لا يملكون لأحدٍ مثقال ذره الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : ( إذا استعنت فاستعن بالله ، وإذا سألت فسأل الله ، وأعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لأن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك ، وإذا اجتمعوا على أن يضروك قد لن يضروك بشيءٍ إلا قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ) إذا كنت الأمة التي تملا القاع والبقاع لا تملك لأحدنا مثقال ذرة من خير ومثقال ذرة تدفع عنه من الشر ما بلك بميت ما بالك بمن صار في حياة غير حياتنا ، فإن الأموات صاروا في حياتهم البرزخية ، وسميت برزخية لأن بيننا وبين حياة الأموات حاجزاً كما قال الله : { ومن وراءهم برزخ إلى يوم يبعثون } فهنالك حاجزٌ بين حياتنا وحياة الأموات ، فلا صلة لنا بالأموات ولا معرفة لنا بأحوالهم إلا بقدر ما علمنا ديننا ، وكذلك أيضاً الأموات لا صلة لهم بنا ولا تعلق لهم بنا أبداً ، ولكن الزنادقة يريدون من المسلمين أن يعبدوا غير الله وأيُ دعوةٍ إلى الشرك الأكبر والكفر الأعظم من هذه ، ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور ) ، لقد كان كفار قريش وهم أبو جهل ومن معه وأبو لهبٍ ومن معه إذا اشتد بهم الأمر وإذا عظمت بهم المصيبة ألتجئوا إلى الله وأخلصوا ندائهم وتعلقهم ودعائهم لرب العالمين سبحانه ، ولا يتعلقون بأصنامهم ، لأنهم يعتقدون أنها لا تعطيهم ما يريدون ولا تدفع عنهم ما يحذرون أبداً ، لكن للأسف الشديد أن صار المسلمون الآن عند الشدائد يتوجهون إلى غير الله رب العالمين . أيها الأخوة سمعتم هذا الحديث المكذوب على نبينا عليه الصلاة والسلام هنا كيف طُبق هذا الحديث ؟ كيف طبقته الصوفية ، كيف دعت الصوفية المسلمين إلى أن يطبقوه عند القبور ؟ هذه بعض المواقف . هذا رجلٌ لما أراد التتر أن يدخل الشام وهنالك قبرٌ بل قبور تُعبد من دون الله ولكن هنالك قبرٌ مشهور وهو قبر أبي عمر ينادي الناس ويقولون : يا(140/5)
خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر يا خائفين من الضرر لوذوا بقبر أبي عمر ينجيكمُ من الضرر انظرا كيف يدعوهم عند نزول المصيبة العظمى وتسلط العدو الكاسح العدو المبيد يدعوهم إلى أن يلتجئوا إلى صاحب القبر إلى الميت هكذا يا أخوة ، كذلك أيضاً هذا الغزالي رحمه الله الذي مات قريباً وفي كتبه ما فيها من المخالفات الشرعية يقول رحمه الله في كتابه < عقيدة المسلم > وننصح ألا تُقرأ كتبة إلا بعد السؤال والتمحيص والتفحيص لما فيها من مخالفات ، على كلٍ يقول : لما جاءت الشيوعية وأرادت أن تدخل مصر يقول : إنه توجه إلى قبر أحمد البدوي المقبور في طنطا يقول : توجه ثلاثة مليون من المسلمين يستنصرون ويلوذون بقبر البدوي ليصرف عنهم البدوي الشيوعية . كذلك أيضاً من هذه المواقف ما ذُكر ذكره أكثر من مؤلف من الصوفيين ، هذا إبراهيم بن إلياس وهو صوفي لما كان في وقت الغرغرة كان يقول للحاضرين : إذا كانت لكم حاجة فأتوا إلي واجلس عند رأسي وناديني وأنا أقضها لك . كذلك أيضاً ذكروا أن من جاء إلى قبر عبد القادر الجيلاني وقرأ سبع مرات آية الكرسي يخطو مع كل قراءة خطوة حتى يصل إلى القبر قالوا ستقضى حاجته بشرط أن يتوجه بقلبه وببدنه إلى صاحب القبر . أونسيتم ما هو حاصلٌ في بلادنا أن يقول قائلهم : يا جيلاني لا تنساني أنسيتم أن قائلهم يقول : يابن علون يا صفي من قصد بابكم نجي لا تقولوا هذه انتهت ، ما انتهت الشرك الآن يزيد في البلاد الشرك يزيد والشر يزيد في البلاد نجى من نجى قليل من المسلمين والباقون على وشك التلف عياذاً بالله . أنسيتم أنهم يقولون للعيدروس المقبور في عدن : يا عيدروس يا شمس الشموس أنقذ النفوس ما عندهم منقذ إلا صاحب القبر أما الله فقد نسوه أما الله فقد ضيعوه أما الله فقد تركوه وما وثقوا به وما أحسنوا الظن به ولا عبدوه ولا يرجون رحمته ولا يخشون عذابه وإنما التعلق بصاحب القبر عياذاً بالله . وكذلك أيضاً ماذا يحصل(140/6)
عند قبرٍ في الضحي خارج الحديدة يقولون : يا شيخ يا من قد سمى ويا من صار يسمع صريف الأقلام في السماء ، ينادون صاحب القبر ويقولون : انه يسمع صريف الأقلام ، يا سبحان الله هذا موجود في البلاد وكم من دواهي من هذه الأخطار المزعجة التي تجعل المسلم يستغرب أن يوجد هذا في بلادنا . أيها الأخوة أصحاب القبور هؤلاء كم عددهم ؟ يقول صاحب كتاب < التوحيد في مسيرة العمل الإسلامي > يقول : إن الأضرحة التي يعبدوها المسلمون بلغت إلى عشرين ألفاً ، الأضرحة القبور التي يُذبح لها وينذر لها ويدعى أصحابها من دون الله التي يحج إليها وتُزار وتشد إليها الرحال ويُسرج لها والقبور التي يطاف عندها والقبور التي تجتمع الأمم عليها بلغت إلى عشرين ألفاً بل لو قلت أن هذا العدد قليلاً لكنت مصيباً لأنه في بعض البلدان قد حرص أصحابُ الشركيات والخرافات أن يجعلوا في كل قرية بما يُسمى بولي ولو كان لا تُوجد إلا أحجار ولا يُوجد شيء ولو وجدت شيء ما معناه أن هذا يُعبد من دون الله ، ولكن الشاهد أنهم يحرصون على أن يصورا للناس شيئاً يُسمى الولي من أجل أن يعبده الناس وأن يكون قريباً إليهم بما يسمى هذا بالولي من أجل أم يعبد من دون الله يا سبحان الله ، والله يضحك علينا حتى النصارى ، لقد قام أحد المستشرقين بدراسةٍ حول القبور التي تُعبد من دون الله في بلاد مصر ، وبلاد مصر فيها العجائب فيها المضحكات وفيها المبكيات ، فذكر قبوراً كثيرة تعبد من دون الله رب العالمين ، حتى قال بعضهم إن النصارى يعبدون المسيح ويعبدون مريم أما المسلمون فقد صاروا يعبدون من دون الله كما علمت بعشرات الآلاف يا سبحان الله كيف ضاعت أمتنا وكيف تاهت أمتنا وكيف أنطلى هذا البلاء العظيم على الأمة والتوجه بكل العبادة إلى صاحب القبر ، لا يخاف إلا صاحب القبر لا يرجو إلا صاحب القبر لا يُعظم إلا صاحب القبر لا يذبح إلا لصاحب القبر ، بل يا أخوة الذين تعلوا بالقبور إن أراد يحج(140/7)
يستأذن من صاحب القبر إن رجع من الحج مر على صاحب القبر وقال له : لقد حججنا وما نسيناك ، إن أراد أن يعمل أي عمل يذهب يستأذن من صاحب القبر لماذا يستأذنون من أصحاب القبور ؟
يدعون أن أصحاب القبور هؤلاء يتصرفون في الكون كما سيأتي بعد قليل ، وعلى سبيل المثال هذا عندنا في اليمن هذا عبد الحميد الشايف وهو مفتي تعز يخرج كتاباً عنوانه [المهرجان] هذا الكتاب منسوب إلى أحمد بن علوان المقبور خارج تعز في يفرس الذي يُعبد من دون الله إلى اللحظة والذي تُذبح عنده الذبائح ويطاف حول قبره ويدعى من دون الله ويُطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله رب العالمين ، ماذا يقول عبد الحميد الشائف ؟(140/8)
يقول : وقد استأذنت شيخي ابن علوان معلوم أن ابن علوان توفي في القرن السادس الهجري ، يقول : وقد استأذنت شيخي بطباعة هذا الكتاب فأذن لي فطبعته ، انظر على هذا الحد يلعبون على المسلمين وهذا يُسمى بمفتي وهذا يُنتظر منه الرحمة لا يأتينا من قِبله إلا العذاب ما دام أنه يدعوا الأمة إلى أن تعتقد أن هؤلاء لا يعمل عملٌ إلا بشأنهم وبأمرهم وبموافقتهم ، هذا إبطال للدين هذا إبطال الشريعة هذا يجعل المسلمين ألا يتعلقوا بيدين وإنما يتعلقوا بأولئك . وهذا عبد الحليم بن محمود الذي هو شيخ الأزهر سابقاً بذهب يؤلف كتاباً في مدح أحمد البدوي الذي مقبور في مصر في طنطا فيذهب يبقى ليالي عند قبره ومن ثم يذكر في الكتاب أنه ما كتب هذا الثناء والمدح لأحمد البدوي إلا بعد أن أذن له أحمد البدوي ، لهذا أيها الأخوة من عقائد العوام في الأولياء أنهم موجودون معنا في كل مكان من هم الأولياء الذين يعتقدونهم العوام ، العوام لا يعرفون أولياء الله الذين نطق بهم القرآن ونطقت بهم السنة أولياء الله في القرآن وفي السنة هم كل مسلم ومسلمة كبيراً صغيراً فقيراً غنياً قوياً ضعيفاً كل مسلم يحب الله ورسوله ويعمل بشريعة الله ويبتعد عن البدعة وعن الشركية ويحارب المعاصي ، فهذا ولي من أولياء الله رب العالمين سبحانه.(140/9)
أما الأولياء عند العوام الذين أخذتهم الصوفية ومن جرى مجراهم فيعتقدون أن الولي من بُنيت على قبره قبة ، من بُنيت على قبره قبة قالوا هذا هو الولي ، ولهذا لما وجدت الصوفية أن العوام بلداء إلى هذا الحد ذهبوا يضعون أحجاراً في رأس جبلٍ ويضعون عليها قليل من النورة أو قيل من البوية وما أيه ذلك وقالوا للناس هذا ولي ، بل قد حصل أن حدثنا رجل وقال كنت ماشياً وكان معي حمار قال فمرض حماري فجلس فجلست بجانبه فسرجت الفانوس في الليل والحمار مات في ذلك الوقت قال ثم ذهب قال : فمررت بعد أيام على المكان الذي مات فيه حماري قال : فإذا بالمكان الذي مات فيه حماري قد وضع عليه قبة فسألت الناس ما هذا ؟ قالوا هذا هنا ولي من أولياء الله ، قال فقلت لهم : هذا المكان مات فيه حماري ، قالوا لا نحن رأينا في ليلةٍ من الليالي ضوءً هنا فعرفنا أن هنا ولي ، انظروا المقياس في الأولياء والمعرفة للأولياء يأتيهم أي شيطان يَلعب عليهم يصدقونه ويقولون بقوله ويستجيبون لدعوته ويهرولون بعده لأنهم ما عندهم عقيدة ولا عندهم ضوابط شرعية . نرجع إلى قضية الأولياء هؤلاء اسمعوا إلى هذا الحديث وضعته من ؟ زنادقة الصوفية ما هذا الحديث : إذا ضل أحدكم ينسبونه إلى النبي عليه الصلاة والسلام زوراً ، إذا كان أحدكم في أرضٍ فلاه فضل ولم يجد أناساً فليقول : يا عباد الله أغيثوني ، يا عباد الله أغيثوني ، لماذا يأتون بهذا الحديث المكذوب ؟ لأنهم يدعون أن الأولياء هؤلاء وهم أصحاب القبور أنهم يسمعون الناس دائماً وأنهم مع الناس دائماً وأنهم يعرفون أحوال الناس دائماً وأنهم يُدبرون أحوال الناس دائماً فلهذا قالوا للناس : من ضل في أرض فلاه أو صلت ناقته فلينادي ويقول : يا عباد الله أحبسوا أحبسوا ، يا عباد الله أغيثوني ، انظروا هؤلاء ما يؤمنون بالموت ، نبينا عليه الصلاة والسلام الذي هو أزكى الخلق عند الله وسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام يقول الله فيه :(140/10)
{إنك ميتٌ وإنهم ميتون} ولما كانت عقيدة الصوفية أنها تدعي أن أولياءها هم أحياء في الأمة وإن كانوا قد ماتوا ماذا عملوا ؟ قالوا الخضر يمر على الناس في كل وقتٍ وفي كل آن ، والخضرُ مات ولكن دجلاً على الناس يقولون الخضر ، حتى في بعض الأوقات قد يُرى مجنوناً في الشوارع وقد يكون في القمامة فما تدري إلا ويقال للناس هذا الخضر لعباً على عقول الناس . بل الصوفية عند أن يعملوا الحَضرات في رجب وفي شعبان وفي رمضان ماذا يقولون ؟ يقولون : مرحباً بك يا محمد مرحباً مرحباً جد الحسين مرحباً لماذا ؟ يدجلون على العوام أن الرسول يحضر عندهم ويسمع مقالهم ويزكي أعمالهم نعوذ بالله ، فلهذا وثق بهم الناس وصاروا يفعلون هذه الأشياء ويعتقدون أن من لم يفعل الحضرة أن أولاده سيموتون أو أغنامه ستموت أو أبقاره ستموت أو أو إلى آخره مما يُخوفون به الناس صار الناس يخافون من صاحب القبر أشد الخوف حتى لو قلت لواحدٍ من الناس : أحلف لي على رأس صاحب القبر أو أحلف لي عند قبر فلان هذا لا يجوز لا يجوز أن نحلف إلا بالله ، ولكن أريدُ أن أبين لك ماذا عند العوام إلا من هداه الله من معتقدٍ فاسد إلى أبعد الحدود ، لو قال له شخص أذهب أحلف لي عند القبر الفلاني ما هو مستعد لو تُقطع رقبته ومستعد أن يعترف بكل ما أنكره من قبل لماذا ؟ لأنه يخاف من صاحب القبر ، ولهذا الصوفية يُخوفون الناس أن من لم يؤدي حق صاحب القبر أن صاحب القبر سيسبب له كذا سيعمل به كذا ، لهذا صار الناس مدعورين يُقدمون لهم النُذر والذبائح والزيارات وشد الرحال إليهم كل ذلك ليُرضوا أصحاب القبور هؤلاء .(140/11)
أيها الأخوة: لم يقف الأمر إلى هذا؛ بل صارت هذه القبور تعظم أعظم من حج بيت الله الحرام ، ولهذا يدعون الناس إلى انهم يَعتكفون عند هذه القبور يعتكفون الأيام إما أسبوعاً وإما أكثر وإما أقل ويأتي الشخص وهو مُسَّلم بما يريده منه صاحب القبر عياذاً بالله ، انظروا كيف يُرغبون الناس ويكذبون عليهم . ذكر بعض المؤلفين من الرفض أن عندهم كتاباً لأبن النعمان عنوانه [منا سك حج المشاهد] المشاهد القبور والقباب يجعلون لها مناسك كمناسك الحج وذُكر في هذا الكتاب أن قال : قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( من خطى خطوة إلى زيارة قبر الحسين ـ الحسين بن علي رضي الله عنه أحد سيدي شباب أهل الجنة المدفون في كربلاء ـ يقول : من زار قبر الحسين فله بكل خطوة قصرٌ بالجنة ) انظر وكذلك أيضاً يقول فيه من زار قبر الحسين وبكى عنده ـ بكى يريدون الناس أن يذبحوا أنفسهم فداءً للقبور ـ أو تباكى ـ إذا لم يستطع أن يبكي ليتباكى من الباكين ـ ومن تباكى غُفر له ما تقدم من ذنبه ) من أين هذا الكلام ؟ بل قال بعضهم في قبر أحمد الرفاعي المقبور في العراق قال : إنه أعظم من العرش والكرسي ومن الجنة ، انظروا لماذا هذا ؟ من أجل أن الناس يُقبلون على عبادة هذه القبور ، وقد فعل الناس وما قصروا إلا من هاده الله وقصر أما من أشقاه الله فتجده وفياً لأصحاب هذه القبور ، أحمد الرفاعي هذا هنالك كذب عليه كثير وقد ذكر الذهبي ترجمته في < السير > وذكر أنه كان زاهداً وعابداً ولكن أتباعه نسبوا إليه الكفر ، أتدرون ماذا يسمون أصحاب الأضرحة ؟ يسمونهم بالأقطاب وبالأغواث وبالأوتاد وبالنجباء وبالأبدال هذه أسماء لهؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله انتبه معي لتعلم أين وصل الشر ما معنى القطب ؟ القطب في اللغة هو ما يدار عليه الشيء ، يعني يكون أساس للشيء وأما في الاصطلاح قالوا أن القطب : هو الذي تخلى عن الصفات البشرية واتصف بالصفات الإلهية ، أي أنه صار له قدره مثل(140/12)
قدرة الله وعلمٌ يُحيط به وله إدراك وله حياة لا ينقطع عنها ولا تتغير ولا تتبدل ولهذا يُسمون أقطابهم أنهم خلفاء الله في الأرض بمعنى أنهم يقومون بتدبير أمور العباد كما يقوم رب العالمين بتدبير أمور العباد ، ولهذا تجدهم يتكلمون عن أقطابهم هؤلاء ويقولون فلان قطب أو غوث ، والغوث الذي يُجير الملهوفين وينقذ الملهوفين كما تقدم لكم قبل قليل ويقولون أن الأقطاب سبعة وبعضهم يقول لا الأقطاب واحد في مكة فقط ويسمونه الغوث هذا يُغيث العالمين كله واحد بمفرده ، ويقولون إن النجباء ثلاثمائة والأبدال أربعون وبعضهم يقول سبعون والأوتاد أربعة وبعضهم يجعلهم سبعة ، فقد ذكروا أن أحمد الرفاعي والبدوي والدسوقي والشاذلي وابن علوان والجيلاني وغيرهم أن هؤلاء من الأقطاب ، بل ذكر الكوثري في بعض مقالاته وهو ممن يعيش في هذا العصر القريب إلينا قال : إن الشام محروسة بأربعة من الأوتاد من البلاياء ومن الفتن ومن المحن يا سبحان الله وما الذي يجري في الشام الآن وما الذي جرى فيها قبل أيام وين هؤلاء الأبدال وهؤلاء الأوتاد والأقطاب لماذا ما دافعوا عن العباد ؟! انظروا يا أخوة كيف يؤمنون الأمة أن هؤلاء الأموات يتولون تصريف أمورهم ، ولهذا تجدون بعض الناس إذا ذهب إلى صاحب القبر يطلب منه أن يعطيه الولد ، معلوم أن الخالق هو الله ما في أحد يخلق سوى رب العالمين سبحانه فكيف يطلب من صاحب القبر أن يرزقه وأن يعطيه ولداً ؟! ما ذاك إلا لإعتقاد أن أصحاب القبور هؤلاء وصل بهم الأمر إلى أنهم يفعلون ما يفعله الله ويقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله رب العالمين سبحانه . بل يا أخوة اسمعوا بعض الصوفية ماذا يقول : وقد خصني بالعلم والتصريفِ[ يعني ربه خصه ] إن قلت كن يمون بلا تسوفِِ انظروا إلى هذا الحد وقد خصني بالعلم والتصريفِ يتصرف بالكون ، قال : إن قلت كن يكون بلا تسويفِ أي بلا تأخر يعني جعل نفسه مثل رب العالمين سواء بسواء ، الله يقول : {(140/13)
إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } وهذا يدعي أنه كذلك نعوذ بالله ، بل إن هؤلاء يدّعون أنهم يُنزلون الأمطار وأن الأمطار لا تنزل إلا بأيديهم ، بل بعضهم يدّعي أنه يُحي الموتى وينسبون إلى بعضهم أنه يُحي الموتى ، وكم أذكر لك من تراهاتهم ومن كفرهم وشركياتهم هذه عند العوام إلا من رحمه الله أشياء مُسَّلم بها ، لو جئت تتكلم وتقول إن هؤلاء المقبورين الذين تسمونهم بأولياء إن كانوا أولياء فالله يتولى الصالحين وإن كانوا أعداء لله فهم عند ربك وبين يديه وربك سبحانه شديد العقاب وبطشه كبير على من يتعدى حدوده ، لكن لو قلت لهؤلاء : هؤلاء أموات لا ينفعون لا يضرون لا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، قالوا : هيا أنت تسب الأولياء إننا نخاف عليك أن يرسلوا لك بكذا وأن يعملوا بك كذا لأنهك يدّعون أن الأولياء هؤلاء يرسلون بالثعابين وبالحيات و و إلى آخره لينتقموا من لم يقم لهم الموالد .(140/14)
تعرفون أن الصوفية بدأت بعمل المولد ، ليش تفعلون المولد للرسول ؟ قالوا : نعظم الرسول ونحب الرسول عليه الصلاة والسلام ، حبه واجبٌ علينا حبه واجب على كل مسلم على كل من نطق بلا إله إلا الله ، لكن ماذا تعمل الصوفية ؟ بدءوا بادعاء أن المولد للرسول وهنا السؤال لماذا عملوا موالد لهم ؟ أحمد البدوي يعملون له مولد هؤلاء الموالد الكبار السنوية العظيمة التي تحتشد لها العالم والأمم ، أحمد البدوي مثلاً معه ثلاثة موالد في السنة مولد لموته ولمولد لحياته أعظم من الرسول عليه الصلاة والسلام !!! ومولد هذا المولد باعتبار ما كان عليه من العظمة في نظرهم ، هذه الموالد انظر كيف بدءوا بالبدعة محصورة على الرسول ثم وسعوها كذلك موالد لأحمد بن علوان موالد للدسوقي كذلك موالد للشاذلي كذلك موالد للرفاعية وكم وكم أذكر لك ، بل يا أخوة ذكر بعض المؤلفين أن الطوائف الصوفية والفرق الصوفية بلغت في مصر إلى أثتين وسبعين فرقة ، انظروا من الذي مزق الأمة من الذي فرق الأمة كل فرقة من أثنين وسبعين فرقة عندها عادات وعندها منكرات وعندها شركيات تختص بها دون الثانية ، هذا في دولة واحدة وذكر بعض المؤلفين أن في السودان ثلاثة وخمسين طريقة صوفية ، يعني فرقوا الأمة إلى مأتي فرقة انظر هذه الشركيات والبدع ماذا عملت في الأمة ، بل ذكر عبد الحميد السلطان الثاني للدولة العثمانية أن بلغ من دخل في الشاذلية إلى حد أربعين مليون ، أربعون مليون هؤلاء دخلوا فقط في بدعة وشركيات أبي الحسن علي الشاذلي الذي هو مدفونٌ في بلاد المغرب ، انظر إلى هذا الحد ، نحن نتكلم ونحن مجروحون وديننا مسلوب عقيدتنا ضائعة ، أمة أدنى شيء يرجع إلى صاحب القبر أدنى شيء يرجع إلى الساحر إلى المنجم إلى الكاهن إلى غير الله رب العالمين ، صار المسلم مضيعاً إلا من رحمه الله . لنأتي إلى الصوفية والسحر ، الصوفية وأفعال السحر وأفعال التنجيم وأفعال الشعوذة والخرافات قد لا تصدق(140/15)
معي أن أقطاب الصوفية هؤلاء أنهم أهل السحر وأهل التنجيم وأهل الشعوذة وأهل الخرافة ، ولكن إن شاء الله عند أن تسمع الإثباتات ستعلم أني أقول وأنا صادقٌ وعالمٌ بما أقول وما أتكلم : كلكم تعرفون كتاب [شمس المعارف] ما أظنه أحدكم يجهله ، والذي يجعله أخشى أن يكون ممن يعمل بما فيه من الكفر عياذاً بالله ، كتاب [شمس المعارف] هذا كتاب كفري كفرٌ أكبر وشركٌ أكبر فيه أجمع علماء الإسلام على أنه كذلك ، من ألفه ؟ ألفه شخص أسمه أحمد بن علي البوني هذا الرجل صوفي ، الرجل هذا يذكر في مقدمة الكتاب مشايخه من الصوفية الذين أقروه على تأليف هذا الكتاب وعلى نشر هذا الكتاب يذكر منهم الشاذلي ويذكر منهم أبا مدين الذي يُسمى بالغوث يعني أنه يغيث العالمين ويجير العالمين وذكر كثيراً من أقطاب الصوفية منهم من يكون مشاركاً ومنهم من يكون متهماً ومنسوب إلى هذا الفعل زوراً وبهتاناً ، ولكن لتعلموا أن الصوفية هم رائدة السحر والدجل والتنجيم وجميع أنواع الطلاسم والشعوذة في الأمة ، أما تذكروا قبل أيام في البدوادي أنهم كانوا إذا خرجوا يستسقون يقولون وبحق بالباء وبحق التاء وبحق الجيم وبحق الخاء وبحق الحاء إلى آخره طيب من أين جائتنا هذه الكلمات ؟ هذه الكلمات شركية متى عُلم أن حرف الباء فيها أسرار ؟! لكن الصوفية يقولون إن الحروف الهجائية هذه لها أسرار يجعلون الحرف الواحد يُعطي كذا ويمنع من كذا ويدفع كذا إلى آخره هذا الذي وجد في البلاد إنه أخذٌ عن الصوفية ، هذا المثال الأول . المثال الثاني تعرفون كتاباً عنوانه < الحكمة في الطب والرحمة > هذا الكتاب منسوبٌ إلى الإمام السيوطي زوراً وبهتاناً كما نبه على ذلك غير واحد من العلماء ، هذا الكتاب من ألفه ؟ ألفه واحد يمني أسمه محمد بن مهدي الصبيري أو هكذا ، هذا الكتاب كتاب كفر وشرك وشعوذة يقول صاحب هذا الكتاب وهو يتكلم عن علاج العين إذا انطفئ السواد إذا طفئت علين الشخص هو يقول تعالج(140/16)
بماذا ؟ يذكر في كتابه هذا يقول : من أخُذ بصره وأصيب بالبياض فعليه أن يأخذ دم الحيض من امرأة شابة لم ينكحها أحد وأن يخلطه مع المني ويكحل به عينه هذا موجود في هذا الكتاب ، هذا الرجل الذي ألف هذا الكتاب يمني صوفي من الصوفية انظر هل تؤتمن الصوفية على دين الله رب العالمين إذا كانوا يدعوننا إلى الكفر الصُراح ، وإذا كانوا يسلطون علينا الجن والعفاريت والشياطين ويتعاملون معهم كيف نأتمنهم على دين الله كيف نقبلهم أن يكونوا أئمة أن يكونوا خطباء أن يكونوا دعاة في بلاد رب العالمين وفي بلاد الإسلام والمسلمين . كذلك أيضاً أخبرني أحد الأخوة أن أحد الصوفية في اليمن لا أحب أن أذكر مكانه ، أنه جاءه عسكري من قِبلِ الدولة فقال له : قف هنا حتى ارجع من صلاة الجمعة فوقف العسكري ولم يتحرك ، ما الذي جعله يقف ولا يتحرك ولا يجلس حتى مع العلم أنه يحتاج إلى أن يجلس ما الذي جعله ؟ الجن ، الصوفية يتعاملون مع شياطين الجن يتفقون مع شياطين الجن ضدنا ، ولهذا والله لقد سُحر كثيرٌ من طلبة العلم الذين يطلبون علم الكتاب والسنة وسُحر كثير من المسلمين عن طريقهم إذا بدءوا يتمسكون بدين الله رب العالمين ، من خرج عن صوفيتهم وعن شعوذتهم وخرافتهم أرسلوا له بجني .(140/17)
أيضاً الرفاعية من المعلوم قطعاً أن ابن تيميه رحمه الله تناظر مع الرفاعية ، الرفاعية أعلنوا في الأمة أنهم يدخلون في النار ولا تحرقهم وأعلنوا في الأمة أنهم يستمرون الأيام بدون أكلٍ وكذلك أيضاً أعلنوا أموراً خطيرة لا يقبلوها العقل ، فجاء ابن تيميه وجادلهم وناقشهم فكانوا يقولون أدخل معنا في النار فقال : أنا مستعد أدخل معكم في النار بشرط أن تغتسلوا بالماء والصابون ومن ثمَ ندخل سوياً فأبوا أن يدخلوا في النار بعد أن يغتسلوا ، فسأل ابن تيميه لماذا ؟ قال : لأن هؤلاء عندهم دجل يطلون أجسامهم بأشياء فلا تؤثر عليهم النار فإذا غسلوها قضت عليهم النار ، بل أعظم من هذا كله أنهم يعملون أشياء في الحقيقة أنها تعامل مع الجن مباشرة ، والذي لا يعرفهم يقول أن هؤلاء يُعطون الكرامات أن هؤلاء عندهم مدد من عند الله سبحانه وتعالى وما عندهم مدد ولكن عندهم جن يتعاملون معهم ويقولون للأمة إنهم أصحاب تقى وصلاح وأنهم بسبب صلاحهم يُعطيهم الله عز وجل الكرامات ، أضرب لكم مثالاً من دجلهم وشعوذتهم وشركياتهم ذكر بعض المؤلفين أنه كان في البحر فبدأت الأمواج تشتد وكادت السفينة أن تغرق فقام الناس يقولون يا الله فمن كان صوفياً كان ينادي يا ابن عيسى يا ابن عيسى يا ابن عيسى والناس يقولون لهم اتقوا الله وقولوا يا الله نادوا رب العالمين ادعوا رب العالمين قالوا إنكم تكرهون الأولياء وأنتم أعداء الله وأنتم الوهابية ، فلما خرجوا من البحر قالوا لهؤلاء الذين كانوا يقولون لهم ادعوا الله قالوا لهم انظروا ما أنقذنا إلا ابن عيسى من البحر ، وهكذا قالوا إن عبد القادر الجيلاني أنقذ سفينة من البحر بعد سبع سنين من أن غرقت ولماذا ما ينقذها في لحظتها ويريح الأمة من الشر ولكن هكذا يأتون فيعتقدون أن هؤلاء يعملون ما يشاءون ، وكذلك أيضاً بعضهم أنه حصل بعضهم أنه جاء وتكلم عن أحمد البدوي فقال له رجل صوفي إن أحمد البدوي لا بد أن ينتقم منك فماذا(140/18)
حصل ؟ أُرسل لهذا الرجل بجني فصرع فقالوا شوف انظر كيف انتقم منك أحمد البدوي ، أحمد البدوي رجل مات ما يَملك شيئاً أبداً ولكن أتباعه الذين يريدون هلاك الأمة إلا أن تعبدهم من دون الله يرسلون بالجن والعفاريت إلى المسلمين ويقولون لهم إن هذا هو صاحب القبر ينتقم منكم ، وكم من هذه الأمور كم . إذاً أيها الأخوة محن الصوفية كثيرة وبلاء الأمة بها عظيم ، يهون يا أخوة السَرقة كبيرة من الكبائر ، الزنا كبيرة من الكبائر ، القتل قتل المسلم كبيرة من الكبائر العظام ، الغش والخداع والمكر والرشا والربا وجمع المعاصي كلها خطر علينا ، لكن كلها لا تبلغ مبلغ الشرك بالله رب العالمين سبحانه ، من وقع في الشرك فقد صادر دينه كله ما يبقى معه دين يُحبط الله أعماله لا يُجبر له عمل ولا تُقبل له طاعة وليس من أولياء الله بل من أولياء الشيطان ومن أعداء الرحمن وليس يستحق رحمه الله فضلاً منه وإحسان وإنما يستحق عذاب الله إن مات على ذلك ، فلهذا قال الله : { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، فالذنوب نرجو من ربنا الرحمة وإن متنا وعندنا معاصي ، لكن إذا كنا موحدين إذا كنا لا نشرك به شيئاً ، أما إذا لقينا ربنا وقد أشركنا به ما ينفعنا أيُ عملٍ صالح لو تتقطع أجسامنا من كثرة الصلاة والصيام لو نذبح أنفسنا لربنا وعندنا شرك ما تقبل الله عز وجل من عبدٍ طاعةً ولا عبادة حتى يخلص عمله لله .(140/19)
إذاً أيها الأخوة نحن بحاجة من أن نحذر الأمة من أن يذهبوا إلى السحرة وعند المنجمين وعند المقذي والذي يضرب ما بالضمير كما يُقال والذي يرد السرائق والضائعات وعند المسفل وعند المسفلة ، وفي أيامنا زاد الشرك بالله رب العالمين ، هذه الأيام القريبة التي حصل فيها شيءٌ من القحط وتأخر المطر يذهب أناس لا أحتاج أن أذكر مكانهم يذهب أناسٌ إلى أحد السحرة ويقولون أعمل لنا ورقة من أجل أن ينزل المطر ، انظروا هذا في بلادنا لا تظنوا أن بلادنا بخير صحيح فيها خير فيها دعوة إلى الكتاب والسنة إلى منهج السلف فيها علماء ناصحون فيها دعاة فيها طلبة علم يتعلمون الخير يتعلمون الكتاب والسنة لكن أيضاً لا ننسى ولا نغفل أن هنالك من يسعى جاهداً لتثبيت الكفر والشرك بالله رب العالمين سبحانه وتعالى ، ولهذا أيها الأخوة الآن دخلت فرقتان جديدتان صوفيتان إلى اليمن ، فرقة برهانية وهذه سمعنا قبل أيام أنها قد سكنت في صنعاء فيا ويل أهل صنعاء ، وفرقة ثانية وصلت إلى تهامة تسمى الفرقة التيجانية ، هذا وارد خارجي يأتي إلى اليمن ما كفى اليمنيين ما هم فيه من بلاء فيما يتعلق بالشعوذات والخرافات وعبادة أصحاب القبور ، عند الأيام التي مضت في شهر ربيع الأول يجتمعون عن قبرٍ يسمونه قبر الشاذلي مع أن الشاذلي في بلاد المغرب ولكن كذابون لأنهم يعتقدون الصوفية يعتقدون أن الولي يظهر في كل مكان وأن الولي موجود في كل مكان ، ولهذا يقولون أبنوا له في أي مكان ، مثلاًً الحسين بن علي رضي الله عنه أحد سيد شباب أهل الجنة معروف أنه مدفون في كربلاء ولكن تجد له عشرات القبور في مصر ما الذي أوصله إلى مصر ، قل لي في بلاد المغرب قل لي في الهند قل لي قل لي قل لي إلى آخره هكذا عقائدهم ، فعلى كلٍ هذا وارد جديد إلى بلادنا عياذاً بالله ، فالمطلوب منا أن نتيقظ أن نتنبه أن نلتزم أن ننصح للأمة أن نحذر الأمة نحن والله ما نحب أن يفوتك عملٌ صالح ولا أن تُحرم من(140/20)
الجنة من نحب أن يبطل الله أعمال المسلمين نحب للمصلي أن يدخل الجنة بسبب صلاته وبسبب صيامه ، ولكن إذا لم يكن موحدا كما سمعتم قبل قليل . فالنصيحة منا مطلوبة لمجتمعنا وشعبنا والتحذير من أنواع الشركيات الموجودة في البلاد ، ولا تنسوا أن الصوفية يتعاونون مع كل عدو ، الحزب الاشتراكي في بلادنا نصرته الصوفية ، التتر نصرته الصوفية ، الانجليز بريطانيا ومن جرى مجراهم من أعداء الإسلام من يهود ونصارى نصرتهم الصوفية ، فالصوفية هم ليسوا معنا لا في أول الأمر ولا في آخره ، فليحذر كل مسلم من أن يتعلق بهذا الصنف . ولهذا اسمع إلى دعوة الصوفية إلى تعليق الحروز والعزائم والحلتيت والبحت اسمع كيف يقولون هذا كتاب [دلائل الخيرات] هذا كتاب منتشر موضوع في المساجد هذا الكتاب للجزولي وهذا صوفي من علماء الهند اسمع كيف يصلي على النبي في هذا الكتاب وهذا من ورد يوم الأحد يقول : اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم ، ووحمت الحوائم ، وسرحت البهائم ، ونفعت التمائم ، انظر دعوى إلى الشرك ، التمائم تنفع الحروز تنفع ، ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام كما جاء من حديث عبد الله بن مسعود عند أحمد وغيره ( من علق تميمة فقد أشرك ) وهم يجعلون التمائم أنها التي هي التي تنفع ، لهذا الصوفية يرون التوحيد شركاً ويرون الشرك توحيداً عياذاً بالله فهم معكوسون منكوسون فهذه دعوتهم إلى جميع أنواع الشر والبلاء . نسأل الله عز وجل أن يحفظ أمتنا من هذه الشرور ومن هذه الفتن ، وحد ربك تعلم العقيدة الصحيحة تعلم دينك لا تبقَ دائماً وأبداً مركبة من جاء ركب عليك من جاء خدعك من جاء لطمك من جاء أخذك من جاء أزاغ قلبك وحرف عقلك لا ، تعلم دينك تعلم ، الحمد الله دعوة أهل السنة والجماعة قائمة على قدم وساق ومنتشرة في البلاد والشعب كله سني بحمد الله رب العالمين ولكن بعض الناس ينقصهم العلم ينقصهم الدعاة ينقصهم العلماء الناصحون فإذا وجد هؤلاء(140/21)
من ينصحهم ويأخذ بأيديهم لو جدت الخير الكبير . نسأل الله أن يثبتنا وإياكم وجزاكم الله خيراً وإلى هنا ،،،
أسئلة تتعلق بالموضوع
س 1 / ما صحة هذا الحديث : ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) ؟
جـ / هذا الحديث والحديث الآخر ( من حج ولم يزرني فقد جفاني ) وما أشبهها من الأحاديث التي فيها الترغيب لزيارة قبره هذه غير صحيحة وقد تكلم عنها بتوسع الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه < الصارم المنكي في الرد على السبكي > لأن بعضهم ادعى بأنه يجوز الاستغاثة والتوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام وهذه من الذرائع إلى الشرك بل من الشرك بالله رب العالمين سبحانه ، فيشرح للمسلم الآفاقي أنه إذا زار مسجده عليه الصلاة والسلام شُرعت له زيارة قبره كما جاء في البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد ومن حديث أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( لا تشد وفي لفظ لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ) فشد الرحال لا يجوز باعتقاد زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكن الصوفية يحثون الناس بل ويُجبون عليهم أن يشدوا الرحال إلى عبادة الأضرحة .
س 2 / ما هو تفسير بعض الكرامات التي تحدث لأصحاب القبور كشفاء بعض المرضى أو أو إلى آخره ؟(140/22)
جـ / على كلٍ هذه لا تُسمى كرامة إنما هذه أمور دجل وشعوذة وخرافات فالكرامة لا بد أن يكون صاحبها على صلاح هذا واحد ، الثاني أن تكون الكرامة في أمور طيبة وأمور خير لا تكون داعية إلى الشرك ولا إلى المعاصي فإن الأحوال الشيطانية هذه من أمور السحر والمعاصي ، ولهذا يقول الذهبي رحمه الله عند أن تكلم عن أحمد الرفاعي قال : وله أتباع فيهم زغل ولهم أحوال شيطانية ، فهم يدّعون أن هذه كرامات عند أن يأكلوا النار أو يدخلوا في النار أو عند أن يضربوا بالسيف على الرؤوس وما تقطع يدّعون أنها كرامات ولكنها في الحقيقة أحوال شيطانية وليست بكرامة أبداً يتفقون مع الشياطين على صور معينة فيخدعون الناس ويسحرون أعين الناس فيظن الناس كما يظنون هم والأمر على غير ذلك فمثلاً لعلكم تذكرون قبل أيام مضت أنه كان يمر على البيوت رجل يقول هو مجذوب ابن علوان وعنده السكين يطعن في عينه في جبهته في صدره إلى آخره فأنت تشاهد تقول السكين دخلت إلى آخرها وهي ما دخلت ولا وصلت إليه أبداً ، وإنما الشياطين يلعبون على أعين الناس كما قال الله : ? وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيم ? فهؤلاء لهم دجل عظيم على الأمة وكما سمعت ليس لهم كرامات ما داموا على العصيان والانحراف ، ولهذا يُذكر عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال : إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي فوق الماء لا تصدقوه حتى تعرفوا كيف وقوفه عند حدود الله ، على سبيل المثال ذكر شمس الدين الأفغاني في كتابه < جهود علماء الحنفية في إبطال القبورية > ذكر عن عدة مشائخ من الصوفية أن بعضهم كان يذهب إلى البحر ويقول للمريد أتبعني فإذا وصل إلى شفير البحر صعد فوق الماء يمشي فإذا جاء المريد يريد يصعد سقط على البحر في الماء فكيف يقول الشيخ هذا للمريد الذي بعده ؟ المريد الذي يريده يطلب العلم عنده يقول له : إذا أردت أن تطير بعدي نادني أنا وأدعوني أنا لا تدعُ الله فيقول : يا فلان(140/23)
يا سيدي فإذا به يؤخذ فوق الماء ويمشي فوق البحر ويقطع البحر وينتقل على مسافة بعيده جداً ، هذا عن طريق أيش ؟ عن طريق الجن ، ولهذا الصوفية دعاويهم وشطحاتهم واسعة ، ألا تعلمون أن بعضهم يقول : إنما أصلي في الكعبة ما يصلي عندنا بل مما ذكروا ذكره الصيادي في كتابة < قلادة الجواهر في مناقب أحمد الرفاعي وأصحابه الكبائر > هو منهم قال : إن أحمد الرفاعي صلى الصبح في مكة والظهر في المدينة والعصر في بيت المقدس والمغرب في بعلبك والعشاء في جبل قاف جبل قاف هذا أظنه يقع في لبنان انظر على دجل هذا قبل الطائرات ما معنى أن هنالك طائرة نقلته في هذه الأماكن بسرعة ولكنهم يدّعون شطحات من جهة ومن جهة ثانية قد يتعامل معهم الجن ويأخذونهم من مكان إلى آخر وهي طريقة كما سمعت شركية وشيطانية لكنهم يسمونها كرامات ، إذاً فهذه ليست بكرامات أبداً .
س 3 / ما صحة حديث ( لعن الله زائرات القبور ) ؟
جـ / الحديث جاء عن ابن عباس وعن أبي هريرة وعن حسان وحديث حسان وأبي هريرة صحيح وحديث ابن عباس ضعيف وهو بلفظ ( لعن الله زوارات القبور ) زوارات صيغة مبالغة أي أنهم يكثرن من زيارة القبور فهذا ضعيف ، ( لعن الله زائرات القبور ) هذا صحيح وهذا الذي استحضره ، وعلى كلٍ العلماء يجمعون بينه وبين غيره من الأحاديث والأصل في زيارة النساء للمقابر الكراهة فلا لا يجوز للمرأة أن تزور المقابر إلا بالضوابط الشرعية فمتى وُجدت الضوابط الشرعية جاز للمرأة أن تزور المقبرة كما أذن الرسول لعائشة صلى الله عليه وسلم وكذلك أيضاً كما حصل من أكثر من امرأة في عهده ، لكن إذا كانت المرأة ليس عندها معرفة فلا يجوز لها زيارة القبور والناس قد صاروا في جهل عظيم فلهذا لا يجوز للمرأة أن تزور المقابر إلا بعد تنفيذ هذا الشرط .
س 4 / هل يجوز هدم الأضرحة بدون استثناء حتى لو كانت قبور الخلفاء الراشدين ؟(140/24)
جـ / ينبغي أن يكون لعلمك أن الصحابة من حرصهم على سلامة دين الأمة أنهم قُبورا في أماكن ما يُعرفون بخلاف الصوفية فإن الواحد منهم يوصي أن يُدفن في المسجد الفلاني وللأسف الشديد أني أُخبرت أن أمير جماعة التبليغ إنعام الحسن الذي توفي قريباً أنه دُفن في مسجد جماعة التبليغ الذي هو مسجد اللقاء الكبير وبجانبه ثلاثة قبور في داخل المسجد ، فأريد أن تعرفوا أن جماعة التبليغ هم صوفية صغيرة هم صوفية في الطريق ، فلهذا أحذروا ، تعلمون أن الصوفية يوصون أن يُدفنوا في المساجد لماذا ؟ من أجل بعد أيام أن يُعبدوا من دون الله ، ألا ترون ماذا يُعمل بالأضرحة التي بالمساجد التي يقال عنها إنها وإنها كمثل العيدروس في عدن وكمثل أحمد بن علوان وكمثل الهادي وكمثل وكمثل ، فلهذا إن الصحابة من حرصهم على الأمة غُيبت قبورهم علي بن أبي طالب التي أُدعيت فيه الألوهية من قِبل عبد الله بن سبأ وغيره ماذا عمل الصحابة لما تُوفي علي والمسلمون آنذاك ؟ أخفوه وغيبوا قبره إلى الآن لا يُدرى أين قبره منهم من يقول دُفن داخل قصر الإمارة ومنهم من يقول دُفن في كذا ومنهم من يقول في كذا على كلٍ إلى الآن قبره غير معلوم لماذا هذا ؟ حتى لا يُعبد من دون الله رب العالمين سبحانه ، لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام دُفن في تلك الغرفة ولم يُدفن في غيرها لأن النبي يُدفن حيث يموت وكذلك أيضاً خشية أن يعبده الناس من دون الله رب العالمين ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً ) أي يُعبد من دون الله رب العالمين فالصحابة رضي الله عنهم ما كانوا حريصين على أن تُعرف قبورهم خشية أن يُعبدوا من دون الله رب العالمين سبحانه ، فالأضرحة هذه لا يجوز وجودها في المساجد ولا يجوز بناء شيءٍ عليها وإنما يُقبر العالم كما يُقبر المسلمون في مقبرة المسلمين ، يا أخوة الصحابة أين قُبر عثمان بن عفان رضي الله عنه أين قُبر ابن مسعود أين قُبر ابن عباس(140/25)
كل هؤلاء قُبروا مع المسلمين فلماذا هؤلاء يستنكفون عن أن يُقبروا مع المسلمين ؟ لا يجوز تنفيذ وصية من أوصى أن يُدفن في المسجد لا يجوز أبداً وصية باطلة وتنفيذها محرمٌ ، فلهذا رب العالمين يقول : { فمن خاف من موصٍ جنفاً أو أثماً فأصلح بينهم فلا أثم عليه إن الله غفورٌ رحيم } والأضرحة لا بد من تهديمها وإزالتها ووجودها في البلاد إنما يدل على تخلف المسلمين وأنهم صاروا أتباع لكل مشعوذ ومخرف إلا من رحمه الله رب العالمين سبحانه وتعالى ، ولكن يبقى علينا من يُخربها ؟ ندعوكم جميعاً إلى تخريبها لكن كيف ؟ تخريبها من القلوب بينوا للناس الدين الناس قد يتعصبون لأصحاب القبور هذه أيما تعصب لكن إذا عرفتهم بالحق وإذا أسمعتهم كلام الله وكلام رسوله وبينت لهم ما عليه علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة هنالك المسلم يرجع إلى الله ويتوب إلى الله رب العالمين سبحانه ، فلهذا دعوة أهل السنة والجماعة نحمد الله أنها قد أطاحت بالصوفية بالرغم أن اليمن الجهة السفلى كما تُسمى أنها كانت بأيدي الصوفية ، الخطيب منهم الإمام منهم الحروز والعزائم العقد بأيديهم كل قضية من عند الصوفي هذا المخرف ، اليوم يطردهم الناس من المساجد يقولون لهم ما عرفنا منكم إلا الشر ما علمتمونا إلا الحروز والعزائم والحلتيت والبحت وتحكيم الزيران ما علمتمونا شيئاً من دين الله رب العالمين سبحانه أيش نريد منكم كيف تكونون أئمة ؟ فلهذا لا بد من محاربة الأضرحة بالطريقة التي نستطيع وهي نصح الناس وتحذير الناس من أن ينذروا لها أو أن يذبحوا لها أو يسرجوا إلى آخره وندعو من استطاع أن يخربها من أهل القرى فجزاه الله خيراً ، أما أننا نصطدم بإخواننا وآباءنا المسلمين الذين هم نحمد الله على فطرة طيبة يحتاجون إلى نصحٍ ويعرفون ويعودون إلى الحق فلسنا بحاجةٍ أبداً إلى أن نصطدم بهم .(140/26)
شركيات وعقائد الصوفية
للشيخ محمد بن عبد الله الإمام
الجمهورية اليمنية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أما بعد : أيها الأخوة يقول الله وهو أصدق القائلين : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون } وجه الشاهد من هذه الآية أن الله أخبرنا أنه فطرنا على الدين ، فما منا من أحد إلا والله فطره على قبول الحق وعلى حب الحق ، ففطرتنا تتفق مع ديننا ليس فطرتنا ضد ديننا وليس ديننا فوق فطرتنا ، فلهذا سمعتم كيف جعل الله الفطرة التي فطرنا عليها هي الدين القيم ، ولهذا جاء في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام : ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) المولود كلُ مولود من بني آدم يولد على الفطرة التي هي فطرة الإسلام قبول الإسلام حب الإسلام الرضى بدين الله رب العالمين سبحانه وتعالى ، والرسول عليه الصلاة والسلام يأتنا بخبرٍ عن ربه سبحانه الحديث في صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه والحديث طويل : وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء ) والحنيف : هو المقبل على دين الله رب العالمين ، ولهذا وصف الله أبانا إبراهيم عليه السلام بأنه كان حنيفاً أي مخلصاً فمعنى حنيف مخلص لله رب العالمين سبحانه وليس المائل فقط لأن المائل معنى أن فيه ميول وميول ولكنه الحنيف المخلص فكلنا خلقنا هكذا ، ( قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجتالتهم الشياطين ) ومعنى أجتالتهم أي أجثتهم وأخذتهم ( أجتالتهم الشياطين فأحلوا لهم ما حرمت عليهم ، وحرمت عليهم ما أحلله لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ) فالشاهد من الحديث أن الشرك(141/1)
طارئ على الأمة ، وهكذا البدعة طارئة على الأمة والمعصية طارئة على الأمة ، فالأصل فينا جميعاً في البشرية أنهم خلقوا على الفطرة وخلقوا لهذا الدين وهذا ما اقتضته حكمة الله رب العالمين سبحانه ، فالطفل حين يولد لا يكون عنده قبول ولا معرفة ولا إدراك بالمحرمات لا يعرف يسرق ولا يزني ولا يكذب ولا يقتل ولا يُشرك بالله وليس عنده من الانحرافات شيء ، وما ذاك إلا أن الله فطره على أنه يقبل هذا الدين كله . وبما أنكم علمتم أن كل الشرور الموجودة في الأمة إنما هي طارئة هذا يُعطينا مفهوماً للأصل وأن الأصل هذا يَجعلنا نحرص ونبحث عن الأصل ونعود إلى الأصل ونصحح من الأصل من أجل أن يُوجد في الأمة الخير الذي أراده الله سبحانه وتعالى . وإني سأتكلم عن أخطر المعاصي ألا وهو { الشرك بالله سبحانه وتعالى } ، تكلمت ذات مرة في مسجد مذبح عن السحرة وماذا تفعله السحرة بالأمة ، وفي هذه الليلة نتكلم عن كيف أنتشر الشرك في أمتنا ما دُمنا فُطرنا على الدين وما دامت فطرنا تحملنا على قبول الحق والحب له والتعظيم له والنفرة من الباطل والكره والبغض والمحاربة ، فلماذا وصلت الأمة إلى ما وصلت إليه في قضية الإشراك بالله رب العالمين ولم يسلم ولم ينجو إلا القليل ممن نجاه الله سبحانه وتعالى . كيف أنتشر الشرك في أمة الإسلام ؟ أسمعوا إلى هذا الحديث العظيم يبين لكم عظمة العقيدة عظمة توحيد الله ، ومعنى توحيد الله أي عبودية الله رب العالمين إفراد الله بالعبادة ، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابرٍ قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في لفظ ( في الجزيرة ) أي في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم ) الرجل منا إذا صلح معتقده إذا كان يخشى الله ويراقب الله ويتوكل على الله ويحب الله ويعظم الله وكذلك أيضاً كان هذا الرجل يُفوض أمره لله ويسلم أمره لله ويثق بالله ويحسن الظن بالله ، إذا كانت عقيدة صحيحه من داخله فإنه(141/2)
يكون قد حقق المنجز الأكبر وإن الشيطان ييأس من أن يدخله في الشرك بالله سبحانه وتعالى ، فإذا لم يكن عنده المعتقد الصحيح الشيطان إلى جانب ما يُوقعه فيه من المعاصي يوقعه في الشرك بالله سبحانه وتعالى . أيها الأخوة كيف دخل الشرك في أمة الإسلام ؟ وكيف دخل في حملة الرسالة وفي حملة التوحيد وفي ورثة النبوة وخلفاء الصحابة كيف دخل ؟ دخل الشرك فينا عن طريق إحياء السنة اليهودية والنصرانية ، وما هذه السنة ؟ هذه السنة هي البناء على القبور بناء القباب بناء المشاهد بناء المساجد على القبور اسمعوا ماذا يقول سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ويقول ما ستسمعون وهو في حالة سكرات الموت وقال هذا عدة مرات عند الموت وعند قرب الموت فقد قال قبل أن يموت بخمس وقال هذا وهو على وشك الخروج وهو في آخر أنفاسه من هذه الحياة ، عليه الصلاة والسلام روى الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهم جميعاً قال عليه الصلاة والسلام : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) تقول عائشة : يحذر مما صنعوا أي يحذر أمته مما صنع اليهود ومما صنعته النصارى يقول هكذا : ( لعنةُ الله ) ويقول : ( لعن الله اليهود والنصارى ) ، وهذا الحديث بلفظه أو بمعناه قد جاء عن أكثر من أثني عشر صحابياً رضي الله عنهم أجمعين ، وقد جاءت أحاديث تحذر من البناء أو التجصيص أو الكتابة والقعود والجلوس على القبور والمرور على القبور والبناء على القبور ما يزيد عن أربعين حديثاً صحيحاً عن محمدٍ سيد الأولين والآخرين محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، ولكن صاحب الباطل لا يُعظم ديناً ولا يرحمُ أمةً وإنما يريد أن ينصر نفسه وأن ينصر هواه ، فهذه الأحاديث إلى جانب ما في القرآن من التحذير من الشرك تُركت خلف الظهور وعُمل ما حرم الله رب العالمين سبحانه ، روى الإمام البخاري ومسلم من حديث عائشة أن(141/3)
أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لما كانتا في أرض الحبشة رأتا كنيسةً فيها تصاوير ـ أي فيها تصاوير رجال صالحين ـ فأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام بذلك فماذا قال عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين ؟ قال : ( أولئكِ كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره وصوروا تلك الصور أولئكِ شرار الخلق عند الله ) فسمى رسولنا أن من يفعل هذا من يَدفن الأولياء والصالحين إن كانوا أولياء وصالحين والله أعلم بالأولياء وأعلم بالصالحين لكن سيأتي بعد قليل ماذا في كلمة أولياء من أخطارٍ وأضرار ، لا يجوز أن يُبنى على قبور المسلمين بغض النظر كانوا في المرتبة العالية في الخير والصلاح أو المتوسطة أو أو إلى آخره لا يجوز أن يُبنى على قبورهم لا مساجد ولا قِباب ولا غير ذلك ، ولكن الذي حصل أن الصوفية أحيت هذه السنة النصرانية واليهودية فقد صارت مساجد المسلمين في مشارق الأرض وفي مغاربها مبنية على القبور أو القبور تُدخلُ في المساجد إما أن يُبنى المسجد على القبور وإما أن يُدفن من يدفن في المساجد ، من هنا بدأ الشرك ، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه قوم نوح وهو الشرك الذي وقع فيه اليهود والنصارى ، وهذا الشرك وقع فيه من وقع فيه من هذه الأمة ، اسمعوا أيها الأخوة لما بُنيت المساجد على القبور والقِباب المشيدة على القبور وصار القبر الفلاني يقال عنه كذا وكذا ماذا حصل ؟ أولاً : وضع من وضع من الزنادقة أحاديث مكذوبة على النبي عليه الصلاة والسلام فعندك حديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور ) إذا أعيتكم الأمور أي صَعبت عليكم ما وجدتم لها مخرجاً ولا وجدت لها ملجئاً فرجعوا إلى من ؟ إلى أصحاب القبور ، هذا الحديث وضعته الزنادقة الذين يدعون المسلمين إلى الكفر والشرك بالله رب العالمين ، كم في القرآن من آيات تبين أن العافية من الله وأن النفع من عند الله والضر من عند وأن الرحمة بيد الله(141/4)
والخير بيد الله رب العالمين وأن جميع البشر لا يملكون لأحدٍ مثقال ذره الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : ( إذا استعنت فاستعن بالله ، وإذا سألت فسأل الله ، وأعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لأن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك ، وإذا اجتمعوا على أن يضروك قد لن يضروك بشيءٍ إلا قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف ) إذا كنت الأمة التي تملا القاع والبقاع لا تملك لأحدنا مثقال ذرة من خير ومثقال ذرة تدفع عنه من الشر ما بلك بميت ما بالك بمن صار في حياة غير حياتنا ، فإن الأموات صاروا في حياتهم البرزخية ، وسميت برزخية لأن بيننا وبين حياة الأموات حاجزاً كما قال الله : { ومن وراءهم برزخ إلى يوم يبعثون } فهنالك حاجزٌ بين حياتنا وحياة الأموات ، فلا صلة لنا بالأموات ولا معرفة لنا بأحوالهم إلا بقدر ما علمنا ديننا ، وكذلك أيضاً الأموات لا صلة لهم بنا ولا تعلق لهم بنا أبداً ، ولكن الزنادقة يريدون من المسلمين أن يعبدوا غير الله وأيُ دعوةٍ إلى الشرك الأكبر والكفر الأعظم من هذه ، ( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور ) ، لقد كان كفار قريش وهم أبو جهل ومن معه وأبو لهبٍ ومن معه إذا اشتد بهم الأمر وإذا عظمت بهم المصيبة ألتجئوا إلى الله وأخلصوا ندائهم وتعلقهم ودعائهم لرب العالمين سبحانه ، ولا يتعلقون بأصنامهم ، لأنهم يعتقدون أنها لا تعطيهم ما يريدون ولا تدفع عنهم ما يحذرون أبداً ، لكن للأسف الشديد أن صار المسلمون الآن عند الشدائد يتوجهون إلى غير الله رب العالمين . أيها الأخوة سمعتم هذا الحديث المكذوب على نبينا عليه الصلاة والسلام هنا كيف طُبق هذا الحديث ؟ كيف طبقته الصوفية ، كيف دعت الصوفية المسلمين إلى أن يطبقوه عند القبور ؟ هذه بعض المواقف . هذا رجلٌ لما أراد التتر أن يدخل الشام وهنالك قبرٌ بل قبور تُعبد من دون الله ولكن هنالك قبرٌ مشهور وهو قبر أبي عمر ينادي الناس ويقولون : يا(141/5)
خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر يا خائفين من الضرر لوذوا بقبر أبي عمر ينجيكمُ من الضرر انظرا كيف يدعوهم عند نزول المصيبة العظمى وتسلط العدو الكاسح العدو المبيد يدعوهم إلى أن يلتجئوا إلى صاحب القبر إلى الميت هكذا يا أخوة ، كذلك أيضاً هذا الغزالي رحمه الله الذي مات قريباً وفي كتبه ما فيها من المخالفات الشرعية يقول رحمه الله في كتابه < عقيدة المسلم > وننصح ألا تُقرأ كتبة إلا بعد السؤال والتمحيص والتفحيص لما فيها من مخالفات ، على كلٍ يقول : لما جاءت الشيوعية وأرادت أن تدخل مصر يقول : إنه توجه إلى قبر أحمد البدوي المقبور في طنطا يقول : توجه ثلاثة مليون من المسلمين يستنصرون ويلوذون بقبر البدوي ليصرف عنهم البدوي الشيوعية . كذلك أيضاً من هذه المواقف ما ذُكر ذكره أكثر من مؤلف من الصوفيين ، هذا إبراهيم بن إلياس وهو صوفي لما كان في وقت الغرغرة كان يقول للحاضرين : إذا كانت لكم حاجة فأتوا إلي واجلس عند رأسي وناديني وأنا أقضها لك . كذلك أيضاً ذكروا أن من جاء إلى قبر عبد القادر الجيلاني وقرأ سبع مرات آية الكرسي يخطو مع كل قراءة خطوة حتى يصل إلى القبر قالوا ستقضى حاجته بشرط أن يتوجه بقلبه وببدنه إلى صاحب القبر . أونسيتم ما هو حاصلٌ في بلادنا أن يقول قائلهم : يا جيلاني لا تنساني أنسيتم أن قائلهم يقول : يابن علون يا صفي من قصد بابكم نجي لا تقولوا هذه انتهت ، ما انتهت الشرك الآن يزيد في البلاد الشرك يزيد والشر يزيد في البلاد نجى من نجى قليل من المسلمين والباقون على وشك التلف عياذاً بالله . أنسيتم أنهم يقولون للعيدروس المقبور في عدن : يا عيدروس يا شمس الشموس أنقذ النفوس ما عندهم منقذ إلا صاحب القبر أما الله فقد نسوه أما الله فقد ضيعوه أما الله فقد تركوه وما وثقوا به وما أحسنوا الظن به ولا عبدوه ولا يرجون رحمته ولا يخشون عذابه وإنما التعلق بصاحب القبر عياذاً بالله . وكذلك أيضاً ماذا يحصل(141/6)
عند قبرٍ في الضحي خارج الحديدة يقولون : يا شيخ يا من قد سمى ويا من صار يسمع صريف الأقلام في السماء ، ينادون صاحب القبر ويقولون : انه يسمع صريف الأقلام ، يا سبحان الله هذا موجود في البلاد وكم من دواهي من هذه الأخطار المزعجة التي تجعل المسلم يستغرب أن يوجد هذا في بلادنا . أيها الأخوة أصحاب القبور هؤلاء كم عددهم ؟ يقول صاحب كتاب < التوحيد في مسيرة العمل الإسلامي > يقول : إن الأضرحة التي يعبدوها المسلمون بلغت إلى عشرين ألفاً ، الأضرحة القبور التي يُذبح لها وينذر لها ويدعى أصحابها من دون الله التي يحج إليها وتُزار وتشد إليها الرحال ويُسرج لها والقبور التي يطاف عندها والقبور التي تجتمع الأمم عليها بلغت إلى عشرين ألفاً بل لو قلت أن هذا العدد قليلاً لكنت مصيباً لأنه في بعض البلدان قد حرص أصحابُ الشركيات والخرافات أن يجعلوا في كل قرية بما يُسمى بولي ولو كان لا تُوجد إلا أحجار ولا يُوجد شيء ولو وجدت شيء ما معناه أن هذا يُعبد من دون الله ، ولكن الشاهد أنهم يحرصون على أن يصورا للناس شيئاً يُسمى الولي من أجل أن يعبده الناس وأن يكون قريباً إليهم بما يسمى هذا بالولي من أجل أم يعبد من دون الله يا سبحان الله ، والله يضحك علينا حتى النصارى ، لقد قام أحد المستشرقين بدراسةٍ حول القبور التي تُعبد من دون الله في بلاد مصر ، وبلاد مصر فيها العجائب فيها المضحكات وفيها المبكيات ، فذكر قبوراً كثيرة تعبد من دون الله رب العالمين ، حتى قال بعضهم إن النصارى يعبدون المسيح ويعبدون مريم أما المسلمون فقد صاروا يعبدون من دون الله كما علمت بعشرات الآلاف يا سبحان الله كيف ضاعت أمتنا وكيف تاهت أمتنا وكيف أنطلى هذا البلاء العظيم على الأمة والتوجه بكل العبادة إلى صاحب القبر ، لا يخاف إلا صاحب القبر لا يرجو إلا صاحب القبر لا يُعظم إلا صاحب القبر لا يذبح إلا لصاحب القبر ، بل يا أخوة الذين تعلوا بالقبور إن أراد يحج(141/7)
يستأذن من صاحب القبر إن رجع من الحج مر على صاحب القبر وقال له : لقد حججنا وما نسيناك ، إن أراد أن يعمل أي عمل يذهب يستأذن من صاحب القبر لماذا يستأذنون من أصحاب القبور ؟
يدعون أن أصحاب القبور هؤلاء يتصرفون في الكون كما سيأتي بعد قليل ، وعلى سبيل المثال هذا عندنا في اليمن هذا عبد الحميد الشايف وهو مفتي تعز يخرج كتاباً عنوانه [المهرجان] هذا الكتاب منسوب إلى أحمد بن علوان المقبور خارج تعز في يفرس الذي يُعبد من دون الله إلى اللحظة والذي تُذبح عنده الذبائح ويطاف حول قبره ويدعى من دون الله ويُطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله رب العالمين ، ماذا يقول عبد الحميد الشائف ؟(141/8)
يقول : وقد استأذنت شيخي ابن علوان معلوم أن ابن علوان توفي في القرن السادس الهجري ، يقول : وقد استأذنت شيخي بطباعة هذا الكتاب فأذن لي فطبعته ، انظر على هذا الحد يلعبون على المسلمين وهذا يُسمى بمفتي وهذا يُنتظر منه الرحمة لا يأتينا من قِبله إلا العذاب ما دام أنه يدعوا الأمة إلى أن تعتقد أن هؤلاء لا يعمل عملٌ إلا بشأنهم وبأمرهم وبموافقتهم ، هذا إبطال للدين هذا إبطال الشريعة هذا يجعل المسلمين ألا يتعلقوا بيدين وإنما يتعلقوا بأولئك . وهذا عبد الحليم بن محمود الذي هو شيخ الأزهر سابقاً بذهب يؤلف كتاباً في مدح أحمد البدوي الذي مقبور في مصر في طنطا فيذهب يبقى ليالي عند قبره ومن ثم يذكر في الكتاب أنه ما كتب هذا الثناء والمدح لأحمد البدوي إلا بعد أن أذن له أحمد البدوي ، لهذا أيها الأخوة من عقائد العوام في الأولياء أنهم موجودون معنا في كل مكان من هم الأولياء الذين يعتقدونهم العوام ، العوام لا يعرفون أولياء الله الذين نطق بهم القرآن ونطقت بهم السنة أولياء الله في القرآن وفي السنة هم كل مسلم ومسلمة كبيراً صغيراً فقيراً غنياً قوياً ضعيفاً كل مسلم يحب الله ورسوله ويعمل بشريعة الله ويبتعد عن البدعة وعن الشركية ويحارب المعاصي ، فهذا ولي من أولياء الله رب العالمين سبحانه.(141/9)
أما الأولياء عند العوام الذين أخذتهم الصوفية ومن جرى مجراهم فيعتقدون أن الولي من بُنيت على قبره قبة ، من بُنيت على قبره قبة قالوا هذا هو الولي ، ولهذا لما وجدت الصوفية أن العوام بلداء إلى هذا الحد ذهبوا يضعون أحجاراً في رأس جبلٍ ويضعون عليها قليل من النورة أو قيل من البوية وما أيه ذلك وقالوا للناس هذا ولي ، بل قد حصل أن حدثنا رجل وقال كنت ماشياً وكان معي حمار قال فمرض حماري فجلس فجلست بجانبه فسرجت الفانوس في الليل والحمار مات في ذلك الوقت قال ثم ذهب قال : فمررت بعد أيام على المكان الذي مات فيه حماري قال : فإذا بالمكان الذي مات فيه حماري قد وضع عليه قبة فسألت الناس ما هذا ؟ قالوا هذا هنا ولي من أولياء الله ، قال فقلت لهم : هذا المكان مات فيه حماري ، قالوا لا نحن رأينا في ليلةٍ من الليالي ضوءً هنا فعرفنا أن هنا ولي ، انظروا المقياس في الأولياء والمعرفة للأولياء يأتيهم أي شيطان يَلعب عليهم يصدقونه ويقولون بقوله ويستجيبون لدعوته ويهرولون بعده لأنهم ما عندهم عقيدة ولا عندهم ضوابط شرعية . نرجع إلى قضية الأولياء هؤلاء اسمعوا إلى هذا الحديث وضعته من ؟ زنادقة الصوفية ما هذا الحديث : إذا ضل أحدكم ينسبونه إلى النبي عليه الصلاة والسلام زوراً ، إذا كان أحدكم في أرضٍ فلاه فضل ولم يجد أناساً فليقول : يا عباد الله أغيثوني ، يا عباد الله أغيثوني ، لماذا يأتون بهذا الحديث المكذوب ؟ لأنهم يدعون أن الأولياء هؤلاء وهم أصحاب القبور أنهم يسمعون الناس دائماً وأنهم مع الناس دائماً وأنهم يعرفون أحوال الناس دائماً وأنهم يُدبرون أحوال الناس دائماً فلهذا قالوا للناس : من ضل في أرض فلاه أو صلت ناقته فلينادي ويقول : يا عباد الله أحبسوا أحبسوا ، يا عباد الله أغيثوني ، انظروا هؤلاء ما يؤمنون بالموت ، نبينا عليه الصلاة والسلام الذي هو أزكى الخلق عند الله وسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام يقول الله فيه :(141/10)
{إنك ميتٌ وإنهم ميتون} ولما كانت عقيدة الصوفية أنها تدعي أن أولياءها هم أحياء في الأمة وإن كانوا قد ماتوا ماذا عملوا ؟ قالوا الخضر يمر على الناس في كل وقتٍ وفي كل آن ، والخضرُ مات ولكن دجلاً على الناس يقولون الخضر ، حتى في بعض الأوقات قد يُرى مجنوناً في الشوارع وقد يكون في القمامة فما تدري إلا ويقال للناس هذا الخضر لعباً على عقول الناس . بل الصوفية عند أن يعملوا الحَضرات في رجب وفي شعبان وفي رمضان ماذا يقولون ؟ يقولون : مرحباً بك يا محمد مرحباً مرحباً جد الحسين مرحباً لماذا ؟ يدجلون على العوام أن الرسول يحضر عندهم ويسمع مقالهم ويزكي أعمالهم نعوذ بالله ، فلهذا وثق بهم الناس وصاروا يفعلون هذه الأشياء ويعتقدون أن من لم يفعل الحضرة أن أولاده سيموتون أو أغنامه ستموت أو أبقاره ستموت أو أو إلى آخره مما يُخوفون به الناس صار الناس يخافون من صاحب القبر أشد الخوف حتى لو قلت لواحدٍ من الناس : أحلف لي على رأس صاحب القبر أو أحلف لي عند قبر فلان هذا لا يجوز لا يجوز أن نحلف إلا بالله ، ولكن أريدُ أن أبين لك ماذا عند العوام إلا من هداه الله من معتقدٍ فاسد إلى أبعد الحدود ، لو قال له شخص أذهب أحلف لي عند القبر الفلاني ما هو مستعد لو تُقطع رقبته ومستعد أن يعترف بكل ما أنكره من قبل لماذا ؟ لأنه يخاف من صاحب القبر ، ولهذا الصوفية يُخوفون الناس أن من لم يؤدي حق صاحب القبر أن صاحب القبر سيسبب له كذا سيعمل به كذا ، لهذا صار الناس مدعورين يُقدمون لهم النُذر والذبائح والزيارات وشد الرحال إليهم كل ذلك ليُرضوا أصحاب القبور هؤلاء .(141/11)
أيها الأخوة: لم يقف الأمر إلى هذا؛ بل صارت هذه القبور تعظم أعظم من حج بيت الله الحرام ، ولهذا يدعون الناس إلى انهم يَعتكفون عند هذه القبور يعتكفون الأيام إما أسبوعاً وإما أكثر وإما أقل ويأتي الشخص وهو مُسَّلم بما يريده منه صاحب القبر عياذاً بالله ، انظروا كيف يُرغبون الناس ويكذبون عليهم . ذكر بعض المؤلفين من الرفض أن عندهم كتاباً لأبن النعمان عنوانه [منا سك حج المشاهد] المشاهد القبور والقباب يجعلون لها مناسك كمناسك الحج وذُكر في هذا الكتاب أن قال : قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( من خطى خطوة إلى زيارة قبر الحسين ـ الحسين بن علي رضي الله عنه أحد سيدي شباب أهل الجنة المدفون في كربلاء ـ يقول : من زار قبر الحسين فله بكل خطوة قصرٌ بالجنة ) انظر وكذلك أيضاً يقول فيه من زار قبر الحسين وبكى عنده ـ بكى يريدون الناس أن يذبحوا أنفسهم فداءً للقبور ـ أو تباكى ـ إذا لم يستطع أن يبكي ليتباكى من الباكين ـ ومن تباكى غُفر له ما تقدم من ذنبه ) من أين هذا الكلام ؟ بل قال بعضهم في قبر أحمد الرفاعي المقبور في العراق قال : إنه أعظم من العرش والكرسي ومن الجنة ، انظروا لماذا هذا ؟ من أجل أن الناس يُقبلون على عبادة هذه القبور ، وقد فعل الناس وما قصروا إلا من هاده الله وقصر أما من أشقاه الله فتجده وفياً لأصحاب هذه القبور ، أحمد الرفاعي هذا هنالك كذب عليه كثير وقد ذكر الذهبي ترجمته في < السير > وذكر أنه كان زاهداً وعابداً ولكن أتباعه نسبوا إليه الكفر ، أتدرون ماذا يسمون أصحاب الأضرحة ؟ يسمونهم بالأقطاب وبالأغواث وبالأوتاد وبالنجباء وبالأبدال هذه أسماء لهؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله انتبه معي لتعلم أين وصل الشر ما معنى القطب ؟ القطب في اللغة هو ما يدار عليه الشيء ، يعني يكون أساس للشيء وأما في الاصطلاح قالوا أن القطب : هو الذي تخلى عن الصفات البشرية واتصف بالصفات الإلهية ، أي أنه صار له قدره مثل(141/12)
قدرة الله وعلمٌ يُحيط به وله إدراك وله حياة لا ينقطع عنها ولا تتغير ولا تتبدل ولهذا يُسمون أقطابهم أنهم خلفاء الله في الأرض بمعنى أنهم يقومون بتدبير أمور العباد كما يقوم رب العالمين بتدبير أمور العباد ، ولهذا تجدهم يتكلمون عن أقطابهم هؤلاء ويقولون فلان قطب أو غوث ، والغوث الذي يُجير الملهوفين وينقذ الملهوفين كما تقدم لكم قبل قليل ويقولون أن الأقطاب سبعة وبعضهم يقول لا الأقطاب واحد في مكة فقط ويسمونه الغوث هذا يُغيث العالمين كله واحد بمفرده ، ويقولون إن النجباء ثلاثمائة والأبدال أربعون وبعضهم يقول سبعون والأوتاد أربعة وبعضهم يجعلهم سبعة ، فقد ذكروا أن أحمد الرفاعي والبدوي والدسوقي والشاذلي وابن علوان والجيلاني وغيرهم أن هؤلاء من الأقطاب ، بل ذكر الكوثري في بعض مقالاته وهو ممن يعيش في هذا العصر القريب إلينا قال : إن الشام محروسة بأربعة من الأوتاد من البلاياء ومن الفتن ومن المحن يا سبحان الله وما الذي يجري في الشام الآن وما الذي جرى فيها قبل أيام وين هؤلاء الأبدال وهؤلاء الأوتاد والأقطاب لماذا ما دافعوا عن العباد ؟! انظروا يا أخوة كيف يؤمنون الأمة أن هؤلاء الأموات يتولون تصريف أمورهم ، ولهذا تجدون بعض الناس إذا ذهب إلى صاحب القبر يطلب منه أن يعطيه الولد ، معلوم أن الخالق هو الله ما في أحد يخلق سوى رب العالمين سبحانه فكيف يطلب من صاحب القبر أن يرزقه وأن يعطيه ولداً ؟! ما ذاك إلا لإعتقاد أن أصحاب القبور هؤلاء وصل بهم الأمر إلى أنهم يفعلون ما يفعله الله ويقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله رب العالمين سبحانه . بل يا أخوة اسمعوا بعض الصوفية ماذا يقول : وقد خصني بالعلم والتصريفِ[ يعني ربه خصه ] إن قلت كن يمون بلا تسوفِِ انظروا إلى هذا الحد وقد خصني بالعلم والتصريفِ يتصرف بالكون ، قال : إن قلت كن يكون بلا تسويفِ أي بلا تأخر يعني جعل نفسه مثل رب العالمين سواء بسواء ، الله يقول : {(141/13)
إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } وهذا يدعي أنه كذلك نعوذ بالله ، بل إن هؤلاء يدّعون أنهم يُنزلون الأمطار وأن الأمطار لا تنزل إلا بأيديهم ، بل بعضهم يدّعي أنه يُحي الموتى وينسبون إلى بعضهم أنه يُحي الموتى ، وكم أذكر لك من تراهاتهم ومن كفرهم وشركياتهم هذه عند العوام إلا من رحمه الله أشياء مُسَّلم بها ، لو جئت تتكلم وتقول إن هؤلاء المقبورين الذين تسمونهم بأولياء إن كانوا أولياء فالله يتولى الصالحين وإن كانوا أعداء لله فهم عند ربك وبين يديه وربك سبحانه شديد العقاب وبطشه كبير على من يتعدى حدوده ، لكن لو قلت لهؤلاء : هؤلاء أموات لا ينفعون لا يضرون لا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، قالوا : هيا أنت تسب الأولياء إننا نخاف عليك أن يرسلوا لك بكذا وأن يعملوا بك كذا لأنهك يدّعون أن الأولياء هؤلاء يرسلون بالثعابين وبالحيات و و إلى آخره لينتقموا من لم يقم لهم الموالد .(141/14)
تعرفون أن الصوفية بدأت بعمل المولد ، ليش تفعلون المولد للرسول ؟ قالوا : نعظم الرسول ونحب الرسول عليه الصلاة والسلام ، حبه واجبٌ علينا حبه واجب على كل مسلم على كل من نطق بلا إله إلا الله ، لكن ماذا تعمل الصوفية ؟ بدءوا بادعاء أن المولد للرسول وهنا السؤال لماذا عملوا موالد لهم ؟ أحمد البدوي يعملون له مولد هؤلاء الموالد الكبار السنوية العظيمة التي تحتشد لها العالم والأمم ، أحمد البدوي مثلاً معه ثلاثة موالد في السنة مولد لموته ولمولد لحياته أعظم من الرسول عليه الصلاة والسلام !!! ومولد هذا المولد باعتبار ما كان عليه من العظمة في نظرهم ، هذه الموالد انظر كيف بدءوا بالبدعة محصورة على الرسول ثم وسعوها كذلك موالد لأحمد بن علوان موالد للدسوقي كذلك موالد للشاذلي كذلك موالد للرفاعية وكم وكم أذكر لك ، بل يا أخوة ذكر بعض المؤلفين أن الطوائف الصوفية والفرق الصوفية بلغت في مصر إلى أثتين وسبعين فرقة ، انظروا من الذي مزق الأمة من الذي فرق الأمة كل فرقة من أثنين وسبعين فرقة عندها عادات وعندها منكرات وعندها شركيات تختص بها دون الثانية ، هذا في دولة واحدة وذكر بعض المؤلفين أن في السودان ثلاثة وخمسين طريقة صوفية ، يعني فرقوا الأمة إلى مأتي فرقة انظر هذه الشركيات والبدع ماذا عملت في الأمة ، بل ذكر عبد الحميد السلطان الثاني للدولة العثمانية أن بلغ من دخل في الشاذلية إلى حد أربعين مليون ، أربعون مليون هؤلاء دخلوا فقط في بدعة وشركيات أبي الحسن علي الشاذلي الذي هو مدفونٌ في بلاد المغرب ، انظر إلى هذا الحد ، نحن نتكلم ونحن مجروحون وديننا مسلوب عقيدتنا ضائعة ، أمة أدنى شيء يرجع إلى صاحب القبر أدنى شيء يرجع إلى الساحر إلى المنجم إلى الكاهن إلى غير الله رب العالمين ، صار المسلم مضيعاً إلا من رحمه الله . لنأتي إلى الصوفية والسحر ، الصوفية وأفعال السحر وأفعال التنجيم وأفعال الشعوذة والخرافات قد لا تصدق(141/15)
معي أن أقطاب الصوفية هؤلاء أنهم أهل السحر وأهل التنجيم وأهل الشعوذة وأهل الخرافة ، ولكن إن شاء الله عند أن تسمع الإثباتات ستعلم أني أقول وأنا صادقٌ وعالمٌ بما أقول وما أتكلم : كلكم تعرفون كتاب [شمس المعارف] ما أظنه أحدكم يجهله ، والذي يجعله أخشى أن يكون ممن يعمل بما فيه من الكفر عياذاً بالله ، كتاب [شمس المعارف] هذا كتاب كفري كفرٌ أكبر وشركٌ أكبر فيه أجمع علماء الإسلام على أنه كذلك ، من ألفه ؟ ألفه شخص أسمه أحمد بن علي البوني هذا الرجل صوفي ، الرجل هذا يذكر في مقدمة الكتاب مشايخه من الصوفية الذين أقروه على تأليف هذا الكتاب وعلى نشر هذا الكتاب يذكر منهم الشاذلي ويذكر منهم أبا مدين الذي يُسمى بالغوث يعني أنه يغيث العالمين ويجير العالمين وذكر كثيراً من أقطاب الصوفية منهم من يكون مشاركاً ومنهم من يكون متهماً ومنسوب إلى هذا الفعل زوراً وبهتاناً ، ولكن لتعلموا أن الصوفية هم رائدة السحر والدجل والتنجيم وجميع أنواع الطلاسم والشعوذة في الأمة ، أما تذكروا قبل أيام في البدوادي أنهم كانوا إذا خرجوا يستسقون يقولون وبحق بالباء وبحق التاء وبحق الجيم وبحق الخاء وبحق الحاء إلى آخره طيب من أين جائتنا هذه الكلمات ؟ هذه الكلمات شركية متى عُلم أن حرف الباء فيها أسرار ؟! لكن الصوفية يقولون إن الحروف الهجائية هذه لها أسرار يجعلون الحرف الواحد يُعطي كذا ويمنع من كذا ويدفع كذا إلى آخره هذا الذي وجد في البلاد إنه أخذٌ عن الصوفية ، هذا المثال الأول . المثال الثاني تعرفون كتاباً عنوانه < الحكمة في الطب والرحمة > هذا الكتاب منسوبٌ إلى الإمام السيوطي زوراً وبهتاناً كما نبه على ذلك غير واحد من العلماء ، هذا الكتاب من ألفه ؟ ألفه واحد يمني أسمه محمد بن مهدي الصبيري أو هكذا ، هذا الكتاب كتاب كفر وشرك وشعوذة يقول صاحب هذا الكتاب وهو يتكلم عن علاج العين إذا انطفئ السواد إذا طفئت علين الشخص هو يقول تعالج(141/16)
بماذا ؟ يذكر في كتابه هذا يقول : من أخُذ بصره وأصيب بالبياض فعليه أن يأخذ دم الحيض من امرأة شابة لم ينكحها أحد وأن يخلطه مع المني ويكحل به عينه هذا موجود في هذا الكتاب ، هذا الرجل الذي ألف هذا الكتاب يمني صوفي من الصوفية انظر هل تؤتمن الصوفية على دين الله رب العالمين إذا كانوا يدعوننا إلى الكفر الصُراح ، وإذا كانوا يسلطون علينا الجن والعفاريت والشياطين ويتعاملون معهم كيف نأتمنهم على دين الله كيف نقبلهم أن يكونوا أئمة أن يكونوا خطباء أن يكونوا دعاة في بلاد رب العالمين وفي بلاد الإسلام والمسلمين . كذلك أيضاً أخبرني أحد الأخوة أن أحد الصوفية في اليمن لا أحب أن أذكر مكانه ، أنه جاءه عسكري من قِبلِ الدولة فقال له : قف هنا حتى ارجع من صلاة الجمعة فوقف العسكري ولم يتحرك ، ما الذي جعله يقف ولا يتحرك ولا يجلس حتى مع العلم أنه يحتاج إلى أن يجلس ما الذي جعله ؟ الجن ، الصوفية يتعاملون مع شياطين الجن يتفقون مع شياطين الجن ضدنا ، ولهذا والله لقد سُحر كثيرٌ من طلبة العلم الذين يطلبون علم الكتاب والسنة وسُحر كثير من المسلمين عن طريقهم إذا بدءوا يتمسكون بدين الله رب العالمين ، من خرج عن صوفيتهم وعن شعوذتهم وخرافتهم أرسلوا له بجني .(141/17)
أيضاً الرفاعية من المعلوم قطعاً أن ابن تيميه رحمه الله تناظر مع الرفاعية ، الرفاعية أعلنوا في الأمة أنهم يدخلون في النار ولا تحرقهم وأعلنوا في الأمة أنهم يستمرون الأيام بدون أكلٍ وكذلك أيضاً أعلنوا أموراً خطيرة لا يقبلوها العقل ، فجاء ابن تيميه وجادلهم وناقشهم فكانوا يقولون أدخل معنا في النار فقال : أنا مستعد أدخل معكم في النار بشرط أن تغتسلوا بالماء والصابون ومن ثمَ ندخل سوياً فأبوا أن يدخلوا في النار بعد أن يغتسلوا ، فسأل ابن تيميه لماذا ؟ قال : لأن هؤلاء عندهم دجل يطلون أجسامهم بأشياء فلا تؤثر عليهم النار فإذا غسلوها قضت عليهم النار ، بل أعظم من هذا كله أنهم يعملون أشياء في الحقيقة أنها تعامل مع الجن مباشرة ، والذي لا يعرفهم يقول أن هؤلاء يُعطون الكرامات أن هؤلاء عندهم مدد من عند الله سبحانه وتعالى وما عندهم مدد ولكن عندهم جن يتعاملون معهم ويقولون للأمة إنهم أصحاب تقى وصلاح وأنهم بسبب صلاحهم يُعطيهم الله عز وجل الكرامات ، أضرب لكم مثالاً من دجلهم وشعوذتهم وشركياتهم ذكر بعض المؤلفين أنه كان في البحر فبدأت الأمواج تشتد وكادت السفينة أن تغرق فقام الناس يقولون يا الله فمن كان صوفياً كان ينادي يا ابن عيسى يا ابن عيسى يا ابن عيسى والناس يقولون لهم اتقوا الله وقولوا يا الله نادوا رب العالمين ادعوا رب العالمين قالوا إنكم تكرهون الأولياء وأنتم أعداء الله وأنتم الوهابية ، فلما خرجوا من البحر قالوا لهؤلاء الذين كانوا يقولون لهم ادعوا الله قالوا لهم انظروا ما أنقذنا إلا ابن عيسى من البحر ، وهكذا قالوا إن عبد القادر الجيلاني أنقذ سفينة من البحر بعد سبع سنين من أن غرقت ولماذا ما ينقذها في لحظتها ويريح الأمة من الشر ولكن هكذا يأتون فيعتقدون أن هؤلاء يعملون ما يشاءون ، وكذلك أيضاً بعضهم أنه حصل بعضهم أنه جاء وتكلم عن أحمد البدوي فقال له رجل صوفي إن أحمد البدوي لا بد أن ينتقم منك فماذا(141/18)
حصل ؟ أُرسل لهذا الرجل بجني فصرع فقالوا شوف انظر كيف انتقم منك أحمد البدوي ، أحمد البدوي رجل مات ما يَملك شيئاً أبداً ولكن أتباعه الذين يريدون هلاك الأمة إلا أن تعبدهم من دون الله يرسلون بالجن والعفاريت إلى المسلمين ويقولون لهم إن هذا هو صاحب القبر ينتقم منكم ، وكم من هذه الأمور كم . إذاً أيها الأخوة محن الصوفية كثيرة وبلاء الأمة بها عظيم ، يهون يا أخوة السَرقة كبيرة من الكبائر ، الزنا كبيرة من الكبائر ، القتل قتل المسلم كبيرة من الكبائر العظام ، الغش والخداع والمكر والرشا والربا وجمع المعاصي كلها خطر علينا ، لكن كلها لا تبلغ مبلغ الشرك بالله رب العالمين سبحانه ، من وقع في الشرك فقد صادر دينه كله ما يبقى معه دين يُحبط الله أعماله لا يُجبر له عمل ولا تُقبل له طاعة وليس من أولياء الله بل من أولياء الشيطان ومن أعداء الرحمن وليس يستحق رحمه الله فضلاً منه وإحسان وإنما يستحق عذاب الله إن مات على ذلك ، فلهذا قال الله : { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، فالذنوب نرجو من ربنا الرحمة وإن متنا وعندنا معاصي ، لكن إذا كنا موحدين إذا كنا لا نشرك به شيئاً ، أما إذا لقينا ربنا وقد أشركنا به ما ينفعنا أيُ عملٍ صالح لو تتقطع أجسامنا من كثرة الصلاة والصيام لو نذبح أنفسنا لربنا وعندنا شرك ما تقبل الله عز وجل من عبدٍ طاعةً ولا عبادة حتى يخلص عمله لله .(141/19)
إذاً أيها الأخوة نحن بحاجة من أن نحذر الأمة من أن يذهبوا إلى السحرة وعند المنجمين وعند المقذي والذي يضرب ما بالضمير كما يُقال والذي يرد السرائق والضائعات وعند المسفل وعند المسفلة ، وفي أيامنا زاد الشرك بالله رب العالمين ، هذه الأيام القريبة التي حصل فيها شيءٌ من القحط وتأخر المطر يذهب أناس لا أحتاج أن أذكر مكانهم يذهب أناسٌ إلى أحد السحرة ويقولون أعمل لنا ورقة من أجل أن ينزل المطر ، انظروا هذا في بلادنا لا تظنوا أن بلادنا بخير صحيح فيها خير فيها دعوة إلى الكتاب والسنة إلى منهج السلف فيها علماء ناصحون فيها دعاة فيها طلبة علم يتعلمون الخير يتعلمون الكتاب والسنة لكن أيضاً لا ننسى ولا نغفل أن هنالك من يسعى جاهداً لتثبيت الكفر والشرك بالله رب العالمين سبحانه وتعالى ، ولهذا أيها الأخوة الآن دخلت فرقتان جديدتان صوفيتان إلى اليمن ، فرقة برهانية وهذه سمعنا قبل أيام أنها قد سكنت في صنعاء فيا ويل أهل صنعاء ، وفرقة ثانية وصلت إلى تهامة تسمى الفرقة التيجانية ، هذا وارد خارجي يأتي إلى اليمن ما كفى اليمنيين ما هم فيه من بلاء فيما يتعلق بالشعوذات والخرافات وعبادة أصحاب القبور ، عند الأيام التي مضت في شهر ربيع الأول يجتمعون عن قبرٍ يسمونه قبر الشاذلي مع أن الشاذلي في بلاد المغرب ولكن كذابون لأنهم يعتقدون الصوفية يعتقدون أن الولي يظهر في كل مكان وأن الولي موجود في كل مكان ، ولهذا يقولون أبنوا له في أي مكان ، مثلاًً الحسين بن علي رضي الله عنه أحد سيد شباب أهل الجنة معروف أنه مدفون في كربلاء ولكن تجد له عشرات القبور في مصر ما الذي أوصله إلى مصر ، قل لي في بلاد المغرب قل لي في الهند قل لي قل لي قل لي إلى آخره هكذا عقائدهم ، فعلى كلٍ هذا وارد جديد إلى بلادنا عياذاً بالله ، فالمطلوب منا أن نتيقظ أن نتنبه أن نلتزم أن ننصح للأمة أن نحذر الأمة نحن والله ما نحب أن يفوتك عملٌ صالح ولا أن تُحرم من(141/20)
الجنة من نحب أن يبطل الله أعمال المسلمين نحب للمصلي أن يدخل الجنة بسبب صلاته وبسبب صيامه ، ولكن إذا لم يكن موحدا كما سمعتم قبل قليل . فالنصيحة منا مطلوبة لمجتمعنا وشعبنا والتحذير من أنواع الشركيات الموجودة في البلاد ، ولا تنسوا أن الصوفية يتعاونون مع كل عدو ، الحزب الاشتراكي في بلادنا نصرته الصوفية ، التتر نصرته الصوفية ، الانجليز بريطانيا ومن جرى مجراهم من أعداء الإسلام من يهود ونصارى نصرتهم الصوفية ، فالصوفية هم ليسوا معنا لا في أول الأمر ولا في آخره ، فليحذر كل مسلم من أن يتعلق بهذا الصنف . ولهذا اسمع إلى دعوة الصوفية إلى تعليق الحروز والعزائم والحلتيت والبحت اسمع كيف يقولون هذا كتاب [دلائل الخيرات] هذا كتاب منتشر موضوع في المساجد هذا الكتاب للجزولي وهذا صوفي من علماء الهند اسمع كيف يصلي على النبي في هذا الكتاب وهذا من ورد يوم الأحد يقول : اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم ، ووحمت الحوائم ، وسرحت البهائم ، ونفعت التمائم ، انظر دعوى إلى الشرك ، التمائم تنفع الحروز تنفع ، ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام كما جاء من حديث عبد الله بن مسعود عند أحمد وغيره ( من علق تميمة فقد أشرك ) وهم يجعلون التمائم أنها التي هي التي تنفع ، لهذا الصوفية يرون التوحيد شركاً ويرون الشرك توحيداً عياذاً بالله فهم معكوسون منكوسون فهذه دعوتهم إلى جميع أنواع الشر والبلاء . نسأل الله عز وجل أن يحفظ أمتنا من هذه الشرور ومن هذه الفتن ، وحد ربك تعلم العقيدة الصحيحة تعلم دينك لا تبقَ دائماً وأبداً مركبة من جاء ركب عليك من جاء خدعك من جاء لطمك من جاء أخذك من جاء أزاغ قلبك وحرف عقلك لا ، تعلم دينك تعلم ، الحمد الله دعوة أهل السنة والجماعة قائمة على قدم وساق ومنتشرة في البلاد والشعب كله سني بحمد الله رب العالمين ولكن بعض الناس ينقصهم العلم ينقصهم الدعاة ينقصهم العلماء الناصحون فإذا وجد هؤلاء(141/21)
من ينصحهم ويأخذ بأيديهم لو جدت الخير الكبير . نسأل الله أن يثبتنا وإياكم وجزاكم الله خيراً وإلى هنا ،،،
أسئلة تتعلق بالموضوع
س 1 / ما صحة هذا الحديث : ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ) ؟
جـ / هذا الحديث والحديث الآخر ( من حج ولم يزرني فقد جفاني ) وما أشبهها من الأحاديث التي فيها الترغيب لزيارة قبره هذه غير صحيحة وقد تكلم عنها بتوسع الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه < الصارم المنكي في الرد على السبكي > لأن بعضهم ادعى بأنه يجوز الاستغاثة والتوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام وهذه من الذرائع إلى الشرك بل من الشرك بالله رب العالمين سبحانه ، فيشرح للمسلم الآفاقي أنه إذا زار مسجده عليه الصلاة والسلام شُرعت له زيارة قبره كما جاء في البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد ومن حديث أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( لا تشد وفي لفظ لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا ) فشد الرحال لا يجوز باعتقاد زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام ، ولكن الصوفية يحثون الناس بل ويُجبون عليهم أن يشدوا الرحال إلى عبادة الأضرحة .
س 2 / ما هو تفسير بعض الكرامات التي تحدث لأصحاب القبور كشفاء بعض المرضى أو أو إلى آخره ؟(141/22)
جـ / على كلٍ هذه لا تُسمى كرامة إنما هذه أمور دجل وشعوذة وخرافات فالكرامة لا بد أن يكون صاحبها على صلاح هذا واحد ، الثاني أن تكون الكرامة في أمور طيبة وأمور خير لا تكون داعية إلى الشرك ولا إلى المعاصي فإن الأحوال الشيطانية هذه من أمور السحر والمعاصي ، ولهذا يقول الذهبي رحمه الله عند أن تكلم عن أحمد الرفاعي قال : وله أتباع فيهم زغل ولهم أحوال شيطانية ، فهم يدّعون أن هذه كرامات عند أن يأكلوا النار أو يدخلوا في النار أو عند أن يضربوا بالسيف على الرؤوس وما تقطع يدّعون أنها كرامات ولكنها في الحقيقة أحوال شيطانية وليست بكرامة أبداً يتفقون مع الشياطين على صور معينة فيخدعون الناس ويسحرون أعين الناس فيظن الناس كما يظنون هم والأمر على غير ذلك فمثلاً لعلكم تذكرون قبل أيام مضت أنه كان يمر على البيوت رجل يقول هو مجذوب ابن علوان وعنده السكين يطعن في عينه في جبهته في صدره إلى آخره فأنت تشاهد تقول السكين دخلت إلى آخرها وهي ما دخلت ولا وصلت إليه أبداً ، وإنما الشياطين يلعبون على أعين الناس كما قال الله : ? وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيم ? فهؤلاء لهم دجل عظيم على الأمة وكما سمعت ليس لهم كرامات ما داموا على العصيان والانحراف ، ولهذا يُذكر عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال : إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي فوق الماء لا تصدقوه حتى تعرفوا كيف وقوفه عند حدود الله ، على سبيل المثال ذكر شمس الدين الأفغاني في كتابه < جهود علماء الحنفية في إبطال القبورية > ذكر عن عدة مشائخ من الصوفية أن بعضهم كان يذهب إلى البحر ويقول للمريد أتبعني فإذا وصل إلى شفير البحر صعد فوق الماء يمشي فإذا جاء المريد يريد يصعد سقط على البحر في الماء فكيف يقول الشيخ هذا للمريد الذي بعده ؟ المريد الذي يريده يطلب العلم عنده يقول له : إذا أردت أن تطير بعدي نادني أنا وأدعوني أنا لا تدعُ الله فيقول : يا فلان(141/23)
يا سيدي فإذا به يؤخذ فوق الماء ويمشي فوق البحر ويقطع البحر وينتقل على مسافة بعيده جداً ، هذا عن طريق أيش ؟ عن طريق الجن ، ولهذا الصوفية دعاويهم وشطحاتهم واسعة ، ألا تعلمون أن بعضهم يقول : إنما أصلي في الكعبة ما يصلي عندنا بل مما ذكروا ذكره الصيادي في كتابة < قلادة الجواهر في مناقب أحمد الرفاعي وأصحابه الكبائر > هو منهم قال : إن أحمد الرفاعي صلى الصبح في مكة والظهر في المدينة والعصر في بيت المقدس والمغرب في بعلبك والعشاء في جبل قاف جبل قاف هذا أظنه يقع في لبنان انظر على دجل هذا قبل الطائرات ما معنى أن هنالك طائرة نقلته في هذه الأماكن بسرعة ولكنهم يدّعون شطحات من جهة ومن جهة ثانية قد يتعامل معهم الجن ويأخذونهم من مكان إلى آخر وهي طريقة كما سمعت شركية وشيطانية لكنهم يسمونها كرامات ، إذاً فهذه ليست بكرامات أبداً .
س 3 / ما صحة حديث ( لعن الله زائرات القبور ) ؟
جـ / الحديث جاء عن ابن عباس وعن أبي هريرة وعن حسان وحديث حسان وأبي هريرة صحيح وحديث ابن عباس ضعيف وهو بلفظ ( لعن الله زوارات القبور ) زوارات صيغة مبالغة أي أنهم يكثرن من زيارة القبور فهذا ضعيف ، ( لعن الله زائرات القبور ) هذا صحيح وهذا الذي استحضره ، وعلى كلٍ العلماء يجمعون بينه وبين غيره من الأحاديث والأصل في زيارة النساء للمقابر الكراهة فلا لا يجوز للمرأة أن تزور المقابر إلا بالضوابط الشرعية فمتى وُجدت الضوابط الشرعية جاز للمرأة أن تزور المقبرة كما أذن الرسول لعائشة صلى الله عليه وسلم وكذلك أيضاً كما حصل من أكثر من امرأة في عهده ، لكن إذا كانت المرأة ليس عندها معرفة فلا يجوز لها زيارة القبور والناس قد صاروا في جهل عظيم فلهذا لا يجوز للمرأة أن تزور المقابر إلا بعد تنفيذ هذا الشرط .
س 4 / هل يجوز هدم الأضرحة بدون استثناء حتى لو كانت قبور الخلفاء الراشدين ؟(141/24)
جـ / ينبغي أن يكون لعلمك أن الصحابة من حرصهم على سلامة دين الأمة أنهم قُبورا في أماكن ما يُعرفون بخلاف الصوفية فإن الواحد منهم يوصي أن يُدفن في المسجد الفلاني وللأسف الشديد أني أُخبرت أن أمير جماعة التبليغ إنعام الحسن الذي توفي قريباً أنه دُفن في مسجد جماعة التبليغ الذي هو مسجد اللقاء الكبير وبجانبه ثلاثة قبور في داخل المسجد ، فأريد أن تعرفوا أن جماعة التبليغ هم صوفية صغيرة هم صوفية في الطريق ، فلهذا أحذروا ، تعلمون أن الصوفية يوصون أن يُدفنوا في المساجد لماذا ؟ من أجل بعد أيام أن يُعبدوا من دون الله ، ألا ترون ماذا يُعمل بالأضرحة التي بالمساجد التي يقال عنها إنها وإنها كمثل العيدروس في عدن وكمثل أحمد بن علوان وكمثل الهادي وكمثل وكمثل ، فلهذا إن الصحابة من حرصهم على الأمة غُيبت قبورهم علي بن أبي طالب التي أُدعيت فيه الألوهية من قِبل عبد الله بن سبأ وغيره ماذا عمل الصحابة لما تُوفي علي والمسلمون آنذاك ؟ أخفوه وغيبوا قبره إلى الآن لا يُدرى أين قبره منهم من يقول دُفن داخل قصر الإمارة ومنهم من يقول دُفن في كذا ومنهم من يقول في كذا على كلٍ إلى الآن قبره غير معلوم لماذا هذا ؟ حتى لا يُعبد من دون الله رب العالمين سبحانه ، لماذا الرسول عليه الصلاة والسلام دُفن في تلك الغرفة ولم يُدفن في غيرها لأن النبي يُدفن حيث يموت وكذلك أيضاً خشية أن يعبده الناس من دون الله رب العالمين ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً ) أي يُعبد من دون الله رب العالمين فالصحابة رضي الله عنهم ما كانوا حريصين على أن تُعرف قبورهم خشية أن يُعبدوا من دون الله رب العالمين سبحانه ، فالأضرحة هذه لا يجوز وجودها في المساجد ولا يجوز بناء شيءٍ عليها وإنما يُقبر العالم كما يُقبر المسلمون في مقبرة المسلمين ، يا أخوة الصحابة أين قُبر عثمان بن عفان رضي الله عنه أين قُبر ابن مسعود أين قُبر ابن عباس(141/25)
كل هؤلاء قُبروا مع المسلمين فلماذا هؤلاء يستنكفون عن أن يُقبروا مع المسلمين ؟ لا يجوز تنفيذ وصية من أوصى أن يُدفن في المسجد لا يجوز أبداً وصية باطلة وتنفيذها محرمٌ ، فلهذا رب العالمين يقول : { فمن خاف من موصٍ جنفاً أو أثماً فأصلح بينهم فلا أثم عليه إن الله غفورٌ رحيم } والأضرحة لا بد من تهديمها وإزالتها ووجودها في البلاد إنما يدل على تخلف المسلمين وأنهم صاروا أتباع لكل مشعوذ ومخرف إلا من رحمه الله رب العالمين سبحانه وتعالى ، ولكن يبقى علينا من يُخربها ؟ ندعوكم جميعاً إلى تخريبها لكن كيف ؟ تخريبها من القلوب بينوا للناس الدين الناس قد يتعصبون لأصحاب القبور هذه أيما تعصب لكن إذا عرفتهم بالحق وإذا أسمعتهم كلام الله وكلام رسوله وبينت لهم ما عليه علماء المسلمين من أهل السنة والجماعة هنالك المسلم يرجع إلى الله ويتوب إلى الله رب العالمين سبحانه ، فلهذا دعوة أهل السنة والجماعة نحمد الله أنها قد أطاحت بالصوفية بالرغم أن اليمن الجهة السفلى كما تُسمى أنها كانت بأيدي الصوفية ، الخطيب منهم الإمام منهم الحروز والعزائم العقد بأيديهم كل قضية من عند الصوفي هذا المخرف ، اليوم يطردهم الناس من المساجد يقولون لهم ما عرفنا منكم إلا الشر ما علمتمونا إلا الحروز والعزائم والحلتيت والبحت وتحكيم الزيران ما علمتمونا شيئاً من دين الله رب العالمين سبحانه أيش نريد منكم كيف تكونون أئمة ؟ فلهذا لا بد من محاربة الأضرحة بالطريقة التي نستطيع وهي نصح الناس وتحذير الناس من أن ينذروا لها أو أن يذبحوا لها أو يسرجوا إلى آخره وندعو من استطاع أن يخربها من أهل القرى فجزاه الله خيراً ، أما أننا نصطدم بإخواننا وآباءنا المسلمين الذين هم نحمد الله على فطرة طيبة يحتاجون إلى نصحٍ ويعرفون ويعودون إلى الحق فلسنا بحاجةٍ أبداً إلى أن نصطدم بهم .(141/26)
شعر البرعي
في
ميزان الكتاب والسنة
قدم له فضيلة الشيخ :
عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان
المحاضر بجامعة الإمام محمد بن سعودالإسلامية
كتبه:
عمر بن التهامي بن عبد الرحمن
مقدمة فضيلة الشيخ : عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فإنَّ الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتمَّ علينا النعمة ورضىَ لنا الإسلام ديناً .
ومن ثمار ذلك الإكمال والتمام والرضى بيان أبواب الخير والحثّ عليها والترغيب في ولوجها . وبيان أبواب الشرِّ والتحذير منها والترهيب من قُربها .
وكان من ضمن أبواب الشرِّ المحذَّر منها : الأئمة المضلون . كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ... وإنما أخاف على أمتي الأئمَّة المضلين ... ". أخرجه أبو داود وغيره عن ثوبان رضي الله تعالى عنه؛ وهذا من كمال شفقته وتحذيره - صلى الله عليه وسلم -لأمته ؛ ذلك لأنَّ ضرر أُولئك الأئمَّة يتعدى إلى شريحةٍ كثيرةٍ من الناس ممن يسمع منهم أو عنهم فيُخْدع بهم وبخاصةٍ أتباعهم ومن سار في ركابهم , ويزيد شرُّ أولئك الأئمَّة ويعظُمُ خطرهم وضررهُم إذا كان ضلالهم عقائدياً .
وفي هذه الرسالة سترى بياناً وردّاً لأنواع من الضلال العقدي : مِن وصف الله تعالى بالنقائص ، ومن إسباغ بعض صفات الخالق على بعض المخلوقين ، ومن تعليق فلاح الناس ونجاحهم باتباع بعض الناس دون الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن تقرير وحدة الوجود ،والحلول والاتحاد . كل هذه الضلالات وغيرها سترى بياناً شافياً وردَّاً مُفحماً مُلزِماً قام به الشيخ عمر التهامي. بعد ما تتبَّع بعض الأشعار التي تضمَّنت هدم التوحيد وبناء الشرك .(142/1)
فجزى الله الشيخ عمر التهامي خير الجزاء على نصرته للتوحيد وأهله كما نسأله عز وجل أن يردَّ من ضلَّ إلى صراطه المستقيم ودينه القويم وليعلم من كان ذا أتباع أنه إن أحسن فله مثل أجورهم لا ينقص من أجورهم شيئاً ، وإن أساء فعليه مثل أوزارهم لا ينقص من أوزارهم شيئاً ، اللهم أعز التوحيد وأهله وارفع رايتهم واجمع شملهم .
والحمد لله الذي بنعمته تم الصالحات .
عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان
الرياض : 20/9/1423هـ
مقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له . وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، أما بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
ثم أما بعد :
فاعلم رحمك الله أنّ كثيراً من شيوخ الطرق الصوفية وأتباعهم يعتقدون اعتقادات فاسدة منها ما هو كفر صريح بالله ، ومنها ما هو دون ذلك . فمن الاعتقادات الكفرية التي يعتقدونها والتي تخرج صاحبها من الإسلام ، اعتقادهم أنَّ الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً يتصرّفون في هذا الكون ، وينوبون عن الله في تدبيره ، فيرزقون العباد ، ويُحيون ويُميتون ، ويُسعدون ، ويُشقون ، ويُعزُّون ، ويُذلُّون ، وأنهم يعلمون الغيب .
ليس هذا فحسب بل يعتقد بعضهم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - يحل في الصالحين ويتحد معهم ، فيصبح الصالح كأنّه هو الله، بل هو الله ، وهؤلاء هم أتباع الحلاج وغيره من الزنادقة ، ويعتقد بعضهم كذلك وهم أتباع ابن عربي أن كل شيء في الوجود هو الله ، حتى الكلب والخنزير - تعالى- الله عمّا يقولون علواً كبيراً ، وهؤلاء هم شرُّ طوائف أهل الكفر على الإطلاق كما بيَّن ذلك أهل العلم .(142/2)
هذا بعض فسادهم في الاعتقاد ، وأما فسادهم في العبادة فهو أكثر من أن يُحصر ، فهم يعبدون الصالحين في غيابهم وبعد موتهم فيدعونهم ويستغيثون بهم في جميع أحوالهم سواءً في الرخاء ، أو الشدة ، بل في الشدائد لا يلجأون إلاَّ إليهم . ويذبحون وينذرون لهم ويطوفون بقبورهم .
ويتبرَّكون بها ، ويُعفِّرون وجوههم في ترابها ، ويبكون عندها ، ويتذللون لأصحابها ، ويخشعون عندهم أكثر من خشوعهم لله ، ويخافون منهم وهم أموات أشد من خوفهم من الله ، لذلك قد يحلف أحدهم بالله كاذباً ، ولا يحلف بشيخه إلاَّ وهو صادق . ويثنون على الصالحين أكثر من ثنائهم على الله ، ويلهجون بذكرهم .
وإذا عبدوا الله عبدوه بالبدع المحدثات والأمور المنكرات ، فتجد أحدهم يرقص الليل كلّه ويستمع الدفوف والألحان ظناً منه أنها تقربه من الله ، بل تجد أحدهم يذكر الله آلاف المرات بذكر مبتدع ما أنزل الله به من سلطان ، فصاروا بهذه الاعتقادات والأعمال والأقوال من أشرِّ أهل الأرض ، وأخبثهم ، ومن أكفر الناس على الإطلاق.(142/3)
ومع كل هذه الاعتقادات الباطلة ، والكفر البيِّن ، والشرك الواضح الجلي ، والبدع المحدثة ، والمنكر العظيم ، يدَّعون أنهم أولياء الله وأحباؤه وأصفياؤه ، وأحباب رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- السائرون على دربه المتمسكون بسنَّته ، ولا غرابة في ذلك ، فهذا شأن أهل الباطل في كل العصور والأزمان ، فإنَّ اليهود والنّصارى مع كفرهم بالله ومحاربتهم له ، ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، أي أصفياء الله قال - سبحانه وتعالى - في سورة المائدة { وقالت اليهود والنّصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قُل فلمِ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر مِمَّن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير } (18) بل ادّعوا أنّه لا يدخل الجنة إلا من سلك طريقهم ، واهتدى بهديهم ، قال - سبحانه وتعالى - في سورة البقرة { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } (111) وكذلك المشركون مع أن سعيهم في الحياة الدنيا كلّه ضلال ، إلاّ أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً قال - سبحانه وتعالى - في سورة الكهف : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً (103) الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } (105) وأهل التصوف مع أنهم يعتقدون هذه الاعتقادات الباطلة ، ويعبدون الصالحين مع الله ، إلاّ أنهم يُبطنون هذه الاعتقادات ولا يُظهرونها ، بل يُظهرون للناس أنهم أهل زهد وورع وأنهم يحبون الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- ويُكثرون من مدحه والثناء عليه بمنظوم الكلام ، ومنثوره ، لعلمهم أنَّ عامَّة المسلمين والسواد الأعظم منهم تشدّه عواطفه لمدح النبي -- صلى الله عليه وسلم --، والثناء عليه ، ومن خلال هذه الأشعار وغيرها ينشرون باطلهم بطريق خفي ، وقد يظهرونه أحياناً ، ويدعون إليه(142/4)
جهاراً ، وأهم الأشياء عندهم جمع الأتباع وإخراجهم من عبادة الله وحده إلى عبادة الصالحين معه وترك الاستغاثة بالله وحده والاستغاثة بالصالحين معه ، سواءً الأحياء منهم أو الأموات ، ومن أهم أهدافهم أن يجعلوا الناس أتباعاً وعبيداً لهم ، ليس هذا فحسب بل يطلبون منهم أن يكون أحدهم أمام شيخه كالميت بيد المغسل .
فإذا انخدع الإنسان بهم وبما يظهرون من حب الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- وسلك معهم طريقتهم ، فعندها يزجّونه في الباطل شيئاً فشيئاً ، ويُعظّمون له شأن أوليائهم حتى يعتقد أنهم هم المتصرفون في الكون ، وأن الله أشركهم في الأمر والتدبير ، وأنهم إذا بلغوا مرحلةً معينة اتّحد الله معهم ، وحلَّ فيهم ، فيكون أحدهم كالله تماماً لا فرق بينه وبين الله في العلم والإحاطة والقدرة وجميع الصفات .
ومِن هؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في محاربة الموحِّدين ، والاستهزاء بهم ، والتنفير منهم ، والدعوة لهذا الفساد العظيم والشرّ الجسيم ، صوفي يُدعى عبد الرحيم البرعي ، سُمِّي على البرعي اليماني تبرُّكاً وتيمُّناً به ، وما أشبه الليلة بالبارحة فإنه اسم على مُسمّى ، فهو من الشعراء الذين يُكثرون من مدح النبي -- صلى الله عليه وسلم --، والأولياء الصالحين ، لكنَّه مع ذلك ما ترك معتقداً كفرياً فاسداً يعتقده غلاة المتصوفة ، إلا وصرّح به في هذا المديح ، فبدا جلياً خبث منهجه ، وسوء معتقده ، وهو وأتباعه على شفا هلكة ، وعلى خطر عظيم ، إن لم يرجعوا إلى الله ، ويتوبوا إليه مما يعتقدونه ويدعون إليه من الكفر القبيح ، والشرك الصريح ، فنسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى أن يهدينا وجميع المسلمين ، إلى الحق ، وأن يعفو عنا وعنهم إنه - سبحانه وتعالى - وليّ ذلك و القادر عليه .(142/5)
وفي هذه الرسالة المختصرة نستعرض معكم بعض الأبيات من أشعاره ، في مدح النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والأولياء الصالحين ، لتروا بوضوح تام الاعتقادات الكفرية البيّنة في شعره ، ولتروا الخطر العظيم على قارئها المعجب بها ، إذا لم يكن عنده شيء من العلم بالتوحيد الصحيح والعقيدة الصحيحة ، خاصة وأن قصائده وأشعاره انتشرت انتشاراً واسعاً في السودان ، وفي جميع الأوساط بين العامة والخاصة ، والكبار والصغار ، والرجال والنساء .
تنبيه : يجب أن يُعلم أن كثيراً من زنادقة المتصوفة كذبوا على كثير من الصالحين من سلف هذه الأمة ونسبوا لهم أقوالا شركية وكفرية هم بريئون منها كل البراءة كما نسب المشركون الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم شركهم إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وادّعوا أنهم من أتباعهما ، وفي هذه الرسالة سترد أسماء أناس ليسوا من أهل البدع المنكرة قد نسب إليهم هؤلاء المبتدعة الغلاة أقوالا هم بريئون منها ، لأن النقل إلى هؤلاء الصالحين غير صحيح ، لما عُرف عن المبتدعة الغلاة من الكذب والبهتان على الله ورسوله والصالحين من عباده ،ولما ثبت عنهم من التحذير عن مثل هذه الأقوال ، لذلك سيكون ردُّنا على شُبه هؤلاء سواء اشتمل على ذكر هذه الأسماء أو لم يشتمل ، ولهذا وجب التنبيه لمثل هذا .
الباب الأول
اعتقاد البرعي أنَّ الله سبحانه وتعالى يَحُلُّ في الأولياء الصالحين ويتَّحد معهم وتمنِّيه الوصول لهذه المرتبة المزعومة وثناؤه على أهل الحلول والإتحاد أمثال الحلاَّج والبسطامي
ما هي عقيدة الحلول الاتحاد:(142/6)
عقيدة الحلول والاتحاد التي يعتقدها كثير من المتصوفة تتلخص في أنّ العبد إذا وصل إلى مقام معيَّن من مقامات الولاية - أي صار وليّاً من أولياء الله حقيقة -حَلَّ الله - سبحانه وتعالى - فيه كما يَحِلُّ الماء في الكأس ، وأصبحت صفات ذلك العبد كصفات الله تماماً ، وهذه هي عقيدة الحلول. وبعضهم يقول إن الله يتَّحد بعبده كما يتَّحد الماء بالَّلبن فيصبح هو الله لا فرق بينه وبين الله في ذاته وصفاته وأفعاله ، وهذه هي عقيدة الاتّحاد. وهذه المرحلة التي يتَّحد فيها الله مع عبده أو يَحِلُّ فيه هي الغاية المنشودة عند أئمة المتصوفة ، بل عندهم من لم يصل إلى هذه المرحلة فإنه لم يصل إلى معرفة الله حقيقة . والسبيل عندهم لبلوغ هذه الغاية كما زعموا تمرين النفس بأنواع الرياضات والمجاهدات . وهذه العقيدة التي اعتقدها الصوفية سبب اعتقادهم إياها ناشئ من جهلهم العظيم بالله وأسمائه وصفاته ، واتِّباعهم لفلسفات الملاحدة والزنادقة ونظريات فلاسفة اليونان الوثنين وغيرهم " يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أَنَّى يؤفكون " .
أقوال أئمة التصوف التي تثبت قولهم بالحلول والاتحاد :
قال الحلاَّج في ديوانه ص (82) مُبيِّناً لعقيدة الحلول التي تبنَّا ها:
مزجت روحك في روحي كما فإذا مسَّك شيء مسَّني . ... تمزج الخمرة بالماء الزلال فإذا أنت أنا في كل حال .
في البيت الأول ادَّعي الحلاَّج أن الله اتَّحد معه كما تتَّحد الخمرة بالماء الزلال ثم بيَّن أنه أصبح هو الله في كل حال بعد هذا الاتحاد التام.
ويقول أيضاً في ديوانه ص (17) :
أدعوك بل أنت تدعوني فهل ياكُلَّ كلي وياسمعي ويا بصري . ... ناديت إياك أم ناجيت إياي يا جملتي وتبا عيضي وأجزائي .(142/7)
ويقول الحلاَّج في كتابه الطواسين ص (126): "إن الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافاً للعبد!! " وقال عبيد الله أحرار النقشبندي - وهو من كبار أئمة المتصوفة - كما في الأنوار الأقديسة للشعراني (ص 163):
"إنّ العارف من فنيت ذاته وصفاته في ذاته تعالى وصفاته فلم يبق له اسم ولا رسم " .
وقال البسطامي في كتاب النور من كلمات أبي طيفور (ص 1106) : "عجبت ممن عرف الله كيف يعبده ".
وقال في نفس الكتاب ص(101):"سبحاني سبحاني ما أعظم شأني حسبي من نفسي حسبي " ، ويقول أيضاً ص (79) : " سبحاني سبحاني أنا ربي الأعلى" .
قال الذهبي في السير في ترجمة الحلاج (14/313-353 ) :
"الحسين بن منصور بن محمد الفارسي الصوفي كان جده مجوسياً ، وكان الحلاج مشعبذاً محتالاً مقداماً جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم ويدَّعي عند أصحابه أنَّ الإلهية حَلَّت فيه ، قصد إلى الصين والهند في رحلة طويلة طور فيها أفكاره الصوفية وراض نفسه على التَّصوف الهندي ، قُتل على زندقته بحكم مجلس القضاء في زمن الخليفة المقتدر بالله جعفر بن المعتضد أحمد بن الأمير محمد سنة 309هـ " .
هؤلاء هم أئمة الهدى الذين يَقتدى بهم البرعي ، وهم مثله الأعلى ، لذلك سلك دربهم ، واتَّبع طريقتهم ، في وحدة الوجود ، وفي الحلول ، والاتحاد ، وأثنى عليهم ومدحهم وفضَّلهم على غيرهم من الموحِّدين ، بل إنَّ الموحِّدين عنده في إنكارهم على أهل وحدة الوجود ، كالكلاب النابحة كما صرَّح بذلك في ديوانه وهذا من جُرْأَته على الحقِّ ومشابهته لليهود الذين وصفهم الله بقوله : { ألم تر إلى الذين أتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً } ، (52) نسأل الله السلامة والعافية .
ونُلخِّص الأمور التي تُثبت أنَّ البرعي يقول بالاتحاد والحلول في النقاط الآتية:(142/8)
(1) ثناؤه على أئمة القائلين بالحلول والإتحاد كالحلاج والبسطامي وتمجيده لمقالتيهما الكفريتين واعتباره أن ما تفوَّها به من الكفر هو قمة المعرفة .
قال في قصيدته ( اذكر إلهك رب العرش ) صفحة (67) من ديوانه رياض الجنة :
وخمرة الذكر بين القوم صافية بكر على أيدي أبكار تدار قال الحسين على معبود كم قدمي وقائل خضت بحراً زاخراً وقفت طوبى لمن ذاق منها رشفة غسلت . ... رقت وراقت على لون من الطاس فلا تصدع ناشئ منها على الرأس وضعته ياله من عارف كاس بساحل منه رسل سادة الناس ما حاك في الصدر من ران وأد ناس .
والحلاج هو الحسين ابن منصور وهو القائل ( إن إلهكم الذي تعبدون تحت قدمي هذه )، وأبو يزيد البسطامي هو القائل (خضنا بحراً وقفت الرسل بساحله) فدَّل ثناء البرعي عليهما ، وتمجيده لمقالتيهما على أنه يرتضي منهجهما كل الارتضاء ، بل يقول بالحرف الواحد : (طوبى لمن ذاق رشفة من تلك الخمرة التي شرب منها الحلاج وأبو يزيد فجعلتهما يتفوَّهان بما قالا من الكفر!!! ).
(2) اعتباره أنَّ قتل الحلاج كان ظلماً :
قال في قصيدته قمر السماء صفحة (149) من ديوانه المذكور:
يتهافتون على الربا بضراوة وعلى . ... التكاثر منه والإنتاج .
إلى أن قال :
سفكوا دماء الأبرياء ظلموا . ... كما سفك الذين خلوا دم الحلاج .
في هذا البيت لم يتورَّع البرعي أن يصف أهل العلم الذين أفتوا بكفر الحلاج ، وكذلك الحكام الذين طبقوا فيه حكم الله ، لم يتورَّع أن يصفهم بالظلم ، وفي نفس الوقت يثني على أهل الزندقة والكفر ، فدَّل هذا بما لا يدع مجالاً للشك أنَّه يؤمن بعقيدة الحلول والإتحاد .
(3) سؤاله الله أن يمُنَّ عليه بالإتحاد معه:
قوله في قصيدته الخضرا أم قزاز صفحه (271) :
له صلى الأحدا بها برعى اتحدا . ... عد ما حادي حدا في رقاد الوحدا .
وقال في قصيدته من مكة سار ذهاب .
صلى سلم يا أحد البرعي اتحد . ... لي من أقام الحد وبدا ساسه بالأحد .(142/9)
في هذه الأبيات يسأل البرعي الله - سبحانه وتعالى - أن يمُنَّ عليه بالاتحاد معه ، مما يدلّ على أنّه يعتقد أنَّ الله يَحلُّ في الصالحين ويتَّحد معهم فيصير بعدها الصالح كأنَّه هو الله له نفس صفات الإلهية، كما زعم ذلك النّصارى في أنّ الله حلَّ في المسيح واتّحد معه . فسبحانه وتعالى عن أماني المخرّفين ، وسؤال الجاهلين ، وزندقة الملحدين ، وهذا ليس بمُستغرب على الصوفية فإنّ أصحاب الطريقة الشاذلية لهم نفس الدعاء فمن أورادهم " وزج بي في بحار الأحادية وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحسّ إلا بها " من كتاب النفحة العلية في الأوراد الشاذلية (ص 16 ) .
الرد على البرعي وغيره من الصوفية القائلين بالحلول والإتحاد .
أولاً : هذه العقيدة كغيرها من العقائد تحتاج إلى دليل من الكتاب أو السُّنَّة صريح صحيح لأنه ما من عقيدة يجب على المسلم اعتقادها إلا ووضَّحها الله أتَّم وضوح في كتابه أو سُنَّة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- حتى إنَّ أقلَّ النّاس فهماً وإدراكاً يستطيع فهمها وإدراكها بدون أيّ مشقَّة وتكون عنده من أكثر الأشياء وضوحاً لذلك من يعتقد أنَّ الله يحلُّ في عباده أو يتَّحد معهم فليأت بالدَّليل على هذا الاعتقاد ، وطلب الدليل ممنَّ يقول بهذا القول هو من باب تعجيزه ودحض باطله ، وإلا فإنَّه ليس لهذه العقيدة دليل من كتاب الله أو سُنَّة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- بل إنَّ هذه العقيدة تنافي أشدَّ المنافاة كلام الله وكلام رسوله وهي عقيدة وثنية باطلة أخذها أهل التّصوُّف من ألهنادكه والنّصارى وغيرهم من المشركين .(142/10)
ثانياً : بيَّن - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم أنّ ذاته العلية لا تماثلها ذات على الإطلاق وكذلك صفاته لا تماثلها صفات وأنه - سبحانه وتعالى - ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال - سبحانه وتعالى – "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " (11) قال السَّعدي - رحمه الله - : (أي ليس يشبهه تعالى ولا يماثله شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، لأن أسماءه كلها حُسنى وصفاته صفات كمال ، وعظمته وأفعاله تعالى أوجد بها المخلوقات العظيمة من غير مشارك فليس كمثله شيء لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه ). انتهى .
وقال ابن كثير : ( ليس كخالق الأزواج كلها شيء ؛ لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ) انتهى .
وهذه الآية تعنى أنّه لم يكن مثله شيء فيما مضى ، ولن يكون مثله شيء في المستقبل ، كما أنه ليس هناك شيء مماثل له الآن . وهي تدلُّ دلالة واضحة على أنه لن يرقي شيء من الأشياء إلى مماثلة الله أبداً فمن قال إنّ الله يتَّحد مع الأولياء دلَّ قوله هذا على أن هناك أشياء مثل الله إن لم تكن مثله اليوم فسيأتي يوم وتكون مثله عندما يحلّ فيها الله أو يتّحد معها وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر . كمثال إذا قلنا إن الله لا يماثله شيء من الأشياء كعبد القادر والتجاني والبدوي وهذا هو الحق وهو يعني أن الله - سبحانه وتعالى - سيكون متَّصفاً بصفاته الأزلية العلية إلى الأبد التي لا يماثله فيها شيء ، وعبد القادر والتجاني والبدوي وغيرهم من الأشياء ستكون صفاتهم كصفات المخلوقين لا تماثل صفات الله إلى الأبد .(142/11)
فيأتي من يعتقد هذه العقيدة الباطلة ويقول لا إن عبد القادر ستكون صفاته كصفات الله يوماً ما لأن الله سيتّحد معه أو أنّ الله سيحلُّ فيه فتكون صفاته كصفات الله فهذا القول الباطل ينقض تمام النقض قوله –تعالى-:" ليس كمثله شيء " ولو كان ذلك كذلك لما قال - سبحانه وتعالى- ليس كمثله شيء فتبين أن قوله تعالى : ليس كمثله شيء ، أنه لن يماثله شيء قط سواء كان ملكاً أو رسولاً أو وليّاً ولن يتّحد جلَّ جلاله مع مخلوق من مخلوقاته أبداً .
ثالثاً : مما يدلّ على بطلان القول بأنَّ الله يتّحد بمخلوقاته أو يحلُّ فيها أن الله حكم بالكفر على من قال هذا القول ، لأن هذه العقيدة ليست حديثة على بني البشر ، بل اعتقدها بعضهم وصرّح بها وهي من أبطل العقائد واشدِّها كفراً .
ومن الذين قالوا بهذا القول النّصارى فإنهم قالوا إن الله حلّ في عيسى وأمّه فصارا إلاهين وأن الله اتّخذ عيسى ولداً أي اصطفاه وحلَّ فيه فصار له نفس صفات أبيه فحكم الله بكفرهم ، وأخبر أن هذه العقيدة تنافي الحق ، وأن فيها من الكذب ومن الإفتراء الشي العظيم ، وأن السماوات يَكدْن يتفطَّرن وتنشقُّ الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً من شدة شناعتها ، وشتمها الله قال - سبحانه وتعالى - في سورة مريم { تكاد السماوات يتفطَّرن منه وتنشقُّ الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً (90) أنْ دَعَوْا للرحمن ولداً (91) وما ينبغي للرحمن أن يتَّخذ ولداً (92) إنْ كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً } (93) .(142/12)
وقال - تعالى - في سورة المائدة : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إلهٍ إلاّ إلهٌ واحد وإن لم ينتهوا عمّا يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم } (73) . والنّصارى حكم الله بكفرهم مع أنهم خصَّصوا حلول الله في مخلوقاته واتّحاده معها بعيسى وأمِّه فكيف بمن قال إن الله يتّحد بكلّ من بلغ رتبة الولي ، فتبيَّن أن قول الصوفية أخبث وأشنع من قول النّصارى وأشدّ كفراً من كفرهم .
والمتصوِّفة الذين يقولون هذا القول قد يقولون إنّا لسنا كفاراً لأنا لا نقول الأولياء هم أبناء الله ، أو هم الله . وهذا الاعتراض ردُّهُ من وجهين :
الأول : أنّ النّصارى يقولون إن الله حلّ في عيسى وأمِّه كحلول الماء في الإناء وهم النسطوريّة من النّصارى . وبعضهم يقولون اتّحد معهما كاتحاد الماء واللبن وهو قول اليعقوبية من النّصارى ، والمتصوفة الحلولية الاتحادية يقولون كذلك إن الله يحلُّ في الصالحين كحلول الماء في الإناء وبعضهم يقولون إن الله يتَّحد مع الصالحين كاتّحاد الماء مع اللبن والخمر ، كما قال الحلاج: (مُزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال) . وقال عبيد الله أحرار النقشبندى :( إن العارف من فنيت ذاته وصفاته في ذاته تعالى فلم يبق له اسم ولا رسم ). فتبيَّن أن الصوفية القائلين بالحلول والإتحاد هم تماماً كالنّصارى القائلين بأن الله اتخذ ولداً أو أن الله ثالث ثلاثة . فدل هذا على أن حكمهم واحد ؛ لأنه من المعلوم أن التسمية لا تُغيِّر من الحقائق شيئاً .(142/13)
فمن شرب الخمر متعمِّداً وسمَّاها ماءً ما شرب في الحقيقة إلا خمراً وأقيم عليه الحدُّ وإن لم يعترف أنه شرب خمراً ، وكذلك من أخذ الرِّشوة وسمَّاها هدية لم يأخذ إلا رشوة ، وكذلك من أخذ الرِّبا وسمَّاه فائدة لم يُغيرِّ من الحقائق شيئاً ، بل الذي يُغيِّر اسم المُنكر باسم غيره للتغطية والتمويه هو أخطر وأخبث ممن يسمّى المنكر باسمه كما أخبر النبي - - صلى الله عليه وسلم -- أن أمته في آخر الزمان تشرب الخمر يُسمُّونها بغير اسمها .
الثاني : أن المتصوِّفة القائلين بالحلول والاتحاد منهم من قال إنه هو الله ومع هذا يثني عليهم أتباعهم ومنهم البرعي ، فدل هذا على أن لهم نفس حكم النّصارى القائلين إن الله هو المسيح أو إن الله ثالث ثلاثة ، قال عبدالكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي وهو من كبار الصوفية في كتابه الإنسان الكامل :
وإني رب للأنام وسيد لي الملك والملكوت نسجى وصنعتي . ... جميع الورى اسم وذاتي مسماه لي الغيب والجبروت منى منشأه .
وقال أبو يزيد البسطامي كما في كتاب النور من كلمات أبي طيفور ص (101) : " سبحاني سبحاني ما أعظم شأني حسبي من نفسي حسبي ".ويقول أيضاً (ص 79): ( سبحاني سبحاني أنا ربي الأعلى" .
وقال في صفحة (84) لمَّا دقَّ عليه رجل الباب قال له أبو يزيد: ( من تطلب ؟ قال أبا يزيد ، فقال له أبو يزيد : " مر ويحك فليس في الدار غير الله ".
وقال الحلاج : (ما في الجبَّة إلا الله ) فتبيَّن مِمَّا مضى أن الصوفية القائلين بأن الله يحلُّ في الأولياء ويتّحد معهم أشدّ كفراً من النّصارى واليهود .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى الكبرى (2/339): (الحلول والاتحاد أربعة أقسام ):(142/14)
الأول : هو الحلول الخاص : وهو قول النسطورية من النّصارى ونحوهم ممن يقول إن اللاهوت ( الله ) حلَّ في النَّاسوت ( العبد ) وتدرَّع به كحلول الماء في الإناء وهؤلاء حقَّقوا كفر النّصارى بسبب مخالطتهم للمسلمين وكان أوَّلهم في زمن المأمون وهو قول من وافق هؤلاء النّصارى من غالبية هذه الأمة كغالية الرافضة الذين يقولون إنه حلَّ بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته ، وغالية النُّسَّاك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية أو بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم وغيرهم.
والثاني : هو الاتحاد الخاص : وهو قول يعقوبية النّصارى وهم أخبث قولاً وهم للسودان والقبط ، يقولون : إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء وهو قول من وافق هؤلاء من غالبية المنتسبين إلى الإسلام ) انتهى .
رابعاً : والآن نستعرض جزءً يسيراً من حياة سيد ولد آدم نبيِّنا محمد - - صلى الله عليه وسلم - - لنرى هل كان الله متحداً معه :
روى الإمام البخاري - رحمه الله - (664) عن الأسود قال : "كُنّا عند عائشة - رضي الله عنها - فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها قالت ، لما مرض رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذّن فقال : مُروا أبا بكر فليُصلِّ بالنّاس،فقيل له : إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يُصلِّى بالنّاس ،وعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة فقال : إنَّكنَّ صواحب يوسف مُروا أبا بكر فليُصلِّ بالنّاس : فخرج أبو بكر يصلي فوجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - من نفسه خِفَّة فخرج يُهادي بين رجلين كأني أنظر رجليه يخطّان الأرض من الوجع فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أن مكانك ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه " .(142/15)
والشاهد من الحديث أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لم يستطع أن يصلي من شدَّة المرض – ولم يستطع المشي على قدميه إلا بين رجلين ومع ذلك كانا يخطّان الأرض : فدلّ ضعفه الشديد في وقت مرضه على أن صفاته صفات البشر وليست صفات القوى المتين فدل هذا على أن الله لم يتَّحد معه ولم يحلّ فيه . وكذلك أداؤه الصلاة يدل على أنه عبد وليس برب ولو كان الله حالاًّ فيه أو مُتَّحداً معه لما صلَّى إذ كيف يصلي لله وهو الله .
وروى الإمام البخاري (3412) عن أبي هريرة :" لا تخيّروا بين الأنبياء فإن الناس يُصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشقُّ عنه الأرض".وروى الإمام مسلم(5940) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع " .
الشاهد من الحديث على بطلان عقيدة الحلول أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أخبر أنه أول من ينشقّ عنه القبر ولو كان الله مُتَّحداً معه أوحالاً فيه لما قُبِر أصلاً فكونه موجوداً في الأرض إلى قيام الساعة ثم بعثه منها يوم القيامة يدل على أن قول الصوفية أن الله يحلُّ في الصالحين من الكذب البيِّن .
- وروى الإمام مسلم (480) في حديث الشفاعة الطويل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال " فيأتوني : أي الناس فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وغفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر ، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي ، ثم يفتح الله عليَّ ويلهمني من محا مده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي . ثم قال : يا محمد ارفع رأسك سل تُعطه ، اشفع تُشفَّع فأرفع رأسى فأقول يا ربِّ أمتي أمتي ".(142/16)
والحديث من أوضح الأدلة على أن الله - سبحانه وتعالى - لم يحل في النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ولم يتَّحد معه . فلو كان الله متّحداً مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما أتى تحت العرش ووقع ساجداً لله ثم انتظر الإذن برفع رأسه والشفاعة .
وكذلك قول الناس للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنت رسول الله : ولم يقولوا له أنت الله ولم يقولوا له كذلك أنت الذي حلَّ الله فيك واتّحد معك . فلوكان هذا من فضائله التي أنعم الله بها عليه لذكروها له ووصفوه بها كما قالوا له أنت الذي غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر .
وفي قوله - تعالى- مخاطباً النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : " يا محمد إرفع رأسك : دليل عظيم كذلك على أنه - سبحانه وتعالى - لم يتّحد مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يحلّ فيه وإلا لما خاطبه أصلاً إذ كيف يخاطب نفسه ويقول يا محمد إرفع رأسك".
فتبيّن من الأدلة الماضية أن خاتم الأنبياء والمرسلين لم يحلّ الله فيه ولم يتّحد معه . فدل هذا بما لا يدع مجالاً للشكِّ بطلان قول البرعي وأمثاله من المتصوفة أن الله يحلُّ في الصالحين ويتّحد معهم .
الباب الثاني
اعتقاد البرعي أنَّ الأولياء الصالحين يشاركون الله
في الحكم والأمر والتَّدبير
يعتقد البرعي كغيره من الصوفيين أن الأولياء الصالحين يتصرفون في الكون ، وينوبون عن الله في الحكم ، وتتنوَّع وظائفهم بحسب مراتبهم وقُربهم من الله ، وهذا كفر بالله وإشراك به ، أعظم من شرك المشركين الأوائل ، إذ إنه شرك في ربوبية الله وأسمائه وصفاته .
ذكر النصوص عن البرعي التي تدل على أنه يعتقد ما أشرنا إليه:
قال في ديوانه (رياض الجنة ونور الدجنة) يمدح العارفين بالله (ص 126):
نفعتم ولم يمكث على الأرض غيركم*وقدعمّ سكَّان السماوات خيركم
إلى أن قال :(142/17)
ألا يا رجال الغيب أنتم حصوننا أيلحقني ضيم وأنتم حمايتي فحاشى وحاشى أن تضيع عيالكم إذا شئتم شاء الإله وأنكم . ... فما زال مسبولاً على الناس ستركم وألهث عطشاناً وقد فاض بحركم وأنتم عيال الله والأمر أمركم تشاءون ما قد شاء لله دركم .
في هذه الأبيات يدَّعي البرعي أموراً :(1) أن أولياء الله هم أهل الغيب،
أي الذين يعلمون الغيب.(2) أن سترهم ما زال مسبولاً على الناس. (3) أن الأمر هو أمرهم ، أي الأمر القدري الكوني. (4) أنَّ مشيئة الله تابعة لمشيئتهم.
وقال يمدح عبدالقادر الجيلاني ص( 107) :
هو القطب والغوث الكبير هو الذي وعند ظهور الحال يخطو على الهوى بأكفان من قد مات إن كتب اسمه وكل ولي عنقه تحت رجله ينوب عن المختار في حضرة العلا . ... أفاض على الأكوان كالبحر والسيل ويظهر شيئاً ليس يدرك بالعقل يكون له ستراً من النار والهول بأمر رسول الله يالها من رجل ويحكم بالإحسان و الحق والعدل .
في هذه الأبيات ادَّعى البرعي أموراً منها: (1) أن عبدالقادر الجيلاني هو القطب والغوث ، وسنوضحِّ ماذا تعني هذه الكلمة عند المتصوِّفه .
(2) أن اسمه إذا كتب على كفن الميت لن تصيبه النار ، وهذا يدل على أن البرعي يعتقد أن لعبد القادر الجيلاني تصرُّفاً في الدنيا والآخرة ، فاسمه فقط إذا كتب على الكفن يمنع من النار سواءً كان الميت كافراً أو فاسقاً فاجراً ، فكيف إذا حضر عبد القادر بنفسه ، أو أمر بإخراج أحد من النار ، أو نهى عن تعذيبه .(142/18)
(3) وأخطر ما في الأبيات وأشدّها كفراً ، اعتقاده أن عبد القادر الجيلاني ينوب عن المختار وهو الله ، في حضرة العلا في الملأ الأعلى ، ويحكم بالإحسان والحق والعدل ، أو ينوب عن النبي في الحضرة النبوية في تصريف أمور الكون ، كما يعتقد ذلك كثير من المتصوفة ، فيحكم بالإحسان والحق والعدل ، وسواءً كان المقصود بالمختار هو الله أو النبي ، فكِلا الإعتقادين كفر بالله ، إذ ليس للنبي تصرُّف ولا حكم في أمور الكون .
وقال في مدح التجاني (ص121) :
هو قطب الأولياء بعصره وممدهم بالسرِّ والإعلان
وقال في قصيدته مصر المؤمَّنة :
ندعوك بالأربعة والفقهاء السبعة أوتاد الأرض الأبدال والنقبا . ... والكتب الأربعة واقطابنا الأربعة في القبل الأربعة العشرة في أربعة .
وفي هذه القصيدة بدا جلياً أن البرعي يعتقد أن للأرض أوتاداً ، ويعتقد كذلك أن في الكون أقطاباً ، وأبدالاً ، ونقباء ، من الصالحين .
وأوردنا كل هذه الأبيات لنُبيِّن أنَّ البرعي يعتقد أن للكون أقطاباً ، وأوتاداً ، وأبد الاً ، ونقباء ، يتصرَّفون في الكون وهي عقيدة وثنية نصرها البرعي وصرَّح بها في مدائحه .
والآن نستعرض النصوص التي وضَّح فيها علماء الصوفية مراتب الأولياء :
قال الزنديق الأكبر ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية عند ذكره مرتبة القطب (3/244) : "فمنهم الأقطاب الأئمة ، ومنهم الأوتاد ، ومنهم الأبدال ، ومنهم النُّقباء ، ومنهم النُّجباء ، ومنهم الرجبيون ، ومنهم الأفراد ، وما فيهم طائفة إلا قد رأيت منهم ، وعاشرتهم ببلاد المغرب ، وببلاد الحجاز ".(142/19)
وقال الهويجري في كشف المحجوب ص (447-448) متحدثاً عن هذه المراتب والألقاب : "هم أهل الحلِّ والعقد وقادة حضرة الحق جلَّ جلاله فثلاثمائة يدعون الأخيار ، وأربعون آخرون يُسمَّون الأبدال ، وسبعة آخرون يُقال لهم الأبرار ، وأربعون يُسمَّون الأوتاد ، وثلاثة آخرون يُقال لهم النُّقباء ، وواحد يُسمّى القطب ، والغوث ، وهؤلاء جميعاً يعرفون الآخر ، ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض ".
وقال لسان الدين الخطيب في "روضة التعريف بالحب الشريف (ص432) :
"خواص الله في أرضه ورحمة الله في بلاده على عباده : الأبدال والأقطاب والأوتاد والعرفاء والنُّجباء والنُّقباء وسيّدهم الغوث ".
ويلاحظ الإختلاف الكبير في عدد الرتب بين علماء الصوفية وهذا من أوضح الأدلة على أن هذه المراتب اخترعوها من عند أنفسهم لذلك اختلفوا فيها هذا الاختلاف البيِّن قال - تعالى - :" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ".
والآن نأخذ بعض النصوص من علماء الصوفية لنرى ماذا تعني كلمة القطب التي يُكثر من ذكرها البرعي في أشعاره .
قال ابن عربي في الفتوحات المكيّة :
"الأقطاب جمع قطب ، وهو عبارة عن الواحد الذي هو موضع نظر الله في العالم ، ويقال له الغوث وهو على قلب اسرافيل ". وقال كما في كتاب اليواقيت والجواهر في عقيدة الأكابر (2/82) : "واعلم أن لكل بلدة أو قرية أو أقليم قطباً غير الغوث ، به يحفظ الله –تعالى- تلك الجهة ، سواءً أكان أهلها مؤمنين أو كفاراً ، وكذلك القول في الزُهَّاد والعُبَّاد والمتوكلين وغيرهم ، لابُدَّ لكل صنف منهم من قطب يكون مدارهم عليه".
وقال أحمد التجاني في جواهر المعاني (2/80) :(142/20)
"إنَّ حقيقة القطبانية هي الخلافة العُظمى عن الحق مطلقاً في جميع الوجود جملة وتفصيلاً ، حيثما كان الرب إلاهاً كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من له عليه ألوهية لله –تعالى-، فلا يصل إلى الخلق شيء كائناً من كان من الحق إلا بحكم القطب ، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرَّه من ذرَّات الوجود ، فترى الكون أشباحاً لا حركة وإنما هو الروح القائم فيها جملة وتفصيلاً ، ثم تصرُّفه في مراتب الأولياء فلا تكون مرتبة في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه ، فهو المتصرِّف في جميعها والممد لأربابها ، به يرحم الوجود وبه يبقى الوجود" .
وهذا الكلام كفر صريح بالله ، إذ بيَّن فيه التجاني أن لله نائباً ينوب عنه في تصريف الأمور : وهذا افتراء على الله أوَّلاً ، واشراك به ثانياً ، وقد أقرَّ البرعي التجاني على قوله هذا ومدحه وأثنى عليه بل وصفه بأنه هو القطب المعْنِي في هذا الكلام ، فقال في مدحه "وهو قطب الأولياء بعصره وممدَّهم بالسرِّ والإعلان". وانظر إلى قول التجاني في تعريفه للقطب : "فلا تكون مرتبة في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه فهو المتصرِّف في جميعها والُممِدُّ لأربابها ". وبيَّن قول البرعي: "هو قطب الأولياء بعصره وممدّهم بالسِّرِّ والإعلان " ترى التَّوافق الكبير بينهما في تعريف القطب . { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } .
الرَّدُّ على البرعي وغيره من المتصوِّفة في ادِّعائه أنّ للأرض أوتاداً من الصالحين وأقطاباً وغيرهم يُديرون الكون ويتصرَّفون فيه بالإنابة عن الله .(142/21)
أولاً : كل اعتقاد يُنسب إلى الله تعالى يجب أن يكون مبنياً على دليل واضح وبرهان بيِّن من الله - سبحانه وتعالى - لذلك يُسْأل البرعي وكل من اعتقد وادَّعى أن الأولياء يتصرَّفون في الكون :ما هو دليلكم وبرهانكم على ما ادَّعيتم من كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين؟ ولن يأتي البرعي وأتباعه وجميع المتصوِّفة ببرهان على هذا الاعتقاد ، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط .
وسؤال البرعي وأتباعه عن دليلهم على هذا الاعتقاد هو من قبيل سؤال اليهود والنَّصارى عمّا هو الدليل على أن عيسى هو ابن الله ، أو عزير ابن الله ، أو سؤال المشركين ما هو الدليل على أن الملائكة بنات الله ، أو أن الله اتخذ شفعاء ووسطاء بينه وبين المشركين يقرِّبونهم إلى الله زُلفى . ليس لأهل الكتاب ولا للمشركين أي دليل من علم صحيح منقول عن الأنبياء والمرسلين ، وإنما هو الكذب والافتراء على الله وعلى رسله وأنبيائه، وكذلك هؤلاء ليس لهم دليل صحيح من الكتاب أوالسُنَّة على اعتقادهم هذا ، وإذا أجابوا بجواب فإنما هو الافتراء والكذب على الله ، كما يفتري اليهود والنصارى والمشركون الكذب على الله .(142/22)
ثانياً : مما يوضِّح بطلان هذه العقيدة الوثنية الشركية التي تبنَّاها المتصوفة ومنهم البرعي أن الله - سبحانه وتعالى - بيَّن أنّ الأمر كله في هذا الكون له وحده لا شريك له ، وأن تدبير الأمر له وحده لا شريك له ليس لأحد سواه فيه نصيب ، سواءً كان ملكاً أو نبياً أو وليّاً ، والأمر الذي بيَّن - سبحانه وتعالى - أنه منفرد به يشمل الأمر الشرعي والأمر القدري الكوني ، فالأمر الشرعي يشمل جميع أحكام الشرع ، كفرض الصلاة والزَّكاة وغيرها من الأحكام الشرعية ، وهو ملك لله وحده فالله هو المُشرِّع وحده لا شريك له ، والأمر القدري الكوني يشمل كل أفعال الله من : الإحياء ، والإماته ، والإعزاز ، والإذلال ، والإغناء ، والإقناء، والإفقار ، والرزق وما إلى ذلك من الأمور ، فتبيَّن أن الله هو مالك جميع الأمور والمتصرِّف فيها وحده لأن الأمور جميعها لا تخرج عن كونها شرعية أو قدرية .
الأدلة على أن الأمر لله وحده :
(1) قال - سبحانه وتعالى - في سورة الأعراف : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين (54) } .
فبيَّن - سبحانه وتعالى - أن الشمس والقمر والنجوم جمعيها تسير بأمره وحده لا بأمر الغوث أو القطب كما زعم أهل الباطل وكما ادَّعى البرعي .(142/23)
وقال - تعالى - في سورة هود : { ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون } (123) . فبيَّن - سبحانه وتعالى - أن الأمر كله راجع إليه ، وقال - تعالى - في سورة الرعد : { ولو أنَّ قرآناً سُيِّرت به الجبال أو قُطِّعت به الأرض أو كُلِّم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحلُّ قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد } (31) .
قال ابن كثير " بل لله الأمر جميعاً " أي مرجع الأمور كلها إلى الله - عز وجل - : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، والبرعي يقول ما شاءه أولياؤه يشاؤه الله .
ثالثاً : مما يدل على بطلان عقيدة إشراك الله - سبحانه وتعالى - للأولياء الصالحين في الحكم قوله تعالى في سورة الكهف : { قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من وليٍّ ولا يُشرك في حكمه أحداً } (26) .(142/24)
فبيَّن -سبحانه وتعالى- أنه لا يشرك في حكمه أحداً كائناً من كان سواءً كان نبياً ، أو وليّاً ، أو ملكاً مُقرَّباً ، فالزَّعم الذي زعمه الصوفية أن الله هو الذي أشرك الأولياء في الحكم هذا القول هو افتراء على الله وكذب عليه ، نفاه الله في هذه الآية بقوله : { ولا يشرك في حكمه أحداً } "وأحداً" هي نكرة في سياق النفي فتعمُّ كل شيء . وحكم الله يشمل حكمه الشرعي وحكمه القدري الكوني ، والذي ادَّعاه الصوفية أن الله يشرك في حكمه القدري الكوني الأولياء الصالحين ، فيُحيون ويرزقون ويُعزُّون ويُذلُّون وما إلى ذلك من الأمور ، فدلت هذه الآية القرآنية المحكمة على أنهم مفترون في ادِّعائهم هذا الكذب على الله ، تماماً كما افترى المشركون من قبلهم الكذب على الله ، حينما قالوا إن الله اتخذ آلهتهم شفعاء عنده ووسطاء بينه وبين خلقه ، وأجاز عبادتهم ودعاءهم ، والاستغاثة بهم ، فنسبوا ذلك إلى الله فردَّ الله عليهم بقوله : { قل أتنبِّئون الله بمالا يعلم في السماوات ولا في الأرض } فبيَّن - سبحانه وتعالى - أنه لا يعلم أنه اتخذ شفعاء على هذا النحو الذي زعمه المشركون وما لا يعلمه الله فهو غير موجود . وقوله تعالى : { ولا يشرك في حكمه أحداً } ردٌّ على المتصوفة في قولهم إنَّ الله أشرك الصالحين في حكمه وأمره قال ابن كثير : ( وقوله { ما لهم من دونه من وليٍّ ولا يشرك في حكمه أحداً } أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، الذي لا معقب لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير ، تعالى وتقدَّس ) إنتهى.
وقال السَّعدي - رحمه الله –في قوله تعالى: { ولا يشرك في حكمه أحداً } : " وهذا يشمل الحكم الكوني القدري ، والحكم الشرعي الديني ، فإنه الحاكم في خلقه قضاءً ، وقدراً ، وخلقاً ، وتدبيراً ، والحاكم فيهم بأمره ، ونهيه ، وثوابه وعقابه " انتهى .(142/25)
وقوله -تعالى- : { ولا يشرك في حكمه أحداً } مع أنه أوضح من الشمس في نفيه لاشتراك أحد مع الله في الحكم ، إلا أنَّ أهل الباطل يخالفونه تمام المخالفة ، بل البرعي يقول بالحرف الواحد في مدحه للتجاني: "ينوب عن المختار في حضرة العلاء ويحكم بالإحسان والحق والعدل " فاستعمل كما نبَّهناك سابقاً نفس اللفظ الذي نفاه الله عما سواه وهو الحكم وأثبته لأوليائه فقال عن التجاني "ويحكم بالإحسان والحق والعدل " فجعل التجاني نائباً لله في الحكم -تعالى ربنا- وتقدَّس أن يكون له نائباً أو مشاركاً في الحكم .
(2) كذلك نفي الله - سبحانه وتعالى - في سورة سبأ اتخاذه نوَّاباً ومساعدين وخلفاء في حكمه قال - سبحانه وتعالى - : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير (22) ، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } (23) .
فقوله تعالى : { وما له منهم من ظهير } يدل على أنه -سبحانه- لم يتخذ من الأولياء الصالحين عوناً ولا نائباً ولا مستشاراً . قال ابن كثير: "بين تبارك وتعالى أنه إلاله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا نظير له ولا شريك له ، بل هو المستقلُّ بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض وقوله { وما لهم فيهما من شرك } أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة { وماله منهم من ظهير } أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه قال قتادة في قوله -عز وجل - { وماله منهم من ظهير } :"من عون يعينه". وقال السعدي : " أي معاون ووزير يعاونه على المُلك والتدبير" .(142/26)
فبدا جلياً أن الله لم يتخذ من الأولياء الصالحين والأنبياء المرسلين والملائكة المُقرَّبين مساعدين ، أو معينين ، بل وضّح أنه لا يشاركه منهم أحد في الملك والحكم ، وهو كذلك لا يشرك منهم أحداً تفضُّلاً من عنده وتكرُّماً ، والمتصوِّفة يقولون إنه أشركهم في حكمه ، وأتوا بأسماء وهمية لا حقيقة لها ورِثوها من ابن عربي الزِّنديق الأكبر والشيخ النَّجس كما حكم عليه بذلك علماء الإسلام ، فمن نُصدِّق ؟ من أصدق قيلاً ، أم من أكذب حديثاً ؟!!
رابعاً : ومما يدل كذلك على أنّ الأولياء الصالحين لم يُملِّكهم الله من الأمر شيئاً ولم يُشركهم في حكمه بيانه - سبحانه وتعالى - أن أفضل الخلق وإمام المتَّقين لا يملك من الأمر شيئاً ولو مثقال ذرة ، فإذا ثبت أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لم يُملِّكه الله شيئاً من الأمر دلَّ بطريق الأولى أن غيره لم يُملّكه الله شيئاً من الأمر .
قال - سبحانه وتعالى - في سورة آل عمران مخاطباً النبي -- صلى الله عليه وسلم --: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذِّبهم فإنهم ظالمون (128) ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم } (129) .
وقوله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء } أي ليس لك منه شيء سواءً كان صغيراً أو كبيراً في الدنيا أو الآخرة في حياتك أو بعد موتك .(142/27)
قال ابن كثير في تفسيره :" ثم اعترض جلَّ جلاله بجملة دلَّت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال -تعالى-: { ليس لك من الأمر شيء } أي بل الأمر كله إليّ كما قال -تعالى-: { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } ، وقال : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } ، وقال : { إنَّك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء } - ثم قال - وقال البخاري حدَّثنا حبان بن موسى أنبأنا عبد الله أنبأنا مَعْمَر عن الزهري ، حدّثني سالم ، عن أبيه " أنه سمع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يقول إذا رَفَع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر : اللهم العن فلاناً وفلاناً ، بعدما يقول سمع الله لمن حمده ، ربَّنا ولك الحمد ، فأنزل الله –تعالى- : { ليس لك من الأمر شيء } الآية". وهكذا رواه النَّسائي من حديث عبد الله بن المبارك . وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو عقيل – قال أحمد : وهو عبدالله بن عقيل صالح الحديث ثقة – حدثنا عمر بن حمزة عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : "اللهم العن فلاناً وفلاناً ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت هذه الآية { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم } فتيب عليهم كلهم". وقال أحمد حدثنا معاوية العلائي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن عبد الله " أن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- كان يدعو على أربعة ، قال : فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } إلى آخر الآية ، قال وهداهم الله للإسلام" انتهى كلامه" .
ووجه الدلالة من الآية والأحاديث أن الله بيَّن بياناً واضحاً كالشمس أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لا يملك من الأمر شيء وأنه - سبحانه وتعالى - لم يُملِّكه منه ولو مثقال ذرة .(142/28)
خامساً : مما يدل على بطلان عقيدة الأغواث والأقطاب والأوتاد الوثنية الشركية أن الله -سبحانه وتعالى - أخبر أن جميع الأولياء ، والأنبياء ، والملائكة وغيرهم من أهل الأرض والسماء لو كانوا مجتمعين وسلبهم الذباب شيئاً ما استطاعوا أن يستنقذوه منه ، فكيف يكون لأحد منهم تدبير أمور الكون بأجمعه أو جزء منه .
قال -سبحانه وتعالى - في سورة الحج : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضَعُفَ الطَّالب والمطلوب (73) ما قدروا الله حقَّ قدره إنَّ الله لقوي عزيز } (84) .
فقوله - سبحانه وتعالى - { إن الذين تدعون من دون الله } تشمل كل من هو دون الله ومن المعلوم أن الأنبياء والأولياء والملائكة هم دون الله ، ومن قال إ نهم ليسوا دون الله كفر بالله العظيم ، ومما يدل على أن قوله - سبحانه وتعالى - من دونه يشمل الأحياء ، قوله –تعالى- في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً " ومن أظلم مِمَّن ذهب يَخلق كَخَلْقِي ، فليخلقوا مثل خلقي ذرّة أو ذبابةً أو حبّةً ". وأخرجه البخاري ومسلم من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : " قال الله - عزَّ وجلَّ - ومن أظلم مِمَّن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرّة فليخلقوا شعيرةً ". وفي هذا الحديث تحدّى الله المصوِّرين الّذين يُصوِّرون الصُّور أن يخلقوا ذبابة ، وهم بلا شك من الأحياء فدل هذا على أن قوله -سبحانه وتعالى – { إن الذين تدعون من دون الله } يشمل كل من دُعي من دون الله سواء كان حيًّا أو ميِّتاً ، نبياً أو ولياً أو مَلكاً .(142/29)
ومع كل هذا العجز الذي وصف الله به من هو دونه ، إلا أن المتصوِّفة يُكذِّبون كلام الله ، ويخالفونه أشدَّ المخالفة ، فمن قال إن الله سبحانه وتعالى أعطى الأولياء الصالحين القدرة على أن يستنقذوا ما سلبه الذباب منهم كان مُكذِّباً لله ، فكيف من ادَّعى أن الله أعطاهم القدرة على تدبير أمور الكون ، وجميع النّاس في البرِّ ، والبحر، والجوِّ ، وجميع المخلوقات – فسبحانك - هذا بهتان عظيم .
سادساً : ثبت بالأدلة الواضحة أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - هو أفضل الخلق على الإطلاق ، وأحبُّ النّاس إلى ربِّ العالمين ، فإنْ كان هناك إنسان في هذه الأمة يستحق أن ينال درجة الغوث الأكبر أو القطب الأعظم الموجودة في خيال المتصوفة ، والشيعة لكان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أحقّ الناس بها، ولن أستعرض حياته فإن حياته كلها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يملك لنفسه نفعاً ، ولا ضراً ، فضلاً أن يملكه لغيره ، ولكن أُورد حديثاً واحداً لأبُيِّن أنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لم يكن في إمكانه أن يدبِّر أمور نفسه، فضلاً أن يدبِّر أمور الكون .
روى الإمام مسلم (1420) عن علي - رضي الله عنه – قال : " لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - : ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً ، كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ".(142/30)
الشاهد أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - شغله الكفار يوم الأحزاب فما استطاع من شغلهم له أن يؤدّي ما فرضه الله عليه من صلاة العصر حتى غابت الشمس ، فلو كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لا يشغله شيء عن شيء ، وأمْر عن أمْر، لصلّى العصر في وقتها ، ولَمَا أخَّرها حتى غربت الشمس ، فدل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أحياناً القيام بأمر ما أو تدبيره إذا اشتغل بأمر آخر ، مما يبيِّن أنه لا يملك من الأمر ولو مثقال ذرة : فإذا كان خاتم الأنبياء لا يستطيع تدبير أمرين في نفس الوقت إذا اشتغل بأحدهما ، فهل يظن البرعي أن التجاني أو عبد القادر الجيلاني أو غيرهما من الأولياء يستطيع أحدهم أن يدبِّر الكون كله ولا يشغله شيء عن شيء ،- فسبحانك- هذا بهتان عظيم – أما علم البرعي أنه يولد في الصين فقط في اليوم الواحد ما يزيد على المائة ألف طفل وأن البشر بلغ عددهم ما يزيد على ستة آلاف مليون ، فهل كل هؤلاء تحت رعاية غوثه الأعظم وقطبه الأكبر الذي يأكل الطعام ، ويبول ، ويتغوَّط ، وهو الآن مدفون تحت التراب ، سبحان الله وتعالى عن شرك المشركين وانتحال المبطلين .
سابعاً : سؤال يُوَجَّه إلى البرعي:هل الغوث الأكبر هو عبد القادر الجيلاني ، أم هو أحمد التجاني ، أم هو الرفاعي ؟ لأن اتباع عبدالقادر الجيلاني لا يعترفون ولو قطعوا أن التجاني أفضل من عبدالقادر الجيلاني ، وكذلك الرفاعية لا يتفوَّهون بكلمة واحدة تدل على أن هناك وليّاً من الأولياء أفضل من أحمد الرفاعي ، فكل طريقة صوفية تدَّعي أنّ شيخها هو الغوث الأعظم ، والقطب الأكبر المزعوم . إذا علمت هذا تبيَّن لك أنَّ المسألة ما هي إلا ادِّعاء خالٍ من الدليل وأنها ظنون القوم ، وأمانيهم التي أضلَّتهم { تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } ، { إن يتَّبعون إلا الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً } .
الباب الثالث(142/31)
بيان شرك البرعي وتفانيه في الدعوة إليه وحثه النَّاس للإشراك بالله عند الشدائد والكروب .
…اعلم رحمك الله تعالى أن البرعي يرى أن إشراك الصالحين مع الله في الدعاء والإستغاثة لا حرج فيه بل هو مستحب ، فهو وكثير من المتصوفة يتقرَّبون إلى الله بالشرك ويرونه من الأدب والتَّعظيم لله ، تماماً كما كان يظن مشركو مكة فإنهم كانوا يدعون الصالحين كاللات وغيره ويظنّون أنّ ذلك الفعل من الأمور التي تقرِّبهم إلى الله ، قال - تعالى- مبيِّناً حالهم في سورة الزمر : { ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرِّبونا إلى الله زلفى إنَّ الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إنَّ الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفّار } (3) .
بل إن البرعي يأمر الناس إذا حلَّت بهم مصيبة أن يلجأوا إلى أصحاب القبور ويستغيثوا بهم ، قال مستغيثاً بالنبي - - صلى الله عليه وسلم - - في قصيدته شددت رحال عزمي :
شددت رحال عزمى يا نديمي رسول الله مصباح البرايا أتيت إليه من فج عميق أجوب إلى أن قال :
أغثني يا رسول الله إني وقل لا تخش مهما عشت ضيما . ... على نجب الرجا نحو الكريم أب الضعفاء كفّال اليتيم الوادي في الليل البهيم .
مريض الجسم ذو قلب سقيم ولا هضماً أيا عبد الرحيم .
في هذه الأبيات يُصرِّح البرعي بإستغاثته بالرسول - - صلى الله عليه وسلم - - ويشركه مع الله في الدعاء والإستغاثه وهذا من الشرك الأكبر الذي يُخرج صاحبه من المِلَّة ؛ لأنّ الله - سبحانه وتعالى - نَهى عن دعاء غيره فقال جلَّ وعلا : { وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } ، وبيَّن -سبحانه وتعالى- أنه لا أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجب له إلى يوم القيامة قال- تعالى - في سورة الأحقاف : { ومن أضلّ ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5) وإذا حُشِر النّاس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } (6) .(142/32)
وقال في قصيدته سعادة الروح (ص 40 ) :
يا سيِّدي يا رسول المستعان ومن انظر لعبد الرحيم البرعي إن له . ... وجوهنا نحوه كلاً نوليها نفساً تتوق إلى أعلى أمانيها .
وقال مستغيثاً أيضاً بالنبي - - صلى الله عليه وسلم - - في قصيدته لجأت إلى باب الرسول صفحة (23) :
إذا ما طفى ماء الزمان ونونه وأعرض عنّى من أحبّ لقاءه لجأت إلى باب الرسول الذي إلى أن قال :
عبيدك يا مختار ناداك حائراً له فيك حب هل له منك نظرة وجمّله بالأنوار قلباً وقالباً تكفَّلْ عليك الله صلى برزقه
.
وقال في قصيدته مهبط الوحي ص (19):
إليك رسول الله أشكو مصائباً فأنت رجائي في الخطوب وعمدتي وأنت لنا غوث وعون وملجاء وأنت لمرضانا شفاء ورحمة . ... و ورى كاف الأمر عنى ونونه وأغلق باب الوصل دونى ودونه هدى ومن كان حياً بالضريح سكونه .
وقد تاه في البيدا وأنت ضمينة بها يلزم التقوى ويقوى يقينه ليطهر من رجس الطباع مهينه يهون كساه ملحه وعجينه .
يضيق لها صدر الحليم المصابر وأنت ملاذي يوم تبلى سرائرى وركن ومفتاح لعين البصائر وأنت دليل قد هدى كل حائر .
ولم يكتف البرعي بالإستغاثة بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- التي هي من أعظم الكفر ، بل أخذ يستغيث بأوليائه ويشركهم مع الله في الدعاء قال في قصيدته دعني أصاحب سادتي (ص 144) :
دعني أصاحب سادتي و أماشي وأزورهم في كل حين طالباً ما مسني سوء وجئت رحابهم هم عدتي عند الشدائد كلها هم موئلي عند الكروب ونصرتي . ... دوماً على رغم الحسود الواشي بركاتهم وأنا لديهم خاشي إلا وعنى ذاهب متلاشي هم ملجائي في كُلِّ خطيب فاش هم مورد يروى لكل عطاش .
ليس هذا فحسب بل أمر الناس إن نابهم خطب أن يستغيثوا بولي الله إسماعيل ، قال في مدح إسماعيل بن عبد الله الولي ( ص 119) :
إن ناب خطب في الزمان نزيل قطب الوصال الكردفاني الذي . ... قل يا وليَّ الله إسماعيل قد خصَّه من ربه التبجيل .(142/33)
وهذا من أعظم المحاداة لله والإشراك به لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبر أنه هو وحده الذي يجيب دعوة المُضطر قال - سبحانه وتعالى - في سورة النمل : { أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السّوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله قليلاً ما تذكَّرون } (62) .
قال ابن كثير في قوله تعالى { أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه } : " أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضُرَّ المضرورين سواه" انتهى.
بل إنّ هذا الشرك الذي وقع فيه البرعي وأمر به ودعى إليه ، ما كان يفعله مشركو مكة ؛ لأنهم كانوا إذا أصابتهم شِدَّة لجاءوا إلى الله وحده ونسوا كل ما سواه.قال - تعالى - مبيِّناً حالهم عند الشَّدائد في سورة الأنعام { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون } (41) .
وقال - تعالى - في سورة الإسراء : { وإذا مسَّكم الضُّرُّ في البحر ضلَّ من تدعون إلاّ إياه فلمَّا نجَّاكم إلى البرِّ أعرضتم وكان الإنسان كفوراً } (61) . فإذا علمت أن مشركي مكة كانوا لا يلجاؤن في الشدائد إلا إلى الله ، تبيَّن لك أن شرك عبدالرحيم البرعي أعظم من شركهم واشدّ ، وأن البرعي من أكثر الناس وأعظمهم محاربة لتوحيد رب العالمين ومعاداة له ، وأن أساس دعوته ولُبُّها هو الإشراك بالله وهدم التوحيد والدين الصحيح نسأل الله العافية .
الباب الرابع
إعتقاد البرعي أنَّ الأولياء الصالحين يرون النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جهرةً بعد موته ويجلسون معه ويُحدِّثهم ويُحدِّثونه
يعتقد البرعي كغيره من أهل التّصوُّف أنَّ الأولياء الصالحين يجالسون النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بعد موته ويتلقَّون عنه الأوامر والنواهي والأوراد، ويمنحهم حق التَّصرُّف في الكون ، ويُحدِّد لكلٍّ رتبته ومقامه ، وكذلك يخصُّهم بالعلوم العظيمة التي لا يخصُّ بها غيرهم .(142/34)
قال في مدح أحمد الطيب بن البشير ص (111) :
تبناه خير المرسلين بحضرة وقد تفل المختار في فيه تفلة ولم يحتجب عنه الرسول لأنه . ... وقال إبراهيم أبي له أب فنال بها علماً عن الغير يحجب إلى ذاته من كمل القوام أقرب .
وقال يمدهه في قصيدة أخرى متحدِّثاً عن كراماته :
منها رؤياه للمصطفى أحمد …جهراً عياناً قولاً صحيح بأكد
وقال في قصيدته أهل الطريق (ص 138) :
ورووا حديثاً صحَّ عن مختارهم من غير واسطة البخاري ومسلم
مما يدل على أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يجالسهم ويقابلونه حقيقة على حدِّ زعمه .
وهذا الذي يعتقده البرعي هو اعتقاد كثير من المتصوفة : قال محمد سعد الرباطابي في كتابه شروط وأحكام أوراد الطريقة التجانية ص (25) مُكذِّباً ومفترياً على الله ورسوله :" ( وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لسيّدنا الشيخ - رضي الله عنه - يقظة لا مناماً ، فمن فضلها أنَّ المرَّة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات بشرط الطهارة المائية ، وأن من لازمها كل يوم سبع مرات يُحبّه النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ، وأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذَّاكر عند السابعة منها ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها ".
هذا هو اعتقاد المتصوِّفة في النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وغيره من الصالحين . وكذبهم وضلالهم في هذا الباب أوضح من الشمس في رابعة النهار .
ونُورد الرَّدَّ عليهم فيما يلي :
1- أولاً : من الأشياء المجمع عليها بين أهل الحق أن الأموات لا يُبعثون إلا يوم القيامة بعد النَّفخة التي وضَّحها جلّ جلاله بقوله : { ونُفخ في الصُّور فصَعِقَ من في السّماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نُفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } ، فمن زعم أنّ الموتى يقومون من قبورهم قبل هذه النَّفخة فقد كَذَّب الله .(142/35)
وقال - سبحانه وتعالى - في سورة المؤمنون : { ثم إنَّكم بعد ذلك لميِّتون (15) ثُمّ إنَّكم يوم القيامة تُبعثون } (16) . فبيَّن - سبحانه وتعالى - أنَّ الموتى لا يُبعثون إلا يوم القيامة : فتبيَّن أنّ قول الصوفية أن الأولياء يُجالسون النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ويرونه جَهرةً ما هو إلا كذب مُفْتَرى وادِّعاء باطل.
و مما يدل على أن البعث يكون يوم القيامة ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: " إن أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيُقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " ورواه البخاري برقم (1379)، ومسلم برقم (2871) ، وأبو داود برقم (475) ،فدلّ الحديث على أن الصالحين وغيرهم لا يُبعثون من قبورهم إلا يوم القيامة .
ثانياً : ثبت بالأدلة الثابتة من الكتاب والسُّنَّة وإجماع المسلمين أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قد مات ومنها قوله - تعالى-: { إنَّك ميِّت وإنهم ميِّتون } (30) الزمر .(142/36)
وقال - سبحانه وتعالى - : في سورة آل عمران : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإيْن مات أوقُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرَّ الله شيئاً وسيجزي الله الشَّاكرين } (144) . وما رواه البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - (1241)، أن أبا بكر قال في الجمع العظيم يوم وفاة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : " أمّا بعد فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً - - صلى الله عليه وسلم - - قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيّ لا يموت ". والبرعي وغيره من المتصوفة إذا سألتهم أين النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قالوا لك مدفون في قبره بالمدينة النبوية . وهذا ما أجمع عليه المسلمون قاطبة أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مات ودُفن في بيته بالمدينة النبوية وهذا أيضاً ثابت في كتب التاريخ والسيرة والحديث . فلا مجال لأحد أن يدَّعي أنّه عليه الصلاة والسلام حيٌّ كما يزعم ذلك أصحاب الضَّلال البعيد والهوى المُتَّبع .(142/37)
ثالثاً : مما يدل على أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لا يرجع إلى الدنيا بعد موته ما بيَّنه عليه الصلاة والسلام أن الأرض تنشقّ عنه يوم القيامة في الحديث الذي رواه البخاري (3412) : "لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه يُنفخ في الصور فيُصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم يُنفخ فيه أُخرى فأكون أوّل من يُبعث فإذا موسى آخذ بالعرش ، فلا أدرى أحُوسِب بصعقته يوم الطُّور أم بُعث قبلي ". وما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة:قال قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : " أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وأوّل من ينشقّ عنه القبر ، وأوّل شافعٍ ، وأوّل مُشفَّع ".فبيَّن النبي- - صلى الله عليه وسلم - - أنّ القبر لا ينشقّ عنه إلا يوم القيامة وأنه لا يُبعث إلا بنفخة الصُّور يوم القيامة .ومع ذلك يدَّعي البرعي وغيره من المتصوفة أن شيوخهم يقابلون النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ويرونه يقظةً لا مناماً . ومما يدل على أن الأرواح لا تُرجع إلى الجسد كما كانت قبل الموت ما رواه الإمام مالك في الموطأ أنّ كعب ابن مالك كان يُحَدِّث أن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - قال : " إنّ نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ".(142/38)
رابعاً : ومما يدل كذلك على أن حياة البرزخ التي يعيشها الأموات والشهداء لا تُمكِّن الأموات من الرجوع إلى الدنيا ما رواه الإمام مسلم (4885) عن مسروق قال : " سألنا عبد الله [ هو ابن مسعود] عن هذه الآية : { ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون } [آل عمران : (169) : قال أمّا إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال : " أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلّقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطّلع إليهم ربهم إطّلاعةً فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أيّ شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟! ففعل ذلك بهم ثلاثة مرّات فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا رب نريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرَّة أُخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا ".(142/39)
و أرود ابن كثير حديثاً في تفسير قوله تعالى : { ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً } قال : قال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا هارون بن سليمان أنباءنا علي بن عبدالله المدني أنباءنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن شبير بن الفاكة الأنصاري ، سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمت الأنصاري قال سمعت جابر بن عبدالله قال : " نظر إليّ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ذات يوم فقال : يا جابر مالي أراك مُهتمّاً ؟ قلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك دَيْناً وعيالاً، قال : فقال : " ألا أخبرك ما كلَّم الله أحدً قطُّ إلا من وراء حجاب وإنه كلَّم أباك كِفاحاً - قال علي : والكفاح المواجهة - قال : سَلْني أُعطك ، قال : أسألك أنْ أُردّ إلى الدّنيا فأُقتل فيك ثانيةً . فقال الرَّبُّ - عزَّ وجلَّ - : إنَّه قد سبق مِنِّي القول : إنهم إليها لا يرجعون .قال : أيْ ربِّ فأبلغ مَن ورائي ، فأنزل الله { ولا تحسبنَّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً } وفي رواية للإمام أحمد " إني قضيت إنهم لا يرجعون ".
والشّاهد : أن الله - سبحانه وتعالى - أخبر أن الشهداء أحياء بعد موتهم ، ولكن هذه الحياة برزخية لا علاقة لها بالحياة الدنيا دل على ذلك قول الشّهداء يا ربَّنا نُريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرّة أُخرى ، وقولهم هذا "نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا " أي نريد أن تردّها إلى أجسادنا كما كُنا قبل الموت ، وإلا فإن أرواحهم مرتبطة بأجسادهم في قبورهم ارتباطاً برزخياً . فدل هذا على أن الموتى لا يرجعون إلى الدنيا ، لماذا ؛ لأنّ الله قضى ووعد أنهم إليها لا يرجعون .(142/40)
دل الحديث كذلك على أن الموتى لا يرجعون إلى الدنيا وإن كانوا شهداء وإن طلب منهم الله أن يسألوه ما يريدون ، فإنهم لو طلبوا الرجوع إلى الدنيا لما أرجعهم إليها كما هو ظاهر جداً من الأحاديث المتقدمة ، بل وإن كان قصدهم من الرجوع إلى الدنيا الجهاد في سبيل الله.
دل الحديث كذلك على أن الحياة التي يحياها الشهداء وغيرهم في البرزخ لا تُمكِّنهم أبداً من الرجوع إلى الدنيا .
خامساً : مما يدل على أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لم يرجع إلى الدنيا بعد موته ولن يرجع ما رواه البخاري (6576) عن المغيرة قال : سمعت أبا وائل عن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال :" أَنَا فرطكم على الحوض وليرفعنّ رجال منكم ثمّ ليختلجنّ دوني فأقول : يا رب أصحابي ، فيُقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
وفي رواية (6585) : " فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى ". وفي رواية لمسلم (5969) : " فأقول : سُحقاً سُحقاً لمن بدَّل بعدي ".
وروى البخاري (3349) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : " إنكم تُحشرون حُفاة عُراة غُرْلاً - ثم قرأ - { كما بدأنا أوّل خلق نُعيده وعداً علينا إنا كُنّا فاعلين } الأنبياء(1040)، وأوّل من يُكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام فيُقال : إنهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذ فارقتهم .فأقول كما قال العبد الصالح: { وكنت عليهم شهيداً ما دُمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم } المائدة (117-118) .(142/41)
والشاهد من الحديث أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قِيل له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فلم يعترض على هذا الكلام ، بل قال : بُعداً لمن غيَّر بعدي . واعتذر بقوله { وكنت شهيداً عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرَّقيب عليهم } فدل هذا بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بعد أن فارق بموته أصحابه لم يرجع إلى هذه الدنيا لذلك انتهت شهادته على أمته .
ولو كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يخرج من قبره قبل يوم القيامة أو يُفتح له من البرزخ ويزور الدنيا وأهلها وينظر إليهم لعلم أن زمرة من أصحابه ارتدّوا من بعده ،فدل الحديث على أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - محجوز في البرزخ وروحه في الرَّفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين مُنعَّمة في الجنّة ولو كان يعلم ما يدور في الدنيا من أحوال أُمَّته لأصابه الكَرْب والحَزَن الذي أخبر أنه لن يصيبه بعد موته عندما قالت فاطمة رضي الله عنها :"وا كرب أبتاه" ، فقال لها : " ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم" ، ولو كان يعلم ما يدور في الدنيا من أحوال أُمَّته لما قيل له : " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
سادساً : من المعلوم أن الصُّحْبة قد انتهت بموت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فمن قال بهذا القول يستلزم ذلك أن تكون الصحبة مستمرة إلى يوم القيامة وهذا من أبطل الباطل ، لما روى مسلم عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم -فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال : - ثمّ يتخلّف من بعدهم خَلْف تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " .(142/42)
سابعاً : روى الإمام مسلم (1917) قول الشهداء : " اللهم بلِّغ نبينّا عنَّا أنَّا لقيناك فرضيت عنَّا ورضينا عنك " ، فإذا كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - الذي هو أفضل البشر على الإطلاق ما كان يجالس أصحابه بعد الموت ولم يكن يخاطبهم ، بل كان يُوحي الله إليه ما قالوه عن طريق الوحي وهذا واضح من قول الشهداء " اللهم بلّغ نبيّنا عنّا " أفيَظنّ المتصوفة أن شيوخهم يجالسون من يريدون من الموتى .
الباب الخامس
بيان اعتقاد البرعي أنَّ شيخه بعد موته يحضرعند قبض روح مريده ويُلقِّنه الحُجَّة ويكون كذلك حاضراً عندما يسأله الملكان ويُلقِّنه كذلك الحُجَّة ويُؤانسه في قبره ويُدخله الجنَّة .
الأدلة من شعر البرعي التي تُبيِّن أنّه يعتقد ما أشرنا إليه:
قال يمدح أحمد الطيب بن البشير في قصيدة يا نفسي أمرحي :
فهو الغوث الكبير اللقيمان خبير يحضر مريده في النزع والقبير وله يؤانس في الوحدة والشبير . ... ذاكر مولاه الواحد الكبير للحجة يلقن بأحسن التعبير في جنان الخلد شاهد مولاه الكبير .
في هذه الأبيات يدّعى البرعي أن شيخه يحضر مريده في النَّزع ، أي عند نزع روحه ، وكذلك في القبير والقبير تصغير للقبر، ويُلقِّنه الحُجَّة ويؤانسه في الوحدة ، والشبير وهو اللحد ثم يدخل المريد جنان الخُلد . وهذه العقيدة الباطلة التي يعتقدها البرعي هي عقيدة إخوانه من المتصوفة . قال السيد إبراهيم الأعزب في قلادة الجواهر (ص 193) :(142/43)
"حضرت في بعض الأيام عند السيد أحمد الرفاعي قال : أي فقراء الشيخ عثمان السالم آبادي قدّس سرّه يصعد كل يوم عند غروب الشمس إلى ديوان الربوبية وينظر ديوان ذريته فما يجد من سيئة يمحها ويكتب عوضها بلا معارضه . قال السيد إبراهيم الأعزب : فأخذتني الغيرة من ذلك ، فالتفتَ إليَّ السيد أحمد الرفاعي وقال : أي إبراهيم ، لا يكون الرجل ممكناً في سائر أحواله حتى يعرض عليه عند غروب الشمس جميع أعمال أصحابه وأتباعه وتلامذته بالقرب والبعد فيمحو منها ما يشاء ويثبت فيها ما يشاء بكرم الله ولطفه ، أي إبراهيم لا يكون الشيخ شيخاً كاملاً في سائر أموره وأحواله وأقواله وأفعاله ولا يصح له الجلوس في المخدّة حتى يحضر عند تليمذه في أربعة مواضع عند : خروج روحه من جسده ، وعند مسألة منكر ونكير له ، وعند جوازه على الصراط ، والميزان .
وهذه المواضع الاربعة التي ذكرها أحمد الرفاعي للولي الكامل هي التي أثبتها البرعي لشيخه بقوله :
يحضر مريده في النزع والقبير للحجة يلقن بأحسن التعبير.
وله يؤانس في الوحده والشبير في جنان الخلد شاهد مولاه الكبير
وهذا القول قاله البرعي بعد وفاة شيخه بأكثر من مائة وخمسين سنة وفيه من الكفر الصريح الآتي :
1- يدل على أنه يعتقد أن لشيخه المقدرة على التصرف حتى بعد موته.
2- يدل على أنه يعتقد أن شيخه يعلم الغيب بعد موته فمن أين لشيخه أن يعلم أن مريده يحتضر .
3- يدل على أن شيخه له المقدرة على إغاثة من استغاث به ، لا بل يغيث كل مُريد له سواء استغاث به أم لم يستغث به .
4- يدل على أن لشيخه المقدرة على تثبيت المريد داخل القبر عند سؤال الملكين ، ليس هذا فحسب ، بل يؤانسه في تلك الوحشة ، والمقصود بمريده أي كل مريديه فكل واحد منهم يحصل له نفس ما حصل للآخر من التثبيت .
5- يدل على أن لشيخه التصرف في الجنة ؛ لأنه يُدخل من يشاء من أتباعه الجنة .(142/44)
وهذه خمسة اعتقادات فاسدة يستلزمها قول البرعي الذي ذكرناه في هذا الباب : -
أولاً : الاعتقاد الأول والثالث والرابع : منها بيَّنَّا بطلانه في الرَّدِّ على من يدّعى أن لشيخه التصرف في الكون ، وفي الأدلة على أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لا يرجع إلى الدنيا .
فإذا كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً والله بيَّن كذلك أن جميع الخلق لا يملكون ولو مثقال ذرَّة من هذا الكون وليس له مساعد في تدبير وتصريف أمور الكون ، فكيف يكون لشيخ البرعي مقدرة على التصرف ، فيثبِّت أتباعه ويدخلهم الجنة ، و كذلك إذا حكم الله بأن الموتى إلى الدنيا لا يرجعون ومنهم نبينا محمد - - صلى الله عليه وسلم - - فكيف يرجع إليها شيخ البرعي ويلقّن مريده الحجة عند نزع روحه وعند سؤال الملكين له هذا من أعجب العجب وأبعد المحال .
ونضيف إلى ما ذكرناه هناك بعض الأدلة لزيادة إيضاح بطلان هذه العقيدة ، قال ابن كثير :"جاء في صحيح مسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعه فقال : ماذا تبغون؟ فقالوا : يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا مالم تُعط أحداً من خلقك؟! ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا ،قالوا :نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى لما يرون من ثواب الشهادة ، فيقول الربّ جلَّ جلاله : إني كتبت إنهم إليها لا يرجعون " .(142/45)
الشاهد : أن الشهداء وهم في الجنة يُنعَّمون ، وقد طلب منهم الله أن يسألوه ما يريدون ليعطيهم إياه وكرر عليهم السؤال ثلاث مرات ، ولكنهم عندما سألوه أن يرد أرواحهم في أجسادهم أبي عليهم ذلك وأخبرهم أنه كتب أنهم - أي الأموات - إليها - أي الدنيا - لا يرجعون. هذا هو حكم الله حكم به ، وكلماته وهي لا تُبدَّل { لا تبديل لكلمات الله } . ومع هذا يدَّعي المتصوفة ومنهم البرعي أن أولياءهم يرجعون إلى الدنيا ، ليس هذا فحسب ، بل ويعلمون من هو محتضر من مريديهم ، ومكان احتضاره، ويحضرون عند ذلك ، ويثبّتونه –فسبحان- من أضلّ الضالين وأعمى بصائر الظالمين .
ثانياً : الرد على زعم البرعي أن الأولياء يعلمون الغيب بعد موتهم
وهذا الاعتقاد الذي يعتقده البرعي هو اعتقاد كثير من الصوفية فقد قال الشعراني في كتابه الكبريت الأحمر (2/3) : " وأما سيِّدي علي الخواص فسمعته يقول : لا يكمل الرجل عندنا حتى يعلم حركات مريده في انتقاله في الأصلاب وهو نطفة من يوم { ألست بربكم } إلى استقراره في الجنة أو النار " .
(1) ومما يدل على أن علم الغيب لا يعلمه إلا الله قوله تعالى : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيَّان يُبعثون } النمل (60)،وهذه الآية تشمل الأنبياء والأولياء والرسل والملائكة، فكلهم لا يعلمون الغيب . ومع أن الآية بينَّت أنه لا يعلم الغيب إلا الله إلا أن الصوفية يدّعون أن أولياءهم يعلمون الغيب في حياتهم وبعد مماتهم .
(2) روى البخاري (458) عن أبي هريرة " أن رجلاً أسود أو امرأة سوداء كان يَقُمُّ المسجد فمات فسال النبي - - صلى الله عليه وسلم - - عنه ، فقالوا : مات ، قال : أفلا كنتم آذنتموني ؟ دلُّوني على قبره أو قال على قبرها فأتى قبرها فصلى عليها " .(142/46)
وجه الدلالة أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وهو حيٌّ مات أحد أصحابه فلم يعلم بموته ولم يشهده ، هذا وهو حيٌّ يُرزق ، وهو نبي الله ، دل هذا على أن قول البرعي أن شيخه وهو ميت يعلم بموت مريده بل كل من يموت من مريديه ويشهده في ذلك اليوم من أكذب الحديث وأعظم الفرى . وكذلك قول النبي - - صلى الله عليه وسلم - - " دلوني على قبرها " يدل على أنه بعد أن علم بموتها لم يعلم مكان قبرها وهو حي وهو رسول الله ، والبرعي يدّعي أن شيخه بعد موته يعلم مكان قبر مريده ويشهده ويلقنه الحجة فكم من مريد يموت له في اليوم الواحد إذا علمت أن مريدي شيخه يفوقون الخمسة مليون بالسودان .
(3) روى البخاري (6576) عن عبد الله - رضي الله عنه – عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : " أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول : يا رب أصحابي ، فيُقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " .
فدل قول الله لرسوله - - صلى الله عليه وسلم - -: " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " على أنه لا يعلم بوقت احتضار أصحابه وأنه لا يشهدهم عند الاحتضار وعند سؤال الملكين فلو كان يحضر عند احتضار أصحابه ويعلم على أي شيء ماتوا ، وكذلك لو كان يحضر عند سؤال الملكين لهم ويعلم بماذا أجابوا لما قيل له إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ولما قال لهم بُعداً وسُحقاً لمن بدّل بعدي ، ولما قال { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } ، ومع أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لم يعلم بوقت احتضار أصحابه ولم يعلم بخاتمتهم أعلى خير أم على شر كانت ، إلا أن شيخ البرعي يعلم بوقت احتضار مريديه ، ويعلم خاتمتهم، بل وتكون خاتمتهم على خير إذ هو المثبِّت لهم ، مع أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان وهو حي يموت أحد أصحابه فلا يدري بِم خُتم له .
الباب السادس(142/47)
بيان بطلان اعتقاد البرعي أنَّ الأولياء الصالحين يُختم لمريديهم بحسن الخاتمة، وأنهم يكونون آمنين يوم القيامة وأنهم يدخلون الجنة مباشرة بلا عذاب .
ذكر أقوال البرعي التي تدل على أنه يعتقد ما أشرنا إليه :
1- ذكرنا أن هذا هو لازم قول البرعي في مدحه أحمد بن الطيب ابن البشير حيث قال في مدحه :
يحضر مريده في النزع والقبير وله يؤانس في الوحدة والشبير . ... للحجة يلقن بأحسن التعبير في جنان الخلد شاهد مولاه الكبير .
وقال في مدحه في موضع آخر في قصيدته (ص 111) :
ومن زاره لله ثم أحبه يموت على حسن الختام مكرماً . ... بصدق له تاج الولاية يوهب سعيداً وذو الإنكار في الحال يعطب .
وقال يمدح محمد عبد الكريم السماني المدني (ص 109) :
يكفيك أن مريده حقاً ولو عند الممات يفوز بالرضوان
وولاية كبرى وحسن خواتم والأمن يوم الحشر والميزان
وعقيدة البرعي هذه توافق عقيدة جزء كبير من الصوفية . يقول أحمد التجاني في جواهر المعاني : (1/ 132) :
"من رأني فقط غايته يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب ولا يعذب ولا مطمع له في عليين إلا أن يكون ممن ذكرتهم وهم أحبابنا ومن أحسن إلينا ، ومن أخذ عنا ذكراً فانه يستقر في عليين معنا ، وقد ضُمن لنا هذا بوعد صادق لا خُلف له " .
بيان بطلان قول البرعي وغيره من الصوفية في هذا الباب :(142/48)
أولاً : تثبيت المؤمنين عند خروج أرواحهم وعند سؤال الملكين لهم هذا من خصائص الله - سبحانه وتعالى - التي لا يشاركه فيها غيره أبداً ، قال - سبحانه وتعالى - في سورة إبراهيم : { يثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } (27) قال السَّعدي : " يخبر تعالى أنه يثبّت عبادة المؤمنين أي الذين قاموا بما عليهم من الإيمان القلبي التام ، الذي يستلزم أعمال الجوارح ويُثْمرها ، فيثبّتهم الله في الحياة الدنيا ، عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين ، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه الله على هوى النفس ومرادها ، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي والخاتمة الحسنة ، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح إذا قيل للميت من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ هداهم للجواب الصحيح بأن يقول المؤمن " الله ربي ، والإسلام ديني ، ومحمد نبيّي " ، { ويُضلُّ الله الظالمين } عن الصواب في الدنيا والآخرة وما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم " انتهى .
وقال ابن كثير :" قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن طاووس عن أبيه { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا } قال : لا إله إلا الله { وفي الآخرة } المسألة في القبر . وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح { وفي الآخرة } في القبر". وقال ابن كثير:"قال المسعودي عن عبدالله بن مخارق عن أبيه عن عبدالله قال : " إن المؤمن إذا مات أُجلس في قبره فيقال : ما ربك ؟، ما دينك ؟، من نبيك؟ فيثبِّته الله فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد - - صلى الله عليه وسلم - - وقرأ عبد الله { يثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ".(142/49)
وخلاصة الأمر: أن الله هو الذي يثبِّت عبادة المؤمنين وليس غيره ولذلك يسأل الناسُ اللهَ أن يثبّت ميّتهم عند السؤال كما جاء في الحديث " سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل " وأما قول المتصوفة إن الولي الفلاني يثبت مريده عند الموت فهذا غاية الضلال ، لأن هذا مساواة له بالله ، فالله يقول : { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } والبرعي وكثير من الصوفية يقولون : "يثبت الأولياء مريدهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " كما هو ظاهر جداً من قولهم.
ثانياً : روى الإمام مسلم (2846) عن ابي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : "احتجَّت الجنة والنار فقالت النار فيَّ الجبَّارون والمتكبِّرون ، وقالت الجنة :فيَّ ضُعفاء الناس ومساكينهم ، فقضى الله بينهما : إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليّ ملؤها " .
فبيَّن - سبحانه وتعالى - أن الجنة هي رحمته يصيب بها من يشاء وليست هي رحمة أحد غيره ولو كان نبياً أو ملكاً فضلاً عن أن يكون شيخ طريقة صوفية ، فليست الجنة هي رحمة أولياء الصوفية يَعِدُوْنَ بها من يشاؤن ، ويَضْمنونها لمن يشاؤن ، ومع هذا البيان الواضح الصريح من الله بقوله : " إنك الجنة رحمتي ارحم بك من أشاء " إلا أن الزنادقة يدَّعون أنها هي رحمة أوليائهم يصيبون بها من يشاؤن . وقد علمت أن صفة هؤلاء القوم الضالين هي مساواة أوليائهم بالله في كل شيء في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات فلا تستبعد منهم القول أن الجنة تحت تصرف أوليائهم ولكن اعلم ، واحذر ، واسال الله الثبات على الحق ، واستعذ به من سلوك سبيل الضالين ، ونهج الكافرين ، واشكره على نعمة الهداية إلى الصراط المستقيم ، فإنها خير من ملء الأرض ذهباً ، وأغلى ، وأعز .(142/50)
ثالثاً : روى الإمام مسلم (309) عن عبدالله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب :" قال لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فقالوا : فلان شهيد وفلان شهيد ، حتى مروا على رجل فقالوا : فلان شهيد ، فقال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - : "كلا إني رأيته في النار في بُردة غلَّها ، أو عباءة " .
وفي رواية : "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه ناراً أخذها من المغانم يوم خيبر لم تصبها المقاسم " .(142/51)
الشاهد : أن هذا الصحابي كان من الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، بل كان من المجاهدين في سبيل الله ، ليس هذا فحسب بل قُتل في سبيل الله ، ولكنه أذنب ذنباً وهو أخذه الشملة قبل قسمة الغنائم وهذا من الغلول . فهل ثبته النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في سكرات الموت أو في القبر ؟ لا ، لم يكن ذلك بل أوحى الله إليه أنه يُعذب في قبره بسبب تلك الشملة أو العبادة التي غلها ومع أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - علم ذلك إلا أنه لم يصرف عنه ذلك العذاب ولم يقل لله إنه صاحبي وقد قُتل معي فكيف يُعذَّب في عباءة غلَّها لم يفعل ذلك النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لايملك لنفسه ضراً ولا نفعاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولأن عذاب العباد راجع إلى الله وحده { لله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } فإذا علمت هذا تبين لك أن الأنبياء والأولياء لا يثبّتون اتباعهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ( القبر) ، ولا يصرفون عنهم عذاباً ، ولا يدخلونهم جنة ونعيماً ، وإنما الأمر كله لله ، والبرعي يقول إن شيخه يدخل مريديه الجنة وإن فعلوا ما فعلوا ، وإن كانوا مستحقين للعذاب ، فإن عبد الكريم السماني سيدخلهم الجنة على حدّ قول البرعي ، وأنا أقول له إن استطاع عيسى ابن مريم أن يدخل الجنة النّصارى الذين يحبونه ويقولون إنه ابن الله ويستغيثون به ، فإن السماني سيدخل مريديه الجنة، الذين يعبدونه بالاستغاثة ، والدعاء ، فإن امتنع الأول ، كان امتناع الثاني ، من باب أولى وأولى .(142/52)
رابعاًَ : روى الإمام البخاري - رحمه الله تعالى- (3073) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " قام فينا النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره ، قال : لا ألفينَّ أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ،على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك وعلى رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك ، على رقبته صامت فيقول : يا رسول أغثني فأقول : لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك" .
فالنبي - - صلى الله عليه وسلم - - يوم القيامة يتبرأُ من أتباعه إذا أخذ أحدهم من الغنائم فرساً أو بعيراً أو أقل من ذلك قبل أن تُقسم ، يتبرأُ منه ويقول له لا أملك لك شيئاً فضلاً أن يُدخله الجنة ، والبرعي يظن أن الأمر بيد شيخه وأن الجنة هي ملكه يدخل فيها من يشاء ، والشرط أن يكون الإنسان من مريديه ، وأما التجاني الذي مدحه البرعي فقد أتى بشيء لم يسبقه قبله به أحد من العالمين ، فقد ادعى أن كل من راءه وإن لم يكن من أحبابه ومريديه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ومع هذا يدعي البرعي أن التجاني هوالغوث الأعظم ، فسبحان الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم الحليم .(142/53)
خامساً : روى الإمام البخاري ( 1243) عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء امرأة من الأنصار بايعت النبي - - صلى الله عليه وسلم - – أخبرته "أنه أقتسم المهاجرون قرعة ، فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه ، فلما توفي وغُسل وكُفَّن في أثوابه دخل رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فقلت : رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : وما يدريك أن الله قد أكرمه ؟ فقلت : بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله ؟ فقال عليه السلام : أما هو فقد جاءه اليقين ، والله إني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ، قالت : فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً " .
هذا الحديث من أكبر الأدلة التي توضح :
1- أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لا يثبت أحداً عند الموت ولا في القبر عند سؤال الملكين بل أقسم النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه لا يدري ما يفعل به فضلاً أن يحكم لعثمان بن مظعون بأن الله أكرمه أم لا ، مع أنه أي عثمان بن مظعون من أصحاب النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ومن المهاجرين الأوائل ومع هذا فلم يشهد له النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالجنة ، والإكرام من الله . والبرعي يقول إن شيخه يدخل من مات من أحبابه الجنة – ،والتجاني يقول إن كل من راءه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وقد يأتي آخر ويقول إن مقام أقل اتباعه مرتبة في الجنة أعلى من مقام محمد - - صلى الله عليه وسلم - -، فلا تستبعد هذا ، فالأمر ما هو إلا ادّعاء ، وكذب ، وافتراء . فأصحاب الكفر الباطن إذا كان عند أحدهم جرآءة قال ما قال من الكفر ، ولا يبالي خاصة إذا كانت له شوكة وقوة .(142/54)
سادساً : روى البخاري (5673) أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول :" لن يُدخل أحداً عملُه الجنَّة " قالوا : و لا أنت يا رسول الله ، قال: لا ، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ولا يتمنى أحدكم الموت ، إما محسنا فلعله أن يزداد خيراً ، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب " .
والشاهد : أن الذي قال ولا أنا إلا إن يتغمدني الله برحمته هو اتقى الناس وأخشاهم لله وأحبهم وأكرمهم عنده وهو أعظم الناس عند الله منزلة ، وهو الذي سيقيمه الله المقام المحمود ومع هذا قال ما قال ، فدل قوله على ما يلي :
(1) أن الأمر كله لله لا يتصرف فيه إلا هو ، ومن أعظم الأشياء التي يملكها الله وحده وليس لأحد فيها ملك مع الله دار كرامته ، وهي الجنة بل ليس للنبي - - صلى الله عليه وسلم - - فيها ملك ولو مثقال ذرة ، وإنما مالكها والمتصرف فيها هو الله وحده يدخل فيها من يشاء ويُحرِّمها على من يشاء .
(2) أن أهل التصوف في ضلال بعيد وفي غرور عظيم وفي وَهْمٍ عريض وإنهم يتبعون الأماني الباطلة فهم يدعون أن أولياءهم يتصرفون في الكون ليس هذا فحسب بل جنة الله تحت تصرفهم يدخلون فيها من يشاؤن والشرط أن يكون الإنسان من اتباعهم قال تعالى حاكياً عن اليهود { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
وكل هذا الإدعاء حتى يصرفوا الناس إلى عبادة أوليائهم ، فإذا كان أولياؤهم مالكين للدنيا وللآخرة إذاً فلماذا يسأل المريد الله شيئا وهذا شيخه يتصرف في الكون ، ويدخله الجنة يوم القيامة . فسبحان الله العظيم.(142/55)
واعلم أن هذا العقيدة التي بيّنا بطلانها وهي اعتقاد الضالين أن أولياءهم يحضرون عند نزع أرواحهم ، وعند سؤال الملكين لهم في القبر ، ويثبتونهم على الحق ، هذه العقيدة من مكر الشيطان العظيم بهم فزين لهم، وخدعهم أن أولياءهم يحضرونهم عند الموت فيثبتونهم بالقول الثابت . وهذا الاعتقاد إذا اعتقده المريد فإنه من أخطر الأشياء عليه عند الموت وبيان ذلك أن الشيطان سيحضر عند موت المريد في صورة شيخه ، لأن الله أعطى الشيطان المقدرة على التَّكَون بصور الآدميين ماعدا صورة نبينا محمد -- صلى الله عليه وسلم -- ومن الأدلة على هذا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : كما ورد في البخاري " فإن الشيطان لا يتكونني " فدل هذا على أن الشيطان يتكون في صورة غيره ، ومن الأدلة كذلك على أن الشيطان يتكون في صورة الآدميين أنه جاء إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - في صورة إنسان فقير يطلب الصدقة ، وأنه جاء إلى المشركين وهم مجتمعون في دار الندوة حينما أرادوا المكر بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ليثبتوه ، أو يقتلوه ، أو يخرجوه ، فجاءهم في صورة شيخ وقور من أهل نجد .(142/56)
لذلك سيأتي الشيطان إلى المريد في سكرات الموت في صورة شيخه ، فيراه المريد فيستبشر لذلك استبشاراً عظيماً ، لأنه يكون في أضعف أحواله ، وعندها يأمره الشيطان الذي هو في صورة شيخه ، بأن ينطق بكلمة الكفر مثل أن يقول له استغث بي ، أو قل يا تجاني أغثني ، أو يا رفاعي أغثني ، أو يقول له إني لا أستطيع أن اشفع لك عند الله حتى تسجد لي ، ويختار الشيطان بمكره لكل مريد ما يناسبه من ألفاظ الكفر ، وأفعاله ، فإذا فعل ذلك المريد هلك ، وخُتم له بالكفر ، وعندها يتبرأُ منه الشيطان ، قال تعالى : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بري منك إني أخاف الله رب العالمين } فإذا تدبرت في هذا علمت أن الشيطان بعد أن أضلهم في هذه الدنيا فقادهم إلى عبادة أوليائهم ، إلا أنه لا يطمئنُ حتى يُختم لهم بالكفر الأكبر عياذاً بالله من ذلك ، لذلك زين لهم هذا الاعتقاد ، وحسنه في قلوبهم .
الباب السابع
وهْم البرعي في أنَّ الخبر إذا كان متواتراً كان حقاً في نفسه وسلوكه سبيل المشركين في الاحتجاج بالتواتر
قال في قصيدته " يا نفسي أمرحي " يمدح الطيب ابن البشير :
كراماته ما بتنعد كالبحربل أزيد خبر صَحَّ ومتواتر عن . ... يرويها جماعة لا خبر آحاد الآبا والجد .(142/57)
يدعى البرعي في هذين البيتين أن كرامات شيخه وصلت منقولة له بالتواتر عن آبائه وأجداده مما يدل على أنها حق ، وهذا من الجهل العظيم ، فوصول الخبر إلى أحد ما بالتواتر لا يدل على أحقية الخبر المتواتر أو بطلانه ، وإنما يدل على ثبوت الخبر عن المخبر عنه ، فإذا كان المخبر عنه معصوماً عن الباطل كان الخبر حقاً ، وإن كان المُخْبر عنه كذاباً دجالاً كان الخبر باطلاً ، كمثال وصل إلينا بالتواتر أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال إنه نبي مرسل من الله ، فهذا الخبر ثابت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو حق ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- معصوم من الكذب على الله . ووصل إلينا بالتواتر أيضاً أن مسيلمة الكذاب قال إنه نبي ، فهل يدل هذا على أنه حقاً نبي لأن الخبر عنه وصل إلينا بالتواتر ؟ لا يدل على ذلك أبداً ، وإنما يدل على أنه حقاً قال إنه نبي .
والمشركون كذلك وصل إليهم الشرك عن آبائهم بالتواتر ، فإن آباءهم الأولين فعلاً كانوا يعبدون الأصنام ، فادَّعى المشركون أن عبادة الأصنام حق ، لأنها وصلت إليهم متواترة عن آبائهم ، وهذا جهل ، وكذب ، وكلام باطل ، لأن آبائهم الأولين ضلوا الطريق المستقيم عندما عبدوا غير الله .
وكذلك البرعي وصلت إليه هذه الكرامات التي لا تتفق مع العقل والفطرة والشرع عن طريق التواتر ، ولكن من الذي افتراها واخترعها إنه كذاب من الكذابين قالها فصدقه الناس ، ثم تناقلوها عنه جيلاً بعد جيل ، تماماً كعبادة الأصنام ، فإن أول من أتى بها عمرو بن لحي الخزاعي ، ثم تناقلها الناس عنه جيلاً بعد جيل .
الباب الثامن
بيان إعتقاد البرعي أنَّ ثواب المرّة الواحدة من صلاة الفاتح يعدل ثواب قراءة القرآن ستة آلاف مرة ، وأنَّ فضل المرة الواحدة من جوهرة الكمال يعدل تسبيح العالم ثلاث مرات ومدحه لأحمد التيجاني بقصيدة كاملة
تعريف بصلاة الفاتح وجوهرة الكمال :(142/58)
هما أحد الأذكار المبتدعة التي أحدثها أهل الباطل واخترعوا لها فضلاً من عند أنفسهم ، ثم نسبوه إلى الله كذباً وزوراً وافتراءً ، يقول أحمد التجاني كما في كتاب " جواهر المعاني لعلى براده (1/114 ) : "سألت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن فضل صلاة الفاتح لما أغلق فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات ، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار "، ثم قال أحمد التجاني (ص 1/116) :فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة ".
وأما جوهرة الكمال فقد قال عنها محمد سعد الرباطابي في شروط وأحكام أوراد الطريقة التجانية (ص 25) : " وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لسيدنا الشيخ - رضي الله عنه - يقظة لا مناماً فمن فضلها أن المرة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات بشرط الطهارة المائية ، وأن من لازمها كل يوم سبع مرات يحبه النبي -- صلى الله عليه وسلم --، وأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذاكر عند السابعة منها ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها" .
هذه هي فضائل صلاة الفاتح وجوهرة الكمال عند أهل الزندقة والإلحاد والكذب البين على الله ورسوله ، ولا أظن أن كذباً كهذا يخفى على من له أدنى علم بشريعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ومع وضوح هذا الإفتراء والكذب إلا أن البرعي آمن به ، وصدقة ، وأقرَّه ، ودعى إليه ، وأثنى عليه . فقال في قصيدته في أحمد التجاني (ص 121) :(142/59)
وبني على نهج النبي طريقة ورداً تشم المسك في نفحاته ووظيفة كالتبر وهو يصوغها كم للصلاة الفاتحية من يد بل كم لجوهرة الكمال من السنا لا عيب فيها غير أن مريدها . ... وعلى كتاب الله ذي التبيان ورواتباً كالروح والريحان للسالكين وكالثمار الداني في الفضل والبركات والرجحان قد أشرقت أنوارها بمعاني يحظى بوصل للمهيمن داني .
في هذه الأبيات أثنى البرعي على التجاني وأوراد طريقته وكذلك أثنى على صلاة الفاتحة وفضلها الذي افتراه التجاني وأثنى كذلك علىجوهرة الكمال وفضلها مما يدل على أنه يعتقد أن ثواب المرة الواحدة منها يعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة.
قال محمد خضر الجكني في كتابه مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني (ص 259) :" ومن زعم أن شيئاً من كلام البشر أفضل من القرآن فقد كفر بما أُنزل على محمد وذلك لأن القرآن كلام الله تعالى وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فتفضيل كلام بعض المخلوقين على كلام الله كتفضيل بعض المخلوقين على الله و فاعل ذلك لا يشك في كفره " انتهى .
ومما يوضح ضلال أحمد التجاني الذي مدحه البرعي بقصيدة كاملة ما ورد في البحث المختصر عن الطائفة التجانية الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية ، حيث جاء فيه في خاتمته الآتي : " إن ما تقدم في الاعداد من بدع التجانية قليل من كثير مما ذكره علي حرازم في كتابه جواهر المعاني وغاية الأماني ، وما ذكره عمر بن سعيد الفوتي في كتابه رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم ، وهما من أوسع كتب التجانية وأوثقها في نظر أهل هذه الطريقة .
إن ما ذكر في الإعداد إنما هو نماذج لأنواع من بدع التجانية تتجلى فيها عقائدهم وتكفي لمن عرضها على أصول الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- أن يحكم على كل من يعتقد هذه العقائد المبتدعة المنكرة .(142/60)
ونلخص فيما يلي جملة من عقائدهم التي تضمنها البحث :
1- غلو أحمد بن محمد التجاني مؤسس الطريقة وغلو أتباعه فيه غلواً جاوز الحد حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريدوه .
2- إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه .
3- زعمه رؤية النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقظة ، وتلقين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إياه الطريقة التجانية وتلقينه وردها والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك .
4- تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أولا ثم يفيض منه على الأنبياء ثم يفيض من الأنبياء عليه ثم منه يتفرق على جميع الخلق من آدم إلى النفخ في الصور ويزعم أنه يفيض أحياناً من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عليه مباشرة ثم يفيض منه على سائر الخليقة ويؤمن مريدوه بذلك ويعتقدونه .
5- تهجمه على الله وعلى كل وليّ لله وسوء أدبه معهم إذ يقول:" قدماي على رقبة كل ولي". فلما قيل له :" إن عبدالقادر الجيلاني قال - فيما زعموا - قدمي على رقبة كل ولي". قال :"صدق ولكن في عصره ، أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور"، فلما قيل له :" أليس الله قادر على أن يوجد بعدك وليا فوق ذلك؟ قال : "بلى ولكن لا يفعل كما أنه قادر على أن يوجد نبيا بعد محمد -- صلى الله عليه وسلم -- ولكنه لا يفعل "ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه .
6- دعواه كذباً أنه يعلم الغيب وما تخفى الصدور وأنه يصرف القلوب وتصديق مريديه ذلك وعدُّه من محامده وكراماته .
7- إلحاده في آيات الله وتحريفها عن مواضعها بمايزعمه تفسيرا إشارياً كما سبق في الإعداد من تفسيره قوله تعالى : { مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان } .ويعتقد مريدوه أن ذلك من الفيض الإلهي.(142/61)
8- تفضيله الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة وهي المرتبة الدنيا في نظره .
9- زعمه هو وأتباعه أن مناديا ينادي يوم القيامة والناس في الموقف بأعلى صوته يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كان منه مددكم في الدنيا .. الخ .
10- زعمه أن كل من كان تجانياً يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب مهما فعل من الذنوب .
11- زعمه أن من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر.
12- زعمه أنه يجب على المريد أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسّل لا اختيار له ، بل يستسلم لشيخه فلا يقول : لِم ؟ ولا كيف ؟ ولا علام ؟ ولا لأي شيء .. إلخ .
13- زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم ، علمه إياه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثم هول أمره وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات ، خرصاً وتخميناً ورجماً بالغيب واقتحاماً لأمر لا يعلم إلاّ بالتوقيف .
14- زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمنا محدوداً يتفاوت بتفاوت مراتبهم ودرجاتهم ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء .
15- زعمه أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم وكذا الخلفاء الراشدون .. إلخ .
إلى غير ذلك مما لو عرض على أصول الإسلام اعتبر شركاً وإلحاداً في الدين وتطاولاً على الله ورسوله وتشريعه وتضليلاً للناس وتبجحاً منهم بعلمه الغيب .. إلخ هذا ما تيسر والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد و آله وصحبه وسلم .
الباب التاسع
بيان اعتقاد البرعي أنّ الميت لا يعذب في القبر إذا كتب اسم عبد القادر الجيلاني على كفنه أو قال الدافن هذا قبر أحمد الطيب .
الأدلة من شعر البرعي على أنه يعتقد ما أشرنا إليه :(142/62)
قال في مدح أحمد الطيب بن البشير:
ومن قال هذا قبر أحمد أولاً ……فصاحبه في القبر ليس يعذب
وفي قصيدة له أخرى يقول :
واليذكر اسمه عند القبر يسعد
وقال في مدح الشيخ عبد القادر الجيلاني:
بأكفان من قد مات إن كتب اسمه …يكون له ستراً من النار والهول
في هذه الأبيات يدعي البرعي أن الميت مهما عمل من الأعمال القبيحة وإن استحق العذاب فإنه سينجو منه ولا يعذب إذا كتب اسم عبد القادر الجيلاني على أكفانه أو قال الدافن هذا قبر أحمد الطيب . فهذان شرطان عند البرعي لمنع الميت من العذاب .
بيان بطلان هذا الادعاء :
أولاً : على البرعي أن يأتي بدليل واضح من الكتاب والسنة على أن اسم عبد القادر الجيلاني إن كتب على كفن الميت فإنه لا يعذب ، أو إذا ذكر اسم أحمد الطيب عند القبر، ولن يأتي بدليل من الكتاب والسنة على هذا الادعاء حتى يلج الجمل في سم الخياط.
ثانياً : ما ادعاه البرعي هذا من أقبح الكذب وأعظم الإفتراء على الله - سبحانه وتعالى - فمن أين علم البرعي أن الله لا يعذب من كتب اسم عبد القادر على كفنه ، أو ذكر اسم الطيب على قبره ، هل أوحى الله إليه بذلك ؟ وهل يظن البرعي أنه نبي مرسل يُوحى إليه ثم يبلغ هو عن الله هذا التبليغ ، أم هو الكذب ، والافتراء على الله الذي يظنه البرعي من الأمور المباحة التي لا يؤاخذ بها الإنسان ، قال - تعالى - في سورة الأنعام : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } (93) .
فهذا هو جزاء الذين يقولون على الله الكذب ، فلْيعِ البرعي هذا الأمر جيداً هو واتباعه ، فإن الله - سبحانه وتعالى - يقول { وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } .(142/63)
ثالثاً : هذا الكلام الذي ذكره البرعي غريب جداً ، بل هو غاية في الغرابة ، والبشاعة ، وأنا والله أقف حائراً كيف أعلق على افتراء كهذا، ألهذا الحد بلغ بالناس الافتراء ، وإلغاء العقول ، وتسفيهها ، والازدراء بالله ، وبشرعه وبأوامر الله التي أمر بها ، ونواهيه التي أمر باجتنابها ، ونار الله العظيمة التي اعدها لمن خالف شرعه ، وأمره ، ونهيه ، هذه النار لكي يُنجى منها الإنسان نفسه أو صاحبه عليه أن يكتب على كفن صاحبه اسم عبد القادر الجيلاني ، أو يذكر اسم احمد الطيب ، وبعدها فإنَّ صاحبه لا يعذب ، وإن كان مستحقاً للعذاب !! ما أعظم فرحة العاصين والمذنبين التاركين للصلوات ، والمحاربين لله ، والآكلين لمال اليتيم ، دعوة صريحة لهم من البرعي أن لا يخافوا ولا يحزنوا ، وأن يبشروا بالأمن الكامل من عذاب القبر ، وحتى يتحقق ذلك لهم فقط على أوليائهم أن يكتبوا اسم عبد القادر على اكفانهم ، ويا حسرة من مات قبل أن يخلق عبدالقادر الجيلاني منذ أن خُلِقَ آدم ، المستحقين للعذاب لو علموا هذا وكتب على اكفانهم اسم عبد القادر لنجو من عذاب الله الأليم ، ولما كان هناك عذاب قبر أصلاً للكافرين فضلاً عن الموحدين . فاستمع أخبار القوم يا رعاك الله لتعلم أنه لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .(142/64)
رابعاً : ما قاله البرعي وأخبر عنه وحث عليه فيه أن اسم الشيخ أعظم تأثيراً من اسم الله تعالى ، وهذا من الشرك بالله الذي ما كان يفعله المشركون ، خاصة إذا صاحبه اعتقاد أن اسم الشيخ يمنع من النار ، فهو شرك في الألوهية والربوبية ، فإن المشركين كانوا يبدأون كتاباتهم باسم الله روى الامام البخاري (2731) في قصة صلح الحديبية عندما كاتب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قريشاً على الصلح قال: " فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً فدعا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الكاتب فقال النبي - - صلى الله عليه وسلم - - اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال سهيل: أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو ؟ ولكن أكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اكتب باسمك اللهم".
ومن نظر في هذا الحديث تبين له الآتي:
(1) أن سهيل بن عمرو حلف بالله فقال "والله" وهو يومئذ مشرك فدل هذا على أن المشركين كانوا يقسمون بالله ، وكثير من أصحاب الطرق الصوفية يحلفون بأوليائهم أكثر من حلفهم بالله ، بل إذا حلف أحدهم بالله قد يحلف وهو كاذب ، وإذا قيل له احلف بشيخك لا يحلف به إلا إذا كان صادقاً ، وهذا يدل على أن شركهم أعظم من شرك النصارى القائلين ، إن الله ثالث ثلاثة أو ثاني إثنين . فالنصارى يخشون المسيح كخشية الله وأما الصوفية فمنهم من يخشى من شيخه أشد من خشيته لله ، ويرهبه اشد من رهبته لله ، وهذا واقع مشاهد كالذي يحلف بالله ، كاذباً وإذا حلف بشيخه حلف صادقاً.(142/65)
(2) قول سهيل بن عمرو "اكتب باسمك اللهم" وهو ابتداء ببسم الله وكذلك عندما كتبوا الصحيفة التي بموجبها تم فصل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأصحابه في الشعب ابتدؤها ببسمك اللهم . فإذا ثبت أنهم كانوا يبتدئون أمورهم العظيمة ، ومكاتباتهم ، وشروطهم ، ببسم الله تعظيماً، له وتكريماً مع انهم كانوا مشركين دل هذا على انهم أفضل حالاً من مشركي زماننا، الذين يحفرون القبور باسم شيوخهم .
خامساً: ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال :"كل شيء لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" هذا إذا لم يُذكر اسم الله صار العمل أبتراً لا خير فيه ، ولا بركة ، فكيف إذا استبدل اسم الله العظيم الأعظم والجليل الأكرم والرحمن الرحيم باسم غيره رجاء لبركة ذلك الغير وتعظيماً له وتشريفاً واعتقاداً فيه أنه ينفع ويضر ، ومن نفعه أنه يمنع من العذاب . فأي بركة بعد ذلك ترتجى ، وأي خير بعد ذلك يؤمل لو كان يفقه ذلك الجاهلون . لا إله إلا الله ما أشد ظلم المشركين ، وما أعظم نسيانهم لرب العالمين ، وما أشد تعلقهم بالمخلوقين نسأل الله العافية . ولا يظن ظان أني بإنكاري على البرعي في دعوته الصريحة لكتابة اسم شيخه على الكفن وادعائه أنها تقي صاحبها من النار أدعو لكتابة اسم الله على الكفن ، ليس هذا من شأني ولا هو من حقي ، فإن الحكيم العليم والإله الحق الذي له الأمر كله وهو الذي يحكم لا معقب لحكمه لم يأمر بكتابة اسمه على أكفان الموتى ، سواء الكفار منهم أو المسلمين ، ولا رسوله كذلك ، فدل هذا على أنه سبحانه وتعالى لم يشرع ذلك وأنه لا يحبه ولا يرضاه ، وأنّ من كتب اسم الله على الكفن فهو مبتدع ضال ؛ لأنه مخالف لله ورسوله ، ولأنه كتب اسم الله في مكان لم يأذن الله له بكتابته فيه ، ولأنه لو ادعى أنه يعظم الله بذلك فقد اتهم إمام المعظمين لله جل وعلا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يعظم الله حق تعظيمه عندما ترك كتابة اسم الله على(142/66)
أكفان أصحابه الذين قتلوا في بدر وأحد وغيرهم ممن ماتوا بالمدينة وغيرها . ولأنه لو ادعى أن ذلك أنفع للميت وأن هذا هو شرع الله الذي يحبه الله ويرضاه فقد اتهم الرسول الكريم الذي بلّغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام بأنه لم يدل أمته على ما ينفع موتاها وأنه كتم الوحي ، وكفى بهذا قدحا في إمام الأنبياء وسيد الأولياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . ومع كل هذه الاعتقادات الباطلة يريد جماعة من المسلمين من الصوفية أن تنهض بالأمة ، ويرجون منها فلاحاً ونصراً . والله الذي لا إله إلا هو لن تنهض الأمة وينصرها الله،حتى تُنكَّسَ رايات الصوفية وَيَخِرُ عليها السقف من فوقها ، وإلا والصوفية هي الغالبة والمسيطرة على العقول ، فلن تفلح هذه الأمة أبداً { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } .
الباب العاشر
بيان اعتقاد البرعي أنَّ رِضَى الله لا يُنال إلا عن طريق شيخ من شيوخ الطرق الصوفية - تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً- ،وأنَّ من شروط ذكر الله مبايعة أحد شيوخ الطرق الصوفية
ذكر الأدلة من شعره التي تبيّن ما أشرنا إليه :
قال في قصيدته حلقات الذكر (ص 63) :
الذكر نور مفاض في السريرة من
وشرطه العارف الشيخ الذي كملت . ... فيض الذي برأ الأكوان يأتيكا
أخلاقه وبذكر الله يحييكا .
وقال في قصيدته أجل الفؤاد ص (65) :
أجل الفؤاد بكلمة التوحيد
كم علمت كم جمّلت كم كمّلت
لكن بشرط الأخذ عن متصوف . ... جوف الليالي وانت جد وحيد
كما نوّرت قلباً من التسويد
بالله حقاً عارف ورشيد .
وقال في قصيدته أهل الطريقة ص (131):
لا وصل للمتوجهين لربهم
سلم لقومك ثم كن عبداً لهم
وكذاك عادى من يكون عدوهم . ... إلا بشيخ عارف ومعلم
وأخشاهم دوماً كخشية ضيغم
واحذره في دنياك حذر الأرقم .
وقال في قصيدته في مدح عثمان الميرغني:
والشيخ واسطة المريد لربه
والشيخ شرط لا وصول لسالك(142/67)
من لاله شيخ يؤم فشيخه . ... قد جاء نصاً كالنبي في قومه
إلاّ به يا مدعيه بجزْمِه
شيطانه يسعى به في المَهْمَهِ .
الرد على البرعي في ادعائه هذا :
أولاً : اعلم أن اشتراط البرعي وغيره من الصوفية شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية لمن يريد أن يصل إلى الله هو نوع من أنواع كذبهم ، وافترائهم على الله ، وقصدهم واضحٌ جداً وهو تكثير سوادهم ، ودعوة الناس إلى باطلهم ، واستعبادهم بل وأخذ البيعة على ذلك ، وهذا واضح من واقعهم ومن قول البرعي:
سلم لقومك ثم كن عبداً لهم . ... وأخشاهم دوماً كخشية ضيغم .
ثانياً: عليه أن يأتي بالدليل على أن الله - سبحانه وتعالى - قال لا وصول إليَّ إلا بشيخ من شيوخ الطرق الصوفية ، أو أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال عليكم بأهل الطرق الصوفية فإنه لا وصول إلى الله إلا بهم ، ولن يأتي به حتى يلج الجمل في سمِّ الخِياط ، لأن الله قال في كتابه { وإذا سألك عبادي عني فأني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان } ولم يقل فإني قريب بشرط أن تتوسلوا إليّ بشيوخ الطرق الصوفية ، وهذا هو النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول :"من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر" . فهل اشترط لقولها عالماً عارفاً أو فقيهاً مجتهداًً أو محدّثاً حافظاً ، فضلاً أن يشترط لقولها شيخاً زندقياً ، أو كاهناً ساحراً، أو مشعوذاً نجساً ، أو مجذوباً مهبولاً ، أو تاركاً للصلاة منافقاً يدّعي أنه يصلي بالحرم وهو من التاركين للصلاة ، ثم يصدقه من هم أضل من الأنعام. فإذا لم يأت بالدليل ولن يأتي به ، فليعلم أن قوله هذا هو من افتراءاته التي لا تحصى ، ولا تعد ، والتي اخترعها أهل التصوف حتى يهدموا بها الإسلام من داخله، لأن أئمة الصوفية الذين وضعوا هذه القيود كأمثال الحلاج وغيره هم من الكفار الباطنيين الذين ينكرون وجود الله ، ويؤمنون بوحدة الوجود والحلول والاتحاد ولكنهم يُظهرون الإسلام .(142/68)
ثالثاً : هذه الطرق الشيطانية التي يوجب البرعي الانتماء إليها هي من البدع المحدثة التي لا أصل لها ، والتي حذر منها المصطفى -- صلى الله عليه وسلم -- بقوله: " إن شرّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" ، وقوله: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" ، فهذه الطرق الصوفية مردودة على أصحابها ، لا تزيد من انتمى إليها من الله إلا بعداً ، لأنها ليست من الإسلام في شيء ، وليست هي من هدي نبينا -- صلى الله عليه وسلم --، وإنما هي من هدي الشيطان . وإن قال قائل إنها من الإسلام ، ولا وصول للسالكين إلا بها كما يدعي البرعي ، قلنا له فما هي طريقة أبي بكر الصديق ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وهل كانوا من أتباع الطريقة القادرية ، أم الأحمدية ، أم الشاذلية الدسوقية . وما هي طريقة الإمام مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة هل كانوا من أتباع الطريقة التجانية ، أم الرفاعية ، فإن قال قائل إنهم كانوا على طريقة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- قلنا له هذا هو الحق ، ولا وصول للسالكين إلى ربهم إلا باتباع طريقته ، ونحن كذلك على طريقة خاتم الأنبياء وسيد الأولياء ، وكل من حاد عن طريقته فهو مبتدع ضال هالك { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كانوا هوداً أو نصارى قل ءأنتم أعلم أم الله } .(142/69)
رابعاً : قول البرعي:" إنَّ هذه الطرق الصوفية توصل السالك إلى الله" كلام باطل ؛ لأن الله لا يتوصل إليه إلا بما أمر به على ألسنة رسله ، فلو آمن الإنسان بالله ورسوله ولكنه لم يعبد الله بشريعته وطريقته ، أي بما أمر الله به على لسان رسوله ما وصل إلى الله أبدا ، بل لم يزدد منه إلا بعداً ، وهذا حال هذه الطرق فإنها ما تزيد المتمسك بها من الله إلاّ بعداً، وإنما تزيده تعلّقاً وحباً في الشيخ حتى يحبه كحب الله ويطيعه كطاعة الله . فإن أرباب الطرق الصوفية لم يجدوا طريقاً لإستعباد الناس الإستعباد الحقيقي إلا عن طريق إبتداع مثل هذه الطرق ، ومما يدل على خبث سرائرهم وسوء مقاصدهم أنهم يقولون لمن سلك الطريق الصوفي على يديهم يجب عليك أن لا تنكر على الشيخ أبداً ، وإن رأيته يأتي بالمنكرات العظيمة وعليك أن تكون بين يديه كالميت بيد المغسل ، قال البرعي يحذر من الإنكار عليهم :
وإذا بدا لك منكر ألفيته
أوِّل بفقه ما تشابه منهم . ... في قولهم أو فعلهم لمحرَّم
تأويل خير مؤول ومترجم .
وقال :
سلم لقومك ثم كن عبداً لهم . ... واخشاهم دوماً كخشية ضيغم .(142/70)
ولهذا تجد أتباعهم عبيداً لهم بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فهم يعبدونهم كعبادة الله بل أشد ، ومن أنواع عبادتهم لهم أنهم يخافون منهم في السر ، فتجد المريد يعتقد أن شيخه يعلم الغيب فيخاف منه في غيابه ، وكذلك يحبونهم مع الله ، ويطيعونهم كطاعة الله ، فليس عند أتباع الشيخ هذا حلال وهذا حرام ، كل ما يفعله الشيخ يقبله المريد بصدر رحب ، بلا إنكار لماذا ؟ لأن من آداب المريد عندهم أن لا ينكر على شيخه. وقد رأيت أحدهم يقف بجوار الشيخ طائعاً مختاراً بدون أجر ساعات طويلة منتظراً لأوامر شيخه وإذا أتت الصلاة نقرها كنقر الديك وقد لا يصلي بحجة أن أمر الشيخ أهم ، والشيخ سيشفع له ويضمن له الجنة مما يدل دلالة واضحة أنهم يطيعونهم أكثر من طاعة الله . بل إذا استحل شيخه شيئاً من المحرمات استحلها معه وإن حرم شيئاً من الحلال حرّمه تبعاً لشيخه ، مما يدل على أنه اتخذه رباً ثانياً مع الله .(142/71)
خامساً : الشروط التي وضعوها في طرقهم كلها باطلة ومنها البيعة فهل كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يأخذ البيعة على الصحابة أن يذكروا ذكراً معيناً ؟ أو اشترط عليهم أن يستأذنوا منه إذا أراد أحدهم أن يزيد ورده ؟ كل هذا لم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام وإنما كان يقول : "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له في يوم مائة مرة كان من أفضل أهل الأرض عملاً ولم يأت أحد بمثل ما جاء به إلا رجل عمل مثل ما عمل أو زاد عليه ". وهل كان أبو بكر وعمر يأخذان البيعة على الصحابة في أذكار معينة أو أوراد معينة ؟ ، وكذلك هذه الأوراد التي يلزمون بها أتباعهم هي من البدع المحدثات التي ما ذكر النبيُّ -- صلى الله عليه وسلم -- ولا أصحابه بها اللهَ - سبحانه وتعالى - فمثلاً (يا لطيف) مائة مرة أو (يا الله) أو (ياهو)، لو بحثت في الكتاب والسنة لن تجد ذكراً كهذا وإنما أسماء الله يدعى بها، فلم يثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال يا لطيف مثلاً عشر مرات أو ثلاث عشر مرة بعد الصلوات أو غيرها وإنما كان يدعو الله بأسمائه مثلاً : يا حي يا قيوم برحمتك استغيث أصلح لي شأن كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين . فخلاصة الأمر على الصوفية أن يأتوا بدليل خاص لكل ذكر ابتدعوه ، لأنه ما من ذكر إلا وله دليل خاص كما قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- :"من قال -سبحان الله- وبحمده في يوم مائة مرة غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر".
سادساً : مما يدل على بطلان ما ادعاه البرعي قوله تعالى في سورة الرعد " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) .(142/72)
قال السعدي - رحمه الله -:" { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله } أي يزول قلقها واضطرابها ، وتحضرها افراحها ولذاتها { إلا بذكر الله تطمئن القلوب } أي حقيق بها وحريّ أن لا تطمئن لشي سوى ذكره ، فأنه لاشيء ألذ للقلوب ولا أحلى من محبة خالقها والأنس به ومعرفته " انتهى . والصوفية ومنهم البرعي يقولون إن القلوب لا تطمئن إلا إذا بايعت شيخاً من شيوخهم ، بل إذا ذكر إنسان الله ولم يكن له شيخ من شيوخهم فشيخه الشيطان كما قال البرعي:" من لا شيخ له فالشيطان شيخه" . فانظر إلى أي درجة يُنفِّرون من ذكر الله بدون شيخ فتبّاً لهم ولمن سلك طريقهم { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } .
الباب الحادي عشر
- بيان اعتقاد البرعي أنَّ الأولياء الصالحين يسعهم الخروج عن شريعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ومخالفتها كما خرج الخضر عن شريعة موسى - على حدِّ زعمه - ، وأنه لا ينبغي أن يُنكر عليهم ولو أتوا بمنكر واضح يخالف شريعة الله ويجب على من رآهم على مُنْكر ما أن يرضى بذلك ويتذكر قصة موسى والخضر حتى تكون عوناً له على عدم الإنكار .
قال في قصديته أهل الطريقة صفحة ( 138 ) :
وإذا بدا لك منكر الفيته
أوِّل بفقه ما تشابه منهم
يجدون لمس الأجنبية عندهم
للخضر مع موسى الكليم قضية
قتل الغلام وللسفينة خارقاً
علم الحقيقة من أباح بسرِّه
لم يستطيع موسى الكليم لخضره . ... في قولهم أو فعلهم لمحرم
تأويل خير مؤول ومترجم
إن صافحت يدهم كذات المحرم
فيها الكفاية للفتى المستفهم
وبنى الجدار بغير أجر فافهم
للغير أهدر ماله بعد الدم
صبراً عليه فكيف بالمتعلم .
ردُّ قول البرعي وغيره من المتصوفة أنه يجوز للولي أن يخرج عن شريعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويجب على اتباعه وكل من رآه أن لا ينكر عليه :(142/73)
احتجاج الصوفية بقصة الخضر باطل لعدة أسباب منها :
(1) أن الخضر نبي على أصحِّ القولين وليس بولي ؛ لأن الأدلة تدل على أنه نبي من الأنبياء ومنها قوله تعالى في سورة الكهف: { فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه مِن لَدُنّا رحمة وعلَّمناه مِن لَدُنا علماً } (65) قال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان :"ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم الذي امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى : { وما فعلته عن أمري } أي وإنما فعلته عن أمر الله جلَّ جلاله وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جلَّ وعلا ، ولا سيما قتل النفس البريئة في ظاهر الأمر وتعييب سفن الناس بخرقها ؛ لأن العدوان على سفن الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى- إلى أن قال- وبالجملة فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي فمن ادعى أنه غني عنه في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته .
والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصر قال الله – تعالى- : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (الإسراء) ولم يقل حتى نلقي إلهاماً في القلوب وبذلك تعلم ان ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقة باطلة توافق الحق عند الله تعالى ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى زندقة وذريعة إلى الانحلال بالكلية عن دين الإسلام بدعوة أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره" انتهى كلامه - رحمه الله - من أضواء البيان (4/173-174) .(142/74)
وبهذا نصل إلى أن الخضر نبي وليس بولي مما يبطل دعوى الزنادقة بأن الولي أعلم من النبي بناءً على قصة الخضر مع موسى حيث يدعون ان الأولياء يعلمون علم الحقيقة الذي لا يعلمه الأنبياء ويستدلون بقصة الخضر مع موسى . و يبطل كذلك دعواهم انه يجوز للولي الخروج عن شريعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأنه يستطيع أن يصل إلى مرضاة الله من غير طريق النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لأن الخضر و إن جاز له الخروج عن شريعة موسى ومخالفتها فإنه لم يكن ولياً إنما كان نبياً.
(2) مما يدل على ان احتجاج الصوفية بقصة الخضر باطل : أن الخضر سواء كان ولياً او نبياً لم يكن واجباً عليه متابعة شريعة موسى ، لأنه لم يكن من أمة موسى ولم يكن موسى مبعوثاً إليه . وموسى عليه السلام إنما بعثه الله إلى بني إسرائيل فقط ، كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال عندما ذكر ما فضّله الله به على الأنبياء :"وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت للناس عامة ". ومما يدل على ان الخضر لم يكن من بني إسرائيل أنه عندما جاء موسى إلى الخضر قال موسى : السلام عليكم ، فقال الخضر : وأني بأرضك السلام ، فقال : أنا موسى ، فقال الخضر : موسى بني إسرائيل .(142/75)
(3) ومما يبطل دعواهم في احتجاجهم بقصة الخضر أنه حتى وإن كان الخضر ولياً وإن كان من بني إسرائيل وإن كان يجوز لأولياء بني إسرائيل مخالفة أنبيائهم إلا أن هذه الأمة -أعني أمة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا يجوز لأي أحد منها أن يخالف شريعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولو في مسألة واحدة لأنها ناسخة لكل الشرائع وعامة إلى كل الانس والجن ، ومن احكامها المحكمة ، وشرائعها المفصلة ، أنه لا يجوز لأحد مخالفة هذا النبي الأمي -- صلى الله عليه وسلم --، ولو في مسألة واحدة ولو كان المخالف من أعظم الأولياء ، بل ولو كان المخالف هو صدّيق الأمة الأكبر أبو بكر الصديق ، أو محدَّثها المُلهَم عمر بن الخطاب ، ليس هذا فحسب بل ولو كان هناك نبي من أولي العزم من الرسل حياً لما جاز له مخالفة النبي الكريم محمد بن عبد الله كما قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : "لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي". فمن زعم أنه يجوز للولي أو غيره الخروج عن شريعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فهو كافر مرتد .
قال شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى (24/239) :
"ومثل احتجاج بعضهم بقصة الخضر وموسى عليه السلام على أن من الأولياء من يستغني عن محمد -- صلى الله عليه وسلم -- كما استغنى الخضر ومثل قول بعضهم أن خاتم الأولياء له طريق إلى الله يستغني به عن خاتم الأنبياء وامثال هذه الأمور التي كثرت في كثير من المنتسبين إلى الزهد والفقر والتصوف والكلام والتفلسف وكفر هؤلاء قد يكون من جنس كفر اليهود والنصارى وقد يكون أعظم وقد يكون أخف بحسب أحوالهم ".
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/746):(142/76)
"فمن ادعى أنه مع محمد -- صلى الله عليه وسلم -- كالخضر مع موسى أو جوّز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه وليشهد شهادة الحق فإنه بذلك مفارق لدين الإسلام بالكلية فضلاً أن يكون من خاصة أولياء الله وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه وهذا الموضع مقطع ومفرق بين زنادقة القوم وبين الاستقامة منهم " .
الباب الثاني عشر
بيان اعتقاد البرعي أنّ الأولياء الصالحين يُوحى إليهم ، وأنَّ الله - سبحانه وتعالى - يكلمهم مباشرة ، وأنهم يسمعون منه ذلك الكلام
ذكر الأدلة من شعر البرعي التي تدل على أنه يعتقد ما أشرنا إليه :
قال البرعي في قصيدته أهل الطريقة صفحة 138من ديوانه المذكور:
أهل الطريق على الصراط الأقوم
سمعوا من المولى كلاماً ياله
ورووا حديثاً صح عن مختارهم
تاهوا على الأكوان فخراً بالذي . ... ساروا بإسلام ودين قيم
من حكمة نسجت بقول محكم
من غير واسطة البخاري ومسلم
نالوا وما تاهوا بليل مظلم
.
وهذه الأبيات فيها من المفاسد العقدية الشي الكثير ومن ذلك :
1- أن النبوة لم تختم وأن الأولياء يُوحى إليهم بعد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ليس عن طريق المَلك فحسب ، بل يكلمهم الله تعالى كما كلّم موسى عليه السلام .
وهذا الاعتقاد الكفري الأخير تلقاه البرعي من علمائه الذين أوضح أنهم قدوته ومثله الأعلى ، فقد كانوا يعتقدون أن الوحي لم ينقطع من السماء وأنه يوحى إليهم .
*ذكر النصوص عن علماء التصوف التي تبين أنهم يعتقدون ما ذكرناه :
من شيوخ الصوفية الذين يدّعون أن الله يوحي إلى الأولياء الدجال الأكبر محي الدين ابن عربي .
قال ابن عربي متكلماً عن وحي الله للأولياء :(142/77)
" وقد يكون ذلك في كتابه ويقع هذا كثيراً للأولياء وبه كان يوحي لأبي عبد الله قضيب البان وغيره كبقيّة بن مخلد - رضي الله عنه- لكنه كان أضعف الجماعة في ذلك فكان لا يجده إلا بعد القيام من النوم مكتوباً في ورقة ، ثم قال : وقد رأيت ورقة نزلت على فقير في المطاف بعتقه من النار على هذه الصفة فلما رآها الناس علموا أنها ليست من كتابه المخلوقين فإن وُجِدت تلك الورقة فتلك الورقة من الله -عز وجل-". نقله عنه الشعراني في اليواقيت والجواهر (2/83-84) فادعى الزنديق أن الوحي ينزل على الأولياء كتابةً من الله -عز وجل- وادعى أنه شاهد ذلك ورآه بعينه .
وقال ابن عربي أيضاً معللاً سبب تفريق الغزالي بين النبي والولي في طريقة التلقي عن الله " ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله واخبرهم بتنزل المَلك على الولي لقبلوا ذلك ولم ينكروه . قال : وقد نزل علينا مَلك فلله الحمد". ذكره عنه (الشيطاني) الشعراني في اليواقيت والجواهر في عقيدة ( الاسافل) الأكابر(2/85) فزعم ابن عربي في هذا النص أن الله يوحي إليه عن طريق الملك فهل هناك فرق بينه وبين مسيلمة الكذاب ، وهل بعد هذا الكفر من كفر ومع هذا هو الكبريت الأحمر والإمام الأعظم عند أهل الباطل من الصوفية .
وقال أبو يزيد البسطامي في كتاب الجواهر والدرر للشعراني بهامش الابريز للدباغ (86) :" أخذتم علمكم ميتاً عن ميت ونحن أخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت" .
وقال أيضاً :(142/78)
"رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي : يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك فقلت زيِّنّي بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هناك ". فزعم الزنديق أن الله رفعه وخاطبه مباشرة كما زعم البرعي أن الله يكلم الأولياء مباشرة.وقال عبد العزيز الدباغ وهو من أئمة الصوفية :" وينزل الملك على الولي بالأمر والنهي " الأبريز للدباغ ص ( 143 ) .
وكذلك زعم أحمد الرفاعي أن الله كلمه فقد أورد صاحب كتاب " قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي واتباعه الأكبار (ص180) " أن السيد ابراهيم الأعزب قال : كنت جالساً في الغرفة مع السيد أحمد الرفاعي - رضي الله عنه - ورأسه على ركبتيه فرفع رأسه وضحك بأعلى صوته فضحكت أنا أيضاً ثم ألححت عليه ليخبرني عن سبب ضحكه فقال : أي إبراهيم ناداني العزيز سبحانه أني أريد أن اخسف الأرض وأرمى السماء على الأرض فلما سمعت هذا النداء تعجبت وقلت إلاهي من ذا الذي يعارضك في ملكك وإرادتك قال : سيدي إبراهيم ، فأخذته الرعدة ووقع على الأرض وبقي في ذلك الحال زماناً طويلاً ".
الشاهد من النص زعم الرفاعي أن الله ناداه وكلمه وأنه تبادل الحديث معه كما هو واضح من النص تعالى الله ربنا عن مخاطبة أحمد الرفاعي علواً كبيراً . ومن كل ما أوردناه من النصوص يتبين لكل قارئ أن البرعي في ادعائه أن الأولياء يوحى إليهم وأن الله يكلمهم ويسمعون منه كلامه تماماً كما خطاب موسى عليه السلام ، ليس بمبتدع لهذا الكلام وإنما أخذه من كبار الزنادقة والملاحدة أهل النفاق الذين يدعون انهم مؤمنون بأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خاتم الأنبياء ، وحقيقة أمرهم أنهم كافرون بما ادعوه ومع كل هذا يدعون أنهم أحباب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأولياء الله وخاصته { كبرت كلمة تخرج من أوافههم إن يقولون إلا كذبا } .
بيان بطلان هذا الإعتقاد الفاسد والكفر الصريح :(142/79)
الأدلة على انقطاع الوحي من السماء بعد وفاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- :
(1)كل الأدلة التي تدل على أن النبوة قد ختمت تدل على أن الوحي قد انقطع من السماء قال - سبحانه وتعالى- في سورة الأحزاب : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شي عليماً } (40)،فبين- سبحانه وتعالى- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا نبي بعده لأنه خاتم النبيين . فإذا ثبت أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هو خاتم النبيين دل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام هو آخر من يُوحى إليه. قال ابن كثير:" فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس وبهذا وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- من حديث جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم" انتهى.
ومما يدل على أنه لا نبي بعد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من كلامه عليه الصلاة والسلام ما رواه الإمام مسلم ( 4773 ) عن أبي حازم قال : "قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر ، قالوا فما تأمرنا ؟ قال : فوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" .
وقال الإمام مسلم (6217) عن سعد بن أبي وقاص قال : "قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" . والشاهد من الحديثين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بين ووضح أنه هو خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده .(142/80)
(2) ومما يدل كذلك على أن الوحي قد انقطع من السماء بموت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ما رواه الإمام مسلم (6318) عن انس "قال أبوبكر - رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لعمر : انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها ، كما كان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يزورها . فلما انتهينا إليها بكت ، فقالا لها : ما يبكيك ما عند الله خير لرسوله -- صلى الله عليه وسلم -- ، فقالت : ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله -- صلى الله عليه وسلم -- ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها .(142/81)
والشاهد : أن أم أيمن وهي حاضنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أخبرت أن الوحي قد انقطع من السماء ووافقها على هذا وأقرَّها خليفة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- (أبو بكر الصديق ) خير هذه الأمة ، وأعلمها ، وأفضلها ، بعد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والمحدَّث المُلهَم ، والعبقري الفذ صاحب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أمير المؤمنين أبوحفص عمر بن الخطاب. بل إنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- صرح بأن الوحي قد انقطع من السماء فيما أخرجه البخاري عن (2341) عبد الله بن عتبة قال :" سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - يقول : إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيراً أمِنَّاه وقربناه ، وليس إلينا من سريرته شي، الله يُحاسب في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة" . فدل هذا على أن الوحي قد انقطع من السماء وفي الحديث كذلك بيان أن أبا بكر وعمر لم يكن يُوحى إليهما بعد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ولو كان في هذه الأمة أحد يستحق أن يُوحى إليه بعد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لكان أبو بكر ثم عمر - رضي الله عنهما - .(142/82)
والغريب في الأمر أنك إذا سألت البرعي وأهل التصوف هل ختمت النبوة لقالوا : نعم ، ولكن إذا سألتهم هل يُوحي الله إلى الأولياء الصالحين ، وتَحْدُث لهم مكاشفات يتحدثون فيها مع الله وتنزل الملائكة إليهم بالأمر من الله لقالوا : نعم . فإذا علمت هذا تبين لك أن المتصوفة ومنهم البرعي حقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بأن النبوة قد ختمت، ويدعون كذلك النبوة لأوليائهم وصالحيهم لكنهم يسمونها بغير اسمها . فإذا قال إنسان إن الله يوحي إلى فلان من الناس فقد اثبت له النبوة وإن لم يقل إنه نبي ، بل إن كثيراً من شيوخ المتصوفة يُبلِّغون ما ادعوا أن الله أوحاه لهم ويأمرون به اتباعهم وهؤلاء اثبتوا لأنفسهم النبوة والرسالة معاً. ومع كل هذا يصدقهم أتباعهم ويدافعون عنهم ولكنهم مع هذا لا يقولون أن الولي الفلاني نبي رسول ، بل ربما أنكروا على من يقول قولاً كهذا . ولكنَّ إنكارهم هذا لا ينفعهم عند الله أبداً لأنهم وإن قالوا أنهم مؤمنون بختم النبوة وأنه لا نبي بعد الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- إلا أن حقيقة أمرهم خلاف ما يدَّعون ، وهكذا هم دائماً يفعلون المنكر ويسمونه بغير اسمه كالشرك بالله يسمونه توسلاً ، وأفعال السحرة والكهان يسمونها كرامات . وإذا علمت كفر المتصوفة الباطن الذي يخفونه تحت مسميات أخرى ، تبين لك سبب تخلف المسلمين ونكباتهم المتتالية أمام أعدائهم ، والسبب هو أن أصحاب الكفر الباطن هم الغالبية في الأمة وهم المسيطرون على العقول وأصحاب النفوذ . وما كان الله أن ينصر المشركين والكفار والباطنيين أبداً .
الباب الثالث عشر
إيمان البرعي بعقيدة وحدة الوجود وادّعاؤه أنّ كل حيٍّ في الوجود هو الله ، ليس هذا فحسب بل كل موجود هو الله ، وأنّ كل فعلٍ يقع في الوجود إنما هو فعل الله ، تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً ، وإلزامه اتباعه بذكر شيطانيٍّ مُحْدَث يتضمّن وحدة الوجود
تعريف بعقيدة وحدة الوجود :-(142/83)
هي اعتقاد أن كل شيء في هذا الكون هو الله - سبحانه وتعالى- أي ، أن الوجود هو ذات الله ، فالشمس ، والقمر ، وجميع الجمادات هي الله وكذلك جميع الأحياء . والصوفية يُعبِّرون عن هذا المعنى بألفاظ متعددة ، ومختلفة ، يُموّهون بها على العامة ، وأحياناً يُصرِّحون به ، إذا أمِنُوا الإنكار عليهم ، ويعتبرون أن اعتقاد وحدة الوجود هو التوحيد الحق، تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً ، وهذه العقيدة هي أشدُّ العقائد فساداً ، وأعظمها بطلاناً ، لمخالفتها الصريحة للفطرة والعقل والشرع ويكفيها بطلانا أن إبليس مع كفره العظيم وتكبّره يعتقد خلافها ، وكذلك مشركو مكة ، وقد كانوا جميعاً يعتقدون أن الله خالقهم ، وخالق السماوات والأرض ، مما يدل على أنهم يُفرِّقون بين الخالق والمخلوق .
ومن كبار الزنادقة القائلين بوحدة الوجود محي الدين بن عربي الذي يعتبره كثير من المتصوفة خاتم الأولياء وإمام العلماء .
وإليك بعض أقواله في وحدة الوجود : قال في فصوص الحكم ص (83) متحدِّثاً عن الله :
فيحمدني و أحمده ففي حال أقربه فيعرفني وانكره . ... ويعبدني وأعبده وفي الأعيان أجحده وأعرفه فأشهده .
ويقول :
الرب حق والعبد حق إن قلت عبد فذاك ميت . ... يا ليت شعري من المكلف أو قلت رب أنى يُكلف .
ومن أقوله في فصوص الحكم ص (76) .
( ومن أسمائه الحسنى العلى على من ... وما ثم إلا هو فهو العلى لذاته أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى المحدثات العلية لذاتها وليست إلا هو _ إلى أن قال _ فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وهو المسمى أباسعيد الخراز وغير ذلك من المحدثات ).(142/84)
فالله - سبحانه وتعالى – هو المسمى أبا سعيد الخراز عند ابن عربي تعالى الله عمّا يقوله ابن عربي علواً كبيراً . وفي هذه الأبيات والنصوص يظهر جلياً قول ابن عربي بوحدة الوجود فما ثَمّ في الكون إلا الله على حدَّ زعمه ، ولا يظن ظانّ أن هذا هو مجموع كلامه في وحدة الوجود ، بل هذا جزءٌ يسير جداً من أقواله .
أقوال أهل العلم في ابن عربي :
قال عنه الذهبي في السير : "محي الدين محمد بن على بن أحمد الطائي الحاتمي المرسي . سكن الروم مدة _ ثم قال الذهبي _ من أردأ توا ليفه كتاب الفصوص فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر توفى سنة 638هـ ".
قال الإمام برهان الدين البقاعي عنه في مصرع التصوف (ص 217) :
"وقد تواتر نسبة ابن عربي وابن الفارض إلى الكفر تواتراً معنوياً وشاع ذلك على ألسنة المؤمنين الصادقين وإذا كان الله - سبحانه وتعالى- حكم بالكفر في كتابه الكريم على من قال إن الله هو المسيح فلم لا يحكم المسلمون على قطبي مذهب الحلول والاتحاد وكل منهما يقول : الله عين كل شيء " ص (217) .
وقال الإمام محمد بن عبد السلام عن ابن عربي حين سُئل عنه في مصر :
" إنه شيخ سوء مقبوح يقول بِقِدم العالم ولا يُحرِّم فرجاً ". مجموعة الرسائل والمسائل " لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/84) .
وقال الشيخ إبراهيم الجعبري : "رأيت ابن عربي شيخاً مخضوب اللحية وهو شيخ نجس يكفر بكل كتاب أنزله الله وكل شيء أرسله الله". مجموعة الرسائل والمسائل " لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/85) .
ذكر النصوص عن البرعي من أذكاره التي تدل على أنه يُقرُّ عقيدة وحدة الوجود .
لم يكتف البرعي باعتقاد وحدة الوجود فحسب بل أخذ يدعولها وينادي بها بين أتباعه ومريديه .ونوجز ما قام به في نشر هذه العقيدة الباطلة في الآتي :
أولاً : اخترع ذكراً محدثاً لم يُنزِّل الله به من سلطان يتضمن هذه العقيدة الفاسدة ويوضحها.(142/85)
ثانياً : الزم اتباعه بقول هذا الذكر وفرضه عليهم بل جعله أهم الأذكار التي تُبنى عليها أذكار طريقته البدعية وسمَّاه أساس الطريق .
ثالثاً : أخذ يُمجِّد في أشعاره أئمة الكفر الذين كانوا يعتقدون هذه العقيدة وينادون بها كأمثال ابن عربي والبسطامي .
الذكر الشيطاني المُحْدَث الذي أوحاه الشيطان إلى البرعي فأقرَّه واعتقده والزم به اتباعه وجعله أساساً لطريقته :
تقول : ( والمخاطب هو سالك الطريق على يد البرعي ) ياهو يا هو 100 جرد أو 20 سقط ( أي تعد بالمسبحة عداً أو تجرها جرداً ) .
ثم تغمض عينيك وتشير إلى السماء وتقول "ها" لا فاعل في الوجود إلا الله ، ثم تشير نحو اليمين والشمال وتقول : "هو" لاحي في الوجود إلا الله ، ثم تشير نحو الأرض وتقول "هي" لا وجود لغير الذات المنزه عن التشبيهات ) ، هذا الذكر هو أهم شيء في أذكار البرعي التي يُلزم بها من سلك الطريق على يديه أن يقوله كل يوم ، وأتباعه يُوزِّعون هذا الأساس مطبوعاً بأعداد كبيرة بين المسلمين نشراً لباطلهم ، ودعوة إليه . وفي هذا الأساس يبدو واضحاً جداً اعتقاد البرعي الكفري الخطير الذي يُربّي عليه أتباعه فقوله : لا حي في الوجود إلا الله ، أي كل حي هو الله .
وقوله لا فاعل في الوجود إلا الله ، أي أنّ كل الأفعال التي تحدث في الكون حتى معاصي العباد هي أفعال الله وليست أفعال العباد . وقوله لا وجود لغير الذات المنزه عن التشبيهات ، أي أن كل موجود هو ذات الله المنزَّه عن التشبيهات ، وهذا هو كلام ابن عربي وابن سبعين أئمة القائلين بوحدة الوجود بالحرف الواحد .
بيان بطلان أساس طريقة البرعي البدعية المبني على وحدة الوجود التي هي أفسد العقائد وأشدها كفراً :(142/86)
أولاً : قول البرعي : " لا حي في الوجود إلا الله " هذا القول هو من أقبح الأقوال ، وأشدها كفراً ، لأنه يستلزم أن يكون كل حي في الوجود هو الله كالإنسان ، والملائكة ، والشياطين ، والدواب ، وغيرها من الأحياء ، لأن الله - سبحانه وتعالى - أثبت الحياة لكثير من مخلوقاته قال - سبحانه وتعالى - في سورة الأنبياء : { أولم ير الذي كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } (30). فدلّت الآية على أن هناك كثيراً من مخلوقات الله لها صفة الحياة .
وأثبت - سبحانه وتعالى - للبشر حياة كذلك فقال - سبحانه وتعالى- في سورة الحج : { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحيكم إنّ الإنسان لكفور } (66) فبطل بهذا قول البرعي لا حي في الوجود إلا الله لأن الله وصف بني البشر الذين هم أحياء بأنهم عبيده ، وكذلك الجنّ وغيرهم من الأحياء فقال - تعالى - : { إنْ كل مَن في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً (93) لقد أحصاهم وعدَّهم عدّاً } (94) .
ويستلزم قوله كذلك لا حي في الوجود إلا الله ، أن يكون إبليس هو الله : لأن إبليس من الأحياء قال - تعالى - : { قال ربِّ فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم } ، وهذا اللازم من أبطل الباطل الذي نفاه إبليس عن نفسه ، فإن إبليس أقرَّ أنَّ الله هو الذي خلقه فقال لله - سبحانه وتعالى- عندما أمره بالسجود لآدم (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) ، وفرّق بينه وبين الله ، قال -سبحانه وتعالى– في سورة إبراهيم : { وقال الشيطان لمّا قُضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } (22) فبيَّن لأهل النار أن الله وعدهم وعد الحق و أنه أي الشيطان وعدهم فأخلفهم .(142/87)
- ويستلزم قوله الفاسد كذلك أن يكون الكلب هو الله لأن الكلب حي ، وكذلك الخنزير ، والفأر والثعبان وغيره من الدَّواب وهذا ما قال به أصحاب وحدة الوجود التي يدعو لها البرعي ، ويُمجِّد أصحابها ، قالوا :" وما الكلب والخنزير إلا إلهنا * وما الله إلا راهب في كنيسة " – تعالى- الله عمَّا يقولون علواً كبيراً .
واعلم أنّ الله - سبحانه وتعالى - قد حكم بالكفر على من قال إن عيسى ابن مريم هو الله مع أن عيسى من أُولى العزم من الرسل ، فكيف بمن قال إن الله هو الكلب والخنزير ، بل لا حي في الوجود إلا الله.
قال - سبحانه وتعالى - في سورة المائدة : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } (72).
(2) قول البرعي في أساس طريقته: " لا وجود لغير الذات المُنزَّه عن التشبيهات " هذا القول أشدّ بطلاناً من القول قبله ، وأشدّ كفراً ، وبُهتاناً ، لأنه يستلزم أن يكون كل جماد وكل ميت هو الله ، وهذا نفس قول من يقول بوحدة الوجود . قال عبد الكريم الجيلي وهو من كبار ملاحدة الصوفية في كتابه الإنسان الكامل (1/61) وهو من القائلين بوحدة الوجود :
فما ثم شيء سوى الله في الورى هو العرش والكرسي والمنظر العلى هو الأصل حقاً والرسوم مع الهوى هو النور والظلمات والماء والهوى . ... وما ثم مسموع وما ثم سامع هو السدرة اللاتي إليه المراجع هو الفلك الدّوار وهو الطبائع هو العنصر الناري وهو الطبائع .
بل ويستلزم قوله أن تكون أبوال الخنازير وفضلاتها وبول الإنسان وغائطة هو الله فتعالى الله عن قول البرعي علواً كبيراً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية أثناء تقسيمه للقائلين بالاتحاد في الرسائل والمسائل ، لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/29-31 )،قال :(142/88)
"الرابع : الاتحاد العام : وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين .
الأول : من جهة أنّ أولئك قالوا إنّ الربّ يتّحد بعبده الذي قرّبه واصطفاه بعد أن لم يكونا متّحدين وهؤلاء يقولون مازال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره .
والثاني : من جهة أن أولئك خصُّوا ذلك بمن عظَّموه كالمسيح ، وهؤلاء جعلوا ذلك سارياً في الكلاب والخنازير والقذر والأوساخ وإذا كان الله -تعالى- قال : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } فكيف بمن قال : إن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانيين والأنجاس والأنتان وكل شيء ، و إذا كان الله قد ردَّ قول اليهود والنّصارى لمّا قالوا : " نحن أبناء الله وأحباّؤه " وقال لهم " قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه وإن كل ناطق في الكون فهو عين السامع كما في قوله -- صلى الله عليه وسلم -- "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها " وأن الناكح عين المنكوح ..." .
(3) وقول البرعي في أساس الطريقه " لا فاعل في الوجود إلا الله" يقتضي أن تكون السرقة والزنى وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات ، والظلم هو من فعل الله ، تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً وهذا ما نفاه الله عن نفسه قال - تعالى - في الحديث القدسي "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّماً فلا تظالموا " فتبيَّن أنّ قول البرعي "لا فاعل في الوجود إلا الله " من أخبث الأقوال وأبطلها خاصة إذا علمت أن اتباعه يجب عليهم أن يقولوا هذا القول كل يوم .(142/89)
ثانياً : يقتضي قول البرعي " لا وجود لغير الذات المنزه عن التشبيهات ، وهو الله " أن كل من عبد صنماً أو حجراً أو شجراً أو شيطاناً هو مصيب لأنها من الموجودات ، وعلى زعم البرعي لا وجود لغير الله وهو الذات المُنزَّه عن التشبيهات ، فدَّل قوله هذا على أن الشجر هو الله ، والحجر هو الله ، فمن عبدهما فهو مصيب لأنه ما عبد إلا الله وهذا قول الزنديق الأكبر مميت الدين ابن عربي فإنه يجوز عبادة كل شيء قال في فصوص النغم :"فلله درجات يعبد فيها وكل صنم وإله عبد في الأرض فهو إحدى الدرجات وأسماها " وقال في تفسيره لسورة طه " (ص95 ) . فصوص الحكم :" ولذلك حرَّق موسى العجل حتى لا يحصر الإله في شيء واحد وقال له "وانظر إلى إلاهك " فسمَّاه إلاهاً بطريق التّنبيه للتَّعليم أنه بعض لمجالي الإلهية" انتهى كلامه . وهذا من أعظم الكفر الذي يناقض القران قال -سبحانه وتعالى- في سورة يس : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } (6) فنهى –سبحانه- عن عبادة الشيطان فدَّل هذا على أنه ليس هو الله وكذلك قال - تعالى - في سورة فصلت : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } (37) فدَّل هذا على أن قول البرعي لا وجود لغير الذات المنزه عن التشبيهات هو من أبطل الباطل وأعظم الكفر .
ثالثاً : قول البرعي " لا وجود لغير الذات المُنزّه عن التّشبيهات " يستلزم القول بوحدة الأديان لأن جميع أهل الأديان إنما يعبدون موجودات كالأحجار أو الأشجار أو الدواب كالأبقار أو الشمس أو القمر ، وبما أن جميع هذه الموجودات هي ذات الله فيستلزم هذا أنهم جميعاً على الحق لأنهم ما عبدوا إلا الله . وهذا القول يقول به زنديق القوم الأكبر ابن عربي في كتابه ذخائر الأعلاق وشرح ترجمان الأشواق ( ص 39 ) .(142/90)
لقد كنت قبل اليوم انكر صاحبي لقد صار قلبي قابلاً كل صورة وبيت لأوثان وكعبة طائف أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه . ... إذا لم يكن ديني إلى دينه داني فمرعى لغزلان ودير لرهبان وألواح توراة ومصحف قران فالدين ديني وإيماني .
وهذا القول من أعظم المحادّاة لله ولدينه ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى- أخبر أنه لا يرتضي من الأديان إلا الإسلام ، وأنه لا يقبل غيره،قال – تعالى- في سورة آل عمران : { إنّ الدين عند الله الإسلام } (19) .
وقال - تعالى - : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } (85) .
رابعاً : مما يدل على بطلان قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود ما ألزم به الدكتور محمود عبد الرؤوف القاسم القائلين بهذا القول في ردِّه عليهم وبيانه لباطلهم " في كتابه حقيقة الصوفية لأول مرة في التاريخ (ص 704-706) .
قال يقول -سبحانه وتعالى-: { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً ولقد علمت الجنّة إنهم لمحضرون } طبعاً وحدة الوجود تجعل الجنّ جزءً من الله تعالى وليس بعد هذا النسب ما هو أقوى منه لأنه نسب بعض الذات إلى الذات لكن الآية الكريمة تستهجن هذه الفكرة نفياً لها ودحضاً وتُنزِّه الله -سبحانه وتعالى - عمّا يصفه هؤلاء الواصفون والعبارة " ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون" واضحة الدلالة على أن الجن لو كانوا يتّصلون بنسب إلى الله - سبحانه وتعالى - لما جعلهم من المحضرين وعدم وجود النسب بينه سبحانه وبين الجنة ينفي وحدة الوجود نفياً كاملاً .(142/91)
ويقول - سبحانه وتعالى - : { وقد خلقتك من قبل ولم تَكُ شيئاً } ويقول : { أولا يذكر الإنسان أنَّا خلقناه من قبل ولم يَكُ شيئاً } الآيتان واضحتان كل الوضوح أنّ الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان من لا شيء من العدم ولو كانت وحدة الوجود واقعة لكان الإنسان شيئاً قبل أن يوجد كما هو الآن شيء بعد وجوده فكون الإنسان خُلق من لا شيء من العدم ينفي وحدة الوجود جملة وتفصيلاً ؛ لأن الله تعالى ليس عدماً إنه الحي القيوم الخالق البارئ المُصَوِّر ثم قال : " ولو كان الخلق هو الحق " كما يفترون وكانت المخلوقات جُزءاً من الله -سبحانه وتعالى- تعيَّنت بهذه الأشكال المختلفة لما بقى أيُّ معنى للأسماء الحسنى: الخالق ، البارئ، الفاطر ، بديع السماوات والأرض ، التي تعني كلها الإيجاد من العدم ولو كانت وحدة الوجود صحيحة لكان الإنسان جزءاً من الله ولكانت الآية { إن الإنسان لفي خُسر } باطلة وكان الإنسان في ربح سواءً آمن أو لم يؤمن ، وعمل صالحاً أو لم يعمل ، وتواصى بالحق والصبر أم لم يتواصَّ، لأنه جزء من الله . وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تصبح شتماً لله لو صحَّت عقيدة الصوفية بوحدة الوجود مثل قوله - سبحانه وتعالى - : { وأُتْبِعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة ألا إنَّ عاداً كفروا ربَّهم ألا بُعداً لعادٍ قوم هود } (60) ، لأنَّ عادًا حسب زعمهم وعقيدتهم الباطلة هم جزء من الله - سبحانه وتعالى - حيث يُصبح معنى الآية الكريمة : إن جزءاً من الله - تعالى عمّا يصفون - أُتبع في هذه الدنيا ويوم القيامة .
تمّ بحمد الله
كتبه مقيده عفا الله عنه
أبو عبد الرحمن عمر بن التهامي بن عبد الرحمن
فهرس كتاب إيقاد المصابيح
مقدمة…2
الباب الأول :
اعتقاد البرعي أن الله سبحانه وتعالى يحل في الأولياء الصالحين ويتحد معهم وتمنيه الوصول لهذه المرتبة المزعومة وثناؤه على أهل الحلول والإتحاد أمثال الحلاج والبسطامي…9
الباب الثاني :(142/92)
إعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يشاركون الله في الحكم والأمر والتدبير…22
الباب الثالث :
بيان شرك البرعي وتفانيه في الدعوة إليه وحثه الناس للإشراك بالله عند الشدائد والكروب .…37
الباب الرابع :
إعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يرون النبي -- صلى الله عليه وسلم --جهرةً بعد موته ويجلسون معه ويحدثهم ويحدثونه…41
الباب الخامس :
بيان اعتقاد البرعي أن شيخه بعد موته يحضرعند قبض روح مريده ويلقنه الحجة ويكون كذلك حاضراً عندما يسأله الملكان ويلقنه كذلك الحجة ويؤانسه في قبره ويدخله الجنة .…49
الباب السادس :
بيان بطلان اعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يختم لمريديهم بحسن الخاتمة وأنهم يكونون آمنين يوم القيامة وأنهم يدخلون الجنة مباشرة بلا عذاب .…55
الباب السابع :
وهْم البرعي في أن الخبر إذا كان متواتراً كان حقاً في نفسه وسلوكه سبيل المشركين في الاحتجاج بالتواتر…64
الباب الثامن :
بيان إعتقاد البرعي أن ثواب المرة الواحدة من صلاة الفاتح يعدل ثواب قراءة القرآن ستة آلف مرة وأنَّ فضل المرة الواحدة من جوهرة الكمال يعدل تسبيح العالم ثلاث مرات ومدحه لأحمد التيجاني بقصيدة كاملة…66
الباب التاسع :
بيان إعتقاد البرعي أن الميت لا يعذب في القبر إذا كتب اسم عبد القادر الجيلاني على كفنه أو قال الدافن هذا قبر أحمد الطيب ..................................................72
الباب العاشر :
بيان اعتقاد البرعي أنَّ رِضَى الله لا ينال إلا عن طريق شيخ من شيوخ الطرق الصوفية . تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً وأنَّ من شروط ذكر الله مبايعة أحد شيوخ الطرق الصوفية…78
الباب الحادي عشر :(142/93)
- بيان إعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يسعهم الخروج عن شريعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ومخالفتها كما خرج الخضر عن شريعة موسى على حد زعمه وأنه لا ينبغي أن ينكر عليهم ولو أتوا بمنكر واضح يخالف شريعة الله ويجب على من رآهم على منكر ما أن يرضى بذلك ويتذكر قصة موسى والخضر حتى تكون عوناً له على عدم الإنكار.................................84
الباب الثاني عشر :
بيان اعتقاد البرعي أن الأولياء الصالحين يُوحى إليهم ، وأن الله - سبحانه وتعالى - يكلمهم مباشرة ، وأنهم يسمعون منه ذلك الكلام…88
الباب الثالث عشر :
إيمان البرعي بعقيدة وحدة الوجود وادعاؤه أن كل حيٍّ في الوجود هو الله ، ليس هذا فحسب بل كل موجود هو الله ، وأن كل فعلٍ يقع في الوجود إنما هو فعل الله ، تعالى الله عما يقول البرعي علواً كبيراً ، وإلزامه اتباعه بذكر شيطانيٍّ محدث يتضمن وحدة الوجود .…59(142/94)
صحيح المقال
في مسألة شد الرحال
رد على أغاليط
بقلم حمود بن عبد الله التويجرى
اطلعت على مقال لأبي هاشم نشر في الصفحة الخامسة من جريدة الندوة الصادرة في يوم السب 14 محرم 1397هـ عنوانه (مسجد الخندق بالمدينة المنورة).
قال الكاتب ما نصه (سمي هذا المسجد بمسجد الأحزاب لأن غزوة الأحزاب وقعت عنده كما سمي أيضاً باسم مسجد الخندق لأن الخندق كان يمر بجانب المسجد وهو الخندق الذي اقتراحه سلمان الفارسي رضي الله عنه على الرسول عليه الصلاة والسلام فكان أن حفره المسلمون ويبدأ من أسفل جبل ذباب أو ذوباب والذي أطلق عليه بعد ذلك جبل الراية لأن راية الرسول صلى الله عليه وسلم نصبت عليه.
ويسمى هذا المسجد أيضاً بمسجد الفتح وهو الاسم الخالد في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي لأن الآية الكريمة {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موضع عليه.ويقع المسجد على قطعة صغيرة من جبل سلع الكبير والذي كان يسمى من قبل جبل ثواب. وإلى جانب المسجد تقوم خمسة مساجد أخرى. فالمسجد الذي تحته رأساً هو مسجد الصديق ومن وراء مسجد الصديق مسجد الفاروق وبجانبه من جهة الغرب مسجد عثمان. ثم مسجد صغير هو مسجد علي بن أبي طالب. ثم مسجد سلمان الفارسي. والمساجد الستة هذه تقع وسط وادى بطحان الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إنه من أودية الجنة وهذه المساجد هي مصلى الصحابة الخمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم بالليل حيث كانوا يتهجدون في مواضعها طول الليل. انتهي كلام الكاتب.(143/1)
وأقول لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أسس في المدينة مسجداً سوى مسجده ومسجده قباء. ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى في المدينة مسجداً غير هذين المسجدين فقوله بعيد من الصحة وكذلك لم يثبت عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان رضي الله عنهم أنهم بنوا مساجد عند الخندق أو أنهم كانوا يتهجدون في مواضعها طوال الليل ومن زعم ذلك فقوله بعيد من الصحة.
والذي يظهر والله أعلم أن هذه المساجد كانت من إنشاء المفتونين بالآثار ونسبتها إلى الأكابر ليكون لذلك موقع عند الجهال.
وأما قول الكاتب ويسمى هذا المسجد مسجد الفتح وهو الاسم الخالد في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي لأن الآية الكريمة {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} نزلت على رسول الله صلى الله عليه وهو في موضع عليه.
فجوبه أن يقال إن الفتح المذكور في الآية من سورة الأنفال لم يكن بالمدينة كما قد توهم ذلك كاتب المقال. وإنما كان ببدر حين التقى الجمعان كما ذكر ذلك المفسرون وأهل السير والأخبار. قال محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال يوم بدر اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة وكان استفتاحاً منه فنزلت {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} إلى آخر الآية. وقد رواه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لابن جرير عن ابن شهاب الزهري قال أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صغيرة العدوي حليف بني زهرة أن المستفتح يومئذ أبو جهل وأنه قال حين التقى القوم: أينا أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف فأحنه الغدوة فكان ذلك استفتاحه فأنزل الله في ذلك {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} الآية.(143/2)
قال ابن كثير وروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد وأما قول الكاتب أن الرسول صلى الله عليه قال في وادى بطحان إنه من أودية الجنة.
فجوابه أن يقال هذا الحديث لا أصل له فلا يغتر به. وقد ورد في حديث ضعيف جداً أن بطحان على بركة من برك الجنة. رواه البزار من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه راولم يسم وما كان كذلك فلا يعمد عليه ولا يثبت به شيء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
حمود بن عبد الله التويجرى(143/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
صور من الصوفية
ابو العزايم جاد الكريم بكير
16 /08 /2007 م
03 /08 /1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، سبحانه وأشهد أنه لا ند له ولا شريك وأنه بذاته فوق عرشه عال على جميع مخلوقاته ومخترعاته ومصنوعاته وأنه هو الذي خلق الخلق وأوجد هذا العالم من العدم وأنه ما خلق الملائكة والجن والإنس إلا ليعبدوه ويوحدوه ويمجدوه وأن السموات والأرض وما فيهما جميعاً كل له خاضع وأن الجميع وفق أمره، ورهن مشيئته، فما شاء كان وما لم يشأه لم يكن، وأثني عليه سبحانه وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد الذي بعثه الله إماماً للناس وهادياً ومرشداً ومفرقاً بين الضلالة والهدى، والكفر والإيمان، والشرك والتوحيد {فَمَن يَكْفُرْ بِالْطَّاغوت ويؤْمِن بِاللهِ فقَدِ اسْتمسَك بالعُروَة الوُثقى لا انفصام له والله سميع عليم}.
وبعد:(144/1)
فإن أعظم فتنة ابتلي بها المسلمون قديماً وحديثاً هي فتنة التصوف. هذه الفتنة التي تلبست للمسلمين برداء الطهر والعفة والزهد والإخلاص، وأبطنت كل أنواع الكفر والمروق والزندقة، وحملت كل الفلسفات الباطلة ومبادئ الإلحاد والزندقة. فأدخلتها إلى عقائد الإسلام وتراث المسلمين على حين غفلة منهم، فأفسدوا العقول والعقائد. ونشروا الخرافات والدجل والشعوذة، ودمروا الأخلاق، وأتوا على بنيان دولة الإسلام من القواعد إذ حارب المتصوفة العلم والجهاد والبصيرة في الدين، بل والزواج والعمل والكسب، فنصبوا للقرآن والسنة حرباً لا هوادة فيها، وحرفوا الناس عن تعليمها بكل سبيل زاعمين تارة أن القرآن والسنة علم أوراق وظواهر وأن علمهم الباطني علم أرواح وحقائق واطلاع على الغيب ومشاهدة وتارة أخرى زاعمين أن أورادهم وأذكارهم تفضل ما في القرآن والسنة آلاف بل عشرات الآلاف من المرات وتارة ثالثة واصفين كل علماء الشريعة بأنهم محجوبون مرتزقة ظاهريون جامدون، لم يتذوقوا الحقائق ولم يشاهدوا الغيب، واختص المتصوفة أنفسهم وهم بوجه عام من الزنادقة المبتدعين والكفار المستترين بأنهم أهل العلم اللدني، والحقيقة..(144/2)
واستطاعوا بذلك أن يدخلوا كل ما سطره الكفار والزنادقة إلى عقائد المسلمين وأول ذلك ما يسمى بعقيدة وحدة الوجود التي تنادي بأن الوجود كله وحدة واحدة فلا خالق ولا مخلوق، الكل عين واحدة، وحقيقة واحدة في زعمهم تعددت وجوداتها، وتغيرت صفاتها ولكنها شيء واحد فالجنة والنار، والرسل والشياطين، والمؤمنون والكفار، والطهارة والنجاسة، والشرك والتوحيد شيء واحد وذات واحدة، ولا فرق -بتاتاً- عندهم بين موسى وفرعون، وإبليس أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وفضَّل شيخهم الأكبر كما يدعون فِرعون على موسى لأن فرعون علم الحقيقة التي يدعيها الصوفية -حيث قال (أنا ربكم الأعلى)!! وهكذا خرج المتصوفة على المسلمين بدين، هذه مبادئه دين يرى في إبليس مثالاً للفتوة والتوحيد. لأنه لم يرض أن يسجد إلا لله بزعمهم، وبفرعون إماماً لأهل الإيمان الصوفي.. لأنه عرف الحقيقة وأنه هو الله، والحال عندهم أنه ليس في الكون إلا الله.. دين لا يفرق بين خالق ومخلوق وشرك وتوحيد، وكفر وإيمان، وطهر وفجور.. وجنة ونار.
وفي الختام أسأل الله ثواب هذا العمل من عنده إنه هو السميع العليم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الأمين وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
صور من الصوفية(144/3)
التصوف حركة دينية انتشرت في العالم الاسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو الى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة معروفة باسم الصوفية. ولا شك ان ما يدعو اليه الصوفية من الزهد والورع والتوبة والرضا, انما هي أمور من الاسلام الذي يحث على التمسك بها والعمل من اجلها, ولكن الصوفية في ذلك يخالفون ما دعا اليه الاسلام حيث ابتدعوا مفاهيم وسلوكيات مخالفة لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته, فالمتصوفة يتوخون تربية النفس والسمو بها بغية الوصول الى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية. وقد تنوعت وتباينت آراء الناس وتوجهاتهم نحو تلك الحركة لأن ظاهرها لا يدل على باطنها, ومن هنا تأتي اهمية طرحنا لهذا الموضوع الذي نجزم انه يستحق اكثر من ذلك لتشعبه وصعوبة الاحاطة باطرافه. فما هي الصوفية ولماذا سميت بهذا الاسم؟ وكيف نشأت؟ ما هي عقيدتهم؟ وما موقف اهل السنة والجماعة منهم؟
ـ يخلط الكثيرون بين الزهد والتصوف ومن هنا كان تأثر الكثيرين بالتصوف, فالزهد ليس معناه هجر المال والاولاد, وتعذيب النفس والبدن بالسهر الطويل والجوع الشديد والاعتزال في البيوت المظلمة والصمت الطويل, وعدم التزوج, لان اتخاذ مثل ذلك نمطا للحياة يعد سلوكا سلبيا يؤدي الى فساد التصور, واختلال التفكير الذي يترتب عليه الانطواء والبعد عن العمل الذي لا يستغني عنه اي عضو فعال في مجتمع ما, كما يؤدي بالأمة الى الضعف والتخلي عن الدور الحضاري الذي ينتظر منها.
من أين اشتق اسم الصوفية؟
لم يتفق الكتاب من المتصوفة وغيرهم في تحديد الأصل الذي يمكن ارجاع اشتقاق لفظ التصوف اليه, ولعل من ابرز ما ذكر عن مسمى التصوف ما يلي:(144/4)
[ الصُفة: حيث سموا بذلك نسبة الى اهل الصفة وكان لقبا اعطي لبعض فقراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لم تكن لهم بيوت يؤون اليها فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء فناء ملحق بالمسجد من اجلهم, وهذا يوضح ادعاء المتصوفة بربط التصوف بعصر النبي صلى الله عليه وسلم وانه أقر النواة الصوفية الأولى, مع العلم ان اهل الصفة ما كانوا منقطعين عن الناس لأجل الزهد الصوفي.
[ الصفاء: ومعناها ان الصوفية صافية من الشرور وشهوات الدنيا, وهذا الاشتقاق غير صحيح لغويا فالنسبة الى الصفاء: صفوي او صفاوي او صفائي وليس صوفيا.
[ الصف الأول: بعض الصوفية ينسبون انفسهم الى الصف الاول من المؤمنين في الصلاة, وهذا التعبير بعيد عن سلامة الاشتقاق اللغوي بالنسبة الى الصف: صفي لا صوفي.
[ بني صوفة: بعضهم ينسبون الصوفية الى بني صوفة وهي قبيلة بدوية كانت تخدم الكعبة في الجاهلية.
[ الصوف: وفي هذا يذهب غالب المتصوفة المتقدمين والمتأخرين الى ان الصوفي منسوب الى لبس الصوف, وحرص معظم الصوفية الى رد اسمهم الى هذا الاصل يفسر تشوفهم الى المبالغة في التقشف والرهبنة وتعذيب النفس والبدن باعتبار ذلك كله لونا من الوان التقرب الى الله. كما يرون ان لبس الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المساكين المتنسكين.
نشأة الصوفية:
لا يعرف على وجه التحديد من بدأ التصوف في الاسلام ويقال بأن التصوف اول ما ظهر كان في الكوفة بسبب قربها من بلاد فارس, والتأثر بالفلسفة اليونانية بعد عصر الترجمة, يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: "ان اول من عرف بالصوفي هو ابوهاشم الكوفي سنة 150هـ" وقد بلغ التصوف ذروته في نهاية القرن الثالث وواصلت الصوفية انتشارها في بلاد فارس ثم العراق ومصر والمغرب, وظهرت من خلالها الطرق الصوفية.
العقيدة الصوفية:(144/5)
تختلف العقيدة الصوفية عن عقيدة الكتاب والسنة في امور عديدة من اهمها: مصدر المعرفة الدينية, ففي الاسلام لا تثبت عقيدة إلا بقرآن وسنة لكن في التصوف تثبت العقيدة بالالهام والوحي المزعوم للأولياء والاتصال بالجن الذين يسمونهم الروحانيين, وبعروج الروح الى السماوات, وبالفناء في الله, وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للولي الصوفي حسب زعمهم, وبالكشف, وبربط القلب بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث يستمد العلوم منه. واما القرآن والسنة فإن للصوفية فيهما تفسيرا باطنيا حيث يسمونه احيانا تفسير الاشارة ومعاني الحروف فيزعمون ان لكل حرف في القرآن معنى لا يطلع عليه إلا الصوفي المتبحر, المكشوف عن قلبه.
عقيدة الصوفية في الله تعالى:
يعتقد المتصوفة في الله عقائد شتى منها "الحلول" الذي يعني ان يكون الصوفي الها وربا يعلم الغيب كله كما يعلمه الله سبحانه وتعالى حيث ان الهدف الصوفي هو الوصول الى مقام النبوة أولا ثم الترقي حتى يصل الفرد منهم في زعمهم الى مقام الألوهية والربوبية. البسطامي من اعلام القرن الثالث في التصوف ومن أئمة الصوفية يقول: "رفعني مرة فأقامني بين يديه, وقال لي: يا أبايزيد ان خلقي يحبون ان يروك, فقلت: زيني بوحدانيتك, وألبسني انانيتك, وارفعني الى احديتك..." تعالى الله عما يقول علوا كبيرا , وتأكيد الصوفية على القول بالحلول التي جعلتهم يتشبهون بصفات الله جعلهم يصلون في النهاية الى القول "بوحدة الوجود" التي تعني في العقيدة الصوفية انه ليس هناك موجود إلا الله سبحانه وتعالى فليس غيره في الكون, وما هذه الظواهر التي نراها إلا مظاهر لحقيقة واحدة هي الحقيقة الإلهية. ويؤمن الصوفية بهذه العقيدة حتى يومنا هذا.
عقيدة الصوفية في الرسول صلى الله عليه وسلم:(144/6)
يعتقد الصوفية في الرسول صلى الله عليه وسلم عقائد شتى فمنهم من يزعم ان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصل الى مرتبتهم وحالهم, وانه كان جاهلا بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: "خضنا بحرا وقف الأنبياء بساحله" ومنهم من يعظم الرسول صلى الله عليه وسلم الى درجة الوصول الى الألوهية حيث يعتقد البعض من الصوفية ان الرسول صلى الله عليه وسلم هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش وان السماوات والارض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره وانه اول موجود وهو المستوي على عرش الله وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده.
عقيدة الصوفية في الاولياء:
يرى الصوفية ان الولي هو: "من يتولى الله سبحانه امره فلا يكله الى نفسه لحظة, ومن يتولى عبادة الله وطاعته, فعبارته تجري على التوالي من غير ان يتخللها عصيان" وحقيقة الولي عند الصوفية انه يسلب من جميع الصفات البشرية ويتحلى بالاخلاق الالهية ظاهرا وباطنا , ويصل الى المساواة مع الله سبحانه وتعالى حيث يعتقد الصوفية في الأولياء بأن لهم القدرة على انزال المطر وشفاء الأمراض واحياء الموتى وحفظ العالم من الدمار. ولا شك ان هناك آثارا خطيرة تترتب على هذه العقيدة من اهمها الوقوع في شرك الربوبية والعياذ بالله.
عقيدة الصوفية في الجنة والنار:(144/7)
الصوفية يعتقدون ان طلب الجنة والفرار من النار ليس هدفا , فالله يعبد لذاته حيث يزعم المتصوفة ان العبادة الحقة هي ما كانت دون طلب العوض من الله وان يشهد فيها فعل الله لا فعل العبد, وان من شاهد فعله في الطاعة فقد جحد. والصوفية يعتقدون ان طلب الجنة منقصة عظيمة وانه لا يجوز للولي ان يسعى اليها ولا ان يطلبها ومن طلبها فهو ناقص, وانما الطلب عندهم والرغبة في الفناء (المزعوم) في الله, والاطلاع على الغيب والتعريف في الكون.. هذه جنة الصوفي المزعومة. واما النار فإن الصوفية يعتقدون ايضا ان الفرار منها لا يليق بالصوفي الكامل لان الخوف منها طبع العبيد وليس الاحرار.
وقد يظن المسلم في عصرنا الحاضر ان هذه العقيدة في الجنة والنار عقيدة سامية وهي ان يعبد الانسان الله لا طمعا في الجنة ولا خوفا من النار, ولكنها عقيدة غير صحيحة ومخالفة لعقيدة الكتاب والسنة.
الشريعة الصوفية في العبادات:
يعتقد الصوفية ان الصلاة والصوم والحج والزكاة عبادات العوام وأما هم فيسمون انفسهم الخاصة ولذلك فعباداتهم مخصوصة وان تشابهت ظاهرا . واذا كانت العبادات في الاسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع فإن العبادات في التصوف هدفها ربط القلب بالله تعالى للتلقي عنه مباشرة حسب زعمهم والفناء فيه واستمداد الغيب من الرسول صلى الله عليه وسلم والتخلق باخلاق الله حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون ويطلع على اسرار الخلق, ولا يهم في التصوف ان تخالف الشريعة الصوفية ظاهر الشريعة الاسلامية, فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر كل ذلك لا يهم لأن للولي شريعته تلقاها من الله مباشرة.
شريعة الصوفية في الحلال والحرام:
اهل وحدة الوجود في الصوفية لا شيء يحرم عندهم ولذلك كان منهم الزناة واللوطية ومنهم من اعتقد ان الله قد اسقط عنه التكاليف واحل له كل ما حرم على غيره.
شريعة الصوفية في الحكم والسياسة والحروب:(144/8)
المنهج الصوفي يرى عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين لأن الله في زعمهم اقام العباد فيما أراد.
منهج الصوفية في التربية:
لعل اخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية حيث يستحوذون على عقول الناس ويلغونها وذلك بادخالهم في طريق متدرج يبدأ بالتأنيس ثم بالتهويل والتعظيم بشأن التصوف ورجاله ثم بالتلبيس على الشخص ثم الدخول الى علوم التصوف شيئا فشيئا ثم بالربط بالطريقة وسد جميع الطرق بعد ذلك للخروج.
الخضر عليه السلام في الفكر الصوفي:
قصة الخضر عليه السلام التي وردت في القرآن في سورة الكهف, حرف المتصوفة معانيها واهدافها ومراميها وجعلوها عمودا من اعمدة العقيدة (الصوفية) وجعلوا هذه القصة دليلا على ان هناك ظاهرا شرعيا, وحقيقة صوفية تخالف الظاهر وجعلوا انكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة امرا مستغربا, وجعل الصوفية الخضر عليه السلام مصدرا للوحي والالهام والعقائد والتشريع, ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها الى الخضر وليس منهم صغير او كبير ممن دخل في طريقهم الا وادعى لقيا الخضر والأخذ عنه.
اذكار الصوفية:(144/9)
الاذكار الشرعية حظيت بالبيان والتوضيح فلم يترك الرسول مجالا من مجالات الذكر الا وبين الصيغة التي يتعين على المسلم ذكرها, ولكن الصوفية خرقوا كل الضوابط والثوابت الشرعية فشرعوا من عندهم اذكارا وصلوات لم ترد في الشريعة الاسلامية وخير مثال على ذلك افضل ذكر ورد عن النبي "لا اله الا الله" فالصوفية يذكرون اسم الله مفردا بقولهم "الله الله الله" او مضمرا بقولهم "هو, هو, هو" وبعضهم فسر ذلك بقوله اخشى ان تقبض روحي وأنا اقول "لا إله...." ومن الصلوات التي ابتدعها المتصوفة صلاة الفاتح التي تقول: "اللهم صلي على سيدنا محمد الفاتح لما اغلق, والخاتم لم سبق, وناصر الحق بالحق...." الى آخره من ابتداع الصوفية, وهناك ورد اطلق عليه المتصوفة جوهرة الكمال وهي من أورادهم اللازمة التي لها حكم الفرض العيني ونصه "اللهم صلي وسلم على عين الرحمة الربانية, والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني, ونور الأكوان المتكونة...." الى آخر الخزعبلات التي ليس امام اي مسلم الا أن يحوقل ويسترجع ويتعوذ من المكر "فاللهم لا تمكر بنا".
عبادة الله بالغناء بدعة يهودية:
في المجتمع الصوفي يتفشى ما يسمى بالسماع والتغني بالاشعار مع دق الطبول وهذا يقصد به الصوفية عبادة الله تعالى, ويتضح تأثر الصوفية به الا ان كثيرا من الذين بحثوا في هذا الجانب يؤكدون على ان الصوفية يتأثرون بالسماع من خلال الالحان والاشعار والطبول أكثر من تأثرهم بالقرآن يقول الشعراني: "وكان اذا سمع القرآن لا تقطر له دمعة, واذا سمع شعرا قامت قيامته"..
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية "ولو كان هذا ـ يقصد سماع الاشعارـ وضرب الدفوف كعبادة ـ مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود لكان ذلك مما دلت الأدلة الشرعية عليه" ويضيف "انما عبادة المسلمين الركوع والسجود اما العبادة بالرقص وسماع الاغاني بدعة يهودية تسربت الى المنتسبين الى الاسلام".(144/10)
مظاهر تقديس الاموات في الفكر الصوفي:
ان من ألوان تقديس الأموات والغلو فيهم ان يعتقد ـ وهذا ما يفعله المتصوفة ـ ان الميت وليا كان ام نبيا لابد ان يرجع الى الدنيا, وانه متى ما اراد ان يعود الى بيته عاد وكلم اهله وذويه, وتفقد اتباعه ومريديه, وربما اعطاهم اورادا الى غير ذلك مما يعبر عن عقيدة موغلة في الجهل بعيدة عن عقيدة الاسلام الصافية.
ومظاهر عقيدة الرجعة عند الصوفية تتمثل في اعتقادهم بامكان مقابلة الرسول بعد موته يقظة وانه صلى الله عليه وسلم يحضر بعض اجتماعات الصوفية وانه مازال يعطي بعض المعارف والتشريعات لمن يشاء من العباد.
ويوغل المتصوفة كثيرا في تقديس الاموات وهذا يتضح من خلال تقديس المشاهد والبناء على القبور وتجصيصها واتخاذها مساجد, وقد تساهل المسلمون في ذلك كثيرا حتى نجد انها عمت كثيرا من بلاد المسلمين دون وعي بنتائج ذلك والتي من اهمها: ان تقديس المشاهد والبناء على القبور صار شائعا وكأنه معلم من معالم الدين الاسلامي, وان تقديسها ذريعة الى الشرك, حيث ادى البناء على القبور وتعليتها وتزيينها الى اتخاذها معابد وشرعت لها مناسك كمناسك الحج, كذلك فان تقديس المشاهد اساءة للاسلام عند من لاعلم به بتعاليمه, فنجد ان وسائل الاعلام الحاقدة على الاسلام تنقل وتقدم هذا التقديس على انه صورة الاسلام!! وبالتالي ما الفرق بين عبدة الأوثان والصليبيين وهؤلاء؟ كما يضاف الى نتائج اتخاذ القبور وتقديس المشاهد هو انتشار البطالة في العالم الاسلامي بسبب العكوف على القبور واتخاذها مصدرا اقتصاديا.
الكرامات عند الصوفية:(144/11)
ان اول انحراف صوفي يلقاه الباحث عندما يقرأ اي كتاب من كتب التراث الصوفي هو اعتمادهم الكلي على الخوارق, واهتمامهم في مناهجهم على المبالغة في نشر خوارق الشيوخ, وتركيزهم على اختلاق قصص خيالية, واساطير كثيرة بالية ليرفعوا بها ما للشيوخ والأولياء من مكانة ومنزلة في نفوس الاتباع, ويحملوهم على الاذعان لهم وتقديسهم وتعظيمهم لدرجة العبادة فكان من نتائج هذا الاهتمام ان حملوا شيوخهم على طرق كل باب بحثا عن الخوارق لعلمهم ان الصوفي كل ما كان اكثر خوارق واشد اتصافا بالمدهشات كان اعظم عند الناس في باب الولاية والقرب.
ومن الصور الحسية لاهتمام الصوفية بموضوع الكرامات: يقول السراج الطوسي في كتابه اللمع لاثبات الآيات والكرامات: "من زهد في الدنيا اربعين يوما صادقا من قلبه مخلصا في ذلك, ظهرت له الكرامات" ويذكر القشيري في رسالته على خوارق شيوخ الصوفية عندما سرد غرائب احوالهم وقدراتهم على التعرف, والصوفية يبادرون الى نسبة كل غريب صادر من شخص معروف او مجهول بانه كرامة ولي, ويعترفون انهم يعتمدون على الجن في كثير من خوارقهم حيث نقل عن الجنيد ان الجن كانت تؤنسه وتعينه في اسفاره وغيرها.
وانصار الفكر الصوفي لا يتصورون ولاية دون خوارق فقد ركبوا كل صعب وذلول وطرقوا كل باب مسدود, وذهبوا كل مذهب في سبيل نسج القصص واختلاق الروايات, وجمع الاساطير, ظنا منهم بان ذلك جالب للاحترام وموجب للتقديس عند الخاص والعام.
وسوف نستعرض بعضا من كرامات اولياء التصوف المعروفة في كتبهم, وذلك حتى يعلم القارئ الى اي مدى وصل الخيال والدجل بهؤلاء, وكيف ان الحرص على الجاه, وكسب تقديس الآخرين يمكن ان يقضي على الحياء والمروءة وكل القيم.(144/12)
يتحدث الشعراني عن أحد الاولياء اذا شاوره انسان في شيء, قال: امهلني حتى اسأل جبريل, ثم يقول له بعد ساعة: افعل او لا تفعل حسب ما يقول له جبريل بزعمه!.. وعن ولي آخر يدعي ان الله لا يحدث شيئا في العالم الا بعد ان يعلمه بذلك على سبيل الاستئذان!.. وهناك ولي آخر من المجاذيب تبعه جماعة من الصبيان يضحكون عليه فقال: ياعزرائيل ان لم تقبض ارواحهم لأعزلنك من ديوان الملائكة, فأصبحوا موتى أجمعين!.. ومن قصصهم المستغربة التي لا تروج الا على الجهلة والمهووسين أن وليا من أوليائهم كان يختم القرآن 360 ألف ختمة في اليوم والليلة! وهذا الكلام لولا أن العقول قد خدرت فكريا وان النفوس قد مسخت وان القلوب قد طبع عليها بخاتم الجهل وقلة الحياء ما كان ليصدق فيدون في كتب الكرامات, فان اليوم والليلة زمن يمتد 24 ساعة اي 1440 دقيقة فاذن 360 الف ختمة ÷ 1440 دقيقة = 250 ختمة في كل دقيقة!! فأين العقول؟!
ومن أعجب كراماتهم المدونة ما يتعلق بحياتهم الخاصة فنجدهم مثلا يتحدثون عن ولي مكث اربعين سنة لم يأكل ولم يشرب, وآخر ينام سبع عشرة سنة! وآخر يقول لعصاه التي يتوكأ عليها: كوني انسانا, فتكون انسانا فيرسلها تقضي له الحوائج ثم تعود كما كانت! وأن أحد أوليائهم امر الشمس بالوقوف فوقفت, حتى قطع المرحلة الباقية من سفره, ثم امرها بالغروب, فغربت واظلم الليل في الحال!
وبالتأكيد اننا لم نقصد حشد ما ذكره هؤلاء في هذا المجال ولكن اردنا الاستشهاد بتلك الأمثلة للتدليل على المخازي التي ابتليت بها امة الاسلام وغزاها اعداؤها في عقر دارها بهذا الفكر الذي سرعان ما حول تلك العقلية الاسلامية الايجابية المبدعة الى عقلية خرافية خامدة مقهورة, فصار المسلمون يعيشون في احلك الظلم, الا من هداه الله للتمسك بالسنة وقليل ماهم.(144/13)
ان من المعروف عند المسلمين ان الكرامة لا تكون معصية لله ولا مخالفة للشريعة ولكن اصحاب الفكر الصوفي فلا تنحصر كراماتهم في مجال الطاعات ولا تتقيد بالصالحات, فلا مانع عندهم ان تكون الكرامة خارقة لقواعد الشريعة الاسلامية هاتكة لحرمتها وهناك نماذج لذلك من اهمها: كرامة السرقة والتزوير يقول الدباغ: "ان الولي صاحب التصرف يمد يده الى جيب من شاء فيأخذ منه ما شاء من الدراهم, وذو الجيب لا يشعر" وكرامة الرقص مع الأجنبيات وكرامة مباشرة الاجنبيات والاطلاع على العورات, وكرامة التعري امام الناس ويذكر الشعراني في ترجمة شيخ اسمه ابراهيم العريان لأنه كان يطلع المنبر ويخطب عريانا! وكرامة اعلان الكفر على المنابر!
ولولا انه يوجد في الأمة الاسلامية الى اليوم جماهير تدافع عن الفكر الصوفي وتدعو اليه بحماس لما عرضنا مثل هذه السخافات, ولعل الذي يقف على هذا يدرك قيمة هذا الفكر الذي حقه ان يدفن ولا ينشر!
ان التصوف عبر تاريخه الطويل هو انحراف عن منهج الله, انه خليط من الفلسفات والافكار البائدة, ولعل تغليب جانب العبادة عندهم ادى في كثير من الاوقات الى عدم الاهتمام بالعلم كما وصفهم به كبار النقاد كابن الجوزي, وهذا البعد عن العلم مع الحرص على العبادة ادى بهم الى ابتداع شعائر وطقوس هي عمدة من جاء بعدهم من اهل التصوف, وقد ادرك اعداء الاسلام ذلك فحاولوا أن يشوهوا الاسلام ويقضوا على صفاء عقيدة التوحيد, ويجعلوا المسلمين يركنون الى السلبية حتى لا تقوم لهم قائمة.
معنى الطريقة الصوفية:(144/14)
على الرغم من صعوبة تحديد المراد بالطريقة والوصول لمفهوم موحد لجميع الطرق الصوفية الا اننا سنعرض بعضا من المعاني التي وردت حول الطريقة الصوفية فمنها ان الطريقة الصوفية تعني النسبة او الانتساب الى شيخ يزعم لنفسه الترقي في ميادين التصوف والوصول الى رتبة الشيخ المربي ويدعي لنفسه رتبة صوفية من مراتب الأولياء. كما انها تعنى: ان يختار جماعة من المريدين شيخا لهم يسلك بهم رياضة خاصة بهم على دعوى وزعم تصفية القلب لغاية الوصول الى معرفة الله.
كما وصفها الشيخ الجزائري بقوله انها تعني اتصال المريد بالشيخ وارتباطه به حيا أو ميتا وذلك بواسطة ورد من الأذكار يقوم به المريد بإذن من الشيخ أول النهار وآخره, ويلتزم به بموجب عقد بينه وبين الشيخ, وهذا العقد يعرف بالعهد, وصورته ان يتعهد الشيخ بان يخلص المريد من كل شدة ويخرجه من كل محنة متى ناداه مستعينا به, كما يشفع له يوم القيامة في دخول الجنة. ويتعهد المريد بان يلتزم بالورد وآدابه فلا يتركه مدى الحياة كما يلتزم بلزوم الطريقة وعدم استبدالها بغيرها من سائر الطرق.
والتصريح بضمان الجنة للمريد امر مشهور عندهم وهو اكبر من مجرد الشفاعة يوم القيامة . احد مشايخ الصوفية وهو الشيخ التيجاني يقول: وليس لأحد من الرجال ان يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي.(144/15)
وهناك تنافس محموم بين الطرق الصوفية لجذب المريدين ولذلك فان كل طريقة تحاول ان يكون لها ذكر خاص تنفرد به عن سائر الطرق, وان يكون لهذا الذكر ميزة خاصة ولكل طريقة مشاعر خاصة من حيث لون العلم والخرقة وطريقة الذكر ونظام الخلوة, والطرق يتوارثها الابناء من الآباء وذلك ان الطريقة التي تستطيع جلب عدد كبير من المريدين والتابعين تصبح بعد مدة اقطاعية دينية تفد الوفود الى رئيسها او شيخها من كل ناحية, وتأتيه الصدقات والهبات والبركات من كل حدب وصوب وحيثما حل الشيخ في مكان ذبحت الطيور والخرفان واقيمت الموائد, ولذلك فإن أصحاب الطرق الصوفية اليوم يقاتلون عنها بالسيوف.
والطرق الصوفية وان اختلفت وتباينت فانها تتفق فيما يلي:
الاحتفال بدخول المريد في الطريقة بطقوس دقيقة مرسومة, وقد يتطلب بعض الطرق من المريد ان يمضي وقتا شاقا في الاستعداد للدخول.
التقيد بزي خاص, فلابد أن يكون هناك نوع خاص من الزي يمثل رمز أصحاب الطريقة الذي يلبسونه فيميزهم عن غيرهم.
اجتياز المريد مرحلة شاقة من الخلوة والصلاة والصيام وغير ذلك من الرياضات.
الاكثار من الذكر مع الاستعانة بالموسيقى والحركات البدنية المختلفة التي تساعد على الوجد والجذب.
الاعتقاد في القوى السرية الخارقة للعادة التي يكتسبها المريدون بالمجاهدات وهي القوى التي تمكنهم من أكل الجمر, والتأثير على الثعابين, والإخبار بالمغيبات.
احترام شيخ الطريقة الى درجة التقديس .
نشأة الطرق الصوفية :
وضع أبو سعيد محمد أحمد الميهي الصوفي الإيراني 430هـ أول هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلا عن طريق الوراثة, ويمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية وانتشارها حيث انتقلت من إيران إلى المشرق الإسلامي, فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبدالقادر الجيلاني 561هـ .(144/16)
كما ظهرت الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس الرفاعي 540هـ , وفي القرن السابع الهجري دخل التصوف الأندلس وأصبح ابن عربي أحد رؤوس الصوفية 638هـ , واستمرت الصوفية بعد ذلك في القرون التالية إذ انتشرت الفوضى واختلط الأمر على الصوفية لاختلاط افكار المدارس الصوفية وبدأت مرحلة الدراويش.
نماذج من الطرق الصوفية:
[ الطريقة القادرية وتسمى الجيلانية : أسسها عبدالقادر الجيلاني المتوفى سنة 561هـ , يزعم اتباعه انه أخذ الخرقة والتصوف عن الحسن البصري عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضى الله عنهما, كما نسبوا إليه من الأمور العظيمة فيما لا يقدر عليها إلا الله تعالى من معرفة الغيب, وإحياء الموتى وتصرفه في الكون حيا أو ميتا , بالإضافة إلى مجموعة من الأذكار والأوراد والأقوال التي منها: من استغاث بي في كربة كشفت عنه, ومن نادني في شدة فرجت عنه ومن توسل بي في حاجة قضيت له.
[ الطريقة الرفاعية: تنسب إلى ابي العباس أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ويطق عليها البطائحية نسبة إلى مكان ولاية بالقرب من قرى البطائح بالعراق, وجماعته يستخدمون السيوف ودخول النيران في اثبات الكرامات. قال عنهم الشيخ الألوسي "وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة مبتدعة الرفاعية, فلا تجد بدعة الا ومنهم مصدرها وعنهم موردها فذكرهم عبارة عن رقص وغناء وعبادة مشايخهم".
[ البدوية: وتنسب الى احمد البدوي 634هـ ولد بفاس, حج ورحل الى العراق, واستقر في طنطا حتى وفاته, له فيها ضريح مقصود, حيث يقام له كغيره من اولياء الصوفية احتفال بمولده سنويا يمارس فيه الكثير من البدع والانحرافات العقدية من دعاء واستغاثة وتبرك وتوسل ما يؤدي الى الشرك المخرج من الملة, واتباع طريقته منتشرون في بعض محافظات مصر, ولهم فيها فروع كالبيومية والشناوية واولاد نوح والشعبية وشارتهم العمامة الحمراء.(144/17)
[ الطريقة الدسوقية: تنسب الى ابراهيم الدسوقي 676هـ المدفون بمدينة دسوق في مصر, يدعي المتصوفة انه احد الاقطاب الاربعة الذين يرجع اليهم تدبير الامور في هذا الكون.
[ الطريقة الأكبرية: نسبة الى الشيخ محيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر 638هـ, وتقوم طريقته على عقيدة وحدة الوجود والصمت والعزلة والجوع والسهر, ولها ثلاث صفات: الصبر على البلاء, والشكر على الرخاء, والرضا بالقضاء.
[ الطريقة الشاذلية: وهي طريقة صوفية تنسب الى ابي الحسن الشاذلي يؤمن اصحابها بجملة الافكار والمعتقدات الصوفية وان كانت تختلف في اسلوب سلوك المريد او السالك وطرق تربيته, اضافة الى اشتهارهم بالذكر المفرد "الله" او مضمرا "هـ", ويفضلون اكتساب العلوم عن طريق الذوق وهو تلقي الارواح للاسرار الطاهرة في الكرامات وخوارق العادات, كذلك معرفة الله تعالى معرفة يقينية ولا يحصل ذلك الا عن طريق الذوق او الكشف. كما ان من معتقداتهم السماع وهو سماع الاناشيد والاشعار التي قد تصل الى درجة الكفر والشرك كرفع الرسول الى مرتبة ليست موجودة في الكتاب والسنة.
[ الطريقة البكداشية: كان الاتراك العثمانيون ينتمون الى هذه الطريقة, وهي لا تزال منتشرة في البانيا, كما انها اقرب الى التصوف الشيعي, وكان لهذه الطريقة اثر بارز في نشر الاسلام بين الاتراك والمغول.
[ الطريقة المولوية: انشأها الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي 672هـ والمدفون بقونية, اصحابها يتميزون بادخال الرقص والايقاعات في حلقات الذكر, وقد انتشروا في تركيا وغرب آسيا, ولم يبق لهم في الايام الحاضرة الا بعض التكايا في تركيا وحلب وفي بعض اقطار المشرق.
[ الطريقة النقشبندية: تنسب الى الشيخ بهاء الدين محمد بن البخاري الملقب بشاه نقشبند 791هـ وهي طريقة تشبه الطريقة الشاذلية, انتشرت في فارس وبلاد الهند.(144/18)
[ الطريقة الملامتية: مؤسسها ابوصالح حمدون بن عمار المعروف بالقصار 271هـ اباح بعضهم مخالفة النفس بغية جهادها ومحاربة نقائصها, وقد اظهر الغلاة منهم في تركيا حديثا بمظهر الاباحية والاستهتار وفعل كل امر دون مراعاة للأوامر والنواهي الشرعية.
[ الطريقة التيجانية: طريقة صوفية يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية ويزيدون عليها الاعتقاد بامكانية مقابلة النبي مقابلة مادية واللقاء به لقاء حسيا في هذه الدنيا, وان الرسول قد خصهم بصلاة "الفاتح" التي تحتل لديهم مكانة عظيمة ـ وكنا قد عرضنا لهذه الصلاة أعلى الصفحة ـ هذه الطريقة اسسها ابو العباس احمد التيجاني 1230هـ , الذي ولد بالجزائر ويدعي انه التقى النبي لقاء حسيا ماديا وانه تعلم منه صلاة الفاتح وانها تعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة. ويلاحظ على اصحاب هذه الطريقة شدة تهويلهم للامور الصغيرة وتصغيرهم للامور العظيمة على حسب هواهم ما أدى الى ان يفشو التكاسل بينهم لما شاع بينهم من الأجر العظيم على اقل عمل يقومون به, ويرون ان لهم خصوصيات ترفعهم عن مقام الناس الآخرين من أهمها: ان تخفف عنهم سكرات الموت وان الله يظلهم في ظل عرشه وان لهم برزخا يستظلون به وحدهم. واهل هذه الطريقة كباقي الطرق الصوفية يجيزون التوسل بذات النبي , وقد بدأت هذه الطريقة في مدينة فاس وصار لها أتباع في السنغال ونيجيريا وشمال افريقيا ومصر والسودان.(144/19)
[ الطريقة الختمية: وهي طريقة صوفية تلتقي مع الطرق الصوفية الاخرى في كثير من المعتقدات مثل الغلو في شخص رسول الله وادعاء لقياه واخذ تعاليمهم واورادهم واذكارهم التي تميزوا بها, عنه مباشرة, هذا الى جانب ارتباط الطريقة بالفكر والمعتقد الشيعي واخذهم من ادب الشيعة وجدالهم. وقد اسس هذه الطريقة محمد عثمان الميرغني ويلقب بالختم اشارة الى انه خاتم الاولياء, ومنه اشتق اسم الطريقة الختمية, كما تسمى الطريقة الميرغنية ربطا لها بطريقة جد المؤسس عبدالله الميرغني المحجوب.. وقد بدأت هذه الطريقة من مكة والطائف, وارست لها قواعد في جنوب وغرب الجزيرة العربية, كما عبرت الى السودان ومصر, وتتركز قوة الطريقة من حيث الاتباع والنفوذ الآن في السودان.. وعلى هذا فان الطريقة الختمية طائفة صوفية تتمسك بمعتقدات الصوفية وأفكارهم وفلسفاتهم حيث تبنوا فكرة وحدة الوجود التي نادى بها ابن عربي وقالوا بفكرة النور المحمدي, واستخدموا مصطلحات الوحدة والتجلي والانبجاس والظهور والفيض وغيرها من المصطلحات الفلسفية الصوفية, واسبغوا على الرسول من الاوصاف ما لا ينبغي ان يكون الا لله تعالى, ويدعي مؤسس الطريقة بانه خاتم الأولياء وان مكانته تأتي بعد الرسول , والطريقة الختمية تهتم باقامة الاحتفالات الخاصة باحياء ذكر مولد النبي واقامة ليالي الذكر أو الحولية.(144/20)
[ الطريقة البريلوية: وهي فرقة صوفية نشأت في شبه القارة الهندية الباكستانية في مدينة بريلي بالهند ايام الاستعمار البريطاني وقد اشتهرت بمحبة وتقديس الانبياء والأولياء بعامة, والنبي بخاصة. مؤسس هذه الطريقة هو احمد رضا خان 340هـ ولقد سمى نفسه عبدالمصطفى!, ويعتقد أبناء هذه الطائفة بان الرسول لديه القدرة التي يتحكم بها في الكون, ولقد غالوا في نظرتهم إلى النبي حتى اوصلوه الى قريب من مرتبة الألوهية, يقول احمد رضا خان "اي يا محمد لا استطيع ان اقول لك الله, ولا استطيع ان افرق بينكما, فامرك الى الله هو اعلم بحقيقتك" كما ان هذه الطائفة لديها عقيدة الشهود حيث ان النبي في نظرهم حاضر وناظر لافعال العباد في كل زمان ومكان, كما انهم يشيدون القبور ويعمرونها ويتبركون بها, ويؤمنون بالاسقاط وهي صدقة تدفع عن الميت بمقدار ما ترك من صلاة او صيام او سائر العبادات وهي مقدار صدقة الفطر. وأعظم اعيادهم هو ذكرى المولد النبوي. وهم يكفرون المسلمين لأدنى سبب مثل الرئيس الباكستاني الراحل ضياء الحق وشيخ الاسلام ابن تيمية والامام محمد بن عبدالوهاب.
أهم الشخصيات الصوفية :
سنحاول عرض أبرز الشخصيات الصوفية وأكثرها تأثيرا عبر العصور ـ وخصوصا الذين دعوا الى عقيدة الحلول والاتحاد فمن ابرزهم:
* البسطامي (261هـ): هو ابو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي كان جده مجوسيا فاسلم, وهو اول من استخدم لفظ الفناء بمعناه الصوفي الذي يقصد منه الاتحاد بذات الله, يقول د. عبدالرحمن بدوي ـ صوفي معاصر ـ صاحب كتاب تاريخ التصوف الاسلامي: "لقد نصب الله الخلائق بين يدي ابي يزيد وها هي ذا تتحرق الى رؤياه في هذا المقام... لكن لكي يمكنهم ان يروه كان عليه ان يطلب الى الله ان يزين أبا يزيد بوحدانيته ويلبسه انانيته..." وعلى هذا فإن عقيدة البسطامي واضحة فهو اول من سعى في نشر عقيدة الاتحاد بين المسلمين.(144/21)
* الحلاج (309هـ): هو الحسين بن منصور الحلاج, صوفي فيلسوف, تبرأ منه سائر الصوفية والعلماء لسوء سيرته ومروقه, وهو يدعي الحلول ومعناه حلول الإله فيه أي الله سبحانه وتعالى وتقدس عما يقول, واستمر الحلاج في نشر فكره الحلولي حتى استفحل امره فألقي القبض عليه لتتم مناظرته ومناقشته بحضره القضاة وبعد ان تيقن السلطان (المقتدر) امره امر بقتله.
* الغزالي (450 ـ 505هـ): ابو حامد محمد بن احمد الطوسي الملقب بحجة الاسلام, ولد بطوس من اقليم خرسان, نشأ في بيئة كثرت فيها الآراء والمذاهب مثل علم الكلام والفلسفة, والباطنية, والتصوف, وأورثه ذلك حيرة وشكا , ألف عددا من الكتب أهمها تهافت الفلاسفة والمنقذ من الضلال, واهمها على الاطلاق احياء علوم الدين, ويعد الغزالي رئيس مدرسة الكشف في المعرفة.. ومن جليل اعماله هدمه للفلسفة اليونانية وكشفه لفضائح الباطنية. وفي آخر حياته اقبل على حديث الرسول , وفي هذه المرحلة ألف كتابه "إلجام العوام عن علم الكلام" الذي ذم فيه علم الكلام وطريقته وانتصر لمذهب السلف, ويقال انه رجع عن القول بالكشف وادراك خصائص النبوة,.
* ابن الفارض (566 ـ 632): هو ابو حفص عمر بن علي الحموي الاصل المصري المولد, لقب بشرف الدين, وهو من الغلاة الموغلين في وحدة الوجود, يقول الشيخ الوكيل "ابن الفارض يزعم انه منذ القدم كان الله, ثم تلبس بصورة النفس.. الخ" ونص شيخ الاسلام ابن تيمية على ان ابن الفارض من اهل الالحاد القائلين بالحلول الاتحاد ووحدة الوجود..(144/22)
* ابن عربي (560 ـ 638هـ): وهو ابو بكر محيي الدين محمد بن علي بن عربي الحاتمي الطائي الاندلسي, الملقب بالشيخ الاكبر عند الصوفية, رئيس مدرسة وحدة الوجود, يعتبر نفسه خاتم الأولياء, استقر في دمشق حيث مات ودفن, وله فيها قبر يزار, طرح نظرية الإنسان الكامل التي تقوم على ان الانسان وحده من بين المخلوقات يمكن ان تتجلى فيه جميع الصفات الالهية اذ تيسر له الاستغراق في وحدانية الله, وهذا يوضح خطورة آرائه ولذلك فقد اتفق علماء الاسلام شرقا وغربا على ذم ابن عربي وآرائه والبعض منهم يحرم النظر في كتبه.
* ابن سبعين (614 ـ 669هـ): هو قطب الدين ابو محمد عبدالحق بن ابراهيم بن محمد بن سبعين الاشبيلي المرسي, احد الفلاسفة المتصوفة القائلين بوحدة الوجود التي يرى انها تعني ان وجود الحق هو الثابت بدءا , وانه مادة كل شيء, والخلق منبثق منه فائض عنه, ولذا يقول ابن تيمية: ان ابن سبعين وان قال بان الوجود واحد فهو يقول بالاتحاد والحلول من هذا الوجه, لان معنى كلامه ان الحق محل للخلق. ويرى ابن سبعين ان الله هو الوجود كله ولا شيء معه الا علمه, والكائنات هي عين علمه. يقول ابن تيمية "هذا من ابطل الباطل واعظم الكفر والضلال".(144/23)
* العفيف التلسماني (610 ـ 690هـ): هو سليمان بن علي الكومي التلمساني, يلقب بعفيف الدين, يقول عنه الذهبي انه احد زنادقة الصوفية, ويقول ابن كثير "وقد نسب هذا الرجل الى عظائم في الاقوال والاعتقاد في الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض وشهرته تغني عن الاطناب في ترجمته", ومن اقوال التلمساني الشنيعة التي توضح كفره الحوار الذي دار بينه وبين احد شيوخه قال: القرآن ليس فيه توحيد بل القرآن كله شرك, ومن اتبع القرآن لم يصل الى التوحيد" وكذلك فان من فكر التلمساني الفاسد ما حكاه شيخ الاسلام من ان الشيرازي قال لشيخه التلمساني ـ وقد مر بكلب اجرب ميت ـ فقال: هذا ايضا من ذات الله؟! فقال: وهل ثم خارج عنه!؟ قال ابن تيمية: هذا من اعظم الكفر. وعلى هذا فان الرجل يعد من رواد وحدة الوجود الكبار, ومن المصنفين المكثرين في تقرير هذه العقيدة الفاسدة ونشرها.
* النابلسي (1050 ـ 1143هـ): هو عبدالغني بن اسماعيل الدمشقي النابلسي الحنفي النقشبندي القادري, آمن بالطريقة النقشبندية الذين يؤمنون بعقيدة الفناء ووحدة الوجود.
أقوال بعض الأئمة والعلماء في الصوفية :
* الامام الشافعي: ادرك بدايات التصوف وكان اكثر العلماء والائمة انكارا عليهم, وقد كان مما قاله في هذا الصدد "لو أن رجلا تصوف اول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق".
* الامام احمد بن حنبل: كان للصوفية بالمرصاد فقد قال فيما بدأ الحارث المحاسبي يتكلم فيه وهو الوساوس والخطرات قال احمد: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون وحذر من مجالسة الحارث وقال لصاحب له: لا أرى لك ان تجالسه.
* الامام ابن الجوزي: كتب كتابا سماه "تلبيس ابليس" خص الصوفية بمعظم فصوله وبيَّن تلبيس الشيطان عليهم ما جعلهم يتخبطون في الظلمات.(144/24)
* شيخ الإسلام بان تيمية: كان من أعظم الناس بيانا لحقيقة التصوف, وتتبعا لاقوال الزنادقة والملحدين وخاصة ابن عربي والتلمساني وابن سبعين, فتعقب اقوالهم وفضح باطنهم وحذر الامة من شرورهم وقد ذكرنا في هذا الجزء مقاطع مما قاله ابن تيمية.
بعض كبار الصوفية الذين هداهم الله للطريق القويم:
* الدكتور تقي الدين الهلالي: شيخ التوحيد في بلاد المغرب والذي كان صوفيا (تيجانيا) فأكرمه الله بدعوة التوحيد, يقول عن سبب خروجه من الطريقة التيجانية: "لقد كنت في غمرة عظيمة وضلال مبين وكنت أرى خروجي من الطريقة التيجانية كالخروج من الاسلام ولم يكن يخطر لي ببال ان اتزحزح عنها قيد شعرة, وجرت مناظرة حول ادعاء الشيخ التيجاني في انه رأي النبي يقظة, وقد ثبت بطلان ذلك "يمكن الرجوع للمناظرة بكاملها في كتاب (الفكر الصوفي ص 474) وكذلك يذكر انه اجتمع بالشيخ عبدالعزيز بن ادريس واوضح له بطلان الطريقة التيجانية".
* الشيخ عبدالرحمن الوكيل: وكيل جماعة انصار السنة بمصر, صاحب كتاب "هذه هي الصوفية" يقول "كانت لي بالتصوف صلة, وهي صلة العبرة بالمأساة, حيث كان يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية وتستقبل النفس كل صروف الاقدار بالفرحة الطروب".
ويضيف "ألا فاسمعوها غير هيابة ولا وجلة, واصغوا الى هتاف الحق يهدر بالحق ان التصوف ادنأ وألام كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ولرسوله, انه قناع كل عدو صوفي للدين الحق, فتش فيه تجد برهمية وبوذية, وزرادشتية, ويهودية ونصرانية ووثنية جاهلية..."
وبعد(144/25)
ان ما نشاهده اليوم من الصوفية التي عمدت الى تدوين معتقداتها ومناهجها ومن ثم محاولة نشر تلك المعتقدات بشتى الوسائل وخصوصا في عصرنا الحاضر عصر المعلومات والاتصالات فما نشاهده من تكريس لتلك العقيدة والشريعة من خلال طقوسها التي تطالعنا بها الفضائيات وتعج بها الصحف والمجلات على انها من اصول العقيدة والتشريع الاسلامي ما قد يؤدي بالأمة الاسلامية الى التخلف والتقهقر وكيف لها ان تتقدم مع هذه الانحرافات العقدية.. والله من وراء القصد.
(3) الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة ـ عبدالرحمن عبدالخالق.
الطريقة الرفاعية
تنسب الطريقة الرفاعية إلى أحمد الرفاعي بن سلطان علي، ويصل أتباعه نسبه إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق إلى علي بن أبي طالب. ولد أحمد الرفاعي في قرية (حسن) بالقرب من أم عبيدة بالعراق 512هـ وتوفي سنة 578هـ ودفن في قرية أم عبيدة.
ما نسب من كرامات للرفاعي:
1- أشهر ما يعرف عنه زعم أتباعه أنه لما حج عام 555هـ ووقف أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قال هذين البيتين:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
ويزعم أتباعه أن النبي خرج من قبره ومد له يده من بين حديد شباك القبر فقبلها الرفاعي.. (الطريقة الرفاعية ص133).
2- وينسبون من كراماته أيضاً أنه إذا كان ألقى الدرس سمعه الأصم والسميع، والقريب والبعيد، وأن الله أحيا له الميت، وأقام له المقعدين، وقلب له الأعيان، وصرفه في الخلق (الطريقة الرفاعية ص134). ويذكرون كذلك أن الله أبرد لأتباعه النيران، وأزال لهم فاعلية السموم.. وألان لهم الحديد، وأذل لهم السباع والأفاعي، وأخضع لهم طغاة الجن، وصرفهم في العوالم، وأطلعهم على عجائب الأسرار.(144/26)
3- دعا الناس إليه وإلى طريقته بطرق شتى؛ من ذلك قوله: "إنكار العبد نعمة من موجبات السلب، أنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. إن الله إذا وهب عبده نعمة ما استردها، شكر النعمة معرفة قدرها" (البرهان المؤيد ص28).
وقال أيضاً في بعض مواعظه ودروسه يمدح نفسه ويدعو إلى طريقته: "أي خاصة أي عامة فاض بحر الكرم (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). أنا مأوى المنقطعين، أنا مأوى كل شاة عرجاء انقطعت في الطريق. أنا شيخ العواجز أن شيخ من لا شيخ له فلا يتشيخ الشيطان على رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، عهد مني بالنيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، عهداً عاماً إلى يوم القيامة، العرش قبلة الهمم، والكعبة قبلة الجباه، وأحمد قبلة القلوب. قال لي حبيبي أنت وجه لا يخزيه الله في أتباعه أبداً (سلام عليك بما صبرتم فنعم عقبى الدار) هات يا منشد الفتح في حضرة المنجي. قل كيف شئت مجلس مأتم ومجلس فرح (يولج الليل في النهار) (ألا إلى الله تسير الأمور) (وكفى بالله ولياً) عليكم بتقوى الله لا تخرجوا من ساحة التوحيد، ربنا الله لا شريك له نعم الولي ونعم النصير والحمد لله رب العالمين" (المجالس الرفاعية ص112).
ولا يخفى هنا زعمه أن الرسول خاطبه وكلمه (قال لي حبيبي أنت وجه لا يخزيه الله في أتباعه أبداً).
وقال أيضاً في مقام آخر:(144/27)
"صحبتنا ترياق مجرب، والبعد سم قاتل، أي محجوب تزعم أنك اكتفيت عنا بعلمك، ما الفائدة من علم بلا عمل، ما الفائدة من عمل بلا إخلاص، الإخلاص على حافة طريق الخطر، من ينهض بك إلى العمل. من يداويك من سم الرياء، من يدلك على الطريق الأمين بعد الإخلاص (أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) هكذا أنبأنا العليم الخبير، تظن أنك من أهل الذكر، لو كنت منهم ما كنت محجوباً عنهم لو كنت من أهل الذكر ما حرمت ثمرات الفكر، صدك حجابك، قطعك عملك. قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بكم من علم لا ينفع)، لازم أبوابنا، أي محجوب فإن كل درجة وآونة تمضي لك في أبوابنا درجة وإنابة إلى الله تعالى، صحت إنابتنا إلى الله، قال تعالى: (واتبع سبل من أناب) أيها المتصوف لم هذه البطالة صر صوفياً حتى نقول لك أيها الصوفي" أ.هـ (البرهان المؤيد ص35).
وكان يقول أيضاً: "أيها البعيد عنا، الممقوت منا ما هذا يا مسكين، لو كان لنا فيك مقصد يشهد بحسن استعدادك وخالص حبك إلى الله وأهله اجتذبناك إلينا، وحسبناك إلينا. شئت وإلا.. لكن الحق يقال: حظك منعك، وعدم استعدادك قطعك، لو حسبناك منا ما تباعدت عنا، خذ مني يا أخي علم القلب، خذ مني علم الذوق، خذ مني علم الشوق. أين أنت مني يا أخا الحجاب اكشف لي قلبك.." أ.هـ (البرهان المؤيد ص33).
وقال أيضاً في هذا المعنى:
"أقامنا الله أئمة الدعوة بالنيابة عن نبيه صلى الله عليه وسلم من اقتدى بنا مسلم، ومن أناب إلى الله بنا غنم، الحق يقال نحن أهل بيت ما أراد سلبنا سالب إلا سلب، ولا نبح علينا كلب إلا جرب، ولا هم على ضربنا ضارب إلا ضرب، ولا تعالى علينا حائط إلا وخرب"!! (البرهان المؤيد ص31).
ومع هذه الأقوال التي كان يذكر نفسه فيها على هذا النحو فقد نقلت عنه أقوال تناقضها حيث يقول:
"كل الفقراء رجال هذه الطائفة خير مني، أنا أحميد اللاش، أنا لاش اللاش".. أ.هـ (البرهان المؤيد ص24).(144/28)
بل يقول ما هو أبلغ من هذا أيضاً:
"أي سادة أنا لست بشيخ، لست بمقدم على هذا الجمع لست بواعظ، لست بمعلم، حشرت مع فرعون وهامان إن خطر لي أني شيخ على أحد من خلق الله برحمته فأكون كأحد المسلمين" أ.هـ (البرهان المؤيد ص23).
ويقول أيضاً في مجلس آخر:
"أيش أنا حتى أدعوك، ما مثلي إلا كمثل ناموسة على الحائط لا قدر لها، حشرت مع فرعون وهامان وقارون وأخذني ما أخذهم أن كان خطر لما في سري أني شيخ هذا الجمع، أو مقدمهم أو من يحكم عليهم، أو ثبت عندي أني فقير منهم، وكيف تدعوه نفسه إلى ذلك من هو لا شيء، ولا يصلح لشيء، ولا يعد بشيء" أ.هـ (البرهان المؤيد ص52).
ومع كل هذا التبري من الحول والطول فإن أحمد الرفاعي يناقض نفسه كثيراً حيث يزعم ضد ذلك تماماً فيقول:
"وعدني رسول كرمه أن يأخذ بيد مريدي وحُبي ومن تمسك بي وبذريتي وخلفائي في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة عند انقطاع الحيل، بهذا جرت بيعة الروح لا يخلف الله وعده، لا تصح المكالمة لمخلوق مع الخالق بعد النبيين والمرسلين الذين كلمهم سبحانه وحياً أو من وراء حجاب، وإنما وعد إحسانه ينجلي إلى قلوب أوليائه وأحبابه بالرؤيا المنامية، والواسطة المحمدية والإلهام الصحيح الذي لا يخالف ظاهر الشريعة الأحمدية بحال من الأحوال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" أ.هـ (البرهان المؤيد ص82،83).
قلت: كيف لا يكون هذا الوعد المزعوم مخالفاً لظاهر الشريعة وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام طلب ما هو دون هذا الطلب لذريته فلم يعطه الله تبارك وتعالى حيث يقول الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}.(144/29)
فإذا كان الله سبحانه وتعالى لم يرض أن يعطي إبراهيم عهداً بأن يكون كل ذريته صالحين أئمة في الدين من بعده فكيف يعطي الرفاعي مثل هذا العهد المزعوم فانظر قوله: "وعدني رسول كرمه أن يأخذ بيد مريدي ومحبي ومن تمسك به وبذريتي وخلفائه في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة"!!
ثم ما يدريه أن الله قد أعطاه هذا الوعد: يقول الرفاعي إنه بالإلهام والرؤيا المنامية، هل مثل هذا العهد يعطي بإلهام وبرؤيا منامية؟ وما يدريه أنها رؤيا شيطانية.. وإلهام شيطاني.. وكيف تكون غير ذلك والقرآن بضد ذلك.. بل كيف تكون غير ذلك والرجل يزعم أنه ليس بشيخ وأنه يموت ويحشر مع فرعون وهامان وقارون إن قال إنه شيخ على أحد من الناس فأي كلام من كلامه يصدق؟
من أقوال أحمد الرفاعي:
وقد نسب صاحب طبقات الصوفية عبدالوهاب الشعراني طائفة من الأقوال لأحمد الرفاعي فيها أمور كثيرة من الباطل ولم أقرأ في كتب الطريقة الرفاعية المؤلفة ما ينفي هذه الأقوال وهاك بعضاً من هذه الأقوال:
".. الكشف قوة جاذبية بخاصيتها نور عين البصيرة إلى فيض الغيب، فيتصل نورها به اتصال الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها المنبع إلى فيضه، ثم يتقاذف نوره منعكساً بضوئه على صفاء القلب ثم يترقى ساطعاً إلى عالم الفصل فيتصل به اتصالاً معنوياً له أثر في استفاضة نور القلب على ساحة القلب، فيشرق نور العقل على إنسان عين السر، فيرى ما خفي عن الأبصار موضعه ودق عن الأفهام تصوره، واستتر عن الأغيار مرآه".. أ.هـ (طبقات الشعراني ص141،142).
ونقل عنه أيضاً أنه قال:
وكان يقول: إذا صلح القلب صار مهبط الوحي والأسرار والأنوار والملائكة، ويقول أيضاً: إذا صلح القلب أخبرك بما وراءك وأمامك ونبهك على أمر لم تكن تعلمها بشيء دونه".. أ.هـ (طبقات الشعراني ص141،142).
وهذه نصوص يزعم قائلها أن الصوفي يطلع على حقائق عينية وأسرار وقد بين سابقاً فساد هذا الاعتقاد.(144/30)
وقال أيضاً: ".. إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله تعالى وصارت همته خارقة للسبع السماوات، وصارت الأرضون كالخلخال برجله، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا، لا يعجزه شيء وصار الحق تعالى يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، قال: ويدل لما قلناه ما ورد في بعض الكتب الإلهية يقول الله عز وجل (يا بني آدم أطيعوني أطعكم، واختاروني أختركم، وارضوا عني أرض عنكم وأحبوني أحبكم وراقبوني أراقبكم وأجعلكم تقولون لشيء كن فيكون، يا بني آدم من حصلت له حصل له كل شيء ومن فته فاته كل شيء)" أ.هـ (طبقات الشعراني ص142).
ولا يخفى ما في هذا النص من الباطل لأن العبد مهما بلغ من منازل القرب مع الله يبقى عبداً محكوماً بسنن الله الكونية مفتقراً إلى الله عز وجل كما كان أحوال الرسل وأولياء الله الصادقين فلم تكن الأرض كالخلخال برجل أحدهم بل كانوا يجوعون، ويمرضون، ويتألمون، ويهزمون أحياناً، ويسبون ويشتمون، وقد يتوب لله على من يؤذيهم فيكونون مسلمين، كما فعل الله سبحانه بمن قتلوا أفضل أوليائه في أحد وقال رسول الله فيهم [كيف يفلح قوم شجو وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل..] فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} (رواه البخاري).
وأما ما نقله الشعراني هنا عن الرفاعي، وما زعمه أن هذا مكتوب في بعض الكتب الإلهية فما هذه الكتب الإلهية؟.. ولماذا نهتدي بغير هدي القرآن والسنة وقد نهينا عن ذلك، وهل أنزل الله في هذه الكتب الإلهية المزعومة: وأجعلكم تقولون للشيء كن فيكون.. وماذا بقي لله إذن إذا أصبح كل من أطاع الله إلهاً صغيراً يتصرف في الكون كما يتصرف الله.. ماذا بقي لله من دون صفاته.. لقد سلبوا منه كل صفاته وجعلوها لأنفسهم ولم يرضوا أن يكونوا عبيداً له سبحانه وتعالى كما أمرهم.(144/31)
ومما يدلك على أن المتصوفة يريدون فعلاً الوصول إلى هذا، أعني سلب صفات الله عنه وإلباسها لأنفسهم حتى يكونوا عند الناس آلهة من دون الله، ما نقل هنا الشعراني أيضاً عن الرفاعي والله يعلم هل هذا النقل صحيح أم لا؟: "إذا أراد الله عز وجل أن يرقي العبد إلى مقامات الرجال يكلفه بأمر نفسه أولاً، فإذا أدب نفسه واستقامت معه كلفه بأهله، فإذا أحسن إليهم وأحسن عشرتهم، كلفهم بجيرانه وأهل محلته فإن هو أحسن إليهم وداراهم كلفه جهة من البلاد فإن هو داراهم وأحسن عشرتهم، وصلح سريرته مع الله كلفه ما بين السماء والأرض، فإن فيهم خلقاً لا يعلمه إلا الله تعالى، ثم لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث، ثم ترتفع صفته إلى أن يصير صفة من صفات الحق تبارك وتعالى، وأطلعه على غيبه حتى لا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة إلا بنظره وهناك يتكلم عن الله تعالى بكلام لا يسعه عقول الخلائق" (طبقات الشعراني ص143) أ.هـ.
قلت: فانظر كيف سيرتقي الصوفي إلى أن يكلفه الله أمر خلائق بين السماء والأرض. ولست أدري ماذا سيكلفه الله هناك.. ولكن صاحب هذا القول يزعم أنه سيكون صفة من صفات الحق والحق هنا يعني الله سبحانه وتعالى، يطلع على غيب الله فلا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة إلا بنظره.. باختصار يأخذ مكان الله سبحانه وتعالى، (راجع مراتب الأولياء في الفصل الخاص بذلك).
وهكذا يجعل الصوفية غوثهم المزعوم هو القائم في مقام الله يتصرف في هذا الكون أعلاه وأسفله فانظر الغاية التي يريد رجال التصوف أن يوصلوا الناس إليها إنها باختصار صرف الناس عن عبادة الواحد القهار إلى عبادة من يبولون ويتغوطون ويهرفون بما لا يعرفون، ويستمدون علومهم من الجن والشياطين، ويزعمون للناس أنها وحي من رب العالمين.(144/32)
وعلى كل حال فتحقيقاً لهذه الأقوال أعني أن الولي قد يكلف بأمر الخلائق فإن الشعراني يزعم أيضاً أن الله قد كلف أحمد الرفاعي بالنظر في أمر الدواب والحيوانات.. ولذلك كان ينهي أصحابه عن قتل القمل فقد رأى بعض مريديه يقتل قملة فقال له: لا وأخذك الله شفيت غيظك بقتل قملة..
وكذلك زعموا أن الرفاعي كان إذا لقي الكلاب والخنازير بدأهن بالسلام وكان يقول لهن أحياناً: أنعموا صباحاً (طبقات الشعراني ص143).. أ.هـ.
وهكذا يظهر أثر التكليف الإلهي المزعوم برعايته الحيوانات فتكون النهاية عن قتل القمل، وإلقاء السلام على الخنازير والكلاب..
قلت: ليس عندي ما أقوله في هذا المقامإلا أن أقول إنا لله وإنا إليه راجعون. التحية التي جعلها الله خاصة بالمسلم فقط وحرم الرسول إلقاءها إلا على مسلم ونهى بدء اليهود والنصارى بها علماً أنهم آدميون وقد يهتدون في مستقبل أيامهم هذه التحية التي قال فيها {فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} هانت على رجال التصوف فأعطوها هدية للكلاب والخنازير..
أرأيت إلى المستنقع الذي يريد رجال التصوف إغراق المسلمين فيه.. ومع هذا كله فقد زعم الشعراني أيضاً أن الشيخ الرفاعي كان إذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب الرفاعي حتى يكون بقعة ماء ثم يتداركه اللطف فيجمد شيئاً فشيئاً حتى يرد إلى جسمه المعتاد (طبقات الشعراني ص143).
الشعائر الخاصة للطريقة الرفاعية:
وللطريقة الرفاعية مشاعر خاصة كشأن كل الطرق الصوفية وإليك أهم هذه الشعائر والعقائد..
1- من أهم ما يميز الطريقة الرفاعية هو التتلمذ لكل شيخ، بنقل الشعراني أيضاً عن الرفاعي أنه قال:
"من تمشيخ عليكم فتتلمذوا له، فإن مد يده لكم لتقبلوها فقبلوا رجله.. ومن تقدم عليكم فقدموه وكونوا آخر شعرة في الذنب، فإن الضربة الأولى تقع في الرأس" (الطبقات الكبرى ص141).(144/33)
2- تبنت الطريقة مذهب التفويض في الأسماء والصفات زاعمة أنه مذهب السلف، ولكن الرفاعيين مع ذلك يخالفون ذلك ويؤولون تأويل الأشاعرة فيزعمون أن الله لا يوصف بفوقية أو سفلية وليس في جهة من الجهات، ولا يثبتون ما أثبته الله لنفسه، وكذلك يقولون بوجوب القليد الفقهي.. (الطريقة الرفاعية ص42).
3- ويجعلون السماع والمواجيد والتواجد من الصراخ وغيره مما درج عليه أهل التصوف ديناً ويكفرون من يقول ببدعية ذلك أو يعيبه. قالوا "وإن من أنكر ذلك فقد كفر، لأنه عاب خيراً أمر الله به، ومن عاب ما أمر الله به فهو كافر" (الطريقة الرفاعية ص64،78).
4- أنكر أحمد الرفاعي ما قاله الحلاج ونفى أن يكون ولياً أو واصلاً حيث قال: "أي سادة تفرقت الطوائف شيعاً، وأحميد (يعني نفسه) بقي مع أهل الذل والانكسار والمسكنة والاضطرار، إياكم والكذب على الله (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً). ينقلون عن الحلاج أنه قال: أنا الحق. أخطأ بوهمه، لو كان على الحق ما قال أنا الحق، يذكرون له شعراً يوهم الوحدة كل ذلك ومثله باطل، ما رآه رجلاً واصلاً أبداً، ما أراه شرب، ما أراه حضر، ما أراه سمع إلا رنة وطنيناً، فأخذهم الوهم من حال إلى حال، وما زاد قرباً ولم يزدد خوفاً فهو ممكور. إياكم والقول بهذه الأقاويل إن هي إلا أباطيل".. أ.هـ (البرهان المؤيد ص26).
وهذه أقوال صريحة في رفض أقوال الحلاج الكفرية، والتمسك بالحق والحكم على قائلها بما حكم به أهل الإسلام جميعاً في عصره أنه كافر زنديق وأنه يستحق القتل والصلب الذي وقع له.
ويستطرد الرفاعي أيضاً مبيناً أن حال الأولياء الصادقين لا تكون كحال فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى.. وليست كذلك كحال نمرود الذي قال (أنا أحيي وأميت) فيقول:(144/34)
"درج السلف على الحدود بلا تجاوز. بالله عليكم هل يتجاوز الحد إلا الجاهل وهل يدوس عنوة في الجب إلا الأعمى! ما هذا التطاول وذلك التطاول ساقط بالجوع. ساقط بالعطش. ساقط بالنوم. ساقط بالوجع. ساقط بالفاقة. ساقط بالهرم. ساقط بالعناء. أين هذا التطاول من صدمة صوت (لمن الملك اليوم). العبد متى تجاوز حده مع إخوانه يعد في الحضرة ناقصاً. التجاوز علم نقص ينشر على رأس صاحبه. يشهد عليه بالغفلة. يشهد عليه بالزهو. يشهد عليه بالحجاب. يتحدث القوم بالنعم لكن مع ملاحظة الحدود الشرعية. الحقوق الإلهية تطلبهم في كل قول وفعل. الولاية ليست بفرعونية. ولا بنمرودية قال فرعون أنا ربكم الأعلى. وقال قائد الأولياء وسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم (لست بملك) نزع ثوب التعالي والإمرة والفوقية. كيف يتجرأ على ذلك العارفون: والله يقول {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} وصف الافتقار إلى الله وصف المؤمنين. قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنتم الفقراء إلى الله} هذا الذي أقوله علم القوم. تعلموا هذا العلم. فإن جذبات الرحمن في هذا الزمان قلت. اصرفوا الشكوى إلى الله في كل أمر. العاقل لا يشكو لا إلى ملك ولا إلى سلطان. العاقل كل أعماله لله" أ.هـ (البرهان المؤيد ص26).
وهذا كلام جيد جيداً في رفض دعاوي الصوفية وشطحهم ولكن أتباعه اليوم يخالفون هذا تماماً فيترضون على ابن عربي ومن على شاكلته ويطبعون أقوال هؤلاء جنباً إلى جنب مع أقوال الرفاعي.. ويعتذرون عما قاله الحلاج وغيره أنه من الشطح ولا يصرحون بما صرح لنا في إبعاد قائل هذه الأقوال من الدين. وبذلك يتناقضون على عاداتهم في قولهم أحياناً في رفض الدعوى والشطح، وفي نشرهم لهذه الدعاوي وترضيهم على فاعليها.(144/35)
5- ومن المشاعر الخاصة بالطريقة الرفاعية أيضاً الخلوة الأسبوعية السنوية وتبدأ عندهم في اليوم الحادي عشر من المحرم كل عام، ومن شروطها أن لا يأكل المريد طعاماً أخذ من ذي روح، ويذكر المريد في اليوم الأول لا إله إلا الله بعدد معلوم واليوم الثاني الله الله، والثالث وهاب وهاب، والرابع حي حي والخامس مجيد مجيد.. والسادس معطي معطي.. والسابع قدوس قدوس، وكل ذلك بعدد معلوم، وكذلك أن يقول المريد بعد كل صلاة من صلوات هذا الأسبوع (اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي الطاهر الزكي وعلى آله وصحبه وسلم) يقول ذلك مائة مرة،وزعموا أن لهذه الخلوة فتوحات محمدية، وعنايات أحمدية لا تحصى وأن من فعلها شاهد من البراهين العظيمة وكأن له شأن عظيم (الطريقة الرفاعية ص115).
* ولا يخف أن هذه الخلوة في هذا الوقت المخصوص بدعة ضلالة وكل بدعة في النار كما قال صلى الله عليه وسلم وأنها تشريع جديد لم يأذن به الله ولا رسوله، وأن فيها مشابه لصيام النصارى الذين يصومون عن ذوات الأرواح، وأن فيها تقرباً من الرافضة حيث يخصص الحادي عشر من محرم من كل عام بذلك حيث تنتهي مشاعر الرافضة الخاصة ليدخل مشاعر الرفاعية ولعل ذلك السبب في قولهم إن الرفاعي تأتي منزلته بعد الأئمة الاثني عشر مباشرة (الطريقة الرفاعية ص127).(144/36)
وأما تخصيصهم كل يوم بذكر خاص فهو بدعة، وأما ذكرهم الله بالاسم المفرد فقط الله، حي، مجيد فبدعة عظيمة ولم يرد ذكر الله بالاسم المفرد مطلقاً.. بل لا يذكر الله إلا بجملة مفيدة نحو (لا إله إلا الله) فهي جملة (وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ونحو ذلك فكلها جمل تفيد معنى تعظيماً، فكل من ذكر الله باسم فرد من أسمائه فهو مبتدع، ولذلك لا يستغرب على هؤلاء المبتدعة أن يروا في خلواتهم هذه النيران الشيطانية التي يحسبونها أنواراً ملائكية رحمانية وما هي كذلك لأن الله لا يشرق نوره إلا في قلوب الصالحين المتبعين للحق من عباده.(144/37)
6- ومن مشاعر الطريقة الخاصة أيضاً جواز المحاضرة وربط الروح بأرواح من شاء استحضار روحه من كافر ومسلم (الطريقة الرفاعية ص120) وكذلك من مشاعرهم ما يسمى بالاستفاضة وهي ربط قلب المريد بقلب الشيخ طلباً لإفاضة العلم الباطني إليه، وهذه بدعة صوفية معلومة. ففي التربية الصوفية يطلب من المريد أن يستحضر روح شيخه عند الذكر ويتمثله أمامه ويطلب من شيخه أن يربط روحه بروح الرسول الذي يزعمون أنه يفيض العلوم والأسرار على قلوب شيوخ الصوفية. والحق أن هذه العملية عملية شيطانية لأن المريد الذي يغيب عقله بالذكر المبتدع الذي يذكره آلاف المرات وعشرات الآلاف حتى يكل عقله ودماغه وهو في كل ذلك يحاول استحضار صورة شيخه أمامه، وقد يكون هذا في ظلام دامس فإن هذا هو الوقت المناسب ليدخل الشيطان إليه زاعماً أنه هو شيخه وأنه يراه الآن، وأنه يربط الآن قلبه بقلب الرسول ليفيض عليه العلوم والأسرار الإلهية، ويبدأ الشيطان يلقي في قلوب هؤلاء وساوسه الإبليسية فيوهم الواحد منهم أنه الآن صاعد إلى السماء، وأن هذا هو عرش الله، وهذا هو كرسيه هذه هي الأرض، وأن قد أصبحت الحبيب والعظيم وصاحب الهمة وما إلى ذلك من هذا النفح الشيطاني حتى يتصور المسكين فعلاً أنه وصل إلى مكان القرب من الله، وأن السماوات قد أصبحت طوع أمره، والأرض أصبحت كالخلخال برجله، وأنه يستطيع أن يقول للشيء كن فيكون.. وهكذا يكون المريد الذي دخل الخلوة، وذكر هذه الأذكار المبتدعة، وقطع نفسه بالظلام على هذا النحو يعود بنفس أخرى وحال أخرى غير الحال التي دخل بها.
وهذا سر قولهم إن لهذه الخلوة أسراراً وبراهين عظيمة، ولو علموا أنهم يربطون قلوبهم بالشياطين لعرفوا الحق المبين وأنهم نهوا عن سلوك الطرق المعوجة لأنه لا توصل إلا إلى الهاوية والضلال المبين.(144/38)
7- وقد جعل الرفاعية الفضيلة العظمى والشرف الأسمى لهم على سائر الفرق ببركة الرفاعي فإن الله قد أبرد لأتباعه النيران، وأزال لهم فاعلية السموم، وألان لهم الحديد، وأذل لهم السباع والحيات والأفاعي، وأخضع لهم طغاة الجن (الطريقة الرفاعية ص134). ولذلك فإنهم في موالدهم ومؤتمراتهم العامة يأتون بمن يشعل النار ويدخلها إلى فمه، ومن ينفخ ناراً من فمه على هيئة التنين.. ومن يحمل الأفاعي ويلعب بها، ونحو ذلك من الشعبذات والخزعبلات التي لا يكاد يخلو منها قوم من أقوام أهل الشرك كالهنادك والفرس، وغيرهم (اقرأ الفصل الخاص بمناظرة ابن تيمية للبطائحية الرفاعية).
الرفاعية في طور جديد:
في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري تزعم الطريقة الرفاعية رجل يسمى محمد مهدي الصيادي الرفاعي، الذي رفع نفسه إلى مرتبة الغوثية الكبرى، ودعا الناس إلى طريقته واقتفاء أثره، وزعم أنه سالك سبيل جده مؤسس الطريقة الرفاعية، ولكنه جاء بما لم يسبقه أحد من الدعاوي في علو منزلته، والحق أنني لم أجد أجرأ منه على مدح نفسه وكذبه فيما نسبه إلى الله ورسوله من تعظيم نفسه إلا أحمد التجاني وابن عربي، وإليك بعضاً من نصوصه في هذا الصدد..
1- الدرة البيضاء:(144/39)
ألف كراسة صغيرة سماها (الدرة البيضاء) ملأها بالجهل والغباء، وبدأها للأسف بقوله "أمرني بكتابتها وإذاعتها حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم" (المجموعة النادرة ص8) وزعم في هذه الرسالة أن الله خلق الرسول من نوره (المجموعة النادرة ص15) فأشرك بالله سبحانه وتعالى. وأن على المسلم أن يشفق على الخلق كلهم فخالف أمر الله القائل {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} ومن جملة مزاعمه في هذه الكراسة دعوة الناس إلى الاستمداد وطلب الإغاثة والإعانة من الأنبياء والأولياء (المجموعة النادرة ص18) فدعا بذلك إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، ودعا إلى العمل بأي رأي فقهي لأن اختلاف الأئمة رحمة (المجموعة النادرة ص23) ودافع عن ابن عربي واصفاً إياه بأنه العارف الشيخ محيي الدين ابن عربي طيب الله ثراه (المجموعة النادرة ص26). وزعم أن آل الرسول من أجزائه النورانية (المجموعة النادرة ص26) وبالتالي فهم أجزاء من الله حسب زعمه أن الرسول مخلوق من نور الله.. وقسم في هذه الرسالة الأولياء فجعل منهم المجاذيب وأهل الشطح والأميين.. وجعل نفسه في آخر هذه الكراسة أفضل الأولياء في زمنه على الإطلاق حيث يقول عن نفسه: "الاختصاص رحمة من الله تعالى للعبد لا بسعي ولا بعمل ولا برأي، ولا بِجَعْلٍ يختص الله برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم: هو عطاء رباني، ومنح صمداني، وفضل أسبغ في القدم، قبل أن تتعين النسم، والعناية قسم، فأهل الاختصاص جذبتهم يد المشيئة الربانية، بمحض الفضل والعناية الصمدانية، إلى أقصى المراتب العلية وهذا المنح الباهر، والفضل الوافر، هو اليوم حصتي، ومنصته منصتي، أقامني الله في هذه المنزلة إماماً، واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختاماً، وكشف لي مخبآت الغيب باطلاع من كرمه، وجليل نعمه، ففهمت أسرار الرموز الفرقانية وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية، ولم تبرح تترقى همتي بكشف تلك الحجب اللطيفة، وبشق ديباجات(144/40)
هاتيك المحاضر الشريفة، فأنا اليوم ولربي الحمد والشكر، وله الإحسان والبر، كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية، وسجل العلوم المقدسة النبوية، وهذه النوبة نوبتي، تتقلب في وراث منزلتي، وخدام قدمي إلى ما شاء الله، بهذا بشرت من صاحب الوعد الصادق، وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بدقائق الحقائق، سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الأكوان ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان، وتعكف على بابي القلوب والأرواح، ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح ولم يمس شأن نهجي المبارك غبار دنيوي، ولم يرجع منه حرف إلى قصد نفساني بل كله لله" (المجموعة النادرة ص37) أ.هـ.
وبعد أن مدح نفسه بكل ما استطاع من نعوت يقول: "جاءت لي بذلك البشرى المحمدية الصحيحة والعناية النبوية الصريحة بوساطة روح سلطان الأولياء وزعيمهم وسيد منصتهم وكريمهم مولانا السيد أحمد الرفاعي الحسيني" أ.هـ منه بلفظه (المجموعة النادرة ص37).
2- برقمة البلبل.(144/41)
وتكاد تكون كل الوسائل التي ألفها هذا الصياد الرفاعي على هذا النحو ولكن في رسالة أخرى سماها (برقمة البلبل) أتى فيها بما لم يسبقه به أحد من الكذب، ولا أظن أن لاحقاً يستطيع مجاراته أيضاً في مثل هذا الكذب السمج حيث يقول في أول رسالته هذه أنه كان في سنة 1252هـ في مكة المكرمة في بيت الله الحرام، وأنه سمع بلبلاً يتكلم مع بلبل آخر وعلى حد تعبيره (يبرقم) بلغة فهمها لأنه زعم أن رجلاً من رجال الغيب كان قد علمه لغة البلابل، فزعم أن أحد البلبلين كان يتكلم مع صديقه فأخبره أن أولاد آدم كلهم مكرمون، وجميعهم مرحومون وأنه لا يجوز أن نحتقر ذرة واحدة منهم، وأن منهم أيضاً أولياء عارفين، وأن من هؤلاء الأولياء قسم يتصرفون في العالم؛ ومن جملة ما يتصرفون فيه الطير فيقول البلبل لصديقه (ومنهم المتصرفون في وفيك وفي عالم الأكوان والنائبون بإذن الله عن نبي الرحمن) ثم يستطرد الصيادي الرفاعي في هذيانه الصوفي فيزعم أن أحد البلابل قال لصديقه: إن هذا الرجل الملتحف بكسائه الرث المستقبل الكعبة (يعني نفسه) هو من آل الرسول وقد فهم لغتنا وعرف ما قلناه وهو نائب الرسول الآن في هذا الوقت، وهو عالم الزمان وشيخ الأوان.. فقال البلبل الآخر إذن تعال نتبرك به ونقبل قدميه..
ويستطرد الصيادي الرفاعي قائلاً إن البلبلين جاءا إليه، وعكفا عليه، وسألاه الدعاء، وأنهما أخبراه بعد ذلك أنه إمام الدين، وسيد الأولياء وإن نوره لا يعدله نور، وإن مدده سيعم الأمصار والأقطار حيث تشب قلوب الحاسدين له بنار، وتنفلت عليه ألسنة الجاحدين (كذا..)..
ويستطرد الصيادي قائلاً بأن البلبلين أخبراه أن الله قد كتب صحيفة منزلته ووضعها فوق مقام إبراهيم فقام الصيادي من فوره وأخذ الصحيفة وفرح بما وجد فيها حسب زعمه من إطناب الله في الثناء عليه، ومدحه له وتبشيره إياه بظهور طريقته وعلو شأنه. يقول الصيادي هذا:(144/42)
"وقد طبت بالله تعالى حين قرأت ما في الصحيفة المباركة بشأني، وبشأن ظهور أمر طريقي، وكدت أطير سروراً لما امتن الله تعالى علي به من إطناب في الألقاب فيها ما نصه بلفظه: هذا غريب الغرباء أبو البراهين، وأحد آل طه ويس. خلف الأئمة الهادين. بقية أعيان العترة الطاهرين، سيف الرسالة المسلول على أهل الضلالة. المجدد الأكمل. الأشعث الأغبر. سنجنجل الحكمة والفراسة المحمدية. رافع ألوية الشريعة الطاهرة الأحمدية. باني مباني أحكام الطريقة المرضية الرفاعية. شيخ الأئمة. نور المدد المصطفوي الذي سيتجلى به الظلمة. الرفاعي الثاني. الإمام الأوحد الرباني. طلسم البرهان المحمدي الذي لا يدافع. معنى ناطقة البيان النبوي الذي لا ينازع. بحر الفتح. هادم الدعوى والشطح. الفتى ابن الفتى. محمد مهدي بهاء الدين. باب النبي صلى الله عليه وسلم في العصر. وجه علي في الدهر. الفقير الغني. الضعيف القوي. الخفي الظاهر. العاجز القادر. شمس الإفاضة المصطفوية للذرات كلها من التحق بها سلم ومن أبغضه عن جحد أو حسد ندم ومن آذى نوابه وأحبابه لم يقم. ولو التفت عليه المحافل، وسارت لأمره الكتائب، وصفت له الصفوف، ومرت لديه من قناطير الذهب المقنطرة الألوف. هذه آيه الله المخبأة في دفتر الغيب ينتفع بقراءة فحواها، والاندماج في ظل معناها، كل من لله في عناية، يصل به الله ويقطع، ويعطي ويمنع، ويرفع ويضع، هذا الزاهد الواجد، الآبد الماجد، هذا بركة الله في الكون. هذا الممهد هذا الموطد. هذا القائم لله، ولإعلاء كلمة الله، ولخدمة رسول الله، لا لغرض من أغراض الأكوان، ولا لعلو، ولا لغلو، ولا لتقدم، ولا لترفع، ولا لعظمة نفسانية، بل هو بحر مطمطم رباني، وكنز مطلسم سبحاني، أفيض له مددنا بواسطه (كذا والصواب: بوساطة)، جده سر الوجود وبارقة النظم الأول في كيانتي النسقين الطموس والشهود (محمد) صلى الله عليه وسلم هذا سيد عشاق رسول الله، وسيد محابيب الله اليوم في(144/43)
ملك الله عليه سلام الله ورضوان الله. وهناك غبت عني، وأخذت مني، وذبت معنى، وترقرقت مهنى، وانطمست بوجودي وظهرت بمجدي" انتهى منه بلفظه (برقة البلبل من المجموعة النادرة ص77-79).
ولا يكتفي الصيادي بهذا الكذب الأبلج على الله سبحانه وتعالى فإن الله لم يخاطب أحداً بمثل هذا الخطاب المزعوم، فخطاب الله لصفوة أوليائه وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يكن فيه عشر معشار هذا المدح بل كان عامته تأديباً وعتاباً؛ كمثل قوله لنوح: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} وذلك لمجرد قول نوح: {رب إن ابني من أهلي} وكذلك قوله لإبراهيم: {لا ينال عهدي الظالمين} عندما طلب إبراهيم أن يكون من ذريته أئمة.. وقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت} وقوله سبحانه وتعالى: {ليس لك من الأمر شيء} وقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وقوله: {عبس وتولىّ} وقوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} هذا بعض من خطاب الله في قرآنه لرسله فانظر كيف يزعم هذا الصيادي أن الله كتب في صحيفة له "هذا أبو البراهين، هذا سيف الرسالة المسلول على أهل الضلالة.. هذا الإمام الأوحد الرباني.. باني مباني الطريقة المرضية الرفاعية.. هذا شمس الإفاضة المصطفوية للذرات كلها..".. الخ، هذا الكفر والضلال وهذا الكذب الصريح.. ومثل هذا لو كان يسمى باللغة تجوزاً مدحاً فإن أسقط الساقطين ينزه أن يمدح غيره بمثل هذا الكلام فلو أن شاعراً متملقاً كاذباً قام يمدح رجلاً بمثل هذه الأوصاف لاستحق السقوط واللعنة، ولرمي بالتزلف والجهالة والمبالغة الممقوتة، ورفع الإنسان الحقير عن مكانته. فكيف يسوغ أن ينسب مثل هذا الكلام الحقير الذي يقع في آخر سلم المدح الممجوج فينسب إلى رب العباد سبحانه وتعالى؟ أيليق أن ينسب مثل هذا التزلف الحقير لله جل وعلا..؟(144/44)
ولا يكتفي الصيادي بالكذب المكشوف هذا على رب العالمين فيكمل بعد ذلك كذبه على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيقول أنه بعد أن قرأ هذه الرسالة (الربانية) التي كانت فوق مقام إبراهيم انجلى له مظهر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ناداه قائلاً:
"قد ملأناك علماً وفهماً ومدداً وقدره بهاء وعرفاناً ونوراً وحظاً كبيراً، ورفعنا لك منبراً لا يسقط، ووهبناك ناطقة تتدرج كتائب مددها في الأكوان فلا تسكت إلى يوم الدين، أنت هو القبول عندنا، المؤيد بنورنا، المبارك بعلمنا، المنصور بمددنا، نوالي من والاك، ونعادي من عاداك، ونصون بعون الله من حاماك، يرفع علمك من أفلاذ بيتنا حبيب لنا فأعد عليه نظر حنانك، وعلمه رقرقة قلبك وناطقة لسانك، ولا توافق أهل البدعة، ولا تلايم أرباب الدعوى، ولا تجنح بالقلب ولا باللسان إلى القول بالوحدة المطلقة، ولا تتعمق بالكلام على الذات والصفات، ولا تعمل الفكر في المتشابهات، خذ ما أخذ أجدادك الآل الطاهرين، وسر سير الصحابة، واتبع مناهج السلف، ووافق إماماً ترتضيه من أئمة المذاهب المتبعة اليوم، فالأربعة على حق ولا تقلد غير نبيك، وتحقق بالحب لله ولكتابه ولرسوله، ولا تشق العصا، ولا تجمع القلوب عليك بل اجمعها على الله، وعلى شريعة نبيك، وعليك بمشرب جدك السيد أحمد الرفاعي، واثبت على طريقته فإنها الطريقة المحمدية الحقة..
واعلم أنك اليوم خاتمة الصديقين وشيخ الطريقة القويمة المحمدية ثم الأحمدية.. وأنت سيد الآل فمن دونهم وصل علي وسلم" أ.هـ منه بلفظه (البرقمة ص83).(144/45)
ويزعم الصيادي أنه بعد أن سمع خطاب الرسول هذا غاب عن نفسه ستة أشهر كاملة، لا يصحو إلا أوقات الفروض فقط، وأنه شكر الله بعد ذلك إذ جاءته هذه النعمة الكبرى على يد طير صغير (برقمة البلبل ص82).. فانظر إلى هذا الإسناد العجيب "حدثنا الصيادي حدثنا البلبل قال الله تعالى.." فأين نضع هذا البلبل يا علماء الحديث وعلماء الأصول.. هل هو عدل ضابط، وهل الذي يحدث عن بلبل أيضاً يكون عدلاً ضابطاً.. وليتهم لم يقحموا اسم الله واسم رسوله في هذه الخرافات الممقوتة والمدح الكاذب لأنفسهم! وليتهم إذا أرادوا هذا العلو في الأرض وأكل أموال الناس بالباطل سلكوا غير هذا السبيل! فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
الطريقة الرفاعية والتشيع:
تلتقي الطريقة الرفاعية مع التشيع في أمور كثيرة أهمها ما يلي:
1- جعل أحمد الرفاعي في المنزلة بعد الأئمة الاثني عشرة مباشرة:
بالرغم من أن الرفاعية ينسبون إمامهم أحمد الرفاعي إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظمي بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه (الطريقة الرفاعية ص129)، إلا أن الغريب حقاً أنهم يجعلون منزلته بعد منزلة الأئمة الاثني عشر مباشرة، وهذا لا شك مبني على قول الإمامية في أن الأئمة الاثني عشر هم وُرَّاثُ الدين، وأن إماميتهم بالنص، وجعل أحمد الرفاعي آتياً في المنزلة بعد الإمام الثاني عشر الذي يزعم الشيعة أنه ابن سنتين أو ثلاث أو خمس على خلاف بينهم وأنه دخل السرداب في سامراء سنة 206هـ وأنه مهدي آخر الزمان، وأنه سيخرج ليملأ الدنيا عدلاً.. لا شك أن قول الرفاعية في أحمد الرفاعي اعتراف منهم بهذه العقيدة التي يعتقد أهل السنة أنها من المفتريات والمكذوبات وأن الحسن العسكري لم ينجب أحداً، وأن هذا المهدي لا وجود له.(144/46)
يقول الأستاذ محمد فهد الشقفة صاحب كتاب التصوف بين الحق والخلق: "لدى تصفحي مواضيع كتاب بوارق الحقائق للرواس وجدت نقاطاً تحتاج إلى بيان شاف -إن كان لها بيان شاف-.. وقد علقت عليه بملاحظات". ثم ذكر المؤلف من هذه الملاحظات ما يلي:
"الأولى -يذكر ناشر هذا الكتاب ومحققه في ذيل صحيفة 141-142 ناقلاً عن (روضة العرفان) لمؤلفها السيد محمود أبو الهدى خليفة الرواس قال فيها: (الأئمة الاثنا عشر) رضي الله تعالى عنهم أئمة آل بيت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، تشمل إمامتهم كثيراً من المعاني اختلف فيها الفرق- ثم بعد أن يذكر رأيين لفرقتين من الشيعة الاثني عشرية من هؤلاء الأئمة، يقول: وأشرف المذاهب فيهم، مذهب أهل الحق من رجال الله العارفين فإنهم يقولون: إن الأئمة الاثني عشر، هم أئمة العترة فكل واحد منهم إمام لآل في زمانه، وصاحب مرتبة الغوثية المعبر عنها بالقطبية الكبرى، وهم : 1- سيدنا أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه، 2- والإمام الجليل ولده أبو محمد(الحسن)، 3- والإمام الشهيد (الحسين)، 4- والإمام زين العابدين (علي)، 5- والإمام (محمد الباقر)، 6- والإمام (جعفر الصادق)، 7- والإمام (موسى الكاظم)، 8- والإمام (علي الرضا)، 9- والإمام محمد (الجواد)، 10- والإمام (علي الهادي)، 11- والإمام (الحسن العسكري)، 12- والإمام (محمد المهدي) المنتظر الحجة، رضي الله عنهم جميعاً.
الثانية- ويذكر أيضاً عن (روضة العرفان) بعد ما تقدم في ذيل الصحيفة 142 تحت عنوان (تحفة): أن بعض الأجلاء رأي الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام وسأله عن الإمام السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه، فقال له عليه الصلاة والسلام: هو ثالث عشر أئمة الهدي من أهل بيتي.(144/47)
الثالثة- ويذكر الرواس في صحيفة 212 من هذا الكتاب (بوارق الحقائق) أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: تمسك بولدي (أحمد الرفاعي) تصل إلى الله فهو سيد أولياء أمتي بعد أولياء القرون الثلاثة وأعظمهم منزلة، ولا يجيء مثله إلى يوم القيامة غير سميك (المهدي) بن العسكري" أ.هـ (التصوف بين الحق والخلق ص196).
وهذه الملاحظات التي أوردها محمد فهد الشقفة نقلاً من كتاب بوارق الحقائق للرواس الرفاعي لا تحتاج إلى مزيد شرح وإيضاح أن العقيدة الرفاعية هي عين العقيدة الشيعية الإمامية حول الأئمة عموماً والإمام الغائب خصوصاً. وإن كان الصيادي قد زعم تارة أن أحمد الرفاعي يأتي في المنزلة بعد المهدي الغائب، وتارة يجعله مساوياً له..
2- إسناد الطريقة الرفاعية عن الإمام الغائب مهدي الشيعة المنتظر:
وقد جعل محمد الصيادي الرفاعي المتوفي سنة 1327هـ 1909م والذي يسمونه مجدد الطريقة الرفاعية، والرفاعي الثاني، أحد أسانيده المزعومة في الطريقة إلى المهدي الغائب منتظر الشيعة حيث يقول:(144/48)
"لي أربعة أسانيد في المصافحة الأول عن ابن عمي السيد إبراهيم الرفاعي المفتي وسنده في المصافحة سنده في الإجازة إلى الإمام الأكبر سلطان الأولياء مولانا السيد أحمد الكبير الرفاعي رضي الله عنه وهو صافح جده يوم مد اليد والقصة أشهر من أن تذكر. والثاني عن ابن عمي وشيخي السيد عبدالله الراوي الرفاعي وسنده أيضاً سند إجازته وهو يتصل بالإمام الكبير الرفاعي رضي الله عنه وعنا به وهو قد صافح جده عليه الصلاة والسلام. والثالث عن حجة الله الإمام المهدي ابن الإمام العسكري رضوان الله وسلامه عليهما في طيبة الطيبة تجاه المرقد الأشرف المصطفوي وقال صافحت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي بخير. قال شيخنا (رضي الله عنه) ثم دعا لي الإمام المهدي رضوان الله عليه بخير. قال والرابع عن الخضر عليه السلام صافحته سبعاً وثلاثين مرة آخر مرة منها في مقام الشيخ معروف الكرخي (رضي الله عنه) ببغداد عصر يوم جمعة فقال صافحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي صافحت كفي هذه سرادقات عرش ربي عز وجل" انتهى (المجموعة النادرة ص230،231).
وهذا اعتراف صريح لعقيدة الشيعة في الأئمة الاثني عشر، وبالإمام الغائب المزعوم. فأي صلة أكبر من هذا بين الطريقة الرفاعية والتشيع.
3- وحدة الشعار بين الرفاعية والشيعة:
وتلتقي الطريقة الرفاعية أيضاً في شعار واحد مع التشيع وهو السواد، ولبس العمامة السوداء.. يقول محمد مهدي الصيادي الرفاعي في كتاب قذلكة الحقيقة في أحكام الطريقة:
"المادة التاسعة عشرة في المائة الثالثة:
لبس العمامة السوداء، ولبس العمامة البيضاء وكلاهما سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان زي إمامنا في طريقتنا السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وعنا به العمامة السوداء فهي خرقته المباركة"!! (الطريقة الرفاعية ص126).(144/49)
فاختيار اللون الأسود ليكون الخرقة والشعار لا شك أنه توافق ظاهر آخر مع الشيعة الذين جعلوا هذا اللون شعاراً لهم.
4- الخلوة الأسبوعية :
ومن مشاعر الطريقة الرفاعية الخاصة الخلوة الأسبوعية في كل عام، وابتداء دخلوها في اليوم الثاني من عاشوراء يعني الحادي عشر من محرم، وقد جعلوها شرطاً لكل من انتسب إلى هذه الطريقة، وطعامها خال من كل ذي روح (الطريقة الرفاعية ص115).
ولا شك أن هذا التوقيت السنوي ليس اختياره عبثاً، لأنه يأتي بعد المشاعر الخاصة للشيعة رأساً.
5- ادعاء الاختصاص بالرحمة:
يدعي الصياد وهو المؤسس الثاني للطريقة الرفاعية أنه مختص برحمة الله، ووارث رسول الله، والمختار من الله الذي كشف له الغيب، وعرف أسرار الرموز القرآنية، وباطن القرآن، وأنه كنز الفيوضات المحمدية، وأنه إمام الوقت، والإمامية تظل فيه وفي أعقابه إلى يوم القيامة.. وهذه الدعاوي جميعاً هي من دعاوي الشيعة في أئمتهم وهذه بعض نصوص عباراته في ذلك:
يقول الصيادي الرفاعي:(144/50)
"فأهل الاختصاص جذبتهم يد المشيئة الربانية، بمحض الفضل والعناية الصمدانية، إلى أقصى المراتب العلية، وهذا المنح الباهر، والفضل الوافر، هو يوم حصتي، ومنصته منصتي، أقامني الله في هذه المنزلة إماماً، واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختاماً، وكشف لي مخبآت الغيب باطلاع من كرمه، وجليل نعمه، ففهمت أسرار الرموز الفرقانية، وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية ولم تبرح تترقى همتي بكشف تلك الحجب اللطيفة، وبشق ديباجات هاتيك المحاضر الشريفة، فأنا اليوم ولربي الحمد والشكر وله الإحسان والبر، كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية، وسجل العلوم المقدسة النبوية، وهذه النوبة نوبتي، تتقلب في ورّاث منزلتي، وخدام قدمي إلى ما شاء الله، بهذا بشرت من صاحب الوعد الصادق، وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بفائق الحقائق، سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الأكوان، ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان، وتعكف على بابي القلوب والأرواح، ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح، ولم يمسس شأن نهجي المبارك غبار دنيوي، ولم يرجع منه حرف إلى قصد نفساني، بل كله لله، على منهاج رسول الله، عليه صلوات الله، لا يعبأ معناه بحال من أحوال هذه الدنيا الدنية، ولا يلتفت قائد حاله إلى مظاهرها الزائلة المطوية، وقد تفرغ رجال وراثتي حال النبي في الأمة، وتقوم بأطوار السادة القادة الأئمة، ومن رجالي وجه مولاي علي أمير المؤمنين، صهر النبي الأمين، الأسد البطين، ليث العرين، ولي هذا الخط الذي سيبرز، وكأني أراه على يد عبد يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، من البيت الفاطمي، والفرع الأمدي، خزامي الفصيلة، خالدي القبيلة، يجدد المجد العلوي، ويرفع قواعد البيت الرفاعي، ويمهد فخار العنصر الصيادي، ينبلج شارق طالعه قرب متكين، فيقوم كما أنا حيرة للمفتونين، وجاذبة للموفقين، ويترعرع مجده في ساحة الظهور، فيرتقي إلى الشهباء، ثم إلى فروق، وبها تظهره(144/51)
لوامع بروق، وفي بحبوحة تلك الترقيات، وسمو هاتيك المنصات، فالمفتون قادح، والمأمون مادح ونور الله ساطع، وفي فضاء الوجودات لامع، وما النصر إلا من عند الله، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله، ويقبل عليه من ارتضيناه وأعناه، وأسعفناه بمدد واجتذبناه، ولا يزال الأمر منبلج المظهر، ولذكر الله أكبر" أ.هـ منه بلفظه.
ولا يخفى على القارئ اللبيب كلمات هذا الصيادي أن وارثه سيجدد المجد العلوي، وأنه من البيت الفاطمي.. فكلها عبارات تنبئ عن المقصد والمعتقد.
* ولعلنا لا نستغرب بعد ذلك ممن ترجم لهذا الصيادي الرفاعي بعد موته فقال عنه:
"قام السيد أبو الهدىرحمه الله مدة حياته الكريمة بأعمال جليلة نافعة ومآثر حميدة طيبة تبقى شافعة له عند ربه يوم اللقاء، وأعماله كانت منصبة على تعمير الأضرحة لآل البيت الكرام" (المجموعة النادرة ص37،38).(144/52)
صوفي ما يعمل شيئاً إلا بوحي ...حتى البول !
---
قصة غريبة فعلاً
قصة صوفي اسمه سقاف
سقاف هذا هو عبدالرحمن السقاف بن ( فلان مولى الدويلة) نسيت والله بالضبط الاسم ...المهم في هذا القصة هو سقاف .
هذا سقاف كان لا يعمل أي شيء حتى يأتيه وحي !
هذا الوحي يأمره بأموره كلها !
من بناء دار أو مسجد ( كما يزعم )أو غرس نخل ..أو أي شيء يريد عمله !أي شيء يعني أي شيء .
حتى البول ؟
نعم حتى البول ، لا يبول إلا بوحي !؟
فإذا كان لا يتبول إلا بوحي !
فكبف سائر أموره .
سائر أموره أيضا بوحي .
رجل وحياني !(145/1)
صوفي يقول: رسول الله يمضغ القات مع أبي بكر وعمر !! والعياذ بالله
---
يقول القاضي أحمد عثمان مطير عضو المحكمة الابتدائية التجارية الثانية وعضو المحكمة الأولى بلواء الحديدة عام (1981) في كتابه الدرة الفريدة، وهو من رؤوس الطريقة القادرية في الحديدة: ((وبمناسبة ذكر القات أنقل ما ذكره الكاتب شيخي العلامة أحمد عبد الباري عاموه –رحمه الله تعالى- قال ما لفظه :
(فائدة) نُقل عن الشيخ الكبير عبد القادر الجنيد أنه نام ذات ليلة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وبين أيديهم شيء من القات ، قال: فناولني النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من القات ففزعت من النوم وأنا قابض على القات في يدي ومعي ندم عظيم لما لم أسأله عن فائدة القات فرجعت إلى منامي فرأيته صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه على ما هم عليه فسألته فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا عبد القادر أنه نزل به جبريل الآن ! يا عبد القادر كل منه فإن آكله لا ينطق إلا بالصواب ..
وكانت الرؤيا في سنة 953هـ قال شيخنا: ورؤيته صلى الله عليه وسلم حق ومن رآه مناماً فكأنما رآه يقظة ) اهـ ..
من كتاب : الدرة الفريدة في تاريخ محافظة الحديدة صفحة (41) طبعة دار المصباح (الحديدة اليمن).
مؤلف الكتاب : أحمد بن عثمان مطير ؛ يقولون في ترجمتهم له في بداية كتابه المذكور آنفاً : صاحب الفنون الكثيرة والعلوم الغزيرة الشاعر الأديب الحافظ النحوي والأصولي الفرضي والفقيه الألمعي !!
من شيوخ الطريقة القادرية في محافظة الحديدة في زمانه، كما ذكر هو في كتابه هذا .
المقال منقول من المجلس اليمني(146/1)
صوفيات حجازية
حقائق شاملة عن صوفية الحجاز
تأليف
السيد أبوعبد الله المدني
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد- صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه أجمعين، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
إن المتتبع لأحوال الصوفية يجد أنها جعلت الأمة غارقة في كثير من مظاهر الشرك والبدع والخرافات، وأنها انحرفت في توحيد الألوهية انحرافاً رهيباً، بل تعداه إلى الشرك في الربوبية عياذاً بالله. لقد ضرب الشرك الأكبر بأطنابه في ديار الإسلام بسبب الصوفية القبورية، فانتشرت في غالب القرى والبلدان، فشيدت القباب على الأضرحة، وأنشأت المساجد على القبور، وأقيمت مزارات ومشاهد فقصدها القاصي والداني، ولجأ إلى رحابها المسافر والمقيم، والجميع يرتمون بساحاتها، ويتمرغون في جنباتها، ويلثمون أعتابها، فتراهم من حولها يطوفون، وبأضرحتها يستغيثون ويستعينون، وفي عرصاتها يهريقون دماء نذورهم وقرابينهم، وكل هذا من الشرك الأكبر، وصور من صور الوثنية.(147/1)
وقد كان الكثير يظن أن الصوفية في الحجاز ليست قبورية شركية غارقة في الوثنية كبقية الصوفية؛ بحكم وجودها في أحضان بلاد التوحيد، وسماعهم تحذيرات العلماء الربانين من هذا الشرك العظيم؛ لذا كانت غالب الحوارات معهم تدور حول بدعة المولد الغير كفرية، إلى أن أزكم الأنوف المدعو: محمد بن علوي المالكي بنتن كتاباته الشركية، فظهر عوار الصوفية في الحجاز، وإن كان المتتبع لأحوال الصوفية يعلم أن كل الصوفية على مذهب واحد في كل مكان وزمان، فهي فرقة قبورية وثنية شركية.
ورغم أهمية الموضوع إلا أني لم أجد في المكتبة الإسلامية ولا في البحوث الخاصة -رغم بحثي الدقيق- من كتب بالتفصيل عن هذه النحلة في هذه البقعة العزيزة على قلب كل مسلم؛ موطن الحرمين الشريفين. فسألت الله الإعانة في كتابة مؤلف يبين حال الصوفية في الحجاز، ويحذر منها؛ حتى لا يغتر الجهال بما عندهم من زهد مزعوم، ومحبة كاذبة، ورقة ساذجة.
واعلم رحمك الله أن كشف حال أهل البدع الشركية من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله؛ فقد قال المصطفى- صلى الله عليه وسلم -:«جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»[رواه أحمد والنسائي].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلي لي به الدرجات، وأن يغفر لي به الزلات، وأن يهدي الله به قوماً ضالين، وأن يكون بعون الله حصناً منيعاً للموحدين، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.
التركيبة السكانية لأهل الحجاز
يعتبر سكان الحجاز مزيج مختلط من أرجاء العالم الإسلامي بحكم المكانة الدينية لمكة المكرمة والمدينة النبوية ، وهجرة الكثير لها للمجاورة وهروباً من الواقع الأليم لبلادهم وخاصة في أوقات احتلال البلاد الإسلامية فيما يسمى بالاستعمار.
ومجمل السكان يتكونون من العناصر التالية:
1- العرب: من أهل الحجاز الأصليين، أو من أرجاء الجزيرة العربية أو من خارجها.(147/2)
2- الهنود: ويقصد بهم سكان القارة الهندية التي تشمل الهند وباكستان وبنجلادش، وكثير من هؤلاء من الأغنياء والعلماء الذين مكثوا في المدينتين المقدستين بعد أن أدوا فريضة الحج رغبة في المجاورة. وقد كان لهم نفع واضح للمنطقة بإنشاء المشروعات التعليمية والأعمال الخيرية.
3- الأتراك: وقد كان وجودهم بسبب الحكم العثماني.
4- الأفارقة: ويطلق عليهم أهل الحجاز: «التكارنة» بغض النظر عن البلاد التي جاؤوا منها، والتي كان العرب الأوائل يسمون بلادهم: «أرض دكرور».
5- سكان آسيا الوسطى: ويطلق عليهم أهل الحجاز: «البخاريين» وقد قدم أكثرهم بعد احتلال الروس لبلادهم.
6- سكان جنوب شرق آسيا: «الجاوه» من أندونيسيا وغيرها.
7- الأفغان: وهم أقل من سابقيهم.
المجتمع الحجازي
هذا المزيج العجيب من المجتمعات الإسلامية جعل الحجاز كأنه معرض دائم للشعوب الإسلامية، فنجد مثلاً في المدينة النبوية هذا التنوع ففي وسط المدينة: «الأفندية» الذين يتزينون بالجبة والعمامة والحزام الثمين، وجزم الجلد الأصلي. بينما نجد سكان حوش الباشا والمناطق الشمالية من المدينة يتزينون بالعقال المقصب (صناعة محمد القين)، والأشمغة والغتر سواء من الشاش أو من الغباني المطرز بالحرير الخفيف. أما غرب المدينة «زقاق الطيار» «والسيح» «والعنبرية» فيحتزمون بالكشميري أو الدسماك، والأحذية من صنع النجديين وهو ما يعرف «بالنعال الزبيراوية»، أما جنوب المدينة فمشالح وعمائم من الشيلان.
وكما اختلفوا في الأزياء اختلفوا في المأكولات؛ ففي وسط المدينة: الخضروات، والمحشيات، والكنائف، واللقيمات، والمشويات. وأهل باب المجيدي: الكسكوسة، وكعب الغزال، ولحم بين نارين، والأكلات التركستانية: الرز البخاري، واليغمش، والشوشورة، والفرموزة، والتميز... إلخ
أما في مكة فينقسم الناس في الملبس إلى ثلاثة أوضاع بحسب الطبقات:(147/3)
1- فأولاد الحارة كما يسميهم المكيون (من الصناع والبنائين والعمال) فإنهم يلبسون الثوب الأبيض أو الأزرق، ويتحزمون الخرساني أو الكشميري وما يسمى «بالبقشة»، وغطاء الرأس كوفية مطرزة بخيوط وهي تستعمل إلى الآن، ويعتم الكثير منهم في المناسبات وفي مواسم الأعياد بأحازيم مطرزة تسمى «غباني»، كما يلبس بعضهم الصديري أو الميتان.
2- أما أواسط الناس من طبقة التجار ونحوهم فإنهم يلبسون الثياب البيض أيضاً، وفي الصيف خاصة «الدابزون» وهو قماش شفاف خفيف النسج.
ويعتمون بالكوفية وإحرام وهو مايسمى بـ«سليمى» وهي أغلاها وهو من الصوف المنقوش.
3- أما العلماء وخطباء المسجد الحرام وأئمته فهم يزيدون بأن تكون الجبة واسعة الأكمام وتسمى «فرجية»، وتمتاز العمامة بأن لفة الشاش بها وضع مخصوص متدرج الطيات، وبعضهم يترك عذبة من الخلف.
وأما أشهر المشروبات المكية فهي: «البتيع» «والسوبيا»؛ الأول منقوع الزبيب، والثاني منقوع الشعير.
اللهجات الحجازية
انحرفت اللهجة الحجازية بعض الشيء عن الفصيح بسبب الخلطة، وقد ضاعت بعض الحروف مثل: القاف، والذال، والثاء، والضاد أحياناً، وكذلك الظاء.
فالقاف يلفظونها كافاً فارسية؛ أي بين بين؛ فيقولون: «كلت له» بدلاً من «قلت له»، ويقولون:«ظبط» بدلا من «ضبط»، ويقولون: «خبيس» بدلا من «خبيث»، «وعتمان» بدلا من «عثمان»، «وداك» بدلا من «ذاك». وفي الأيام الأخيرة يسمع في لهجتهم ما لم يسمع أو يعرف من قبل فصاروا يقولون «كلتلو» بدلا من «قلت له»، وهكذا.
ويقولون «بُراد» بمعنى «برد»، «بزورة» بمعنى أطفال، ويقولون «إزهم عليه» بمعنى ناد عليه، ويقولون: «ستي» بدلا من سيدتي، «سِيدِي» بدلا من سَيٍّدي.(147/4)
ومن التراكيب المنحرفة قولهم: «خش جوه شوف» بمعنى أدخل داخل وانظر. ويقولون: «دوبو كان هنا» بمعنى قبل قليل كان هنا، ويقولون: «يا دوب يكفي» بمعنى على قدر الكفاية. ويقولون «كَداب» بدلا من كذاب، ويقولون: «كوام كوام» بمعنى سريعا سريعا. ويقولون «جواز» بدلا من زواج. وتقول المرأة «جوزي» بدلا من زوجي، ويقولون: «من فين جي» بمعنى من أين أتى.
ومما دخل على الحجازيين من العثمانيين صيغة النسبة: «قهوجي»،«جزمجي»، و «مكوجي». ويقولون «ندر» بمعنى خرج، ويقولون «اخصروا» بمعنى لا تسمع له، ويقولون «جلوزها» أو «زلوجها» بمعنى تغاض، ويقولون: «شره» بمعنى لا تبالي به، ويقولون: «سيبه» بمعنى اتركه، ويقولون: «باظت الشغلة» بمعنى فسدت، ويقولون: «زل» بمعنى: مر، ويقولون: عن الأعسر «أشطف»، ويقولون: «فقع» بمعنى هرب، ويقولون: «استنى» بمعنى انتظر، ويقولون: «أشكل» أي أكثر، ويقولون: «إشبك» بمعنى ماذا دهاك؟
ومما عيب على الحجازيين قولهم لمن يقدم عليهم بعد غيبة: أوحشتنا، يقول الشاعر:
يا أهل مكة لا زلتم
ما فيكم عيب سوى قولكم
فرد عليه أحد المكيين:
ما عيبنا هذا ولكنه
لم نعن بالإيحاش عند القا ... أنساً لن إني لم أنسكم
عند اللقا أوحشنا أنسكم
من سوء فهم جاء من حدسكم
بل ما مضى فابكوا على نفسكم
بعض الأمثال التي على ألسنة الحجازيين:
«الجمل ما يشوف عوجة سنامه»، «ما يحفظ سورة الأعراف إلا الصبي من العصا يخاف»، «بُنية تعلم أمها الزحير»، «لا توري البدوي بابك، يا عذابك»، «بعد ما أكل وأفكى قال رائحة مستكى»، «مزين بسط بأقرع استفتح»، «نقطنا بسكاتك»، «من غربل الناس نخلوه»، «اقطع يد الكلب ودليها، واللي فيه خصلة ما يخليها» «أطعم الفم تخجل العين» .
العادات والتقاليد الحجازية(147/5)
أغلب ما سنذكره هنا من العادات هي مخالفة صريحة لشرع الله، بل هي من البدع الظاهرة، وقد كانت زمن فشو الجهل وسيطرة أهل البدع من الصوفية، وأغلب هذه العادات زالت بعد انتشار العلم الصحيح، وقمع البدعة بنور السنة على يد أئمة الدعوة، فجزاهم الله خير الجزاء.
1- ولادة المولود: بعد ولادة المولود يسمى مباشرة محمد تيمنا وتبركا باسم النبي- صلى الله عليه وسلم -، وإن كانت أنثى أطلق عليها اسم خديجة أو فاطمة. وقد يظل هذا الاسم ملازماً له أو لها أو يبدل في اليوم السابع من ميلاده مما يختار له أو لها من اسم. وفي اليوم السابع يدعى لفيف من أطفال الأقارب والجيران حيث تعد لهم الشموع فيكون في يد كل واحد منهم شمعة، ويحمل الطفل بما أعد له من ملابس ويصعد به إلى سطح الدار والشموع موقدة في أيدي الأطفال وهم يهزجون بهذا الدعاء تبركاً:
يا رب يا رحمان بارك لنا في الغلام
وإن كانت أنثى: يا مالك البرية بارك لنا في البنية
وبعد الأربعين يوماً تحمله أمه بعد أن تزينه وبعض الأقارب إلى المسجد الحرام، فإذا وصلوا به صحن المطاف تلقاه أحد الأغوات وحمله إلى عتبة باب الكعبة المشرفة وتركه بضع دقائق ثم رده إلى ذويه، ويعطى( الأغا) ما يتيسر من المال.
أما في المدينة: فإن (الأغا) يدخله إلى الحجرة النبوية ليتبرك.
2- المأتم: إذا مات أحد الحجازيين بادر ذووه بالإتيان بأحد القراء لتلاوة القرآن إلى حين نقله إلى المقبرة، بل يجعله بعضهم يتلو القرآن في المكان الذي توفي فيه الميت لمدة ثلاثة أيام.(147/6)
فإذا تمت عملية الدفن تجمع عادة نفر من الفقراء الصوفية ممن يحفظ سورة ياسين لقراءتها، فإذا انتهوا من قراءتها بدأ أحدهم يلقن الميت الشهادتين وتذكيره ببعض أحوال البرزخ، ثم ينصرف الجميع عن القبر بعد قيام أهل الميت بتفريق ما أعدوه من خبز وتمر على من يوجد من الفقراء بالمقبرة صدقة على روح الميت. وكان من العادة أن يغرس على القبر بعد تسويته غرسة من شجر الصبار.
وبعد صلاة المغرب يكون ذوو الميت قد هيؤوا عادة مصاحف مجزأة جزءاً جزءاً يسمونها «رَبْعَة» يضعون أمام كل شخص ممن يحضر جزءاً يتلو فيه ما تيسر من القرآن، ويكون مع الجمع قارئ بالغيب يطلقون عليه: «الفقي» يتلو القرآن بصوت منخفض يستمر ذلك إلى قبيل العشاء، ثم يختمون. ويستمر ذلك ثلاثة أيام. بعدها يقسم على الحاضرين الحلوى «الفلاسي».
3- المسحراتي: فقد كان لكل محلة (حارة) مسحراتي يحمل في يده طبلة «نقرزان» يضرب عليها بعصا صغيرة، وبعد أن يقول أغانٍ تتعلق بالصوم وشهر رمضان! يرفع صوته قائلاً: «أبرك الليالي والأيام عليك سيدي فلان» (يعدد أسماء أهل الحي).
4- إنشاد المؤذنين: حيث كان مؤذنو المساجد ينشدون في الثلث الأخير من الليل في ليالي رمضان أناشيد دينية يسمونها «التذكير»، ويتلوها «الترحيم»، وهو أن يجأر المؤذن بقوله: «يا أرحم الراحمين ارحمنا» عدة مرات، ثم يؤذن الصبح.
5- قهوة الصالحين: وهي عبارة عن سكر وزنجبيل تغلى في دلة، فإذا أرادوا صبها للحاضرين قالوا: «الفاتحة على نية الصالحين»، فإذا فرغوا من الفاتحة قالو: «الفاتحة على نية فلان» ويسمون من يخصونه، ولا تصنع إلا يوم الجمعة تبركاً بهذا اليوم.
6- العصيدة الحلوة و الحليب: والعصيدة عند أهل المدينة حيث يعصدون العصيدة بالسكر ويأكلونها في أول أيام السنة؛ تيمناً بأن تكون أيام السنة حلوة. أما أهل مكة فإنهم يصنعون الحليب المغلي بالسكر ويشربونه في أول أيام السنة؛ تيمناً بأن تكون أيام السنة كلها بيضاء حلوة.(147/7)
7- العوذات: وهي عادة جاهلية انتشرت مع الجهل، وكانت شائعة إلى عهد قريب، ولا زال لها بعض البقايا خاصة عند الصوفية الأعاجم في الحجاز.
وهي تعمل على عدة وجوه:
أ- الحجاب: وهو كتاب يكتبه بعض متعاطي القلم، فيعلق في رقبة الطفل أو المريض.
ب- الحرزة: وهي خرزة خاصة تجلب من اليمن يعتقدون أنها تحمي من العين.
جـ- المسبعة: تعمل من سبعة أعواد فترص متناسقة وتحبك بحيث تصير جسماً واحداً، وتعلق في رقبة الطفل ويَدَّعون أنها تحجب العين.
تاريخ الصوفية القبورية في الحجاز
نشأ التصوف في القرن الثاني للهجرة [انظر مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية لإدريس محمود 1/34].
ونشأت القبورية في القرن الثالث على أيدي الشيعة العبيدية [انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 27/162]. ومنذ ذلك العهد والحجاز مرتع لهاتين البدعتين الخرافيتين؛ فبعد انحسار الدولة العبيدية عن الحجاز دخلت الحجاز تحت الحكم الأيوبي الذي كان محتضناً للفكر الصوفي القبوري. بعد ذلك جاءت دولة المماليك والتي كانت كسابقتها محتضنة للصوفية القبورية، إلى أن جاء الحكم العثماني والذي غلى في القبور والتصوف حتى أنه كان يرعى أضرحة الشيعة. [انظر الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها 2/803-812].
وخشية الإطالة سنعرض فقط لحال الحجاز في العهد العثماني الذي سبق دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما تلاه من تلاميذه الذين جددوا التوحيد وقمعوا البدعة.
حال الحجاز في العهد العثماني:(147/8)
لقد كانت الجزيرة العربية بشكل عام في عهد الدولة العثمانية مرتعاً للبدع وتعشيش الخرافة، وإن كانت بعض أجزاء الجزيرة لم تدخل تحت الحكم العثماني إلا أن الجهل كان عاماً؛ ففي نجد مثلاً كان الناس يعتقدون في قبر زيد بن الخطاب، ويزعمون أنه يقضي لهم الحوائج، وكذلك قبر ضرار بن الأزور، وكذلك يعتقدون في الأشجار، وكان الناس يعتقدون في رجال التصوف والدراويش منهم «السائح الأعرج» «وشمسان» «وإدريس». [انظر مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله 5/240]
وكانت الصوفية القادرية والرفاعية موجودة في «حرمة» من قرى سدير في نجد، وقد كانوا يضربون أنفسهم بالحديد ويأكلون الجمر، ويقفون على الرمح، وغير ذلك من الأعمال الشيطانية [انظر مجموع الرسائل والمسائل النجدية(1/523)]. بل كان هناك من يقول بالاتحاد -عياذاً بالله- يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:«وكذلك أيضاً من أعظم الناس ضلالاً متصوفة في معكال( وهو أحد أحياء الرياض القديمة) وغيره مثل ولد موسى بن جوعان، وسلامة بن مانع، وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ الناس كفراً،(بل اكفر) من اليهود والنصارى» [مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (5/189)].(147/9)
هذا في نجد أما في جيزان جنوب المملكة فقد كانت طائفة «السنوسية» الصوفية قد عششت وفرخت هناك ثم تبعها «المرغنية»، وسنذكر حادثة واحدة لتبين لك شناعة التصوف إذا ران على العقول. يقول محمد العقيلي نقلاً عن أمين الريحاني:«عندما توفي شيخ الطريقة المرغنية اشتركت الطرق كلها في حلقة ذكر من أجله ضمت أربع مئة شخص، واستمرت خمس ساعات فبدؤوا بذكر مناقب شيخهم، ثم وقفت الحلقة أربعة صفوف الواحد وراء الآخر ووقف أحد أبناء الشيخ المتوفى في الوسط فحركها باسم الله بصوت هادئ وإشارة لطيفة بدأ بـ«لاإله إلا الله» فمالت الحلقات إلى الأمام ومالت إلى الوراء وراحت تكرر وتردد الشهادة بصوت واحد، ويتدرجون في السرعة والهيجان. والشيخ يدور في الحلقة مستحثًا بقوله: «إلا الله» ويضرب كفاً بكف ويرددون خلفه: «إلا الله». بعد ذلك «الله الله الله» ويرددون خلفه: «الله الله الله» حتى جلس الشيخ، فقام آخر وأخذ يقول وهو يثب: «حيم قيم»، وتتحرك الحلقة معه بسرعة شديدة كأنها تدق رؤوسها في الأرض ثم نطحاً في الجو، ثم استمروا في «حيم قيم» مدة نصف ساعة، وبدأ البعض يسقط صريعاً . ثم نهض أصغر أبناء الميت وهو لا يتجاوز الثانية عشرة وأخذ يرقص ويَتَلَوَّى كالسكران ويقفز كالمجنون، وأخذ يصيح وهم يرددون خلفه حتى سقط الولد كالخشبة بدون حراك؛ فقفز شخص من خلفه وأخذ يضرب رأسه بالحائط حتى سقط صريعاً مغماً عليه، وسقط أحد الشيوخ ولحيته بيضاء طويلة والزبد يسيل من فيه، وهناك آخر يمزق ثيابه، وهكذا حتى انتهت الحضرة» [انظر الصوفية في تهامة 41].
أما الأحساء شرق المملكة فلم تكن أحسن حالاً؛ فقد كان هناك الصوفي «أبو خطوة» حيث يزعم أنه صاحب خطوة بحيث أنه يصلي في الحرم كل ليلة ويعود للأحساء. وهناك أيضاً «عين نجم» حيث يزعمون أنها تقضي على العاهات وتشفي المرضى حتى أن العثمانيين بنوا عليها قبة عظيمة [انظر تاريخ نجد للألوسي 53].(147/10)
أما الحجاز فبحكم مكانتها الدينية بوجود الحرمين فإنها كانت تمثل حال الأمة الإسلامية وضعفها وتمكن سوس التصوف منها؛ فقد كان تنوع الطرق الصوفية عجيباً فيها ؛ فقد كان هناك طرق «السنوسية»، «والإدريسية»، «والمرغنية»، «والكيلانية»، «والأحمدية»، «والرفاعية»، «وبكطاشية»، «والنقشبندية»...إلخ [انظر قلب جزيرة العرب لفؤاد حمزة 105]
أما مظاهر الشرك عياذاً بالله فإنها لا تحصى فقد كان الزائر يأتي قبر النبي- صلى الله عليه وسلم -ويستغيث به في كشف الكربات، وكانوا يسجدون للقبر ويركعون له ويعفرون الخدود في تربته، ويقبلون مباني الحجرات ويتمسحون بها، ويفعلون قريبا من ذلك عند قبر حمزة رضي الله عنه، وكذلك بقية قبور شهداء أحد رضي الله عنهم، وقبور البقيع كذلك.
وفي مدينة جدة يوجد قبر طوله ستون ذراعاً يزعمون أنه قبر حواء أم البشر له سدنة يجبون من زائريه مبالغ خيالية، وعندهم معبد يسمى «العلوي» يبالغون في تعظيمه فمن استجار بتربته أجير، ومن لاذ به من قاتل أو سارق أو غاصب لم يمس بأذى.
وفي مكة المكرمة هناك أمثلة كثيرة منها: ما كان يفعل عند قبر خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها في المعلى من اختلاط النساء بالرجال ويدعونها من دون الله ويطلبون منها الإغاثة لرفع الشدائد والكروب. أما قبر الشريف أبي طالب بن الحسن بن أبي نمي فقد بنوا على قبره قبة يأتون إليه ويستغيثون به عند حلول المصائب ويطلبون منه الشفاعة وغفران الذنوب. [انظر الشيح الإمام محمد بن عبد الوهاب للشبل](147/11)
وحين أظهر الله عز وجل دعوة الشيح المجدد محمد بن عبد الوهاب على عباد القبور والأضرحة ونصرهم عليهم ومكن لدولتهم أعادوا الأمور إلى نصابها، وقاموا بهدم تلك الأضرحة والقباب، وتقويض معالمها في أرجاء الجزيرة العربية وخاصة الحجاز، فكان ذلك عند الناس أمراً عظيماً، وكفراً مبيناً؛ إذ ذلك خلاف المعهود عندهم وما نشؤوا عليه وورثوه عن أسلافهم، وانقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً؛ لذا سرعان ما بادروا بعد انحسار ظل دولة أهل الدعوة عن الحجاز بإعادة البناء على القبور من جديد. واستمر الوضع على ذلك حيناً من الدهر حتى تولى الشريف عون (المتوفى سنه: 1323هـ) فكلمه الشيخ أحمد بن عيسى وأشار عليه بهدم جميع القباب فهدمها وأزال ما كان في القبور من تشييد وغلو في جميع الحجاز وما حولها إلا ما كان من قبر حواء وخديجة وابن عباس فإنه تركه مخافة من تشويش السلطان عبد الحميد الثاني. ثم أعاد القبوريون أكثر تلك القباب بعد وفاته حتى فتحت مكة المكرمة عام: (1343هـ) على يد الملك عبد العزيز وجيشه من الإخوان فأزالوها نهائياً والحمد لله.
بدع صوفية الحجاز
أولاً: بدعة المولد النبوي
أول من ابتدع هذه البدعة هم الفاطميون العبيديون من الباطنيين سنة (361هـ) [انظر المقريزي في خططه (1/490) والقلقشندي في صبح الأعشى (3/498) والسندوبي في تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي(69) ومحمد بخيت في أحسن الكلام (44) وعلي فكري في محاضراته(84) وعلي محفوظ في الإبداع(126)]. وليس هو الملك المظفر صاحب إربل كما يشيعه البعض لأن هذا أخذ هذه البدعة من الشيخ عمر الملا من كبار المبتدعة الصوفية وهو أخذها من العبيديين، ثم إن البدعة لا تقبل من أي أحد لنصوص الأحاديث الواردة في ذم الابتداع.(147/12)
وقد نقلها العبيديون إلى الحجاز عندما احتلوه فأشاعوه بين العامة هناك، وتبناه شركاؤهم في الغلو في القبور وهم الصوفية، ومن ذلك الوقت وهو يقام في الحجاز على أنه سنة حسنة، ودليل على محبة الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولنيل البركة.
إقامة المولد في الحجاز عبر التاريخ:
أول من أقامه العبيديون كما سبق، وقد ابتدعوا فيه عدة بدع فهم يحتفلون فيه احتفالاً صاخباً، ويوزع فيه الحلوى والكعك، وتوزع هذه الحلوى على المشاهد والقراء والفقراء، ثم تقرأ الحضرة بحضرة الوالي، وتوزع الأموال، ثم يخطب فيهم الخطيب إلى أن يصل إلى ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم -فيقول: وإن هذا يوم مولده إلى ما من الله به على ملة الإسلام من رسالته، ثم يختم كلامه بالدعاء للخليفة، ثم ينصرف الوالي وينصرف الناس. [الخطط للمقريزي (1/490)]
وتستمر الموالد على هذه الوتيرة في الحجاز فنرى مثلاً في العهد العثماني أن إقامة المولد مشابهة لما كان يفعل في عهد العبيديين؛ فإنه يعمل في المدينة بعد طلوع الشمس صبيحة الثاني عشر من ربيع الأول يقوم به أربعة من الأئمة في صحن الحرم الشريف فيرقى الأول على الكرسي المخصوص للقراءة ويقرأ الحديث وينزل بعد أن يدعو للسلطان ثم يرقى الثاني فيقرأ عن المولد والولادة ويدعو وينزل، ثم يرقى الثالث ويقرأ الرضاع، ثم يدعو وينزل، ثم يرقى الرابع ويقرأ الهجرة ويدعو وينزل وينصرف الجميع بعد أن يشربوا «الشربيت» ويأخذون «الحلاوة اللوزية». [رسائل في تاريخ المدينة عام (1303هـ)](147/13)
أما في مكة المكرمة فنجده يختلف بعض الشيء: ففي ظهر يوم الحادي عشر تطلق المدافع إعلاناً لهذه المناسبة، ومع صلاة المغرب التي هي بداية اليوم الثاني عشر من ربيع الأول يبدأ تجمع الناس بأعداد خيالية وتأتي النساء بملابس العيد في كامل الزينة وكذا الأطفال فيحدث في ساحة المسجد الكثير من الصخب، وتوزع الحلوى حتى في المسجد، وبعد الانتهاء من صلاة المغرب تضاء المصابيح في المسجد بأعداد كبيرة أكثر من المعتاد ويبقى الجمهور بعد ذلك قرابة نصف ساعة في حركة دائمة يحيي بعضهم بعضاً، والقليل منهم يستمع إلى الإمام يتلو قصة المولد حيث يكون في مكان الصدارة شريف مكة والوالي التركي مع حاشيتيهما. وحينما تنتهي قراءة المولد نشاهد هرجاً كبيراً داخل المسجد فالكل يريد أن يرى الشريف ورجاله حيث يمشون بخطى وئيدة ويحملون القناديل المضيئة عبر «أسواق القشاشة» «وسوق الليل» إلى بناية القبة في الشعب (شعب علي) حيث رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -النور لأول مرة.
وأمام هذا الموكب يسير «الريس» وهو كبير المؤذنين ينشد الأناشيد في مدح الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وعند الوصول إلى مكان الميلاد يدخل هذا الحشد إلى مكان المولد حيث وضعت هناك قبة حتى أن من بنى القبة عين موقع إهلاله- صلى الله عليه وسلم -حين الولادة وجعل مكانه نقرة مجملة بالمرمر يطيبها السادن، فيأتي الزوار يلمسونها بأكفهم تبركاً ويقرؤون الفاتحة وبجوار موضع المولد مكان يكون فيه بعض الدراويش من أهل الطرق الصوفية يقرؤون المولد ويقيمون حلقة الذكر والرقص، ويقرؤون شيئاً من سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم -، ثم تقام صلاة الجماعة. وخلال الليل تقام حفلات السمر في حين يقوم المتصوفة بتكوين حلقات يرددون فيها بصورة جماعية قصائد «البردة» «والهمزية» وأشعار المديح الأخرى [التي فيها من الشرك ما الله به عليم].[صفحات من تاريخ مكة لسونك](147/14)
ومن الأهالي من يقيم في بيته تلك الليلة أو يومها حفلة يدعو إليها من يريد من أصدقائه، وعندما يتكامل جميعهم يقرأ أحدهم قصة المولد، وأكثر القصص قراءة وتلاوة القصة التي رتبها شيخهم «البرزنجي» وهو من علماء المدينة النبوية وهي قصة مسجوعة وعند ذكر إهلاله في القصة يقوم الجميع وقوفاً يرتلون كلمات الترحيب «مرحباً يا مرحباً جد الحسين مرحباً يا نور عيني» . ثم تمد الموائد بما تهيأ من طعام، وينصرف بعد ذلك كل إلى شأنه. [مكة في القرن الرابع عشر لمحمد رفيع (124)]
أما في العهد السعودي فقد منعت هذه المظاهر البدعية والمجاهرة بإقامة المولد لما فيها من مخالفة لهدي النبي- صلى الله عليه وسلم -إلا أنها لا تزال تقام إلى الآن من قبل متصوفة الحجاز ولكن سراً في منازل الموسرين، أو قصور الأفراح والاستراحات، وهي تعقد تحت شعار ذكر المولد النبوي الشريف وليس خاصاً عندهم بشهر ربيع الأول ولا باليوم الثاني عشر منه إلا أن له مزية خاصة، وهم يقيمونه عند وجود أية مناسبة من موت أو حياة أو تجدد حال. وكيفيته: أن تذبح الذبائح وتعد الأطعمة ويدعى الأقارب والأصدقاء وقليل من الفقراء، ثم يجلس الكل للاستماع فيتقدم شاب حسن الصوت فينشد الأشعار ويترنم بالمدائح وهم يرددون معه بعض الصلوات، نحو:
صلى عليك الله يا علم الهدي ما حن مشتاق إلى لقياك
بإشباع الكاف من (لقياك). ثم يقرأ قصة المولد حتى إذا بلغ: «وولدته آمنة مختوناً» قام الجميع إجلالاً وتعظيماً، ووقفوا دقائق في إجلال وإكبار تخيلاً منهم وضع آمنة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم -، ثم يؤتى بالمجامر وطيب البخور فيتطيب الكل، ثم تدار كؤوس المشروبات من «شربيت» وغيرها، ثم تقدم قصاع الطعام فيأكلون وينصرفون وهم معتقدون أنهم قد تقربوا إلى الله تعالى بأعظم قربة.(147/15)
ومما يجدر التنبيه إليه هنا أن جل القصائد والمدائح التي يتغنى بها في المولد لا تخلو من ألفاظ الشرك وعبارات الغلو الذي نهى عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -بقوله: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا عبد لله ورسوله» كما يختم الحفل بدعوات تحمل ألفاظ التوسلات المنكرة والكلمات الشركية. [الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف لأبي بكر الجزائري ص 30]
وقد يرقص الصوفية في المولد؛ يقول الأستاذ أحمد الخريصي كنت عامي (1401-1402هـ) أستاذاً بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهناك قدر لي حضور المولد ولكني ندمت على حضوري إذ إن المنشدين الذين ترأسوا الحفل متصوفة غلاة من أصل تركي وأتباعهم كذلك، وقد فتح لهم شيخهم مجال الرقص الصوفي «العمارة» حيث مكثوا يركضون بأرجلهم على الأرض وأصوات حناجرهم ترتفع بـ«دهه، حح، هي» نحو الساعة إلا ربعاً حتى ابتلت أقمصتهم من العرق رغم المكيفات والمراوح حيث كان المنظر مشوهاً وثقيلاً على النفس.
وجمعية المنشدين بالمدينة المنورة يوجد مقرهم بالمسجد النبوي من الجهة التي تحاذي بابي «الرحمة والسلام»، وهم عدة جمعيات يتحلقون عادة بين العشائين، كل جمعية لها أفراد ويسند الشيخ ظهره إلى سارية، وشعارهم عندما يجتمعون هو تلاوة القرآن بالتناوب، وتعقد هناك صفقات إحياء الموالد. [المتصوفةو بدعة الاحتفال بالمولد النبوي (113-115)]
تنبيه: تعددت الآراء في سبب قيام الصوفية في المولد عند ذكر مولد الرسول- صلى الله عليه وسلم -:
1- قيل للترحيب بالنبي- صلى الله عليه وسلم -حيث يعتقد بعض الصوفية أن النبي- صلى الله عليه وسلم -يحضر بجسده الشريف مجلس الاحتفال وقد يوضع له البخور والطيب على أساس أنه يتبخر به ويتطيب، كما يوضع له الماء على أساس أنه يشرب منه لذا يتبركون بهذا الماء بعد انتهاء المولد. [انظر حول الاحتفال بالمولد لمحمد علوي المالكي ص 24](147/16)
2- أن القيام بسبب حضور روح النبي- صلى الله عليه وسلم -في تلك اللحظة وهذا اختاره محمد علوي المالكي[المرجع نفسه ص 25]
3- أن ذلك القيام لتشخيص ذات النبي- صلى الله عليه وسلم -، جاء ذلك في نظم البرزنجي ونصه:
وقد سن أهل العلم والفضل والتقى قياماً على الأقدام مع حسن إمعان
بتشخيص ذات المصطفى وهو حاضر بأي مقام فيه يذكر بل دان
ومعنى التشخيص هو لتصور شخص النبي- صلى الله عليه وسلم -في الذهن فيقوم الناس احتراماً وتقديراً لهذا التصور.
4- وقيل مقيس على القيام الذي وقع من الشيخ السبكي حيث كان عنده كثير من العلماء فأنشد منشد قول الصرصري في مدحه للرسول- صلى الله عليه وسلم -:
قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب على ورق من خط أحسن من كتب
وأن تنهض الأشراف عند سماعه قياماً صفوفاً أوجثياً على الركب
فعند ذلك قام السبكي وجميع من في المجلس فحصل أنس كبير، يقول علي الحلبي صاحب السيرة الحلبية: ويكفي فعل السبكي للاقتداء.
الرد على بدعة المولد النبوي:
في عام (1402هـ) ألقى الشيخ ابن باز رحمه الله كلمة عن بدعية المولد يتلخص مضمونها فيما يلي:
1- مما يدل على أنها بدعة محدثة: أن الرسول- صلى الله عليه وسلم -لم يفعلها ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة ولا التابعون لهم في القرون المفضلة.
2- أن أول من ابتدعها هم الفاطميون أصحاب العقيدة الفاسدة في القرن الرابع الهجري.
3- وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وقال تعالى: ?فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم? وقال تعالى: ?اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً? وإحداث مثل هذا المولد يفهم منه أن الله سبحانه وتعالى لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم -لم يبلغ البلاغ المبين.(147/17)
4- لا ينبغي الاغترار بكثرة من يفعله فقد قال تعالى:?وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله? فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين وإنما يعرف بالأدلة الشرعية.
5- ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى كاختلاط النساء بالرجال بل أدهى من ذلك وهو الشرك الأكبر؛ وذلك بالغلو في رسول الله- صلى الله عليه وسلم -بدعائه وطلب المدد منه، واعتقاد أنه بعلم الغيب وغير ذلك، وقد قال- صلى الله عليه وسلم -:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله» [أخرجه البخاري].
6- ومن البدع ظن بعضهم أن الرسول- صلى الله عليه وسلم -يحضر المولد ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل لأن الرسول- صلى الله عليه وسلم -في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه كما قال تعالى:?ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون? وقال- صلى الله عليه وسلم -:«أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة».
7- أما الصلاة والسلام على رسول الله فهي من أفضل القربات كما قال تعالى:?إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً?، وهي مشروعة في جميع الأوقات ومتأكدة في بعض الأوقات.
وبعد هذه الكلمة الطيبة، والنصيحة الغالية من هذا الإمام ثارت ثائرة الصوفية في الحجاز وتزعم ذلك المدعو محمد علوي المالكي وتلاميذه فكان منهم الأعمال التالية:
1- قام محمد علوي المالكي بطبع كتاب«المورد الروي في المولد النبوي» لعلي القاري، وعلق عليه، وقدم له بمقدمة دعى فيها إلى الاحتفال بالمولد النبوي، كما قام بطبع المولد المعروف «بمولد الديبع»، وألف رسالة سماها«حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف».
2- قام يوسف الرفاعي بالرد على كلمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في جريدة السياسة الكويتية في الأعداد (4859-4870).(147/18)
3- نشر أحد المجهولين ووقع لكلامه بقوله: (أخوكم في الله من السعودية الرياض). وكان محتواها ومحتوى كلام الرفاعي أغلبه منقول من كلام محمد علوي مالكي.
4- قام أنور أبو الجدائل بمناقشة كلام الشيخ ابن باز رحمه الله في جريدة المدينة تحت عنوان: «استرعى انتباهي» في عدة أعداد.
وقد تصدى علماء السنة لهؤلاء الصوفية المبتدعة بالرد عليهم بالتفصيل وقمع حججهم بالكتاب والسنة فرجعوا إلى جحورهم صاغرين، وممن رد عليهم:
الشيخ إسماعيل الأنصاري في كتابه النفيس «القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل- صلى الله عليه وسلم -»، والشيخ حمود التويجري في كتابه «الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي» [ولزاماً قراءة هذين الكتابين لمعرفة شبه القوم والرد عليها ولولا خشية الإطالة لأوردت الردود بأكملها].
ثانياً: بدعة التبرك عند صوفية الحجاز
إن التبرك بذوات الصالحين وآثارهم والأزمنة والأمكنة المرتبطة بهم قضية من أهم القضايا العقدية، وإن الغلو فيها ومخالفة الصواب قد جر فئاماً من الناس قديماً وحديثاً إلى حظيرة البدع والخرافات والشركيات:(147/19)
وهذا الأمر من قديم الزمان بل هو شرك قوم نوح، وهو شرك العرب الجاهليين الذين بعث فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فقد كان من أسباب عبادتهم الأصنام التبرك بها، وكان أول من أدخل هذه العقيدة الوثنية إلى المسلمين هم الرافضة؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فظهرت بدعة التشيع التي هي مفتاح باب الشرك، ثم لما تمكنت الزنادقة أمروا ببناء المشاهد وتعطيل المساجد محتجين بأنه لا تصلى الجمعة والجماعة إلا خلف معصوم. ورووا في إنارة المشاهد وتعظيمها والدعاء عندها من الأكاذيب ما لم أجد مثله فيما وقفت عليه من أكاذيب أهل الكتاب، حتى صنف كبيرهم ابن النعمان كتاباً في مناسك حج المشاهد، وكذبوا فيه على النبي- صلى الله عليه وسلم -وأهل بيته أكاذيب بدلوا بها دينه وغيروا ملته، وابتدعوا الشرك المنافي للتوحيد، فصاروا جامعين بين الشرك والكذب» [مجموع الفتاوى (27/161)].
ثم اقتبس غلاة المتصوفة من الرافضة التبرك بالمشايخ وبقبورهم وآثارهم؛ فهذا البوصيري يرى أن من تبرك بتراب قبر النبي- صلى الله عليه وسلم -كانت له طوبى إذ يقول:
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنتشق منه وملتثم
والحجاز قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية كانت مرتعاً خصباً لأهل الغلو حتى أشاع أهل التصوف فيها الوثنية والشرك؛ كل ذلك بزعمهم طلباً للبركة وإجابة الدعوة.
وسنعرض بإيجاز لبعض مظاهر هذا الغلو:
يقول النقاشي في منسكه وهو يصف الأماكن التي يتبرك بها ويستجاب فيها الدعاء، وقد وقت لكل موضع وقتاً للإجابة (وكل ذلك استحساناً من غير دليل):(147/20)